جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لمن بدا منه ما يستحق ذلك
قوله: (فقال عروة عند ذلك) أي: عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي) قال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك! هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك).
لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم نفس الكلام الذي قاله لـ بديل وهو قوله: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره، قال له: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك) أي: لو نجحت في أن تستأصل قومك قريشاً، (هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟) يعني: أهلك أصله بالكلية، وحذف الجزاء من قوله: (وإن تكن الأخرى) تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلاً.
فهو ذكر هذين الاحتمالين: يقول: (أي محمد! أرأيت أن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى) يعني: إن تكن الغلبة لقريش، وهذا من فصاحة العرب ودقتهم في التعبير، دائماً التعبير يكون في جانب الهزيمة يكون بقولهم: وإن تكن الأخرى؛ تجنباً للفظ الهزيمة، وأن يغلب الإنسان، فقال: (وإن تكن الأخرى) يعني: معناها إن غلبتك قريش، وكان لابد من القتال، (فإني والله لأرى وجوهاً) فهو ينظر باحتقار إلى الصحابة، ويريد أن يذم الصحابة الذين كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام، (وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، فقوله: (فإني والله لأرى وجوهاًً) كالتعليل لهذا القدر المحذوف.
والحاصل: أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غُلب، فهو لأنه لم يكن مسلماً فالاحتمالان عنده غير مستحسنين، فيريد أن يقنع النبي عليه السلام بأن كلا الأمرين غير مستحسن، وهذا من وجهة نظره هو، يقول الحافظ: لكن كل من الأمرين مستحسن شرعاً، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52].
قوله: (وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً)، وفي بعض الروايات: (أوشواباً) والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش: الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب، (خليقاً) يعني: حقيقاً وجديراً (أن يفروا ويدعوك) يعني: يتركوه، وفي بعض الروايات: (وكأني بهم لو قد لقيت قريشاً قد أسلموك، فتؤخذ أسيراً، فأي شيء أشد عليك من هذا؟).
وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار في العادة.
والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، لكن شرعاً هما مستحسنان، لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ).
أيضاً: لأنه لم يكن تشرف بنور الإسلام؛ احتقر الصحابة، فسماهم أوباشاً سفلة من الناس أو أخلاطاً، هذا رومي! وهذا حبشي! وهذا قرشي! وهذا كذا فهم عبارة عن أخلاط، فيقول الحافظ: وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة من الخليط لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة؛ لأن أصحاب القبيلة الواحدة يأنفون ويستمسكون عن الفرار -لأن هذا يعيبهم، ويكون عاراً في حقهم- وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة؛ لأنه لم يكن مسلماً، فمودة الإسلام التي تربط بين هؤلاء الصحابة أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون لقنوه درساً لا ينساه بالقول والعمل، بالقول حين رد عليه أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بقول شديد شنيع، وكما رد أيضاً المغيرة بن شعبة كما سيأتي، وبالعمل حينما بالغوا في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمام هذا الكافر؛ ليدرك أنهم ليسوا كما ظن بهم، وإنما هم أشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قال: (وإني لأرى وجوهاً وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك قال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! -لأنه عمه- ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء).
قول أبي بكر له: (امصص بظر اللات)، اللات هي الآلهة التي كان يعبدها عروة، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك، وقال ابن المنير: في قول أبي بكر تخسيس للعدو، وتكذيبه، وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنت الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنها لو كانت بنتاً كان لها ما يكون للإناث.
قوله: (أنحن نفر وندعه؟) هذا استفهام إنكار، (قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر)، وفي رواية: فقال: (من هذا يا محمد؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة) رضي الله عنه، ثم قال له: (أما) وهذا حرف استفتاح، (والذي نفسي بيده)، وهذا يدل على أن القسم بهذا كان من عادة العرب، (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) لولا يد أي: نعمة، وهو إحسان كان أحسن إليه أبو بكر فيما مضى، وهو لم يرد له هذا الإحسان أو هذا الجميل، (لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها، (لأجبتك) لكن هذه بها، فسأتوقف وأمتنع من الرد عليك عن هذه الكلمة الشنيعة التي قلتها مقابل النعمة أو الجميل الذي فعلته في، ففي الجاهلية كان يوجد أخلاق، أما الآن كما يقول بعض الناس: أصبحنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوو المروءة! فقال: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها لأجبتك، وذكر بعضهم أن هذه اليد المذكورة: أن عروة كان تحمل دية، فأعانه أبو بكر بعون حسن، وفي رواية الواقدي: أعانه بعشر قلائص.(128/14)
الغدر مذموم في الجاهلية والإسلام إلا في الحرب
قال: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته) أمسك بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم.
(والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف)، وهذا فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف لقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس؛ لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر، أما هذا فبقصد الحراسة، وإرهاب الأعداء.
وفي رواية: (فكلما كلمه أخذ بلحيته)، وفي رواية: (فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة قائم)، وفي رواية أخرى: (أن المغيرة لما رأى عروة بن مسعود مقبلاً لبس لأمته، وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه)؛ لأن عروة عمه، فـ المغيرة كان حريصاً على ألا يعرفه من هو، فغطى وجهه، ولبس لباس الحرب واللأمة والمغفر، بحيث لا تظهر ملامح وجهه.
يقول: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف)، وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، (وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخر: فعل أمر من التأخير، وفي رواية ابن إسحاق: (كلما أخذ بلحية الرسول عليه الصلاة والسلام يضربه بنعل السيف، ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك) يعني: قبل أن أقطع لك هذه اليد التي تمتد وتمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم! وزاد عروة بن الزبير في رواية أخرى أنه كان يقول له: (أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه)، وفي رواية ابن إسحاق: فيقول عروة يرد عليه: (ويحك! ما أفظك وأغلظك!) وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه لاسيما عند الملاطفة، وفي الغالب لا يصنع ذلك إلا النظير بالنظير، فالنظراء يفعلون هذا بعضهم مع بعض، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لـ عروة عن ذلك، يعني: لم يمنعه من ذلك استمالة له وتأليفاً، لكن المغيرة لم يتجاوز عن ذلك، فالرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام كان يغضي ولا يعنفه على إمساكه بلحيته، مع أنه ليس نظيره، وإنما استمالة لقلبه وتأليفاً له، والمغيرة كان يمنعه إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له.
(فقال: من هذا؟) أي: من هذا الذي كل وقت يضرب يدي بالسيف، ويقول هذا الكلام الفظ الغليظ؟ (فقال من هذا؟ قال: المغيرة)، وفي رواية لـ أبي الأسود عن عروة: (فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب) أي: من كثرة الضرب على يده غضب، (وقال: ليت شعري) يعني: ليتني أعلم، (ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك؟! والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة)، وفي رواية ابن إسحاق: (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد؟! قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة).
فقال له عمه عروة: (أي غدر)، يعني: عرفتك يا غادر! (أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟)؛ (أي غدر) صيغة مبالغة في صفة الغدر، ألست أسعى في غدرتك أي: ألست أسعى في دفع شر غدرتك، وفي مغازي عروة قال له: (والله! ما غسلت يدي من غدرتك، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف)، وفي رواية ابن إسحاق: (وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس)، قال ابن هشام في السيرة: أفاد عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه؛ وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفراً من ثقيف من بني مالك، فغدر بهم وقتلهم، وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك ورهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفساً واصطلحوا.
وحاصل القصة عند ابن الكلبي والواقدي: أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر، فأحسن أليهم وأعطاهم، وقصر بـ المغيرة، فحصلت له غيرة منهم، فلما كانوا في الطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم، ولحق بالمدينة فأسلم، لذلك يقول هنا في رواية البخاري: (فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة قال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء).
قوله: (أما الإسلام فأقبل) يعني: أقبله منك (وأما المال فلست منه في شيء) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، فالغدر لا يحل حتى مع الكافر إلا في حالة الحرب، لكن في الحالة التي يكون آمناً فيها لا ينبغي للمسلم أن يغدر أبداً.
يقول الحافظ: ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً يعني: ينبغي أن يكون خلق المسلم الأمانة مع كل أحد، حتى لو كان كافراً، قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فأموال الكفار تحل بالمحاربة والمغالبة، كغنيمة في حالة حرب، أما في الحالة التي أعطاك فيها الأمان أو يوجد نوع من الأمان بينك وبينه، فالتعرض له من الغدر، ومعلوم وعيد الغادر يوم القيامة.
وهذا الأدب وهذا الخلق يحتاج إليه كثير ممن يزعمون الالتزام والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من بعض الجماعات في بلاد الكفار، وحتى في باقي بلاد المسلمين، حيث يقع كثير من الغدر والخيانة في موضوع الأموال بالنصب والسرقة، وهذا موجود كثير جداً للأسف الشديد، وهو في أمريكا بصورة أكبر، وكان للأسف الشديد جداً في أول الأمر يوجد عندهم نوع من التسامح الشديد في المعاملات، حتى بدأت تشيع الخيانة والكذب والغدر ممن ينتسبون إلى الإسلام، فكانت تزيد التعقيدات بمرور الوقت، وبالذات في موضوع المكالمات الهاتفية ونحوها، فأصبحوا الآن -وللأسف الشديد- يقارنون أصحاب البلاد ببعضهم البعض، ففي أمريكا أي مكالمة خارج البلاد يكون فيها إجراءات استثنائية كمصر وباكستان وإسرائيل عصابة اليهود، فإذا تريد أن تتصل فلابد أن يتأكدوا أولاً من الهوية، تحرزاً من سرقة كروت الاتصالات، فتخيل أن شخصاً يستخدم مكالمة من وراء البحار لمدة ساعة ونصف ويكون صاحبه أو قريبه هنا يشغل له التلفاز ليتابع المباراة، وهو مستمر في فتح خط الهاتف؛ لأنه لص لا يدفع المال من جيبه؛ لأنه ليس من الممكن أن يبذل هذا المبلغ الضخم الذي سيدفع مقابل هذه الساعة والنصف من جيبه، فهو يسرق.
وقد حصل في يوم من الأيام أن شخصاً من هؤلاء اللصوص اتضح له أن الكرت الذي يتصل به ملك لشخص مسلم! يعني: آذى مسلماً بهذه السرقة وهذه اللصوصية، فهذه لصوصية ولا يمكن أبداً أن تسمى بغير ذلك، فينبغي للإنسان أن يتنزه عن هذه الأشياء، فبعض الناس يتحايل بصورة دنيئة جداً وقبيحة وكريهة في السرق والنصب، بحجة أن هؤلاء كفار! والحديث في هذا يطول.
فهذا ليس من خلق المسلم، والإسلام بريء من أخلاق هؤلاء الناس، لأن أقل ما في هذا الموضوع هو صد الناس عن سبيل الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] فهذه الآية مهمة جداً لنا جميعاً، وبالذات لهؤلاء الناس الذين يفعلون أشياء من الخيانة والغدر واللصوصية، ويزينونها لأنفسهم بأهوائهم، ففي هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عندما يتعاملون مع الكفار أو مع غيرهم أن يؤكدوا العهد والميثاق أو الاتفاق الذي يتفقون عليه بأن يقسموا بالله سبحانه وتعالى، فإذا أقسموا بالله فإن الطرف الآخر يصدقه؛ لأنه لا يتصور أن يحلف بالله كاذباً، فهؤلاء مؤمنون ومسلمون ولا يمكن أن يكذبوا، قال تعالى: ((وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ))، فجاءت الآية تحذر المؤمن من أن يستعمل الحلف باسم الله سبحانه وتعالى وسيلة لخداع الناس وغشهم: (َلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) أي: لا تستعملوا اسم الله والحلف بالله للإفساد بين الناس وأخذ حقوقهم، فإذا فعلتم ذلك ووقعتم في هذه الورطة فإنه يترتب على ذلك شران: الأول: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) بعدما كنتم موصوفين بوصف الأمانة صرتم خونة، وبعد التقوى صرتم فجاراً، وهكذا (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) عن الطريق المستقيم، فهذا انحراف وانحياز عن الطريق المستقيم، فهذا هو الوعيد الأول، قال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11].
الوعيد الثاني: قوله: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله) يعني: إن هذا السلوك منكم من الخيانة والغدر والكذب يترتب عليه أن الناس يصدقونكم، فإذا خنتم وغدرتم فسيقولون: لو كان في دينهم خير لما سرقوا ونصبوا، ولما حلفوا كاذبين، لو كان في دينهم خير لما فعلوا ذلك! وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأنهم بشر غير معصومين، ولكن أنتم تعطونهم الذري(128/15)
حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له
الموقف الأخير الذي نتعرض له في هذه القصة قول الراوي: (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أي: يلاحظ تصرفاتهم بعينيه- فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده! وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها).
قوله: (فجعل يرمق) يعني: يلحظ، (أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه)، وكأن الصحابة أرادوا أن يلقنوه الدرس الثاني بعد ما لقنه أبو بكر الدرس الأول لما قال: (وإني لأرى حولك أوباشاً أو أشواباً خليقاً أن يفروا ويدعوك) فرد عليه أبو بكر بهذه الكلمة الشديدة، ثم رد المغيرة أيضاً بضربه على يده، وما حصل بينهم من الحوار، ثم عملياً جعل عروة يرمق سلوك الصحابة رضي الله عنهم بعينيه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول: (فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده) وهذا تبركاً بآثار أو فضلات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتبرك بما ينفصل عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو أجزائه كشعره وغير ذلك جائز شرعاً.
زاد ابن إسحاق: (ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه).
قوله: (وإذا أمرهم ابتدروا أمره) إذا أمرهم بأمر تسابقوا أيهم يكون الأول امتثالاً لهذا الأمر، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
وهذا الحديث فيه دليل على طهارة النخامة، وطهارة الشعر المنفصل، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك؛ إشارة منهم إلى الرد على ما خفي عليه منهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم؛ كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدو؟! بل هم أشد ارتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ، فهم أرادوا أن يوصلوا له هذه الرسالة عن طريق هذه الوسائل، فإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه الذي يتناثر من أعضائه عند الوضوء، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وهكذا كان أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعدم إحداد النظر، هو أدب أصلاً مع كل كبير، حتى مع الوالدين أو غيرهم ممن يعظم، لا ينبغي للإنسان أن يحد النظر في أبيه أو في شيخه أو في مدرسه أو أستاذه، بخلاف هذه الأشياء التي نسمع فيها العجب الآن من طلاب المدارس وما يصنعونه مع مدرسيهم، فمن الأدب أنه لا يحد النظر بهذه الطريقة مع الوالدين وغيرهما ممن يعظم، وقد ذكر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه قبل أن يسلم ما كان أحد أبغض إليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد أن أسلم فيقول: فلم يكن أحد أحب إلي منه، ولم أكن -يعني: مع صحبته للرسول عليه الصلاة والسلام- أطيق النظر إليه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت! يعني: لو قال له أحد: صف لي صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وملامحه، لما استطاع ذلك! قال: لأني لم أكن أحد النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم أو كما قال رضي الله تعالى عنه، فـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه كان إذا جلس الرسول عليه الصلاة والسلام لا يملأ عينيه منه إجلالاً له، وتعظيماً واستحياء منه عليه الصلاة والسلام، حتى أنه لو سئل أن يصفه لما أطاق ولما استطاع أن يصف ملامح النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: (فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر) هذا من إطلاق الخاص بعد العام؛ لأن قيصر وكسرى والنجاشي من الملوك، وذكر الثلاثة لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان.
وفي بعض الروايات: (فقال عروة: أي قوم! إني قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم وما هو بملك، ولكن رأيت الهدي معكوفاً وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة) أي: لأنكم إذا تعرضتم لهؤلاء الناس الذين قصدوا البيت محرمين فلابد أن يعاقبكم الله؛ فتصيبكم قارعة إذا منعتموهم من دخول الحرم، فانطلق هو ومن اتبعه إلى الطائف خشية أن ينزل العذاب وهو قريب من قريش.
وفي قصة عروة بن مسعود من الفوائد ما يدل على جودة عقله ويقظته، وما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ومراعاة أموره، وردع من جفا عليه بقول أو فعل.
والتبرك بآثاره.
ولنذكر الجزء الذي شرحناه من هذا الحديث الطويل: يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين, إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإنهم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذووا الرأي منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟! قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟! وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بك لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شي.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن؛ فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فم(128/16)
تابع تفسير سورة الفتح [10](129/1)
شرح حديث صلح الحديبية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فقد قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.
حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة؛ فخذوا ذات اليمين)، فوالله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل! حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله! مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره)، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء).
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له! وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر)، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سهل لكم من أمركم).
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل: والله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله)، قال الزهري: وذلك لقوله: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب].(129/2)
إتيان صاحب بني كنانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
انتهينا في شرح هذا الحديث عند قول عروة لما رجع إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك إلى قوله: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته.
قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وفي رواية: فقام الحليف، وقيل: إنه من رءوس الأحابيش، وقال: أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، فقام رجل من بني كنانة فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن - يعني: الجمال- فابعثوها له) يعني: أثيروها دفعة واحدة.
وزاد ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: سلك هذه الطريقة ليبين لهذا المبعوث أنهم ما أتوا لقتال وإنما أتوا معتمرين، وآية ذلك أن الرسول عليه السلام أمرهم أن يدفعوا البدن دفعة واحدة حتى يراها، ثم إن البدن كانت مقلدة ومشعرة، وهذا يؤكد أنهم ما أتوا لقتال؛ فلذلك لم يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقترب منه حتى عاد إليهم ليحذرهم.
وفي مغازي عروة عند الحاكم: فقام الحليف -يعني: لما رأى الجمال بهذه الهيئة- فقال: هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عماراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك)، وهذا لا يتعارض مع قوله: ولم يصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: لعله يحتمل أن يكون الرسول خاطبه من بعد لما قال: هلكت قريش ورب الكعبة! إن القوم إنما أتوا عماراً أي: استعظم كيف يأتون محرمين بهذه الهيئة ثم يصدون عن البيت! وكانوا يعرفون في الجاهلية أن هذا سبب من أسباب الهلكة، فقال: (هلكت قريش ورب الكعبة)؛ لأنهم يصدون من قصد هذا البيت للعمرة، فلذلك قال له النبي عليه السلام: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك).
يقول: فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له)، واستقبله الناس يلبون -حتى يشعروه بأنهم ما أتوا إلا للاعتمار- فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
والتقليد في هذا السياق هو التقليد للبدن يعني: أن يعلق في عنق الهدي قطعة من جلد وغيره يكون علامة على أنه هدي، وأما الإشعار فهو أن يطعن صفحة سنام الإبل اليمنى، وهي مستقبلة القبلة، ويلطخها؛ بالدم ليعلم أنها هدي، والتقليد والإشعار من تعظيم وإظهار شعائر الله، وربما أحياناً يضع بعض الناس على الجمال نوعاً من القماش الأبيض إشارة أيضاً إلى أنها هدي، والإشعار أيضاً علامة على أن هذا الهدي مسوق إلى بيت الله عز وجل، فهذه من أمارات إظهار شعائر الله سبحانه وتعالى.
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت.
وزاد ابن إسحاق: وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟! فقالوا: كف عنا -يا حليف - حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى.
ويؤخذ من هذا أن كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وكانوا ينكرون على من يصد عن ذلك، وهذه من بقايا دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(129/3)
إرسال قريش مكرز بن حفص إلى رسول الله
قال: فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر).
قيل: إن وصفه بالفجور له أكثر من سبب منها: أنه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلاً، فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس، وانفلت منهم مكرز، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك.
فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا).
فحين بعثت قريش سهيل بن عمرو فهذه أمارة على أنهم وافقوا على عقد معاهدة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(129/4)
إرسال قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح
وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: (بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى النبي سهيلاً قال: (قد سهل لكم من أمركم) يعني: تفاؤلاً باسمه، فأتى سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم -يقول الزهري في حديثه- فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً يعني: هلم نعقد عقد المصالحة هذا؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب).
قوله: (فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً) وفي راوية ابن اسحاق: (فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهم القول -التصالح- حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم هذا).
وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تجاوز عشر سنين، استدلالاً بهذا الحديث، وهو قول الشافعي والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثاً، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح والله تعالى أعلم، وهو مذهب الجمهور ومنهم الشافعي أن المدة لا تزيد عن عشر سنوات، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب -والكاتب هو علي رضي الله تعالى عنه- فقال له: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، يملي على علي أن يكتب نص عقد الصلح، فأملاه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولذلك قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وهذا الكفر باسم الرحمن كان عناداً منهم، وإلا ففي أشعارهم ما يدل على أنهم يعرفون أن من أسماء الله عز وجل الرحمن.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) (قاضى) بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي: فصلت الحكم فيه، وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلاً بخشية أن يظن أنها نافية، نبه عليها الخطابي أي: أن بعض الناس كره استعمال كلمة: (هذا ما قاضى)؛ لأنه يمكن أن يفسرها أحد الطرفين بالنفي فيكون معناها: الذي لم يقاض عليه، لكن (ما) هنا ليست نافية، بل موصولة، (هذا ما قاضى) يعني: هذا الذي قاضى عليه، فهذا الحديث دليل على جواز استعمال عبارة: هذا ما قاضى عليه كذا وكذا.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، هذا لن يغير في الحقيقة شيئاً، فبعد شهادة الله عز وجل لرسوله عليه السلام بالرسالة وبالشهادة وبالصدق، فهو مستغن عن شهادة غيره، فقال: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله).
قال الزهري: وذلك لقوله، يعني: تساهل معهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه منذ البداية تعهد وأقسم: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وما المقصود بحرمات الله؟ قلنا: يحتمل أن تكون حرمة الإحرام، وحرمة الشهر، وحرمة البدن، وقلنا: إن هذا القول مرجوح، والمقصود بالحرمات هنا صلة الرحم وحقن الدماء، وإلا فجميع العلماء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أقسم وقال: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالواو هنا بمعنى الفاعل، والمراد: المشركين، لو كانوا يعظمون الإحرام أو الحرم أو الشهر ما كانوا صدوهم من الأصل، ولكن المقصود بالحرمات هنا: صلة الرحم والقرابة بينهم وبين المسلمين.
وبسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أقسم وقال: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فلأجل ذلك تساهل معهم، وتجاوز عن كتابة البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، وتجاوز عن إثبات (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) يعني: من شروط الاتفاق: أن تتركونا ولا تحولوا بيننا وبين الطواف في البيت وأداء العمرة، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة.
هذه هي حمية الجاهلية، يعني: كيف يشيع في العرب أنكم أتيتم وأكرهتمونا على أن تأتوا وتعتمروا، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة أي: قهراً، وفي رواية ابن إسحاق: أنه دخل علينا عنوة.
قال: ولكن ذلك من العام المقبل، يعني: العام المقبل تأتونا، ونسمح لكم بدخول مكة لأداء العمرة، فكتب.
فقال سهيل - وهذه مادة أخرى من مواد الاتفاق-: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
أي: من شروط المعاهدة أن أي رجل من قريش يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى لو كان مسلماً فتتعهد أن ترده إلينا.
وفي رواية ابن إسحاق: على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه.
وفي الظاهر هذا فيه غاية الإجحاف بالنسبة للمسلمين، يعني: أنهم اشترطوا عليه: أنه لو أتاك رجل من مكة إلى المدينة مهاجراً مسلماً فلا بد أن ترده إلينا، ومن أتانا من عندك لا نرده إليك؛ فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟! كيف نوافق على هذا البند المجحف؟ كيف نرد رجلاً أتانا من المسلمين إلى المشركين وقد جاءنا مسلماً؟! يقول الحافظ رحمه الله تعالى: زاد ابن إسحاق في قصة الصلح بهذا الإسناد: (وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة) يعني: أمراً مطوياً في صدور سليمة، فتترك المؤاخذة لما تقدم بينهم من أسباب الحروب وغيرها، كأنه قال: عفا الله عما سلف لما حصل بيننا من الحروب والاحتكاكات، ونحافظ على العهد الذي وقع بيننا.
قال: (وأنه لا إسلال ولا إغلال) يعني: لا سرقة ولا خيانة، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سراً وجهراً.
وقال ابن إسحاق في حديثه: (وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه) يعني: من القبائل التي تريد أن تتحالف مع الرسول عليه السلام أو مع قريش.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
قال: (وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها في أصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيره).
قال ابن إسحاق: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل، وقد قال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو: يعني: ابن سهيل بن عمرو نفسه، وكان قد حبسه في مكة، وكان يعذبه عذاباً شديداً لأنه أسلم، فبينما هم يتباحثون هذه المباحثات إذا بـ أبي جندل بن سهيل بن عمرو قد هرب من المحبس الذي حبسه فيه، وجاء يركض في أغلاله، وهي أغلال ثقيلة كانت عليه، وهو يمشي ببطء حتى ألقى نفسه أمام النبي عليه السلام وأمام الصحابة.
يقول: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يركض في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل أبوه: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد) قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: (ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به).
قال عمر: (فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله! إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
أي: هذا الموقف كان عمر يندم عليه؛ لأنه راجع الرسول عليه السلام هذه المراجعة ولم يسلم وينقاد لحكمه من أول وهلة، فاعتبر هذه معصية، فأخذ يكثر من الأعمال الصالحة حتى تكفر عنه ما فعله في هذا الم(129/5)
رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل أثناء الصلح
قوله: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل) جندل على وزن جعفر، وكان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، وهذه سنة، فالأسماء المنفرة أو القبيحة من السنة أن تغير إلى اسم أفضل، فهذا الرجل أبو جندل كان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، ولزمته هذه الكنية: أبو جندل، وله أخ اسمه عبد الله أسلم قديماً، وحضر مع المشركين بدراً ففر منهم، وانضم إلى جيش المسلمين في بدر، ثم كان معهم بالحديبية، واستشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، وأما أبو جندل فكان حبس بمكة ومنع من الهجرة وعذب بسبب الإسلام.
وفي رواية: (فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل وكان أبوه حبسه فأسلم).
وفي رواية عن عروة: (وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين، ففرح به المسلمون وتلقوه، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فإنه ثقيل، فهذا معنى (يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فقال سهيل: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، وفي رواية ابن إسحاق: فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل -ابنه- فضرب وجهه وأخذ يلببه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد)، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، من الإجازة يعني: استثنيه أو سامح في هذا، وفي بعض الروايات: (فأجره لي).
وفيه: أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، فالعبرة باللفظ حتى لو تأخرت الكتابة عن الكلام والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي صلى الله عليه وسلم لـ سهيل الأمر في رد ابنه إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تلطف معه بقوله: (لم نقض الكتاب بعد) رجاء أن يجيبه لذلك، ولا ينكره بقية قريش لكونه ولده، فلما أصر على الامتناع تركه له؛ لأنهم كانوا قد اتفقوا على هذا البند.
قال: (فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل)، هذا نوع من التلطف به والإلحاح (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، ومكرز كان شريكاً له في الوفد المفاوض، وليس معنى قوله: (أجزناه لك) أن نتركه عندك، لا، فالمعنى: نأخذه لكن لا نعذبه، فالتزموا على أنهم لا يعذبوه، فهو أراد أن يظهر أنه ليس متصفاً بالصفة التي أخبر عنه النبي عليه السلام بقوله: (وهو رجل فاجر)، فهو يريد أن يقول أنه ليس بفاجر، وأنه موافق على أن يجيبه.
قال أبو جندل: (أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله).
زاد ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).
يعني: ما دمنا عقدنا عقداً فلا بد أن نلتزم به؛ لأن الرسول عليه السلام لم يوافق على أنه إذا جاءه مسلم يقهره على أن يعود إلى الكفر، لكن هو فقط لا يقبله التزاماً بهذا العقد، ووفاءً بالقسم الذي أقسمه أنهم لا يدعونه إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلا أجابهم إليها، فقال: (يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).
وفي رواية أبي المليح: (فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، عمر اقترب منه وأخذ يقول له: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، ويدني بقائم السيف منه؛ يحرضه ليأخذ السيف ويضرب به أباه، فانظر إلى هذا الفعل من عمر! فـ عمر كان لا يستطيع أن يصرح له بقلته احتراماً للعهد، وحتى لا يغدر، فهو يعرض له بطريقة غير صريحة، حتى لا يكون ذلك طعناً في العقد.
قال: (فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب قال: ويدني قائم السيف منه، قال عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه؛ فضن الرجل بأبيه) يعني: بخل بأبيه، وعز عليه أن يقتل أباه.
قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكنه التورية، يعني: السبب أن الرسول عليه السلام رده إليهم أن له سعة ورخصة في أن يتقيهم كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فيستطيع أن يستعمل التقية أو التعريض والتورية بحيث يوهم أنه ما زال مثلهم؛ حتى لا يصيبه الأذى الذي يصيبه، يعني: له سعة ورخصة في أن يكف عنه الأذى عن طريق التورية والتعريض، فلم يكن رده إليهم تسليماً لـ أبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.
الوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، وغالب الظن أن أباه لا يبلغ به الهلاك، ومهما عذبه فلن يبلغ به إلى حد أن يهلكه.
وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به عباده المؤمنين، واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم لما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وأن الذي وقع في قصة الحديبية منسوخ، وأن ناسخه حديث: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين ظهراني المشركين)، هذا قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل: فالعاقل يرد، والمجنون والصبي لا يردان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، والله تعالى أعلم.(129/6)
مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى) وزاد الواقدي من حديث أبي سعيد قال عمر: (لقد دخلني أمر عظيم، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط)، وفي حديث سهل بن حنيف فقال عمر: (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟! فقال: (يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولن يضيعني الله)، فرجع عمر متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، وظل يردد نفس العبارات لـ أبي بكر، والعجيب أن أبا بكر رد بنفس الأجوبة مع أنه لم يكن حاضراً الموقف! وهذا التوافق في هذه الردود من أمارات شدة المحبة.
قوله: (فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر) وفي رواية أخرى: فقال عمر: (اتهموا الرأي على الدين) يعني: يحذر المسلمين من أن يقابلوا أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وخبر الله وخبر رسوله بالتكذيب، فيجب على المسلم أن يسلم لأمر الله ورسوله عليه السلام، ولا يكون له الخيرة في أمره إذا قضى الله ورسوله أمراً، فيقول للصحابة: خذوا درساً وعبرة من موقفي هذا! وفي رواية ابن إسحاق: كان الصحابة لا يشكون في الفتح؛ لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في آخر سورة الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلما رأوا أن ذلك في السنة المقبلة شق عليهم ذلك.
ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، فيجوز للإنسان أن يسأل ويناقش إلى أن يتضح له المعنى؛ بدلالة هذا الحوار بين النبي عليه السلام وبين عمر، وبين عمر وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن الصحابة أجمعين.
ويستفاد منه: أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد.
وهذا مأخوذ من قوله: (أأخبرتك أنك آتيه العام) يعني: أأخبرتك أنك تأتيه هذا العام؟ لكن هذا وعد، وهل هو موعد في وقت معين؟ لا، يعني: أنا أخبرتك أنك سوف تأتي البيت وتطوف به، لكن هل ذكرت لك الوقت الذي سوف تدخله؟ قال: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به)، فهذا دليل على أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وإذا لم يرد مخصص ولا مقيد فالكلام على عمومه.
وفيه: أن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.(129/7)
ثبات أبي بكر وموقفه الراسخ في صلح الحديبية
قوله: (فأتيت أبا بكر): لم يذكر عمر أنه راجع أحداً في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وذلك لجلالة قدره، وسعة علمه عنده، ومثل هذه المواقف تثبت فعلاً أن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد في سيرة أبي بكر العقل والثبات مع ما لـ عمر رضي الله عنه من الفضائل، لكن عمر بعد أبي بكر في الترتيب.
ومن ذلك أيضاً موقف عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين تقارن بين موقف أبي بكر وموقف عمر رضي الله تعالى عنهما، وموقفهما عند قتال أهل الردة؛ هذه المواقف بلا شك تبين فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على عمر.
وجواب أبي بكر لـ عمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى.
ومواقف أبي بكر في هذا كثيرة جداً منها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته صعد المنبر وقال: (إن عبداً قد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فبكى أبو بكر في الحال، فتعجب الصحابة لبكائه! فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (هناك عبد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله) فلماذا يبكي أبو بكر؟!
الجواب
لأن أبا بكر كان أفهم الصحابة وأعلمهم، وأحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكملهم، ففهم أبو بكر من ذلك أن هذا العبد هو الرسول عليه السلام، وأنه على وشك أن يفارقهم، وأن الرسول كان ينعي نفسه إلى الصحابة رضي عنهم، لكن لم يفقه هذا إلا أبو بكر؛ لأنه أعرف الناس بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى.
والمسلمون استنكروا الصلح المذكور، وقاموا على رأي عمر في ذلك، وسيأتي في حادثة الحلق وفي بقية القصة أن عامة المسلمين كانوا على موقف عمر فقد كانوا مبهوتين ومذهولين من هذا الموقف، واختص أبو بكر رضي الله تعالى عنه بهذا الموقف الثابت الحكيم الرائع، واستنكر المسلمون الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك.
وظهر من هذا الفصل أن الصديق رضي الله عنه لم يكن في ذلك موافقاً له بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواءً، والدليل في هذا التطابق في العبارات، والردود التي وجهها النبي عليه السلام لـ عمر حين راجعه هي نفسها سواءً بسواء الردود التي ذكرها أبو بكر معه ويعني أبو بكر لم يكن حاضراً ذلك، وهذا يذكرنا بحادثة ابن الدغنة الذي وصف أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بنظير ما وصفت به خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تمام الموافقة من علامة المحبة، فالمحبة هي التوافق في كل شيء، فتجد المتحابين بينهما التوافق الغريب والعجيب، فـ خديجة لما وصفت الرسول عليه السلام قالت: (والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) وكذلك ابن الدغنة لما أراد أبو بكر أن يخرج من مكة أبى ذلك وقال له: إنك يا أبا بكر لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل إلى آخره، نفس العبارات التي قالتها خديجة رضي الله تعالى عنها، فاتفقت الصفات المتناسبة تماماً، وهكذا شأن المحبين التوافق في الصفات! يقول: (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق) والغرز للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفارس لا يفارقه.
قال عمر (أليس كان يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به).
قال الزهري: قال عمر: (فعملت لذلك أعمالاً) يعني: من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب، وفي قول في تفسير (فعملت لذلك أعمالاً): أنه كان في حالة اضطراب شديد بسبب مراجعته في هذا الموقف، ولم يكن ذلك شكاً من عمر، بل حثاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الدين.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعدما حكى هذا القول عن بعض القراء: وتفسير الأعمال بما ذكر مردود -يعني التفسير بالذهاب والمجيء والسؤال والجواب إلى آخره- يقول: بل المراد به: الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداءً.
وقد ورد عن عمر التصريح بمراده بقوله: (أعمالاً)، ففي رواية ابن إسحاق: وكان عمر يقول: (ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ) يعني امتثالاً لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: (لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً وصمت دهراً).
إذاً: المقصود من قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فعملت لذلك أعمالاً) لا يمكن أن يكون المراد بالأعمال أنه استمر يذهب ويجيء ويسأل ويحاور على سبيل الشك، وإنما على سبيل طلب الحكمة في هذا الأمر، ورفع الالتباس، وهذا القول مردود بدليل أن عمر صرح بمراده بهذه الأعمال، وهو أيضاً لم يذهب ولم يراجع إلا أبا بكر بعد الرسول عليه السلام؛ لأنه يعلم أن أبا أبكر أعقل الناس وأعلمهم وأفقههم، ولم يرجع بعد ذلك إلى أن يسأل أيضاً، فلم يتردد على أحدٍ من الصحابة بعد أبي بكر، والله تعالى أعلم.
والراجح أن نقاش عمر رضي الله تعالى عنه لا يمكن أن يكون شكاً في النبوة؛ لأن رواية ابن إسحاق فيها: أن أبا بكر لما قال له: (الزم غرزه، فإنه رسول الله) قال عمر: (وأنا أشهد أنه رسول الله)، وأيضاً الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله ولست أعصيه)، إيماءً إلى أن هذا الفعل إنما فعله عن وحي يوحى.
يقول الحافظ: والذي يظهر أنه توقف ليقف على الحكمة في القصة، وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره في قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم، بخلاف الثانية، فلعل عمر طمع في أن يوافقه الوحي كما وافقه في أكثر من مناسبة، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه، بل هو مأجور؛ لأنه رضي الله عنه مجتهد فيه.(129/8)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنحر والحلق في الحديبية
يقول: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله! ما قام منهم رجل.
كانوا في حالة من الغم والاكتئاب والحزن؛ بسبب ما شعروا أن الصلح هضم للمسلمين وإجحاف بهم.
قال: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً).
قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب، وزاد ابن إسحاق: فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين، ومنهم: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهم ومكرز بن حفص وهو مشرك.
قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وهم في حالة إحرام، وقد أحصروا عن البيت، وحال العدو بينهم وبين البيت، ومن أحكام الإحصار التحلل، فكان يجب أن يتحللوا ويحلقوا، فهم تباطئوا لشدة الغم والحزن من هذا الموقف، كيف بعد هذه المدة من الحرمان من البيت والكعبة أن يحال بينهم وبين الطواف؟! وقد كان عندهم أمل عظيم، وهم مستعدون أن يقاتلوا في سبيل أن يصلوا إلى الكعبة ويعتمروا فيها، فهذا كان سبب الصدمة الشديدة التي عانوا منها، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام بعدما فرغ من العقد والكتاب: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون يعني: إلى جهة الحرم، وكان يمكن أن يرسلوا الهدي إلى الحرم ويواعدوا شخصاً يأخذه وينحره في وقت معين.
يقول: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون -يعني إلى جهة الحرم- حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]، فمنعوا هذا الهدي أن يبلغ محله وهو داخل الحرم، فالمشركون منعوه من ذلك؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بالنحر في نفس المكان الذي هم فيه؛ حتى يتحللوا من الإحرام.
قوله: (فوالله ما قام منهم رجل) قيل: كأنهم توقفوا عن الامتثال لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو تباطئوا رجاء نزول الوحي لإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك؛ لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة.
يعني: كانوا في حالة من الاندهاش والاستغراق في التفكير فيما ألم بهم، خاصة أنهم قادرون على أن يقاتلوا المشركين، وأن يصلوا إلى الكعبة بعد هذا الحرمان لسنوت طويلة، وحيل بينهم وبين العمرة أو الحج، فلذلك كانوا في غاية الغم والحزن والشعور بالذل، مع ظهور قوتهم واعتقادهم أنهم قادرون على أن يغلبوهم ويقهروهم، ويدخلوا إلى البيت الحرام أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور كما سيأتي من كلام أم سلمة، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب؛ لما يتطرق القصة من الاحتمال، والدليل إذا قارنه الاحتمال سقط به الاستدلال.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال لهم ذلك ثلاث مرات ولم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وفي رواية ابن إسحاق فقال لها: (ألا ترين إلى الناس! إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه!)، وفي رواية: (فاشتد ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا!)، قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـ أم سلمة: انكشف العذاب عنهم والإهلاك برأي أم سلمة الرأي الصائب والحكيم هو الذي رفع عنهم هذا الحرج، وهذا الضيق والهلاك الذي أوشك أن ينزل بهم.
قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـ أم سلمة رضي الله عنها، فلما شكا إلى أم سلمة ما وجده من الناس، قالت أم سلمة: (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم) زاد ابن إسحاق: قالت أم سلمة: (يا رسول الله! لا تكلمهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح) يعني: هم في حالة إحباط شديد مستغرقين ومدهوشين مما يحصل، فـ أم سلمة التمست العذر للصحابة رضي الله تعالى عنهم، قالت: (يا رسول الله! لا تكلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح) ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، ويحتمل أنها فهمت أن الصحابة فهموا أن الرسول عليه السلام لما بقي على حالة الإحرام وهم محرمون أيضاً، فلما أمرهم أن يحلوا هم، رأوا أن الرسول عليه السلام لم يتحلل، وهم سوف يتحللون، ولذلك جاءت نصيحتها صائبة تماماً حتى تذهب هذا الوهم، فلما حل من إحرامه كأنه قال: حتى أنا سأتحلل وسيجري عليكم ما سيجري علي، فربما كانوا فهموا قبل نصيحة أم سلمة رضي الله عنها أنهم هم الذين سيتحللون أما الرسول فسيبقى على إحرامه.
يقول الحافظ: ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، وأنه هو سيستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.
وفيه فضل المشورة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شاور أم سلمة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقاً أبلغ من القول، لكن الفعل إذا انضم إلى القول يكون أقوى من القول المجرد.
وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، خلافاً لأحاديث كثيرة موضوعة في هذا الأمر، مثل حديث: (شاوروهن وخالفوهن، فإن في مخالفتهن البركة)، ولا شك أن بعضهن كذلك، ولكن قد تكون المرأة عاقلة كـ أم سلمة، وممكن أن المرأة تتفوق على مئات من الرجال: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال عموماً هذا موقف عظيم رواه البخاري، فالرسول عليه السلام أخذ بمشورة أم سلمة، ومن سيرتها يعلم أنها امرأة عاقلة وحكيمة، وآتاها الله سبحانه وتعالى رجاحة العقل، ونحن نعرف أن كثيراً من النساء تقاس بمئات من الرجال؛ لرجاحة عقولهن وقوة رأيهن، لكن إن كن بخلاف ذلك فينبغي الحذر.
وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة وفضل أم سلمة ورجاحة عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة! وهذه مبالغة من إمام الحرمين، وإلا فنحن نستطيع أن نأتي بأدلة من القرآن والسنة والسيرة والتاريخ بخلاف ذلك، فمن ذلك: بلقيس كانت امرأة عاقلة في غاية الرجاحة، وانتهى بها عقلها إلى أن أسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
كذلك ابنة شعيب في قصة موسى ما كان أعقلها في قولها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فهذه من المشورة الصائبة، وأي شرف أعظم من أن يصاهر الرجل نبي الله وكليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟! كذلك امرأة فرعون لما قالت له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد).
أيضاً في العصر المتأخر من النساء اللاتي رجح عقلهن زوجة الإمام محمد بن سعود أمير الدرعية واسمها موضي بنت وهطان، فعندما أوى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الأمير محمد بن سعود في الدرعية يستنصره ويطلبه بأن يساند هذه الدعوة بقوته وبأسه؛ كانت امرأته عاقلة جداً، ومن نوادر النساء، فقد انفردت بزوجها وشجعته، وكان من إخوته من هم تلامذة لشيخ الإسلام، فأتى أخواه وكلما زوجته أن الأمير محمد بن سعود لو أيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سيكون ذلك فتحاً كبيراً، ونصراً عظيماً للإسلام، فرغبت هي زوجها وشجعته على أن يؤوي شيخ الإسلام رحمه الله ويحميه، وبسبب ذلك وقعت هذه الحركة التجديدية التي لم يأت مثلها حتى اليوم وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمر(129/9)
دخول الناس في الإسلام بعد صلح الحديبية
في رواية الزهري: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح، قال الزهري: فما فتح في الإسلام قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس؛ كلم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه.
فهذا هو معنى كون صلح الحديبية فتحاً حقاً وصدقاً؛ لأن السيوف توقفت، وبالتالي بدأ إعمال العقول، وبدأ التفكير، وانطفأت حمية الجاهلية، يقول الإمام الزهري: فما في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس، كلم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه.
يعني: ما وجهت الدعوة في خلال تلك الفترة لأحد عنده شيء من العقل حتى لو كان عقله ضعيفاً، لكن عنده شيء من العقل إلا استجاب، فما بالك بمن عنده عقل وافر؟! يقول: لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
يعني: تضاعف عدد المسلمين في خلال سنتين، فصلح الحديبية كان سنة من الهجرة، فهو يقصد بتينك السنتين: مدة الصلح، فقد كانت سنتين فقط؛ لأن المشركين نقضوه بعد مرور سنتين، وهم اتفقوا على مدة عشر سنين، لكن حصل أنهم نقضوا العهد، فبالتالي حصل فتح مكة بعد سنتين في سنة 8 من الهجرة، فالإشارة إلى أن الواقع أن هذا الصلح استمر سنتين فقط؛ لأن المشركين نقضوا العهد وغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأحلافه، هذا هو المقصود.
يقول هنا: ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
يعني: من صناديد قريش.
ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجاً، وكانت الهدنة مفتاحاً لذلك، ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحاً -كما سيأتي في المغازي-؛ فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقاً حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، يعني: هذا الصلح كان في الظاهر شراً لكنه في الحقيقة كان خيراً عند النظر للعاقبة.
قال: وكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عزاً لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة!(129/10)
هجرة النسوة المؤمنات حال الصلح
يقول: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية.(129/11)
هروب أبي بصير من مكة إلى المدينة
قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين -وهو غير أبي جندل، هرب من مكة إلى المدينة- فأتوا النبي عليه السلام فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فمن بنود المعاهدة: أن من أتاك من عندنا ولو كان على دينك فلابد أن ترده إلينا، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، يعني: سلمه لهما النبي صلى الله عليه وسلم، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة.
قوله: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير وهو رجل من قريش) عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة.
فمعنى قوله: (رجل من قريش) يعني: من الحرم؛ لأن بني زهرة من قريش.
(فأرسلوا في طلبه رجلين) وفي بعض الروايات: فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقالا للنبي عليه الصلاة والسلام: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، وفي رواية ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بصير! إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).
وفي رواية أبي مليح: (فقال له عمر -وهذه قصة عمر مرة أخرى-: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف) وهذا أوضح في التعريض لقتله، واستدل بعض الشافعية بهذه القصة على جواز دفع المطلوب لمن ليس من عشيرته إذا كان لا يخشى عليه منهم؛ لكونه صلى الله عليه وسلم دفع أبا بصير للعامري ورفيقه، ولم يكونا من عشيرته ولا من رهطه، لكنه أمن عليه منهما؛ لعلمه بأنه كان أقوى منهما، ولهذا آل الأمر إلى أنه قتل أحدهما وأراد قتل الآخر.
وفيما استدل به لذلك نظر؛ لأن العامري ورفيقه كانا رسولين من قريش، ولو كان فيهما ريبة لما أرسلهما من هو من عشيرته.
وأيضاً وقع في رواية أبي مليح: جاء أبو بصير مسلماً وجاء وليه خلفه فقال: يا محمد! رده علي، فرده.
المهم أنه دفعه لهذين الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله! إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت به، ثم جربت به! فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: (لقد رأى هذا ذعراً)، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم) يعني: أوفى الله ذمتك فأنت لم تغدر فقد سلمتني لهم، لكن هأنذا الآن عائد إليك مرة ثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قوله: (فنزلوا يأكلون من تمر لهم) وفي رواية الواقدي: (فلما كانوا بذي الحليفة دخل أبو بصير المسجد فصلى ركعتين وجلس يتغدى ودعاهما فقدم سفرة لهما فأكلوا جميعاً).
قوله: (فقال أبو بصير لأحد الرجلين) وقوله: (فاستله الآخر) يعني: صاحب السيف أخرجه من غمده، قوله: (فأمكنه منه) أي: بيده، قوله: (فضربه حتى برد) أي: حتى خمدت حواسه، وهذا كناية عن الموت؛ لأن الذي يموت يبرد جسمه، لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد السكون، وفي رواية ابن إسحاق (فعلاه حتى قتله).
قوله: (وفر الآخر) وفي رواية أخرى: (وخرج المولى يشتد) أي: هرب.
قول النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه: (لقد رأى هذا ذعراً) أي: خوفاً، وفي رواية: (فزعاً)، فقال: قتل والله صاحبي، وفي رواية أخرى: (قتل صاحبكم صاحبي وإني لمقتول) يعني: إن لم تردوه عني، وعند الواقدي: (وقد أفلت منه ولم أكد).
وفي رواية: فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فأوثقاه حتى إذا كان ببعض الطريق ناما، فتناول السيف بفيه فأمره على الوثاق فقطعه، وضرب أحدهما بالسيف، وطلب الآخر فهرب، والأول أصح، يعني: الرواية التي ذكرناها آنفاً هي الأصح.
وعند ابن عائذ في المغازي: وهرب الآخر وأتبعه أبو بصير، فبالتالي هو يجري وأبو بصير وراءه حتى وصل إلى المدينة، حتى دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف عورته، والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه وأبو بصير يتبعه.
فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك) يعني: ليس عليك منهم عقاب فيما صنعته أنا، وفي رواية: فقال أبو بصير: (يا رسول الله! عرفت أني إن قدمت إليهم فتنوني عن ديني؛ ففعلت ما فعل، وليس بيني وبينهم عهد ولا عقد).
وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية.
وكما قلنا: يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، يعني: حينما يكون التفسير للمجموع لا شك أن المعادلة تختلف، وتحتاج إلى موازنات واعتبارات بخلاف ما لو كان الشخص مسئولاً عن نفسه، وبخلاف ما لو كان هو يتصدر باسمه نفسه وحده، ففي هذه الحالة يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، وهذه الحادثة دليل واضح على هذه القاعدة المهمة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، (ويل أمه)، هذه كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، يعني: ظاهرها هي فيها ذم (ويل أمه) ولكن أحياناً يستعملونها في المدح؛ لأن الويل هو الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل.
قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق (تربت يمينه) في الأمر إذا أهم، ويقولون: (ويل أمه) ولا يقصدون الذم، والويل: يطلق على العذاب والحرب والزجر، وفي حديث أن الرسول قال للأعرابي: (ويلك)، وأصل قولهم: (ويل فلان) يعني: وي لفلان، فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت ويل، وهي أصلاً: وي لفلان، فلما كثر استعمالها ألحقوا اللام بالياء فصارت (ويل)، وقيل: إن (وي) كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها اتباعاً للهمزة وحذفت الهمزة تخفيفاً، والله تعالى أعلم.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مِسعر حرب)، قال الخطابي: يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد) يعني: لو كان له أحد ينصره ويعاضده ويناصره، والمراد: هذا الرجل لو انضم إليه رجل مثله فسيشعلونها ناراً وحرباً، وفي رواية الأوزاعي: (لو كان له رجال)، فلقنها أبو بصير أي: التقط هذه الكلمة، (فانطلق وهرب)، ففيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، فهذه إشارة إليه بأنك إن بقيت هنا سنسلمك، وإن كنت تستطيع أن تفر ففر، وأيضاً لو انضممت لأحد سيكون ما يكون، فكأنه أشار عليه بالفرار دون أن يصرح بذلك، لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، فإن المسلمين على هذه الظروف سيأتون من مكة إلى المدينة، فلذلك عليهم أن يتجمعوا مع بعض، ولن نكون مسئولين عنهم، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم: يجوز التعريض بذلك لا التصريح، كما في هذه القصة، والله أعلم.
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، أي: ساحل البحر، وعين ابن إسحاق المكان الذي نزل فيه فقال: وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل وهو قريب من بلاد بني سليم، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بـ أبي بصير وكان مأسوراً في مكة، فلما هرب أبو بصير استطاع أن يهرب أيضاً، فلحق بـ أبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بـ أبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم: يعني عملوا جميعاً حرب عصابات، كلما تأتي قافلة من قريش ذاهبة إلى الشام بالتجارة يقطعون عليها الطريق، ويأخذون ما معهم، ويقتلون المشركين.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه سلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، أي: من يأتيك إلى المدينة يكون آمناً، ولا ترده إلينا، فتراجعوا عن هذا الشرط! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، حتى بلغ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26]) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
(فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) يعني: أرسل إلى هذه العصابة من الصحابة، وفي بعض الروايات: (فبعث إليهم فقدموا عليه) وعند الزهري: فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه إلى أن قال: وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن خرج إلى الش(129/12)
من فوائد الحديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر
شرح الإمام البخاري بعض الألفاظ الغريبة في الحديث، فقال: قال أبو عبد الله: معرة العر: الجرب.
تزيلوا: تميزوا.
وحميت القوم: منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل.
وأحميت الرجل إذا أغضبته.
وهذا سوف يأتي إن شاء الله تفسيره في نهاية الكلام على سورة الفتح.
ثم قال الحافظ خاتماً فوائد هذا الحديث -دون ما تقدم أثناء شرح الحديث-: أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة للحاج والمعتمر.
وأن تقليد الهدي وسوقه سنة للحاج والمعتمر فرضاً كان أو سنة.
وأن الإشعار سنة لا مثلة، والإشعار: هو جرح جانب السنام الأيمن، فهذا ليس من المثلة وإنما هو سنة.
وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصوراً كان أو غير محصور.
وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر، ولو لم يصل إلى الحرم، ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقاً.
وفي هذا الحديث أشياء تتعلق بالجهاد منها: جواز سبي ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال.
وفيه: الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيوش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان من خصائصه أنه منهي عن خائنة الأعين.
وفيه: فضل الاستشارة من استقراء الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحاً في أصله، إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال، والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم.
وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة ولاسيما مع من هو مؤيد بالوحي.
وفيه: جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قاله الخطابي مستدلاً بأن الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافراً، قال: وإنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم، والاختلاط بهم، والاطلاع على أسرارهم، قال: ويستفاد من ذلك جواز قبول قول الطبيب الكافر.
يعني: إذا علم منه الصدق في النصيحة.
قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم ولم يشتهر إسلامه، وحينئذ فليس ما قاله دليلاً على ما ادعاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(129/13)
تفسير سورة الفتح [11 - 16](130/1)
تفسير قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا)
قال الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح:11]: قال الألوسي: قال مجاهد وغيره: المخلفون من الأعراب: هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم، والمقصود: أن هذه القبائل استنفرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً لتخرج معه؛ لأنه توقع أن تعرض له قريش بحرب أو أن يصدوه عن المسجد الحرام، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي؛ ليعلن للمشركين أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئك الأعراب المخلفون أنه صلى الله عليه وسلم يستقبل عدداً عظيماً من: قريش، وثقيف، وكنانة، والقبائل المجاورة لمكة وهم: الأحابيش، ولم يكن الإيمان تمكن في قلوب هؤلاء الأعراب؛ فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا، وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوهم في عقر دارهم بالمدينة، وقتلوا أصحابه فنقاتلهم! إذا كان هؤلاء قد غزوه في عقر داره -يقصدون بذلك غزوة أحد وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة والحديبية كانت بعد ذلك بثلاث سنين في السنة السادسة من الهجرة- فلن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من هذه السفرة، سيذهبون إلى مكة وسوف يستأصلهم المشركون استئصالاً بحيث لا يبقى منهم أحد، فهذا هو ظن السوء الذي ظنوه كما بين الله تبارك وتعالى، ففضحهم الله تعالى في هذه الآية: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا)، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، يعني: قبل أن يعود إليهم ويقابلهم أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بما قالوه وبما سوف يقولونه؛ ولذلك جاءت الآية: (سيقول) في المستقبل (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) فلما وصلوا إليه كان الأمر كذلك، ووقع فعلاً ما أخبر به الله سبحانه وتعالى.
والمخلفون: جمع مخلف، وهو: المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، مأخوذ من الخلف وضده: المقدم، فالمقدم يكون من الأمام، والمخلف: الذي يترك في المكان خلف الخارجين من البلد.
والأعراب هم: سكان البادية من العرب لا واحد له، أي: سيقول لك المتروكون الغير خارجين معك معتذرين إليك: شغلتنا -عن الذهاب معك- أموالنا وأهلونا، إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ الأموال والأهل ويحميها عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنه لا شك أن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال، فهذا ترقي من الأدنى إلى الأعلى: (شغلتنا أموالنا وأهلونا).
(فاستغفر لنا) يعني: استغفر لنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك، حيث لم يكن لنا بد في طاعتك، وإنما كان ذلك الداعي وهو أننا خفنا على أموالنا وأهلينا.
يقول الله سبحانه وتعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) وهذا هو النفاق المحض: أن يتغاير اللسان والقلب، فكلامهم خارج من طرف لسانهم، غير مطابق لما في القلوب والجنان، وهذا الكذب والإفك المشار إليه في قوله تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) فهذا الكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم أنه لضرورة، فهذا كان كذباً منهم أنهم تخلفوا لأجل ضرورة داعية إلى التخلف، وهي القيام بمصالحهم التي لابد منها، وعدم وجود من يقوم بها لو ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين استنفرهم.
كذلك (فاستغفر لنا) يتضمن اعترافهم بأنهم مذنبون، وأن دعاءه لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، والكذب هو أن حالهم لا يطابق الواقع بحسب الاعتقاد.
قال ابن كثير: (فاستغفر لنا) ذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد، يعني: ليس على سبيل أنهم فعلاً راغبون في استغفار النبي عليه الصلاة والسلام لهم، حتى يعود عليهم بالعفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وإنما هو تقية ومصانعة، فهم في الحقيقة لا يقولون ذلك على سبيل الاعتقاد.
قال القاسمي: قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس الذي يقولون.
إذاً: هذا الاعتذار الذي يدعونه هم كاذبون فيه، والذي خلفهم ليس هو قولهم: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، وإنما الذي خلفهم هو الشك في الله والنفاق.
كذلك أيضاً طلبهم الاستغفار: (فاستغفر لنا) ليس صادراً عن حقيقة؛ لأنه صادر بألسنتهم بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف، وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق.
قال تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا وتابعتمونا، ولهذا قال: (بل كان الله بما تعملون خبيراً).
قال القاسمي: أي: لا أحد يمنعه تعالى من ذلك؛ لأنه لا يغالبه غالب؛ إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم؛ ولذا هددهم بقوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أي: فيجازيكم عليه.
قوله تعالى: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) قيل: ضراً يعني: أمراً يضركم كهزيمة أو غير ذلك، أو أراد بكم نفعاً أي: نصراً وغنيمة، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع.
((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) يقول الألوسي: وحاصل معنى الآية: قل لهم: لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك ينفع الضر إن أراد الله عز وجل، ولا مواجهة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً.
يعني: هذا الجواب جامع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) يعني: إذا بقيتم في أموالكم وأهليكم خشية ضياعها، فهل هذا التخلف يجلب لكم نفعاً؟ كلا، بل لو أراد الله أن ينزل بكم الضر وبأهليكم وبأموالكم وأنتم في وسطهم لما رد قضاء الله سبحانه وتعالى راد.
كذلك أنتم تظنون أن الخروج مع النبي عليه الصلاة والسلام يضركم بهزيمة أو بقتل أو بنحو ذلك، فلو شاء الله سبحانه وتعالى أن يقدر نصراً وغنيمة فلا راد لقضائه، مع أنكم تحسبون أنه خروج إلى هلكة، فهذا هو المعنى: فلا أحد يدفع ضر الله ولا نفعه، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك يدفع الضر إن أراده الله عز وجل، ولا موافقة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً، وهذا كلام جامع في الجواب، وفيه تعريض بغيرهم من المبطلين.
ثم ترقى سبحانه وتعالى إلى ما يتضمن تهديداً في قوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) يعني: بكل ما تعملون خبيراً، فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه، ويجازيكم على ذلك.(130/2)
اللف والنشر الموجود في الآية
هذه الآية الكريمة فيها فن معروف عند علماء البيان يسمى: اللف والنشر، واللف والنشر هو: أن يذكر أشياء إما تفصيلاً: بالنص على كل واحد، أو إجمالاً: بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد منها يرجع إلى واحد من المتقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به؛ لأنه يكمل اللف.
اللف والنشر الإجمالي مثاله: قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران، وهل معنى ذلك أن أهل الكتاب اتفقوا مع بعض وتوحدوا وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً؟ لا، لم يتفقوا والدليل على ذلك الآية التي يقول الله تعالى فيها: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، ونحن نقول لهم: كلاكما محق، يعني: فهؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون، اليهود عندما قالوا: (ليست النصارى على شيء) نقول لهم: أنتم صادقون ونطقتم بالحق، فليست النصارى على شيء، والنصارى لما قالوا: (ليست اليهود على شيء) نقول لهم: صدقتم، فليست اليهود أيضاً على شيء، وكلاكما ليس على شيء.
فهم رأيهم في بعضهم البعض صواب، فقوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) فهنا إجمال في اللف في قوله: (وقالوا) والإجمال في حرف الواو، من الذي قال؟ كل فئة، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) لكن حينما نريد أن نذكر ما لفته الواو ونفرد الكلام ونفصله فنقول: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وإنما سوغ الإجمال في اللف ظهور العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقر أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، والدليل الآية التي بعدها، وهي قوله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) وكما قلنا: كلاهما في قوله هذا محق.
إذاً: الإجمال هنا في الواو جائز وسائغ؛ لأن اللف مأمون، فالإنسان العاقل الذي يعي الكلام عندما يقرأ القرآن الكريم يفهم أن قوله: (وقالوا) مجمل، ويستطيع أن يرد كل قول إلى فريقه، فلا يتصور أن احداً يقرأ الآيات، ويظن أن اليهود والنصارى اتفقوا على هذا القول، لا؛ لأن اليهود قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، فهذا أنموذج من نماذج الإجمال في اللف.
وقد يكون الإجمال في النشر لا في اللف، كأن يؤتى بمتعدد ثم بلفظ يشتمل على متعدد يصلح لهما، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] فهذا نشر، ثم أتى اللف في قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وهذا على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به: الفجر الكاذب لا الليل، أي: حتى يتبين لكم الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فالفجر الكاذب هو الخيط الأسود، فتكون (من) فيها لف في كلمة: (من الفجر)، وقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يعني: الفجر الصادق من الفجر الكاذب، يعني: كلاهما فجر، هذا ما يتعلق بالإجمال.
أما في حالة التفصيل فهو قسمان: أحدهما: أن يكون على ترتيب اللف كقوله سبحانه وتعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] أي: جعل لكم الليل، ثم النهار، ثم قال: (لتسكنوا فيه) وقال: (ولتبتغوا من فضله) فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، فهنا الإجمال أتى على (جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله).
وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، فاللوم راجع إلى البخل: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) والإحسار راجع إلى الإفراط، ومعنى (محسوراً) أي: منقطعاً لا شيء عندك.
كذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11].
فقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) راجع إلى قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى).
وقوله: (وأما السائل فلا تنهر) راجع إلى قوله: (ووجدك ضالاً فهدى).
ولعله بادر إلى عقولكم أن السائل المقصود به: الذي يسأل المال، لكن المراد به هنا السائل عن العلم؛ لأنه يقابل قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) ضالاً معناه: غافلاً عما أوحاه الله إليك من الهدى والفرقان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فإذاً: (ضالاً) يعني: عما أوحى إليك من النور والفرقان والشرائع، وعلى هذا فقوله: (وأما السائل فلا تنهر) قال مجاهد: يعني: السائل عن العلم، فإن للسائل حقاً، والسائل قد يدخل فيه أهل الكتاب الذين يأتون ليجادلوه عليه السلام ويسألوه أو الأعراب، أو كما جاء في سورة: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] في قصة الأعمى.
إذاً: قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى) يرجع إليها قوله: (فأما اليتيم فلا تقهر)، فكما آواك الله فعامل اليتيم بالمثل.
(وأما السائل فلا تنهر) كما أن الله امتن عليك بهذا العلم وهذا النور وهذا الوحي؛ فلا تنهر من أتاك يسألك هذا العلم.
(وأما بنعمة ربك فحدث) هذا راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى).
وقد يكون اللف والنشر التفصيلي على عكس التدقيق الذي ذكرناه هنا مع موافقة التركيب: (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) وكذلك في سورة الضحى، أما عكس الترتيب فكقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:106]، ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:107] فقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أتي بعدها بعكس الترتيب لأنه بدأ بعكس الترتيب في الجزء الأول فقال: (فأما الذين اسودت) ثم قال: (وأما الذين ابيضت وجوههم).
وجعل منه جماعة من العلماء قول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فبعض العلماء جعلوا هذا من اللف والنشر التفصيلي مع عكس الترتيب، (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيكون (متى نصر الله) قول الذين آمنوا، و (ألا إن نصر الله قريب) قول الرسول، فيكون التقدير: حتى يقول الذين آمنوا معه: متى نصر الله، ويقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فهذا يكون على عكس الترتيب.
على أي الأحوال المقصود من هذه الآية الكريمة: ((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا)) أي: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً؟ ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً؟ ففي هذه الآية الكريمة أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة: (فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً) أي: لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم، ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به، فلا نافع إلا هو، ولا ضار إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده، ولا منع نفع أراده، وهذا وضحه قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17]، وقال في آخر يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].(130/3)
تفسير قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً)
قال تبارك وتعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح:12].
(بل ظننتم) يعني: في الحقيقة ليس الأمر كما زعمتم بأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم، ولكن الحقيقة أشد من ذلك: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) والظن اسم لما يحصل عن الوهم، ومتى قوي أدى إلى العلم، ومتى ضعف جداً لم يتجاوز حد التوهم، فكلمة الظن تستعمل في أكثر من استعمال، أحياناً تستعمل بمعنى: اليقين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] أي: يوقنون، وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} [البقرة:249] إلى آخر الآية، فهذه بمعنى اليقين.
وقال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4]؛ لأن المعنى: ألا يكون منهم ظن لذلك؟ تنبيهاً على أن أمارات البعث ظاهرة، وفي هذا ذم لهم.
كذلك قال تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] أي: إني أيقنت، وقوله: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] هذا أيضاً يقين، وقال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد يعني: أيقنوا.
وقوله تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] يعني: أيقن أنه الفراق، أي: فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة.
فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق إذاً: أصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد الأمرين، وقد يقع موقع اليقين كما في الآيات التي ذكرناها.
قوله تبارك وتعالى: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)) أي: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاقل أو مؤمن كسول كالثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، لا، (بل ظننتم) يعني: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، وإنما هو تخلف نفاق، وهذا أشد من المعصية إذ اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم، وتستباح خضراؤهم، ولا يرجع منهم مفلت.
وقال القرطبي: وذلك أنهم قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون.
وقولهم (أكلة رأس) كناية عن القلة، أي: أنهم يكفيهم رأس واحد، لو اجتمعوا ليأكلوا فسيأكلون شاة واحدة، وهذا كناية عن قلة العدد، فهؤلاء خرجوا ليقابلوا الأحابيش في قريش وثقيف وكذا وكذا، فسوف يستأصلونهم ويقضوا عليهم قضاءً، ولا يبقى أحد منهم ليخبر عنهم، وهذا سوء ظن بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا لا يمكن أن يقع أبداً، ولا يمكن أبداً أن يتصور أن المؤمنين يستأصلون بحيث لا يبقى للإيمان ولا للإسلام أحد، فهذا لا يقع أبداً أبداً، فهذا هو ظن السوء الذي عيرهم الله سبحانه وتعالى به، فهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون، يعني: هم قليل يشبعهم رأس واحد.(130/4)
أهمية تعلم اللغة العربية
ذهب الألوسي إلى أن الإبهام الذي في قوله تعالى: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أوضح في الآية التي تليها ما هو هذا الذي كانوا يعملونه؟ وما هو الذي كان الله به خبيراً؟ فقال: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)).
أي: لن يرجع من ذلك السفر.
قوله: (الرسول والمؤمنون إلى أهليهم) أي: لن يرجعوا إلى عشائرهم وأقربائهم أبداً؛ لأنه سيستأصله المشركون بالمرة، أي: أفحسبتم أنكم إن كنتم معهم فسيصيبكم ما يصيبهم؛ فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة.
والأهلون: جمع أهل، وهو ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل، والشاهد من الألفية: وارفع بواو وبيا اجرر وانصب سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين وبه عشرونا وبابه ألحق والأهلونا فهو ملحق بجمع المذكر السالم.
وهنا فرصة لأن نتكلم عن أهمية اللغة العربية، فاللغة العربية في خطر شديد، والاهتمام باللغة العربية أمر واجب مقدس؛ لأنه لا إسلام بدون اللغة العربية، ولا عربية بلا إسلام.
فالذي نريد أن نقوله: إن الفهم للغة العربية مهم جداً، إذا قرأ الإنسان في كتب أهل العلم فإذا صار ينصب الفاعل أو يجر المفعول فإنه يفقد الثقة، وأنا عن نفسي الثقة تهتز عندي تماماً، فأقول: لو أن طالب العلم يستطيع أن يضبط الفعل والفاعل والجار والمجرور فسيستطيع أن يضبط الأحكام الشرعية، ويفهم النصوص حق فهمها، خاصة أن الإنسان إذا كان يسيء تطبيق قواعد اللغة العربية، فبالتالي سيسيء فهم الكلام؛ لأن الإعراب له أهمية قصوى في فهم كلام الناس، فقد يقع في ظلم بسبب عدم الفهم، وأنا أذكر لكم مثالاً لهذا الظلم: أحد إخواننا الأفاضل السلفيين ألف كتاباً اسمه: الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة، فهذا الأخ الفاضل لما أتى يتكلم على الجماعات تكلم على الإخوان، وذكر الشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى فقال هذه العبارة: وقد تنكر -يعني: صاحب الظلال- لعقيدة أهل السنة عندما فسر قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فقال: إذاً فقد كان ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام.
فأنا أسأله الآن -وانتبهوا-: من الذين يذمهم الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق؟ هل هو يذم المعتزلة فقط أم أنه يذم المعتزلة وأهل السنة أيضاً؟ هو يذم المعتزلة، فهذا خلاصة الكلام، وليست الجناية أنه قد أخطأ في فهم كلام الأستاذ سيد قطب رحمه الله، الجناية أنك عندما تعرض سياق ظلال القرآن تجد أن السياق ليس فيه نفي للرؤية أبداً، بل إنه يثبت الرؤية، ولكن الإنسان عندما يتعصب يغلط الناس: فرصاص من أحببته ذهب وذهب من لم ترض عنه رصاص فقد يدخل الهوى الإنسان الذي يتعصب في حكمه على الشخص، ويتمنى له الغلط كما يقولون، فهنا انظر هو يقول: فقد كان ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم، فهو هنا يذم المعتزلة فقط، ولا يهاجم أهل السنة، بل يقول: إن المعتزلة فتحوا باباً للجدل شغلوا به أنفسهم عن العلم النافع، وشغلوا أيضاً معارضيهم من أهل السنة الذين اضطروا أن يعارضوهم ويردوا عليهم ويبطلوا مذهبهم.
فهذا الأخ -سامحه الله- يرد على هذه الفقرة ويقول: من هذا القول يتضح أن سيد قطب لا يعتقد في هذه المسألة.
وهذا لحن آخر، يعني: أنت لا تعرف كيف تضبط الفاعل والمفعول وتهاجم الناس على نواياك وفهمك! فأنت لا تهاجم الناس إلا وأنت متقن على الأقل لأساسيات اللغة العربية، فهو يقول: من هذا القول يتضح لنا أن سيد قطب لا يعتقد في هذه المسألة عقيدة أهل السنة فضلاً عن المعتزلة، يعني: فهو في منزلة بين المنزلتين، فهذا سوء فهم منك أنت، فلا شك أن هذا ظلم واضح بين، فلو أنك راجعت الظلال الجزء 8 صفحة 382 لاتضح لك تماماً أنه رحمه الله تعالى يثبت الرؤية، ويعتقد فيها عقيدة السلف الصالح.
فهذا المنتقد بسبب قلة علمه بأولويات قواعد النحو قد وقع في ظلم هذا الرجل، ويريد أن يلتقط منه هذا الكلام الطلبة الصغار فيظللوا غيرهم، ومنهم من يكفر، أو يبدع أو يشتم وغير ذلك من الأشياء التي نراها.
فهذه وقفة عابرة استطرادية لبيان أهمية إتقان اللغة العربية جيداً؛ لأن من لحن في مثل هذه الأمور البسيطة فإنه تفقد الثقة في كلامه؛ لأنه إذا كان لا يعرف بدهيات اللغة العربية وأولويات النحو؛ فلا يجوز له أن يتكلم في الشرع؛ لأنه سوف يفتري على الله الكذب حين يفهم الآيات والأحاديث فهماً معوجاً؛ لأن النحو تفسير في غاية الخطورة على فهم النصوص، وهذا موضوع طويل لا نطيل فيه أكثر من هذا.(130/5)
الاستدلال بالآية على إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى
قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح:12] بعض الأذكياء من الناس يقول: إن هذه الآية تعتبر دليلاً لأهل السنة في إثبات الرؤية! فالاستدلال هنا أن كلمة: (لن) تفيد النفي في المستقبل، لكن هل تفيد التأبيد أم لا تفيد التأبيد؟ هذه الآية ظاهره في أن (لن) ليست للتأبيد؛ لأن (لن) لو كانت تفيد التأبيد لما قال: (أبداً)، فلما قال: (أبداً) دل على أن النفي بـ (لن) لا يفيد التأبيد، والشاهد من كلام ابن مالك في هذه المسألة: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: ارفض هذا المذهب وتمسك بالمذهب الآخر.
يقول تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]: قال (لن تراني) فالمعتزلة يستدلون بهذه الآية على أن (لن) تفيد النفي المؤبد، فيفسرون (لن تراني) يعني: يستحيل أن يراني أحد.
أهل السنة يقولون: لا، هو لم يقل: (لن تراني أبداً)، وإنما قال: (لن تراني) بمعنى: لن تراني في الدنيا، وهذا لا يتنافى مع الأحاديث المتواترة -بل والآيات- التي أثبتت رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فالشاهد أن الآية هنا: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) ظاهرة بأن (لن) ليست للتأبيد، ومن زعم أنها تفيد التأبيد جعل (أبداً) توكيداً.
والدليل أيضاً على الذي ذكرناه قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، فلو كانت تفيد التأبيد لوحدها لما ذكر معها (أبداً)، هذا مع أنه سبحانه وتعالى قال: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فهذا تمن للموت.
وكذلك لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80]، فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد، فهي تنفي في المستقبل لكن ليس نفياً مؤبداً.(130/6)
ظن السوء الذي تمكن في قلوب المنافقين
قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12] أي: حسن ذلك الظن المفهوم من (ظننتم) في قلوبكم، فلم تسعوا في إزالته؛ فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
(وزين ذلك في قلوبكم) أي: زين ذلك الظن، فالإشارة هنا إلى غير مذكور، ولكنه مأخوذ من قوله: (بل ظننتم) يعني: وزين ذلك الظن في قلوبكم، فبالتالي لم تسعوا إلى إزالة هذا الظن ولا معالجته، فتمكن من هذه القلوب حتى اشتغلتم بأنفسكم، غير مبالين بما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
قال القاسمي: أي: حسن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف، (وظننتم ظن السوء) يعني: أن الله لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي: هلكى، وقيل: لا يصلحون لشيء من الخير، وقال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك، وقال عبد الله بن الزبعرى السهمي: يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور وبور: جمع بائر، مثل: حائل وحول، وعائذ وعوذ، وباذل وبذل، وقد بار فلان أي: هلك، وأباره الله أي: أهلكه، وقيل: بوراً أي: أسراباً، أي: وكنتم في علم الله تعالى الأزلي (قوماً بوراً) أي: هالكين؛ لفساد عقيدتكم، وسوء نيتكم، فاستوجبتم سخط الله تعالى وعقابه جل شأنه.(130/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13] هذا وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بهذا النفاق، قال ابن كثير: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله) أي: من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وإن أظهر للناس خلاف ما هو عليه في نفس الأمر.
(فإنا أعتدنا) أي: هيأنا، (للكافرين سعيراً) ناراً مسعورة موقدة ملتهبة، وكان الظاهر أن يقول: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا لهم سعيراً، لكن عدل عن الضمير بإظهار الكافرين؛ ليبين أن من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وأنه مستوجب للسعير بكفره، لمكان التعليق بالمشتق، و (سعيراً) للتهويل، لما فيه من الإشارة إلى أنه لا يمكن معرفتها، وعبر عنه بـ (سعيراً)، فالتنكير هنا لتهويل شأنها.
وقيل: لأنها نار مخصوصة، فالتنكير للتنويع.(130/8)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض)
قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:14] أي: أن الله سبحانه وتعالى غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.
(وكان الله غفوراً رحيماً) وفي تقديم المغفرة والتذييل لكونه تعالى غفوراً في صيغة المبالغة، وضم رحيماً إليه الدال على المبالغة أيضاً دون التذييل بما يفيد كونه سبحانه معذباً، مما يدل على سبق الرحمة للعذاب والغضب.
كذلك قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض) بدأ بالمغفرة؛ لأن المغفرة أحب إلى الله سبحانه وتعالى: (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء).
ولم يقل: وكان الله عزيزاً حكيماً أو: من الكافرين منتقماً وإنما ختم بقوله: (وكان الله غفوراً رحيماً) إيماءً إلى ما ثبت في الحديث من أن رحمة الله تسبق غضبه عز وجل.
وفي الحديث: (كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: رحمتي سبقت غضبي).
قال الألوسي: والآية على ما قال أبو حيان: لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة.
يعني: هذا يفتح لهم باب الرجاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:13 - 14]، فهذا فتح لباب الرجاء ليصححوا إيمانهم حتى يغفر الله سبحانه وتعالى لهم.
وقيل: بل الآية لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم لهم.(130/9)
تفسير قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها)
قال تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر ليفتحوها -لأن فتح خيبر كان بعد صلح الحديبية مباشرة- أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها): فهذه المرة لأنها مغانم، وسوف ينالون حظاً من الدنيا؛ كانوا حريصين على الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أنهم رغبوا بأنفسهم عنه وعن أصحابه حينما كانت هناك معركة فيها إزهاق للنفس، وحين ظنوا بالله ظن السوء أن الرسول عليه السلام والصحابة لن يعودوا أبداً، بل ستستأصلهم قريش والأحابيش.
فقوله: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) أي: إذا انطلقتم إلى أماكن المغانم، وهي خيبر، ومثاله في سورة النساء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] جاء في تفسيرها: (لا تقربوا الصلاة) يعني: المساجد، والمراد: لا تقربوا أماكن الصلاة التي هي المساجد، والدليل من الآية: (إلا عابري سبيل) وهذا لا يمكن أن يكون داخل الصلاة، وإنما عابر السبيل يعبر المكان الذي هو المسجد، فكذلك هنا: (إذا انطلقتم إلى مغانم) إلى أماكن المغانم.
يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتحونها، أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم، فإن الله تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لأن الله سبحانه وتعالى كافأ الصحابة في غزوة الحديبية بمغانم خيبر يحوزونها وحدهم؛ لصمودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ما وعد الله سبحانه وتعالى شرعاً وقدراً، ولهذا قال: ((يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ))، هل كلام الله يبدل؟ لا يمكن أن يبدل كلام الله الشرعي والقدري، ومغانم خيبر كتب الله عز وجل في القدر السابق أنها من حق الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلا يقع غير ما قدر الله كوناً ولا قدراً.
وبعض المفسرين قال: المقصود بقوله تبارك وتعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أنه قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]، فيفسرون هذه بتلك، يعني: يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي قاله في هذه الآية، ولكن هذا فيه نظر؛ فإن سورة الفتح نزلت في غزوة الحديبية سنة 6 من الهجرة، وغزة تبوك كانت في سنة 9 في شهر رجب، فكيف تفسر هذه الآية بآية التوبة! يقول القرطبي: قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) يعني: مغانم خيبر؛ لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية بفتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر، ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إن أهل الحديبية هم الذين يستحقون غنائم خيبر ولا يشركهم فيها أحد، حتى لو كان هناك رجل من أهل الحديبية لم يحضر فتح خيبر فإنه يضرب له سهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
(سيقول المخلفون) اللام هنا عهدية يعني: المخلفين الذين تعهدونهم، وسياق الكلام فيهم (إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا) أي: دعونا نتبعكم فنقاتل معكم، (يريدون أن يبدلوا كلام الله) يعني: بعدما ظهر كذبهم في الاعتذار وطلب الاستغفار (يريدون أن يبدلوا كلام الله)، قال القرطبي: يعني: يغيروا.
وقوله في هذه الآية: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) المقصود أنها ظرف لما قبلها أي: أنهم سيقولون وقت خروجهم: إذا انطلقتم إلى مواطن الغنائم.
يقول الألوسي: والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين، ولم نقف على خلاف في ذلك، وأزيد بأن السين تدل على القرب.
يعني: لا يعرف خلاف في تفسير المغانم هنا بأنها مغانم خيبر، ومما يؤيد هذا المذهب التعبير بالسين: (سيقول المخلفون) فالسين تدل على القرب، وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية، فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم عن مغانم مكة خيبر، إذا أطاعوا النبي عليه الصلاة والسلام ورجعوا موادعين، ففي هذه الحالة سيعوضهم الله سبحانه وتعالى مغانم خيبر، وخص سبحانه ذلك بهم.
فمعنى الآية: سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها، طمعاً في عرض الدنيا، وبما أنهم يرون ضعف العدو هذه المرة، فاليهود في حالة ضعف في خيبر، ويتحققون النصرة لأن المسلمين أقوياء، قالوا: (ذرونا نتبعكم) أي: إلى خيبر، ونشهد معكم قتال أهلها، يريدون أن يبدلوا كلام الله بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية، ويريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى.
(قل لن تتبعونا) قال القاسمي: أي: إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم، فهذا نفي في معنى النهي، (قل لن تتبعونا) أي: لا تتبعونا، قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي وهو أبلغ.
وقال الألوسي: (قل) إقناطاً لهم يعني: تيئيساً لهم، (لن تتبعونا) أي: لا تتبعونا، فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم: (ذرونا نتبعكم) وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة.
من هو هذا الملقب بمحيي السنة؟ الذي اختص بهذا اللقب هو الإمام البغوي، فالإمام البغوي هو محيي السنة رحمه الله تعالى.
وقيل: المراد (قل لن تتبعونا) يعني: لا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، (كذلكم قال الله من قبل) قال ابن جرير أي: من قبل مرجعنا إليكم إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، كذلك حكم الله من قبل أن نعود من الحديبية إلى المدينة، وقبل أن نقابلكم وتعتذروا؛ قد حكم الله سبحانه وتعالى وقال: إن غنيمة خيبر فقط لمن شهد الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر؛ لأن غنيمتها لغيركم.
وقال ابن كثير في تفسير قوله: (كذلكم قال الله من قبل) أي: وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم.
(فسيقولون بل تحسدوننا) قال القاسمي: أي: أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنماً إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم، قال الشهاب: وهو إضراب عن كون الحكم لله، يعني: إضراب عن قول المسلمين لهم: ((كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ))، فكأنهم يقولون: ربنا لم يقل هذا، لكن هذا ناتج من أنكم تحسدوننا، وتريدون أن تستأثروا بالغنائم، فالإضراب هنا عن كون هذا حكم الله، أي: فإنما ذلك من عند أنفسكم حسداً (فسيقولون بل تحسدوننا)
و
الجواب
بل كانوا لا يفقهون عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين، (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: إلا فهماً قليلاً وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، والعلم في الحياة الدنيا دون الآخرة ليس بعلم في الحقيقة؛ لأن الآية في سورة الروم تقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]؛ لأن هذا الظاهر لما كان لا يفيدهم في الإيمان واليقين شيئاً فكأنه لا علم لهم، ولا يساوي هذا العلم شيئاً، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).
(بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: بأمور الدنيا، كما فسرها قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وقال ابن كثير: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أي: أن نشرككم في المغانم، (بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ليس الأمر كما زعموا ولكن لا سهم لهم.
فقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) رد لقولهم الباطل في المؤمنين، فهذا دفاع عن المؤمنين باتهامهم إياهم أنهم يمنعونهم من أجل الحسد، ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم، وهو الجهل المفرط، وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى، وإثباتهم الحسد لأولئك السادة بسبب الجهل وقلة التفكر، وهذا أقوى دليل على أنهم لا يفقهون، ولو كانوا يفقهون شيئاً نافعاً لفهموا أن الجزاء من جنس العمل، وأن حالهم بعكس حال الصحابة، الصحابة كانوا كما وصفوا يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع،(130/10)
تفسير قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16].
: انظر إلى التشنيع عليهم بذكر هذه الوصمة التي وصموا بها وهي: (المخلفين)، فهي كلمة في غاية الإيجاع والإيلام لمن كان عنده إحساس، وإذا راجعنا حديث الثلاثة المخلفين لرأينا كيف كانوا يتألمون حينما رجع أحدهم إلى المدينة ووجد نفسه لا يرى إلا معذوراً، يرى النساء والصبيان والشيوخ الطاعنين في السن، أو يرى منافقاً انغمس في النفاق، فكان هذا سبب عذابه النفسي الشديد بسبب التخلف عن النبي عليه الصلاة والسلام.
(قل للمخلفين) ذكرهم بهذا اللفظ مبالغة في الذم، وإشعاراً بشناعة التخلف، (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) فيما بعد ستأتيكم فرصة جديدة إن أردتم أن تفتحوا صفحة جديدة، فإننا سوف نتيح لكم فرصة غير هذه الفرصة.
وقد اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إليهم وهم أولوا بأس شديد على أقوال: أحدها: أنهم هوازن، وهذه غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل: ثقيف وهذه أيضاً غزاها عليه الصلاة والسلام.
وقيل: بنو حنيفة وهم أهل اليمامة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وقد غزاهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنهم أهل فارس.
وقال كعب الأحبار: هم الروم الذين خرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عام تبوك، وإليهم بعث سرية مؤتة.
وقيل: هم فارس والروم، وهؤلاء غزاهم عمر رضي الله تعالى عنه.
وقال مجاهد: هم أهل الأوثان.
وعن مجاهد: هم رجال أولوا بأس شديد ولم يعين فرقة، وهذا اختيار ابن جرير.
وعن الزهري في قوله: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال: لم يأت أولئك بعد، لكن ظاهر الآية يرد هذا؛ لأن الآية تخاطب نفس المخلفين أنهم سيدعون إلى أناس أولي بأس شديد، فبعيد جداً أن نقول: إن هذا يكون في آخر الزمان أو أنهم قوم لم يأتوا بعد.
قال القاسمي رحمه الله تعالى: ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة، ولو عد من الأوجه كفار مكة لم يبعد، بل عندي هو الأقرب؛ لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، مذ صرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى إثرها كانت غزوة الفتح الأعظم التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو ليسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً، والله تعالى أعلم.
فـ القاسمي يميل إلى أن هؤلاء هم مشركو مكة.
(ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال الألوسي: ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري: هم بنو حنيفة: مسيلمة وقومه من أهل اليمامة، وعليه جماعة.
وفي رواية عنه زيادة: هم أهل الردة.
لماذا مسيلمة بالذات ألصق الله به لقب الكذاب وكلهم كذابون؟ لأن هذا الخبيث شارك الله سبحانه وتعالى في اسم يختص به، وسمى نفسه: رحمان اليمامة، وهذا الجرم لم يفعله أحد غيره، حيث سمى نفسه باسم يختص به الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غير الله أبداً بحال من الأحوال؛ فعوقب بأن ألصق الله اسمه بلقب الكذاب، مع أن كل المتنبئين كذابون.
عن رافع بن خديج قال: إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، والآية هي: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون).
قال الألوسي: وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.(130/11)
خلاف العلماء في معنى قوله: (أولي بأس شديد)
(قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد): اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إليهم، هم أولوا بأس شديد على أقوال أحدها: أنهم هوازن، وهذه غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل: ثقيف وأيضاً غزاها عليه الصلاة والسلام، وقيل: بنو حنيفة وهم أهل اليمامة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب من الذي غزاهم؟ أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
القول الرابع: إنهم أهل فارس، وقال كعب الأحبار: هم الروم الذين خرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عام تبوك وإليهم بعث سرية مؤتة.
وقيل: هم فارس والروم، وهؤلاء غزاهم عمر رضي الله تعالى عنه، وقال مجاهد: هم أهل الأوثان، وعن مجاهد: هم رجال أولوا بأس شديد ولم يعين فرقة، وهذا اختيار ابن جرير، وعن الزهري في قوله: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال: لم يأت أولئك بعد، لكن ظاهر الآية يرد هذا، لأن الآية تخاطب نفس المخلفين ستدعون إلى أناس يكونون في آخر الزمان قل للمخلفين من الأعراب اللذين كانوا موجودين، (ستدعون) أنتم إلى قوم أولي بأس شديد، فبعيد جداً أن نقول: إن هذا يكون في آخر الزمان أو أنهم قوم لم يأتوا بعد.
قال القاسمي رحمه الله تعالى: ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة، ولو عد من الأوجه كفار مكة لم يبعد، بل عندي هو الأقرب؛ لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، مذ صرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى إثرها كانت غزوة الفتح الأعظم التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو ليسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً والله تعالى أعلم.
فـ القاسمي يميل إلى أن هؤلاء هم مشركو مكة.
(ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال الألوسي: ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري: هم بنو حنيفة: مسيلمة وقومه من أهل اليمامة وعليه جماعة.
وفي رواية عنه زيادة: هم أهل الردة.
لماذا مسيلمة بالذات ألصق الله به لقب الكذاب؟ أليسوا كلهم كذابون؟ لأنه هذا الخبيث شارك الله سبحانه وتعالى في اسم يختص به وسمى نفسه: رحمان اليمامة، وهذا الجرم لم يفعله أحد غيره، أن يسمي نفسه باسم يختص به الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غير الله أبداً بحال من الأحوال؛ فعوقب بأن ألصق اسمه بلقب الكذاب، وإن كان كل المتنبئين كذابون.
عن رافع بن خديج قال: (إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها) والآية هي: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون).
قال الألوسي: وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.(130/12)
استدلال العلماء بهذه الآية على الرد على الرافضة
هذه الآية يرد بها على الرافضة الشيعة في قضية معينة مهمة، فعلى أن هؤلاء القوم بنو حنفية، فإن هذه الآية تدل على صحة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ لقوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون) أي: في المستقبل (إلى قوم أولي بأس شديد): وهم بنو حنيفة (تقاتلونهم أو يسلمون) أي: تقاتلونهم أو يسلمون، وهل يمكن أن يكون هؤلاء هم الروم أو الفرس؟ هذا التخيير هل يمكن أن يحمل على الروم أو الفرس؟ قوله: (تقاتلونهم أو يسلمون) هذا حكم من لا يقبل منهم الجزية، أما أهل الكتاب فتؤخذ منهم الجزية، فإذاً هذه عارضة، وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا} [الفتح:16] يعني: الإمام الذي يدعوكم إلى قتال هؤلاء القوم الذين هم بنو حنيفة.
{فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] فهذه الآية تحرض على طاعة الخليفة الذي يأمرهم بقتال هؤلاء القوم، وتبين أن خلافته عند الله خلافة صحيحة، وبهذه الآية يرد على الرافضة -قبحهم الله- في طعنهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ فإن قتال المرتدين من بني حنيفة وغيرهم كان تحت راية أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولو كان قتال أبي بكر لهم غير شرعي لكان ما يترتب عليه باطل، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تسرى بامرأة من سبي بني حنيفة في هذا القتال، وولدت له محمد بن الحنفية، وهو محمد بن علي بن أبي طالب لكن اشتهرت نسبته إلى أمه، فكون علي أمير المؤمنين نفسه يستفيد من نتائج قتال بني حنيفة ويعتبره شرعياً، ويبني عليه أن هذا السبي وقع صحيحاً، ويتسرى بهذه المرأة الحنفية؛ فهو دليل آخر يبطل ضلال الشيعة وعدوانهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
(تقاتلونهم أو يسلمون) وفي بعض القراءات: تقاتلونهم أو يسلموا، يعني: (أو) ستكون في هذه القراءة بمعنى: حتى يسلموا، قال القرطبي رحمه الله تعالى: تقاتلونهم أو يسلمون هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية وهو معطوف على تقاتلونهم أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
وفي حرف أبي أو يسلموا بمعنى: حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، يعني: كل حتى تشبع، وقال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذر قال الزجاج: قوله تعالى: (أو يسلمون) لأن المعنى: أو هم يسلمون من غير قتال، وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تبارك وتعالى: في هذه الآيات دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وهي كآية سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، فالخطاب كان للمؤمنين الحاضرين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وقت النبوة، ولم يقع هذا الاستخلاف إلا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم.
وأيضاً: تأملوا قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فهذا كله مدح لمن يقاتل المرتدين، وأول من قاتل المرتدين أبو بكر رضي الله تعالى عنه والصحابة.
يقول القرطبي: في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم؛ لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، وأما قول عكرمة وقتادة: إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا؛ لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:83]، فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، فيبعد أن نقول: هم غطفان وهوازن يوم حنين؛ لأن هؤلاء المخلفين حرموا من شرف مصاحبة النبي عليه السلام في القتال طول حياتهم، لكن فتحت لهم فرصة بعد ذلك مع أبي بكر وعمر، فهذا مما يرجح القول بأن الذي سيدعوهم إلى القتال ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه قال: ((فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا))، وهذه نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهذا يدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم للقتال بعد النبي عليه السلام إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين، أو على قول مجاهد: كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم، يعني: قوله (لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) في تفسير مجاهد يعني: إلا متطوعين ولا يكون لكم نصيب في الغنيمة.
إذاً: هذه الآية من الآيات التي يستفاد منها في الرد على الشيعة قبحهم الله سبحانه وتعالى! ومما يؤسف له أننا نسمع كلاماً بين الوقت والآخر موجعاً وأليماً، حينما نرى أناساً ليسوا من العوام لكنهم من الخواص، ومع ذلك ما زالوا حتى الآن يمجدون الشيعة، وأعرف بعض الصحفيين المشهورين جداً في إحدى جرائد المعارضة ما زال بين وقت وآخر يمدح الشيعة والحكومة الإسلامية في إيران، مع أنه نفسه يقر أن الشيعة فيهم كذا وكذا وكذا؛ لأنه ذهب إلى هناك ورأى بعدهم عن الإسلام وإلحادهم في دين الله سبحانه وتعالى، فيكفي جهلاً أننا حتى الآن لا نعرف عدونا الحقيقي، ولا نعرف أن هؤلاء الشيعة من أخطر الناس على الإسلام والمسلمين، حتى الآن ما اكتشفتم ذلك؟! قد صدرت مئات الكتب تفضح الشيعة، وتبين خبثهم وعداءهم للدين وللإسلام، وأنهم عقبة أمام الإسلام ودعوة الإسلام، وأنهم منحرفون عن الدين، ليسوا على ديننا، هم على دين آخر، فالشيعة منحرفون انحرافاً كاملاً عن الدين، وليسوا كما يقول الخداعون المضللون الذين يخدعون الشباب فيقولون: إن مذهب هؤلاء مثل المذهب الحنبلي والشافعي والمالكي، هم أبعد من المعتزلة والأشاعرة وغيرهما من الفرق الضالة، فالذي يقول: هم مثل أي مالكي أو حنبلي أو حنفي، فقد كذب على الله سبحانه وتعالى في هذا الكلام، ولا يعفيهم من هذا الافتراء إلا أن يكونوا جهلة غارقين في الجهل، فحينئذ نرجو لهم العفو والمغفرة إن كان أحدهم جاهلاً، أما أن يكون عالماً ويقول هذا الكلام فهذا في الحقيقة عدوان على أنصع وأهم وأخطر حقائق الإسلام.
فالشيعة يطعنون في القرآن، والشيعة يكفرون الصحابة إلا ثلاثة، كل الصحابة عندهم مرتدون! وموقفهم من الشيخين معروف، فدينهم كله قائم على اللعن والسباب والشتم، وبعض الناس من شدة الاستغراق العاطفي والحماس الوجداني -عندهم حاجة يسمونها في علم النفس الإنكار- غير مصدق؛ لأن عنده نوعاً من الهروب من مواجهة الوضع، كما تأتي لرجل وتقول له مثلاً: أبوك مات، فيقول لك: أنت كذاب، لا يتحمل الخبر لقوة الصدمة، فيقابل الخبر بالإنكار كنوع من الحيل الدفاعية، ويخفف على نفسه بهذا قبل أن يفيق، ويتعامل مع الواقع، لكن نحن طولنا جداً في موضوع الإنكار، مثل المريض عندما يأتي إلى الدكتور فيقول له: يا عم! أنت عندك أعراض مرض السكر، اذهب اعمل تحليلاً، فهو لا يعمل التحليل ويتمادى ويتأخر فيه، لأنه يخاف أن يكون عنده سكر! فكذلك بعض الناس يخاف أن يبحث المسألة فيجد أن الشيعة -لأنه أصبح متعلقاً بهم- مجرمون ملحدون منحرفون عن الدين، فهو لا يحب أن يتعب نفسه ويبحث.
الثورة الخمينية كانت سنة 1379 تقريباً، وإلى الآن إلى عام (1420) مازلنا في حالة الإنكار، ولا نريد أن نعرف حقيقة القوم، وأنهم ضالون منحرفون عن الدين مع أن العلماء مازالوا يحذرون منهم، والواقع قد كشفهم وكشف عداءهم للإسلام وطعنهم في الدين، فهذا شيء غريب جداً! فبعض الناس يفتتن بأشياء تلمع، فهم يحبون أن يفتخروا بـ الخميني في موقفه من سلمان رشدي، فنقول لهم: وموقفه من أبي بكر وعمر وعائشة والمهاجرين والأنصار؟! وما موقفه من القرآن الكريم؟! وهو يرى أن دعاء الحجر أو الشجر عملاً باطلاً لكن لا يحرم! هل هذا الخميني ليس بمشرك وهو يجيز أن تسأل أو تدعو وتعلق قلبك بحجر أو شجر؟! أين موقفك من الخميني وهو يقول: إن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا -الاثني عشر- مقام معلوم، ومنزلة سامية، لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل؟! هذا في كتابه: الحكومة الإسلامية، وبعض الإخوة السذج عندما كنا نقول لهم هذا الكلام يقول: الطبعة هذه مزورة، يعني: طبعة كتاب الحكومة الإسلامية مزورة، يقول هذا الكلام ويستميت في الدفاع عن الخميني! فالشاهد أننا ما زلنا في حالة إنكار للواقع، ونحاول أن نهرب من موا(130/13)
موقف الشيعة من أبي بكر وعمر
ما هو موقف الشيعة من الشيخين رضي الله تعالى عنهما؟ هم يصنعون من العجينة شكل إنسان، ويملئون جوفه دبساً أو عسلاً، فيكون مثل (المشبك)، يملئونه عسلاً وسمناً ويسمونه: تمثال عمر، ثم يمثلون حادثة قتل عمر رضي الله تعالى عنه، ويرمون ما فيه من عسل، ويزعمون أنه دم عمر رضي الله تعالى عنه، ويتشاءمون من يوم الإثنين؛ لأن يوم الإثنين يذكرهم بقوله تعالى: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ))، وكل منقبة للصحابة حولوها إلى مثلبة، فمثلاً هذه الآية: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] هي من أعظم مناقب أبي بكر، ومن أعظم ما يمدح به أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاه للصحبة في هذه الرحلة المباركة رحلة الهجرة، لكن الشيعة يفسرونها على غير تفسيرها أذلهم الله وأخزاهم! يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم خاف أن أبا بكر لو تركه في مكة فسيدل عليه قريشاً، فكان أحسن إجراء وقائي أن يأخذه معه! ويعتقدون أن أبا بكر لقي كاهناً في الجاهلية فقال له: إنه سيبعث نبي ويخرج عليكم، ويمكن أن تقرب منه وتظهر الإيمان حتى تكون خليفة له، فكل المواقف كانت تمثيلاً من أبي بكر لأجل أن يمسك الزعامة السياسية، وكل مناقبه يفسرونها على أنها نفاق من أبي بكر والعياذ بالله، وكذلك عمر، وعندهم دعاء يسمونه دعاء صمني قريش، وقع عليه الخميني، وفيه: اللهم العن -أستغفر الله- صنمي قريش أبا بكر وعمر، وابنتيهما حفصة وعائشة، ومن والاهما، ومن أحبهما، ومن ترضى عنهما إلى آخره! ونحن في نظر الشيعة كفار، وهؤلاء الذين ما زالوا ينكرون الحقيقة لا يريدون أن يكتشفوا الحقيقة إلى الآن؛ لكيلا يصبح الأمر صحيحاً، نحن في نظرهم كفار؛ لأننا لا نؤمن بالأئمة الاثني عشر، والإيمان بهم قطب رحى الدين عندهم! وحزب الله في لبنان شيعي.
والشيعة لهم مواقف جيدة عديدة مع أنهم ضلال تصدر منهم مثل هذه المواقف، فهذا خاتمي قبل شهر تقريباً كان المفروض أن يذهب زيارة إلى فرنسا في أمر مهم، وكانت المشكلة أنه أثناء مناقشة بروتوكول الزيارة قال: في حفلة الاستقبال ممنوع أن يوضع خمراً في هذه الحفلة أبداً، وقال: نحن في تقاليدنا وعاداتنا لا ينبغي أن نشرب الخمر، وهو حرام، وغير هذه الزيارة بسبب هذا الرفض، وكان الأولى أن يقف هذا الموقف من ينتمون لأهل السنة والجماعة فالله المستعان.
أيضاً في الآية السابقة: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) يفسرون الآية بأن أبا بكر كان في شدة الجزع والخوف، فيصفونه بالجبن والخذلان، مع أنه ما جزع إلا على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل خوفه كان على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن هكذا يصفه هؤلاء الشيعة، فهم لا يرون إلا ما تراه قلوبهم المنكوسة.
ويا ويل الذي اسمه عمر! وهذه حقيقة، لو أن أحداً اسمه عمر وتعامل مع الشيعة؛ فإنه يضطهد اضطهاداً كبيراً، ونقول: اسألوا عن أخبار وأحوال أهل السنة في إيران، وماذا يفعل بهم، أهل السنة في إيران يضطهدون أشد من اضطهاد الفلسطينيين على يد اليهود! أهل السنة في إيران يضطهدون اضطهاداً شديداً، يكفي أن طهران حتى الآن ممنوع أن يقام فيها مسجد واحد لأهل السنة، رغم أن السنيين فيهم أكثر من ثلث السكان، لكن في طهران يمنعون حتى من إقامة مسجد واحد، ومع ذلك توجد فيها عدة كنائس ومعابد لليهود، ومعابد للأرثوذكس، ولعبدة الأوثان، لكن أن يوجد مسجد في طهران لأهل السنة فهنا ممنوع.
ويصفى زعماء أهل السنة تصفية شديدة، كل وقت يقتل رجل من زعماء السنة، وممنوع إقامة مدارس لهم، وهذه قصة مأساة ما أحد يكاد يحس بها، فكم يحصل لإخواننا الآن في إيران من اضطهاد لأنهم أهل السنة، وما أكثر العذاب الذي يتعرضون له، ونحن ما زلنا نهتف بـ الخميني وثورته التي تسمى بالإسلامية، وهي أحلام يقظة ولا حقيقة لها.
وذكرنا أنهم يتشاءمون من يوم الإثنين؛ لأنه يذكرهم بالآية: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ))، ويتشاءمون من العدد أربعة؛ لئلا يذهب الوهم إلى عدد الخلفاء الأربعة الراشدين، ويفضلون لعن عمر وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذكر الله وسائر العبادات! وفي كتبهم أن لعن الشيخين في كل صباح ومساء موجب لسبعين حسنة، ولهم كتاب اسمه: مفتاح الجنان، مثل: دلائل الخيرات عند الصوفية، فيه ذكر درجات كثيرة لمن لعنهما، وعندهم دعاء يسمونه: دعاء صنمي قريش، يريدون بهما أبا بكر وعمر، وينسبون زوراً إلى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه أنه قال في هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما إلى آخره.
ويقولون: إن أبا بكر وعمر وعثمان منافقون.
ويقولون: إن الآيات المشعرة بمدح الصحابة من المهاجرين والأنصار وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كل هذه الآيات متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله، جميع الآيات التي فيها مدح للمهاجرين والصحابة وعائشة وأبي بكر وعمر عندهم آيات متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله.
ويقول شيخ مشايخهم: محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد: إن أهل السنة شر من اليهود والنصارى، وأهل السنة عندهم أنجس من اليهود والنصارى، حتى لو أصاب أبدانهم شيء منهم غسلوه، مع أن المتلطخ بالغائط والعذرة عندهم ليس بنجس، لكن لو أصاب بدنه شيء من أهل السنة يغسله.
وعندهم أن الابتداء بلعن أبي بكر وعمر بدل التسمية في كل أمر ذي بال أحب وأولى.
ويقولون: كل طعام لعن عليه الشيخان سبعين مرة كان فيه زيادة البركة.
ويقولون: إن الله أمر الكرام الكاتبين يوم قتل عمر أن يرفعوا الأقلام ثلاثة أيام عن جميع الخلائق، حتى المشرك وشارب الخمر وكذا وكذا، هؤلاء كلهم لهم ثلاثة أيام مكافأة للبشرية أنه تم قتل عمر، فرفعت الأقلام ثلاثة أيام، فلا تكتب الملائكة ذنباً على أحد.
والقمي منهم ابتدع: عيد بابا شجاع الدين في تسعة ربيع الأول، وعندهم أن بابا شجاع الدين كنية أبي لؤلؤة المجوسي قاتل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.
ويقولون: إنما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر معه حين هاجر من مكة لئلا يعلم كفار قريش بخروجه وطريق ذهابه.
فهذه وقفة عارضة فيما يتعلق بمواقفهم، والذي قادني إليها أن هذه الآية مما يؤكد صحة خلافة أبي بكر وعمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى مدح هؤلاء ووعدهم الأجر الحسن إذا أطاعوا الخليفة الذي يأمرهم بقتال بني حنيفة، فقال تعالى: ((قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا)) الذي يأمركم.
((يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) لتضاعف جرمكم، لكن إن تتولوا: ((كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ)) يعني: زمن الحديبية ((يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) يعني: لتضاعف جرمكم، وهذا التعليل يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة.(130/14)
تفسير سورة الفتح [17 - 25](131/1)
تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج)
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] قول الله سبحانه وتعالى في هذا الوعيد: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) هذا وعيد لمن يتولى عن الجهاد، وخص الله من هذا الوعيد واستثنى أصحاب الأعذار وإن حدثت أعذارهم بعد التخلف الأول، فقال عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:17].
بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى الوعيد في حق المخلفين ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد.
يقول ابن كثير: ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد، فمنها: لازم -عذر لازم- كالعمى والعرج المستمر، وعارض -يعني: من الأعذار ما يكون عارضاً يطرأ ثم يزول- كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.
ثم قال تعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش: ((يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
قال الرازي: اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة للآخر، طاعة الله هي طاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وطاعة الرسول هي طاعة الله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فجمع بينهما هنا بياناً لطاعة الله تبارك وتعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، فإن الله سبحانه وتعالى لو قال: ومن يطع الله يدخله جنات لكان لبعض الناس أن يقول: نحن لا نرى الله، ولا نسمع كلامه، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه؟ فقال: طاعته في طاعة رسوله، وكلامه يسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ((وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: بقلبه.
ثم لما بين حال المكلفين بعد قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] عاد إلى بيان حالهم وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال ابن عباس: (لما نزلت: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) قال أهل الزمانة -يعني: الأمراض المزمنة المستمرة-: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت: ((لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ))) أي: لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد؛ لعماهم وزمانتهم وضعفهم.
وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم، يعني: من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل، هؤلاء يمكن أن يسيروا معكم إلى خيبر بخلاف المخلفين.
وقال أبو حيان: هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج فدائم لهم الغزو، يعني: هم معذورون عند الله، ومع ذلك يجوز أن يخرجوا في الغزو وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وألا يفر؛ لأن الذي يستطيع الجري قد يفر بسهولة؛ لأنه يستطيع الجري، أما الأعرج فإنه أحرى أن يصبر ويثبت لعرجه.
وقد غزا ابن أم مكتوم رضي الله عنه وكان أعمى في القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) يعني: فيما ذكر من الأوامر والنواهي ((يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: عن الطاعة ((يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) لا يغادر قدره.
والمعني بالوعد والوعيد هنا أعم من المعني بهما فيما سبق، كما ينبئ عن ذلك التعبير بـ (من) هنا، وبضمير الخطاب هناك في الآية الأخرى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)).
فهذه الآية مخاطب بها طائفة معينة، فالصيغة عامة قال تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)).(131/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ويهديكم صراطاً مستقيماً)
لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: يخبر تعالى بفضله ورحمته برضاه عن المؤمنين، إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة.
وهذه البيعة يقال لها: بيعة الرضوان؛ سميت بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها أحياناً: بيعة أهل الشجرة.
قال: وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق أن عثمان قتل، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين.
وعثمان كان رسولاً مبعوثاً من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام ليخبر قريشاً أنه ما جاء لقتال، وإنما جاء معظماً البيت ومريداً للعمرة، فلما بلغه نبأ مقتل عثمان جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم نحو ألف وخمسمائة تحت شجرة فبايعوه على قتال المشركين، وألا يفروا حتى يموتوا.
فأخبر الله تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، قال تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) يعني: من الإيمان ((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) شكراً لهم على ما في قلوبهم، وزادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم وتطمئن بها قلوبهم.
((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) يعني: كافأهم الله سبحانه وتعالى بأن أثابهم فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها جزاء لهم وشكراً على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والالتزام بمرضاته.
قوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19] أي: له العزة والقدرة التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر.
قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح:20] هذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة.
والمعنى وعدكم الله -أيها المؤمنون- مغانم كثيرة تأخذونها، فيدخل في هذه الغنيمة كل غنيمة غنمها المؤمنون من تلك اللحظة في فتح خيبر إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا داخل في هذا الوعد.
قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) الإشارة إلى مغانم خيبر، فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للصحابة: لا تحسبوها وحدها، بل ثم شيء كثير من الغنائم سيتبعها، والدليل على ذلك قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) فحين تقول: عجلت لك هذا فمعناه: إلى أن يأتي المؤجل بعد، فهذا التعبير يتضمن بشرى بمغانم أخرى ستأتي فيما بعد.
((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) يعني: واحمدوا الله إذ كف أيدي الناس القادرين على قتالكم الحريصين عليه، فهي نعمة وتخفيف عنكم.
((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: ولتكون هذه الغنيمة آية للمؤمنين يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها.
((وَيَهْدِيَكُمْ)) بما يقيض لكم من الأسباب ((صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) من العلم والإيمان والعمل.
((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) أي: وعدكم الله أيضاً غنيمة أخرى لم تقدروا عليها وقت هذا الخطاب.
((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) أي: هو قادر عليها، وهي تحت تدبيره وملكه وقد وعدكموها فلابد من وقوع ما وعد به لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)).
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة.
((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19].(131/3)
خفاء الشجرة التي بايع تحتها الصحابة والحكمة من ذلك
عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: (بينما نحن قائلون -والقيلولة: هي الاستراحة وسط النهار- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! البيعة البيعة، نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) فبايع لـ عثمان بإحدى يديه على الأخرى -لأن عثمان جاء الخبر أنه قتل فبايع نيابة عن عثمان بإحدى يديه على الأخرى-، فقال الناس: هنيئاً لـ ابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف).
قال القاسمي: وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد، ففي الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم فأنتم أعلم.
وفيهما أيضاً عن سفيان أنه قال: إنهم اختلفوا في موضعها.
وروى ابن جرير عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له: حزن، وكان ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأتيناها من قابل فعميت علينا.
يعني: لم يستطيعوا أن يهتدوا لمكانها.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: هاهنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا؛ هذا التكلف.
أي: هذا مما لا يعنيكم ولا يفيدكم، فذهبت الشجرة وكانت سمرة إما ذهب بها سيل وإما شيء سوى ذلك.
انتهى كلام ابن جرير.
وقال الحافظ في الفتح: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، وهذا صححه الحافظ ابن حجر عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، ولا ينافي ما تقدم لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها أو توهموها فاتخذوها مسجداً ومكاناً مقدساً فقطعها عمر عندئذ؛ صوناً لعقيدتهم من الشرك؛ لأن دوام العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها وإجلال أمثال أصحابها.
وقال في الفتح أيضاً في شرح حديث ابن عمر: وقوله: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله.
يعني: اختلف الصحابة اختلافاً شديداً في مكان الشجرة، فيقول: كانت رحمة من الله أنها عميت، وما كاد اثنان من الصحابة يتفقان على مكانها.
يقول: وقد وافق المسيب بن حزن والد سعيد ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة، والحكمة في ذلك ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً في ما هو دونها.
وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله.
أي: كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تبارك وتعالى، فإذا كان هذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذه الشجرة التي ذكرت في القرآن: ((إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، ومع ذلك الصحابة سدوا ذرائع الافتتان، فأولى ثم أولى ما يفترى ويزعم الآن من وجود آثار للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه موجود فيما يسمونه كذباً وزوراً وافتراء على الله الحرم الأحمدي، وحرم إبراهيم الدسوقي وأحمد البدوي، يزعمون أنه موجود في أحد الأماكن هناك! وهذا من الكذب على الله أن يدعى أي مكان في الأرض سوى مكة والمدينة حرماً، لا يوجد إلا حرمان فقط، حتى المسجد الأقصى لا يسمى حرماً، وسبق أن درسنا في دروس الفقه ما معنى كلمة (حرم)، فليست كلمة تطلق هكذا بالطريقة التي نستعملها الآن: الحرم الجامعي، وحرم السكة الحديد، وحرم كذا فهذا لا يجوز، فضلاً عن الحرم الإبراهيمي والحرم الدسوقي إلى آخره، وهذه الأماكن توجد في بعضها أثر يزعمون أنه أثره صلى الله عليه وسلم، أو أن قدمه مطبوع على حجر، وهذا كله كذب وزور، وحتى جدلاً لو كان ذلك لكان أولى أن يفعل به ما فعل مع هذه الشجرة، فيطمس حتى لا يحصل به هذا الافتتان، حيث يتمسحون بها ويفعلون هذه الأشياء.
فهذا يشير إلى قاعدة مهمة جداً في حماية جناب التوحيد، وهي قاعدة: سد ذرائع الشرك والفتنة، وهي من القواعد المهمة جداً، والتي يؤسس عليها المنهج السلفي، فالمنهج السلفي له أصول، والأصول يرجع إليها لبناء قواعد هذا المنهج: القرآن، السنة، إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنها أيضاً: قاعدة سد الذرائع، فهي من أصول المنهج السلفي التي امتاز بها هذا المنهج، وقد ناقشنا من قبل بالتفصيل عند مدارسة كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى فصلاً مهماً جداً، وكنا أوصينا الإخوة بحفظه ومذاكرته جيداً، وعنوانه: احتياطات الشريعة لحماية توحيد الألوهية، ومع أن الفصل في صفحات قليلة جداً لكنه في غاية الأهمية.
ومن الاحتياطات التي اتخذتها الشريعة لحماية توحيد الألوهية حتى لا يشرك الناس بالله: 1 - تحريم التصوير والتماثيل؛ لأنها تكون ذريعة للافتتان بأصحابها.
2 - النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة.
3 - تحريم الذبح في مكان كان فيه عيد من أعياد الجاهلية أو كان فيه صنم يذبح له.
5 - تحريم بناء المساجد على القبور.
6 - تحريم الغلو في الصالحين؛ لأنه يفضي إلى الشرك، وحتى الغلو في مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا كان فصلاً في غاية الأهمية، وما زلنا نوصي الإخوة بهذا الكتاب، كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، فمن هذه الاحتياطات هذا المسلك الذي فعله الصحابة مع هذه الشجرة، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
لأن من لم يعرف الجاهلية يسهل عليه أن يتورط في شيء من أفعال الجاهلية؛ لأنه لا يعرف أفعال الجاهلية، لكن من رأى ضلال الجاهلية ونور الإسلام أمكنه أن يميز بينهما، فمن ثم كثير من الناس يزعمون أنهم على الإسلام الصحيح أو على الفهم الصحيح للإسلام، بينما هم واقعون في بعض الشركيات كدعاء الموتى من دون الله، والاستغاثة بهم، والطواف بقبورهم وغير ذلك من هذه الشركيات؛ لأنهم ما عرفوا الجاهلية، ولو عرفوا الجاهلية لأدركوا أن هذه من خصال أهل الجاهلية، ومن أفعال أهل الجاهلية، ولذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له رسالة مهمة جداً في هذا الباب، اسمها: (مسائل الجاهلية) فهذا كتاب ينبغي أن يكون مشهوراً، عدد فيه خصائص الجاهلية التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطهر المسلمين منها، وقد شرح هذا الكتاب العلامة محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى.
ونحن معشر المصريين عموماً نميل جداً إلى الغلو في هذه الأشياء، فالخبر يخرج شبراً ويعود ذراعاً، ونضع عليه التوابل والبهارات حتى نثير إعجاب الناس بما ننقله من حكايات، وأي موضوع يتداول فغالباً إذا تتبعت سلسلة الخبر تنتهي بك إلى مجاهيل أو إلى مجروحين أو إلى آخره، فنحن نعاني من آفة النقل.
وما آفة الأخبار إلا رواتها فما بالك بمجتمع العوام الذين لا يعرفون شيئاً عن وجوب التحري؟! فالأمية عندهم هي التي تدفعهم إلى المغالاة والغلو وزيادة الثقة، وهذه الأخبار غالباً مفتراة، ونحن نعرف طبيعة بني جلدتنا، عندنا ميل إلى الغلو في هذه الأشياء، وربما يكون هذا الغلو بسبب ما يحصل من الإيحاء النفسي أن توجد حالة نفسية تعالج بالإيحاء، فينبغي أن نحترم عقولنا، ونحن لا نقول: إن هذا غير ممكن في حكم العقل، يعني: خرق العادة شيء ممكن خاصة لأولياء الله الصالحين، فلذلك نحن نقول: خرق العادة في حد ذاته لا ينبغي أن يفتننا أبداً، ولا يهزنا ولا يؤثر فينا إلا بشروط، وأوضح دليل حتى نسكت الجميع قضية المسيح الدجال؛ لأن كثيراً من الناس لاسيما النصارى الشيطان يلبس عليهم جداً في هذا الباب، تكلمهم في التوحيد والدخول في الإسلام، فيقول لك: عندي دليل على أن ديني دين صحيح، فهذه المعجزات التي حصلت لي أو التي رأيتها بعيني تدل على ذلك، فالشيطان يلبس عليهم بهذه الأشياء، وخرق العادة لا يدل على أن الذي جرى على يديه خرق العادة هو رجل صالح أبداً، بدليل الدجال الأعور الذي يأتي بأشياء تدهش العقول حتى يفتن الناس به ويعبدونه من دون الله، فـ المسيح الدجال كل اليهود والنصارى يتهيئون لاستقباله، فالنصارى يزعمون عودة المسيح للمرة الثانية على أنه -والعياذ بالله- إله، واليهود يزعمون أن المسيح الذي بشروا به لم يأت، والذي أتى كان هو المسيح الدجال.
فالشاهد من هذا: أن المسيح الدجال الذي سوف يدعي الألوهية هو نفسه سيأتي بخوارق، ومع ذلك هو الدجال، فمجرد خرق العادة لا يكفي، وإنما ينبغي أن ننظر في الخارقة نفسها هل هي موافقة للشرع أم مخالفة؟ ننظر في سلوك الشخص صاحب خرق العادة هل هو متبع للسنة موحد مسلم ومتبع للسنة والجماعة أم هو من أهل البدع والضلالة؛ لأن الشيطان يمكن أن يعينه على إنجاز هذه الخوارق بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمه الكوني القدري؛ فتنة واختباراً وابتلاء للناس كما سيحصل مع الدجال، فالخو(131/4)
ضوابط التداوي بالقرآن الكريم
القرآن وقاية وعلاج وشفاء لما في الصدور، ولا حرج على الإطلاق في التداوي به، بل الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي نفسه يومياً قبل أن ينام بالمعوذات كما هو معلوم وثابت في السنة.
فنحن لا نناقش أبداً أن القرآن شفاء وعلاج، ولكن في نفس الوقت نقول: ليس هناك أي تصادم على الإطلاق بأن تأخذ بكل ما يتاح لك من الأسباب لجلب النفع أو دفع الضر، مادامت الأسباب شرعية، وأعظم هذه الأسباب هو الدعاء والرقية والثقة بالله سبحانه وتعالى، والتداوي بزمزم، والتداوي بالدعاء لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب التي خلق الله سبحانه وتعالى لمدافعة هذه الأمراض، وكما خلق الله العطش خلق لنا الماء الذي ندفع به العطش.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء) فلا يوجد مرض في الدنيا ليس له علاج إلا مرض واحد، وهو الهرم والشيخوخة فقط، وما عدا ذلك من كل الأمراض التي في العالم لها علاج، حتى الذي يقول الأطباء: ليس له علاج، نحن نقول: لا، تأدبوا مع الله ومع رسول الله، وهذبوا ألفاظكم، لا يوجد مرض ليس له علاج إلا الشيخوخة، وإنما نقول: لا نعلم علاجه، أو لم يكتشف علاجه.
إذاً: ما يسره الله سبحانه وتعالى من أسباب العلاج والتداوي ينبغي أن نأخذ به؛ لأن الصحة رأس مال الإنسان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فالصحة نعمة، وإذا حافظنا عليها فهي رأس مالنا في هذه الدنيا حتى نستطيع عبادة ربنا وأداء واجباتنا.
وينبغي أن نتأكد: هل هذه المرأة المشهورة بالمعالجة تعالج فقط بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل تدعو دعاء ليس فيه شرك، وليس فيه أي مخالفة شرعية؟ هل تستعمل لغة أجنبية أو شيئاً غير مفهوم؟ فإذا حصل شيء من ذلك فهذا بلا شك يكون علامة خطيرة على أنها ربما تستعين بالشياطين فيعينونها على ذلك.
أنا لا أقطع بهذا، لكن أقول: ينبغي التثبت من كل هذا، هل هي ملتزمة بالشرع مؤمنة موحدة؟ هل هي تعالج بالقرآن فقط أم أنها تستعمل ألفاظاً غير عربية وغير مفهومة؟ فإن كان كذلك فيمكن أن يكون فيها شرك بالله سبحانه وتعالى، فينهى عنها في مثل هذه الحالة.
سنفترض أحسن الاحتمالات، لنفترض أنه ثبت لدينا أن هذه المرأة صحيحة العقيدة مستقيمة السيرة، مقيمة للصلاة، تقية صالحة، ثم إنها تعالج بالقرآن الكريم، وليس فيها أي شيء من أفعال السحرة أو تصرفات السحرة أو المنجمين والعرافين والكهنة إلى آخره، وأنها أيضاً تعمل عمليات بالطريقة الغامضة التي لا نعرف كنهها إلى الآن إلى آخره، يعني: كل شيء منها لا يخالف الشريعة، ولكن يخشى من افتتان الناس بها، فيعتقدون أنها هي التي تشفي، وليس الشفاء من الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك صراح لو وصل الأمر إلى خشية افتتان الناس، والظاهر أمامنا الآن أنه توجد فتنة بها بلا شك.
فالذي نريد أن نقوله: لو افترضنا سلامتها من كل هذه الأشياء، وخشي منها على عقيدة العوام؛ فينبغي أن يؤخذ على يديها ويحال بينها وبين الناس، وفي أنموذج الشجرة التي ذكرت في القرآن دليل لنا على ذلك.
وإذا أدخلت بيتها، وحجرت عن الاختلاط بالناس، فما يضرها؟ لكن ما هو ردة فعل الجماهير لو أنه حيل بينهم وبين هذه المرأة؟! الغضب الشديد، والمظاهرات، أليست هذه علامة خطر؟! فهذه علامة خطيرة تدل على شدة تعلق قلوبهم بهذه المرأة، ولو أنها ماتت هذه المرأة أو حبست أو حجر عليها حتى لا تفسد عقائد الناس؛ فردة فعل الناس تعطينا مؤشر لمدى خطورة التمادي في هذا الأمر، ومدى خطورته على عقيدة الناس؛ لأنهم سيجزعون، بل قد جزعوا بالفعل، فقد: أتوا في الجريدة بصورة الناس فيها جلوس ينتظرون متى تطلع، ويدعونها، ويدعون على من قبضوا عليها إلى آخره، وهي خرجت كما هو معلوم، لكن الشاهد: أن هذا الجزع في حد ذاته مؤشر دقيق يقيس لنا مدى خطورته على افتتان الناس بها، فالمسلك الشرعي في مثل هذه الأشياء هو إزالتها، كما فعل من قبل حيث كان هناك شجرة قبل عدة سنوات في إحدى المحافظات، كل ورقة كان عليها اسم نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى، مكتوب عليها ذلك بقدرة الله! ثم ذهبوا ونزعوها، وأياً كانت نية الذين أخفوا هذه الشجرة فإنهم قد صادفوا مقصد الشرع؛ لأن شجرة مثل هذه الشجرة ماذا سيفعل بها المصريون؟! المصريون عندهم قابلية للغلو في هذه الأشياء، فلو أن الشجرة هذه بقيت فإنها كانت ستعبد من دون الله ولا حول قوة إلا بالله! ونحن نرى عبادة غير الله عند قبر البدوي والدسوقي، وكلها قبور وهمية، وتكلمنا من قبل عن موضوع المزارات كقبر السيدة زينب، وليس هناك قبر السيدة زينب، وكذلك قبر أبي الدرداء، وأبو الدرداء لم يدفن في الإسكندرية، كذلك جابر بن عبد الله الأنصاري لم يدفن في مصر، فأغلبها قبور وهمية، ومع ذلك يفعل بها ما يفعل مع الله سبحانه وتعالى من الاستغاثة والذبح والنذر والطواف بها والتمسح إلى آخر هذه الشركيات.
فالشاهد من هذا كله: أن مسلك دفن هذه الشجرة أو إخفائها كان مسلكاً صحيحاً، وتخيلوا لو بقيت هذه الشجرة إلى اليوم ماذا كان سيفعل بها؟! كذلك بالنسبة لهذه المرأة -والله تعالى أعلم- إذا ثبت أن بقاءها بهذه الصورة فيه إخلال بعقيدة الناس، وخدش لعقيدة التوحيد؛ ولذا الناس سيتصورون أن المرأة هذه لو ماتت أو حجزت دونهم انسد أمامهم باب الشفاء، وهذا مؤشر يوحي أنهم لا يلجئون إلى الله، وإنما تعلقت قلوبهم بها، وقد صح في الحديث: (إن الله هو الطبيب إنما أنت رفيق) قالها لمن يعالج بالطب، فالله في الحقيقة هو الطبيب المعالج سبحانه وتعالى، وهو الشافي، وفي الحديث: (اللهم اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يكتب الشفاء، ونحن نأخذ بالأسباب الطبيعية في التداوي، والذهاب إلى أهل الاختصاص، وأهل الذكر في علم الطب، أما أن نتجافى مع الطب، ونهجر الأسباب التي أمر الشرع بها من أسباب التداوي، فكما يقول علماؤنا عند دراسة قضية القضاء والقدر: يجب أن نأخذ بالأسباب ولا نتعلق بها، وهذا هو التوكل على الله سبحانه وتعالى، فتعطيل الأسباب قدح في الشريعة، والتوكل على الأسباب قدح في التوحيد.
فالذي نشعر به ونخشاه أن هناك قدحاً في توحيد هؤلاء العوام الذين يتهافتون بهذه الصورة الغريبة على هذه المرأة المعالجة، فأنا أقول: حتى لو فرض أن أحسن أحوالها أن كل الشروط موجودة ومتوافرة فيها، ولكن يخشى منها على عقيدة الناس؛ فسداً للذريعة ينبغي أن تحجب عن الناس، ويحال بينها وبين الناس، ولا يساء إليها ولا تظلم، لكن تحجب، وأسوتنا في ذلك سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، لما كان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يمن الله عليه بالنصر بعد النصر مع أنه كان يقابل جيوشاً جرارة رضي الله تعالى عنه، وكان الناس يتسابقون في الخروج إلى الجيش الذي فيه خالد من شدة انبهارهم بالإنجازات العظيمة التي أنجزها سيف الله المسلول على المشركين خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فعزل عمر خالداً وهو في قمة انتصاراته، وفي أوج مجده، بمجرد أن ولي عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة عزله، فمن أوائل ما فعل عمر في خلافته أن عزل خالد بن الوليد، وبين أنه ما عزله لعلة فيه، بل عزله لأنه رأى الناس تعلقت قلوبهم بـ خالد، وكأن خالداً هو الذي يأتي بالنصر، ولاشك أنه يحتمل أن أحداً من الناس في عهد عمر رضي الله تعالى عنه ربما يعتقد أن خالداً هو الذي يأتي بالنصر، وقس هذا الاحتمال بالنسبة للاحتمالات التي يقولها الناس الآن عن هذه المرأة: هي التي تأتي بالشفاء، كم بين أمة وأمة! كم بين جيل وجيل من البعد في فهم الإسلام وحقائق التوحيد! فإذا خشي على الصحابة وعلى المسلمين في ذلك الصدر الأول الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أن يقول بعضهم: إن النصر يأتي من خالد فكيف بحال أبناء هذا الزمان؟! لاشك أن الاحتمال أقرب وأقوى، والله تعالى أعلم.(131/5)
الرضا التام من الله عن أهل الشجرة
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) قال ابن جرير: عوضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحاً قريباً، وذلك فيما قيل: فتح خيبر.
((وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا)) هي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة.
وقيل: مغانم فارس والروم.
قوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) (تحت الشجرة) متعلق بـ (يبايعونك) أو متعلق بمحذوف حال من مفعوله.
وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة، وأنها لم تكن عن خوف منه صلى الله عليه وسلم؛ ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء، ويستتبع ما لا يكاد يقدر على ذلك، ويكفي فيما ترتب على ذلك من بركات هذه المبايعة ما أخرجه أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة).
وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عند حفصة فقالت: (بلى يا رسول الله! فانتهرها.
فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فقال عليه الصلاة والسلام: قد قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]).
وفي بعض الروايات الأخرى: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة إلا تحلة القسم)، وهو القسم الذي أقسمه الله تعالى في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، تحلة القسم فقط لكنهم يجدونها برداً وسلاماً؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72].
وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أنتم خير أهل الأرض)، فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم، وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وهذا أمر في غاية الأهمية، فهذه الآية من الآيات التي تخزي الشيعة الرافضة قبحهم الله؛ لما في قلوبهم من بغض وسخط على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن فيهم أهل هذه الشجرة، فالله يقول: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة، ثم هؤلاء الحمقى الحاقدون يلعنون الصحابة، ويسبونهم ويكفرونهم، ويتبرءون منهم! ولو سخط على الصحابة جميع من في الأرض هل هذا يضر الصحابة؟! لا، فقد أخبر الله أنه رضي عنهم، وعثمان منهم، بل كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه -كما قال أنس - خيراً من أيديهم لأنفسهم.
قوله: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) أي: من الصدق والإخلاص في مبايعتهم.
وقيل: من الإيمان وصحته، وحب الدين والحرص عليه.
وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم.
وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله عليه وسلم على الموت، فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا.
وتفسر السكينة بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها.
وهذا كلام مرفوض؛ لأنه فسر الآية بأنه علم في قلوبهم أنهم كانوا يكرهون البيعة خشية القتال.
((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ)) يعني: جعلهم يقبلون.
يقول الألوسي رحمه الله تعالى: ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم، وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره.
قوله: ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) قيل: هو فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، والمراد هجر البحرين، وكان فتحاً في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات.
وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر) وقيل: هو فتح مكة.
والقرب أمر نسبي، وقرأ الحسن وغيره: (وأتاهم) أي: أعطاهم.
قوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19] هي: مغانم خيبر كما قال غير واحد، وقسمها عليه الصلاة والسلام فأعطى للفارس سهمين -وكانوا ثلاثمائة فارس- وللراجل سهماً.
وفي قراءة: (تَأْخُذُونَهَا) بالتاء الفوقية، والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان.
((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) غالباً (حكيماً) مراعياً لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه.
((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ)) وهي ما يفيء الله على المؤمنين إلى يوم القيامة ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) يعني: مغانم خيبر ((وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) يعني: أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح.
(ولتكون) هذه الكفة (آية للمؤمنين) وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه تعالى ضامن نصرهم والفتح عليهم.
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل الله سبحانه وتعالى فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة، فيكون الضمير في قوله: ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) علامة للمؤمنين وهي فتح خيبر، فيكون قوله: (ولتكون) عائدة على قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) وهي مغانم خيبر.
ويستأنس لهذا بما سبق أن تكلمنا عنه مراراً من أن شأن الله سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، وهي التي تسمى الإرهاصات، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، حيث رزقه الولد وهو كبير لا يولد لمثله، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38].
وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه، ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له.
وكما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك.
وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين الأمر بالجهاد، وكذلك كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة لهذا الفتح المبين، وأمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وتناظروا في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام.
إذاً: هذه إشارة على جعل فتح خيبر علامة وعنواناً لما هو أعظم وهو فتح مكة، وهذا الذي وقع بالفعل.(131/6)
أقوال العلماء في المغانم الموعود بها في قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها)
في المغانم الموعود بها أقوال أصحها: أن الله وعد بمغانم كثيرة من غير تعيين، وكل ما غنموه كان منها، والله كان عالماً بها، وهذا كما يقول ابن مالك: تقول لمن يخدمك: لك مني على ما فعلته الجزاء إن شاء الله، ولا يريد شيئاً بعينه، ثم كل ما يأتي به ويؤتيه يكون داخلاً تحت ذلك الوعد، ولله المثل الأعلى.
قوله تعالى: ((وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) لإتمام المنة كأنه قال: رزقتكم غنيمة باردة من غير مس حر القتال، ولو تعبتم فيه لقلتم: هذا جزاء تعبنا، لكن الله كف أيدي الناس عنكم بدون تسبب منكم.
((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: لينفعكم الله بها وليجعلها لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وعدهم الله يصل إليهم كما وصل إليكم، يعني: الذين يأتون بعد الصحابة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى فإنها تكون آية لهم، حيث إن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين الغنيمة وقد حصلوها، ووعد من يأتي بعد من المسلمين غنائم أخرى سوف يأخذونها، فيستدلون بما رأوا من إعطاء الله الصحابة رضي الله تعالى عنهم الغنيمة المعجلة على أن وعد الله سبحانه وتعالى آت، وهي نفس الغنيمة الموعودة بها.
ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: أو: ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: تنفعكم في الظاهر، ويزداد يقينكم إن رأيتم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) ذكر الجلبي أنه إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر، فلا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية.
إذاً: هذا الجزء من السورة نزل بعد فتح خيبر، وكل السورة نزلت مرجع النبي عليه الصلاة والسلام من صلح الحديبية قبل خيبر، فعبر بالماضي لتحقق الوقوع، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] فهل هذا قد حصل بالفعل؟ لا، لكن يعبر عما يحصل في المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، فكأنه وقع بالفعل وصار ماضياً يخبر عنه بصيغة الماضي، فهذه من أساليب اللغة العربية، لكن هنا قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ))، هي في خيبر، فهذا من باب الإخبار عن الغيب.
((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) (هذه) إشارة لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة، والتعبير بالمضي للتحقق.(131/7)
تفسير قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها)
قال تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح:21] كأن الله سبحانه وتعالى قال: وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها، ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين، فمفهومهم الآية أنه ستكون مغانم أخرى لا يأخذها الصحابة، وإنما هي مدخرة لمن يأتي بعدهم من المؤمنين، ولا يقدرون هم عليها، بل يأخذها من يجيء بعدهم من المؤمنين.
وقد فسر الفراء قوله تعالى: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) تفسيراً جميلاً حيث قال: ((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) أي: حفظها الله للمؤمنين، لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون، كإحاطة الحراس بالقبائل، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) يعني: الله سبحانه وتعالى ادخرها للمؤمنين وحفظها لهم فلا تهلك، ويحفظها إلى أن يغزو المسلمون تلك البلاد، ويأخذوا ما كتب لهم من هذه الغنائم، فهذا مما قيل في تفسيرها.
وقيل في قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها): الواو هي واو رب، كقول الشاعر: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله.
وهذه الواو كثيرة في الشعر، والتقدير: ورب ليل، كذلك هنا بعض المفسرين قال: هذه الواو واو رب، يعني: (ورب أخرى لم تقدروا عليها)، أي: كم من غنيمة أخرى مما لم تأخذوها! ولأنكم غير قادرين عليه ((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا))، فالله سبحانه وتعالى يدخرها الآن للأجيال القادمة من المسلمين سوف يفوزون بها.
قال ابن كثير: أي: وغنيمة أخرى وفتح آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون.
قيل: قوله: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) يعني: خيبر، ونحن قلنا: إن قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) هي صلح الحديبية إذاً: يكون قوله هنا: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) فتح خيبر، وقيل: هي مكة، واختاره ابن جرير، وقيل: هي فارس والروم، وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وكذا عن ابن عباس قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.(131/8)
تفسير قوله تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:22 - 23].
يقول ابن كثير: يقول تعالى مبشراً لعباده المؤمنين بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفار فاراً مدبراً لا يجدون ولياً ولا نصيراً؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولحزبه المؤمنين.
ثم قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:23] أي: هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر، ورفع الحق، ووضع الباطل كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين، نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعددهم، وكثرة المشركين وعددهم.
وسنة الله هي الطريقة والسيرة، كما يقول الشاعر: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها ((ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)) دفع الضر عن الشخص إما أن يكون بولي ينفع بالنصح، أو بنصير يدفع بالعنف، إما بولي أو بالنصير، وليس للذين كفروا شيء من ذلك، لا ولي ولا نصير، لا ولي يدفع بالنصح، ولا نصير يدفع بالعنف، والتنكير للتعميم، أي: لا يجدون فرداً ما من الأولياء.
وقوله عز وجل: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:22] في قوله تعالى: (ثم) لطيفة، وهي: أن من يولي دبره يطلب الخلاص من القتل بالالتحاق بما ينجيه، فيقول تعالى: وليس إذا ولوا الأدبار يتخلصون، بل بعد التولي الهلاك لاحق بهم.(131/9)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24].
قيل: أراد بكف اليد أنه شرط الكتاب: أن من جاءنا منهم فهو مردود عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين، فلحقوا بالساحل ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل.
فهذا معنى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} يعني: عن طريق صلح الحديبية، فقد كان أحد الشروط أن من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم مسلماً يرده إلى الكفار، فقدر الله سبحانه وتعالى أن تحصل قصة أبي بصير المعروفة، حيث شكل حرب عصابات على ساحل البحر، فكانوا يتعرضون لكل قافلة تأتي من قريش؛ حتى صرخ المشركون وفزعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يطلبون التراجع عن هذا الشرط، فهذا كحكم كوني قدري هو كف من الله.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}.
وقوله: (ببطن مكة) فيه قولان: أحدهما: يريد به الله مكة نفسها.
القول الثاني: إنها الحديبية؛ لأن بعض مكة مضاف إلى الحرم، وحتى لو لم يسلم هذا فالقرب التام كاف؛ لأن الحديبية قريبة جداً من مكة، ويكون إطلاق بطن مكة عليها مبالغة، ((وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: بالحديبية.
قوله: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)) يعني: بفتح مكة، وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً؛ لقول الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ)) يقول القرطبي: والصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وروى الترمذي بسنده عن ثابت عن أنس: (أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح، وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذاً، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ))).
وأما فتح مكة فالأدلة تدل على أن مكة فتحت عنوة وليس صلحاً.
((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف، ومع ذلك وجد كف الأيدي، ذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة، فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو داخل دارهم طالبين ثأرهم، وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم.
يعني: كنتم في بطن مكة في عقر دار المشركين، فلاشك أن الخوف يكون أكثر؛ لأنهم أقوى وأكثر عدداً وعدة، ثم إن بطن مكة فيها حريمهم ونساؤهم وأولادهم، فتكون الحمية في الدفع والقتال أشد، والحرص على الفتك بالمسلمين أشد، ومع ذلك فإن الكف وجد بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لذلك نسبه إلى فعله عز وجل فقال: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: مع أنكم كنتم في بطن مكة، على أرضهم، وبين بنيهم ونسائهم، وكل هذه دوافع إلى شدة الحمية في قتال المسلمين، ومع ذلك امتن الله عليهم بأن كف أيديهم عنكم.(131/10)
تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام)
قال تبارك وتعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25].
(هم الذين كفروا) إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا، وكل ذلك يقتضي قتالهم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهما خلاف، واصطلحوا ولم يبق بينهما نزاع، بل الخلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم وصدوا الهدى أيضاً، وازدادوا كفراً وعداوة.
والخطاب للرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، فمن الذي كف أيديهم عنكم؟ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24] يعني: كان الله يرى فيه المصلحة، وإن كنتم لا ترون ذلك.
ثم بين هذه المصلحة فقال: إن الكفار ما زالوا كفاراً بل زادوا كفراً؛ لأنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأحصروكم عن دخول المسجد الحرام، فهذه إشارة إلى أن من الحكم العظيمة في أن كف الله أيديهم عنكم وأيديكم عنهم حماية للمؤمنين المستضعفين الذين كانوا يخفون إسلامهم بمكة؛ لأنكم إذا دخلتم وقاتلتموهم، ولا تعرفون إخوانكم الذين يخفون إسلامهم؛ كنتم سوف تقتلونهم، فهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى كف أيديهم ليس لأنهم يستحقون النجاة والسلامة من القتل، كما قال الشاعر: داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم فبين الله سبحانه وتعالى أن هناك كفاراً لم يكف الله أيدي المؤمنين عنهم وأيديهم عن المؤمنين؛ إكراماً لهم؛ لأنهم حتى مع وقوع الصلح والهدنة ما زالوا متصفين بصفة الكفر، وما زالوا يصدون الناس عن دين الله، فالاختلاف باق، والنزاع قائم، وهم ما زالوا كفاراً، بل لا كفار غيرهم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] فكان هذا إحدى الحكم من هذا الكف؛ لأنه لو قدر أن يكون قتال كان سيؤدي إلى هلاك المؤمنين المقيمين داخل مكة، الذين يخفون إسلامهم وإيمانهم؛ لأن الصحابة كانوا سيقتلونهم دون أن يعرفوهم؛ ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ)) فهذا كله كان إكراماً لهؤلاء المؤمنين.
((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ)) أي: أنتم لا تعرفونهم، فهم مستخفون في مكة لا يظهرون إسلامهم، ففي الظاهر أنهم مع المشركين، فلو حصل قتال سيخرجهم المشركون معهم ويجبرونهم على القتال، وبالتالي المسلمون سوف يقتلون إخوانهم دون أن يعرفوا أنهم مسلمون.
((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا)) لو انفصل معسكر المؤمنين في مكة والمؤمنات عن الكفار حينئذٍ لنزل العذاب على الكفار.
((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))، لكن كانت هذه هي الحكمة من أن كف الله سبحانه وتعالى أيدي الفريقين، كان الكف محافظة على من في مكة من المسلمين ليخرجوا منها، ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات.
قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الهدي: ما يهديه الحاج أو المعتمر إلى مكة من النعم من غير سبب موجب، والمراد بالموجب هنا: ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب ترك واجب أو فعل محظور في الإحرام أو الإحصار أو التمتع.
((وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)) قال ابن جرير: أي: محل نحره، وذلك داخل الحرم، وهو الموضع الذي إذا صار إليه حل نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي هو الحرم، وقد قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196].
ما هو محل الهدي للمحصر؟ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: المحل اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، أما أبو حنيفة فهو يقول: المحل: هو اسم للمكان الذي يحصل فيه التحلل، ويظهر منشأ الخلاف بين الشافعية وأبي حنيفة: أن الشافعي يرى أن المحل اسم الزمان الذي يحصل فيه التحلل، وأبا حنيفة: يرى أنه اسم للمكان الذي يحصل فيه التحلل.
فجمهور العلماء الإمام الشافعي ومالك وأحمد قالوا: إن محل الهدي للمحصر هو موضع الحصر حلاً كان أو حرماً، سواء كان داخل الحرم أو في الحل خارج الحرم.
وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وكلام أبي حنيفة أدلته قوية، فبماذا يجيب عنه الجمهور؟ أبو حنيفة يقول: لا ينحر الشخص الذي أحصر الهدي إلا داخل الحرم حتى لو أحصر؛ لأن الله قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} إشارة إلى أنه لابد أن يكون في الحرم، وقال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا كلام جيد، فبم يرد عليه الجمهور؟ الرد الأساسي هو: أن هذا في الشخص الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن شخص أحصر ومعه الهدي، والعدو هو الذي منعه، فكيف سينحره في الحرم وهو محصر؟! فالآية في الآمن الذي سيكون محل هدية البيت العتيق أو في الحرم؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه أن يبعثه إلى الحرم، وإن لم يستطع ذلك ينحره في محل الإحصار.
إذاً: الشافعي يرى أن المحل اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وعلى هذا حمل قوله تعالى: ((وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ))، وأبو حنيفة يرى أنه اسم للمكان كما بينا.(131/11)
التعجل في ذبح الهدي قبل وقته بسبب الجهل
هنا موضوع مهم: وهو أن بعض الحجاج -نتيجة قلة العلم، وعدم التحقيق في المسائل، ووجود من يفتي بغير علم- يكونون جائعين ويريدون أن يأكلوا من لحم الهدي، فيقولون: بدل ما ننتظر ثم نشرع في مناسك الحج ثم نذبح، فنحن نتعجل الآن فنذبح الهدي! فيجيز لهم بعض الجهلة الذبح قبل يوم النحر، والراجح أن المتمتع والقارن لا يجوز لهما الذبح قبل يوم النحر، وهذا هو قول الجمهور خلافاً للشافعية، فإنهم يجيزون الذبح قبل يوم النحر.
والأدلة على أنه لا يجوز أبداً أن يذبح المتمتع أو القارن قبل يوم النحر كثيرة منها: أولاً: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لم يبلغ محله إلا يوم النحر.
ثانياً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعاً، وعليه جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين والأنصار، وعامة المسلمين، ولم يثبت عنهم خلاف ذلك ألبتة.
ثالثاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، فالفعل المبين يكون واجباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) يعني: الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ولم يخصص، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) كما قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فيجب الاقتداء به في هذا الفعل في نوعه وزمانه ومكانه، ما لم يكن هناك قول من الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من الفعل، فحينئذ فهذا أمر آخر، لكن إذا كان فعل الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، فمادام الفعل المبين واجب، فما يبين مناسك الحج واجبة، فالفعل الذي يبين هذه المناسك يكون أيضاً واجباً، فيجب أن نقتدي بفعل النبي عليه الصلاة والسلام في نوعه وزمانه ومكانه، إلا إذا أتى قول من النبي عليه الصلاة والسلام أعم من الفعل، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم وقف على جبل الرحمة عند الصخرات، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف)، فلو أنه لم يقل ذلك لكان فعله بياناً للواجب الذي هو الوقوف، بل هو ركن الحج الأعظم، ولو لم يقل ذلك لوقعت المشقة العظيمة على الأمة! لكنه قال: (وقفت هنا) يعني: هذا فعل مني وبيان للوقوف بعرفة أنه يكون هنا، ثم قال: (وعرفة كلها موقف) وهذا بيان عام بالقول أعم من الفعل، ففي هذه الحالة لا يكون الوقوف في هذا المكان بالذات واجباً، وإنما يجزئ أن يقف الحاج في أي مكان في عرفة.
ومثله أيضاً قوله: (مزدلفة كلها موقف) مع أنه وقف عند المشعر الحرام، ثم بين أن مزدلفة كلها موقف توسعة على الأمة.
كذلك قول النبي عليه السلام: (نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة وطرقها منحر) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلو لم يقل ذلك لوجب أن ننحر في نفس المكان الذي نحر فيه؛ لأن فعله أتى بياناً لعبادة واجبة في الحج وهي النحر.
فينبغي أن نقتدي به في الفعل، وإذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب إذا كان الفعل المبين واجباً، فالمبين تابع للمبين في حكمه، فيجب الاقتداء به في الفعل في نوعه وزمانه ومكانه، إلا إذا أتى قول أعم من الفعل فحينئذ لا يكون ذلك واجباً، كما في قوله: (نحرت ههنا ومنى كلها منحر)، ففي هذه الحالة لا نتقيد بالمكان الذي نحر فيه، فلا يختص حينئذ الحكم بنفس محل موقفه أو نحره، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
رابعاً: قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] ومن التفث: الحلق والتقصير؛ لأن التفث هو: الوسخ والقذر، فإزالة التفث بقص الأظفار والتنظف والحلق والتقصير، وفي الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك).
إذاً: وقت الذبح مخصص بأيام معلومات دون غيرها؛ لأن الله قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، فوقت الذبح مطلق لكنه مخصص بأيام معلومات دون غيرها، وذلك أنهم يتقربون إلى الله بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات، وهذا أظهر في الهدايا لا الضحايا التي لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين؛ ليأتوا رجالاً وركباناً ويذبحوا ضحاياهم، فيقول عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، وقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29].
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا لم يتحلل من عمرته؟! قال: (إني لبدت رأسي) يعني: ألصق شعر رأسه بعضه ببعض بمادة صمغية مثل العسل بحيث لا ينتتف أثناء الإحرام.
(إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) متفق عليه من حديث حفصة، فلو جاز النحر قبل ذلك لأحل بعمرة ونحر، مع أنه تمنى أن يعتمر ويحل منها، ثم يحرم بالحج كما أمر أصحابه بذلك.
إذاً: فعل النبي عليه الصلاة والسلام كالتفسير لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وخلاصة الكلام: لا يجوز ولا يجزئ أن ينحر الإنسان أو يذبح قبل يوم النحر كما يفعله بعض الناس في الأيام التي هي قبل اليوم العاشر من ذي الحجة، تلبية لنداء بطونهم!(131/12)
تفسير سورة الفتح [25 - 29](132/1)
تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام)
قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25].
قوله تعالى: ((هم الذين كفروا)) إشارة إلى أن كف الله الأيدي عنهم لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وهذا يقتضي قتالهم، فلا يقع ظن لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهم اختلاف أو اصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع، فالاختلاف باق مع كف أيدي الفريقين بعضهم عن بعض، فهم ما زالوا كافرين، فالاختلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا الهدي فازدادوا كفراً وعداوة، والسبب والعلة في الكف ليس لأنهم زال عنهم وصف الكفر، ولكن لعلة أخرى وهي: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) هذه كانت حكمة الكف، كف الله الفريقين عن القتال؛ كي لا يقتل المؤمنون الذين يخفون إيمانهم بمكة إذا أخرجوا معهم مضطرين، فهذه هي العلة، وليست العلة زوال وصف الكفر عنهم، بل الاختلاف بينكم وبينهم باق، وهم يستحقون أن يقاتلوا وأن يؤدبوا، ولكن سبب الكف هو ما ذكره الله في قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
قوله تعالى: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) أي: موجودون بمكة مع الكفار، ((لم تعلموهم)) يعني: لم تعلموهم بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم.
((أن تطئوهم)) أي: أن تقتلوهم مع الكفار، لو أن الله سبحانه وتعالى قدر لكم أن تقتلوهم في تلك الغزوة -غزوة الحديبية- وتفتحوا مكة؛ لقتل المؤمنون المذكورون.
قال بعض المفسرين: ((أن تطئوهم)) يجوز أن تكون بدلاً من رجال ونساء غير معلومين، ويجوز أن يكون بدل المفعول ((لم تعلموهم))، فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون أو بالحضرة.(132/2)
معنى المعرّة
قوله تعالى: ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) أي: معرة إثم وغرامة من عره إذا عراه ما يكرهه، ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) يعني: تطئوهم غير عالمين بهم، والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة؛ لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتلين لهم.
((لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) يعني: لو تميز الكفار عن المؤمنين الذين بين أظهرهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً يعني: لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً، وعن جنيد بن سبع قال: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال، وامرأتين.
((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) يعني: بقتل المؤمنين إياهم.
وفسر ابن إسحاق المعرة: بالدية، فتصيبكم منهم معرة يعني: دية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من الدية، وهو مذهب الشافعي، وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من الدية، وقال ابن جرير: المعرة: هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال ابن جرير: وإنما اخترت هذا القول دون الذي قاله ابن إسحاق لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، ولم يوجب على قاتله خطأً ديته؛ فلذلك قلنا: معنى المعرة في هذا الموضع: الكفارة.
((لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)): كأنه قال: لكن كفها عنكم ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة.
وهناك تفسير آخر لقوله: ((ليدخل الله في رحمته من يشاء))، وهو: أن هذه الآية فيمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر شيخ المفسرين ابن جرير أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها.
((لو تزيلوا)) أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ((لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) من قتل أو أسر أو نوع آخر من العذاب الآجل.
قال الكياالهراسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى بعض المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار تترسوا بهم، وهذا مذهب من يرى أن الترس لا يقتلون، يعني: لو أن الكفار أسروا من المسلمين وتترسوا بهم بما يسمى الآن بالدرع البشري، أخذوا بعض الأسرى من المسلمين ووضعوهم كدرع بشري بحيث إذا ضربهم المسلمون يصيبون المسلمين، وهذا بحث يستحق التفصيل، ولكن نقول باختصار: لا يجوز ذلك إلا إذا كان لمصلحة ضرورية كلية قطعية، وبين ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وفصل الكلام فيما يتعلق بمسألة التترس بالمسلمين.(132/3)
تفسير قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)
قال الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح:26].
((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية التي جعلته يمتنع من أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، فحمية الجاهلية منعته أن يقر باسم الرحمن سبحانه وتعالى، وأن يكتب فيه أيضاً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامه ذلك، والحمية هي: الأنفة والاستكبار.
((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)): هذا عطف على منوي، يعني: ((إذ جعل الذي كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ويقاتلوا، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، فقوله: ((فأنزل الله سكينته)) عطف على شيء مفهوم وإن لم يكن مذكوراً في الآية، لكن نزول السكينة كان لكف المؤمنين عن أن يقاتلوهم لما منعوهم بسبب حمية الجاهلية، وحينما أصروا على أن يكتب: باسمك اللهم، وأن يكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بدلاً من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون هموا أن يأبوا الانقياد لهذه الحمية الجاهلية، وأن يقاتلوا على ذلك ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)) يعني: الوقار والتثبت حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم ذكره.
((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى)) أي: اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها، وهي كلمة التوحيد، ((وكانوا أحق بها)) يعني: متصفين بمزيد استحقاق لها، وكانوا أحق بها من الكفار.
وقوله: ((وأهلها)) يعني: كانوا مستأهلين لها، ((وكان الله بكل شيء عليماً)) يعلم حق كل شيء فيسوقه إلى مستحقه.(132/4)
تفسير قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)
قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27].
قال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه ومحلقاً بعضهم.
ثم روى عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين يعني: الرسول عليه السلام أري هذه الرؤيا وهو في الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه محلقين، ورؤيا الأنبياء حق، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟! وعن ابن زيد: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين) ولم يقل: ذلك العام، فلما نزل بالحديبية طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياك؟! فهذه الرواية تذكر أن المنافقين هم الذين قالوا: أين رؤياك؟ فقال الله تعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ)) يعني: كأن الله سبحانه وتعالى يرد على هؤلاء الذين قالوا: أين رؤياك؟ بهذه الآية: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) يعني: إني لم أر أنكم تدخلونها هذا العام، فهو رأى في المنام أنه وأصحابه يدخلون مكة بالصفة المذكورة في الآية، ولكن لم ينص على السنة التي يدخلون فيها مكة، ولم يقل: إنه يدخلها هذا العام أو في هذه الغزوة غزوة الحديبية.
((لقد صدق الله رسوله الرؤيا)) الرؤيا: منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه، أي: حقق صدقها عنده كما هو عادة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام.(132/5)
الاستثناء بقول: إن شاء الله
قوله تعالى: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) هذا حال من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ((لتدخلن)) هذا جواب قسم محذوف، يعني: والله لتدخلن ((المسجد الحرام إن شاء الله آمنين))، إن شاء الله تعليق واستثناء بالمشيئة؛ لتعليم العباد أنهم إذا أرادوا أن يتكلموا عن شيء مما يقع في المستقبل فمن الأدب أنهم يستثنون، فيقول أحدهم: إن شاء الله، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، وسبب نزولها الأسئلة المعروفة التي وجهت للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح والفتية وذي القرنين.
وفي حديث يأجوج ومأجوج: (إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم، وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس؛ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه؛ فيحفرونه ويخرجون على الناس).
ويقول الله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18] حلفوا أنهم يصرمون الثمر مصبحين ولا يستثنون أي: ولم يقولوا: إن شاء الله، فعوقبوا بما عوقبوا به.
وفي حديث سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله فلم يقل -يعني: أنه نسي أن يقول: إن شاء الله- فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).(132/6)
خطأ بعض الناس في الاستثناء
بعض الناس يسيء استعمال أدب الاستثناء أو يخطئ فيه، مثلاً يسأل عن شيء هو حقيقة مثل: ما اسمك؟ فيقول: إن شاء الله أخوك فلان! وهذا ليس موضعه.
وبعض الناس يستعملونها كشماعة يعلقون عليها التعريض والمراوغة في الكلام، والمعنى الصحيح للاستثناء هو تعليق الأمور المستقبلة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فبعض الناس يستعملونها في المراوغة والتعريض واللف والدوران في الكلام كالثعالب، ويعلق ذلك بكلمة: إن شاء الله، وما ينوي بها إلا خداع من يكلمه.
ينبغي استعمال الاستثناء في الموضع اللائق به، فإذا قيل مثلاً: أين ذهبت بالأمس؟ لا تقل: إن شاء الله ذهبت إلى المكان الفلاني، فهذا فعل ماض وقع، فليس للاستثناء هنا موضع، والله جل وعلا ذكر الاستثناء هنا: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، مع أنه تعالى قال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27]، تأكيداً لما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال: (إن شاء الله)، فهذا تعليم من الله سبحانه وتعالى، فإنه أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أنه صدقه في هذه الرؤيا، وأقسم أنهم لابد داخلون في المستقبل؛ ومع ذلك يقول الله تعالى: (إن شاء الله)، وإذا كان الله قال ذلك فنحن أولى أن نتعلم هذا الأدب، وأن نعلق العمل بالمشيئة.
أيضاً قال: (إن شاء الله) للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، ربما بعضهم يكون قد مات حينما يأتي موعد تحقيق هذا الوعد، أو يتخلف لعذر من الأعذار أو غير ذلك، فليس كل المؤمنين الحاضرين في الحديبية سوف يدخلون.
إذاً: إما إنها لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: لتدخلنه من شاء الله دخوله منكم، أو أنه حكاية لما قاله له الملك الذي أراه الرؤيا في المنام، فقال له نفس العبارة: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) أو حكاية لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ لأنهم لما يكونوا قد دخلوا بعد، فلما حكى لهم الرؤيا قال لهم: إن شاء الله.(132/7)
معنى قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين)
قوله تعالى: (محلقين): حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، يعني: هل يحلقون ويقصرون وقت دخولهم مكة أم يدخلون محرمين؟ يدخلون محرمين، (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين) فمحلقين حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وفي الكلام نسبة ما للجزء إلى الكل: (محلقين رءوسكم ومقصرين) يعني: محلقاً بعضكم ومقصراً بعضكم، والقرينة عليه: أن الحلق والتقصير لا يجتمعان، فالمحرم إما أن يحلق وإما أن يقصر، ولا يجتمعان؛ فلذلك لابد من نسبة كل منهما لبعض منهم، فالبعض يحلق والبعض يقصر، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: والمقصرين!).(132/8)
معاني المسجد الحرام
المسجد الحرام يطلق في القرآن الكريم ويراد به أربعة معان: الأول: الكعبة المشرفة كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:149] يعني: جهة الكعبة المشرفة، وقال تبارك وتعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:97].
الثاني: يطلق المسجد الحرام على المسجد كله، يقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
الثالث: يطلق المسجد الحرام على مكة المكرمة كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وكان الإسراء من بيت أم هانئ من مكة وليس من المسجد نفسه.
الرابع: يطلق المسجد الحرام على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من الحرم؛ لأن حدود الحرم أوسع من حدود مدينة مكة، وحدود الحرم تبدأ من العلامات المنصوبة التي تفصل بين الحل والحرم، فالمسجد الحرام قد يطلق على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من حدود الحرم، والدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] والمراد منعهم من دخول الحرم نفسه.(132/9)
الحلق أفضل من التقصير في النسك
أخر النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء للمقصرين، وكرر الدعاء ثلاثاً للمحلقين، وهذا يدل على أن التقصير مفضول لكنه يجزئ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تبارك وتعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] فهذا يدل على أنه يجزئ التحلل بمجرد التقصير.
وقد روى الشيخان وغيرهما التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فمن الخطأ أن بعض الإخوة ينظر بنظرة الازدراء أو الاحتقار لمن يحج أو يعتمر ثم يقصر شعر رأسه، مع أن هذا ليس منكراً، نعم بلا شك أن الحلق أفضل، ولكن التقصير يجزئ، وبعض الناس لسبب أو لآخر لا يحلق عند التحلل، فلا ينبغي أبداً لمن يحلق أن ينظر إلى أخيه الذي يقصر على أنه مقصر، مقصر شعره ومقصر في طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا ينظر إليه نظرة ازدراء.
وأيضاً بعض الأخوات تزدري من تلبس جلباباً أو حجاباً يستوفي شروط الحجاب الشرعي لكنه بغير اللون الأسود، ومن قال: إننا نتعبد بالألوان؟ والتعبد بالألوان شيء من بدع الأخوات، وقد يقلن: هذه التزامها فيه ضعف؛ لأنها تلبس حجاباً بغير اللون الأسود! هذا من تنطع بعض الأخوات، وهذا من عندهن وليس من الشرع.(132/10)
ليس على النساء حلق
قولنا: الحلق أفضل من التقصير، هذا خاص بالرجال، أما النساء فليس عليهن حلق، وإنما عليهن التقصير فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)، يعني تجمع شعرها كله ثم تقص منه قدر الأنملة.(132/11)
حكم حلق الشعر في غير النسك
ما حكم حلق شعر الرأس في غير النسك؟ حلق الرأس في الحج والعمرة مما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحلق الرأس لحاجة مثل التداوي جائز، فيجوز أن يحلق الإنسان رأسه للتداوي من بعض الأمراض الجلدية أو من بعض الحشرات كالقمل مثلاً، وهذه الأشياء قد تعالج بأن يزيل شعر رأسه تماماً، فهذا جائز للحاجة.
أما حلق شعر الرأس على وجه التعبد والتدين والزهد فهذا بدعة لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذً: يحلق الإنسان رأسه في الحج والعمرة، وهذا مما أمر به الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويحلق رأسه للحاجة كالتداوي، وهذا جائز، أما أن يحلق رأسه في غير النسك لغير حاجة، يعني: من غير حج ولا عمرة ولا مرض فهذا فيه قولان: الأول: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره؛ لأنه شعار أهل البدعة من الخوارج الذين كانوا يحلقون رءوسهم.
الثاني: أنه مباح، وهو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة والشافعي، فله أن يحلقه بلا تعبد في الحج والعمرة، ولا لحاجة كمرض، فلا بأس أن يحلق، لكن لو نوى به التعبد فهذا بدعة لم يأمر الله سبحانه وتعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من الفقهاء؛ لأن التعبد بحلق الرأس من سيما الخوارج، وهذه علامة من خصائص الخوارج كما في الحديث: (سيماهم التحليق).(132/12)
معنى قوله تعالى: (لا تخافون)
يقول القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى: قوله تعالى: {آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] لا تخافون: هذه حال مؤكدة لقوله: آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين لا تخافون، فهذه حال مؤكدة لقوله تعالى: (آمنين)، أو مؤكدة لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، آمنين يعني: في الحال، لا تخافون يعني: في المستقبل، فيكون قد أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.(132/13)
خبر عمرة القضاء
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد.
قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة كما هو مقرر في موضعه، ثم رجع إلى المدينة فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار وأصحابه يلبون، فلما كان قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم -وهي العلامات التي توضع تحدد حدود للحرم- بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟!) قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: (لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج) فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرج رءوس الكفار من مكة -أي: من شدة الحقد والغيظ خرجوا من مكة- لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً.
وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول: باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف -أي: من الهزال والضعف الذي نزل بهم- فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، فأصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة -يعني: نتقوى بها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم)، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحِجْر، فاضطبع رسول صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: (لا يرى القوم فيكم غميزة)، فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما إنهم لينقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط؛ فكانت سنة، والمقصود بذلك الرمل، وقد كان المشركون جلسوا في الجهة الشمالية التي تقابل الحِجْر يراقبون الصحابة وهم يطوفون، فالصحابة رملوا الثلاثة الأشواط الأولى؛ ليظهروا الجلد والقوة لئلا يشمت بهم الكفار، وقد كان الصحابة متعبين، فكانوا يرملون في الجهات الثلاث، ثم في الجهة الرابعة التي هي الجهة اليمانية، كانوا يستترون بالكعبة، فمن ثم كانوا بين الركنين يمشون ليستريحوا من هذه الهرولة، حتى لا يشمت بهم المشركون، فصارت سنة بعد ذلك، فهذا هو سبب هذه السنة، وهذا مثل سبب مشروعية السعي حينما سعت هاجر.
وروى الإمام أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب -أي: أضعفتهم- ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون).
وفي رواية: (ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: كانوا يمشون في المنطقة اليمانية؛ لأنه لو أمرهم أن يرملوا الأشواط كلها لكان في ذلك مشقة شديدة عليهم، ولم يستطيعوا أن يكملوا، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.(132/14)
معنى قوله تعالى: (فعلم ما لم تعلموا)
قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أي: من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم عليها عامكم ذلك، يعني: علم ما لم تعلموا حينما تم صلح الحديبية، ثم قدر وقضى أن تعودوا، وذلك لما علمه الله من الخير الكثير في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها في عامكم ذلك.
قال ابن جرير: (فعلم ما لم تعلموا) وذلك علمه تعالى ذكره بما في مكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك، وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه.(132/15)
معنى قوله تعالى: (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً)
قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)): فجعل من دون ذلك -يعني: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم- فتحاً قريباً، وهو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش.
أو (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) وهو فتح خيبر، (من دون ذلك) يعني: قبل تحقق الرؤيا، ففتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود، وإلى الأول ذهب الزهري فقال: يعني صلح الحديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، أمن الناس بعضهم بعضاً، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد من الناس يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، ووافقه مجاهد، وقال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما -يعني: فتح خيبر وأيضاً صلح الحديبية- ما ترتب عليه من الخيرات العظيمة.(132/16)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)
قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].
(بالهدى) أي: البيان الواضح، (ودين الحق) أي: دين الإسلام، وقال المهايمي: (بالهدى) أي: الدلائل القطعية، (ودين الحق) أي: الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة.
وقال ابن كثير: (بالهدى): بالعلم النافع، (ودين الحق): العمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل.
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يعني: ليعليه على الدين كله أي: ليبطل به الملل كلها حتى لا يكون دين سواه، وذلك حين ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها غير دين الله الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد أظهره الله تعالى علماً وحجة وبياناً على كل دين، كما أظهره قوة ونصراً وتأييداً، وقد امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض وأوسطها، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
(وكفى بالله شهيداً) أي: على أن ما وعدهم من إظهار دينه على جميع الأديان أو ما وعدهم من الفتح أو المغانم كائن، قال الحسن: شهد الله على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله وكفى بالله شهيداً.
قال ابن جرير: وهذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه: أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن بانصرافهم عن مكة قبل دخولها وقبل طوافهم بالبيت.(132/17)
معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله)
نقف وقفة مع هذه الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] أكثر المفسرين على أن الهاء في قوله: (ليظهره) راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ليظهر رسوله عليه الصلاة والسلام، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق، يعني: يظهر دين الحق على الدين كله، أي: أرسل الرسول بالدين الحق ليظهر الدين الحق على كل الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للإظهار هو الله سبحانه وتعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره يعني: ليظهر الله هذا الدين، أو ليظهر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وجوز غير واحد -وهو الذي استظهره الآلوسي رحمه الله تعالى- أن يكون المعنى: ليظهر الله الإسلام على الدين كله في تسليط المسلمين على جميع أهل الأديان، وقالوا: ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكرنا زماناً معتداً به كما لا يخفى على المطلعين على كتب التاريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الإعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي حيث لا يبقى حينئذ سوى دين الإسلام.
ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر إلا لنحو ما سمعت، وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء.
وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح، وتوطيد لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم البلاد، ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة، فيظهره على الدين كله، فكلمة (كله) بشارة لما هو أعظم وأكبر من فتح مكة؛ لأن مكة مدينة واحدة، لكن الآية فيها إشارة إلى أن البلاد كلها سوف تفتح بالإسلام.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة وسورة الصف، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ولو كان المشركون يكرهونه، فقال في الموضعين: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وأشراف قريش قد اجتمعوا بالحجر وقالوا: ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول، فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفعلوا به ذلك ثلاث مرات فوقف فقال: (أتسمعون يا معشر قريش؟! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح) يعني: بالسيف، فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف -يا أبا القاسم- راشداً، فوالله! ما كنت جهولاً.
وقال محمد بن كعب: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول: إنكم إن بايعتموه عشتم ملوكاً، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه الذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم نار تعذبون فيها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال: (وأنا أقول ذلك: إن لهم مني لذبحاً، وإنه لآخذهم).
فالإخبار بظهور الإسلام وعلوه على العالمين كان في ذلك الوقت مستقبلاً، يعني: حينما نزلت هذه الآية ونحوها من الآيات، وحينما نطق النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث التي سنشير إليها، كان هذا إخباراً عن المستقبل، والمستقبل مجهول للإنسان، فإذا تصوره كان تصوره مجرد توقعات قد تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائج، ومهما أوتي الإنسان من صدق الحدس وقوة الإدراك، فإنها لا تزيد على كونها مجرد توقعات، وأما في حالة عدم وجود مقدمات، كان توقع حصول النتائج مجرد عبث وتخرص وتوهم، ووقوعه في هذه الحالة هو من قبيل ما يسميه البعض بالمصادفات وعدم وقوعها هو الأصل.
أحد العلماء من باكستان ألف كتاباً جرده لذكر مئات الأخبار عن النبي عليه السلام بأمور مستقبلية كلها أو معظمها وقع تماماً كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا ما تحدث إنسان عن المستقبل بتفاصيل مسهبة ولم يخرمها المستقبل حتى ولا في جزء من أجزائها، مع كثرة أعدائه المتربصين الحريصين على الطعن في صدقه، إذاً لابد من استبعاد التوقعات والتكهنات والنبوءات الكاذبة، واستبعاد ما كان مبيتاً، واستبعاد ما تحقق بعضه وكذب بعضه، واستبعاد ما كان عن منام وقع أو كرامة صالح، ولكن صدق الإخبار عن المستقبل المجهول الذي يتحقق تحققاً تاماً فهذا بلا شك نبوة لا شك فيها، وهو الوحي الذي يصل عالم الغيب بعالم السماء، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]؛ فلذلك كان الإخبار بالبشارات التي تتعلق بظهور دين الإسلام في وقت كان المسلمون فيه في أشد مراحل الضعف، وكان النبي عليه السلام مع ذلك يجزم ويقطع بالتمكين لهذا الدين؛ دليل من دلائل النبوة.(132/18)
علامات صدق النبوة
ما هي العلامات الخمس التي تدل على صدق النبوة؟ لو أن كافراً قال لك: أثبت لي صدق محمد، وما هي الأدلة والصفات الشخصية لصاحب الرسالة؟ فنقول: الثمرات، والمعجزات، والبشارات وهي التي تبشر بظهور النبي في الكتب السابقة، والنبوءات، والصفات الشخصية، فإن للأنبياء صفات لا تشتبه أبداً بصفات غيرهم حتى لو كانوا من الصديقين والشهداء والصالحين، لا يمكن أن تشتبه خصائص النبي بخصائص غيره من البشر، فللأنبياء صفات مميزة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يصطفيهم من أعلى الدرجات، ومن قمة البشر، سواء في حسبهم ونسبهم أو كمال أجسادهم وقوتهم وجمالهم وأخلاقهم، وغير ذلك من الصفات، فالأنبياء يمثلون قمة متميزة في صفاتهم الشخصية الحسية والنفسية، ولا يشاركهم فيها أحد.
فمن هذه العلامات: الثمرات؛ لأن للأنبياء انطباعات وثمرات في الوجود وفي العالم لا تشتبه بغيرهم ممن يسمونه المصلحين أو الدعاة أو نحو ذلك، فالأنبياء لهم ثمرات يتركونها في واقع البشرية لا تشتبه بثمرات غيرهم، وليس لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذا كله نظير على الإطلاق، فهو أعظمهم ثمرة وأثراً.
ومنها: النبوءات، وهي نبوءات كثيرة عما يحصل في المستقبل.
ومنها: البشارات، أي: بشارة النبي السابق بالنبي اللاحق، كما يوجد في التوراة والإنجيل من بشارات كثيرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: المعجزات، وهي الخوارق التي تقترن بادعاء النبوة، وهذه أيضاً من خصائص الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال الله تبارك وتعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، الحق في لغة العرب هو الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل، أما الباطل فمعناه: الذاهب المضمحل.
والمراد بالحق في قوله تعالى: (وقل جاء الحق) هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من الدين الإسلامي، والمراد بالباطل الزاهق: الشرك بالله والمعاصي المخالفة لدين الإسلام.
(إن الباطل كان زهوقاً) يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزالت من جسده، (إن الباطل كان زهوقاً) كان هي صيغة للماضي، لكن كان هنا تفيد الاستمرار والثبات، يعني: إن الباطل كان زهوقاً في كل وقت، وقد ذكر الله تعالى أن الحق يزيل الباطل ويذهبه في قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:48 - 49]، وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: ((جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)) [الإسراء:81]، ((جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) [سبأ:49]) متفق عليه.(132/19)
المستقبل لهذا الدين
قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] هذه الآية من البشارات للتمكين للمسلمين، وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] (الزبور) هنا: جنس الكتاب، أي: في التوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) يعني: أم الكتاب، فالمقصود: كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، بعد أن كنا قد كتبنا ذلك في أم الكتاب.
قيل في العباد الصالحين: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النصارى الذين أسلموا قالوا: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] وهم قطعاً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله عز وجل: (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قيل: هي الجنة كما قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]، فمعنى الإيراث: الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكبر نعيم وسرور، وقال تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
وقيل: إن الأرض أرض العدو، يورثها الله المؤمنين في الدنيا كما قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27]، وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وقال عز وجل: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14].(132/20)
بشارات نبوية بالتمكين لهذا الدين
روى مسلم بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] أن ذلك تاماً قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة تقبض كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم).
وروى مسلم أيضاً بسنده عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال- بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) أي: أن ربنا سيحفظهم من أن يسلط عليهم عدواً يستبيح بيضتهم حتى لو اجتمع عليهم كل الناس في الأرض، وهذا الوعد مستمر حتى يبدءوا هم في انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، فإذا تقاتل المسلمون، واستباح بعضهم حرمات بعض؛ حينئذ يزول هذا الضمان وهذا الأمان.
والمراد بالكنزين: الذهب والفضة، والمراد كنز كسرى وقيصر ملكي العراق والشام.
وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب لقوله: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها) فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن ملك هذه الأمة يبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وهذا هو الواقع كما نلاحظ، فإن البلاد الإسلامية الآن ممتدة الأفق في جهة الشرق والغرب، أما في جهة الجنوب والشمال فامتدادها قليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية.
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: (يا عدي بن حاتم! إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد؟ - ولتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفيه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد، قال عدي: قد رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ولئن طالت بكم حياة سترون الثالثة)، قال البيهقي: قد وقع ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز.
وعن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يطرح حتى يرجع بذلك، فيتذكر من يضعه فيه، فلا يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس رحمه الله تعالى.
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عدي! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية؟ وأنت تأكل مرباع قومك؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام؟ تقول: إنما تبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها).
وروى مسلم عن نافع بن عتبة رضي الله عنه أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع كلمات أعدهن في يدي، قال: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)، فقال نافع: يا جابر! لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم.(132/21)
حديث: (وعدتم من حيث بدأتم)
روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم)، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
قال الرسول عليه السلام هذا الحديث أمام أبي هريرة، (منعت العراق درهما وقفيزها) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق، (ومنعت الشام مديها ودينارها) المدي: مكيال معروف لأهل الشام، (ومنعت مصر إردبها ودينارها) الإردب: مكيال معروف لأهل مصر.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وفي معنى قوله: منعت العراق وغيرها قولان مشهوران: أحدهما: لإسلامهم، أي: أن هؤلاء يسلمون فتسقط عنهم الجزية، وهذا قد وجد، بعدما كانوا يرسلون الجزية ثم أسلموا فامتنع مجيء هذه الأشياء.
القول الثاني -وهو الأشهر-: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، يعني بعدما كانت هذه البلاد تجبى منها الجزية والخراج إلى دار الخلافة، سوف تعود هذه البلاد إلى الوضع الذي تمنع فيه أداء الجزية والخراج، وهذا هو الواقع الآن، وفي ضمن هذا الحديث أن هذه البلاد سوف تفتح حتى تبذل الجزية والخراج.
وروى مسلم عن جابر: (يوشك ألا يجيء إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك)، وذكر منع الروم لذلك في الشام، وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وقيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها، وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان فيمتنعون مما كانوا يؤدونه.
وقوله: (وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم) هذه أشارة إلى عودة غربة الإسلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، فهذا معنى (وعدتم من حيث بدأتم)، وفيه الإخبار بغربة الإسلام من جديد.(132/22)
فتح القسطنطينية ورومية
عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ -رومية هي روما عاصمة إيطاليا- فدعا عبد الله بصندوق له حلق فأخرج منه كتاباً، فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً)، يعني: قسطنطينية، وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].
فنحن ليس بيننا خلاف بأن هذا سوف يقع، لكن المشكلة أننا لا نفكر بهذه الأمور دائماً، ونظن أن السنن تحابينا، فيوجد ربط غير طبيعي عند بعض الناس، يقول بعضهم مثلاً: لعل أمريكا تنهار الأرض بهم، وكذا وكذا، وعند ذلك ينتصر المسلمون! يعني ننتظر مجرد انهيارهم، لا، هذا لا يكفي حتى يظهر المسلمون، لابد للمسلمين أيضاً أن يشتغلوا بالبناء، وأن يأخذوا بأسباب القوة، أما أن نبقى نقول: إن أمريكا سيحدث فيها كذا وكذا، وإنها سوف تنهار، وبعضهم يتوقع خراب العالم، وأنه ستحصل حرب نووية تدمر البشرية! لماذا نحن المسلمين نكون هكذا؟! لابد من المواجهة، والعمل بالأسباب الحقيقية التي ينبغي على المسلمين أن يأخذوا بها، فالسنن لا تحابي أحداً، الكافر إذا أراد أن يزرع الأرض، فحرثها ونقاها وسقاها بالماء ووضع فيها البذور السليمة وتعاهدها إلى أن نبتت؛ هل الأرض تقول له: أنت كافر، ولن أنبت لك؟! لا، وهل المؤمن ستقول له الأرض: لأنك مؤمن سوف أكرمك وأوتيك الثمار بدون أسباب؟ لا، هذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالربط بين انهيار الغرب وبين تحقق وعود المسلمين خطأ، فلابد من الأخذ بالأسباب كالآخرين.(132/23)
من دلائل النبوة
روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وهي من خالاته من الرضاعة، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة) فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما قال في المرة الأولى، قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم قال: (أنت من الأولين)، ثم غزا معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قبرص في سنة ثمان وعشرين هجرية، ومعه من كبار الصحابة أبو ذر وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت، وكانت مع عبادة زوجه أم حرام بنت ملحان.
وأخرج مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً)، وهذه بشارة بفتح مصر، والمقصود بالرحم أنهم أخوال إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأقباط أخواله؛ لأن مارية القبطية أمه، فالمقصود أرض مصر، والآثار في الأسفار عن مدح مصر كثيرة.
وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] الأميون هم: العرب كلهم، ثم قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] يعني: وبعث في آخرين من الأميين أو يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين لما يحلقوا بهم، أي: لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم، قال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟! فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء).
وفي رواية: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس -أو قال- من أبناء فارس حتى يتناوله) وهذا لفظ مسلم.
وليس المقصود بهذا الرافضة الخبثاء الضالون، إنما المقصود بفارس علماء المسلمين من أهل السنة الذين دخلوا في الإسلام وكانوا من أهل فارس.
وأخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
وهذه إشارة إلى موعود الله سبحانه وتعالى الذي وعد به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من التمكين لهذا الدين.(132/24)
تفسير قوله تعالى: (محمد رسول الله)
قال الله تبارك وتعالى في الآية الأخيرة من سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) عليه الصلاة والسلام، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي: أصحابه رضي الله عنهم، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم الصادين عن سبيل الله وعندهم تراحم فيما بينهم كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وجوز في قوله عز وجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ): أن يكون مبتدأً وخبراً، يعني: إن هذه شهادة من الله بأن محمداً هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن يكون (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) صفة أو عطف بيان أو بدلاً، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف عليه، وخبرهما: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وهذا تكليف، ولو لم يذكر الله قوله تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ربما توهم متوهم أنهم باعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال، وعلى كل أحد، وأن هذه الصفة صارت ذاتية لهم في كل حال، ومع كل أحد، فلما قال تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) اندفع ذلك التوهم، فعندهم تكريم واحترام للمؤمنين، ولما قال في الآية الأخرى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، ومفهوم القيد هو (على المؤمنين) فربما توهم أنهم موصوفون بالذلة دائماً لكل أحد، وأن الذل صفة لازمة لهم على كل حال لكل الناس، فدفع الله هذا الوهم بقوله تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
((أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) فهو كقوله: حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب قال المهايمي: تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية بتبعية اعتدال الفكرة، إذ هم أشداء على الكفار لرسوخهم في صحة الاعتقاد، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده.
(رحماء بينهم): لعدم ميلهم إلى الشهوات، هذا باعتبار الأخلاق، فهم من حيث أخلاقهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وأما باعتبار الأعمال فأنت: ((تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)).
قال ابن كثير: وصفهم بكثرة العمل: (ركعاً سجداً) ووصفهم بكثرة الصلاة التي هي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، فالآية تمدح ظاهرهم وتمدح باطنهم، تمدح ظاهرهم لقوله: (تراهم ركعاً سجداً)، وتمدح باطنهم؛ لأنهم ما يريدون من العبادة إلا وجه الله عز وجل: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً)، فوصفهم بالإخلاص لله عز وجل، والاحتساب عند الله تعالى، فلهم جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله سبحانه وتعالى، وعلى سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].(132/25)
معنى قوله تعالى: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)
قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ): هذا مبتدأ وخبر يعني: علامتهم كائنة فيهم رضي الله تعالى عنهم، (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) هذا بيان للسيما كأنه قيل: سيماهم التي هي أثر السجود أو حال من المستكن في وجوههم، كأن المقصود هي من أثر السجود.
قال ابن عباس: سيماهم في وجوههم يعني: السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع، وقال منصور لـ مجاهد: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، يعني العلامة التي تكون في الوجه فقال مجاهد: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، يعني: ربما كان هذا الأثر الذي يكون في الوجه علامة الصلاة بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون.
وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وقد رفعه شريك والصحيح أنه موقوف، وتوجد قصة فيها سبب الوهم الذي حصل في رواية هذا الحديث.
وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وروى الطبراني مرفوعاً: (ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر)، وإسناده واهٍ؛ لأن فيه العذراني وهو متروك.
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان).
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) رواه أبو داود.
التأويل الثاني في الآية: أن فيهم آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الصخور، وروي ذلك عن ابن الزبير وعكرمة، وقد كان ذلك في العهد النبوي حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباءه، (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) يعني: تراب كان يعلق بالجبهة، وهذا كان موجوداً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المسجد كان يفرش بتراب وحصباء؛ فلذلك كان يعلق التراب في جباههم، أما الآن فالمساجد تفرش بالفرش، فالسيما هي علامة السجود المعروفة أو أنها التراب الذي كان يعلق في جباههم أو أنها السمت الحسن والخشوع، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.(132/26)
شدة الصحابة على الكافرين ورحمتهم بالمؤمنين
قوله عز وجل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) قوله هنا: (والذين معه) يعني: جميعهم، فجميعهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم)؛ لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وأما في حق النبي عليه الصلاة والسلام فكما في قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، في حين قال عنه في حق المؤمنين: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الطرق التي تستطيع أن تميز بها مذهب مؤلف كتاب، وأردت أن تعرف هل هو شيعي أو غير شيعي، فانظر في المقدمة، هل ترضى عن الصحابة أم لا، تجد الشيعة لا يترضون عنهم، وبعضهم لا يعمل مقدمة، بل يدخل في موضوعه مباشرة تجنباً لذكر الصحابة حتى لا يترضى عنهم، وإما أن يترضى على آل البيت فقط، وأهل السنة في مقدمة الكتب يقولون: ورضي الله عن أصحابه أجمعين، لماذا؟ حتى لا يظن أحد أنه ترضى عن بعض أصحابه، فنجد علماء السنة في المقدمات يقولون: ورضي الله عن أصحابه أجمعين، ومنهم من يزيد ويقول: ورضي الله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والمهاجرين والأنصار، فهذا كله من أجل ما زرعه الشيعة -قبحهم الله- من الأحقاد والسباب للصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
روي عن الحسن أنه قد بلغ من شدتهم على الكفار أنهم كانوا يتحرجون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقة، والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء، لكن المعانقة تشرع عند القفول من السفر، قال بعض المفسرين: وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الله، والرحمة على المؤمنين.
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).
ولا بأس بالبر والإحسان إلى عدو الدين إذا تضمن ذلك مصلحة شرعية، كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فلتراجع.(132/27)
معنى قوله تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة)
قوله تبارك وتعالى: (ذلك مثلهم في التوراة) أي: ذلك الوصف مثلهم -رضي الله تعالى عنهم- في التوراة، أي: صفتهم العجيبة فيها، ومعنى ذلك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدحوا قبل أن يخلقوا، وذلك في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فهذه الآية تشير إلى نصين في التوراة والإنجيل كلاهما في مدح صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يمدحهم الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقوا ثم يكون فيهم ما افتراه الأفاكون الضالون الرافضة -لعنهم الله- من أن الصحابة ارتدوا جميعاً ما عدا ثلاثة.
والذي يقول هذا كفر بقوله تعالى للصحابة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وكفر بقوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فمن رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً.
(ذلك) أي: الوصف (مثلهم في التوراة) أي: صفتهم العجيبة فيها، فالصحابة موصوفون في التوراة بأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ).(132/28)
معنى قوله تعالى: (ومثلهم في الإنجيل كزرع)
قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي: فراخه أو سنبله أو نباته {فَآزَرَهُ} يعني: قواه، {فَاسْتَغْلَظَ} يعني: غلظ الزرع واشتد، فالسين للمبالغة في الغلظ أو صار من الدقة إلى الغلظ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أي: استقام على قصبه، والسوق جمع ساق {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحسن نباته وبلوغه وانتهائه يعجب الذين زرعوه {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة، كأنه قيل: إنما قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار، ومن ثم ذهب الإمام مالك إلى تكفير الرافضة.
يقول الزمخشري: هذا مثل ضربه الله لبدأ أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله بمن آمن معه، كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع.
وهذا هو ما قاله البغوي أي: أن الزرع محمد عليه الصلاة والسلام، وأما الشطء الذي زاد عن هذا الزرع فهم أصحابه والمؤمنون، فجعل التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط، فـ الزمخشري والبغوي قالا: إن الزرع نفسه هو مثال للنبي عليه الصلاة والسلام، أما الشط فهم أصحابه والمؤمنون الذي قووا دينه وجاهدوا في سبيله، فهذا تمثيل للنبي وأمته، وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط، وعبارته: وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة، كانوا قلة، في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس.
ولكل وجهة.(132/29)
هل يكفر الرافضة لغيظهم على الصحابة؟
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم -إذا رأوا الصحابة يغتاظون، وتغلي عروقهم من الحقد على الصحابة -ومن غاظه الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك.
انتهى كلام ابن كثير.
يقول الإمام العلامة القاسمي: ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النووي في مقدمة مسلم، وقبله الإمام الغزالي في كتاب فيصل التفرقة، وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء في التكفير والزندقة، وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ.
على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما اجتهد كان مأجوراً غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل جامع الجوامع، نعم إن التطرف والغلو في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين، وإذا اشتد البياض صار برصاً.
على أي الأحوال فمسألة تكفير الرافضة فيها تفصيل، والشيعة كلمة لها عدة معان على درجات أو دركات، فالشيعة بالمعنى الصحيح هم أهل السنة الذين تشيعوا لأهل البيت، فنحن نحبهم وننزلهم منزلهم اللائق بهم، فالشيعة بمعنى الأنصار كما قال الله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، فنحن الشيعة أنصار أهل البيت، ونحن نحبهم دون أن نعبدهم مع الله أو نغلو فيهم، فالشيعة في الحقيقة هم أهل السنة؛ لأنهم هم الذين يتشيعون لأهل البيت بحق وبعدل وبإنصاف، لكن بعد ذلك يطلق لفظ الشيعة على الاعتقاد في تفضيل علي على من سبقه من الخلفاء، واعتقاد أنه أحق بالإمامة من أبي بكر وعمر، فهذا تشيع.
وهناك تشيع الزيدية وهي درجة أخف، وهناك تشيع الرافضة الإمامية الجعفرية الاثني عشرية، وهم من أهل الضلال، وهناك تشيع السبئية الذين زعموا أن علياً إله، وعبدوه من دون الله.
فالشيعة لا يصح لإنسان أن يصدر حكماً عاماً على كل شيعي، حتى رافضة إيران اليوم لا يصلح التعميم في الحكم عليهم؛ لأن المسألة تحتاج إلى تفصيل، وأن تسأل الشيعي: ماذا يعتقد؟ فالبدعة قد تكون مكفرة وقد تكون غير مكفرة، مكفرة مثل أن يعتقد أن القرآن الموجود قرآن ناقص، وأن القرآن الحقيقي هو ثلاثة أضعاف هذا القرآن، وأنه مخبوء مع إمامهم المهدي المزعوم، وغير ذلك من الخرافات، فهذا طعن في القرآن الكريم، وهو كفر، هكذا نفصل، ولا ينبغي التعميم، والعوام ليسوا كالخواص، فالعامي الجاهل الذي نشأ على الرفض، وظن أن هذا هو الإسلام، ليس كالخواص.
ولا شك أنه حتى مع تكفيرهم لن يكونوا كالكفار الأصليين؛ لأن من اعتقد أن محمداً رسول الله، وأنه صادق ومرسل من عند الله؛ لا يستوي مع من لم يعتقد ذلك، فالمسألة فيها تفصيل، ولابد من معرفة ضوابط التبديع أو التفسيق أو التكفير، وهذا قد فصلناه في محاضرة بعنوان (ضوابط التبديع).(132/30)
معنى قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً)
قوله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا الله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} أي: عفواً عما مضى من ذنوبهم وسيئ أعمالهم {وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة، و (منهم) هنا بيانية وليست تبعيضية، (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) هذه بيان لجميع الصحابة، وليست لبعض منهم، والله تعالى أعلم.(132/31)
تفسير سورة الحجرات [1 - 5](133/1)
المناسبة بين سورة الحجرات وما قبلها من السور
نشرع في تفسير سورة الحجرات: لما نوه الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصرح في ابتدائها باسمه الشريف، وسمى السورة به، وملأ سورة الفتح بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وختمها باسمه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، عليه الصلاة والسلام، ومدح أتباعه لأجله، افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل؛ للعد من حزبه، والفوز بقربه، ومدار ذلك على معاني الأخلاق.
وهذه السورة تسمى سورة الآداب، وتسمى سورة الحجرات.
يقول المهايمي: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام، وهو من أعظم مقاصد القرآن.
فمن لم يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام أقصى التعظيم، ويحترمه غاية الاحترام، فإنه لا يستحق أن يعد من بني البشر أو أن ينسب إلى الإنسان العاقل كما سيأتي ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.(133/2)
إثبات مدنية سورة الحجرات وطريقة معرفة المكي والمدني
وهذه السورة سورة مدنية بإجماع المفسرين، وآيها ثماني عشرة، وقيل: هي مدنية إلا آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، ولعل من استثنى هذه الآية استند إلى قول عبد الله بن مسعود: ما كان فيه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فإنه نزل بالمدينة، وما كان فيه ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) فإنه نزل بمكة.
وفي الحقيقة هذا ليس بمطرد.
يعني: أن عبد الله بن مسعود إن كان صح هذا عنه فلابد أنه كان يستثني؛ لأن هذه القاعدة ليست مطردة، لكن حقيقة الأمر أن السور المكية يغلب عليها النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كما في سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس:104]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:108]، هذا في يونس، وفي سورة لقمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33].
كذلك السور المدنية يغلب عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لأن غالب الخطاب كان موجهاً إلى المؤمنين بالفعل في مجتمع المدينة، فيغلب على السور المدنية الخطاب: بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما في سورة البقرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وسورة البقرة مدنية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278].
إذاً: الغالب أن السور المكية يغلب فيها النداء: بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، والسور المدنية يغلب فيها النداء بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن لا توجد آية مكية فيها صيغة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن يوجد سور مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، كآيات سورة الحجرات هذه في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى)) وفي سورة البقرة وهي سورة مدنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]، وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168].
وفي سورة النساء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:174].
كذلك سورة الحج سورة مدنية وفيها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5].
وما ذهب إليه البعض من استثناء هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ} [الحجرات:13] إلى آخره اعتماد على النداء: بـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في أن هذه الآية بالذات في السورة تعتبر مكية، فهذا قول غير صحيح.(133/3)
حث سورة الحجرات على التأدب في الخطاب
انفردت هذه السورة بآداب جليلة أدب الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من التوقير والتبجيل، قال بعض العلماء: كانت العرب في جفاء وسوء أدب عند خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فالسورة فيها الأمر بمكارم الأخلاق، ورعاية الآداب.
ولما كان إيمانهم إيماناً علياً عظيماً طولبوا بآداب تتناسب مع هذا الإيمان العالي، وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممن ليس في درجتهم، يعني: قد يتسامح في ترك بعض هذه الآداب ممن هو دونهم في المرتبة والإيمان؛ لأنه ليس في درجة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكأنه قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل كما في الآيات الأخيرة في سورة الفتح، وبداية هذه السور متناسقة مع خاتمة الفتح ففيها بيان أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد مدحهم الله في كتابه، ونصت الكتب السابقة على الفضل والثناء؛ وبسبب استماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وبسبب معيتهم له عليه الصلاة والسلام كما في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29]، فهذا ثناء الله عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، كذلك قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] إلى آخر السورة الكريمة، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنه درجة لم ينلها غيركم من الأمم، فقابلوا هذا التشريف وهذا التعظيم بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء خطب في الجواب، وصادقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم.(133/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا تقولوا خلاف السنة.(133/5)
تفسير ابن جرير لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
وقال ابن جرير: أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم! لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، محكي عن العرب فلان يقدم بين يدي الإمام بمعنى: يعجل الأمر والنهي دونه.
و (تقدموا) إما متعد حذف مفعوله لأنه أريد به العموم، أي: ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم فيه كل مذهب، والمعنى: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله.
أو أنه فعل متعد لكن نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، فأنت تريد أن تصفه بأنه يعطي ويمنع فقط، ولا تريد أن تعين ما تنتقد يعطي وما يمنع.
وفي هذه الجملة تجوزان: أحدهما: في قوله: ((بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فإن حقيقته ما بين العضوين (اليدين) فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال ابن كثير إنه جيد.
لكنه في الحقيقة حديث منكر، فهو ضعيف ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما حقق ذلك كثير من الأئمة، لكن الشاهد هنا بفرض صحته أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا) بضم التاء هذه قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها، وقد حكي عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا.(133/6)
تفسير القرطبي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية أيضاً: قوله تعالى: ((لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، أصل في ترك الاعتراض على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لإنسان أن يعترض أو يضع رأيه في طريق السنة أبداً، كما قال سفيان: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي.
فهذه الآية أصل أصيل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لـ حفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف -يعني: سريع البكاء والحزن لرقة قلبه- وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
الخطاب هنا (إنكن) في صيغة جمع، لكن المراد به عائشة فقط، قال القرطبي رحمه الله تعالى: والمقصود من قوله: (إنكن لأنتن صواحب يوسف)، أي: مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن الصديق لكونه لا يسمع المؤمنين القراءة من بكائه؛ لكن مرادها أمر زائد على ذلك في الحقيقة، وهو ألا يتشاءم الناس به، ولذا قالت: (خشيت لو أن أبا بكر خلف الرسول عليه السلام في الإمامة فإنه سوف يتشاءم الناس أنه أول رجل حل محل الرسول عليه السلام في الصلاة) فأرادت أن تصرف عنه هذه الإمامة.
وهذا مثل زليخا امرأة العزيز استدعت النسوة، وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] * {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) [يوسف:31] ففي الظاهر أنها دعتهن لأجل الإكرام والضيافة، لكن غرضها في الحقيقة خلاف ما أظهرته، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، فهذا هو وجه الشبه في إظهار خلاف ما يبطن، فعبر بالجمع في قوله: (إنكن) والمراد: عائشة فقط، كذلك أيضاً: (صواحب يوسف) جمع لكن المقصود به زليخا امرأة العزيز.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، أي: في التقديم أو في مخالفة الحكم، والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق العار بك، فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه، ثم تعم وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه لم يرتكب تلك الفعلة، وكل ما يكون في طريقها ويتعلق بسببها.
((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) أي: فحقيق أن يتقى ويراقب.(133/7)
لا دليل لأهل الظاهر في نفي القياس بالآية
وفي الإكليل: قال الكيا الهراسي: قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وعموم الآية يدل على النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه، ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء، وربما احتج بها نفاة القياس، وهو باطل منهم.
يعني: هذه الآية يحتج بها الظاهرية الذين ينكرون القياس كأصل من أصول الشريعة؛ لأن الله قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، ولم يترك دليلاً آخر خلاف الكتاب والسنة، فهذا باطل من هؤلاء القوم، فإن القياس قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يدي الكتاب والسنة؛ إذ قد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس هذا تقدماً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم.(133/8)
تفسير الشنقيطي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((لا تُقَدِّمُوا)) فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الوجه الأول منها وهو أصحها: أنه مضارع (قدم) اللازمة بمعنى: (تقدم) كما تقول: وجه وتوجه، وبين وتبين، ومنه مقدمة الجيش وهي خلاف ساقته، ومقدمة الكتاب، و (مقدمة) اسم فاعل قدم بمعنى: تقدم، والعرب تقول: لا تقدم بين يدي الأبي، يعني: لا تعجل بالأمر والنهي دونه، ويدل على هذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: (لا تَقَدَّموا) وأصلها لا تتقدموا بحذف إحدى التاءين، هذا هو أصح الوجوه.
الوجه الثاني: أنه مضارع (قدم) المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله، بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله.
الوجه الثالث: أنه مضارع (قدم) المتعدية، ولكنها أجريت مجرى اللازم، وقطع النظر عن وقوعه على مفعولها؛ لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [غافر:68]، (يحيي) فعل فهو متعد، يحيى الموتى أو يحيى البشر وهكذا، لكن لما كان المقصود في هذه الآية إثبات اختصاص الله سبحانه وتعالى بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول، فيقطع النظر عن المفعول.
وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، (يعلم) فعل متعد، أي: يعلم الفقه ويعلم التفسير ويعلم الطب، لكن لما أريد مجرد وصف القوم بالعلم، وأنهم لا يستوون مع غير المتصفين بالعلم أجري الفعل المتعدي مجرى اللازم، كذلك (لا تُقَدِّمُوا) يعني: لا تكونوا من المتصفين بالتقديم بقطع النظر عن وقوعه على مفعوله.(133/9)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) أي: إذا نطق ونطقتم فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته؛ ليكون عالياً على كلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا نهي عن أن تكون نبرة صوت أحد المؤمنين أعلى من صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد قال لقمان لابنه وهو يعظه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فتهذيب الأصوات وغضها من الآداب التي تكاد تكون مهجورة، فقد ذم الشرع رفع الصوت بغير عذر شرعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (صخاب في الأسواق) بالسين وبالصاد؟ من الصخب والجلد كالباعة الذين يرفعون الأصوات في الأسواق، فرفع الأصوات بهذه الطريقة المنكرة مما تنفر عنه الشريعة، فضلاً عن أن بعض الناس يقف يعلن عن بعض الكتب، ويرفعون الأصوات على أبواب المساجد، فهذا أيضاً مناف للآداب الشرعية.(133/10)
إهمال الناس لأدب خفض الصوت في المساجد
وقول الله عز وجل على لسان لقمان: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فيه تنفير شديد لرفع الصوت وأن هذا من شأن الحمير، وأنا سمعت من سنوات بعيدة أن أحد علماء الموسيقى في لبنان أسلم بسبب هذه الآية، قال: لأن هذه الآية لا يمكن أن ينطق بها إلا خالق الأصوات، فقوله: إن أشد الأصوات نشازاً هو النهيق الذي يصدر من الحمير، هذه حقيقة علمية في غاية الدقة، فأسلم بسبب هذه الآية! وكان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة كما ثبت في بعض الآثار: (محمد عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق).
أيضاً: مما يناسب هذا مراعاة موضوع الآداب في السوق وفي المسجد، فهذا الأدب يكاد يكون مهجوراً، فلابد من مراعاة الأدب في المسجد بخفض الصوت فيه، فبعد الصلاة يحصل لغط وتشويش، وربما بعض الناس يريد أن يصلي أو يقرأ فيجد الأصوات مرتفعة وكأنه في ناد، ولا أحد يبالي بأدب المسجد.
فالمسجد له احترامه وأدبه، ولا بد من غض الصوت في المسجد احتراماً أو مراعاة لحرمة بيت الله عز وجل، فضلاً عما يحصل من بعض الناس من السلوك فتجده يرفع صوته ويتملكه الغضب، ويصرخ في المسجد بطريقة لا تليق أبداً مع آداب المسجد.
كذلك من الأشياء التي ينبغي الالتفات إليها ضبط السماعات، فأحياناً يكون القائمون على هذا الأمر غير متخصصين ولا يعرفون ضبط السماعات، فيكون الصوت مرتفعاً جداً، وأنا أحياناً أتواجد في بعض المساجد فأضطر أن أضع أصبعي في أذني؛ لأن هذا خطر على أعصاب الأذن، فالصوت العالي يؤثر على حاسة السمع، فلا ينبغي أن نهمل هذا الأمر؛ لأن هذا من أذية المسلمين وأحياناً يكون الإهمال في ضبط السماعات بحيث تصدر أثناء الصلاة صفارات تشوش على الناس الصلاة.
إذاً: هذا أيضاً مما يدخل في الأدب في التعامل مع الناس والأدب مع المساجد، فليبلغ السامع الغائب في أي مسجد، فالمكبرات تؤدي خدمة جليلة في توصيل الخطب خاصة عند ازدحام الناس في صلاة الجمعة أو العيدين، لكن أن تكون السماعات مرتفعة الصوت بهذه الطريقة فهذا يشبه ما يفعله الجهلة الذين يريدون أن يعملوا أفراحاً بأصوات مؤذية، فيؤذون الجيران، فضلاً عن أنها معاص كالأغاني وغيرها، ويسهرون حتى الفجر، ويتعبون جيرانهم، ولا يستطيع أحد أن ينام، ولا يستطيعون أن يفرحوا إلا بهذه الطريقة الفوضوية والغوغائية، كيف يكون هذا فرحاً؟ إن كان لا بد من فساد فاحصره في دارك.
كذلك الذي يتصدق على جيرانه بمزامير الشيطان، ويرفع الصوت فيسمعهم، وبعض الناس يحاول أن يواجه هذا بأن يرفع صوت القرآن، ويذهب الآخر فيرفع الأغاني أكثر، فتحدث عملية عناد بطريقة غير مرضية، فمن الذي أجاز رفع الصوت في القرآن بهذه الطريقة التي تحصل في المساجد؟ سواء كان في المقرئ الذي يأتون به يوم الجمعة أو بعد صلاة العصر، وهذه بدعة، فإذا أراد أحد أن يصلي السنة أو أن يقرأ سورة الكهف لم يستطع.
من قال: لا تقرأ القرآن؟ اقرأ القرآن فهو أفضل ذكر، لكن كل شخص يقرأ وحده دون أن يشوش على الآخرين فالتشويش على جميع المصلين بهذه الطريقة إهدار لحقهم في أن يصلوا صلاة خاشعة، فإذا أراد أحد أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام يوم الجمعة فدعه يتنفل، لماذا تشوش عليه بالصوت العالي بالقرآن؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس يجهر بعضهم على بعض أمرهم أن يخفضوا أصواتهم، فقال: (ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهر أحدكم بصوته على أخيه)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يذهب الشخص إلى بعض المساجد فيندم أنه لم يحضر معه سدادات الأذن، لأن الصوت يكون مؤذياً إلى أقصى مدى، في حين يمكن أن تسمع الخطبة وتفهمها جداً عندما يكون الصوت هادئاً، وليس فيه هذه النبرة.
فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وعندنا عناء كثير بسبب هذا الأمر، وبسبب عدم الوعي بآداب الإسلام؛ ولذلك نقول دائماً: نحن لسنا متخلفين عن الكفار في اهتمامهم بحقوق الآخرين، لكننا متخلفون عن الإسلام الذي علم الدنيا كلها هذه الآداب قبل قرون عديدة ومديدة، فهذه الآداب هي في الحقيقة نابعة من ديننا ومن سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.(133/11)
رفع الصوت عند النبي من الكبائر
قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)).
أي: بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس الذي يضاد الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم.
وروي عن مجاهد تفسيره بندائه، يعني: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً: يا محمد! يا محمد! بل تنادوه: يا نبي الله! يا رسول الله! وقد قال تبارك وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) يعني: مخافة أن تحبط أعمالكم لرفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم.
((وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها.
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة، ولا فرق بينها وبين غيرها، وعمموا الأمر فقالوا: ما دام أن هذه كبيرة محبطة فكل كبيرة محبطة.
ولما كان المحبط للأعمال عند أهل السنة هو الكفر خاصة، تأول علماء أهل السنة هذه الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض للمنافقين القاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعاً لأنه يقصد به الاستهانة بمقامه الشريف، فهي ليست في حق المؤمنين إلا إن قلنا: إنها للتغليظ والتخويف، كوصف المعاصي مثلاً بالكفر.
وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكمة النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا هو حكم الله في التحذير من أن يقع إيذاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.(133/12)
يجوز رفع الصوت عند الحرب
وهناك حالات للجهر لا يتناولها النهي باتفاق العلماء، مثل أن يكونوا في حرب، أو في مجادلة معاند، أو في إرهاب عدو، أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ واستهانة، قال صلى الله عليه وسلم للعباس لما ولى المسلمون يوم حنين: (ناد أصحاب السمرة)، وكان العباس جهوري الصوت، فنادى بأعلى صوته، مع أنه كان في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هل هذا يدخل في قوله: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))؟ لا، لأن هذه حالة جهاد وقتال، ومطلوب فيها رفع الصوت من أجل تجميع الجيش الذي تبدد وتفرق.
والسمرة هي الشجرة التي بايعوا تحتها، وكان رجلاً صيتاً، يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل من شدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعد: زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم أبو عروة كنية العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه زعمت الرواة أن العباس كان يزجر السباع عن الغنم فتنفجر مرارة السبع في جوفه من قوة صوت العباس رضي الله تعالى عنه، لكن كيف لا تفتق مرارة الغنم؟ قيل: لأنها ألفت صوته، لأنه مع الغنم دائماً فتعودت على الصوت، أما السباع فكان يحصل ذلك لها فجأة، والله أعلم من صحة ذلك.
المقصود: أن رفع الصوت هو من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة، حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه، فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام! ثانياً: نقول: إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا أمر ثابت قد نص عليه الأئمة، وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر.
والله عز وجل الموفق.(133/13)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]: سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال، فقال له أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)) إلى آخر الآية.
وهذا ذكره البخاري في صحيحه، وجاء في بعض الروايات: (كاد الخيران أن يهلكا) والخيران أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(133/14)
دلالة الآية على توقير النبي صلى الله عليه وسلم
وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض أي: ينادوه باسمه: يا محمد! يا أحمد! كما ينادي بعضهم بعضاً، وإنما أمروا أن يخاطبوه خطاباً يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله! أو يا رسول الله! ونحو ذلك.
((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) أي: لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم.
((وأنتم لا تشعرون)) أي: لا تعلمون بذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واحترامه جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]، هذا على القول بأن الضمير في (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف:157].
وقوله هنا: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))، أي: لا تنادوه باسمه يعني: لا تقولوا له: يا محمد! وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وهذه من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تدل على تفضيله على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى كان يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير، ولا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد أو يا أحمد، وإنما: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} [البقرة:35]، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104]، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48]، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص:26].
أما محمد صلى الله عليه وسلم فلا ينادى بالاسم لكن جاء اسمه في قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144].
وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2].
وقال أيضاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29].
وقد بين تبارك وتعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى أي: أخلصها لها، وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].
وقال بعض العلماء في قوله: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))، أي: لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض.
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر، وقد قال القرطبي: إنه ليحبط عمله بغير شعوره.
لأن قوله: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) يدل على أنه يمكن أن يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر.
وقال ابن كثير: قوله عز وجل: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك؛ فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري.
ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط، وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً لا يجوز، ولا يليق إقرارهم على ما هم عليه من المنكر، وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.(133/15)
كفر المستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم
ثم يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى مسألتين فيقول: الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه، أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به، ردة عن الإسلام وكفر بالله، وقد قال الله تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم: وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].(133/16)
وجوب التمييز بين حقوق الله وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم
ثم يذكر المسألة الثانية ويقول: وهي من أهم المسائل: اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله سبحانه وتعالى، فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب، ودهمته الدواهي، لا يجوز إلا لله وحده؛ لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله، وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا.
فبعض الناس تسول له نفسه أن يغالي ويفرط في تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام إلى حد يوقعه في الشرك، ويظنون أن حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام وإرادة تعظيمه تشفع لهم في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية؛ لأن سر ارتفاع مقام النبي عليه الصلاة والسلام عن العالمين أجمعين ما هو إلا إمعانه في تحقيق العبودية، والعبودية هي غاية الحب مع غاية الذل، فما ارتفع عند الله إلا لأنه بلغ غاية الذل وغاية الحب لله عز وجل التي لا يصل إليها أحد على الإطلاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من تواضع لله رفعه الله)، فهو كان أشد الناس تواضعاً لله، وهذا هو سر رفعة النبي عليه الصلاة والسلام.
فبعض الناس قد يظن لجهله أنه إذا مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمديح فيه غلو أنه تشفع له هذه المحبة، حتى لو كان هذا الأمر مما لا يجوز أن يصرف إلا لله، انظر مثلاً إلى قول البوصيري في البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم وقول بعضهم: محمد زينة الدنيا وبهجتها محمد كاشف الغمات والظلم هل هذا حق؟ كلا، هذه من خصائص الربوبية التي لا تُصرف إلا لله عز وجل.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا سمع بعض الناس يخطئ في بعض العبارات يغضب غضباً شديداً، كقول الرجل مثلاً: ما شاء الله وشئت، فغضب وقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده).(133/17)
براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يغالون فيه
والرسول يبرأ إلى الله من هؤلاء الذين يغالون في تعظيمه من إفراط في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد مدحه الله بالعبودية في أشرف المقامات كما قلنا في مقام الدعوة، وفي مقام الإسراء، وفي مقام التحدي، فلا بد أن نميز بين ما هو حق خالص لله، وبين ما هو حق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلا شك أن المضطر لا يجوز له أن يفزع إلا إلى الله سبحانه وتعالى، لكن تجد بعض العوام -للأسف- يقوم وهو ثقيل الجسم، ويريد أن يقف فيقول: يا رسول الله! المدد يا رسول الله! وهذا شرك! لأن المدد لا يطلب إلا من الله عز وجل، والرسول كان يطلب المدد من الله.
فالدعاء من التوحيد، وصرفه لغير الله شرك حتى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يشرك مع الله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، يقول سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] يعني: إجابة المضطرين الداعين، وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية كخلق السماوات الأرض، وإنزال الماء، وإنبات النبات، والحجز بين البحرين، فهذه الآيات تبين كل الخصائص، كما في آيات سورة النمل قال تعالى: ((أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) يعني: أئله مع الله فعل ذلك؟ {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63]، وقال تبارك وتعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وللأسف نهج شوقي نهج البوصيري في قصيدة البردة، وإذا به يختمها بقوله: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا سألت الله في أبناء ديني فإن تكن الوسيلة لي أجابا وما للمسلمين سواك حصن إذا ما الضر مسهم ونابا ترى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمع هذا الكلام هل كان يقر هذا الشاعر على هذا الشرك؟! لا يمكن.(133/18)
بعض من ينتسب إلى الإسلام أسوأ حالاً من المشركين في الشرك
سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه: أنه لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة خرج فاراً منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف؛ فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم، فلأجدنه رءوفاً رحيماً! فخرجوا من البحر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وللأسف أنه يوجد بعض المتسمين باسم الإسلام وهم أسوأ حالاً من هؤلاء الكفار المذكورين؛ لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله عز وجل، كما يفعلون عند قبور الأنبياء ومن يعتقدون فيهم الصلاح، وهذا معروف ومجرب، وهناك أخبار كثيرة منقولة منها: أن الشخص يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً لا يبالي، لكن إذا قلت له: احلف بشيخك، أو احلف بـ البدوي أو بـ الحسين أو بكذا، يتلعثم ويتردد ثم يقر بالحق! فهذا لا شك أنه من تلبيس إبليس على هؤلاء الناس الذين يصرفون خصائص الربوبية لغير الله.
ويقول تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]، بل الذي كان يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به، فإن الله أمر في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].(133/19)
المغالي في تعظيم النبي عدو لله وإن ادعى المحبة
يقول الشنقيطي: واعلم أن كل عاقل رأى رجلاً متديناً في زعمه، مدعياً حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل الماء من السماء، وأنبت به الحدائق ذات البهجة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله، المتعدين لحدود الله.
فلا فرق بين إجابة المضطرين وبين كشف السوء عن المكروبين، فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل، وأن نعظم ربنا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله، والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به.
وأثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه وأصحابه لالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9].
ثم يقول الشنقيطي: اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات، فيخلص تقربه بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يصرف شيئاً منها لغير الله كائناً ما كان، والظاهر أن ذلك يشمل هيآت العبادة.
يعني: كما أن العبادة لا تصرف إلا إلى الله، كذلك هيآت العبادة، فبعض الناس يذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام القبر، ويضع يده اليمنى على اليسرى كما يفعل داخل الصلاة، وهذه هيئة من هيآت الصلاة، فينبغي أن تكون خالصة لله، كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيآتها لله تبارك وتعالى وحده.
والعبادة أنواع فمنها: عبادات قلبية، وبدنية، ومالية، وقولية: فمثال القلبية: الحب والرجاء، والتوكل، والإنابة، واليقين ونحوها.
وهناك عبادات قولية مثل: الذكر والحلف والنذر وقراءة القرآن وهكذا.
والعبادات المالية كالزكاة والصدقة والنذر والحج ونحو ذلك.
والعبادات البدنية كالصيام والصلاة والجهاد ونحو ذلك، فكل هذه العبادات لا ينبغي أن توجه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يحلف إنسان إلا بالله، فإذا حلف بغير الله فقد وجه العبادة إلى غير مستحقها حتى لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(133/20)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)
يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].
((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ)) أي: يبالغون في خفضها ((عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)).
قال ابن جرير: أي: اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني: لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار فيخلص جيدها، ويبطل خبثها.
((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: ثواب جزيل وهو الجنة، وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين.(133/21)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].
((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ)) أي: يدعونك ((مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ)) أي: خارج الحجرات يعني: خلفها أو قدامها على أن (وراء) من المواراة والاستتار، أي: فما استتر عنك فهو وراء خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره.
وقيل: هي من الأضداد، فهي مشترك لفظي.
قيل: ((الذين ينادونك)) يدعونك ((من وراء)) أي: خارج الحجرات عند كونك فيها؛ استعجالاً لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال.
((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) إذ لا يفعله محتكم، فلا يراعون حرمة أنفسهم ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر؛ لأنه ليس المقصود أن جميعهم فعل ذلك، لكن قد يتبع شخص عاقل جماعة من الجهال موافقة لهم، فيسلك في نظامهم، فلذلك نسبه إليهم مع أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، يفهم أن فيهم من يعقلون، لكن هؤلاء تبعوا جماعة الجهال.
وقال القرطبي: ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضاً من الجملة، فلهذا قال: ((أكثرهم لا يعقلون)) أي: إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.(133/22)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم)
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5].
يعني: لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه صلى الله عليه وسلم، وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة مع اتصافهم بالصبر ورعاية الحرمة لنبيهم ولأنفسهم.
((والله غفور رحيم)) أي: لمن تاب من معصية الله، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.(133/23)
سبب نزول الآية
قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي فيما أورده غير واحد، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس: (أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد يا محمد، وفي رواية: يا رسول الله! فلم يجبه، فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل) يعني الأقرع أنا الذي إذا مدحت أحداً وأثنيت عليه زانه ذلك، وإذا ذممت أحداً شانه ذلك، ولحق به العار، فأقحمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطل دعواه واغتراره بنفسه، بأن قال: ذاك الله عز وجل أي: الله وحده هو الذي حمده زين وذمه شين.
وروى ابن إسحاق في ذكر سنة تسع -وهي المسماة سنة الوفود- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد؛ فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم، ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً، ثم قال: وفيهم نزل من القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.(133/24)
كلام الزمخشري في الآية
والحجرات بضمتين أو بفتح الجيم أو سكونها -قرئ بهن جميعاً- جمع حجرة، وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، كفعلة بمعنى: مفعولة كالغرفة والقبة والظلمة، فأصل كلمة الحجرة من الحجر والحجر المنع، وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه.
قال الزمخشري: المراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لكل واحدة منهن حجرة.
ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، أو أنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو أنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفعل وإن كان مسنداًً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعاً.
قال الزمخشري: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله؛ منها: مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل؛ لما أقدموا عليه ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)).
ومنها: لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها: المرور على نظمها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها: التعريف باللام دون الإضافة.
فلم يقل: بحجرات رسول الله، وإنما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ).(133/25)
صفات الحجرات النبوية
عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشى من خارج بمسوح الشعر.
وعن الحسن قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى الناس لذلك.
وقال سعيد بن المسيب يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى عليه وسلم في حياته؛ فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها.
ومن الأمور التي تبين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الآية أنه شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له.
لأنه عندما يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، كأن الله سبحانه وتعالى يذكر له أن هؤلاء القوم جهلة، فهذه تسلية له ومواساة لتخفيف هذا الأذى وهذا الخطب، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم.(133/26)
بيان تعظيم النبي في سياق سورة الحجرات
والسياق من أول السورة إلى آخر هذه الآية وارد في التأديب، فانظر كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد: ((لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، في أي أمر من الأمور.
ثم أردف ذلك النهي ما هو من جنس التقديم؛ من رفع الصوت والجهر بالقول، كأن الأول بساط للثاني فقال: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)).
ثم ذكر ما هو ثناء على الذين يتجنبون رفع الصوت: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)).
ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه؛ لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد -ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.(133/27)
كراهة رفع الصوت عند القبر النبوي الشريف
قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما -رماهما بالحصباء- ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً).
وقال سليمان بن حرب: ضحك إنسان عند حماد بن زيد وهو يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فغضب حماد وقال: إني أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ميت كرفع الصوت عنده وهو حي.
وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم.
فكيف لو رأى ما يحصل الآن من بعض الجهلة الأجلاف! تناقشه ثم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظل يرفع صوته ويجادل، وكان الأدب يقتضي أنك متى سمعته يقول: قال رسول الله لا بد أن تتأدب وتسكت إلى أن يتم كلامه، هذا من الأدب عند تلاوة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(133/28)
تعدد أسباب النزول وبيان وجه ذلك
روى البخاري عن عبد الله بن الزبير: (أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك؛ فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما؛ فنزل في ذلك: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) حتى انقضت الآية).
وفي رواية: (فأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]) (قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) يعني: كان يبالغ في خفض الصوت، حتى إن الرسول عليه السلام كان يستفهمه يقول: ماذا تقول؟ لشدة خفضه لصوته عند النبي بعد نزول هذه الآية.
وهذا الحديث رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما هو في التأمير، في أول السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، لكن لما اتصل بها قوله: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ)، تمسك عمر منها بخفض الصوت، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم.
فهذا الاستشكال الجواب عنه: تعدد سبب النزول، وهذا كما قلنا مرارًا: إن قول العلماء أو السلف: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، ويشمله حكمها، لا أنه سبب لنزولها بالفعل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا.
انتهى كلام شيخ الإسلام.
يقول القاسمي: وبه يجاب عما يرويه الكثير من تعدد سبب النزول فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله، ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات يجعل بعضها لسبب وبعضها لآخر في قصة واحدة، وبالله التوفيق.(133/29)
تفسير سورة الحجرات [6 - 10](134/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) من التبيين، وقرأها حمزة والكسائي: (فتثبتوا) من التثبت.
ومعنى قوله تعالى: (فتثبتوا) أو (فتبينوا) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر.
يعني: عن طريق البحث أو عن طريق آخر ووسيلة أخرى للتثبت مما جاءكم به من الخبر، ولا تقتصروا على خبره كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة، هذا هو نسق التفسير: كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة.
والجهالة هنا هي: أن يجهل حال القوم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] كذلك هنا: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) أي: قوماً برآء مما قذفوا به؛ بغية أذيتهم بجهالة منكم لعدم استحقاقهم إياها.
فمعنى قوله تعالى: (أن تصيبوا): لئلا تصيبوا، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] يعني: يبين الله لكم لئلا تضلوا.
فإذا قذفتم هؤلاء القوم البرآء مما هم برآء منه بغية أذيتهم بجهالة، على أساس أنكم تفعلون ذلك لاعتقادكم أنهم يستحقون ذلك طبقاً لخبر الفاسق، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم، فهذه الإصابة وهذه الأذية تجعلكم تُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ يعني: على ما فعلتم من العجلة وترك التأني.
أي: ستندمون على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.(134/2)
ذكر ما روي في سبب نزول الآية
وهنا تنبيهات: الأول: يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا عيسى بن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة؛ فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان -أي: الأجل- الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا بسروات قومه -يعني: بأشرافهم- فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -يعني: خاف- فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك.
قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا رآني، ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]).
هذا الحديث رغم شهرته إلا أنه لا يصح، وإنما تلوناه بطوله كي تنتبهوا إلى هذا، فإن هذا الحديث ضعيف، ورواه أيضاً الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، فالحديث ضعيف وإن كان مشهوراً على ألسنة الخطباء.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك.
وزاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التثبت من الله، والعجلة من الشيطان) وهذا حديث صحيح.
وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم: ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل وغيره في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله تعالى أعلم.
وقال ابن قتيبة في المعارف: الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، وأمه أروى بنت شريح، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقاً إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة.
وكان كاذباً؛ فأنزل الله هذه الآية.
وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر وهو سكران أربعاً، وقال: أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحدَّه، ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية ومات بناحية الرقة.(134/3)
من فوائد الآية رد خبر الفاسق
التنبيه الثاني فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة: أن في الآية رد خبر الفاسق، وأنه يشترط العدالة في المخبر، فلا يقبل الخبر إلا من عدل، راوياً كان أو شاهداً أو مفتياً.
ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل؛ لأن منطوق الآية رد خبر الفاسق، فيفهم من ذلك أنه إذا كان عدلاً قبل خبره.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.(134/4)
تحريم سوء الظن
ولا شك أن هذه الآية مما يستدل به على تحريم سوء الظن وإن كان في باقي الآيات إن شاء الله تعالى فيما يأتي النهي عن هذا الظن السيء وعدم تحقيق الظن، إلا أنه يؤخذ من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) التنبيه إلى تحريم الغيبة بالقلب؛ لأن الغيبة بالقلب هي سوء الظن، بأن يسيئ ظنه بأخيه في نفسه دون أن يتكلم بذلك، والذي يحمله عليها قبول خبر أفسق الفساق وهو إبليس لعنه الله، فهو أولى من يصدق عليه قول الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا).
(أن تصيبوا) أي: كراهة أن تصيبوا (قوماً بجهالة) فهذا مما يستدل به على تحريم سوء الظن بالمسلم.
(فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) لأن قبول خبر الفاسق يؤدي إلى الرغبة في الانتقام من هذا الفاعل أو معاقبته أو أذيته، فإذا بادرت وعاقبته وتعجلت بناءً على هذا الخبر من الفاسق، فربما يتبين لك بعد ذلك أنه كان مظلوماً، فيملؤك الندم على ما فعلت من ترك التثبت، وعدم الحيطة، وقبول خبر الفاسق.(134/5)
الحذر من تناقل الكلام قبل التثبت وإيذاء الناس بذلك
ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أكذب الكذب أن يتلقى الإنسان الأخبار دون تحر ويشيعها في الناس، كما جاء في الحديث: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع).
وبعض الناس يسوغ لنفسه الخوض في الباطل والظلم ونحو ذلك، بحجة أنه ليس عليه وزر إنما هو ناقل، فيظن أنه قد برئت ذمته من الإثم، وأن العهدة على من سبقه في السلسلة؛ لكن الحديث المذكور يبين أن الإنسان لا يعذر لكونه ناقلاً فحسب، وإنما هو مطالب بالتثبت فيما ينقله، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً) يعني: لا كذب أكثر من ذلك (أن يحدث بكل ما يسمع)، ففي هذا وجوب التثبت قبل تناقل الكلام وتداوله.
وفي هذا الجزء من الآية: ((فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) تقرير التحذير وتأكيده، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: ((أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)) فبين الله سبحانه وتعالى أن ذلك ليس مما لا يلتفت إليه، أي: لا تستهينوا بهذا الأمر ولا تحتقروه، بل إنكم قد تحسبونه هيناً ويكون عند الله عظيماً.
فقد يقول قائل: هب أني أصبت قوماً فماذا علي؟ فيأتي
الجواب
( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فلا تقل: فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم، ومثل هذا الشيء يجب الاحتراز منه، فشيء يترتب عليه ظلم الآخرين وأذيتهم بدون حق ليس بالأمر الهين، بل يستحق العقوبة، ويستوجب الندم والغم والهم الدائم والحزن المقيم.
قال تعالى: ((فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) ولم يقل: (فتندمون)، كأنها تظل صفة أساسية مستمرة على هذا الذنب.(134/6)
عظم ندم المؤمن على المعصية بخلاف المنافق
وبجانب إفادة الآية تقرير التحذير في تلقي الأخبار وتأكيده، فإنها من جهة أخرى تفيد مدح المؤمنين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) أي: فأنتم أيها المؤمنون لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها، صحيح أن المؤمن غير معصوم ولا منزه عن الخطأ، لكن شأن المؤمن أنه إذا ذُكِّر ذَكَر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مُفَتَّناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) أي: انتفع بالتذكرة واستفاد منها، كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وبين في الآية الأخرى من الذين ينتفعون بالذكرى في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
ولم يمدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم لا يفعلون سيئة، وإنما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (ويل لأقماع القوم الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالأقماع؛ لأن القمع إذا أدخلت فيه سائلاً من أعلاه ينساب من أسفله فلا يستقر فيه، كذلك هذا تأتيه التذكرة وتنفذ إلى أذنه لكنها لا تستقر، بل تخرج من الأذن الأخرى، أو لا تدخل أصلاً.
هؤلاء هم أقماع القوم، بخلاف المؤمن، فالمؤمن إذا فعل سيئة ليس هو ممن لا يبالي بها، كما جاء في الأثر: أن المؤمن يرى ذنبه كأنه جبل واقع على رأسه من الهم والحزن، (أما المنافق فيرى الذنب كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا).
فالمؤمن يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى الذي خالف أمره، فيرى ذنبه كأنه جبل على رأسه يحمله، وهذا ما نفهمه من معنى قوله تعالى: ((فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))؛ لأن المؤمن إذا وقع في هذا المحظور المنهي عنه وهو ظلم الناس أو أذية الناس بسبب تناقل الأخبار يندم على ذلك، وليس كالمنافق الذي لا يبالي ويقول: وماذا علي؟ فكان ماذا؟ أما المؤمن فإذا حصل منه ذلك فإنه يشفق على ما فعل نادماً، وهذا من أركان التوبة، بل هو أهم أركانها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة!).(134/7)
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم عليم حكيم)
ثم يقول تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8] يقول شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله! أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره.
أي: فوجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينكم ليس بالأمر الهين، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل أو تفتروا الكذب، فإن الله يوحي إليه ويخبره بأخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره.
((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)).
يقول الطبري: أي لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم؛ لنالكم عنت يعني: شدة ومشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم؛ لأنه كان يخطئ في أفعاله لو أنه بنى أفعاله وتصرفاته على كلامكم، لأنكم غير معصومين، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق -يعني: إذا صح هذا الحديث- أنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم ما لا يحل لكم وله أخذه من أموال قوم مسلمين؛ فنالكم من الله بذلك عنت، والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد.
وقيل: إن قوله تعالى: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) مستأنف، ورد ذلك الزمخشري بأن قال: يمتنع هذا الاحتمال لأدائه إلى تنافر النظم.
يعني أنه لو اعتبر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ) كلاماً مستأنفاً لم يأخذ الكلام بحجز بعض؛ لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إذا قطع عما بعده.
وأجيب عن كلام الزمخشري بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم.
أي فنقرأ: (واعلموا أن فيكم رسول الله) ونقف عليها، وذلك على القول بأن ما بعده مستأنف، وهو قوله: (لو يطيعكم).
وعلى التفسير الثاني: يكون المقصود بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إعلامهم بقدرة وجلالة محله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه مادام فيهم، ولا يتبعوا آراءهم حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، وبهذا يتبين جواز الاستئناف والوقف على رسول الله.
إذاً يجوز وصل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)) ويجوز الوقف فتقول: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)) ثم تبدأ فتقول: ((لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)).
قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي: فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأتموا به، فيقيكم الله بذلك من العنت الذي كان سيقع عليكم فيما لو استتبعتم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيكم.
(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) أي كره إليكم الكفر بالله، والفسوق: الكذب، والعصيان: مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به.
(أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: أولئك هم الموصوفون بمحبة الإيمان وكراهة غيره.
والمعنى أن هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: السالكون طريق الحق.
والراشدون: من الرشد، والرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، يعني: شدة تمسك به، والرشاد الصخرة.
قوله: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي: إحساناً منه ونعمة أنعمها عليكم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه وتصريفهم فيما شاءه من القضاء.(134/8)
تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)
قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أي: تقاتلوا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
قال ابن جرير: أي: أصلحوا بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
(فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى).
أي: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها وعليها، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أي: ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه.
قوله: (فَإِنْ فَاءَتْ) أي: رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله في كتابه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) أي: بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: سيجازيهم أحسن الجزاء.
وقول الله تبارك وتعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) يقال: قسط، إذا جار وظلم، والفعل هنا (وَأَقْسِطُوا) من (أقسط) إذا أزال الجور والظلم، يقال: إذا جاء القِسط زال القَسط.
(إذا جاء القِسط) يعني: العدل، (زال القسَط) يعني: الجور.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فيجازيهم أحسن الجزاء.
قال القاشاني: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية، والإصلاح إنما يكون من نزول العدالة في النفس التي هي ظل المحبة والوحدة، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما، والقتال مع المظلومة على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع، لكون الباغية مضادة للحق دافعة له.
وقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الطائفة: تطلق على الواحد فأكثر.(134/9)
المعاصي لا تذهب الإيمان بالكلية
وهذه الآية يستدل بها في مسألة مهمة متعلقة بقضايا الإيمان، وهي: أن المعاصي لا تذهب الإيمان ولا تستأصله وإنما تنقصه.
فلا نقول كالمرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وإنما نقول: الذنب يضر.
وكذلك لا نقول كما قالت الخوارج في الطرف الآخر: إن المعصية كفر وخروج من الملة.
لكننا أهل السنة وسط بين الإفراط والتفريط في هذه المسألة وغيرها من المسائل، فالسنة بين الغلو والجفاء، فإذا قال الخوارج: إن المعصية تخرج من الملة.
ويكفر صاحبها، وقال المرجئة في الطرف الآخر: إن المعصية لا تضر على الإطلاق بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فأهل السنة يقولون: كلا، لا هذا ولا ذاك، وأهل السنة مع الحق الموجود في كل من الطائفتين، وفي نفس الوقت بريئون من ضلالهما، فنحن نقول: إن المعصية تضر، لكن ضررها لا يذهب بأصل الإيمان، ولا يقتلع شجرة الإيمان، وإنما تنقص كمال الإيمان.
فهذه الآية مما يستدل به على أن الكفر كفران: كفر أكبر، وكفر أصغر، فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج صاحبه من الملة، وأما الكفر الأصغر فهو الكفر العملي الذي ينقص الإيمان.
وقد ورد وصف قتال المؤمن بالكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد ورد ما يدل على أن القتل ليس خروجاً من الملة إلا بالاستحلال، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فالمخاطبون بهذه الآية موصوفون بالإيمان، مع أن فيهم من قتل أخاً له؛ لأن القصاص يكون في القتلى.
ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فأثبت له أخوة الإيمان مع وقوع القتل، فدل على أنه لم يكفر بالقتل، ولم يخرج به من الملة، وإنما يستحق بذلك الوعيد والعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) يعني: هذا هو الوعيد، ومعلوم أن الوعيد لا يتحقق إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع.
هنا أيضاً قال تبارك وتعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فوصفهم بالإيمان وأمر بالإصلاح بينهما، وقال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فأثبت أخوة الإسلام مع وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل بالكفر، فهذا كله مما يدل على أنه كفر دون كفر، وكل معصية من شعب الكفر يطلق عليها كفر، وكل طاعة من شعب الإيمان يطلق عليها إيمان كما سبق أن بينا ذلك بالتفصيل.(134/10)
سبب نزول الآية وذكر المقصود بالاقتتال
قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح.
وروي ذلك من طرق عديدة مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقياً.
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى: الكفر، والقتال بمعنى: الدفع مجازاً، قال فيما رواه الطبري عنه: كانت تكون الخصومة بين الحيين فيدعوهم إلى الحكم فيأبون أن يجيبوا؛ فأنزل الله: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)) أي: تخاصموا.
((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)).
قوله: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع.
وقال اللغويون: ليس كل قتال قتلاً، وقال الشافعي رحمه الله: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.(134/11)
ذكر السيوف التي بعث الله بها رسوله
وهذه الآية هي أحد السيوف التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قد بعث بعدة سيوف.
السيف الأول: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يقتلوا، والدليل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس -أي: المشركين- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، فهذا السيف الأول سيف على المشركين حتى يسلموا، ودليله الأوضح من القرآن الكريم آية السيف قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
السيف الثاني: سيف على أهل الكتاب حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ودليله أيضاً في سورة براءة.
السيف الثالث: سيف على أهل الإسلام، والمقصود بهم البغاة من أهل القبلة، وهم الفئة الممتنعة ذات القوة والعدد الذي تخرج بتأويل سائغ، وهذا النوع من السيوف لم يعمل به في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كان أول من علم الأمة فقه قتال البغاة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وحتى إذا قلنا: إن المقصود بالقتال الخصام على أساس القول المجازي في اللغة، فيمكن أن يحمل على أن الخصام يفضي إلى القتال أو إلى القتل، فلا مانع من أن يراد بالآية ما هو أعم لتكون الفائدة أشمل.(134/12)
من أحكام قتال البغاة
يقول الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.
يعني: هو في حد ذاته بصفته مسلماً معصوم الدم، لكن لما خرج على الإمام بقوة مسلحة على الخليفة في جماعة وعصابة استحق أن يقاتل لا بغرض قتله، وإنما بقصد تعجيزه عن التمرد على الخليفة، فالمقصود من قتال البغاة أن يعجزوا عن رفع السيف على الخليفة، وليس المراد استحلال دمائهم.
ولذلك نلاحظ فروقاً كثيرة بين قتال البغاة وقتال الكفار، ففي البغاة المقصود هو تعجيزهم لا استحلال دمائهم، فمثلاً الفار من ساحة القتال لا يتبع بخلاف حالة الكفار، والجريح لا يجهز عليه؛ لأنه بجرحه قد تحقق تعجيزه عن الخروج على الإمام، ولا تسبى نساؤهم لأنهم مسلمون، وغير ذلك من الأحكام، يقول الإمام الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، كحال الباغي فإنه يحل قتاله إلى أن يعجز، لكن لا يحل قتله لأنه مسلم معصوم الدم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في الإكليل: في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وأن من رجع من أهل البغي وأدبر لا يقاتل، لقوله: (حَتَّى تَفِيءَ) فمن أدبر وهرب من ساحة القتال كان ذلك نوعاً من الفيء والرجوع عن التمادي في التمرد.
وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لـ علي يوم الجمل: لا يقتل مدبر، ولا يجهز على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن! لأن هؤلاء كانوا بغاة وليسوا كفاراً، فصرخ صارخ لـ علي يوم الجمل: (لا يقتل مدبر) اي أن من يفر من الساحة لا يقتل ولا يتتبع، (ولا يجهز على جريح) فمن جرح وفقد القدرة على الاستمرار في القتال لا يجهز عليه، بخلاف جريح الكفار، (ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن).
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية؛ لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم، وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم، ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيداً، يعني: إن كان القتيل من أهل العدل ومن الفئة التي هي مع الإمام الحق ففي هذه الحال يكون شهيداً، فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار.
هذا الكلام كله لم يعجب الخوارج؛ لأن الخوارج يأخذون بأقصى طرف في هذه المسألة، فلذلك نقموا على علي رضي الله تعالى عنه هذا المسلك مع البغاة، فكان مما أخذوه على علي رضي الله تعالى عنه أنه لا يسبي نساءهم ولا يغنم أموالهم، بناءً على أنهم كفروا عند الخوارج؟! أما ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلما بعث من قبل علي كي يناظرهم فقد قال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها؟! وإن أظهر قوم رأي الخوارج ومذهبهم المنحرف، كاعتقادهم تكفير من ارتكب كبيرة، أو ترك الجماعة -خرج على الجماعة- واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم ما داموا لم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم، لكن يتعرض لهم بإقامة الحجة والجدال بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأساليب السلمية، لكن لا ينصب لهم القتال إلا إذا اجتمعوا للحرب، وإن جنوا جناية وأتوا حداً يقيمه عليهم الإمام.
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلفت على الأخرى.(134/13)
من فوائد الآية
وفي الآية فوائد منها: أن البغاة لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، فهم مازالوا من أهل القبلة، ولهم أحكام أهل القبلة، فوقوع ذنب القتال مع البغي لا يخرجهم من الإيمان كما بينا وذكرنا الأدلة على ذلك.
وفي الآية أن الله سبحانه وتعالى أوجب قتالهم؛ لأن هناك أمراً بالقتال: ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم.
وفيها أيضاً قتال كل من منع حقاً عليه، والأحاديث بذلك مشهورة، منها ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله) والحديث متفق عليه.
وأجمع الصحابة على قتال البغاة، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، والحقيقة نحن نستفيد في فقه قتال البغاة مما حصل في قتال علي رضي الله تعالى عنه مع الفئة الباغية، أما أول من قاتل البغاة فهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد قاتل طائفة من أهل القبلة وهم مانعو الزكاة، لكن لما اختلط الأمر كان الذين يقاتلهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منهم من منع الزكاة بتأويل، ومنهم من ارتد عن الإسلام، إلا أنه غلب على تلك الحروب اسم حروب الردة، فهذا الإطلاق هو على سبيل التغليب؛ لأن منهم من منع الزكاة متاولاً قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] قالوا: أما بعد النبي عليه الصلاة والسلام فليس للإمام أن يأخذ منا الصدقة؛ لأنه ليست دعوته وتزكيته كفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا تأويل اجتمعوا عليه وقاتلوا من أجله في منع الزكاة، ولم يرتدوا عن الإسلام.
فإذاً: أبو بكر يعتبر أول من قاتل البغاة؛ لكن لم يتمحض قتاله للبغاة، وإنما اختلط بقتال أهل الردة، وكان ذلك الغالب، فأطلق عليها إجمالاً حروب الردة، أما علي رضي الله تعالى عنه فقد قاتل أهل الجمل وأهل صفين.(134/14)
أحداث العراق والكويت ومغبة التحاكم إلى غير الشرع
وتدل الآية أيضاً على وجوب معاونة من بغي عليه، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: ((فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)).
ولا شك أننا بعد أحداث الخليج وما حصل من غزو الكويت كنا أحوج ما نكون إلى تطبيق هذه الآية، ولكن من الذي يعتبر نفسه مخاطباً بوصف الإيمان حتى يفعل ذلك؟ أعني أن حادثة العراق والكويت مما يؤرخ له، وقد اختلف ما بعدها تماماً عما قبلها كحادثة الفيل وغيرها من الأحداث العظيمة، ولا يخفى الشر الذي حصل، وكأنه والله أعلم هو المقصود من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ويل للعرب من شر قد اقترب)، فبمجرد حصول هذه الفتنة وعدم الإصغاء إلى حكم الله سبحانه وتعالى ذاقت الأمة على جميع المستويات الويل من تلك اللحظة، فما من أحد إلا ودفع الثمن، لا أقول العمال الذين فقدوا مرتباتهم، فهذه أبسط الأشياء، ولكن هذه الأمة التي طحنت وأهينت ومزقت شر ممزق، وإلى الآن لا نزال نسمع صراخ مندوبي العراق في كل المنتديات الدولية: ارفعوا العقوبات! ارفعوا العقوبات! وذلك بعد أن دمر كل ما عندهم من السلاح، وهلك الأطفال من الجوع، وحصل التشرد وغيره من البلاء الذي وقع بالأمة.
فانظر كيف ندفع ثمن حماقة الحمقى من هؤلاء الظالمين، بسبب تغلب رأيهم وعنادهم أو لغير ذلك من الأسباب، فهذا أنموذج من نماذج حرمان الأمة من هدي القرآن الكريم، ومن تحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى فيما بينها، ولو قدر أنه حصل تحكيم فعلي للشرع -على ما هم فيه من الانحراف عن الإسلام- وحسم الأمر بطريقة شرعية كما هو المندوب إليه في هذه الآية، لما حصل ما حصل الآن.
لكن جاءت الجيوش الغربية بقضها وقضيضها، وملأت الجزيرة العربية بحجة حماية البترول، ثم بعد ذلك بقيت كل هذه الجيوش المجيشة عند عصابة اليهود في فلسطين وديعة من حق اليهود أن يستعملوها عند الحاجة، فهي باقية راسخة، ولا يستطيع أحد أن يزحزحها، فكل هذا الشر إنما أتى من شؤم مخالفة أمر الله عز وجل الذي توضحه هذه الآية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
وقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، هذا ليس على إطلاقه، حتى يبدأ المؤمنون بظلم بعضهم البعض، ويبغي بعضهم على بعض، ويستحل بعضهم بيضة بعض، فحينئذ يعاقبون بتسليط الكافرين عليهم.
فهذا كله من شؤم الانحراف عن هدي كتاب الله، فنحن جميعاً ندفع الثمن، لا يوجد أحد على الإطلاق لم يدفع الثمن سواء في العراق أو في غيرها، فالناس في كل البلاد الإسلامية يدفعون الثمن، ويتحملون ما هم فيه من ذل وهوان واستضعاف من قوى الكفر، حتى وصلوا إلى تجريد الأمم الإسلامية من أسلحتها وتدميرها، وإضعاف اقتصادها، إلى غير ذلك من الشؤم والنحس الذي جره على المسلمين هؤلاء الطواغيت، فإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى! فهذه لفتة لبيان بركة تحكيم كتاب الله على الأمة كلها، وشؤم النفور والاستكبار والانقياد لحكم الله سبحانه وتعالى، والذي أدى إلى الاستغاثة بالكفار، كي يمنعوا ظلم هذا الطاغية، فالله المستعان.(134/15)
وجوب النصح وإصلاح ذات البين
فهذه الآية تدل أيضاً على وجوب تقديم النصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقال عز وجل أيضاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فساد ذات البين هي الحالقة، وقال: (لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).
فالآية تفيد وجوب تقديم النصح: ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر في قوله: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) يعني: ليس بمجرد الكلام والاقتراح، ولكن بالسعي الدءوب والعملي إلى الإصلاح، حتى لو وصل إلى قتال الفئة الباغية، فإذاً: هذا يدل على أن النصح ليس نصحاً مجرداً، وإنما معه إجراءات عملية.
وهنا الآية بدأت بمثنى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فوجه الجمع في (اقتتلوا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ؛ لأن الطائفتين بمعنى القوم والناس، والنكتة في اعتبار المعنى أولاً واللفظ ثانياً عكس المشهور في الاستعمال -فالمشهور في الاستعمال اعتبار اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً- والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولاً في حال انقسامهم مختلفون مجتمعون، فلذا جمع أولاً ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا).
ثم قال: (فأصلحوا بينهما) فثنى على أساس أنهم في ساحة القتال يكون كل واحد منحازاً، فهم طائفتان متمايزتان.
وناسب قرن الإصلاح الثاني بالعدل دون الأول، لأن الإصلاح الثاني وقع بعد المقاتلة ففيه مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم.
أي: قد يقول القائد أو الإمام الذي قاتل الباغية حتى استسلمت للصلح: إنه اضطر إلى قتال هذه الفئة التي لم تنصت لنداء النصيحة والإصلاح بالمعروف، فماداموا قاتلونا، فهم يستحقون أن نجور عليهم، وأن ننتقم منهم، فأكد الشرع الشريف على وجوب لزوم العدل حتى وإن حصل منهم قتال؛ فلذلك قال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقدم أولاً: (فأصلحوا بينهما) بدون ذكر العدل؛ لأن ذلك قبل مقاتلة الباغية فليس الأمر مستدعياً للحيف.
قول الله تبارك وتعالى: (وأقسطوا) من أقسط الرباعي، وهمزته للسلب، يعني: مثل بعض الأفعال في اللغة الإنجليزية عندما تنفيها تقدم عليها حرفاً في الأول مثل حرف [ E] فكذلك الهمزة هنا جاءت للسلب كما بينا ذلك من قبل، يقال: أقسط إذا أزال القسط الذي هو الجور، كما تقول: شكوته فلم يشكني، أي: فلم يجب شكواي، وشكى إلي فأشكيته، يعني: أزلت شكواه، فهذه الهمزة هي لسلب القسط الذي هو الجور، فالمقصود (وَأَقْسِطُوا) أي: أزيلوا الجور واعدلوا، بخلاف (قسط) الثلاثي فمعناه: جار، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، وهذا هو المشهور خلافاً للزجاج، في جعلهما سواء؛ أفاده الكرخي.(134/16)
كلام القرطبي في تفسير الآية
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً أو لا.
فإن كان الأول فكلاهما باغية، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكأفاة والموادعة.
فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما.
وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل.
فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة؛ فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة، والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين، والله أعلم.
يقول أيضاً: في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قتال المؤمن كفر)، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك.
قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) حصل القتال، وأثبت لهما مع ذلك وصف الإيمان، ثم قال بعدها مباشرة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فأثبت أخوة الإيمان مع وجود الاقتتال، فدل على أنه قد يقاتل المسلمون والمؤمنون إذا كانوا بغاة، فأما من احتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قتال المؤمن كفر) ومنع قتال المؤمن مطلقاً فنقول: هذا غير صحيح، وإلا لو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر تعالى الله عن ذلك؛ لأن الله قال: ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ))، وقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه من تمسك بالإسلام، وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم؛ بخلاف معاملة الكفار.(134/17)
التنبيه على التكفير الطائش وابتغاء الفرد إقامة الحدود
بعض الناس كان يتكلم على أساس أنه ينقل كلاماً لـ شيخ الإسلام في حكم من امتنع من شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، وهذه مشكلة كبيرة، وهي أننا بين وقت وآخر نجد من يأخذ النصوص من الكتب دون ربطها بالواقع أو الالتفات إلى اختلاف الواقع الذي كتبت فيه هذه النصوص عن الواقع الذي نعيشه، فنحن نقرأ في كتب الفقه كثيراً أن تارك الصلاة يقتل، وأن من فعل كذا يقتل، وأن من شرب الخمر يحد، وأن السارق تقطع يده، وهكذا، فبعض الناس في وقت من الأوقات ذهبوا إلى التأثم والشعور بأنهم آثمون إن لم يقاتلوا الطائفة التي امتنعت عن شرائع الإسلام.
ومعلوم أن أي نص في كتب الفقه فيه أن من فعل كذا قتل، فهذا ليس لآحاد الرعية بإجماع العلماء، فالحدود لا يقيمها آحاد الرعية أبداً، وإنما يقيمها الإمام الخليفة، أما أن كل واحد سواء كان عالماً أو داعية أو غير ذلك يظن أنه مسئول ومحاسب إذا لم يقم الحدود، فهذا بلا شك أمر في غاية الخطورة؛ لأن موضوع إقامة الحدود يسبقه إجراءات يجريها القضاء الشرعي من التثبت والتحري والتحقيق، وفي يده سلطة تجبر الناس على تنفيذ هذه الأشياء، أما بخلاف ذلك فلا ينبغي أن يقدم بعض الناس على إيقاد نيران الفتن والبلايا على الدعوة بسبب هذه الاجتهادات.
وأعرف بعض الإخوة في أمريكا، حيث كان الإخوة الأمريكان الأفارقة يدخلون في الإسلام بحماس قوي؛ لكن مع جهل قوي جداً، فمجرد أنه يعرف أحدهم أن شارب الخمر يجلد يريد تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى، فكان بعضهم يدخل إلى الحانات، وأماكن فيها بعض المسلمين المفرطين ممن يشرب الخمر، فيدخل كي يعمل اختباراً ويتأكد أنه مسلم فيقول: السلام عليكم يا أخي! هو يتكلم إنجليزي لكن هذه يقولها بالعربي، فلو رد عليه فإنه يتأكد أنه مسلم، فيقول له: أنا أريدك فقط في كلمتين في الخارج، فيخرج معه فيوسعه ضرباً على أساس أنه يقيم الحد! وموضوع إقامة الحد قد سبق أن ناقشته في محاضرة مفصلة أو محاضرتين، فالحدود من شأن الحاكم وولي الأمر! وكان بعض الإخوة للأسف الشديد يأتون في أثناء النقاش بنصوص من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في قتال البغاة، فنقول: نعم؛ لكن الذي يقاتل هو الإمام لأنه ذو سلطة وقوة حتى تنتظم الأمور، وإلا لو أن كل واحد أقام الحد على الثاني بمجرد الدعاوى والشائعات، وبالجهل وعدم التثبت، ولم يوجد قضاء ولا تحقيق؛ إذاً لادعى أناس دماء أناس وأموالهم، فتصير الأمور فوضى.
فهذه فائدة عابرة: وهو أنه يقاتل من امتنع عن شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، حتى الأذان أو ركعتي الفجر، فلو اتفق أهل القرية على الامتناع من هذه الشعائر الظاهرة فإنهم يقاتلون، لكن من الذي يقاتلهم؟ الإمام أو الخليفة، فهو الذي يقاتلهم ويجبرهم على الرجوع إلى الجادة، أما آحاد الناس أو مجموعات صغيرة فهذا مما لا يكون، وسبق أن تكلمنا مراراً أن الجهاد إنما هو وظيفة أمة وليس وظيفة آحاد قليلة من الناس لا تحسن وزن الأمور.
الشاهد: أن الفئة الباغية تقاتل، لكن الذي يقاتلها هو الإمام الحق.
وبعض الناس أصلاً هو زرع في قناعته أنه لابد من أن يقاتل هو، ثم يبحث عن مبرر، فكنت أناقش أحدهم في موضوع الكفر أو عدم الكفر لهؤلاء الناس الذين يقاتلونهم، فقلت له: كيف تحكم بكفرهم؟ قال: إن لم نحكم بكفرهم لم يجز أن نقاتلهم، فلابد أن أكفرهم لكي يحل لي أن أقاتلهم! هذا هو الأسلوب العجيب في التكفير، هو يفرض على نفسه قناعة ثم يبحث عن المسوغات، وغاب عنه أنه يمكن أن تكون طائفة مؤمنة ومع ذلك يحل قتالها، وليس بشرط أن يكفرهم لكي يقاتلهم، ولكن مع ذلك حتى لو حل قتالهم فالذي يقاتل هو الإمام وليس آحاد الرعية، وقد قاتل الصديق رضي الله عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، فلم تحل أموالهم بخلاف الواجب في الكفار.(134/18)
ذم السلبية والتقاعس عن الواجبات الشرعية
وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المؤمنين، وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لما جاء في الأثر: (خذوا على أيدي سفهائكم).
فمسألة الاحتجاج بأن الإنسان يعتزل الفتنة ولا يقاتل لا مع هذا ولا مع ذاك، وأن له ألا ينحاز إلى الإمام الحق لا تجوز؛ لأنه لو عمم هذا الأمر وتحرج جميع المسلمين من قتال الفئة الباغية لأنهم مسلمون، وأن قتال المسلم كفر، فسوف تعلو كلمة أهل الفساد، ويكون الفساد العريض، وهذه التربية رأينا نماذج لها، وهي أسوأ ما تكون في أوضاعنا المعاصرة الآن، هي السلبية والهروب من مواجهة المحن بالمنهج الشرعي الصحيح والسليم.
ونجد في تراجم العلماء والصالحين والأئمة شيئاً يمكن أن يوصف بالسلبية، لكن هو في الحقيقة ليس سلبية، فمثلاً عمر بن عبد العزيز كان يخطب على المنبر فكأنه داخله شيء في نيته أو خشي على نيته وإخلاصه، فمزق الكتاب وقطع الخطبة ونزل، فممكن أن شخصاً إذاً يقول: أنا هذا الوقت لا أقدر أن ألقي دروساً ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؛ لأنه قد يكون في نيتي شيء.
يأتون بكلام في تراجم عشرات من الأئمة أنهم كانوا يكرهون على القضاء، والإمام مالك، جلد، والإمام أبو حنيفة جلد لكي يقبل القضاء، فأبى وهرب من القضاء إلى آخره، ومن راجع مقدمة كتاب الخراج لـ أبي يوسف رأى أنه أثبت رسالة طويلة جداً من سفيان الثوري إلى صديقه القديم هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة، لكنه قاطعه وخاصمه عندما قبل تولي الخلافة؛ لأنه بذلك سوف يقع في شيء من الانحراف عن المنهج السابق، وانحياز إلى الحكام وكذا.
وفي الحقيقة هذا كلام مستساغ في زمانهم؛ لأن الأمة كأمة هي موجودة ومتظافرة، وإذا تقاعس أو انحاز أو انسحب شخص فهناك عشرات بل مئات بل آلاف في امتداد رقعة العالم الإسلامي يخلفونه في هذه الوظيفة، ويؤدى بها فروض الكفايات، فلا يحصل خلل في المسيرة العامة للأمة، أما الآن فلا يصح لأحد أن يحتج بهذه المواقف التي يمكن أن توصف تجاوزاً بأنها سلبية؛ لأن الفقهاء كانوا أعقل وأعلم وأورع من أن يتواطئوا على ترك الخلافة من أجل الإعراض عن الدنيا، وترك القضاء والهروب من المناصب الشرعية.
إذاً: من يقيم الشرع في الناس؟ فيعلو أهل الفسق ويغلب الكفار المسلمين، ويغزونهم في ديارهم، ففي ذلك الوقت لم تكن هذه الخطورة قائمة، أما العلماء فما من أحد منهم إلا ونعلم أنه لو كان قد تعين عليه شيء لما تركه، لكن قد يترك أحدهم منصباً لأن هناك مئات وآلاف العلماء والقضاة والمجتهدين في كل بقاع العالم الإسلامي، فهو مطمئن إلى أن فرض الكفاية سوف تسد ثغرته، وهو يرى نفسه أضعف من أن يلي هذا الأمر، ويخشى الحساب يوم القيامة، للأحاديث التي جاءت في الترهيب من ولاية القضاء مثلاً، وليس معنى ذلك أن ينسحب المسلمون عن بكرة أبيهم ليكونوا سلبيين.
ونحن قد رأينا في آخر دعوة تجديدية في القرن الثاني عشر كيف كان الأمر عندما ضم التحالف عنصراً سياسياً مع عنصر العلم الشرعي، ولكن لما انفصل الاثنان حصل بمرور الزمن الافتراق والفجوة بينهما، بل وهناك فئة جذبت الأخرى معها؛ لأنه كان أتباع الإمام المجدد في ذلك الوقت يتحرجون من الولايات الشرعية، فكانوا يقولون: نحن نجاهد وندعو ونضحي لكن لا نريد الدنيا، فتركت في أيدي الساسة، فآل الأمر إلى ما آل إليه بسبب هذا الانفصال.
فالسلبية الآن لا محل لها، لأن الأمة في أوضاع يرثى لها، فكل من يستطيع البلاغ فليبلغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فلا يحقرن أحد نفسه في أي دور يستطيع أن يقوم به بصورة إيجابية في الدعوة والتعليم، فلا يتقاعس بحجة أن نيته فاسدة، فيقول: أخاف ألا أكون مخلصاً، ولم أتأهل، وحينئذ يكون الثمن غالياً! فهذا تنبيه عابر لمناسبة موضوع السلبية في الفتن، وممكن أن يكون الإنسان في الفتن سلبياً تماماً ما لم يبن له الحق مع أحد الطرفين، خاصة في أواخر الزمان، والفتن التي يتخذ الإنسان فيها سيفاً من خشب أو كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون كابن آدم المقتول ظلماً، وهو هابيل: (كن كخير ابني آدم ولا تقاوم) هي أمر آخر، وهذه أوضاع خاصة، لكن القاعدة: أن الإنسان لا يكون سلبياً إزاء الواجبات الشرعية، ويظن أنه بهذا التورع الكاذب معفي من المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى.
قال الطبري رحمه الله: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم.
وذلك أن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم.
وممكن أن يكون البغاة مسلمين، لكنهم فسقة وظلمة وفجار ينتهكون الأعراض، ويسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض، فلو كف عنهم أهل الخير والصلاح وانسحبوا وهربوا وقالوا: نعتزل الفتن، لكان ذلك تقوية لشوكة أهل الفساد، فيعلون على المسلمين وهم فسقة، وإذا حكم الفاسق فقد حكم الفسق؛ ولابد أنه في منهجه سيكون مروجاً للفسق، فأين ذلك من الأمر بالأخذ على أيدي السفهاء؟!(134/19)
كلام ابن العربي على قتال علي لمن بغوا عليه
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة رضي الله عنهم، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (تقتل عماراً الفئة الباغية).
فلا شك أنه بمقتل عمار يكون قد حسم الأمر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف الفئة التي تقتل عماراً بأنها هي الفئة الباغية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في فعل الخوارج: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق) واضح جداً في أن كلا الطائفتين على حق، لأن أفعل التفضيل تقتضي المشاركة في أصل الصفة، ولكن هناك فئة أولى بالحق من غيرها، وهي فئة علي رضي الله تعالى عنه، وكان الذي قتل الخوارج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ومن كان معه.
فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن علياً رضي الله عنه كان إماماً حقاً، وأن كل من خرج عليه باغ، وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عنه قتل، والصحابة برآء من دمه؛ لأنه منع من قتال من ثار عليه، وقال: لا أكون أول من خلف رسول صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة، وفدى بنفسه الأمة رضي الله تعالى عنه.
ثم لم يمكن ترك الناس سدى، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى وتدافعوها، وكان علي رضي الله عنه أحق بها وأهلها، وقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل، فربما تغير الدين، وانقض عمود الإسلام، فلما بويع له طلب أهل الشام في ترك البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباح مساء.
فكان علي في ذلك أسد رأياً وأقرب قيلاً؛ لأن علياً لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر، وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة، وكذلك جرى لـ طلحة والزبير فإنهما ما خلعا علياً من ولاية، ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى.(134/20)
وقعة الجمل دبرها قتلة عثمان
وقال جملة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم جرت على غير عزيمة منهم على الحرب، بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم؛ لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به؛ لأن الأمر كان قد انتظم بينهم على الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف الضربات بينهم، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذا وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل، وهذا هو الصحيح المذكور.
الحقيقة أن هذا حديث ذو شجون، وبقي تنبيهات قليلة تتعلق بموضوع ما وقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأنه انتشرت الآن أشرطة للدكتور طارق السويدان فيها كلام مفصل في موضوع ما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومحاولة إنهاء الأمر.
والحقيقة أن بعض العلماء كان له بعض التحفظات على إشاعة الكلام عما حصل بين الصحابة بهذه الطريقة، فبعض العلماء ألف في ذلك وبين أن ما نص عليه العلماء هو أنه ينبغي الإمساك عن ذلك وعدم الخوض فيه، ومنهم الإمام النووي رحمه الله تعالى حيث قال: واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد -أي: في حديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) - ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، إنما اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه.
هذا فيما يتعلق بموقف أهل السنة من قتال الصحابة؛ ربما يكون الدكتور طارق السويدان له رأي في هذه المسألة، ويمكن أيضاً أن يكون له وجه من النظر، بل هو يقول: أنا أضطر للكلام والتفصيل؛ لأن عامة كتب التاريخ التي تدرس في أغلب بقاع العالم الإسلامي فيها تاريخ مزور، فالناس قد تلوثوا بالباطل، فلزم إذهاب هذا الباطل وهذا التزوير في التاريخ الإسلامي، ببيان حقيقة ما أشيع.
والله أعلم.(134/21)
تفسير سورة الحجرات [11 - 13](135/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم)
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يستخف ولا يستهزئ بهم، والعرب تقول: سخر منه يسخر على القياس، إذا استهزأ به.
وقد نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس، مبيناً أن المسخور منه قد يكون خيراً من الساخر.
ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأقرب الأفضل واستهزاؤه به، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله سبحانه وتعالى في غير هذا الموضع، كقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]، فبين أن من سخر من الناس سخر الله سبحانه وتعالى منه وله عذاب أليم.
وبين الله سبحانه وتعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من دعاة المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29 - 36].
فلا ينبغي لمن رأى مسلماً في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه؛ لهذه الآيات التي ذكرنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، فالقوم هنا بمعنى: الرجال، كما قال الشاعر: ولا أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء يعني: أرجال هم أم نساء؟ فهنا قوم: بمعنى رجال، ((لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منه.
((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ))، أي: يكن المسخور منهن أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخرات.(135/2)
الإشارة في الآية إلى عدم الاختلاط بين الرجال والنساء
ولم يقل الله سبحانه وتعالى: لا يسخر قوم من نساء، ولا نساء من قوم، ولم يقل: لا يسخر رجل من امرأة ولا امرأة من رجل؛ للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة الأجنبية مستقبح شرعاً؛ ولأن الإنسان إنما يسخر ممن يجالسه غالباً، والهيئة الاجتماعية في المجتمع المسلم مبنية على حظر الاختلاط بين الرجال والنساء.
فلا يرد على هذا الأساس احتمال كبير أن تحصل سخرية رجل من امرأة أو امرأة من رجل، وقد رأينا في هذا الزمان كيف أزيل نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء حتى صار الرجل يتعامل مع المرأة، والمرأة تتعامل مع الرجل كأنه أخوها أو أبوها بلا حواجز ولا حدود ولا حياء، كما نرى الموظفات في المكاتب والشوارع وفي الطرقات وفي كل مكان، وربما صرخت المرأة في محل عام مثلاً تتعارك مع الرجل كأنها رجل، وتثبت أمامهم في غاية الجسارة وقلة الحياء.(135/3)
شمول النهي لكل معاني السخرية
فلذلك قصر الله سبحانه وتعالى بين الرجال والنساء فقال: ((لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ)).
فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي يدور أمر السخرية عليها غالباً، فأمر السخرية غالباً لا يدور على أمور ظاهرة، وإنما يدور على شكل الإنسان أو على ملابسه أو على هيئته أو على طريقته في الكلام أو على وظيفته وعمله أو غير ذلك، هذا غالباً يكون مناط السخرية في الأمور الظاهرة، وبالذات أمور الدنيا.
بين الله سبحانه وتعالى أن مناط الخيرية ليس في الأمور والأشكال الظاهرة التي تدور حولها السخرية غالباً، بل مناط الخيرية إنما هو للأمور الكائنة في القلوب: ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ))، يعني: في القلوب وفي الباطن عند الله.
فالذي ينظر إليه الله القلوب والأعمال وليس الصور والأشكال، فالمناط إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله سبحانه وتعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله سبحانه وتعالى، ويستهين بمن عظمه الله عز وجل.
ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغني للفقير، وآخرون خصوا السخرية بما يحصل على أحد زلة أو هفوة فيسخر به من أجلها.
قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: والصواب أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض في جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.(135/4)
كلام الغزالي في تحريم السخرية والاستهزاء
وقد عد الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء السخرية من آفات النساء، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه، وينقل القاسمي هذا الكلام عن الغزالي، ونحن نتحرز من كتاب الإحياء، لأن الإحياء كتاب فيه نظر شديد، وفيه صدام صريح للشريعة سواء في العقيدة أو في الفروع أو في ضلالات الصوفية التي حشا بها هذا الكتاب، وهي ضلالات مهلكة ومحرقة.
فينبغي الحذر من كتاب الإحياء، مع ما تضمنه من الخير الكبير الذي انتفع به كثير من الخلق، لكنه كتاب لا يعد مرجعاً معتبراً ومحترماً عند أهل السنة وأهل الحديث، ولذلك ما كان يقتنيه بعض طلاب العلم إلا من أجل تحقيقات الإمام العراقي رحمه الله تعالى في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الآثار.
فليحذر من كتاب الإحياء، لما فيه من الضلالات والطامات المصادمة للشريعة، وحشوه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الضعيفة والباطلة والموضوعة، والبدع التي يزخر بها هذا الكتاب من الاعتقادات والأعمال.
وهو كما قلنا لا يخلو من خير، ولذلك لا يغوص فيه إلا من يحسن السباحة كي لا يغرق، يقول الغزالي رحمه الله تعالى: الآفة الحادية عشرة: السخرية والاستهزاء.
وهذا محرم مهما كان مؤذياً، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، فإذا كانت هذه السخرية تؤدي إلى أذية أخيه المسلم فهي حرام، ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يبحث منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة بالفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، فأي وسيلة استعملت لأجل الاستهزاء والسخرية وإظهار النقائص والتنبيه عليها، سواء كان بالكلام أو بغمزة العين أو بإخراج لسانه أو بمحاكاته في الحركة؛ فكل هذا سخرية.
فإذا كان بحضرة المستهزأ به لا يسمى ذلك غيبة وإن كان فيه معنى الغيبة، لكن ما دام هو موجوداً لا يسمى ذلك غيبة.
وقد نبهنا من قبل أن بعض الناس تقول له: يحرم عليك أن تغتابه يقول: أنا أستطيع أن أقول هذا في وجهه.
نقول: نعم إذا قلته في غيبته فهو غيبة، وإن قلته في وجهه فهو أذية للمسلم ومواجهة له بما يكره، كحال الاستهزاء واللمز والسخرية.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا)، يعني: لو قال لي: خذ مبلغاً من المال مكافأة لك على أن تقوم بمحاكاة فلان، ما أحب أن أفعل هذا.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، قال ابن عباس: إن الصغيرة التبسم للاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك.
يعني: لو كان يستهزئ من المؤمن فتبسم فهذه هي الصغيرة، أما إذا أراد أن يسخر منه فقهقه بذلك وصدر منه كثرة الضحك والقهقهة فهي الكبيرة.
وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر.
وقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله)، وإن كان في صحة هذا الحديث كلام، لكن معناه صحيح؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية صحيحة، وهي من عدل الله سبحانه وتعالى أن يجازي الإنسان من نفس جنس عمله، جزاء بما كنتم تعملون.
فمن عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله، فلابد أن تدور الأيام ويبتلى بنفس الذنب الذي سخر من أخيه بسببه، وبالذات إذا كان قد تاب منه، فلا ينبغي أن يعان الشيطان عليه بتعييره والسخرية منه.
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له، وعليه نبه سبحانه وتعالى: ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ))، أي: لا تستحقره استصغاراً، فلعله خير منك، وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به.(135/5)
حكم سخرية ممثلي الكوميديا ونحوهم
أما من جعل نفسه مسخرة كممثل الكوميديا ونحوه، فهو يفرح أن يضحك الناس عليه، ويرى أنه إنسان ناجح جداً، وأنه جنى المجد العظيم حين يقف ويأتي بحركات وبروفات تضحك الناس؛ فهذا لا يدخل في هذه الآية، لأنه سعيد وفخور بأنه مسخرة، ولذلك لا يتشبث بهذه الوظيفة أو هذا العمل إلا من كان أحقر الناس وأعدمهم مروءة، ولا يمكن لإنسان محترم أو عنده مروءة أن يقبل هذا.
وإنما يكون سفلة الناس ورعاعهم وأحطهم هم الذين يقبلون مثل هذه الأعمال؛ فضلاً عن أن يسخروا بها.
وإنما يحرم الاستهزاء في حق من يتأذى به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا ارتبك فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب.
فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.(135/6)
حكمة تخصيص النهي عن السخرية بلفظ الجمع (قوم)
يقول أبو السعود رحمه الله تعالى: القوم مختص بالرجال؛ لأنهم القوام على النساء.
وهو في الأصل إما جمع فاعل كقوم وزور في جمع قائم وزائر، أو مصدرٌ نُعِتَ به فشاع في الجمع، وأما تعميمه للفريقين الرجال والنساء في مثل: قوم عاد، قوم فرعون، فإما للتغليب -تغليب الرجال على النساء- أو لأن النساء توابع للرجال.
واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع، يعني: لم يرد النهي بصيغة المفرد: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة، وإنما جاء بصيغة الجمع: ((لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ))، لغلبة وقوع السخرية في المجامع، لأن فيها القابلية للضحك، والتفاعل معه في مثل هذه المجامع يكون أسهل، تجد الواحد إذا كان في وسط مجموعة من الأصدقاء أو شلة من الشباب مثلاً، فإنه يضحكهم، ويكون هناك استعداد أكثر لأن يسخر من أحد ويستحقره.
فاختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع؛ ولأنه غالباً يقصد فيه أن يضع من غيره ويرفع من نفسه، وهذا غالباً ما يقع أمام جمع من الناس، ولا يكون في حالة الانفراد.
((لا يَسْخَرْ قَومٌ))، هذا التنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن السخرية من بعض، بما أنه مما يجري بين بعض وبعض.(135/7)
النهي عن اللمز
قوله: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا يعب بعضكم على بعض ولا يطعن فيه، وهذه عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم.
وهذا ما نبهنا عليه مراراً: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن الإخوة في الله بلفظ النفس، فإخوانك المؤمنون حتى وإن كانوا غير موجودين معك الآن فإنه يطلق عليهم لفظ (أنفسهم).
فهذا له نظائر كثيرة في القرآن، منها: قول الله سبحانه وتعالى: {رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، أي: منكم، وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، يعني: إخوانكم، كذلك هنا: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: إخوانكم، وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: بإخوانهم، فهذا مما يعبر به عن رابطة الأخوة في الله.
فقيل: إن معنى الآية: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) لا تلمزوا إخوانكم المؤمنين، أو يكون المعنى: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به الذم فقد لمز نفسه، والمراد: لا ترتكبوا أمراً تعابون به، وانتقد هذا الرأي بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله تعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))؛ لأن التنابز يكون من مجموعة لمجموعة أو شخص لشخص، فنسق الخطاب واحد، فأتت هذه الآية.
أي: ذكر الله تبارك وتعالى: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، والأنسب للسياق أن يكون المعنى: لا تلمزوا إخوانكم ولا تنابزوا أيضاً فيما بينكم بالألقاب.
وقد يكون معنى قوله تعالى: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم، كما يقول بعض الناس: (من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة)، وكما في الحديث: (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه)، فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضاً.
فالمقصود على هذا من قوله: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا تلمزوا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه؛ لأنكم الذين سلكتم هذا اللمز.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا يلمز أحدكم أخاه، وقد توعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، والهمزة: كثير الهمز للناس، واللمزة: كثير اللمز.
قال بعض العلماء: الهمز يكون بالفعل، كالغمز بالعين احتقاراً وازدراءً، واللمز يكون باللسان فتدخل فيه الغيبة، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله عز وجل: ((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا))، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه.(135/8)
النهي عن التنابز بالألقاب
قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)): واللقب: ما سمي به الإنسان بعد اسمه من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه، فهذا معنى اللقب، أنه ما سمي به الإنسان بعد اسمه؛ لأن اللقب يكون لمعنى في الإنسان من مدح أو ذم.
فقوله تعالى هنا: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، أي: لا تتداعوا بالألقاب التي يكرهها الملقب، وقد روي أنه عني بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها، وهذا رواه الإمام أحمد وأبو داود.
لذلك من حق المسلم على أخيه أن يدعوه بالاسم الذي يحبه.
أي فإذا عرفت أنه يكره اسماً معيناً أو لقباً معيناً فينبغي أن تجتنبه، فلا تناديه إلا بالاسم الذي يحبه، فهذا من الآداب الإسلامية.
وفسر بعض السلف هذه الآية بقول الرجل للرجل: يا فاسق يا منافق! وبعضهم فسرها بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، كرجل أسلم فيوصف بالفسوق مع أنه قد تاب، بمعنى: أنه يعيره بذنب قد تاب منه أو يعيره بالكفر بعدما أسلم، وربما يدخل نصراني في الإسلام فينتقصونه ويعيرونه بأنه كان نصرانياً مع أنه دخل في الإسلام.
فالمقصود: أن الإسلام يجب ما كان قبله، ألم يكن عمر رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة على غير الإسلام قبل أن يدخلوا فيه؟! فلا يضر ذلك شيئاً؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا ينبغي أن يعير مسلم بماض قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى منه من كفر أو ذنب أو فسوق.
يقول ابن جرير: إن الآية تشمل ذلك كله.
يعني: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.(135/9)
تفسير قوله: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)
قوله: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، والاسم هنا معناه: الذكر، أي: بئس الذكر الفسوق بعد الإيمان.
فالشاهد اللغوي على أن الاسم يطلق ويراد به الذكر قول العربي: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته، وحقيقته: ما سما ذكره وارتفع بين الناس، ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل بالآية: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق.
في قوله تعالى: ((بَعْدَ الإِيمَانِ)) ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة، يعني: لا يليق بمن كبر وتاب أن يفعل هذه الأفعال، على حد قول الشاعر: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل فالوجه الأول هو استقباح الجمع بين صفة الإيمان وصفة الفسق؛ لأن الإيمان يحرم الفسق ويزجر عنه، فالمعنى: بئس الشأن بالنسبة للمؤمن أن يقع في هذا الفسوق.
الوجه الثاني في الآية: أنه كان يقال لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! فنهوا عن ذلك وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
والجملة على هذا التأويل متعلقة بالنهي عن التنابز.
أي أنه على التفسير الأول جاء: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)) وانتهى الكلام، ثم استؤنف معنى جديد: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يعني: يستقبح من المؤمن أن يجمع بين الإيمان وبين الوقوع في الفسق؛ لأن الإيمان يأبى الفسق ويحرمه؛ فلا علاقة بين الجملتين إلا من وجه معين، وهو أن التنابز في حد ذاته نوع من الفسق والمعصية.
وعلى الوجه الثاني وهو أن معنى: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)): بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه وإسلامه، تكون الجملة متعلقة بقوله تعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)).
الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن.
أي: فيكون قوله: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)) كما تقول لمتحول من التجارة إلى الفلاحة: بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، فكذلك هنا: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يعني: بئس أن يجعل من فسق غير مؤمن.
واختار ابن جرير الوجه الثالث، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن كما أنه غير كافر فهو في منزلة بين المنزلتين، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد.
وهنا إشارة إلى معنى معين في الوجه الثالث، وهو أن المعتزلة يذهبون إلى أن الفاسق غير مؤمن ولا كافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، مع أنهم يحكمون عليه في الآخرة بالخلود في النار، لكن هذا في الدنيا قريب من مذهب الواقفة الذين يتوقفون في بعض المسائل.
فاختيار الإمام ابن جرير للمذهب الثالث ليس موافقة للمعتزلة في ضلالهم ورأيهم، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية الكريمة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، فاقتضى الكلام ختم الآية بالوعيد؛ لأن الآية ذكرت هذه المناهي، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم، يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وقدم على معصيتنا بعد إيمانه فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن بالألقاب فهو فاسق: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقاً.
ثم ضعف الإمام ابن جرير الوجه الثاني قال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه أو بقبيح ركوبه ما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عما كان ركب قبل التوبة من القبيح فيختم آخرها بالوعيد.
((وَمَنْ لَمْ يَتُبْ))، أي: من نبز أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو سخر منه: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، أي: الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.(135/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن)
يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].(135/11)
النهي عن الظن السيئ
قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ))، أي: كونوا على جانب منه، وذلك بألا تظنوا بالناس سوءاً، فإن الظن غير محقق، فما دام الإنسان يظن فالظن ليس شيئاً محققاً، فلذلك ينبغي أن نجتنب كثيراً من الظن.
وأبهم (كثيراً) لإيجاد الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجس؛ إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن، قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12].
نعم من أظهر فسقه وهتك ستره فقد أباح عرضه للناس، ومنه ما روي: (من ألقى غربال الحياء فلا غيبة له)، ولذا قال الزمخشري: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنباها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر؛ فظن الفساد والنسيان به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث.
((إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ))، وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير، أما أن تظن بأخيك خيراً فليس منهياً عنه، بل من حق المؤمن أن تظن به الخير.
(إثم) أي: مكسب للعقاب؛ لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه.
قال الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء في بيان تحريم الغيبة بالقلب: والغيبة بالقلب هي تعبير عن سوء الظن؛ لأنه هناك غيبة باللسان، وهناك غيبة بالقلب، وهي هذه الهواجس التي تطرأ في فكر الإنسان وفي عقله تجاه أخيه.
يقول رحمه الله: اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك.
قال: ولست أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن، وذلك بأن يعقد قلبه على هذا الظن السيئ، ويحكم على أخيه بسوء الظن.
فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضاً معفو عنه، لكن الذي يحرم على الإنسان هو أن يعقد قلبه على ظن السوء بأخيه، ويحكم على أخيه بسبب هذا الظن.
ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ))، قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب.
فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد إلا ما علمت وشاهدت بنفسك، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما يلقيه إليك الشيطان.
وللأسف الشديد هذا شائع في مجتمعنا، أعني: سهولة تداول الطعن في الأعراض في المجالس، فما أن تقع خطوبة بين طرفين أو يفتح الكلام على ذلك ولو لم يتحقق، حتى تجد من يقبل هذا الكلام، وربما حققه وقطع به، وبنى عليه أحكامه، ثم يشيعها في الناس، هذا شائع وموجود! فهذا من الظلم، وهذا مما يخالف هذا التوجيه القرآني.
ومن الناس من يتلقى الخبر من الجرائد ومن المشاهدة للإعلام فيظل يروج بكلام كثير جداً، فينبغي أن يتحرى المؤمن هذا الذي ينقله أو يبني عليه أحياناً، ولابد من تجنب الظنون السيئة ما لم يشاهد بعينه ولم يسمع بأذنه.
وتجد من الناس من يتساهل في الكلام فيحكي كلاماً هو إثارة للريبة في بعض الناس، ولا نريد أن نذكر أمثلة لأنها مؤذية، لكن يكفي أن نتسلح بهذا الفهم، فعلى الإنسان أن لا يتكلم إلا إذا كان له بينة شرعية.
يقول: فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف بعيان لا يقبل التأويل، لأننا نحن البشر بل كل الخلق لا يستطيع أحد منهم أن يطلع على أسرار القلوب، فأسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، أما البشر فليس لهم إلا الظاهر، فإذا ظهر من شخص شيء وبان لك عياناً ببينة، فهنا يحق لك أن تظن ما يليق بهذا الذي ظهر منه، أما إذا لم يظهر منه شيء ولا أمارة صحيحة على ذلك فليس من حقك أن تظن به، وإلا فقد ظلمته واستحققت عقاب الله تبارك وتعالى.
فما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق.
وهذه إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
فالظن الذي يلقيه الشيطان في قلبك عن أخيك، وليس لك عليه بينة ولم تشاهد بعينك ولم تسمع بأذنك فاعلم أن الذي يلقيه ينصه في قلبك هو الشيطان، فيجب عليك أن تكذب الشيطان، لأنه أفسق الفساق، إذ هو أحق الخلق بقول الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا))، كراهية ((أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))، لأن المؤمن إذا أذنب ندم.
إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة أو ببينة عادلة.
انتهى كلام الغزالي رحمه الله.(135/12)
النهي عن التجسس
قوله: (ولا تجسسوا)، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس؛ لأنه إذا ألقي في القلب ظن سوء، فهذا الظن السيئ يدفع من ظنه إلى أن يتجسس ويتتبع عورات أخيه، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك قال سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا))؛ لأن الظن يقود إلى التجسس.
وقد ذكر سبحانه وتعالى النهي عنه إثر سوء الظن لهذه العلة، فقال تعالى: ((وَلا تَجَسَّسُوا))، قال ابن جرير رحمه الله: أي: لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره فاحمدوا أو ذموا على ما تعلمونه من الظواهر.
ولذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل أحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، وإلا لفسدت الحياة وما أطاق الناس بعضهم بعضاً؛ لأن الناس يحتاجون كثيراً في معاملاتهم إلى نوع من المداراة، فالمداراة مباحة، لكن المداهنة ليست من خلق المؤمن.(135/13)
خطورة النميمة وتسجيل كلام الغير بغير علمه
من رحمة الله أن جعل الحياة تمشي على ما يظهره الناس، وهذا فيه خطورة النمام الذي يجري بالحطب بين الناس، حيث ينقل الكلام من فلان إلى فلان ليشعل الفتن ويفسد بين الناس.
والنمام لا يخترع كلاماً، بل إنه ينقل كلاماً ممن سمعه بحيث إنه لو نقل فإنه يزيد الفتن بين الناس ويشعل نيران العداوة، فهذا الكلام حصل بالفعل، لكن الإثم هنا ليس إثم البهتان وإنما هو إثم النقل بقصد الإفساد، وهذا أيضاً كثير في المجتمع.
فبعض الناس يتقن وظيفة النميمة، بل بعضهم يصل به الحد إلى أن يسجل خفية كلام بعض الناس ممن تكون بينهم خصومات، وبعدما تدور الأيام إذا به يظهر هذا الكلام، فهذا إتقان للنميمة؛ لأنه ممكن أن ينقل بلسانه بعض الكلام الذي سمعه وينسى كلمة مهمة ويخطئ في أخرى؛ لكن التسجيل إتقان للنميمة والإفساد بين الناس.
وينبغي أن يعلم أنه ليس من حقه أن يسجل لأخيه دون أن يخبره بذلك، ولذلك انتشر في وقت من الأوقات ما يسمى حرب الأشرطة، شخص يتصل بأحد العلماء، ويقول له: ما قولك يا شيخ فيمن يقول كذا وكذا وكذا؟! والشيخ سليم النية، فيأتي بالجواب مطابقاً للسؤال، فيأخذ الرجل الجواب بعد تسجيله ويطير به في الناس.
والحمد لله أنها حرب خمدت إلى حد كبير؛ لكن حصل بسببها تقهقر شديد في الدعوة في بعض البلاد، والسبب هو حمالو الحطب الذين ينقلون الرد من هذا إلى ذاك، والعكس، وقد سمعت من هذا ما فيه العجب في الحقيقة.
فليس من حقك أن تسجل لشخص دون أن يعرف، وهذه تعتبر خيانة وغدراً؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما المجالس بالأمانة).
فينبغي أن تحترم أمانة المجلس، وإذا أردت أن تنقل فأخبره أنك سوف تنقل هذا الكلام، أو استأذنه في التسجيل وبعض الناس أحياناً يفعل ذلك في المكالمات الهاتفية؛ فينبغي الحذر من مثل هذا.
أذكر أنني قبل ثلاثين سنة تقريباً كنت صبياً، وسمعت تمثيلية كان اسمها: نظارة الحقيقة، خلاصتها أن شخصاً اخترع نظارة معينة، بحيث إذا سلطها على شخص في النظر إليه فإنه يتحول في كلامه ويخرج الذي في قلبه، فدار بها وأفسد بين كل الناس بسبب هذه النظارة.
وفي النهاية مر على شخص يتحدث مع زوجته وهو يمدحها ويجللها، فسلط عليه النظارة، فقال لها: يا فاعلة! وأخذ يتكلم بما يكتم في نفسه بعدما كان يثني عليها، فقاموا يتعاركون بعد ذلك.
وهذه كذبة غير حقيقية لأنها تمثيلية.
فمن رحمة الله أن جعل الناس يتعاملون على ما يظهرون، فالنمام يكشف ستر الله على الناس، ويصر على أن يعامل الناس بعضهم بما يقوله الشخص بعيداً عن الشخص الآخر وخفية منه، فنقل الكلام من طرف إلى آخر يحصل به فساد عظيم! ولذلك من حكمة الله سبحانه وتعالى أن وصف النمام بأنه حمال الحطب: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4]، ولا يدخل الجنة قتات، وليس هذا من خلق المؤمن.(135/14)
وجوب الستر ومعاملة الناس على الظاهر
يقول القاسمي: لكن لما كان من ثمرة سوء الظن التجسس فإن القلب لايقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك ذكر سبحانه النهي عنه إثر سوء الظن، فقال تعالى: ((وَلا تَجَسَّسُوا))، أي: لا يتبع بعضكم بعضاً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته).
فالله يحب الستر، وكل صور الستر يحبها الله سبحانه وتعالى، سواء ستر الإنسان على نفسه فلا يتحدث بما ألم به من القبائح، أو ستره على غيره، بل يستر على نفسه وإلا عوقب، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون).
وكذلك ستره على إخوانه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وغير ذلك من أنواع الستر، ومن أسماء الله سبحانه وتعالى (الستير)، وليس (الستار) كما هو شائع عند الناس، حتى إنهم يسمون الولد عبد الستار، والمأثور في الأسماء الحسنى (الستير).
ومن طرائف الإمام المجدد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله رحمة واسعة: أنه صدمه رجل بسيارة فوقع الشيخ على الأرض مجروحاً، فاجتمع عليه الناس، وهم يدعون ويقولون: يا ساتر! يا رب! يا ساتر! فالشيخ كان في شدة الألم وهو يقول لهم: لا تقولوا: يا ساتر، وقولوا: يا ستير! فهو يصحح لهم العبارة والخطأ وهو في هذه الحالة.
ومعاملة الإنسان بما يخفيه من خصائص الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يعلم على التحقيق ما في قلوبهم، وهذه من آفات جماعات التكفير؛ خاصة جماعة التوقف والتبين، وهذا فيه هذه المنازعة لصفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية، وينبغي أن يتذكر الناس كلمة المسيح عليه السلام التي رواها أنس بن مالك كما في الموطأ: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد).
فخصلة الربوبية: هي إرادة أن يتعامل مع الناس على ما في قلوبهم، فيريد أن يمتحنه ويتلصص على ما في قلبه كي يعلله به، فنقول: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قبل من المنافقين ظاهرهم فكانوا يصلون معه ويصومون، ويتناكحون مع المسلمين، ويتوارثون، ويدفنون في مقابر المسلمين؛ كل هذا إجراء للأحكام الظاهرة.
فينبغي أن يعامل الناس على ظاهرهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما محاولة التتبع والتنقيب والتفتيش عما في قلوب الناس فهذا مما لا يكلف الإنسان به، حتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما استأذن خالد بن الوليد رضي الله عنه في قتل رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ قال: إني لم أومر أن أفتش في قلوب الناس، ولا أن أنقب في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فلم يكلف النبي نفسه وهو خير من وطئ الحصى صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس على ما في أنفسهم وسرائرهم، فينبغي أن نقبل الظاهر ولا نتجسس لنطلع على ما يستره أي إنسان من عيوبه، ولا يجوز أن يتتبع المرء عورة أخيه؛ لكن يقنع بما ظهر له من أمره، وعلى أساس هذا الظاهر يحكم على الإنسان حمداً أو ذماً لا على ما يعلم من سريرته.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا عيرك رجل بما لا يعلمه فيك فلا تعيره بما تعلمه فيه)، بمعنى: أنه لا يحصل هنا مقابلة الإساءة بالمثل، إذا كان فيها كشف أستار، فإذا عيرك بما لا يعلمه فيك فلا يجوز لك أن تعيره أنت بما تعلمه فيه؛ لأن هذا من الظلم والعدوان.(135/15)
معنى التجسس وأدلة تحريمه
يقول القاسمي: يقال: تجسس في الأمر إذا تطلبه وبحث عنه، مثل تلمس، والجس كاللمس فيه معنى الطلب؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه، والتجسس من التفعل للمبالغة فيه.
قال الغزالي: ومعنى التجسس: ألا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف ما لو كان مستوراً عنه لكان أسلم لقلبه ودينه.
يعني: يكون قريباً من معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، فهو أسلم لقلبه ولنفسه ودينه.
وقد روي في معنى الآيات أحاديث كثيرة، منها حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن)، والعواتق: الفتيات أو الشابات في الخدور، والخدر: ستر يكون في أقصى البيت فيقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين، فإنه من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً).
ومعلوم أيضاً أن من شروط المنكر الذي يستحق أن ينكر على فاعله أن يكون ظاهراً بغير تجسس، لكن لو أنكر إنسان على إنسان شيئاً عن طريق التجسس فالمتجسس هو المخطئ، لأنه لا يحق له أن ينكر حتى يستوفي المنكر الذي ينكر على فاعله شروطه، ومن ذلك أن يكون ظاهراً بغير تجسس.
وروى أبو داود: (أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)، لا تتبع شيئاً مستوراً، لكن إن ظهرت لك علامة واضحة كرائحة الخمر من فمه أو الزجاجة في يده أو غير ذلك، فخذه بهذا الظاهر.(135/16)
التجسس من المسئول يفسد الرعية
وروى أبو داود عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها! وهذه الملامح تعتبر سياسة شرعية حكيمة، وفي معناها حديث آخر: (إن الإمام إذا ابتغى الريبة في الرعية أفسدهم)، يعني: لا ينبغي أن تعامل من تعامله مثل معاملة هذا الإمام لرعيته، سواء الرجل مع أبنائه، أو مع زوجته، أو الزوجة مع زوجها، فينبغي أن يكون هناك زرع للثقة في التعامل، لكن إن كان التعامل مبنياً على الظن السيئ والتجسس، فربما عوقب الإنسان بما يكرهه.
فلو أن رجلاً يتعامل مع ابنه على أساس سوء الظن، فيتتبعه في الطرقات، ويتجسس عليه، ويفتش أوراقه، فهذه الأشياء كلها إن كان يفعلها على سبيل أنه لا يثق فيه وأنه يشك فيه ويرتاب؛ فهذا يزرع عند هذا الشاب عدم الهيبة والتوقير له.
ولكن كلما كانت النصيحة غير مباشرة كانت أوقع، فبعض الناس قد يقول: كيف تقول: ينصحه نصيحة غير مباشرة؟ وأقول: هذا هو أدب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان إذا أراد أن يوبخ أحداً على شيء لا يخاطبه باسمه، وإنما كان يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، ولا يسمي بالأسماء؛ لأنه يريد النصيحة لا الإفساد.
فكذلك كلما كانت النصيحة غير مباشرة كان ذلك أعون على تقبلها.
وكذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام الرجل إذا كان مسافراً ولا يعلم موعد رجوعه من السفر أن يطرق أهله ليلاً؛ لأن ذلك تجسس وشك، فالرسول عليه الصلاة والسلام سد هذه الذرائع المؤدية إلى إساءة الظن، وأمر أن تبنى العلاقات على الثقة، وإذا خالف الإنسان هذا الأدب وهذه السياسة الشرعية فسيعاقب بأن يرى ما يسوءه كما في الأحاديث.
معاوية من أعظم الناس سيادة، وكان سياسياً حاسماً إلى أعلى الدرجات.
فهو رضي الله عنه كان من أسود العرب وكان حكيماً جداً في سياسته وفي حكمه رضي الله تعالى عنه؛ ولذلك استفاد من هذا الحديث.
وروى الإمام أحمد عن جديل كاتب عقبة قال: قلت لـ عقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم، قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا، قال: فجاءه جديل فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها).
وروى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى ريبة في الناس أفسدهم).(135/17)
من التجسس استماع حديث قوم وهم يكرهون ذلك
قال الأوزاعي: ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون، يقول صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة) والآنك: الرصاص المذاب.
فإذا علم الإنسان أنك ستتكلف بأمر خاص، فلا ينبغي أن يتطفل ويحاول أن يتصنت أو يستمع فهذا من التجسس، وهذا من الفضول القبيح ومن التطفل على الناس، وهذا داخل في التجسس: ((وَلا تَجَسَّسُوا)).
ومن الأدب أيضاً أن الإنسان إذا لاحظ مثلاً أن شخصاً يستفتي من يستفتيه من أهل العلم، ويريد أن يوصل له الكلام دون أن يسمعه أحد، فلينسحب من الوقوف ولا يحضر؛ لأنه ربما يكون هناك كلام خاص أو شخصي، فلا يريد السائل أن يطلع عليه أحد، فمثلاً إذا لاحظت أن السائل يود لو انفرد بالكلام أو وجدته يخفض، فابتعد حتى لا تتنصت وإلا وقعت في التجسس.
فمن التجسس: استماع حديث قوم هم له كارهون.(135/18)
النهي عن الغيبة
قوله: ((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا))، أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه.
يقال: غاب واغتاب كغال واغتال، إذا ذكره بسوء في غيبته.
((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، أي: فلو عرض عليكم نفرت عنه نفوسكم وكرهتموه، فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة.
((فَكَرِهْتُمُوهُ))، يعني: لو عرض عليكم نفرت عنه نفوسكم فاكرهوه، فإذا كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً لئلا تقعوا في الغيبة.(135/19)
كلام الزمخشري على قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه)
قال الزمخشري: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ)) إلى آخره: تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه.
(المغتاب): يأتي اسم فاعل ويأتي اسم مفعول، كمختار.
ثم قال: وفيه مبالغات شتى منها: الاستفهام الذي معناه التقرير.
والمبالغة هي من حيث إنه لا يقع إلا في كلام مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاءً.
((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ))، فيه مبالغة؛ لأن الاستفهام هو للتقرير، ومعنى ذلك أن هذا الكلام كل الناس يعرفونه، ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)).
قال: ومنها: جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، فوصل في الآية: ((أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، بالمحبة، ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ))، وأقبح شيء مكروه أن يأكل لحم أخيه ميتاً.
قال: فانظر إلى التضاد بين المحبة وبين أقصى ما يكره.
ومن المبالغة إسناد الفعل إلى (أحدكم)؛ للإشعار بأن أحداً من الأحادين لا يحب ذلك، حتى لا يوجد واحد يمكن أن يحب ذلك.
ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخاه، لم يقل: أيحب أحدكم أن يأكل لحم إنساناً، وإنما قال: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)).
ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً، وهذا أشد، فشبه الغائب بالميت، وشبه الغيبة بأكل لحم أخيه وهو ميت.
وقال ابن الأثير في المثل السائر في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتاً، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة.(135/20)
بيان دلالات الآية على شناعة الغيبة
فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى التي وردت من أجله.
فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جداً؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مناسب لأكل الإنسان لحم من يغتاب، وأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة، فاللحم لا يؤكل حتى يمزق؛ والغيبة تمزيق، لكن هذا تمزيق للحم وهذا تمزيق للعرض.
وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة؛ لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، فيأمران بتركها والبعد عنها، ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته، ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه.
فهذا القول فيه مبالغة باستكراه الغيبة، وأما جعله ما هو الغاية في الكراهة موصولاً بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بقبحها، وتأملوا إعجاز القرآن وبلاغة القرآن العظيم، وأنه لا ينبغي إلا أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى.
فيقول الله سبحانه وتعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، فجعل ما هو الغاية في الكراهة، وهو أكل لحم الأخ ميتاً، موصولاً بقوله: ((أَيُحِبُّ))، إشارة إلى أن من وقع في الغيبة فقد أحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً.
فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهاً؛ لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لما صيغت له.
قوله تعالى: ((فَكَرِهْتُمُوهُ)) هذه الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر والمعنى: إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19].
وقيل: المعنى: تكرهونه ككراهيتكم لذلك الأكل.
قال ابن الفرح: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي، لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة.
ولا يناقش هنا هل هذا جائز أم لا؟ لكن تأملوا كلام العلماء! حيث يذكر أن هذه الآية تصلح دليلاً لمن يستدل بها على ذلك، وإذا ورد في كلام بعض العلماء مثل هذا، فليس يلزم أنه يتبنى هذا المذهب، لأن تحقيق المسائل له موضع آخر.
قال ابن الفرح: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي؛ لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة ولم يمثل بميتة سائر الحيوان، فدل على أنه في التحريم فوقها، ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه بالإحياء للغزالي فإنه جمع وأوعى.
((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) يعني: خافوا عقوبته، بانتهائكم عما نهاكم عنه من سوء الظن والتجسس والاغتياب، وغير ذلك من المناهي.
(إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي: يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.(135/21)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
فبعدما نهى عن الغيبة والسخرية، والتنابز بالألقاب واللمز، واحتقار الناس لبعضهم البعض، نبه إلى أنهم متساوين في البشرية لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى.
وما أفظع ما نسمع من بعض الخطباء خاصة في مجالات السياسة ونحوها، حيث يتكلم يقول: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ))، يعني: المواطن الصالح أو نحو ذلك من التعبيرات، يعني: فلا فضل لأحد على أحد إلا بالوطنية! فيجاهرون بمصادمة كلام الله سبحانه وتعالى، ولا ندري كيف يجترئ خطيب على أن يقول: لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل للوطن، أو بالإخلاص للوطنية والقومية! فالمصادمة صريحة لآية من كتاب الله عز وجل، ويستمرون في قول هذه الأشياء، وقد نسمع من يتكلم على نشرات الأخبار، وكأنه ما سمع عن الله ولا عن رسول الله ولا عن الإسلام ولا عن القرآن، بل كأنه جاء من أدغال أفريقيا، وقد تجد من يقول لك: سمعت شخصاً اليوم يقول: يوم السبت ستنزل أمطار، ولا يريد أن يقول: إن شاء الله! تكبر على ذكر الله وتكبر على اسم الله، فكأن هذا الإنسان سوف يخرف لو ذكر اسم الله وقال: إن شاء الله.
ولعل الله سبحانه وتعالى يخزيه، ولا تكون هناك أمطار، فيتكلم على درجات الحرارة وعلى الأمطار وكأنه يعلم الغيب، وكأنه ما سمع عن قرآن ولا عن سنة ولا عن الإسلام، فالمسلم لا يذكر شيئاً إلا استثنى فقال: إن شاء الله.
فنحن نعجب حقيقة من هؤلاء الذين يجترئون هذه الجرأة، نحن نريد أن يكونوا حتى كالمنافقين؛ لأنهم ما كانوا يجهرون بهذه الأشياء في المجتمع الإسلامي، أما هذا فيصادم عقيدة الناس وعقيدة المسلمين ويقطع أنه ستنزل أمطار يوم السبت وأمطار غداً على الساحل الشمالي.
فمن أين لك هذا؟ أما تعرف قدرك؟ ونقول له: اخسأ فلن تعدو قدرك! فهذه الأشياء ليست في أيديهم، هذه بيد الله سبحانه وتعالى، وتصرفها الملائكة بأمر الله عز وجل، ولا يعلم أحد ما يكون غداً، ولعل غداً يأتي ولا يكون هذا الإنسان من الأحياء.
فهذه إشارة عابرة في نهاية مجلسنا هذا؛ فبعدما نبه الله سبحانه وتعالى على تحريم الغيبة واحتقار الناس وازدرائهم والتنابز بالألقاب، وأن يلمز بعضهم بعضاً، أشار إلى أن علة ذلك أنهم متساوون في البشرية، فالإسلام دين المساواة، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأبيض على أسود؛ إلا بالتقوى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، هذا هو ميزان الله سبحانه وتعالى.
والله أعلم.(135/22)
تفسير سورة الحجرات [13 - 18](136/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى))، أي: من آدم وحواء، أو من ماء الذكر من الرجال ومن ماء الأنثى من النساء، وفي ذلك إشارة إلى خلق كل بني آدم من ذكر وأنثى، أي أن كل مولود من بني آدم يأتي من أب وأم كما قال سبحانه وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:7 - 8].
فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواءً بسواء، وما منكم أحد يقدم على أحد في عنصره أو في أصله، بل كلكم ترجعون إلى آدم، وآدم خلق من تراب.
فلا وجه للتفاخر والتفاضل في الأنساب؛ لأن هناك وجه ارتباط بين هذا الخطاب في هذه الآية الكريمة وبين ما قبلها، فإنه سبحانه وتعالى بعدما نهى عن الغيبة وعن احتقار الناس بعضهم لبعض وسخرية بعضهم من بعض، نبه على أنه لا يسوغ لأحد أن يحتقر أخاه أو أن يسخر منه؛ لأنهم متساوون جميعاً في البشرية، فقال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)).
فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب؛ لأن النسب ليس إرادياً وليس يملكه الإنسان، وإنما كل يدلي من حيث يدلي به الآخر إلى ذكر وأنثى وإلى آدم وحواء.
((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضاً نسباً بعيداً، وبعضكم يناسب بعضاً نسباً قريباً، ليعرف بعضكم بعضاً في قرب القرابة منه وبعده، لا فضيلة لكم في ذلك وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) أي: أشدكم اتقاءً له وخشية، بأداء فريضته واجتناب معاصيه، لا أعظمكم ملكاً ولا أكثركم عشيرة.
فلما تساوى البشر كله في البشرية، ذكر الله سبحانه وتعالى أن ناساً إن كان بعضهم يتفاخر على بعض بنسب وحسب، فإن هذا لا اعتبار له عند الله سبحانه وتعالى، وإنما الاعتبار بالعمل الصالح والتقوى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، أي: بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم وغير ذلك، لا تخفى عليه سبحانه وتعالى خافية.(136/2)
ذكر التدرج في أسماء القبيلة حسب الكثرة والقلة
حكى الثعالبي في فقه اللغة في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبي عن أبيه: أن الشعب أكبر من القبيلة، ثم يليها العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ.
وعن غيره قال: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العشرة، ثم الأسرة.
وقال الشيخ ابن بري: الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة.
وقال أبو أسامة: هذه الطبقات على ترتيب خمس الإنسان، فالشعب أعظمها مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس باجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق.
وزاد بعضهم العشيرة، فقال: اقصد الشعب فهو أكثر حي عدداً في احتواء ثم القبيلة ثم يتلوهما العمارة ثم الـ بطن والفخذ بعدها والفصيلة ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرنا قليلة فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
وسميت الشعوب لأن القبائل تتفرق منها، والشعوب جمع شعب بفتح الشين.
وفي هذه الآية الكريمة الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرفوا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، فإذاً: هذه الآية تفيد الاعتناء بالأنساب والاهتمام بمعرفتها؛ لأن الهدف من تنوعها هو التعارف.(136/3)
دلالة الآية على النهي عن التفاخر بالأنساب
وفي الآية أيضاً ذم التفاخر بها قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، فلا تتفاخروا بنسب التكريم عند الله بالتقوى.
ففي الآية ذم التفاخر بالأنساب، وأن التقي غير النسيب يقدم على النسيب غير التقي، فيقدم الأورع في الإمامة على النسيب وغيرهما.
وعن ابن وهب قال: سألت مالكاً عن نكاح الموالي العربية؟ فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، فلم يشترط في الكفاءة الحرية.
وقال ابن كثير: استدل بالآية من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين.
وقد أشرنا مراراً إلى أن أمثال هذه التعبيرات الدقيقة للعلماء ينبغي ألا نتجاوز بها حدها، فقوله: واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفاءة لا تشترط في النكاح، ولا يشترط سوى الدين.
يعني: أنها دليل لمن قال ذلك، ولكن تحقيق المسألة له موضع آخر، سواء كان هذا هو الراجح أو غيره، لكن هذه العبارات تأتي بصورة عابرة للإشارة إلى أن هذه قد استدل بها بعض العلماء على مسألة معينة.
وقوله تبارك وتعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، أفاد حصر حكمة جعلهم شعوباً وقبائل فيه، أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً: فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب، لا للتفاخر بالآباء والقبائل؛ فمعرفة الأنساب لها ارتباط وثيق جداً بأحكام الثوارت وغيرها، فجعلها الله كذلك لأجل هذه المنفعة وهذه الحكمة، وليس للتفاخر بالآباء والقبائل.
فالحصر هنا مأخوذ من التخصيص بالذكر، فلما خص هذه الحكمة (لتعارفوا) بالذكر، دل ذلك على التخصيص، لأنه سكت عما عداه في معرض البيان، فهذا هو الذي أفاد الحصر في هذه الفائدة.
وقال القاشاني: معنى قول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، أي: لا كرامة بالنسب بتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى، والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر فإنه من الرذائل، والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى، ثم كلما كانت التقوى أزيد نسبة كان صاحبها أكرم عند الله تبارك وتعالى، وأجل قدراً.
فالمتقي عن المناهي الشرعية التي هي الذنوب في عرف ظاهر الشرع أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن أكرم من المجترئ على المعاصي الموصوف بها.(136/4)
ذكر الأدلة على تحريم التفاخر وأن التقوى ميزان التفاضل
روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم.
قالوا: ليس عن هذا نسأل، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله.
قالوا: ليس عن هذا نسأل، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).
فقد يكون الإنسان غير مسلم لكن استعداداته الشخصية فيها خير، بحيث إذا عرض عليه الحق انقاد إليه ودخل في الإسلام بسبب هذه السمات الشخصية التي كان يتحلى بها في الجاهلية.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)، فهو يوسف عليه السلام ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومع ذلك لم ينتسب يوسف إلا بما فضله الله سبحانه وتعالى من الأخلاق الكريمة: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، لم يقل: إني أوتيت شطر الحسن ولم يفتخر بنسبه، وإنما زكى نفسه بما ميزه الله سبحانه وتعالى به: ((إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)).
وروى مسلم عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فالعبرة عند الله سبحانه وتعالى، والحساب عند الله، والمفاضلة بين الناس لا تكون بالنظر إلى الصور ولا إلى الأعراض والأموال، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله).
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان).
يعني: أن البشر جميعاً متساوون في البشرية والانتساب إلى آدم عليه السلام، ومقتضى هذا أنه لا يحق لأحد أن يفخر على أحد بنسب ولا حسب.
قوله: (ولينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم)، في بعض الروايات: (لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم حطب جهنم)، فبعض الناس يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا على الكفر والعياذ بالله، فلا يجوز لمسلم أن يفتخر بآباء أو بأجداد ماتوا على الكفر كما سيأتي في الحديث أيضاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (من انتسب إلى تسعة -يعني ممن ماتوا على الكفر- فهو عاشرهم في النار) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله، فلا يجوز للمسلم إذا كرمه الله بالإسلام أن يفتخر بآبائه إذا كانوا مسلمين، فما بالك إذا كانوا كافرين، كما يفتخر بعض الناس بالقدماء المصريين المشركين الوثنيين.
وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بالآباء، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر هين على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))).
فغبية الجاهلية: يعني: افتخارهم بآبائهم، فهذه من سمات وأخلاق الجاهلية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه، فقد خطب في حجة الوداع فقال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، سواء كان حمية الجاهلية أو حكم الجاهلية، أو تبرج الجاهلية، أو ربا الجاهلية، أو ظن الجاهلية، وكل ما ينسب إلى الجاهلية وهو من خصائصها، فانظر كيف وضعهم النبي صلى الله عليه وسلم!(136/5)
تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
ذكر الأموال لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه، ومعنى قوله: ((وَجَاهَدُوا))، أي: بذلوا الجهد، فجاهدوا العدو أو النفس والهوى.
(أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، أي: الذين صدقوا في ادعاء الإيمان؛ لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم.
وفيه تعريض بكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للقطع، أي: هم الصادقون لا أولئك، فإيمانهم إيمان صدق وبر.
وفي الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان، وهذا مما لا خلاف فيه بين السلف.
وقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)) فيه إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقي، وهو اليقين الثابت في القلب، الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطر، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجزم بحكمها، والتفاخر بهيئتها، وذلك معنى قوله: ((وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: بعد نفي الارتياب عنهم؛ لأنه لا يمكن أن يبذل الإنسان ماله ونفسه في سبيل شيء وهو يشك فيه؛ لأنه إذا مات سوف يلقى الله، فإذا لم يكن على يقين بأنه على الحق بهذا الإيمان؛ فكيف يخاطر بنفسه وبماله؟! فإذاً: هذه ثمرة هذا اليقين: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا))، فإذا كانوا على هذه الدرجة من اليقين والبراءة من الريبة والشك، فهؤلاء تطاوعهم أنفسهم في أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تبارك وتعالى.(136/6)
تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16].
أي: قل لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم آمنا، ((أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ))، أي: أتخبرونه بقولكم آمنا لطاعتكم إياه؛ لتكونوا مع المؤمنين عنده، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه، وهو علام الغيوب.
فهي من التعليم بمعنى الإعلام والإخبار ((قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ)) أي: أتخبرون الله بدينكم، ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)).
وهذا فيه تجهيل لهم وتوبيخ؛ لأن قولهم: (آمنا) إن كان إخباراً للخلق فلا دليل على صدقه، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له؛ لأنهم كيف يعلمونه وهو العالم بكل شيء؟! كما قال: ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)).
فهذا تقديم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم، يقول: الله محيط بكل شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم، فتنالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.(136/7)
تفسير قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا)
قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
ثم أشار تبارك وتعالى إلى نوع آخر من جفائهم مختوماً بتوعدهم، فقال تبارك وتعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)، أي: أن انقادوا وكثروا سواد أتباعك.
وكلمة (أسلموا) تعني الأعراب، فالمقصود الإسلام الظاهر، وهو الانقياد باللسان والجوارح دون القلب، أي: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنهم انقادوا وكثروا سواد أتباعك.
((قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)) أي: لا تمنوا علي بإسلامكم، إذ لا ثمرة منه إلي، فإنكم لو أسلمتم فأنا لا أنتفع بهذا، {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [الإسراء:15]، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
(بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، يعني: إن كنتم صادقين في قولكم (آمنا) ففي هذه الحال تكون المنة لله عليكم؛ لأنه هو الذي هداكم للإيمان، لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون لاطلاعه على الغيوب.(136/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:18].
أي: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، والداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، والداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض.(136/9)
الكلام على سبب نزول الآيات الأخيرة من سورة الحجرات
روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم، ونزلت هذه الآية).
وقال ابن جرير: هذه الآية نزلت في الأعراب، ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب غير المعنيين بها أولاً، الذين كانوا ينادون الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة.
في قوله تعالى: ((بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، ملاحظة المنة لله عز وجل، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها والاعتراف بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمن) اعترافاً بالمنة والفضل لله عز وجل.(136/10)
نقل كلام لطيف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
وما ألطف قول أبي إسحاق الصابئ في طليعة كتاب له بعد الثناء على الله تعالى، يقول: وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصراً صلى الله عليه وسلم، وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً، وأوضحهم حجة وبرهاناً، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية.
محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، الذي اتخذه صفياً وحبيباً، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدود عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدم الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم.
أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً.
فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً، وبالعنف لما وجد أنصاراً وجنوداً، لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفَّاه، ولا حجة منوهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتوادعت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.(136/11)
ذكر الإمام الرازي لما في ترتيب سورة الحجرات من معنى
يقول الرازي: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي: إما مع الله تعالى أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس.
يعني: هذه السورة بالذات تسمى سورة الآداب؛ لأنها فيها إرشاداً إلى مكارم الأخلاق، إما مع الله تعالى، وإما مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس.
قال: وهم على صنفين؛ لأنه إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو مؤمنين لكن خارج الطاعة، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم.
فهذه خمسة أقسام: أحدها يتعلق بجانب الله، والثاني يتعلق بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالث يتعلق بجانب الفساق، والرابع يتعلق بالمؤمن الحاضر، والخامس يتعلق بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة، فقال أولاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، فهذا الجانب يتعلق بجانب الله، وبالأدب مع الله؛ لأن المقصود بكلمة (ورسوله) بيان طاعة الله؛ لأن طاعة الله لا تعلم إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
وقال ثانياً فيما يتعلق بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوال الفساق، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبين ذلك عند تفسير قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
وقال رابعاً فيما يتعلق بالمؤمن الحاضر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، وقال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]، لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامساً فيما يتعلق بالأدب مع المؤمن الغائب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى.
وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة؟ أي: فما الحكمة أنه أتى بالفاسق بعد الله والرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة؛ فالابتداء بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم بالفاسق؟ قال: نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كلما كان أشد نفاراًً للصدور.
أي: فالقتال والفتنة بين المؤمنين التي تترتب على تصديق خبر الفاسق أشد، فلذلك قدمها قبل ذكر المؤمن الغائب أو الحاضر.
وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتال، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، وما الذي يتسبب في الاقتتال بين المؤمنين؟ أنهم يقبلون خبر الفاسق ويعتمدون عليه، فيحصل بينهم هذا الاقتتال، أما المؤمن الحاضر أو المؤمن الغائب فمهما بلغ من الأذى فإنه لا يصل إلى حد فتنة الاقتتال.
والله أعلم.(136/12)
تفسير سورة (ق) [1 - 16](137/1)
تقسيم القرآن الكريم وتحزيبه للتلاوة والصلاة(137/2)
سورة (ق) أول المفصل في القرآن
نشرع إن شاء الله تعالى في تفسير سورة ق.
تسمى سورة ق، وتسمى أيضاً سورة الباسقات، وهذه السورة مكية بالإجماع، وآيها خمس وأربعون آية.
وسورة ق هي أول الحزب المفصل على الصحيح.
وهناك قول آخر: أن الحزب المفصل يبدأ بسورة الحجرات.
أما ما يذهب إليه بعض العوام من أن أول حزب المفصل يبدأ من سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] فلا أصل له، ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين بهذا القول فيما نعلم، كما قال القاسمي رحمه الله تعالى.
أما الدليل على كون سورة ق أول الحزب المفصل فهو ما رواه أوس بن حذيفة، قال: (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده).
ويبدأ العد من سورة البقرة، لا من الفاتحة.(137/3)
حكم تحزيب القرآن وتقسيمه
إن معنى تحزيب القرآن هو تقسيم القرآن إلى أجزاء، وقد كان الصحابة يحزبون القرآن ويقسمونه على سبعة أحزاب، يختمون في كل يوم حزباً من هذه الأحزاب.
هذا هو تحزيب الصحابة والسلف للقرآن.
وقد وجدت بعد ذلك أنواع أخرى من التحزيب أشهرها ما هو موجود الآن من تقسيم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، ثم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وهذا التحزيب حدث بعد القرون الأولى، وفيه شيء من النظر؛ لأن هذا التحزيب يتوقف أحياناً عند جزء من السورة لم يكن المعنى قد تم عنده.
فمثلاً: الربع الذي يبدأ بقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] قد بدأ بما هو مرتبط بالسياق قبله من حيث المعنى، فلا يحسن الوقوف قبله، ولا ابتداء القراءة به، فهذا التحديد لا يبتني على أساس تحزيب الصحابة، فتحزيب الصحابة كما نلاحظ يبدأ دائماً برأس سورة.(137/4)
القراءة في الصلاة من المفصل
إن من خصائص حزب المفصل أن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخمس كانت من حزب المفصل.
وكان إذا قرأ من خارج المفصل يقرأ السورة كاملة.
فمثلاً: قرأ مرة في المغرب بسورة الأعراف كلها، فالأصل فيمن قرأ بسورة أن يتمها، إما على ركعتين، وإما كل سورة في ركعة كاملة.
ولكن رغبة في التخفيف على المصلين كان يغلب على النبي عليه الصلاة والسلام القراءة بسور المفصل، وهي ما بين قصار وأوساط وطوال.
فكان يقرأ في الفجر مثلاً بطوال المفصل.
إذاً: ينبغي أن يغلب في قراءة الإمام في الصلاة من حزب المفصل، وإذا قرأ من خارجه فالمستحب والأفضل أن يقرأ السورة بتمامها كما جاء في بعض الأحاديث: (كان يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات).
إلا إذا عرض عارض كما اختصر قراءته عليه الصلاة والسلام لما طرأت عليه سعلة أثناء الصلاة، أو لما دخل في الصلاة ويريد أن يطولها فسمع بكاء الصبي الصغير فاختصر وأوجز، لكن ينبغي أن يكون الغالب قراءة سورة بكاملها، والغالب كما قلنا هو من حزب المفصل.(137/5)
الاهتمام بتلاوة القرآن
يمكن لكل إنسان أن يكون له حزب خاص به يحافظ على تلاوته هو حسب ظروفه؛ لأن الارتباط بالقرآن الكريم هذه سمة أساسية لكل مسلم، فينبغي لكل مسلم أن يكون له ورد خاص من القرآن الكريم؛ لكن يحذر المسلم أن يهجر كتاب الله، فيدخل ضمن من سيشتكيهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
فهذه درجة من درجات الهجر، وهو هجر تلاوة القرآن الكريم، ومنها هجر تدبره، وهجر حفظه، وهجر الحكم والعمل به، ولذلك (لما أتى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ عن الخروج إليهم، ثم خرج إليهم وقال: إنه كان قد بقي علي شيء من حزبي، فكرهت أن أخرج حتى أتمه).
ومن فاته ورده أو حزبه من الليل فله أن يعوضه في النهار كما قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
قوله: (خلفة) يعني: يخلف أحدهما الآخر، فكما أن لكل مسلم رقم بطاقة وله اسمه ووظيفته وعنوانه؛ فله ورده من القرآن الكريم.(137/6)
مقدار ما ينبغي للمرء أن يقرأه من القرآن وضوابط ذلك
إن مقدار ما يقرأ المرء من القرآن في اليوم أمر لا نستطيع أن نضع له حداً ثابتاً يلتزم به كل الناس؛ لاختلاف الأحوال والله سبحانه وتعالى قد أشار إلى هذا المعنى في القرآن كما قال تبارك وتعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] أي: يبحثون عن الرزق، ثم قال: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
فالناس يختلفون فمنهم من يستطيع أن يفعل كما كان الصحابة يفعلون، بأن يحزب القرآن على سبعة أحزاب، ومنهم من يختمه في عشرة أيام، ومنهم من يختمه في ثلاثة، ومنهم من يختم في شهر، وهكذا، المهم ألا يكون هناك هجر للقرآن الكريم، بل كل واحد لا بد أن يكون له حزب خاص به من القرآن الكريم، بحيث يختم فيه القرآن حسب ظروفه؛ لأن هناك طالب العلم، وهناك التاجر، وهناك المجاهد، وهناك المتفرغ، وهناك العابد، فالناس أنواع شتى ولا نستطيع أن نلزم الجميع بقدر ثابت، ولكن كلما حافظ الإنسان على شيء حتى ولو كان قليلاً كان أفضل وأنفع.
فالذي يؤثر في إصلاح القلب هو ما داوم عليه الإنسان، لذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا عمل عملاً أثبته)، و (كان عمله ديمة) يعني: كان يحافظ عليه ولا يقطعه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الأعمال أدومها وإن قل)، فالمداومة والمثابرة والثبات على العمل الصالح أفضل بكثير من أن تأتي الإنسان الشرة والحدة والحمية في أول الأمر ثم بعد ذلك يهدأ تماماً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة).
أي: قوة وشجاعة وهمة عالية تكون في أول العمل، ثم بعد ذلك يئول إلى الفترة والتراخي والكسل.
فينبغي أن ينظر الإنسان إلى هذا، وأن يراعي الوسطية والتوازن بين الحقوق والواجبات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأعط كل ذي حق حقه)، فللزوجة حق وللبدن حق وللضيوف حق، ولطلب العلم حق، وللعبادة حق، فأعط كل ذي حق حقه.
كذلك على الإنسان ألا يبالغ في الآمال والأحلام، ويقول: أختم القرآن في ثلاثة أيام مثلاً، ثم في الواقع لا يستطيع أن يختم في ثلاثة أيام، فكن واقعياً حتى تستمر، وألزم نفسك بما تستطيع المواظبة عليه، فتحدد لك حداً أدنى كجزء أو جزأين في اليوم على حسب ما تستطيع، ثم واظب على هذا الحد الأدنى الذي تستطيع أن تحافظ عليه فإن زدت فهو خير، وينبغي أن يكون اختيارك للحد الأدنى مبنياً على أن ذلك بالنسبة لظروفك أمر مستطاع.
فلابد أن يكون كل يوم حزب من القرآن تقرؤه، ولا بد أن توثق صلتك بقراءة القرآن الكريم، وهذه الوظيفة مختلفة عن وظيفة الحفظ ووظيفة المراجعة، فختم القرآن في حد ذاته وظيفة أساسية كما تأكل وتشرب وتنام، فهي وظيفة يومية.
وبعض العلماء لما أرادوا أن يحددوا الحزب قالوا: نبدأ بسورة الفاتحة، لكن لو بدأنا من سورة الفاتحة فسوف يبدأ الحزب المفصل من سورة الحجرات، والدليل واحد، وهو ما ذكرنا عن أوس بن حذيفة لكنهم اختلفوا في تفسيره، والراجح أنهم كانوا يبدءون التحزيب من البقرة وأما من بدأ العد من الفاتحة فسوف يبدأ حزب المفصل بسورة الحجرات.
ومن بدأ العد من البقرة، فسيبدأ حزب المفصل بسورة (ق).
أما بيان ذلك فهو كما قلنا: ثلاث، خمس، سبع، تسع، إحدى عشرة، ثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده فيكون القرآن كله سبعة أحزاب.
فإذا عددت ثمانية وأربعين سورة من البقرة فتكون السورة التي بعدهن هي سورة ق.
أما ترتيب سورة ق في المصحف فهي السورة الخمسون.
إذاً: سنبدأ العد في هذه الحالة من سورة البقرة.
فالثلاث الأولى: البقرة، آل عمران، النساء.
ثم الخمس: المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، براءة.
ثم السبع: من يونس إلى النحل.
ثم التسع: من سورة سبحان الإسراء إلى سورة الفرقان.
ثم الإحدى عشرة: من الشعراء إلى يس.
ثم الثلاث عشرة: من الصافات إلى الحجرات، ثم بعد ذلك الحزب المفصل.
وسمي بالمفصل؛ لأنه يكثر الفصل بين سوره لقصرها بالنسبة لما تقدم من سور القرآن الكريم.
فإذاً: يتعين أن أول حزب المفصل هي سورة ق.(137/7)
فضائل سورة ق
روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي رضي الله عنه: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد، قال: بـ (ق) واقتربت الساعة).
فالسنة في صلاة العيد أن يقرأ إما بسبح اسم ربك الأعلى وسورة الغاشية، وإما بسورتي (ق) واقتربت الساعة.
وروى مسلم وغيره، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ بها كل جمعة -وفي رواية-: كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس)، ومن كثرة قراءته إياها حفظت أم هشام هذه السورة.
فيلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كصلاة العيد كما ذكرنا، وفي خطبة الجمعة؛ لأنها تشتمل على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.(137/8)
تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)
يقول الله تبارك وتعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1].
((ق)) من حروف التهجي التي تفتح بها أوائل بعض السور مثل: (ص) و (ن) و (الم) و (حم) ونحوها.
وأشرنا مراراً إلى الاختلاف في المراد بهذه الحروف المقطعة في أوائل السور، فقلنا: إن الأرجح أن يقال: الله أعلم بمراده من ذلك.
القول الثاني: أنها إشارة إلى تأَلف القرآن الكريم من نفس حروف اللغة العربية، وكيف أن العرب يعجزون مع بلاغتهم وفصاحتهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو مؤلف من نفس حروفهم، فهي إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.
ويعتقد القاسمي أن الصحيح من الأقوال: أن هذا الحرف علم على السورة، وهو في هذه السورة أمر معروف؛ لأننا نسميها سورة (ق).
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: روي عن بعض السلف أنهم قالوا: (ق) جبل محيط بجميع الأرض.
ويشيع مثل هذه الأقوال التي لا أصل لها في بعض كتب التفسير للأسف الشديد، بل هي أقوال خرافية، مثل اعتقاد بعض الناس أن الأرض محمولة على مخلوق ضخم الجثة جداً، وأن له قرنين، وأن الأرض محفوظة ما بين القرنين، وإذا تحرك تحصل الزلازل، هذه كلها أساطير وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
كذلك قولهم إن (ق) جبل هو والله تعالى أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس؛ لأنهم رأوا جواز الرواية عن بني إسرائيل في القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، لحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).(137/9)
الإسرائيليات بين القبول والرد وأقسامها
قال العلماء: إن أخبار الإسرائيليات ثلاثة أقسام: الأول: ما نعلم كذبه قطعاً ومخالفته للشرع، فهذا ينبغي رده قولاً وحداً.
الثاني: ما نعرف صدقه قطعاً، فهذا نقبله.
الثالث: الذي لا نعرف هل هو صادق أم كاذب، فالاحتياط الإمساك عنه؛ لأنه إذا كان من الوحي الذي أوحاه الله إلى أنبيائهم، فينبغي ألا نكذب به، ويحتمل أنه ليس من الوحي، فإذا صدقنا به نكون قد صدقنا بشيء ليس من الوحي.
فعلى أي حال تأول بعض العلماء هذا الحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) على أن هذا في القسم الذي هو مما لا يصدق ولا يكذب، فيجوز حكايته عنهم وروايته.
يقول ابن كثير: وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها، أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم.
يعني: نحن أحدث ديناً، أو أحدث رسالة، ومع ذلك افتري على النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث، وهذا مع وجود العلماء والحفاظ وحراس السنة.
ثم يقول: فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه؛ فليس من هذا القبيل، والله أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكايات عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة.
للأسف أن من آفات كتب التفاسير وجود الإسرائيليات الكثيرة في أثنائها، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عن أن نقتبس من هذه الإسرائيليات.(137/10)
الإسرائيليات المعاصرة ودروها في الحرب النفسية على المسلمين
إن من المناسب أن نعرج تعريجاً سريعاً على الإسرائيليات المعاصرة، فالعلماء دائماً يتكلمون في الإسرائيليات التي تناقلوها عن كتب أهل الكتاب السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وقد أشرنا من قبل إلى أن الإسرائيليات لا تقتصر على الإسرائيليات التي اختلقها بنو إسرائيل من قبل، بل هناك إسرائيليات معاصرة، وهي أكاذيب يفتريها اليهود ومن شايعهم في هذا الزمان، ثم يروجونها في الناس كنوع من الحرب النفسية، فكم قد تكلموا من قبل كمحررين على أساس حساب الأرقام أن الحرب بين المسلمين واليهود ستكون سنة (1997م) وردد الناس ذلك كالبغبغاوات، ثم مرت سنة (1997م) وما حصل شيء.
مرة أخرى أشاعوا عن الألفية هذه أنه سوف يحصل فيها انقلاب كامل في نظام الكون.
والألفية من كذباتهم فنحن الآن ما دخلنا الألفية، بل ما زلنا في آخر سنة من الألف الثانية الميلادية، أما الألفية الحقيقية فسوف تبدأ إن شاء الله في العام القادم.
إذاً: هذه من الإسرائيليات الكاذبة، لغرض أن يظل الناس مشغولين طوال هذه السنة بالنفخ في قضية الألفية، حتى إن المسلمين ابتلعوا هذه الإسرائيليات المعاصرة، وصار عندهم اهتمام غير عادي بهذه الألفية.
ما علاقتنا نحن بهذه الألفية؟ نحن لا نعترف أصلاً بالتقويم الميلادي؛ لأنه خاص بالكفار، أما نحن فكان الأولى أن نحتفل إن كان يجوز بدخول الإسلام إلى مصر منذ أربعة عشر قرناً، فهذا هو الذي نسعد ونفرح به.
على أي حال فموضوع الألفية قد اكتنفها تضخيم وتهويل ومؤامرات، فنقول: إن هذه العلامات الزمنية سواء ألفية أو غير ألفية هي عبارة عن خطوط وهمية، مثل الخطوط الوهمية في أعلى الخريطة التي تقسم الكرة الأرضية إلى خطوط طول وخطوط عرض، وهذه الأشياء كلها خطوط وهمية، فالأوقات يشبه بعضها بعضاً، والسنوات يشبه بعضها بعضاً، والأيام يشبه بعضها بعضاً، وأنت محاسب عن كل لحظة من الزمان، أما أن نتصور أن تنقلب الأمور رأساً على عقب عند حد معين، فلا.
إن اليهود زرعوا في قلوب الناس أن كل شيء سيتغير في الدنيا عند حلول الساعة الثانية عشرة في آخر ليلة من (ديسمبر)، ومرت الأيام ولم يحدث شيء، أو أن اليهود سوف تقود الحرب سنة (2000م) وسيعود المسيح الدجال الذي ينتظرونه إلى آخره.
هو قطعاً سيعود، ولكن متى؟ الله أعلم.
إذاً: علينا ألا نعتمد على كلام اليهود؛ لأن هذه من الإسرائيليات المعاصرة، وهي كثيرة يبثونها في عقولنا ونحن نبتلعها، أو أن إسرائيل دولة لا تقهر، ويثبون أن الحرب ستقوم في وقت كذا، هذه أيضاً من الإسرائيليات، فينبغي أن نلتفت إلى رفض هذه الإسرائيليات المعاصرة وردها.(137/11)
توجيه معنى قوله تعالى: (ق)
رد الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى على قول بعض المفسرين حيث قالوا: إن المقصود بقوله تعالى: (ق) يعني: قضي الأمر والله.
على أساس أنه حذف كل هذه العبارة، واقتصر على كلمة (ق) كما يقول الشاعر: (قلت لها قفي فقالت ق) يعني: أنا واقفة.
رد ابن كثير هذا القول وقال: وفي هذا التفسير نظر؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟ يعني: مجرد ذكر هذا الحرف لا يكفي؛ لأن هذا الشاهد الذي يستدل به وهو قول الشاعر: (قلت لها قفي فقالت ق)، نقول: إذا صح هذا الشطر من البيت كشاهد، وقبل هذا على أنه شاهد شعري مقبول، ينطبق عليه شروط الشواهد، فنقول: إن السياق الشعري هنا يدل على هذا الحذف.
أما في الآية: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] فأين ما يدل على الحذف، وأن (ق) معناها: قضي الأمر والله.
فقوله: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) هذا قسم فأين المقسم عليه؟ يفهم أيضاً من السياق، ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) يعني: أقسم أن النبي صادق وأن رسالته حق وهكذا.
قوله: ((المجيد)) أي: ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.(137/12)
تفسير قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم)
يقول تبارك وتعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2].
((بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ)) يعني: عجبوا لأنهم جاءهم منذر من جنسهم، لا من جنس الملائكة ولا من جنس الجن مثلاً، وإنما هو من جنسهم بشر مثلهم.
أو المقصود منه من جلدتهم، وهذا إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف، كأنه قيل: ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) أي: أنزلناه إليك لتنذر به الناس.
وكأنه قيل بعد ذلك: لم يؤمنوا به، وجعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجب، مع كونهما أوثق شيء من قضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول.
يعني: مم يتعجبون؟! مع أن العقل والقلب السليم يقبل الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالرسالة.
فقوله عز وجل: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)) فيه تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب.
وفيه إشارة إلى كونه صلى الله عليه وسلم منذراً بالقرآن ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)) يعني: أن يأتي وينذرنا بالقرآن ((هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)).
فأضمرهم أولاً في قوله: ((بَلْ عَجِبُوا)) ثم أظهرهم فقال: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ)).
وإضمارهم أولاً لإشعاره بتعينهم بما أسند إليهم، والسياق فيه إشارة إلى تعجبهم بغض النظر عن أنهم هم الكافرون.
وإظهارهم ثانياً للتدليل عليهم بالكفر بموجبه، لأنهم رفضوا القرآن فصاروا كافرين، فلذلك قال: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)).
وهذا تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار.(137/13)
تفسير قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا تراباً كتاب حفيظ)
قال تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:3 - 4].
((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا)) هذا تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار، يعنون: حين نموت ونصير تراباً نرجع كما نطق به النذير والمنذر به، مع كمال التباين والفرق بين الموت والحياة؟ ومع ذلك قالوا: ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا)) أي: سنبعث وننشر ونعود إلى الحياة؟! ثم قالوا: ((ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)) أي: عن الأوهام أو العادة أو الإمكان.
قوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) أي: ما تأكل من أجساهم بعد مماتهم.
والله سبحانه وتعالى لا يغيب عن علمه شيء، ومما لا يغيب عن علم الله سبحانه وتعالى أنه حتى أجزاء وذرات جثثهم التي تبلى وتفنى يعلمها أين تذهب وأين مصيرها.
فقوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) هذا رد لاستبعادهم البعث والنشور، فإن من عم علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، كيف يستبعد أن يرجعهم أحياء كما كانوا! وقيل قوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) يعني: ما يموت فيدفن في الأرض منهم.
((وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ)) أي: حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، فالإشارة هنا إلى اللوح المحفوظ.
فـ (حفيظ) بمعنى محفوظ من التغير، فإن المراد تمثيل علم الله سبحانه وتعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من كان عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء، أو تأكيد لعلمه تعالى بها لثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.(137/14)
تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم)
قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5].
قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ)) وهو القرآن.
قوله: ((لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: أنهم بادروا بالتكذيب دون أن يتمعنوا ويتفكروا ويتأملوا.
قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)) هذا الإضراب الثاني أتبع الإضراب الأول الذي مضى، للدلالة على أنهم أتوا بشيء هو أفظع من التعدي.
فقوله: ((بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)) هذا الإضراب الأول، لكن هناك أشد من هذا العجب وهو: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) فقد أتوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر.
وكونه أفظع للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه، ولأن التعجب أخف، أما التكذيب فهو أشد.
وأيضاً: كذبوا بالحق ولم يكلفوا أنفسهم عناء التأمل والتدبر والتفكر، وإنما رفضوا الحق لأول وهلة بادئ الرأي.
قوله: ((فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) أي: مضطرب، والاضطراب هنا هو اختلاف مقالتهم في الحكم على القرآن، تارة يدعون أنه شعر وأخرى أنه سحر، وثالثة أنه كهانة أو غير ذلك؛ تعنتاً وتكبراً.(137/15)
تفسير قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6].
قوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا)) يعني: هؤلاء المكذبون بالبعث المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد فنائهم ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)).
((كَيْفَ بَنَيْنَاهَا)) أي: رفعناها بغير عمد، وكما جاء في الآيات الأخرى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] ومن ثم ذهب بعض المعاصرين ممن يعتمدون التفسير العلمي لبعض آيات القرآن الكريم أن هناك أعمدة بين هذه الكواكب وبين البنيان الذي في السماء، ولكنها غير مرئية، فكأنه استدل بمفهوم قوله تعالى: ((بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)) يعني: بعمد لا ترونها، وذهب إلى أنها هي قوى التجاذب وهذه الأشياء المعروفة.
((وَزَيَّنَّاهَا)) أي: زيناها بالنجوم.
((وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)) يعني: ما لها من صدوع وشقوق، ولا نجد فيها تجاويف أو فراغات كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4] أي: وهو كليل عن أن ترى عيباً أو نقصاً.(137/16)
تفسير قوله تعالى: (والأرض مددناها لكل عبد منيب)
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7 - 8].
((مَدَدْنَاهَا)) بسطناها.
((وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)) أي: جبالاً ثوابت حفظاً لها من الاضطراب لقوة الجيشان في جوفها.
((وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ)) أي: من كل صنف.
((بَهِيجٍ)) أي: حسن المنظر يبتهج به لحسنه.
((تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)) هذا مفعول لأجله، يعني: لتبصر وتذكر كل عبد منيب راجع إلى ربه، متفكر في بدائع صنعه.(137/17)
تفسير قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماءً مباركاً)
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9] ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ)) المقصود بالسماء هنا المزن، وذلك لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69].
المزن هو السحاب.
((ماءً مباركاً)) أي: كثير المنافع.
((فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ)) أي: أشجاراً ذوات أثمار.
((وَحَبَّ الْحَصِيدِ)) أي: الزرع المحصود من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب.
وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات، مع أن النبات ينبت نباتاً متكاملاً وليس الحب فقط، ولكن هنا التركيز على المقصود من هذا النبات: الحبوب، فلذلك خصها بالذكر؛ لأن المقصود من الزرع هو الحصول على هذه الحبوب.(137/18)
تفسير قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد)
يقول عز وجل: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10].
أي: وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخل.
وقوله: ((بَاسِقَاتٍ)) يعني: طوالاً أو حوامل، من أبسقت الشاة إذا حملت، فيكون من أفعل فهو فاعل، والفعل إذا أتى على وزن (أفعل) فاسم الفاعل منه على وزن (مفعل) كقولك: أركب فهو مركب، وأظهر فهو مظهر، هذا هو الأصل والقياس، وما جاء على خلاف هذا فهو من النوادر، كالصوائخ واللواقح في أخوات لها شاذة.
فمثلاً: الفعل الرباعي أصاخ الأصل أن يكون الفاعل على وزن (مفعل) مصيخ، لكنها جاءت على وزن (فاعل) (صائخ) شذوذاً.
كذلك الفعل الرباعي ألقح، المفروض أن يكون على وزن (مفعل) ملقح، لكنه جاء على (فاعل) لاقح: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] جمع لاقح.
كذلك قوله: (باسقات) أصلها أبسق، فالمفروض أن تكون على وزن (مفعل) لكنها جاءت على (فاعل) (باسق).
نلاحظ هنا في هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أفرد النخل بالذكر: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) مع دخولها في جنات، لبيان فضلها لكثرة منافعها؛ لأن النخلة شجرة مباركة مثمرة.
فكل شيء في النخل مفيد، وأصحاب النخل والزروع يعرفون أنه لا يوجد شيء في النخل يستغنى عنه، وإنما هي شجرة مباركة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25].
ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الصحابة سؤالاً، وكان ابن عمر موجوداً مع كبار القوم، فقال: (إن من الشجر شجرة تعرفونها هي مثل المؤمن؟ فخاض الناس في أنوع الشجر، لكن عبد الله بن عمر مع صغر سنه عرف أنها النخلة، فاستحيا أن يتكلم وفي المجلس من هم أكبر منه سناً)، والحديث رواه البخاري.
فالشاهد أن النخل له من البركة والخيرات خصائص معروفة لدى الجميع، ولذا أفردها بالذكر بعد الجنات مع أنها نوع منها.
قوله: ((لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)) الجملة في محل نصب.
(لها) شبه جملة في محل رفع خبر مقدم.
و (طلع) مبتدأ مؤخر مرفوع بالضم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب صفة لباسقات.
((نضيد)) يعني: متراكب بعضه فوق بعض.(137/19)
تفسير قوله تعالى: (رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج)
يقول الله تبارك وتعالى: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق:11]، أي لأجل أن يرزق العباد منها.
قال أبو السعود: هذه علة لقوله تعالى: ((فَأَنْبَتْنَا)) في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْل َ)) [ق:9 - 10].
أي: بعد تعليل قوله: (فأَنْبَتْنَا) بالتبصرة والتذكير؛ ليتأمل الإنسان ويتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، جاء التعليل الثاني لقوله: (فَأَنْبَتْنَا) بأنه رزق للعباد، وهذا تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستذكار أهم من تمتعه به من حيث الرزق.
ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة في جملة من الآيات: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73].
أي: تذكرة أولاً ومتاعاً ثانياً.
فإذاً: الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بهذه المخلوقات والنعم أساساً من حيث التذكر والاستبصار، فيتأمل في إبداع الله عز وجل في خلقه، وكيف أن هذه الآيات تدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، وعلى قدرته وعلمه وحكمته، فالانتفاع بهذه الأشياء من حيث التذكر والاستبصار ينبغي أن يكون أهم من تمتعك بها من حيث الزرق والقوت والطعام، فلذلك قدم في الأولى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7 - 8].
ثم قال: ((رِزْقًا لِلْعِبَادِ)).
((وَأَحْيَيْنَا بِهِ)) أي: بذلك الماء.
((بَلْدَةً مَيْتًا)) أي: أرضاً جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار.
((كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)) أي: خروجهم أحياء من القبور.
فشبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى على إخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها.
نعم هناك فرق بين الحياة النباتية والحياة الحيوانية، ومع ذلك فالنبات يمارس كل وظائف الحياة، فهو يأكل ويتغذى ويتحرك وإن كان هذا شيئاً غير ظاهر، لكن معروف أن بعض النبات يتحرك، وبعض النباتات قد تفترس الفريسة بأن تحتضنها ثم تمتصها بعد ذلك، هناك بعض النباتات المتوحشة تفعل ذلك بالحشرات.
إذاً: فعامة طبيعة الحياة موجودة في النبات، ما عدا الحركة التي هي فرق ظاهر بين الحيوان وبين النبات.
كذلك إنبات الأرض بالنبات هي عملية إحياء الأرض بعد موتها، وهذا الإنبات لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، لذلك قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] فالزارع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ونحن نقوم بالحرث فقط: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63]، فنحن نأخذ بالأسباب، لكن قوة الإنبات لا تحصل إلا بقوة الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقوله: ((كذلك الخروج)) معناه أن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها بالإنبات قادر على أن يخرجكم من هذه الأرض بعد أن تضل فيها أجسادكم وتذوب.
وكما نعلم أن هذا أحد الأدلة من القرآن الكريم على ثبوت البعث والنشور؛ لأن القرآن الكريم كثيراً ما يلفت نظرنا إلى أن من أدلة البعث والنشور إحياء الأرض بعد موتها.(137/20)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح وإخوان لوط)
يقول تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق:12 - 13].
((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل قريش.
((قَوْمُ نُوحٍ)) هذا استئناف وارد لتقرير ثبوت البعث؛ وبيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليه وتعزير منكره.
فقوله: ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ)) فيه إشارة إلى أن الإيمان بالبعث والنشور ركن من أركان الإيمان، وأن جميع الرسل قد دعوا إلى الإيمان به والتصديق به، وأن الكفار كذبوا جميع الرسل كما كذبوك يا محمد.
وما داموا قد كذبوا فإنهم يستحقون الوعيد لكفرهم.
((وَأَصْحَابُ الرَّسِّ)) الرس هو بئر كانوا عنده، فيقال: إنهم قوم شعيب عليه السلام، ويقال غير ذلك، وسبق بيان ذلك في سورة الفرقان.
قوله: ((وَثَمُودُ)) وهم الذين جادلوا صالحاً وقتلوا الناقة.
قوله تعالى: ((وَعَادٌ)) وهم الذين جادلوا هوداً في أصنامهم.
((وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ)) يلفت النظر في هذه الآية أن فرعون يذكر لوحده، في حين أن كل طوائف الكفر الأخرى تذكر باسم الأمة نفسها أو القبيلة أو القوم؛ لكن فرعون يذكر لوحده، وعندما ييذكر القرآن الكريم شعب فرعون يذكرهم ذيلاً له: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الأعراف:103].
فهو الأساس؛ لتجبره وطغيانه.
وفرعون هو الذي جادل موسى فيما أرسل به.
قال الرازي: ولم يقل: قوم فرعون؛ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، ولتجبره نقم على السحرة حينما آمنوا وأسلموا، كيف أنهم يدخلون الإسلام دون أن يستأذنوه، وهو المغتر المستخف بقومه كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] فكان مستبداً بأمره مستخفاً بهم، فلذلك إذا ذكروا يذكرون تبعاً له.(137/21)
تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الأيكة وقوم تبع)
يقول تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14].
الأيكة هي الغيضة من الشجر الكثير الملتف، وهؤلاء هم المجادلون شعيباً بالكيل والميزان.
وقوم تبع وهم المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدين.
((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم.
في سياق غير القرآن نقول: كل قبيلة كذبت رسولها؛ لكن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ)) إشارة إلى أن من كذب رسولاً فكأنما كذب بجميع الرسل؛ لأن حقيقة الإيمان لا ينفك بعضها عن بعض، ولذلك قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] مع أن المبعوث إليهم نوح وحده، لكن لأن نوحاً يدعو بدعوة إخوانه من الرسل وهي لا إله إلا الله، وما دامت دعوة نوح إلى التوحيد فإنهم لو فرض أن جميع الرسل أتوا قوم نوح لكذبوهم أيضاً؛ لأن الدعوة واحدة، فهذا هو السر في قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: فوجب لهم الوعيد الذي وعد به من كفر، وهو العذاب والنقمة.(137/22)
مسألة إخلاف الوعيد من الله في حق العصاة والكفار
وقوله تعالى: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} في هذه الآية الفرق بين الوعد والوعيد، وذلك بأن الله قد يخلف الوعيد، لكن لا يمكن أبداً أن يخلف وعده سبحانه، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، وإخلاف الوعيد يكون في حق المسلم أما في حق الكافر فلا.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب.
أي: يتحتم ويثبت في حقه ثبوتاً لا يمكن أن يتخلف.
وهذا دليل واضح على ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده؛ لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، لكن لم يقل: إن الله لا يخلف الوعيد، فبعض العلماء بنوا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يصح أن يخلف وعيده هكذا وتركوها مطلقة، وقالوا: إن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال: وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي.
يمدح نفسه بأنه يخلف الوعيد، لكنه ينجز الوعد.
لكن لا يصح الإطلاق بحال؛ لذلك يقول الشنقيطي: إن القول أن الله يصح أن يخلف وعيده مطلقاً قول غير صحيح؛ لأن وعيده تعالى للكفار حق، ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل، كما قال الله سبحانه وتعالى هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)).
وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد، يعني: فسجد بسبب سهوه، أو لعلة سهوه، أو سرق فقطعت يده، يعني: لعلة سرقته قطعت يده.
ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] فالفاء هنا للسببية، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق واجب عليهم، فدعوى جواز أن يخلف الله الوعيد على الكافر باطلة بلا شك، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر، كقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:28 - 29]، فإذا حق عليهم قول الله بالعذاب، فلا يمكن أن يبدل قول الله.
فالتحقيق أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:28 - 29].
وقال تعالى في سورة ص: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14].
فإذاً: الوعيد هنا لا يمكن أن يتخلف؛ لأن العقاب حق بسبب أنهم كذبوا الرسل.
وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين؛ بتعديهم على كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فالذي يمكن أن يتخلف عنه الوعيد عصاة الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، وقد تلبسوا ببعض الكبائر دون أن يتوبوا منها؛ أما إذا تابوا فإن التوبة تقبل إذا استوفت شروطها.
يقول الإمام ابن جرير: إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلال عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل، ترهيباً منه بذلك مشركي قريش.
يعني: إياك أعني واسمعي يا جارة.
أي: فقوله: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) فيه ترهيب لمشركي قريش ألا يكون مصيرهم مصير هؤلاء الذين حق عليهم الوعيد من الأمم السابقة المكذبة، وإعلام منه لهم أنهم إن لم يتوبوا من تكذيبهم رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم أنه محل بهم من العذاب مثل الذي حل بالأمم السابقة.(137/23)
تفسير قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)
يقول عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15].
((أَفَعَيِينَا)) الهمزة للإنكار، يعني أفعجزنا عن ابتداء الخلق في أوله حتى نعجز عن الإعادة؟! فالعي هنا بمعنى العجز، ويأتي أحياناً بمعنى الجهل.
قال الكسائي: تقول أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر.
وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير.
والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الإنسان متأخر عنه، وهذا التفسير يدل له قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف:33].
وقوله: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، ومعروف أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خلقهم وأنشأهم، فإذا أقررتم بالخلق الأول فلا وجه لإنكار الثاني.
قوله: ((بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ)) يعني: بل اختلط عليهم الأمر والسبب؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه، وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.(137/24)
كلام الناصر على تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد
قال الناصر: في الآية أسئلة ثلاثة: لِم عرف الخلق الأول، ونكر اللبس، والخلق الجديد؟ فاعلم أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه.
يعني: التعريف غير التنكير، التنكير ممكن أن يأتي للتعظيم، ويأتي أحياناً للتقليل أو التحقير، أما التعريف فلا يأتي إلا للتعظيم.
ثم قال: ومنه تعريف الذكور في قول الله تبارك وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49].
إشارة إلى تعظيم الذكر على الأنثى، فأتى بالتعريف لأنه لا يحتمل إلا التفخيم والتعظيم، ولذلك لما أقام أصحاب تحرير المرأة مؤتمرهم الأخير كانت الآية هذه من ضمن الأشياء التي جعلت إحدى المرشدات تقول: أنا أعترض على هذا التعريف؛ لأنها فهمت أن تعريف الذكورة يقتضي تفضيل الذكر على الأنثى.
واعتراضهم على القرآن الكريم كفر وخروج من الملة.
وكذلك كان الاعتراض على عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وهو من إلحادهم، واستعملوا تعبيراً وقحاً جداً في مؤتمر للمرأة أيضاً عقد في اليمن، سموها جندرة اللغة، أنا وقتها لما قرأت المحاضرة لم أكن أستحضر ما هو معنى كلمة جندرة؟! قلت: يمكن أن تكون لهجة يمنية، بعد ذلك لفت نظري كلمة جندر، وجندر تعني الانتماء إلى أحد النوعين الذكر أو الأنثى في اللغة الإنجليزية، فهم ولدوا منها تعبير جندرة اللغة، وهذا مطلب من أيام هدى شعراوي فقد كانوا يعقدون المؤتمرات، وفي إحدى المؤتمرات طالبت بإلغاء نون النسوة من اللغة العربية، وغير ذلك من مطالبهم التافهة ومقاصدهم السخيفة.
فالشاهد من الكلام أن التعريف يفيد التفخيم، وإن كان الله تفضل على الإناث بأن قدمهن على الذكور، فقال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49].
ثم يقول: ولهذا المقصد عرف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، فإذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى ألا يعيا به، فهذا سر تعريف الخلق الأول.
أما التنكير فأمره منقسم، فمرة يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكّر والوضع منه، وعلى الأول قوله تبارك وتعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17] وهو أكثر من أن يحصى.
أما الثاني: وهو الأصل في التنكير أنه للتقليل، فلا يحتاج إلى تنكيره، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون للتفخيم، وكأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته.
وهذه الآية الكريمة: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) هي من براهين البعث والنشور، وبراهين البعث والنشور سبق أن قلنا: إن منها إحياء الأرض بعد موتها.
ومنها أيضاً الاستدلال بإمكان الخلق الثاني؛ لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول فلا شك أن في قدرته إعادتهم وخلقهم مرة أخرى؛ لأن الإعادة تكون أصعب من البدء، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، كقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
وقال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27].
وإعادة الخلق والبعث والنشور (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من البدء.
لكن يجب أن يفهم أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وأنه لا يوجد سهل وأسهل، وهين وأهون في حق الله، لكن القرآن يخاطبنا بما تقتضيه عقولنا فيما نعتاده نحن من أفعال، فالإعادة أهون بالقياس إلى ما تقتضيه عقول المخاطبين؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فالابتداء والإعادة سواء في السهولة.
فإياك أن تفهم أن قوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) يعني: وهو أسهل على الله؛ لأن كل شيء بالنسبة إليه سبحانه بين الكاف والنون، يقول عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].(137/25)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
((مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) أي: تحدث به نفسه.
((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) هذا تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوري، الذي لا استطالة أشد منه في الأجسام، إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.(137/26)
كلام من فسر القرب بالعلم
واختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).
فقال بعض العلماء: إن المقصود بالقرب هنا قرب العلم.
يقول الشهاب: تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم.
يعني: كأنه يرى أن هذا تعبير مجازي، أي أن المقصود قرب العلم؛ لتنزهه عن القرب المكاني، فهذا هو الذي ألجأه إلى أن يقول: إن هذا تجوز مجازي، لأن الله منزه.
إذاً: القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العالم، والمعنى أنه تعالى أعلم بأحواله خفيها وظاهرها من كل عالم، فقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، وحبل الوريد عرق معروف في جانبي العنق، فهي أشد اتصالاً بما اتصل به من الخارج.
وخص هذا الوريد؛ لأن به حياته.
والحبل العرق، وشبه بواحد الحبال، فإضافته للبيان، أو هي من إضافة العام للخاص.
فقوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) قرب الله أشد في الحقيقة من قرب حبل الوريد؛ لأن أعضاء الإنسان يحجب بعضها بعضاً، لكن هل يحجب علم الله شيء؟ لا يحجب علم الله شيء.(137/27)
تفسير ابن كثير للآية بأن المراد بها قرب الملائكة
أما ابن كثير فتأول الآية على غير ما تقدم، لكن هذا ليس من التأويل المذموم، فقال ابن كثير في قوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)): يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه.
يعني: إذا كان قرباً حسياً فهو قرب الملائكة.
ثم يقول ابن كثير: ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع؛ تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) كما قال تعالى في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] يعني: ملائكته.
إذاً قوله: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) بمعنى: الملائكة بدليل الآيات الكثيرة كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال:50] إلى آخره.
ثم قال: وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالملائكة نزلت بالذكر -وهو القرآن- بإذن الله عز وجل، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك، فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولهذا قال تعالى هاهنا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17].
إذاً: الذي شجع ابن كثير على أنه يفسرها بهذا المعنى قوله: (وَنَحْنُ) وقوله في الآية التي بعدها: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]، بسبب قربهما المشار إليه في الآية السابقة، وعزز مذهبه بآية الواقعة وآية الحجر.
والوجه الأول الذي ذهب إليه القاسمي أدق وأقرب يعني أنه تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وفيه من سعة العلم مع التعريف بجلالة المقام الرباني ما لا يخفى.
وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولما تقدم أولاً، كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه؛ لأن احتمال إرادة التعظيم بـ (نَحْنُ) أمر شائع.
نعم اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره، بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك، لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة.(137/28)
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في صفة القرب لله تعالى
ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت ابن كثير مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وابن كثير من أوفى تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان يحبه حباً شديداً، حتى إنه أوصى أن يدفن معه بعد موته رحمه الله وقد تم له ذلك.
فسبق شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "شرح حديث النزول".
يقول شيخ الإسلام: ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاًً، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).
فقال: (إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم) ولم يقل: إنه قريب إلى كل موجود.
يعني: هو أقرب إلى أحدكم إذا دعاه وإذا ذكره، ولم يقل: إن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل موجود.
وكذلك قول صالح عليه السلام: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61].
ومعلوم أن قوله: ((قَرِيبٌ مُجِيبٌ))، مقرون بالتوبة والاستغفار، أراد بـ ((قَرِيبٌ مُجِيبٌ)) لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود.
وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى.
فالقرب يأتي في القرآن خاص، لكن العلم عام.
وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلق بكل شيء، لكن اسم القريب إنما يتعلق تعلقاً خاصاً.
وأما قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فالمراد به قربه إليه بالملائكة.
هذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا ترون الملائكة.
وقد قال طائفة: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) بالعلم، وقال بعضهم بالعلم والقدرة والرؤية، وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة.
هكذا شيخ الإسلام يرد على من قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يعني أقرب إليه بالعلم، فيقول: العلم عام وشامل، ولكن القرب خاص، وليس في القرآن أن الله قريب من كل موجود، كما يفهم ذلك في العلم؛ لأن الله بكل شيء عليم.
يقول: ولكن بعض الناس لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية، وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]: أي: هو معكم بعلمه مع علوه على عرشه.
وذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لم يخالفهم فيه أحد.
ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك، أنه قال: هو فوق عرشه وهو قريب من كل شيء، وإنما قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] يعني: قربه ممن يدعوه ويسأله.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]) ولا يقال في هذا قريب بعلمه وقدرته؛ فإنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء.
أي: فهم لم يشكوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما سألوا عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب.
قال: وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل المقصود، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: إن القرب بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، ولكن لم يقل أحد منهم: أن ذات الله سبحانه وتعالى هي قريبة من كل موجود، وهذا المعنى يقر به جميع المسلمين، من يقول إنه فوق العرش، ومن يقول إنه ليس فوق العرش.
أما أصحاب المواويل وهذه الأشياء فإنهم يقولون كلاماً فظيعاً، وهو فساد في العقيدة، والناس تردده دون أن تعي، يقولون في بعض الأناشيد: موجود في كل وجود.
إذاً: هذه عقيدة باطلة؛ لأن اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل وجود بذاته حلول والعياذ بالله وكفر، وإنما العموم هنا لعلمه وسمعه وبصره.
ثم قال شيخ الإسلام: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من وريد العبد ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة، فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية.
أي: لما فهموا أن القرب مثل العلم، فسروا القرب بأنه مثل المعية، ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85] يعني: بملائكتنا في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه يجزيهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش، فلا يُجْعلَ لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهم، لأن هناك فرقاً بين القرب وبين العلم والمعية.
قال: ثم قال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) لا يجوز أن يراد به مجرد العلم؛ فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره لمجرد علمه به ولا بمجرد قدرته عليه، ثم إنه سبحانه وتعالى عالم بما يسر من القول وما يجهر به وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد.
أي: لو كان قرب العلم فلا معنى لتخصيص حبل الوريد؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولأن العلم عام لكن القرب خاص فلا يصح تفسير القرب بالعلم؛ لأنه لا فرق بين حبل الوريد وغيره في العلم، لكن قربه هنا قربه بالملائكة كما ذكرنا.
قال: فإن حبل الوريد قريب إلى القلب وليس قريباً إلى قوله الظاهر، فهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه، قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياق الآية؛ فإنه سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) وأخبر أنه يعلم وسواس نفسه، ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب، فيفهم من هذا أنهما شيئان مختلفان فلا تجعل أحدهما هو الآخر.
أي: فهنا لا يصح تفسير قربه بالعلم؛ لأنه قرن بينهما في الآية فقال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر.
قال: وقيد القرب ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}.
وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف، وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان وإنه قريب من كل شيء بذاته لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء.
أي: وحتى على مذهب هؤلاء لا يصح هذا التفسير، هذا هو المقصود من كلام شيخ الإسلام.
ولذلك أهل السنة يقولون لهؤلاء: إذا كان الله في كل مكان، فهل الله في أماكن النجاسات ونحوها؟! لكي يلزموهم أن هذا مذهب باطل، وأن الله منزه عن أن يتواجد في كل مكان.(137/29)
تفسير سورة (ق) [16 - 19](138/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].(138/2)
مرجع الضمير في قوله: (ونحن أقرب إليه)
قوله: ((ونحن أقرب)) المقصود به الملائكة، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] فسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة، أي: لا تبصرون الملائكة، فمعنى قوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)) أي: بملائكتنا، بدليل سياق الآية: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] كيف يكون هذا القرب؟ إذ يتلقى المتلقيان، فيربط بين هذا القرب وبين الملائكة بقيد الزمان، فهو زمان تلقي المتلقيان، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ومعلوم أنه لو كان قرب ذات لم يخص ذلك بهذا الحال، ولم يكن لذكر الرقيب والعتيد معنى مناسب.
ومثل هذا قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85] فإن هذا يقال لمن كان يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، لكن نحن لا نبصره، والرب تعالى في هذه الحال لا يراه الملائكة ولا البشر.
وأيضاً فإنه قال: ((ونحن أقرب إليه منكم)) فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحالة، الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: إنه في مكان، أو قيل: إنه قريب من كل موجود، فكان ذلك لا يختص بهذا الزمان والمكان، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء، ولا يجوز أن يراد قرب الرب الخاص كما في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] فإن هذا إنما هو قربه ممن دعاه أو عبده، وهذا المحتضر قد يكون كافراً وفاجراً أو مؤمناً ومقرباً؛ ولهذا قال تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) أي: إلى كل ميت مطلقاً، وقد يكون الميت مسلماً من السابقين أو من المقربين أو مؤمناً عادياً، وقد يكون كافراً أو فاجراً، فالقرب هنا للجميع بدليل الآيات التي بعد ذلك: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] * {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:88 - 92] إلى آخر الآيات.
ومعلوم أن المكذب لا يخصه الله بالقرب دون من حوله، وقد يكون حوله قوم مؤمنون، وإنما المقصود قرب الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:97].
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50].
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11].
ومما يدل على هذا أنه ذكره بصيغة الجمع فقال: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد))، وهذا كقوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3]، وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) [يوسف:3].
وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17 - 19].
فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دل على أن المراد هو الله سبحانه مع الملائكة، فإن صيغة (نحن) تطلق على المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم.
فهو سبحانه خالقهم وربهم العالم بما توسوس به كل نفس.
قال الله: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يعني: الملائكة تكون قريبة، فكان لفظ (نحن) هو المناسب هنا.(138/3)
معنى قوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه)
قوله: ((وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) هو مثل: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) فإنه سبحانه يعلم ذلك.
والدليل على أن الملائكة يعلمون ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا هم العبد بحسنة) والهم نية من القلب، يعني: إذا حدث نفسه بفعل الخير (إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة) فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علم الغيب الذي اختص الله سبحانه وتعالى به.
وقوله: ((وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به نفس العبد كما قال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] أي: يكتبون السر والنجوى، والسر هو ما في نفس الإنسان مما لا ينطق به، فالله يعلم ما في نفس الإنسان ومن يشاء من ملائكته الذين يكتبون كما قال هنا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] وأخبر أن جنده يكتبون بأمره، وفصل في تلك الآية بين السماع والكتابة؛ لأنه يسمع بنفسه، وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره، فقال: ((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)).
وقوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه)) مثل قوله: ((نكتب ما قدموا وآثارهم)) هل الله سبحانه وتعالى هو الذي يكتب؟ الملائكة هي التي تكتب، لكنها تكتب بأمر الله؛ فلذلك نسب الله الكتابة إلى نفسه سبحانه وتعالى.
أما قوله: ((ولقد خلقنا الإنسان)) فهي خاصة بالله الذي خلق الخلق، وقوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) يشمل الملائكة فهي تعلم ما توسوس به نفس الإنسان، للأدلة التي ذكرنا.
إذاً: قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) أي: الملائكة أقرب إليه من حبل الوريد، وإن كان الظاهر أن الله هو القريب؛ لكن المراد الملائكة، بدليل هذه الآية الواضحة في سورة يس: ((إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)) يعني: وتكتب ملائكتنا؛ لأن الملائكة هي التي تكتب كما في الأدلة المعروفة، فلما كانت ملائكته قريبين إلى العبد بأمره، كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بواسطة الملائكة، وتكليم الله لعبده يكون بواسطة الرسل، ونستطيع أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى كلم محمداً وعيسى ونوحاً وإبراهيم وسليمان وداود، لكن عن طريق الملك، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] إذاً: الله يكلم الأنبياء بالوحي؛ بغض النظر عن خصيصة موسى عليه السلام حيث كلمه بدون واسطة الملك، فنوح عليه السلام -مثلاً- كلمه الله بالوحي، فقوله: (يكلمه الله) أي: عن طريق جبريل ملك الوحي، فهذه صورة من صور تكليم الله للرسل.(138/4)
تفسير قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)
قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17].
هذا توضيح وبيان لكون المراد من قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه)) أي: أقرب بملائكتنا، وذلك؛ لأنه قال بعده مباشرة ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)) أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يلفظ به.
فقوله تعالى: ((إذ يتلقى)) ظرف لقوله: ((ونحن أقرب إليه)).
وفيه إيذان بأنه سبحانه وتعالى غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما، ومطلع على ما يخفى عليهما، لكن الله سبحانه وتعالى -لحكمة- جعل الملكين يكتبان ويدونان على الإنسان أعماله، والحكمة هي إلزام الحجة، ففي الآخرة سوف تكون هذه وثيقة مسجلاً عليها أعمال الإنسان التي كتبها الملكان.
ثم فيها ما يرغبه ويرهبه في الدنيا؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن لديه ملكين عن اليمين وعن الشمال يكتبان أعماله؛ فإن ذلك يكون أدعى إلى أن يرغب في فعل الخير، وأن يرهب من فعل الشر.(138/5)
التنبيه على ما في تفسير القاسمي من النقل عن القاشاني
هذه الآية والتي بعدها تثبت وجود هذين الملكين اللذين يسجلان أعمال الإنسان، إلا أنه من المؤسف جداً كثرة النقول في تفسير القاسمي عن القاشاني فيما يسمى بالتفسير الإشاري الذي هو مليء بالتأويلات البعيدة المخالفة لمنهج السلف، والإنسان من شدة تعجبه يشك ويقول: هل دس أحد في تفسير القاسمي هذه الأشياء التي يكثر فيها النقل المخالف للمنهج السلفي؟ ففي الأجزاء الأخيرة من تفسير القاسمي نلاحظ كثرة النقل عن القاشاني أمثال هذه التأويلات التي تستفز كل معتز بمنهج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية.
فقد نقل عن القاشاني كلاماً غريباً وهو قوله: والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المتمثلة بصور الأعمال الخيرية، والمتلقي عن الشمال القوة المتخيلة التي تتمثل بصور الأعمال البشرية والبهيمية والسبعية إلى آخر هذا الكلام العجيب! ففيه تأويل الملك بأنه القوة الحاثة على الخير، والشيطان بالقوة الحاثة على الشر، ثم بين القاسمي أن الغزالي سبقه إلى هذا المعنى، وعبر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمى ملكاً، فيقول الغزالي في الإحياء في شرح عجائب القلوب: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً، إلى آخره.
وهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار! حيث استدل بكلام الغزالي، ونحن نعلم كيف كثر اضطرابه، والغزالي مصدر غير مأمون في تلقي أمور العقيدة على الإطلاق، وهو رحمه الله وإن كان قد وفق في الإخلاص والصدق؛ لكن لم يكن له حظ وافر من الصفة الأخرى المهمة وهي الصواب، فالإخلاص لا شأن لنا به، وعلامات الإخلاص والصدق لا شك أنها بادية في سيرة الغزالي رحمه الله تعالى، لكن هل أصاب؟ قال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: أخلصه وأصوبه، فالإخلاص شرط، لكن بقي شرط آخر وهو المتابعة وموافقة المنهج الصحيح، فـ الغزالي أضاع معظم عمره في التجول باحثاً عن الحق بين الإسماعيلية والباطنية والفلاسفة والصوفية وكذا وكذا، وقد كان الحق أقرب إليه من حبل الوريد، عند أهل الحديث، فـ الغزالي مصدر غير مأمون للتعلم والتلقي؛ لأن الغزالي صاحب مدرسة منحرفة مخالفة تماماً لمنهج السلف.
وهذا كلام قد يصدم بعض الناس، لكن هي نصيحة لا بد منها، فحينما نأخذ كتب الغزالي نشعر أننا نمشي على أرض مزروعة بالأشواك، فلا بد من الحذر الشديد، كيف وقد شحن كتابه المسمى بالإحياء بالكذب على رسول الله عليه السلام، ونقول كما قال ابن الجوزي: لا نقول إنه افتراها لكنه ارتضاها! يعني: هو ما وضع هذه الأحاديث الموضوعة، لكنه قرأها وأثبتها في كتابه دون تمحيص، ودون تحر وتحقيق، فالكتاب من أكثر الكتب المشحونة بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فما قيمة الاستدلال بكلام الغزالي، وأنه يقول: إن الخاطرة والفكرة التي تدعونا إلى الخير تسمى ملكاً، والفكرة التي تدعونا إلى الشر تسمى شيطاناً؟! هذا مصادم تماماً لنصوص الوحيين في حقيقة الملكين اللذين يكتبان أعمال الإنسان، وحقيقة الشيطان.
العجيب أنه في نهاية كلام القاشاني وكلام الغزالي رحمه الله تعالى نجد القاسمي يعلق قائلاً: والبحث كله غرر تنبغي مراجعته! فهذا نفس غريب جداً بالنسبة لتفسير القاسمي، والقاسمي إمام سلفي محقق، فلا ندري ما مصدر أو ما سبب الميل في هذه الأجزاء الأخيرة لحكاية هذه التأويلات بدون إبطالها، فالاعتقاد الصحيح أن المتلقيين عن اليمين وعن الشمال ملكان حقيقيان، وليسا عبارة عن القوة الخيرية التي تحثنا على الخير أو تؤزنا إلى الشر.(138/6)
تفسير الشنقيطي لهذه الآية
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إذ يلتقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد))، قوله: (إذ) منصوب بقوله: (أقرب) أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه، والمراد أن الله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، هو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله، فهو غني عن كتب الأعمال؛ لأنه أقرب إليه من حبل الوريد، والله غني عن أن يدون الملكان هذه الأشياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بما كان، وبما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يغيب عنه شيء.
أي: فالمعنى أن الله لا حاجة له لكتب الأعمال؛ لأنه عالم بها لا يخفى عليه منها شيء، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى، فالحكمة من كتابة الأعمال مع أن الله عز وجل غني عن أن تكتب الملائكة هذه الأعمال: هي إقامة الحجة على العبد يوم القيامة كما أوضحه الله بقوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13 - 14] اقرأ بنفسك كتابك حتى تقوم عليه الحجة، {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
ومفعول التلقي في الفعل (يتلقى) والوصف (المتلقيان) محذوف، والتقدير: يتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان، فيكتبانه عليه.(138/7)
تفسير الزمخشري لهذه الآية
قال الزمخشري: والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة؛ لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله.
(والقعيد) قال بعضهم: معناه القاعد.
والأظهر أن معناه المقاعد -يعني المجالس- وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل كالجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، والنديم بمعنى المنادم.
وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائماً أو غالباً يقال له قعيد، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: (قعيدك ألا تسمعيني ملامة)، قعيدك.
يعني: الذي يلازمك.
والمعنى في قوله: ((إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)) عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فهما ملكان، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
وهذا واضح، فهو ليس قعيداً واحداً عن اليمين وعن الشمال، وإنما هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فهما ملكان، لكن حذف الأول لدلالة الثاني عليه، فلم يقل: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإنما قال: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فحذف الأول لأن الثاني يدل على وجوده، وهو أسلوب عربي معروف.
قال: وأنشد له سيبويه في كتابه قول الأزرق بن طرفة الباهلي: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني يعني: كنت منه بريئاً ووالدي بريئاً، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عنـ دك راض والرأي مختلف يعني: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض والرأي مختلف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قول ضابي بن الحارث البرجمي فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب هو يمتدح نفسه بالشرف، فيقول: فمن يك أمسى بالمدينة رحله يعني: إذا الضيف حل بمدينتنا فإني وقيار -قيار اسم جمله- نكون غريبين، ويصير الضيف هو صاحب الدار كما يقول الشاعر: يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل يصح أن نقول: فإني غريب وقيار غريب، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
وادعى البعض أن قوله في الآيات: (قعيد) هي التي أخرت.
أي: بعض الناس قالوا: إن قوله تعالى ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد)) [ق:17] أصلها: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فقالوا: إن (قعيد) راجعة إلى الأولى، أي: عن اليمين قعيد، فأما عن الشمال فهي محذوفة يدل عليها ما قبلها، وهذا القول لا دليل عليه ولا حاجة إليه؛ لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول.(138/8)
أمثلة لجهل بعض الناس في توجيه الآيات القرآنية
والشيء بالشيء يذكر: في سورة المائدة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} [المائدة:69] (الصابئون) في سورة المائدة معطوفة على منصوب قبلها، والعجيب أن بعض القساوسة ألف كتاباً يطعن فيه في القرآن الكريم، وكعادتهم يؤتون بالمضحكات المبكيات في نفس الوقت، فيزعمون أن القرآن فيه لحن لغوي، وفيه أخطاء نحوية، وذكر هذه الآية.
وآخر يفسر قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] فيقول: يعني: حفاة لا يلبسون نعالاً في أقدامهم، يظن أن كلمة: (حافين) بمعنى: حفاة، فهذا لجهلهم.
أبو جهل أو أبو لهب وغيرهما من الكفار لو وجد أحدهم في القرآن لحناً لغوياً أكانوا يسكتون عليه والقرآن يتحداهم صباح مساء؟! فهؤلاء المساكين الجهلة يظنون أن قواعد اللغة العربية التي وضعت مؤخراً حاكمةً على القرآن الكريم، فنقول: لم يكن علم القواعد موجوداً من قبل، ولا نحو، ولا صرف، ولا غيرها، وكانت اللغة العربية هي الأصل، ثم بعد ذلك وضعت القواعد متأخرة عنها، فكيف تحكم المتأخر على المتقدم؟! وكيف تأتي أنت يا أجنبي عن العروبة وعن الإسلام ثم تحاول أن تطعن في القرآن بوجود اللحن فيه؟! فمن ضمن المواضع التي أشكلت عليهم هذه اللفظة في سورة المائدة: (والصابئون).
ومما يرد عليهم: أن هذا من أساليب اللغة العربية، إما على الاستئناف كقولك: وكذلك الصابئون، مثل العطف في البيت السابق: فإني وقيار بها لغريب.
فهذا الشعر من كلام العرب فيه هذا الأسلوب من أساليب العرب، لأن الأصل: فإني وقياراً بالنصب.(138/9)
تفسير قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)
قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
أي: ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام ((إلا لديه)) أي: إلا والحال أن عنده رقيباً، أي: ملكاً مراقباً لأعماله، حافظاً لها، شاهداً عليها، لا يفوته منها شيء، ((عتيد)) بمعنى حاضر ليس بغائب، يكتب عليه ما يقول من خير وشر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة يكتبون أعماله جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله، كقول الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].
فهل يتصور أحد أن المقصود بقوله: ((وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون)) قوة خيرية تحثك على الخير.
كما أوله القاشاني وأمثاله؟! هذا مصادم تماماً لهذه النصوص الصريحة.
وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29].
ولا شك أن في المكتشفات الحديثة الآن كثيراً مما يقرب إلى أذهاننا قضية استنساخ الأعمال، فقد أصبح فهمها أسهل بكثير من ذي قبل، حيث استطاع الإنسان بأجهزة الكمبيوتر وهذه الأقراص المضغوطة أن يسجل كميات ضخمة جداً من الكلمات والحروف والجمل والمقالات، بل وكثير من الكتب في حجم بسيط جداً، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يدون جميع أعمال العباد في هذه الصحف التي بيد الملائكة، قال تبارك وتعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم:79]، وقال تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].
وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات يعني: أعلى رتبة منه، فإذا عمل العبد حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمهله، ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر، وبعضهم يقول: يمهله سبع ساعات، والعلم عند الله عز وجل.(138/10)
تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق)
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
لما ذكر استبعادهم للبعث أزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، وأعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي فقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)).
وهذا إخبار بأن هذا سوف يحصل لكل إنسان بعد ما أقام الله عز وجل الحجة والأدلة فيما مضى من الآيات على أحقيه البعث والنشور والحساب والجزاء، وأعلمهم بأنهم ملاقون ذلك عما قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي؛ لأن القرآن الكريم يعبر عن المستقبل بصيغة الماضي أحياناً للدلالة على تحقق وقوعه، فكأنه حصل بالفعل، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] المقصود: سوف يقول الله لعيسى وسكرة الموت: شدته المحيرة الشاغلة للحواس، المذهلة للعقل، كما قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فالسكر قد يكون بالخمر، وقد يكون بسبب الشدة التي يقع فيها الإنسان بحيث تحيره وتشغل حواسه وتذهل عقله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)! ((بالحق)) يعني: جاءت سكرة الموت بالموعود الحق، والأمر الحق، وهو الموت، فالباء هنا للملابسة، يعني: جاءت سكرة الموت متلبساً بالحق الذي هو الموت.
أو للتعدية، يعني: وجاءت سكرة الموت بالموعود الحق من أمر الآخرة والثواب والعقاب الذي غفل عنه، والمعنى: أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر، وهي أحواله الباطنة، وأظهرتها عليه.
قال الشهاب: استعيرت السكرة للشدة، ووجه الشبه بينهما أن كلاً منهما مذهب للعقل، فكما أن الخمر تذهب العقل كذلك الشدة أحياناً تذهب عقل الإنسان، ويجوز أن يشبه الموت بالشراب كما قال الشاعر: الموت كأس وكل الناس شاربه وقوله: ((ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) أي: تنفر وتهرب، والجملة على تقدير القول، يعني: وجاءت سكرة الموت بالحق فيقال للميت أو المحتضر: ((ذلك ما كنت منه تحيد)) وهذا أمر معروف في القرآن الكريم، فكثيراً ما يحذف لفظ القول ويدل عليه السياق فيكتفى بذلك، والمعنى: أنه يقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار.
والإشارة في قوله: ((ذلك ما كنت منه تحيد)) قال بعض العلماء: إنها إشارة إلى الحق وهو الموت.
أي: ذلك هذا هو الموت الذي كنت تفر وتهرب منه، ويؤيده قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] هذا كله يرجح القول بأن الإشارة بقوله: (ذلك) إلى الحق.(138/11)
خلاف العلماء فيما تكتبه الملائكة
توقف الشنقيطي رحمه الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) فقال رحمه الله: اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه، هل تكتبه الحفظة عليه أو لا؟ فالآية تفيد بظاهر عمومها أنه ما من لفظ يتلفظه الإنسان فإنه يترتب عليه ثواب أو عقاب، فهل يكتب عليه الكلام المباح ويدون في صحيفته؟ قال بعضهم: يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض، وهذا هو ظاهر قوله: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) لأن قوله تعالى: (من قول) نكرة في سياق النفي، زيدت قبلها لفظة (من) فهي لفظ صريح في عموم الأعمال، فتدل أن الملائكة تكتب ما يتلفظ به الإنسان حتى الكلام المباح الذي لا ثواب عليه ولا عقاب.
وقال بعض العلماء: إن الملائكة لا تكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، أما المباح فلا تكتبه، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب.
فالذين يقولون: لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون: يكتب الجميع؛ متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب إلا أن بعضهم يقولون: لا يكتب أصلا، وبعضهم يقول: يكتب أولاً ثم يمحى.
وزعم بعضهم أن محو هذا الجزء من الكلام المباح وإثبات ما فيه من ثواب وعقاب هو معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وهذا قول مرجوح، وقد سبق الكلام فيه في آخر سورة الرعد، لكن المقصود أن كلا الفريقين يثبت أنه لن يحاسب على المباح، ولن يحاسب على الجائز من الكلام، وإنما اختلفوا هل يثبت أم لا يثبت؟ والذين قالوا: يثبت.
يقولون: يثبت ثم يمحى بعد ذلك، والذين قالوا: لا يكتب ما لا جزاء فيه، ولا يترتب عليه ثواب أو عقاب، محتاجون إلى الجواب عن استدلال الفريق الأول بهذه الآية؛ لأن هذه الآية نص صريح في العموم.
فقالوا في
الجواب
إن في الآية نعتاً محذوفاً سوغ حذفه العلم به؛ لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب، وتقدير النعت المحذوف: ((ما يلفظ من قول)) مستوجب للجزاء ((إلا لديه رقيب عتيد))، والجزاء قد يكون خيراً أو شراً.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه دليل أسلوب عربي معروف، وقدمنا أن منه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] أي: كل سفينة صالحة.
لكن لا بد أن يأتي دليل يدل على الحذف، والدليل في هذه الآية قوله: (فأردت أن أعيبها) فهذا يدل على أن السفينة كانت صالحة سليمة، وهو أراد أن يعيبها؛ فهذه القرينة تدل على أن النعت المحذوف هو النعت المتعلق بالسفينة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:58] هنا حذف تقديره: (وإن من قريةٍ ظالمةٍ إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) والدليل على الحذف قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].
ومن شواهد هذا المذهب -وهو جواز الحذف إذا دل دليل عليه- قول المرقش الأكبر: ورب أسيلة الخدين بكر منعمة لها فرع وجيد أي: لها فرع فاحم، أي: شعر أسود، (وجيد) يعني: عنق طويل، قدرنا هذا لأن السياق سياق مدح وغزل، وهو لم يذكر الوصف لكنه يفهم من السياق.
ومنه أيضاً قول عبيد بن الأطرف: من قوله قول، ومن فعله فعل، ومن نائله نائل.
أي: (من قوله قول) فصل، ومن فعله فعل جميل، ومن نائله نائل جزيل.
فهذا كله من الشواهد التي تدل على أنه يجوز حذف النعت إذا دل عليه دليل، والله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم يصف القرآن بأنه عربي، فما ثبت في اللغة عند العرب الأصليين وقت ظهور الإسلام أو قبله لا حرج من الاستشهاد به.(138/12)
تفسير سورة (ق) [20 - 29](139/1)
الحث على فعل الخير في رمضان
قال الله تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فأمر الله سبحانه وتعالى بالتذكير أمراً مشروطاً فقال: ((إن نفعت الذكرى)) ثم بين في الآيات الأخرى من هم الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل ((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) فما أكثر معلومات الإنسان عن أمر معين، لكن يحتاج إلى من يذكره لاسيما في المناسبات التي نحتاج فيها إلى أن نتعاون على البر والتقوى، ومنها أن يذكر بعضنا بعضاً بهذه المناسبة العظيمة التي نحن مقبلون عليها، وهي استقبال شهر رمضان المعظم.
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة، وأن يجعلها ميداناً للتنافس، وكان من فضل الله تبارك وتعالى أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنات، فمن ثم جعل لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه عز وجل بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
قال الحسن رحمه الله تعالى في قول الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]: جعل الليل يخلف النهار، فمن فاته عمل صالح في الليل استطاع أن يستدركه في النهار، ومن فاته شيء في النهار استطاع أن يستدركه بالليل.
يقول الحسن: من عجز بالليل كان له من النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب.
ولا شك أن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فيه القرآن، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأسألك العزيمة على الرشد)، فالعزيمة من أقوى مراتب الإرادات التي يجزم الإنسان عندها ويصمم على أن يمضي العمل.
فمن العزيمة على الرشد أن ينوي الإنسان اغتنام هذه المناسبات المباركة، وخاصةً مناسبة شهر رمضان المعظم، فنحن محتاجون في هذه الأيام إلى العزيمة على الرشد، فندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العزيمة على الرشد، أعني النية الصادقة والهمة العالية في أن نغتنم هذا الشهر الكريم؛ ليغفر الله لنا، ونرجو من الله أن نبقى أحياء إلى أن يأتي رمضان، فمن يدري منا لعله يكون آخر رمضان في حياته، ومن يدري لعله لا يستقبل رمضان!(139/2)
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد)
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20].
كم عدد النفخات في الصور؟ الراجح أنها نفختان كما في سورة الزمر: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68].
والله تعالى أعلم.
قوله: ((ونفخ في الصور)) هذه هي نفخة البعث والنشور، بدليل قوله: ((ذلك يوم الوعيد)) أي: ذلك النفخ يوم الوعيد، أي: وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر.(139/3)
تفسير قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد)
قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].
قال ابن جرير: أي: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر.
وظاهر الآية أنهما اثنان: واحد يسوقه إلى المصير المحتوم، والآخر يشهد عليه بعمله، وقد اختلف العلماء: فقيل: هما ملكان، ملك سائق، وملك شهيد.
وقيل: بل هو ملك واحد لكنه متصف بصفتين، فهو سائق، وهو أيضاً شهيد على عمل الإنسان.
وقيل: ((وجاءت كل نفس معها سائق)) أي: ملك، و ((شهيد)): هو الإنسان نفسه يشهد على نفسه.
وقيل: سائق من أعمالها إلى مكان ندائها، وشهيد من أجزائها.(139/4)
تفسير قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا)
قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
هذا أيضاً فيه حذف، والتقدير: (لقد كنت في غفلة من هذا -أي: الموت- فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).
من المخاطب في هذه الآية؟ في المخاطب في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لقد كنت يا محمد- صلى الله عليه وسلم في غفلة من هذا، فهذه جملة معترضة أتي بها خلال أمر النبأ الأخروي؛ تنويهاً بمنة الإعلام والتعريف به، فهنا اعتراض، فإن سياق الكلام في وصف أحوال الآخرة، حيث يقول تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] ثم يذكر تعالى جملة اعتراضية هنا: لقد كنت -يا محمد- في غفلة من هذا؛ لبيان منة الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث أعلمه بهذه الأمور الغيبية عن طريق الوحي، وعرفه بها.
وليس هذا فحسب، بل إن بصره بها بصر شديد النفاذ يدركها في غاية الوضوح وغاية القوة، بل إن الله سبحانه وتعالى أوقفه على غوامض هذا الخبر وهذه الوقائع التي ستحصل في الآخرة، وقد كان ذهنه خالياً من علمها، بل كان أمياً لم يتعلم، ووصفه بالغفلة في سياق الامتنان، بمعنى خلو ذهنه عن هذا العلم الذي امتن عليه به، فهو يعلم ما لا يعلمون، والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا غطاءك بإنزاله، فبصرك حديد حيث تعلم ما لا يعلمون.
وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] أي: كنت غافلاً عن هذا الخبر.
ومثله أيضاً قوله تبارك وتعالى: ((مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ))، وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: كنت عارياً عن الوحي وعن العلم الذي أوحاه الله إليك، فهداك لهذا الوحي، وليس ((ضالاً)) كما يوصف غير النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: ((ووجدك ضالاً فهدى)) يفسره قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] إذاً: القول الأول: إن المخاطب في هذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي تنويهاً بمنة الله عليه بإعلامه بذلك وتعريفه به، وبيان شدة نفوذ بصره به، ووقوفه على غامضه.
وقوله: ((فبصرك اليوم حديد)) معروف عندنا استعمال: البصر ستة على ستة في أنه حاد، فكلمة ليس المقصود بها حديد المعدن المعروف، بل من حدة النظر وقوته وشدته.
وعلى القول بأن الرسول عليه السلام هو المخاطب بالآية لا نحتاج إلى أن نقدر جملة: (يقال له)، حتى يكون التقدير: ((وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد)) يقال له: ((لقد كنت في غفلة من هذا))؛ لأن هذا السياق لا يكون يوم القيامة.
فالله سبحانه وتعالى يخاطب الرسول هنا كما في سورة الحجر: في سياق قصة قوم لوط، حيث قطع السياق وقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فكذلك السياق هنا في ذكر أحوال الآخرة، ثم خاطب الله نبيه بقوله: ((لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ))، ثم رجع السياق من جديد للآخرة: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23].
القول الثاني: أن المخاطب به الكافر، وأن الكلام على تقدير القول، أي: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) يقال للكافر حينئذ: (لقد كنت في غفلة من هذا) الذي عاينته اليوم من الأهوال (فكشفنا عنك غطاءك) بأن جلينا لك ذلك وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته فزالت الغفلة عنها.
ومثل هذا قول الله تبارك وتعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم:38] وهذا أسلوب تعجب، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم! ففيها الإشارة إلى شدة السمع والبصر عندهم، وأنهم يدركون بسمعهم وأبصارهم حقائق اليوم الآخر.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
القول الثالث: أن المقصود هو الإنسان مطلقاً، أي: ((لقد كنت)) أيها الإنسان ((في غفلة من هذا)).
ويؤيده قول الله تبارك وتعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) فهذا العموم في قوله: (كل نفس) يؤيد القول بأن المخاطب هنا كل إنسان، والمقصود كشف الغطاء عن البر والفاجر، فكل يرى ما يصير إليه.
ولا شك أن الحجب سوف تنكشف يوم القيامة، ويرى الإنسان ما كان ينكره من قبل، أو ما كان يؤمن به بظاهر الغيب، فالغيب يصبح شهادة، فيرى الملائكة، ويرى النار، ويرى الجنة، ويرى الصراط، والموازين، ويرى كل الأشياء التي كانت في الدنيا خبراً، وكان يوقن بها عن طريق الإيمان بالغيب، أو كان يكذب بها لأنه لا يراها كما هو حال الملحدين الكافرين.
رجح شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله القول الثالث، وهو أن المراد بالخطاب هنا الإنسان مطلقاً.
قال الزمخشري: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله.
أي فكلمة (في غفلة) تفيد كأن شيئاً شمله وهو غارق فيه أو كأن شيئاً يحيط به تماماً.
قال: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله، أو كأنها غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.(139/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد)
قال تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23].
((وقال قرينه)) أي: قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد.
(هذا ما لدي عتيد) أي: حاضر غير غائب.
ويفهم من السياق أن الإنسان يكون مع سائق وشهيد وقرين، وهذا القرين هو إما الملك الموكل في الدنيا بكتابة أعماله، وهو الرقيب المتقدم ذكره، أو هو الشيطان الذي قيض له مقارناً له يغويه.
والأظهر -كما اعتمده الزمخشري - أن القرين هنا هو المذكور في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق:27].
ونلاحظ أن الواو موجودة في الآية التي فيها ذكر القرين أولاً، وفي الثانية ليس فيها واو: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:23 - 26] ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)) فالأقرب والأظهر أن القرين هو الشيطان الذي يغويه.
وقد ثبت في الحديث: (ما من إنسان إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) (هذا ما لدي عتيد) أي: هذا شيء حاضر لدي معد محفوظ، والإشارة على الأول لما في صحفه، وعلى الثاني للشخص نفسه.
أي: لو قلنا إن القرين هو الملك الذي كان موكلاً بحفظ الأعمال، وهو الرقيب المتقدم فتكون الإشارة إلى صحف الأعمال، أي: يقول قرينه: إن الأعمال مسجلة وموثقة ومحفوظة عندي، ولو قلنا إن قرينه هو الشيطان الذي وكل به ليغويه، فالإشارة للشخص نفسه، أي: هذا المجرم موجود الآن لدي عتيد، بمعنى: حاضر لجهنم، قد هيأته لها بإغوائي.(139/6)
تفسير قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد)
قال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24].
يوجد اختلاف بين العلماء في المراد بقوله تعالى: ((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)): قيل: إن الخطاب هنا من الله عز وجل للسائق والشهيد، وهما ملكان، أي: أيها الملكان السائق والشهيد ((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)).
وقيل: الخطاب من الله لملكين من خزنة النار.
وقيل: الخطاب لملك واحد، وتثنية الفاعل منزل منزلة تكرير الفعل، فالأصل: ألق ألق، فحذف الفعل الثاني وأبقي ضميره مع الفعل الأول، فصارت (ألقيا) أي: فبقي الضمير للدلالة على ما ذكر.
أو أن الألف بدل من نون التأكيد المخففة كما في قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15]، وقوله: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وهذه النون تبدل ألفاً في الوقف، فأجري الوصل مجراه.
وقال ابن جرير (أخرج الأمر للقرين وهو بلفظ واحد مخرج خطاب الاثنين، وفي ذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون القرين بمعنى الاثنين كالرسول والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع، فرد قوله: (ألقيا) إلى المعنى.
والثاني: أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول، وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين.
يعني أن العرب أحياناً يخاطبون الواحد والجماعة بخطاب الاثنين، فتقول للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها، أي: الناقة مثلاً، ومعنى أرحلاها: أي: ضع عليها الرحل، قال الشاعر: فقلت لصاحبي لا تحبسان بنزع أصوله واجتز شيحا هو يخاطب واحداً لكن بخطاب المثنى.
وقال أبو ثروان: فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر وإن تدعاني أحمِ عرضاً ممنعّا وهذا رابع أبيات ثلاثة أولها: تقول ابنة العوفي ليلى ألا ترى إلى ابن كراع لا يزال مفزعا ثم قال بعد ذلك: فإن تزجراني يا بن عفان فواضح أن الخطاب هنا لواحد لكن خوطب بخطاب المثنى.
ولماذا يخاطب العرب أحياناً الواحد والجمع بخطاب المثنى؟ سبب ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، فبدلاً مما يخاطب ثلاثة يخاطب واحداً ويشرك الاثنين الآخرين في الخطاب؛ لأن الغالب أن الاثنين بجانب هذا المخاطب، ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلاً: يا صاحبيّ، يا خليليّ.
وخطاب المثنى والمقصود به الواحد كثير في الشعر، مثل قول امرئ القيس: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل (قفا) مثنى وهو يخاطب واحداً، وكذلك قوله: خليليّ مرا بي على أم جندب نقضِّ لبانات الفؤاد المعذب فقال: (مرا بي) والخطاب لواحد، فهذا كثير نلاحظه في الشعر.
((كل كفار)) الكَفَّار: كل جاحد وحدانية الله تعالى، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والعنيد المعاند للحق وسبيل الهدى، لا يسمع دليلاً في مقابلة كفره.(139/7)
تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد مريب)
قال تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:25 - 26].
ثم أضاف الإنسان إلى الكفر المبالغ فيه وإلى العناد والجحود ذنباً ثالثاً وهو أنه {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ}.
(مناع للخير) يعني: للخير الكلي الجامع الذي هو دين الإسلام، فهو يبخل على نفسه بالدخول في الخير العميم الذي هو الإسلام.
وأحياناً يطلق الخير في القرآن الكريم على المال، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، وليس المراد حب الإنسان الأعمال الصالحة، فإن السياق يبين أن المقصود حب المال: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:6 - 8].
والإنسان في القرآن الكريم عموماً يأتي في سياق الذم، والناس الآن يستعملون لفظة الإنسانية بمعنى الرأفة والرحمة والرفق بالناس، لكن هذا الاستعمال غير معروف في القرآن الكريم، فالإنسان في القرآن يقصد به الآدمي ناقص الهداية الربانية، فهو يرجع لأصله وطبعه الأصلي الذي هو البخل والسحت والظلم والجهل، وسائر صفاته التي ذكرت في القرآن {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2].
فلفظة الإنسان في القرآن الكريم هي في سياق الذم لهذا المخلوق الآدمي قبل أن يتحلى بالوحي، وقبل أن يهتدي بنور القرآن والسنة، فإذا انخلع عن التأديب الرباني والتهذيب المحمدي، فهو الإنسان الكنود الظلوم الجحود العنيد الكفار وهكذا.
فالسياق في هذه الآيات ذم: ((إن الإنسان لربه لكنود.
وإنه على ذلك لشهيد.
وإنه لحب الخير لشديد)) وهو يؤيد أن الخير المقصود به هنا المال، فمن صفات الإنسان شدة الحرص على المال، فهو جموع منوع.
وشاهد آخر يدل على أن الخير يراد به المال، قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] أي مالاً.
إذاً: قوله تعالى في هذه الآية في صفات الكافر: ((مناع للخير)) معناه: مناع للمال، أي: لا ينفق المال في أوجه الخيرات.
والخير إما كلي أو جزئي، فالخير الكلي هو الإيمان فمعنى ((مناع للخير)) على هذا أنه يستنكف عن أن يدخل في الإسلام، ولا يحسن إلى نفسه بأن ينقذها من النار، ويدخلها في أمة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.
أو أنه مناع للخير الجزئي، وهو المال، وهذا قول ثان.
وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: إن الخير هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله؛ لأنه لم يخصص منه شيء، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه.
فالأقوال ثلاثة.
وقوله: ((معتد)) أي: متجاوز للحد في الاعتداء على الناس بلسانه بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلماً، قال قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره.
وقوله: ((مريب)) أي: شاك في الحق، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل على الوحدانية وعلى قضايا الإيمان.
وأدلة التوحيد مبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: عبد معه معبوداً آخر من خلقه {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي: في عذاب جهنم.
ولا شك أن هذه الصفات هي ثمرات الكفر بالله سبحانه وتعالى.(139/8)
وقفة مع الجهاد الشيشاني ضد الروس
وأنا أتلو عليكم هذه الصفات من صفات الكفار تلح علي نفسي أن أقف وقفة مع ملاحدة الروس لعنهم الله وأذلهم، فالإنسان قد يحدث نفسه حينما يعايش محنة المسلمين، وقد يسأل نفسه سؤالاً ويود أن يعرف جوابه مباشرةً: فهؤلاء الملاحدة الروس يعيثون الآن فساداً بهذا العدوان الظالم على إخواننا المسلمين في الشيشان، ويسمون المجاهدين عصابات وهم أصحاب البلد، وقد ارتبطوا بدولة لها رئيس اسمه أصلان مسخادوف، فكيف يكونون عصابات؟ نعم.
فهم بحمد لله قد أدبوا ثاني أكبر قوة في العالم، ومرغوا كرامتها في الوحل، وفي كل مدة يصرح بعض القادة بأن الانتصار بعد شهر، أو بعد شهرين، ومنذ أربعة أشهر أو أكثر وهم يجزمون بالنصر، والسؤال الذي يلح علي هو أنهم في هذه الشدة الفريدة خسروا نائب القائد الأعلى لهم في الشيشان، فقد قتل ولله الحمد، وأحد الإخوة الشيشان كان في حديث صحفي مع مراسل في مصر، فقال: نحن لا نجزع حتى لو أخذ الروس الشيشان، فنحن حددنا خيارات فإما النصر وإما الشهادة، وهي نصر، فكل مسلم يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة في سبيل الله؛ لأنه على يقين أن هذه هي بداية السعادة الأبدية، وأضمن شيء لغفران الذنوب ونيل الدرجات العليا في الجنة، فالمسلم يتمنى أن يقتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا, وهذا الجندي الروسي أو القائد الروسي في سبيل ماذا يقاتل؟ وعند الشدة إلى من يلجأ؟ الروس بدءوا يتهمون جورجيا بأنها تؤوي هؤلاء الشيشان المقاتلين، وجورجيا وضحت وقالت: الحقيقة أن الجنود والضباط الروس يبيعون أسلحتهم للمجاهدين الشيشان! ويحملونها في السيارات، وينقلونها إلى داخل الشيشان، وهم يعلمون أن المجاهدين يقاتلون بها جيشهم، لأنهم لا إيمان عندهم! تخيل إنسان لا يؤمن بالغيب كيف يكون؟ وكالات الأنباء التي هي منحازة ضد الإسلام، ولا أقول: محايدة، بل هي لا تملك نفسها، ومع هذا تثني على صمود الإخوة الشيشان أمام الروس، والروس أنفسهم يقولون: نحن لا نقاتل بشراً، بل نقاتل جناً أو شياطين، ويقولون: إن نسبة الخطأ في إصابة الهدف عند المقاتلين الشيشان واحد بالمائة، ولو تسمعونهم في الأخبار يضجون ويصرخون لكون القناصة المسلمين لا يسمحون لأي روسي يمشي من غير أن يوقعوه في الأرض، ولذلك فإنهم بفعلتهم قد دخلوا في الفخ؛ لأن الإخوة الشيشان قالوا: ليس الروس هم الذين دخلوا قروزني، بل نحن سمحنا لبعض قواتهم أن تدخل العاصمة لنجعلها مقبرةً لهم، ووكالات الأنباء نفسها تقول: إن الحرب السابقة في الشيشان منذ عدة سنوات حولت قروزني إلى مقبرة للجنود الروس.
فالشاهد هو الفارق بين أخلاق الإيمان وأخلاق الكفر، وبين ثبات المؤمنين وتزعزع الكافرين، وهم يسمونهم عصابات تحقيراً لهم، وازدراء لهم، وروسيا تدعي أن الشيشان جزء من الجمهورية الروسية، فهل توجد دولة في العالم تفعل في مواطنيها ما تفعله روسيا الآن في الإخوة الشيشان وفي المدنيين؟ ينبغي ألا نكف عن الدعاء لهم، وهذا هو الشيء الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه لإخواننا، فاجتهدوا في الدعاء لإخواننا أن ينصرهم الله سبحانه وتعالى، ويجعلهم مسماراً آخر في نعش إمبراطورية الشرق من الروس الملحدين.
تأمل في صفات الملاحدة وانظر إلى صفات المؤمن، قال خالد بن الوليد للكفار: أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة! بل أشد، فالمسلم عندما يقاتل يضحي بكل شيء؛ لأنه يضمن الجنة بإذن الله، كما قال النبي عليه السلام (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه).
والإنسان لابد أنه ميت، فلتكن هذه الموتة الشريفة التي ينتقل بعدها مباشرة إلى الجنة.
المسلم على يقين بأن الشهيد لا يجد من ألم الإصابة إلا كما يجد الإنسان ألم القرصة.
فهذا هو أثر العقيدة، أعني أن هؤلاء الذين يسمونهم عصابات تحقيراً لهم قد أذلوا كبرياءهم، ومرغوا كرامة دولة الكفر والإلحاد في الوحل، والأخبار تأتي بين وقت وآخر بنصر الله سبحانه وتعالى، قال بعض المجاهدين الشيشان: تأتي أحياناً طلقات من جهة من جهاتنا إلى الروس، وليس أحد منا يضرب بالنار! وكأنها ملائكة تقاتل معهم، والله تعالى أعلم، فهذه ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر.
وفي الجهة الأخرى هذه ثمرات الإلحاد، فهم أنفسهم يبيعون الأسلحة للشيشان! فماذا قال الروس في تبرير بعض انتصارات الإخوة الشيشان؟ قالوا: الحقيقة أن بعض القوات الروسية أخذت رشوة من القوات الشيشانية، وهذا مثل أصحاب كرة القدم إذا انهزم فريق، حيث يقولون: إن الحكم أخذ رشوة من الفريق المنتصر.
فلعل الله سبحانه وتعالى أن يبشرنا قريباً بنصر إخواننا، واندحار هؤلاء الملاحدة، وأن تكون الشيشان مقبرة لكل المجرمين ما بين قتيل وأسير، وأن يرفع الله سبحانه وتعالى كلمته، ويعز أهل الإسلام وأهل التوحيد.(139/9)
تفسير قوله تعالى: (قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد)
يقول الله تعالى: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28].
أي: لا فائدة في اختصامكم ولا ثمرة ترجى من ورائه؛ لأنكم الآن في دار الجزاء، ولستم في دار العمل.
((وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ)) في الدنيا ((بِالْوَعِيدِ)) لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي في كتبي وعلى السنة رسلي.
فقوله تعالى: ((لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) ليس المراد به الانتهاء والتوقف عن الخصام؛ لكن المقصود أن يعلموا أنه لا فائدة من الاختصام؛ لأنه لن يعود عليكم الخصام والجدال وتبرؤ بعضكم من بعض واتهام بعضكم بعضاً بفائدة، وكذلك الاستماع لهذا الخصام لن يفيد بشيء، كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي، وقد سبق وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به، لسلامة الآلات من السمع والبصر والعقل، وأنتم الذين عطلتم هذه الآلات عن أن تعمل فيما خلقت من أجله، فلم تنتفعوا بكل هذا ولم ترفعوا بذلك أساً، فحق عليكم القول بالعذاب.
وعن ابن عباس في هذه الآية الكريمة قال: إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم، فقوله: ((قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) أي: هذا عذر غير مقبول.
((وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)) أقمت عليكم الحجة في الدنيا.(139/10)
تفسير قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد)
يقول تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].
تلاحظون دقة كلام المفسرين، فهم لما فسروا {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} قالوا: لا اختصام مسموع عندي.
وقالوا: إنه ليس المقصود النهي عن هذا الخصام والجدال والمحاورة التي تحصل بين السادة والأتباع، أو بين الأقوياء والمستضعفين، لا، بل المقصود أن اختصامكم هذا لا فائدة فيه، لأن غاية ما تؤملونه أن يحصل تغيير في مصيركم، وفي الحكم الذي صدر عليكم من دخول النار، وهذا الحكم لا يمكن أن يبدل، وقد قامت عليكم الحجة في دار العمل، وأنتم الآن في دار الجزاء فلا سبيل على الإطلاق لتبديل ما قضى الله به عليكم؛ لأنه ثبت وصح تقديم الوعيد وكنتم تستطيعون في وقت العمل وفي دار العمل أن تنتفعوا، أما الآن فهي دار الجزاء، ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) أي: ماذا تؤملون وما هي الثمرة التي ترجونها من وراء الخصام؟ هل تظنون أنكم بهذا الخصام واتهام بعضكم بعض وتبرؤ بعضكم من بعض أن هذا سينفعكم، أو يعفيكم من العذاب؟ لا {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].
قال ابن جرير: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: فلا أعذب أحداً بذنب غيره، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه، وهذه كما قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:36 - 39]، فيلزم من هذا ما يعتقده بعض الكفار النصارى من أن البشرية كلها ملطخة بوزر آدم في نظرهم، ولأجل ذلك حصل موضوع الصلب والفداء والتعميد والتوثيق، من أجل أن يزال عن الطفل البريء هذا الوزر الذي ورثه من آدم.
فاليوم الذي ولد فيه الطفل هو أسود يوم في حياته؛ لأنه خرج إلى هذه الحياة وهو مسئول عن خطيئة آدم بزعمهم، وهذا شيء ترفضه الفطرة السليمة، لكن انظر إلى دين الفطرة فالإنسان يعمل بعض الأعمال الصالحة فيكون قد رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهو أسعد يوم عنده؛ لأنه إنسان بريء على الفطرة، طاهر ما تلوث بخطيئة، ولا كتبت عليه خطيئة، فلذلك جاء في الحديث: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، أما عند النصارى فأول ما ينتقل الطفل إلى الحياة الدنيا فإنه يتحمل خطيئة آدم.
ملايين البشر يولدون ملوثين بما يسمونه خطيئة آدم، مع أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته قبل إهباطه إلى الأرض، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37].
فهذا من نسبة الظلم إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يتنزه عنه الله سبحانه وتعالى، كيف يعاقب ابن بخطيئة أبيه؟ هذا ينافي بداهة العقول.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} يقول القاسمي: ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته إذ لا مانع منها، وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز.
أنا أعجب كيف أن القاسمي مع أنه إمام جليل من أئمة السلفية الحقة ينقل مثل هذا الكلام ثم لا يهدمه هدماً، يقول: قال القاشاني: هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير، لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية والغضبية والشهوية، ولهذا قال: ((لا تَخْتَصِمُوا)) إلى آخره.
هذا كلام كان يجب طرحه ولا تجوز حكايته؛ لأنه انحراف في تأويل القرآن الكريم، وإفساد لمعاني القرآن، ما الذي يمنع إرادة الحقيقة؟ ثم هذا فتح لباب التأويلات الباطنية، وإبطال لمعاني القرآن الكريم، فما كان ينبغي للقاسمي عفا الله عنه ورحمه الله أن يحكي مثل هذا الكلام إلا بنية إبطاله والرد عليه.(139/11)
نكتة حذف الواو من قوله: (قال قرينه ربنا ما أطغيته)
إن قلت: لم طرحت الواو من جملة: ((َقَالَ قَرِينُهُ ربنا ما أطغيته))؟ وذكرت في الأولى.
قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية التقاول بين موسى وفرعون.
المقصود أن الجواب على هذه النقطة في التقاول كأن تقول مثلاً: قلت له كذا فقال لي كذا، فقلت له كذا، قال: كذا وكذا، فالواو غير موجودة؛ لأن في داخل السياق وفي أثنائه عملية محاورة، فلما قال: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] وتبعه بقوله: ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)) وتلاه بقوله: ((لا تَخْتَصِمُوا)) علم أن ثم مقالة من الكافر، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق، كأنه لما قال القرين: ((هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ)) قال الكافر: رب هو أطغاني، فلما قال الكافر ذلك، ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) فلما حكى قول القرين والكافر قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28].
وذكر الواو في الجملة الأولى ((وقال قرينه هذا ما لدي عتيد)) لأنها أول التقاول، ولابد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في حصول مجيء كل نفس مع الملكين: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].(139/12)
الرد على المرجئة بآية: (ما يبدل القول لدي)
ودل قوله تبارك وتعالى: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى، كما لا إخلاف في ميعاد الله.
وهذا رد على المرجئة حيث قالوا: ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف، ولا يحقق الله شيئاً منه، وقالوا: الكريم إذا وعد أنجز ووفى، وإذا أوعد أخلف وعفا.
وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فلا خلف في إيعاد الله تعالى، أي: أن الوعيد لا يخلفه الله سبحانه وتعالى في حق الكفار، فإذا توعد الكافر أنه سيدخله جهنم فحتماً سوف يدخل جهنم، ولا يجوز أن يتخلف هذا الوعيد؛ بدليل قول الله تبارك وتعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] وقد قلنا: إن هذه فاء السببية، أي: أن التكذيب هو علة حصول الوعيد، فكل من كذب الرسل فلابد أن يدخل النار.
وقال تبارك وتعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14]، وقال تبارك وتعالى هنا: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه ِ) [النساء:48].
فالوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو في حق عصاة المسلمين الذين يموتون على كبائر الذنوب ولم يتوبوا منها، لكن وعيد الكفار لا يمكن أن يتخلف، بل كل من مات على الكفر لا بد أن يتحقق فيه الوعيد ولا يخلف.
فلو صح ما ذكرته المرجئة من جواز إخلاف الوعيد في حق الكفار للزم تبديل قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} والله مقدس عن ذلك ومنزه سبحانه وتعالى.
وكلام المرجئة كلام باطل، وهو يفتح باب المعاصي للناس على مصراعيه، تعلقاً بنصوص الرجاء، وزعماً أن نصوص الوعيد في حق المسلمين العصاة إنما هي مجرد تخويف ومجرد ترهيب فقط، ولكنهم في الحقيقة لن يعذبوا، هذا مخالف قطعاً للأدلة من القرآن ومن السنة، فنحن نقول: إنه تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذه من كمال عدل الله سبحانه وتعالى، إلا أن الموحد ينجو من الخلود في جهنم؛ لكنه لا ينجو من دخولها.(139/13)
معنى المبالغة في قوله: (بظلام) ونفي الظلم عن الله
أخيراً: ذكروا في قوله: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) سر المبالغة في كلمة: ((بظلام)) فقالوا: إن المراد بالمبالغة نفي الظلم من أصله.
وهنا إشكال: بعض الناس قد يسأل سؤالاً ويقول: لفظة (ظلام) صيغة مبالغة، ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله، فعندما تقول: فلان ليس ضراباً لنساء أو لأولاده، فهذا لا يستلزم نفي الضرب من أصله، لكن يستلزم نفي الضرب الكثير، أي: قد يحصل الضرب منه لكنه قليل! لكن عندما تقول: فلان ليس ضارباً لأولاده؛ فهذه الصيغة تستلزم نفي الفعل من أصله.
وفي الحديث: (المؤمن ليس بلعان) أي: لا يكثر اللعن، لكن قد يقع منه اللعن في مواضعه السائغة شرعاً، لكن لا يغلب عليه، قولك مثلاً: زيد ليس بقتال للرجال، فهذا لا ينفي إلا المبالغة في القتل، فهو ربما قتل بعض الرجال.
فقبل أن نناقش هذا السؤال أو هذه الشبهة التي تشكل على بعض الناس فيقولون: الله سبحانه وتعالى نفى المبالغة في الظلم فهل يستلزم ذلك أن يصدر منه ظلم قليل؟ قبل الإجابة لابد أن نقول: إن القاعدة الراسخة والأساسية في تفسير هذه الآية: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أن المراد بها نفي الظلم من أصله.
أما الجواب عن الإشكال في صيغة المبالغة فمن وجوه: أولاً: أن نفي صيغة المبالغة في الآية المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فنفي صفة المبالغة يمكن أن يدل على نفي الصفة من أصلها إذا قامت أدلة منفصلة على أن هذا ذلك المراد، ففي هذه الحالة لا يكون هناك إشكال، فيتحتم تأويل قوله: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) بأن المعنى: وما أنا بذي ظلم للعبيد.
ومن الأدلة على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، وقال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة، وذلك يستلزم كثرة الظلم المنفي عنهم.
أي: فالظلم منفي عن كثير من الناس، فيستلزم ذلك كثرة الظلم المنفي عن هؤلاء العباد.
فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة، للدلالة على كثرة الظلم المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلاً كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة كما ترى، وبذلك تعلم اتجاه الإتيان بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحداً شيئاً.
الوجه الثالث: أن عذابه تبارك وتعالى بالغ الغاية من العظم والشدة، بحيث لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم لكان معذبهم به ظلاماً بليغ الظلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لكن ليس فيه ظلم على الإطلاق بل هو عدل؛ لأنهم استحقوا ذلك بكفرهم.
الوجه الرابع: ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين: وهو أن المراد بالنفي في قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) نفي نسبة الظلم إليه سبحانه، وأنها تعني: وما أنا بذي ظلم للعبيد، أي: فلا ينسب إلي ظلم على الإطلاق؛ لأن صيغة (فعَّال) تستعمل مراداً بها النسبة فتغني عن ياء النسبة كما أشار إليه في الخلاصة بقوله: ومع فاعل وفعَّال فَعِل في نسب أغنى عن الياء فقبل بمعنى: أن هذه الصيغ الثلاث المذكورة في البيت وهي: (فاعل كظالم، وفعَّال كظلَّام، وفَعِل كفَرِح) كل منها قد تستعمل مراداً بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسبة.
ومثاله في (فاعل) قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فالمراد بقوله: فإنك أنت الطاعم الكاسي النسبة، أي: فإنك أنت ذو طعام وذو كسوة.
وقول الآخر، وهو من شواهد سيبويه: وغررتني وزعمت أنـ ـك لابن في الصيف تامر يظهر أن شخصاً غر آخر استضافه وأوهمه أنه في الصيف سيكون عنده تمر ولبن، فلما ذهب معه لم ير شيئاً.
غررتني: أي: خدعتني.
لابن أي: ذو لبن، تامر أي: ذو تمر.
ومنه أيضاً قول النابغة الذبياني: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب ناصب، أي: ذو نصب.
ومثاله في (فعَّال) قول امرئ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال فصيغة نبال نابت عن النسبة أي: ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله: ليس بذي رمح، وليس بذي سيف.
وقال الأشموني: بعد الاستشهاد بالبيت المذكور: قال ابن مالك: وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: بذي ظلم.
ومثاله في (فَعِل) قول الراجز وهو من شواهد سيبويه: لست بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر (ولكني نهر) أي: ولكني نهاري، ينسب إلى النهار، فنابت صيغة (فَعِل) عن النسبة، فكذلك قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: ليس بذي ظلم.
إذاً على مقتضى اللغة العربية سهل جداً أن نفهم قوله تعالى: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: وما أنا بذي ظلم، ففهم منه أن المقصود من صيغة المبالغة نفي الظلم من أصله.(139/14)
تفسير سورة (ق) [30 - 45](140/1)
دار العمل تذكر بدار الجزاء
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) متفق عليه.
وفي رواية لـ مسلم: (قالت النار: ربي أكل بعضي بعضاً، فائذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم) لا شك أن هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن النار والجنة مخلوقتان الآن موجودتان، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
الأمر الآخر: أن هذا الكلام من النار ظاهره الحقيقة، فهو كلام حقيقي سوف نبينه عما قريب إن شاء الله تعالى.
أما العبرة من هذا الحديث: فلا شك أن الله سبحانه وتعالى خلق لعباده داراً يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء فيها من غير موت، وخلق داراً معجلة للأعمال، فدار الجزاء دار مؤجلة وهي دار الجنة أو النار، ويؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار فيقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة سروراً وفرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار هماً وحزناً على حزنهم).
أما دار العمل ففيها موت وحياة، وابتلى الله سبحانه وتعالى العباد في هذه الدار بما أمرهم به ونهاهم عنه، وكلفهم فيها الإيمان بالغيب، ومنه الإيمان بالجزاء وبالدارين المخلوقتين للجزاء، وأنزل بذلك الكتب، وأرسل به الرسل، وأقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به.
وإحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة.(140/2)
نار الدنيا تذكر بنار الآخرة
هذه الدنيا الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، وذلك كي يكون ما فيها من النعيم مذكراً بنعيم الجنة، وما فيها من الألم مذكراً بألم النار، ولذلك قال سبحانه وتعالى في حكمة خلق النار: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73].
فجعل الغاية الأولى والعظمى من خلق النار في الدنيا: أن تكون تذكرة بنار الآخرة، مع الفضل والتفاوت الذي بينهما.
والغاية الثانية أنها متاع للمقوين، سواء للاستدفاء أو للاستضاءة أو لإنضاج الطعام أو غير ذلك من وجوه التمتع بالنار في الدنيا.(140/3)
نعيم الدنيا يذكر بنعيم الجنة
فجعل الله سبحانه وتعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية، منها أمور تتعلق بالزمان أو بالمكان، أما الأماكن فخلق الله سبحانه وتعالى في بعض البلدان من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة، وأما الأزمان فكزمن الربيع الذي يذكر طيبه ورونقه بنعيم الجنة وطيبها، فيقول ابن سمعون في وصف الربيع: أرضه حرير، وأنفاسه عبير، وأوقاته كلها وعظ وتذكير وكان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين والفواكه في الربيع إلى السوق فيقف وينظر ويعتبر ويسأل الله الجنة.
ومر سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك في مجالسهم في زينتهم، فسلم عليهم؛ فلما بعد عنهم بكى واشتد بكاؤه وقال: ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة.
وتزوج صلة بن أشيم بـ معاذة العدوية وكان من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب فقاما يصليان إلى الصباح، فسأل ابن أخيه عن حاله فقال: أدخلتني بالأمس بيتاً أذكرتني به النار -يعني: الحمام- حيث الماء والبخار، وأدخلتني الليلة بيتاً أذكرتني به الجنة، فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح! ودعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه لهم، فقام على رءوسهم عتبة الغلام يخدمهم وهو قائم وهم يأكلون، فجعلت عيناه تهملان! فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه؟ فقال: ذكرت موائد أهل الجنة إذا أكلوا وقام الولدان على رءوسهم.
الدنيا مرآة ننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها ونتوقف عندها، فالمرآة آلة لا يُنظر إليها نفسها، ولكن ينظر المرء إلى ما يرى من خلال هذه المرآة.
فهذا هو الوضع الملائم لحكمة خلقنا في الدنيا من نعيم أو من عذاب، أن تكون تذكرة لنا بدار الآخرة، يقول الشاعر: كفى حزناً أن لا أعاين بقعة من الأرض إلا ازددت شوقاً إليكمُ وأني متى ما طاب لي خصب عيشة تذكرت أياماً مضت لي لديكمُ(140/4)
وجه تذكير نار الدنيا بنار جهنم
وليس الآن وقت التفكر في زمان الربيع، فنرجئه إلى أن يأتي زمان الربيع إن شاء الله، لكن ننتقل انتقالة سريعة إلى نوع آخر من وجوه الاعتبار: فالله سبحانه وتعالى جعل من مخلوقاته ما يذكر بالنار التي أعدها لمن عصاه، وما فيها من الآلام والعقوبات، هناك أماكن وأزمان وأجسام تذكر بالنار، أما الأماكن التي تذكر بالنار، فكثير من البلدان الشيديدة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم، فإن جهنم والعياذ بالله حافلة بكل أنواع الآلام، مما لم يخطر على قلب بشر، وليس في الدنيا من آلامها سوى الأسماء، حتى نار الدنيا إنما هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم والعياذ بالله، فبعض المناطق الاستوائية المعروفة بشدة الحرارة، يجد الناس فيها من الحر الشديد ما ينبغي أن يكون تذكرة لهم بنار جهنم.
أهل النار كما يعذبون بشدة الحرارة كذلك يعذبون بشدة البرودة، فالزمهرير هو تعذيب بالبرد الشديد الذي يؤلم غاية الألم.
كذلك هناك بعض البقاع تذكر بالنار كالحمام، والحمام في مصطلح السلف غير ما هو في مصطلحنا الآن، فقد كانت هناك حمامات عامة تسخن فيها المياه؛ لأنه لم يكن عندهم وسائل لتسخين المياه في البيوت، فكانوا يسخنون في الحمام ليتنظف الناس ويغتسلون.
قال أبو هريرة: نعم البيت الحمام؛ يدخله المؤمن فيزيل به الدرن ويستعيذ بالله فيه من النار! يعني: أن من فوائده أن من دخله تذكر عذاب النار.
وكان السلف يذكرون النار بدخول الحمام، فيحدث لهم ذلك عبادة كما تقدم خبر صلة بن أشيم.
ودخل ابن وهب الحمام فسمع تالياً يتلو: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] فغشي عليه.
وكان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول: يا بر يا رحيم! مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم.
وصب بعض الصالحين على رأسه ماءً من الحمام فوجده شديد الحر فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19].
فكل ما في الدنيا يدل على صانعه ويذكر به ويدل على صفاته، فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه وفضله وإحسانه وجوده ولطفه، وما فيها من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وقهره وانتقامه، ولا شك أن اختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار، هي أمارات على انقضائها وزوالها.
أما الأزمان التي تذكر بالنار فلا شك أن وقت شدة الحر أو البرد يذكران بما في جهنم من الحر والزمهرير، قد بين الحديث الصحيح الذي ذكرناه أن ذلك من تنفس النار: (اشتكت النار إلى الله سبحانه وتعالى فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما تجدون من البرد فهو نفس من أنفاس جهنم).(140/5)
تفسير قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد)
قال الله تبارك وتعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
(يوم) فيه قولان: القول الأول: أنه منصوب بظلام، أي: وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم إلخ.
الثاني: أنه منصوب بمضمر تقديره: اذكر يوم نقول لجهنم، أو: أنذر يوم نقول لجهنم.
((وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ))، قال ابن جرير: فيه لأهل التأويل قولان: الأول: أن معناه: ما من مزيد.
فعن مجاهد قال: وعدها الله ليملأنها فقال: هلا وفيتك؟ قالت: وهل من مسلك؟ وذلك بقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
أي: فوعدها الله ليملأنها؛ فقال بعدما ألقي فيها أهلها: هلا وفيتك؟ فتقول: وهل من مسلك؟ أي: قد امتلأت بالفعل.
فالاستفهام إنكاري على هذا ومعناه النفي، وتؤيده بآية: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
القول الثاني: أن المعنى: زدني زدني، وعلى هذا يكون الاستفهام تقريرياً، دلالة على سعتها بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فكأنها تطلب الزيادة.
والفريق الذي يذهب إلى المذهب الثاني ورد عليه اعتراض من أصحاب القول الأول وهو أن هذا التفسير يتعارض مع قوله تعالى: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
فأجاب الفريق الثاني بأن المقصود أن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها، وإن كان فيها فراغ كثير، كما تقول: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية، مع ما بينها من الأبنية والأغطية، أو أن هذا باعتبار الحالين، فالفراغ في أول دخول أهلها فيها، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ.(140/6)
حقيقة إدراك الجنة والنار وتكلمهما
قال الناصر في الانتصار: إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك، وكيف نؤول وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك منها هذه الآية: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)).
ومنها: لجاج الجنة والنار واختصامهما كما في الحديث.
ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها بنفسين.
وهذه النصوص يجب حملها على حقائقها؛ لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وقد وقع مثل هذا قطعاً في الدنيا، كتسليم الشجر، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة لاتسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق.
فنذكر هنا بما كنا قد ناقشناه من الأدلة عند الكلام على عبودية الكائنات: فمن الأدلة التي تؤيد ما ذكرناه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم! فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) متفق عليه.
ولا شك أن هذا الحديث فيه بيان أن الجنة والنار يعرفان ربهما، وأن في الجنة والنار إدراكاً وتمييزاً بحيث يتحاجان ويكلمان ربهما عز وجل.
وأيضاً في الحديث الذي ذكرناه (اشتكت النار إلى ربها وقالت: رب أكل بعضي بعضاً) فيه أن النار لها لسان بل لها أذنان وعينان كما في هذه الآية: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) فهذا واضح في ذلك.
وبين الله سبحانه وتعالى أن للنار إدراكاً، وأنها تتغيظ حنقاً على الكافرين، يقول تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] فقوله: ((إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))، يدل على حدة بصر النار.
ويقول تبارك وتعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8].
وكذلك الجنة فيها إدراك، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: لـ علي وعمار وسلمان) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أيضاً نار الدنيا لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله تعالى، ولا أدل على ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ} [الأنبياء:86 - 87] فخاطب الله عز وجل النار، فهذا دليل على أنها تدرك وتفهم الخطاب.
كذلك كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها، فيكون ذلك علامة على قبولها وعدم الغلول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء) إلى أن قال في الحديث: (حتى فتح الله عليه، قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه، فلصقت يد رجل فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال: فيكم الغلول! فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه في المال وهو في الصعيد فأقبلت النار فأكلته) وهذا رواه مسلم فهذا أيضاً يدل على أنها تدرك، وأنها تعرف أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
فهذه النصوص جزء من كثير من الأدلة التي تؤيد المذهب الحق، وأمثال هذه النصوص ينبغي حملها على حقيقتها، وعدم الاعوجاج إلى القول بالمجاز.(140/7)
كلام الشنقيطي على آية: (يوم نقول لجهنم)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)).
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم، ((يَوْمَ نَقُولُ)) بالنون الدالة على العظمة، وقرأ نافع وشعبة: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ)) وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله.
واعلم أن الاستفهام في قوله: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) فيه للعلماء قولان معروفان: الأول: أن الاستفهام إنكاري، كقوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]، أي: ما يهلك إلا القوم الظالمون، وعلى هذا فمعنى: (هل من مزيد) أي: لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
وقال تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84 - 85].
وقال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].
فإقسام الله تعالى في هذه الآيات المدلول عليه بلام التوطئة فيه دليل على أنها لا بد أن تمتلئ، ما دام الله قد أقسم ليملأنها، فلا بد أنها سوف تمتلئ بالفعل، ولذلك قالوا: إن معنى: هل من مزيد؟ أي: لا مزيد؛ لأنها قد امتلأت وليس هناك محل للمزيد.
وأما القول الآخر: فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) زدني، وأنها تطلب الزيادة، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، أي: كفاني قد امتلأت، وهذا الأخير هو الأصح.
والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح هذا القول الأخير؛ لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جهنم لا تزال تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط، قط) والتصريح بقولها: (قط، قط) أي: كفاني قد امتلأت، وأما قولها قبل ذلك: هل من مزيد؟ فلطلب الزيادة، يعني: قبل أن نصل إلى الغاية.
وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات، فينبغي أن نسلك فيه مسلك السلف الصالح رحمهم الله تعالى في مثل هذه النصوص، من أنها تمر كما جاءت بلا كيف، فيثبت الوصف، لكن نفوض علم الكيفية إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
واعلم أن قول النار في هذه الآية: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) قول حقيقي ينطقها الله به.
وزعم بعض أهل العلم أنه كقول الشاعر: امتلأ الحوض فقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني فبعض العلماء استند إلى هذا البيت من الشعر كشاهد على أن قول النار: هل من مزيد؟ يفهم من حالها وليس نطقاً حقيقياً تنطق به النار.
وهذا خلاف التحقيق كما أشرنا، فالراجح أن قولها: هل من مزيد؟ على الحقيقة.(140/8)
تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد)
قال الله تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31].
قوله تعالى: (غير بعيد) فيه معنى التوكيد، كما قال الله سبحانه وتعالى {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13]، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] أي: قربت وأدنيت.
((لِلْمُتَّقِينَ)) أي: للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
((غَيْرَ بَعِيد)) أي: مكاناً غير بعيد، فهو صفة للظرف قام مقامه، أو حال من الجنة، أي: أن الجنة تكون غير بعيدة، والتذكير في هذه الحالة لأنه صفة لمذكر.
أي: في غير القرآن يقال: غير بعيدة، أي: حال من الحنة في كونها غير بعيدة، لكن ذكر لأنه صفة لمذكر فقال: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)) أي: شيئاً غير بعيد.
أو تؤول الجنة على أنها بستان غير بعيد، أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث، فعومل معاملته وأجري مجراه، وعلى كل الأحوال فقوله: ((غَيْرَ بَعِيد)) للتأكيد، ودفع التجوز، فلا يقال: إن كلمة: ((أُزْلِفَتِ)) تغني عن التعبير بغير بعيد.(140/9)
تفسير قوله تعالى: (هذا ما توعدون ولدينا مزيد)
قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:32 - 35].
((هَذَا)) أي: الثواب، أو هذا الإزلاف والتقريب.
((مَا تُوعَدُونَ)) أيها المتقون.
((لِكُلِّ أَوَّابٍ)) أي: راجع عن معصية الله إلى طاعته تائب من ذنوبه.
((حَفِيظٍ)) أي: حافظ لفرائض الله وما ائتمنه الله سبحانه وتعالى عليه.
وإعراب ((لِكُلِّ)) بدل من ((لِلْمُتَّقِينَ)) بإعادة حرف الجر، والمعنى: وأزلفت الجنة للمتقين لكل أواب حفيظ.
((مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)) أي: خاف الله سبحانه وتعالى في سره.
((وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)) أي: جاء ربه بقلب تائب من ذنوبه راجع مما يكرهه الله تعالى إلى ما يرضيه.
((ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ)) أي: يقال لهم: ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهم والحزن والخوف.
((ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)).
قوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا)) أي: مما تشتهيه نفوسهم وتلذه عيونهم.
((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) أي: مما لا يخطر على بالهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ((لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد)): قال بعض العلماء: المزيد النظر إلى وجه الله الكريم، ويستأنس لذلك بقوله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، لأن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل.(140/10)
تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً)
قال تبارك وتعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36].
((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ)) أي: قبل هؤلاء المشركين من قريش.
((مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا)) أي: قوة كعاد وفرعون وثمود.
((فنقبوا في البلاد)) أي: فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها، قال امرؤ القيس: لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب أي: أكثرت الطواف والمشي في نواحي الأرض حتى شق علي ذلك، وصرت أرى الرجوع إلى أهلي من غير ظفر ولا فائدة غنيمة.
هنا احتمالان في قوله تعالى: ((فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)) الاحتمال الأول: أن تكون واو الجماعة عائدة إلى (قرن) أي: هؤلاء القرون الماضية نقبوا في البلاد وضربوا فيها وطافوا أقاصيها.
وعليه فمعنى ((هل من محيص)) أي: هل كان نفوذهم في البلاد مانعاً عنهم الهلاك الذي وعدوا به لتكذيبهم الحق.
والاحتمال الثاني: أن الواو عائدة إلى مشركي مكة، أي: قبل مشركي مكة، أي: أن مشركي مكة ساروا في أسفارهم في بلاد هؤلاء القرون الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم؟! قال ابن جرير: وقرأت القراء قوله: ((فنقبوا)) بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم، وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك (فنقِبوا) بكسر القاف، على وجه التهديد والوعيد، أي: طوفوا في البلاد، وترددوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.(140/11)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
((إن في ذلك)) أي: في إهلاك القرون التي أهلكت من قبل قريش.
((لذكرى لمن كان له قلب)) أي: لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم؛ خوفاً من أن يحل به مثل الذي حل بهم من العذاب.
((أو ألقى السمع)) أي: أصغى لإخبارنا إياه عن هذه القرون التي أهلكناها.
((وهو شهيد)) أي: حاضر القلب، متفهم لما يخبر به عنهم غير غافل ولا ساه.
هذا على أن (شهيد) من الشهود وهو الحضور، والمراد به المتفطن؛ لأن غير المتفطن كالغائب، فيمكن أن يسمع الكلام لكنه ساه لاه غافل عن معانيه، فاشترط أمرين: أن يلقي السمع وهو حاضر الذهن متفهم متفكر.
وقيل: (أو شهيد) من الشهادة، والمراد شاهد بصدقه، أي مصدق له.
وقيل: (شهيد) كناية عن المؤمن؛ لأن الذي ينتفع به المؤمن المصدق له.
أما قوله: ((أو ألقى)) قيل: إن (أو) هنا لتحصيل المتذكر المشتق الذي يحصل منه التذكرة والانتفاع بالموعظة، والمتذكر نوعان: إما تال، وإما سامع، قمن كان له قلب هو التالي، ومن ألقى السمع وهو شهيد هو السامع.
أو إلى فقيه ومتعلم، فقوله: ((لمن كان له قلب)) هو الفقيه، ((أو ألقى السمع وهو شهيد)) هو المتعلم، أو غلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده، وقاصر محتاج للتعلم، فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها.
وفي تنكير القلب وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل من له قلب لا يتفكر ولا يتدبر كمن لا قلب له.(140/12)
كلام ابن القيم على آية: (إن في ذلك لذكرى)
وفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الفوائد) تفصيلاً رائعاً في قوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) يقول رحمه الله تعالى: فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم، وكيف تفتح ذراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى، وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة، بما تكون تذكرة لمن كان له قلب، فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه، ولو مرت كل آية.
ومرور الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها.
فآيات الله إما آيات تنزيلية وإما آيات تكوينية، أما الآيات التنزيلية فهي آيات القرآن الكريم الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بتدبره، وأما الآيات التكوينية فهي الأدلة التي بثها الله في السماوات وفي الأرض وفي المخلوقات لتدل الخلق على ربهم، كما قال الشاعر: تأمل صنوف الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
فنحن أمرنا بتدبر هذين النوعين من الآيات، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]) إلى آخر السورة، فهنا جمع بين النوعين من الآيات؛ لأنها آيات قرآنية نحن مطالبون بالتفكر فيها، وأما الجانب التطبيقي فهو أن نتفكر بالفعل فيما يمر علينا من آيات الله التي بثها، لنراها ونتوصل من خلالها إلى عظمة الله وكماله وجلاله وتوحيده.
وقال تبارك وتعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18] إلى آخر الآيات، بل في القرآن ما يدل على أن التفكر في هذه المخلوقات واجب وفريضة محكمة قال عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، هذه صيغة أمر، والأمر ظاهره الوجوب، أي: يجب على كل إنسان أن يتأمل في خلقه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5 - 6] إلى آخر الآيات.
فمن عدم القلب الواعي عن الله فإنه ستمر به ألفاظ القرآن دون أن يتدبر فيها ودون أن يتأمل فيها، فهو لم ينتفع بالآيات التي تمر عليه؛ لأنه عطل قلبه وصار كشخص لا قلب له، فتمر عليه آيات القرآن أو الآيات الآفاقية، أو الآيات التي في أنفسنا؛ لكنه غافل لاه عن التفكر فيها.
ثم يقول: ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين: أحدهما: أن يحضره ويشهد بما يلقى إليه، فإن كان غائباً عنه مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به، فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويفضي بكليته إلى ما يوعظ به ويرشد إليه.
إذاً هنا ثلاثة أمور: أحدها: سلامة القلب وصحته وقبوله.
الثاني: إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق.
الثالث: إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر.
فذكر الله تعالى الأمور الثلاثة في هذه الآية: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) فقوله: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) أي: كان له قلب سليم وقابل للحق.
((وَهُوَ شَهِيدٌ)) أي: أنه يحضر قلبه ويجمعه ويمنعه من الشرود والتفرق والتشتت، ثم يصغي بسمعه ويقبل على الذكر.
قال ابن عطية: القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله، والمعنى: لمن كان له قلب واع ينتفع به.
وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين.
وقوله: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبتها في سمعه، فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، أي: أثبتها عليك.
((وَهُوَ شَهِيدٌ)) قال بعض المتأولين: معناه: وهو شاهد مقبل على الأمر غير معرض عنه ولا يفكر في غير ما يسمع.
وقال قتادة: هي إشارة إلى أهل الكتاب.
فكأنه قال: إن هذه العبر تذكرة لمن سمعها من أهل الكتاب، فيشهد بصحتها لعلمه بها من التوراة وسائر كتب بني إسرائيل فهو منالشهادة، كما قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10].
وقال الزجاج: معنى: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) أي: من صرف قلبه إلى التفهم، ألا ترى أن قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] أنهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد، فجعلوا بمنزلة من لم يسمع.
كما قال الشاعر: أصم عما شاءه سميعه ومعنى: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)) أي: استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع، والعرب تقول: ألق إلي سمعك أي: استمع لي.(140/13)
حال الناس مع آيات الله ومع الرياضة والفن
للأسف الشديد تجد الذين يمكثون أمام مباراة كرة القدم، أو التمثيلية لو صاح طفل أو حرك رجليه أو سعل أو كح أو تكلم بكلام، تراهم يسكتونه ويصمتونه وينكرون عليه، بحيث لا تفوت عليهم كلمة واحدة من المتكلم أو اللاعب، لكن لو أننا ونحن نتلو القرآن كنا بهذا الحضور وهذا الحرص على إلقاء السمع لكل كلمة تقال، لتغير حالنا تماماً مع كتاب الله سبحانه وتعالى ومع آيات الله، فنتذكر هذا الكلام المؤلم، ونتذكر كذلك كلمة موجعة قالها بعض السلف رحمه الله: رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! الذي يكون له نعل غالي الثمن يحتاط لهذا النعل، وإذا وضعه في مكان جعل يحرسه من أن يضيع أو يسرق، أما الدين فإنه يفرط في دينه ولا يبالي، وينتهك حرمات الله عز وجل ولا يبالي! فمما يؤسف له أننا نحتاج في هذا الزمان إلى تذكير بهذه المذكرات الموجعة المؤلمة التي تقرب المعنى إلى الأذهان، فقد ولع الناس بالتمثيليات وبمباراة كرة القدم وغير ذلك، انظر كيف يكون سلوكهم أثناء الاجتماع للتمثيلية أو الفلم أو المباريات، خاصة في اللحظات الحاسمة التي سيحرز فيها الهدف أو يفعل فيها كذا وكذا؟! استحضر كيف يكون خشوعهم وإنصاتهم! بل أحيانا ولا حول ولا قوة إلا بالله يرفعون أيديهم إلى السماء وتهتف الجماهير: يا رب! يا رب! كأنما يدعون بفتح بيت المقدس أو باستعادة فلسطين؟! ففي ساحات اللعب واللهو يستغيثون بالله سبحانه وتعالى، والمسلمون كما ترون مشردون في آفاق الأرض يعانون الويلات ويعذبون في الشيشان وغيرها، ونحن نهتم بهذه الأشياء ونقول: يا رب! يا رب! وبعضهم يصاب بالسكتة والآخر يطلق زوجته كل هذا بسبب هذه الأشياء، فالشاهد أننا نقرب المثل فقط، انظروا كيف نحن مع هذه المواقف وحالنا حينما نتلو كتاب الله تبارك وتعالى.
لنتأمل هذه الآية: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) ليس المقصود أن يكون له مجرد قلب؛ لأنه ما من إنسان إلا وله قلب، لكن المقصود أن يكون له قلب يفهم به ويعي به ويعقل به؛ لأن القلب هو محل الوعي والفهم {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] فلما عطلوا حواسهم عن الانتفاع بها فيما خلقت لأجله صاروا كالأنعام، صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
فهل حالنا مع القرآن ومع كلام الله يستوي مع حالنا أثناء المباريات وهذه التفاهات؟! إذاً الحال يغني عن المقال.
((أو ألقى السمع)) أي: ألقى بكل حاسة السمع، فكأنه حملها وألقاها على هذا الشيء فقط، كي يستمع إليه ولا يشتغل قلبه بغير ما يستمع له.(140/14)
حال الناس مع الخشوع في الصلاة
وكذلك يكثر السؤال عن الخشوع في الصلاة؟ فنقول لمن يسأل: هل رأيت عند إحراز هذه الانتصارات والبطولات الوهمية كيف يخشع الناس؟ وكيف تكون أنت -إن كنت ممن ابتلي بمتابعة هذه الأشياء- في أشد الحرص على المتابعة والتركيز والانتباه وحضور القلب والحذر؟! هكذا فكن في الصلاة.
لو أن الإنسان ركز في الصلاة بنفس التركيز الذي يقوم به وقت اللعب لفوت على الشيطان الوساوس، لذلك لما جاء رجل إلى بعض السلف وقال له: أنا كلما أريد أن أسلم من الصلاة لا أستطيع أبداً أن أنطق بالسلام عليكم ورحمة الله، قال له: قلها كما تقولها الآن! فيركز الإنسان حتى ينجو من هذه الوساوس.(140/15)
تفسير: (وهو شهيد) وذكر الخلاف فيه
قوله: ((وهو شهيد)) أي: شهيد قلبه حينما يسمع بأذنه، وقلبه حاضر حتى يعي ما يسمعه.
وجاء في التفسير أن المقصود بقوله: ((وهو شهيد)) أهل الكتاب الذين عندهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة.
وذكر أن شهيداً بمعنى شاهد، أي: مخبر.
وقال صاحب الكشاف: ((لمن كان له قلب)) أي: قلب واع؛ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له، وإلقاء السمع الإصغاء.
((وهو شهيد)) أي: حاضر بفطنته؛ لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، أو هو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله، وهو بعض الشهداء، كما في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
اختلف في الشهيد على أربعة أقوال: أحدها: أنه من المشاهدة وهي الحضور.
وهذا أصح الأقوال، ولا يليق بالآية غيره، وذلك كما في الحديث: (اللهم! اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا) فـ (شاهدنا) معناها: حاضرنا.
والثاني: أنه شهيد من الشهادة.
وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شاهد على صحة ما معه من الإيقان.
والثاني: أنه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة.
والثالث: أنها شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما علمه من الكتب المنزلة.
والصواب القول الأول بأنه من المشاهدة، فإن قوله: ((وهو شهيد)) جملة حالية، والواو فيها واو الحال، أي: ألقى السمع في هذه الحال.
وهذا يقتضي أن يكون حال إلقائه السمع شهيداً، فإذاً لابد أن تكون الشهادة بمعنى المشاهدة والحضور.
ولو كان المراد به الشهادة في الآخرة أو في الدنيا لما كان لتقييدها بإلقاء السمع معنى إذ يصير معنى الآية: إن في ذلك لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع حال كونه شاهداً بما معه في التوراة، أو حال كونه شاهداً يوم القيامة.
ولا ريب أن هذا ليس هو المراد بالآية.
وأيضاً فالآية عامة في كل من له قلب أو ألقى السمع، فكيف يدعى تخصيصها بمؤمني أهل الكتاب؟ وأيضاً فالسورة مكية، والخطاب فيها لا يجوز أن يختص بأهل الكتاب، ولاسيما مثل هذا الخطاب الذي علق فيه حصول مضمون الآية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع.(140/16)
أنواع المنتفعين بالآيات من الناس حال دعوتهم إليها
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: المنتفع بالآيات من الناس نوعان: أحدهما: ذو القلب الواعي الذكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه، ولا يحتاج إلى أن يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته، بل قلبه واع ذكي قابل للهدى غير معرض عنه، فهذا لا يحتاج إلا إلى وصول الهدى إليه؛ لكمال استعداده وصحة فطرته، فإذا جاءه الهدى سارع قلبه إلى قبوله كأنه كان مكتوباً فيه، فهو قد أدركه مجملاً ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته.
وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل، فأول ما يصل الحق ينقاد إليه، كما هي حال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه.
وكحال مؤمني قوم نوح عليه السلام؛ لأنَّه في سورة هود قال المشركون لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]، فكانوا يذمون المؤمنين المستضعفين الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام، فذموهم لأنه استجابوا أول ما دعاهم نوح عليه السلام، فذموهم بقولهم: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)) [هود:27]، فما أن سمعوا كلامك حتى انقادوا لك.
فهم يذمونهم؛ لأنهم لم يتمهلوا، ولم يتريثوا ويفلسفوا الأمور ويقلبوها على وجوه شتى.
وهذا مما لا يذم به، بل هذا مما يمدح به الإنسان، أنه إذا وضح الحق ينقاد إليه بلا تأجيل ولا تكييف، فهذا حال أكمل المؤمنين من أتباع الأنبياء الذين يستجيبون فوراً لدعوة الرسل، كما هو حال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، فقد أسلم بمجرد أن أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته، فهذا هو النوع الأول.
فالنوع الأول قلبه متوائم مع الفطرة، فهو في غاية السلامة، فلا يحتاج إلا أن يصل إليه الهدى فقط، فإذا بلغه الحق انقاد إليه في الحال، وهذا حال كثير من الناس، ورأينا وسمعنا أن كثيراً من الكفار أسلم كذلك؛ لأن قلبه في غاية السلامة، وكأن الحق منقوش في قلبه، ويجيء الهدى فيسلط النور على هذا القلب.
وأذكر قصة أحد الإخوة الأفاضل من أمريكا يدعى إدريس دارمر، وهو من أنشط الإخوة في الدعوة في تلك البلاد.
وقصة إسلامه في غاية العجب، فقد جال كل أنواع الظلام من الأديان، كان أولاً شيوعياً ملحداً، ثم انتقل إلى النصرانية، ثم رفض النصرانية وانتقل إلى الأديان الشرقية كالبوذية ودرسها، وحاول أن يبحث عن الهدى فيها فلم يجد شيئاً، إلى أن زار يوماً جاراً له مسلماً في البيت فسأله: ما هذا الكتاب؟ قال: هذا القرآن، فأخذ ترجمة القرآن وفتح الصفحة الأولى على فاتحة الكتاب، فبمجرد أن فتح الصفحة وجد نوراً يخرج الكتاب، ثم قرأ الفاتحة فقال: هذا هو الذي أبحث عنه! وهذا وقد قرأ معاني الفاتحة، فكيف لو قرأها بالعربية؟ وقد أسلم في الحال، وهو الآن من أكبر الدعاة، وله مؤلفات جيدة وخدمة كبيرة جداً للدعوة في كثير من البلاد.
فما كان بينه وبين الحق غير أن يطلع على الحق، ولذلك ينبغي أن لا نعامل الناس معاملة واحدة، فلا نزعجهم بالكلام على نقض التكليف وتحطيم العقائد الفاسدة؛ إذ بعض الناس هو في عافية من هذا البلاء، ليس عنده شبهات ولا عنده ما يعارض به الحق، فما أن يبلغه الحق حتى ينقاد إليه، هذا هو الذي قال الله فيه: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)).
النوع الثاني: من ليس له هذا الاستعداد والقبول، فإذا ورد عليه الهدى أصغى إليه بسمعه وأحضر قلبه، وجمع فكرته عليه، وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله، وهذه طريقة أكثر المستجيبين، ولهم نوع ضرب الأمثال وإقامة الحجج، وذكر المعارضات والأجوبة عنها.
والإسلام واسع لكلا الفريقين، فنحن عندنا من الأدلة والحجج ما يدحض الشبهات ويقيم الأدلة على أنه دين الحق، فلهذا النوع الثاني تضرب الأمثال، ولهؤلاء تقام الحجج وتذكر المعارضات والأجوبة عنها.
والأولون هم الذين يدعون بالحكمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125].
والنوع الثاني يدعون بالموعظة الحسنة، فهؤلاء المستجيبون.(140/17)
المعارضين للحق المدعوين إليه
وأما المعارضون المدعوون للحق فنوعان: نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن، فإن استجابوا وإلا فالمجالدة بالحجة والبيان، فإن لم فبالسيف والسنان.
ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الأقسام متناولة لها، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، أي: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ))، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، أي: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ))، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وهذه طريقة دعوة المعارضين للحق.
والصنفان الأولان مستجيبان للحق.
فهؤلاء المدعوون بالكلام، وهم ثلاثة أقسام: بالحكمة لمن كان له قلب.
والموعظة الحسنة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
أو المعارض للحق الذي يجادل بالتي هي أحسن.
وأما أهل الجلاد فهم الذين أمر الله بقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وأما من فسر الآية بأن المراد بمن كان له قلب هو المستغني بفطرته عن علم المنطق، وهو المؤيد بقوة قدسية ينال بها الحد الألطف بسرعة إلى آخر هذا الكلام.
فقد فسر بعض الناس: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ))، فقالوا: هي القياس البرهاني.
((وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)) [النحل:125]، القياس الخطابي ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) هو القياس الجدلي.
يقول ابن القيم: فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة التفسير، بل ولا من تفاسير المسلمين، وهو تحريف لكلام الله تعالى وحمل له على اصطلاح المنطقية المبخوسة الحظ من العقل والإيمان، وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الإسماعيلية بما يفسرونه من القرآن وينزلونه على مذاهبهم الباطلة، والقرآن بريء من ذلك كله، منزه عن هذه الأباطيل والهذيانات.(140/18)
أنواع القلوب مع آيات الله تعالى
ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه؛ لأن الآية في حق من كان له قلب حي واع، فالذي قلبه ميت لا يدخل في الآية.
الرجل الثاني: رجل له قلب حي مستعد؛ لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضراً، فهذا أيضاً لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
وهذا حال كثير من الكفار.
والثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمع، فهو شاهد القلب ممكن السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول الذي هو صاحب القلب الميت بمنزلة الأعمى الذي لا يذكر.
والثاني له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات لسبب أو لآخر، فهو بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يرى.
أما الثالث: فرجل حي القلب مستعد، أصغى بسمعه وأحضر قلبه ولم يشغل قلبه إلا بفهم ما يسمعه، فهذا بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يرى، فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور.
فإن قيل: فما موضع (أو) من هذا اللفظ بناءً على هذا التفسير، أي: في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}؟ قيل: فيها سر لطيف.
ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو كما يقوله ظاهرية النحاة: (وألقى السمع).
يقول: فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، نور الفطرة مع نور الوحي.
وهذا كما يقولون في الهندسة: تمام الانطباق.
فما في الأمر إلا أنه ينتظر الحق أن يأتي -وهو نور الوحي- على نور الفطرة الذي في قلبه، فيتطابقان تمام الانطباق، ويمتزجان تمام الامتزاج، ويلتقيان أتم التقاء، وهي حالة سليم الفطرة حي القلب.
وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيماناً وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، وهذا يحصل في الحقيقة لمن عوفي ولم يبتل بالفلسفة والجدل والتنطع والحذلقة، وعوفي من شبهات أعداء الدعوة وأعداء الدين.
فكثير جداً من الشباب غير ملتزم، فعندما تصله دعوة الحق ينقاد، وعندما يتعود الإنسان على ترك الجدل، تجده ينقاد إلى الحق؛ لأنه الحق ودين الفطرة، فتجد امرأة في غاية التبرج لم تكن قد وصلها الحق ولا الحجة، فبمجرد أن تسمع الأدلة نفاجأ بأنها يمكن أن تنقلب فتعتزل التبرج إلى الاحتجاب الكامل، أي: وهذا يوجد وإن كان قليلاً.
وحين نجد الكثير من الفتيات يقلن: لنقتنع أولاً! فهؤلاء قد يكن من النوع الثاني إذا استجبن بعد مجادلة ومناظرة وإقامة للحجة.
فإذاً: الشخص الذي له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التفكر والاعتبار، فالقلب أصلاً فيه نور الفطرة سليم، وهذا دين الفطرة، فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، كما قلنا من قبل في تفسير سورة النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] يعني: نور الفطرة مع نور الوحي.
وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيماناً وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، ولكن لم يشعروا بتفصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجلين دخلا داراً، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته، لكن علم أن فيها أموراً عظيمة لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا فسأله عما رأى في الدار، فجعل كلما أخبره بشيء صدقه؛ لما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصديقية، ولا تستبعد أن يمن الله المنان على العباد بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حساب.(140/19)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].
((وما مسنا من لغوب)) أي: من إعياء أو تعب أو نصب.
قال قتادة: أكذب الله اليهود وأهل الفرِى على الله، وذلك أنهم قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع.
وذلك عندهم يوم السبت، فهم يسمونه يوم الراحة.
وهذا معروف من عقائد اليهود، فالله سبحانه وتعالى أكذب اليهود في زعمهم أن الله سبحانه وتعالى لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام مسه -والعياذ بالله- الإعياء والتعب والنصب، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].(140/20)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون)
((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)) يعني: على ما يقوله المشركون من إنكار البعث والتوحيد والنبوة.
يقول ابن القيم في تفسير قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)).
تأمل قوله تعالى عقيب ذلك-يعني: بعدما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ - ((فاصبر فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)) فإن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم نسبوه إلى ما لا يليق، وقالوا فيه ما هو منزه عنه، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق.
فكما كانوا يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام بكلام مؤذٍ كقولهم: ساحر، شاعر، مجنون إلى آخره، فالله سبحانه وتعالى يقول: أما لك فيَّ أسوة؟ فأنا رب السماوات والأرض وخالق الكون، ومع ذلك آذاني هؤلاء الخلق وسبوني ونسبوا إلي ما أنا منزه عنه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] خلافاً لما يقول أعداء الله اليهود، فاصبر على ما يقولون في حقك كما أصبر أنا على ما يقولون في حقي وأحلم عنهم، كما قال الشاعر: قيل إن الله ذو ولد قيل إن رسول الله قد كهنا لم يسلم الله والرسول معاً من كلام الورى فكيف أنا(140/21)
تفسير قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك وأدبار السجود)
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40].
وللعلماء كلام فيه تفصيل في قوله: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ))، فمنهم من يرى أنها تشمل الصلوات الخمس، ومنهم من أدخل فيها النوافل.
ولكن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يقول في هذه الآية: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)): هذا تفسير ما جاء في الأحاديث (من قال كذا وكذا حين يصبح وحين يمسي) أن المراد به قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر بدليل هذه الآية.
يعني أن لفظ (من قال حين يصبح) ولفظ: (من قال حين يمسي) قد تكرر كثيراً في الأحاديث، وكذلك (كان إذا أصبح قال كذا)، (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت).
فنفهمها في ضوء هذه الآية ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ))، فيكون وقت أذكار الصباح قبل طلوع الشمس، أي: بعد صلاة الفجر، فيبدأ أولاً بالفريضة ثم بعد ذلك يأتي بأذكار الصباح ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فهذا هو وقتها.
((وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)) هذا هو المساء، أي: بعد صلاة العصر وقبل غروب الشمس.
وهل معنى ذلك أن الإنسان إذا فاتته أذكار الصباح أو المساء بأن طلعت الشمس أو غربت الشمس يكون قد فاته وقتها فلا يستدركها؟
الجواب
لا.
فهذه قلة فقه، بل إذا فاته ورده -مثلاً- حتى غربت الشمس فلا يترك ذلك، وإنما يقضي هذه الأذكار؛ لأنه ما زال في وقت المساء، فالمساء يكون من بعد العصر وهو العشي وأوقات الأصيل، فإذا فاته شيء فإنه يستدركه في الوقت اللاحق في أي جزء من أجزاء الليل؛ لأن الإنسان إذا فرط في قضاء ما فاته فسوف يتمادى في التفريط إلى أن يفرط في أداء العبادة في وقتها، لكن إذا عود نفسه أنه إذا فاته ورده استدركه لم يفرط فيه، فمن تعود على أنه كلما فاته شيء فإنه يعوضه ويقضيه في الفرصة المتاحة، فهذا أجدر أن يحافظ عليه في وقتها، لكن إذا تهاون في قضاء ما فاته فإنه قد يتمادى في التسويف والتفريط إلى أن يضيع العبادة في وقتها نفسه، فلا يأتي بعد ذلك بأذكار الصباح في وقتها، ولا بعد وقتها.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، أي يخلف أحدهما الآخر، فالليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل، فمن فاته عمل الليل فقد جعل الله النهار خلفة له فيعوض ما فاته بالليل، وهكذا.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)) يعني: أعقاب الصلوات، والمراد بالتسبيح إما ظاهره كقولك: سبحان الله وبحمده.
أو هو الصلاة؛ لأن الصلاة يطلق عليها تسبيح، من إطلاق الجزء على الكل، كما تسمى الصلاة ركوعاً، فأحياناً يطلق الجزء على الكل.
فالصلاة قبل الطلوع: الصبح، وقبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان المغرب والعشاء، والتهجد أيضاً يدخل في ذلك.
وأدبار السجود: النوافل بعد المكتوبات.
هذا على القول بأن التسبيح مقصود به الصلاة، وأنه من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وقد يطلق التسبيح على النافلة كما في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة، ولم يسبح بينهما شيئاً.
فقوله: (لم يسبح بينهما) يعني: لم يتنفل.
وكذلك قول ابن عمر: (لو كنت مسبحاً لأتممت)؛ لأنه كان لا يصلي النوافل في السفر، فقيل له في ذلك فقال: (لو كنت مسبحاً -أي: لو كنت متنفلاً- لأتممت الصلاة)، أي: فالأولى أن أُتم الفريضة.
ولاشك أن قوله ذلك يقصد به النوافل ما عدا الوتر وركعتي الفجر.(140/22)
تفسير قوله تعالى: (واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب ذلك حشر علينا يسير)
قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44].
أي: استمع لما أخبرك به من أهوال القيامة، يوم ينادي مناديها من مكان يصل نداؤه إلى الكل على سواء.
قال: ((وَاسْتَمِعْ)) ولم يبين ما هو الذي يستمع إليه، ثم بينه بما بعده فقال: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] يعني: استمع للصيحة بالحق.
وفي ورود الأمر مطلقاً ثم تبيينه بما بعده تهويل وتعظيم للمخبر به؛ لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتفخيم للفعل المحدث عنه.
((يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ)) أي: صيحة البعث من القبور والحشر للجزاء.
((بِالْحَقِّ)) يعني: بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.
((ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ))، أي: من القبور.
((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ)) أي: في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه.
((وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)) أي: مصير الجميع يوم القيامة.
((يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا)) فيخرجون منها مسرعين، كما قال الله سبحانه وتعالى في تبيين ذلك الموقف: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43]، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] يعني: يسرعون.
وقال تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:7 - 8] يعني: مسرعين مادي أعناقهم على الأصح.
وقوله تعالى: ((يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا)) قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر: (تشَّقَّق) بإدغام إحدى التاءين في الشين؛ إذ أصلها (تتشقق).
وقرأ الباقون بتخفيف الشين وبحذف إحدى التاءين، (تَشَقَّقُ).
((سِرَاعًا)) جمع سريع، وهو حال من الضمير المجرور في قوله: ((عنهم)) أي: تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي.
والداعي هو الملك الذي ينفخ في الصور ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء.
((ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)) أي: ((ذلك)) الإخراج لهم في موقف الحساب ((حشر)) أي: جمع لهم في موقف الحساب ((علينا يسير)) سهل بلا كلفة.(140/23)
تفسير قوله تعالى: (نحن أعلم بما يقولون)
قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ))، يعني: بما يقوله مشركو مكة من فريتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم.
((وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) أي: بمسلط ومسيطر تقهرهم على الإيمان، كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22].
((وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) لا تقهرهم على الإيمان.
((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)) يعني: بل إنما بعثت مذكراً ومبلغاً فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعد به من عصى وطغى فإنه يُنتفع به.
ومن دعاء قتادة رحمه الله تعالى: اللهم! اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يا بار يا رحيم.
آمين.(140/24)
تفسير سورة الذاريات [1 - 23](141/1)
تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذرواً)
نشرع في تفسير السورة الحادية والخمسين من القرآن الكريم وهي سورة الذاريات، وسميت بالذاريات؛ لأن الذاريات مصدر الخيرات، وبذلك اقتضت العناية الإلهية.
وهذه السورة مكية وآيها ستون آية.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1] يعني بذلك: الرياح التي تذرو البخارات ذرواً.
((ذرواً)) أي: نوعاً من الذرو يعقبها سحاب.
وقيل: الولود من النساء فإنهن يذرين الأولاد.
يعني: كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح.
قوله: ((والذاريات)) اسم فاعل من ذرى معتل، بمعنى: فرق وبدد ما رفعه عن مكانه، ويقال أيضاً: أذرى، أما ذرأ المهموزة فبمعنى: أنشأ وأوجد.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: أكثر أهل العلم على أن المراد بقوله:) ((والذاريات ذرواً)) أي: الرياح، وهو الحق إن شاء الله.
إذاً: الراجح في تفسير الذاريات أنها الرياح، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أي: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة: ومنهل آجن قفر محاضره تذر الرياح على جماته البعرا يقول الشنقيطي: ولا يخفى سقوط قول من قال: إن الذاريات النساء، لكن الراجح أن الذاريات هي الرياح تذرو البخارات ذرواً.(141/2)
تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقراً)
قال تبارك وتعالى: {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] أي: يقسم الله سبحانه وتعالى أيضاً بالسحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت نفسي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا قوله: (له المزن) أي: السحاب.
(تحمل عذباً زلالا) أي: السحب تحمل هذه الأمطار.
أو ((الحاملات وقراً)) الرياح؛ لأن الرياح حاملات للسحاب، والوقر كالحمل وزناً ومعنى، وقرئ بفتح الواو (وَقراً) على أنه مصدر سمي به المحمول.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((فالحاملات وقراً)) أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقراً السحاب، أي المزن تحمل وقراً ثقيلاً من الماء، ويدل لهذا القول تصريح الله عز وجل بوصف السحاب بالثقال يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12] أي: الموقرة المثقلة بالماء الذي تحمله، فالثقال: جمع سحابة ثقيلة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:57].
وقال بعضهم: إن المراد بالحاملات وقراً السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل: إن الحاملات وقراً الرياح أيضاً لكان وجهه ظاهراً؛ لأن الرياح تحمل هذه السحب الثقيلة، ودلالة بعض الآيات عليه واضحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبة حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف:57] يعني: الرياح أقلت سحاباً ثقالاً.
فالإقلال هو الحمل وهو مسند إلى الريح، ودلالة هذا على أن الحاملات وقراً هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ما ذكرنا، أي: أن تشمل الآية السحاب نفسه، وتشمل الرياح التي تحمل هذا السحاب، على أساس أن هذا لفظ مشترك، ولا بأس من حمل المشترك على جميع معانيه.
أما قول بعضهم: بأن الذاريات ذرواً هي النساء؛ لأنهن يذرين الأولاد، وأن الحاملات وقراً أي: حوامل الأجنة من الإناث فهذا قول ظاهر السقوط.(141/3)
تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسراً)
قال تعالى: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] أي: السفن الجارية في البحر جرياً سهلاً، الرياح الجارية في مهابها.
يقول الشنقيطي: أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسراً السفن تجري في البحر جرياً ذا يسر وسهولة، والأظهر أن هذا المصدر المنجر حال كما قدمنا نشره مراراً، أي: ((فالجاريات يسراً)) يعني: في حال كونها ميسراً ومسخراً لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق وصف الجري في القرآن على السفن، كقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] أي: السفن الجواري اللائي يجرين في البحر، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] أي: السفينة الجارية وهي سفينة نوح، وقال تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج:65]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية:12] وقيل: ((الجاريات)) الرياح أيضاً، وقيل غير ذلك.
وقال بعض المفسرين: إن المقصود بقوله: ((فالجاريات يسرا)) أي: الكواكب التي تجري في منازلها، وكما قلنا: ((يسراً)) إعرابها صفة مصدر محذوف، أي: فالجاريات جرت جرياً ذا يسر.(141/4)
تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمراً)
قال تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] أي: الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة، أو هي الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب.
فيمكن أن تكون الأربعة الأشياء المقسم بها هي الرياح، أو أنها أربعة أشياء متباينة تماماً كما بينا، فنلاحظ أن أقوال المفسرين بأنها الرياح قاسم مشترك بين أقوال فريق من العلماء.
يقول الشنقيطي في قوله تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}: هي الملائكة يرسلها الله في شئون وأمور مختلفة، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5] في سورة النازعات، ((فالمدبرات أمراً)) فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم كما وقع لقوم صالح.
فقوله عز وجل: ((أمراً)) هذا مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، و ((أمراً)) هنا مفرد أريد به الجمع، ((فالمقسمات أمراً)) أي: فالمقسمات أموراً، كما قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5]، فهي مفرد لكن المقصود بها الجمع.
أما المقسم عليه بهذه الأقسام فهو قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]، والذي أوجب هذا القسم شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء.(141/5)
تفسير القاسمي والرازي للآيات الأربع الأول من سورة الذاريات
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أموراً متباينة، كما قلنا مثلاً في الذاريات: هي الرياح، وفي الحاملات: هي السحب، وفي الجاريات: هي السفن أو الكواكب، وفي المقسمات: هي الملائكة، ويجوز أن تكون أمراً له أربعة اعتبارات وهو الرياح، والمأثور عن علي رضي الله عنه: (أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة) واختار بعضهم في الجاريات أنها الكواكب؛ ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، بحيث تكون الرياح، ثم فوقها السحاب، ثم فوق السحاب الكواكب أو النجوم، ثم فوق كل ذلك الملائكة.
واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون الصفات الأربع للرياح، واللفظ متسع لكل هذه المعاني.
فإن قيل: إن الصفات الأربع صفات للرياح فإن فائدة الفاء لبيان ترتيب الأمور في الوجود، وإن قيل: إنها أمور أربعة متباينة فالفاء للترتيب الذكري أو حسب الرتبة كما بينا.(141/6)
بيان الحكمة من إخراج الآيات المقسم عليها مخرج الأيمان
إن الآيات التي أقسم الله تعالى في هذه السورة بها كلها أخرجها في صورة الأيمان، لكن هي في حقيقتها دلائل جديدة على التوحيد، وعلى قدرة الله سبحانه وتعالى التي خلقها، فالقادر على خلق هذه الأشياء قادر على إعادة البشر من جديد.
كما يقول القائل لمن أنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك وحق إطعامك إياي وحق إمدادك إياي بالمال وحق كذا وكذا، فيظل يعدد النعم التي صورتها صورة أيمان، لكن في الحقيقة هو يعدد هذه النعم؛ لأنها سبب مفيد لدوام الشكر.
قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} هذا هو المقسم عليه، فإن قيل: إن كانت هي دليلاً بعد دليل على التوحيد، فما الحكمة أن الله سبحانه وتعالى أخرجها في صورة الأيمان، في حين كونها بحد ذاتها أدلة على المقسم عليه، يقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف كأن يقول: والله ثم والله ثم والله لاشك أن هذا يلفت نظر المستمع لخطورة الكلام الذي سوف يقال، والحقائق التي سوف تذكر، فبالتالي يصغي إليه أكثر من غيره، فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى يقبل القوم على سماعه، فأخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين.(141/7)
تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق)
قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] هذا جواب القسم، و (ما) موصولة أو مصدرية.
والموعود ((إنما توعدون)) هو قيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم، ((لصادق)) أي: لصدق، فوضع الاسم مكان المصدر، أو هو من باب قوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] أي: عيشة مرضية.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}: (ما) موصولة.
((إنما توعدون)) أي: إن الذي توعدون لصادق، لكن إذا قلنا: إن (ما) موصولة فلابد من عائد، والعائد هنا محذوف، فنقول: إنما توعدونه لصادق.
إذاً: صلة الموصول العائد هذه الهاء المحذوفة.
((إنما توعدون لصادق)) صادق بمعنى المصدر لصدق، أي: إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه.
وقال بعض العلماء: ((إنما توعدون)) (ما) مصدرية، يعني: إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق، وقال بعضهم: إن صيغة اسم الفاعل في ((لصادق)) لم تأت بمعنى المصدر، وإنما بمعنى اسم المفعول.
((إنما توعدون لصادق)) يعني: لمصدوق أو لمصدق، كما قال تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] اسم فاعل لكن المقصود به اسم المفعول، يعني: عيشة مرضية.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة، كقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134]، وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] والآيات في ذلك كثيرة معلومة.(141/8)
تفسير قوله تعالى: (وإن الدين لواقع)
قال تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] أي: وإن الجزاء يوم القيامة واقع لا محالة، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، أي: جزاءهم بالعدل والإنصاف، وكقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:40 - 41].
وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكفار، وهددهم على ذلك الظن السيئ بالويل من النار، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
ومعنى قوله: ((باطلاً)) أي: عبثاً لا لبعث ولا لجزاء.
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، الله سبحانه وتعالى منزه عن العبث ولا يمكن أن يكون خلقكم سدى بلا حساب ولا جزاء، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].(141/9)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)
قال تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7].
يقول القاسمي {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}: أي: ذات الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب، فالطرق المختلفة هي مدارات الكواكب التي تسير فيها بنظام.
قوله: ((الحبك)) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء إذا ضربته الريح، إذا كان هناك ماء ساكن ثم هبت عليه الريح فإنك ترى تموجات صغيرة تتكسر على سطح الماء، هذه الأشياء التي ترسمها الرياح على سطح الماء تسمى الحبك، كذلك الرمال إذا هبت عليها الريح ورسمت فيها التكسرات فهذه أيضاً تسمى الحبك.
وكذلك حبك الشعر أثناء تثنيه وتكسره، والحبك: جمع حباك، كمثال ومثل وكتاب وكتب، أو حبيكة كطريقة وطرق، ويقال: ما أملح حباك، وحباك الحمام: وهو سواد ما فوق جناحيه، وعن الحسن في معنى: ((والسماء ذات الحبك)) قال: حبكت السماء بالنجوم؛ وذلك لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى تحبيكه، فالتحبيك بمعنى التزيين.
فشبهت النجوم بطرائق الوشي.
وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة بمعنى: محبوكة، أي: مربوطة، ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة هي مجموعة من الكواكب المتجاذبة، فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها، وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية، فهي إخبار عن تعدد المجموعات الشمسية، أو تعدد المجرات، وهي بالملايين كما هو معروف، والله تعالى أعلم.
يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)): فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فمعنى ((ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق، كما يطفو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح فهذا هو الحبك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير وهو يصف غديراً: مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق لضاحي مائه حبك فقوله: (مكلل بأصول النجم) المقصود بالنجم هنا النبات الذي ليس له ساق، ينبت حول الماء كالإكليل، قال عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] والشجر هو ما له سوق.
(تنسجه) أي: تأتي ريح شديدة فتنسج هذه الطرق.
(لضاحي مائه) أي: ما ضحى للشمس من الماء وبرز.
(حبك) أي: هذه الطرائق التي تأتي على الماء فتحدث فيه هذه الطرائق والتكسرات في الماء.
وقال بعض أهل العلم: ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، وهذا الوجه يدل عليه قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4].
إذاً: الحبك على هذا القول مصدر؛ لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه تقول فيه العرب: حبكه يحبكه حبكاً، حبكاً بالفتح على القياس، (والحبك) بضمتين بمعناه.
وقال بعض العلماء: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، فهذه الآية تكون كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق:6]، وقال بعضهم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: ذات الشدة، يدل لهذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12]، والعرب تسمي شدة الخلق حبكاً، ومنه: قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك، ومنه: قول امرؤ القيس: قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر قوله: (محبوك ممر) يعني: فرس شديد، والآية تشمل الجميع، وكل الأقوال في هذه الآية التي ذكرناها حق، سواء قلنا: إن ((ذات الحبك)) يعني: ذات الطرائق، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، يقول: هذه قصة محبوكة حسنة محكمة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الشدة، فهذه الأقوال لا تتعارض وكلها حق.
والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8 - 9].(141/10)
تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف)
قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8].
قوله: (إنكم) الخطاب هنا للكفار، أي: إنكم أيها الكفار في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن لفي قول مختلف؛ لأن بعضهم يقول: هو سحر، وبعضهم يقول: كهانة، وبعضهم يقول: أساطير الأولين.
أما قول من قال في قوله: ((لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)) أي: أن بعضهم مصدق وبعضهم مكذب خلاف التحقيق، ولا يصح تفسير هذه الآية بهذا المعنى؛ لأن الاختلاف هنا اختلاف بين المكذبين دون المصدقين، ولذلك صدرنا التفسير بقولنا: إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف.
فهذه الآية في حق الكفار؛ لأنهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في آية آخرى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] وقوله: ((فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) أي: مختلط.
وقال بعضهم: مختلف، والمعنى واحد.(141/11)
تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من أفك)
قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9].
أي: يصرف من صرف عن الحق الصريح الصرف التام، إذ لا صرف أشد منه.
وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه قال: هو تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بالطرائق للسماوات في تباعدها واختلاف غاياتها، فكل كوكب يمشي في اتجاه، كما يقول الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب فكذلك طرائق السماوات مختلفة ومتباينة، فناسب قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق.
((إنكم لفي قول مختلف)) فهذا نوع من التجانس أو التناسب بين المقسم به والمقسم عليه؛ لأن في ذلك تشبيه أقوالهم باختلافها وتنافي أغراضها بالطرائق في السماوات في تباعدها واختلاف غاياتها.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} * {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}: وأظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري: أن لفظ (عن) في الآية سببية، يعني: يؤفك بسببه من أفك، وهناك شاهد من القرآن، يقول عز وجل: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53] أي: بسبب قولك.
قوله: ((يؤفك عنه)) الهاء تعود إلى القول المختلف، أي: يصرف عن الإيمان بالله ورسوله بسبب ذلك القول المختلف.
((من أفك)) أي: من سبقت له الشقاوة في الأزل فحرم الهدى وأفك عنه؛ لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضاً ويناقضه، والتناقض في القول واختلافه من أوضح الأدلة على بطلان هذه الأقوال، كما يقول الشاعر: حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور وبعضهم قال قولاً غريباً في قوله تعالى: ((يؤفك عنه)) حيث قال: يصرف عن هذا القول المختلف الباطل، ((من أفك)) أي: من صرف عن الباطل إلى الحق، وهذا قول لا يخفى بعده وسقوطه؛ لأن هؤلاء يظنون أن الأفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل وعن الباطل إلى الحق.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ويبعد هذا؛ لأن القرآن لم يرد فيه -الأفك- مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه.
إذاً: استعمال لفظة (أفك) في القرآن الكريم لم تكن إلا في الصرف عن الخير إلى الشر، ولم تستعمل في القرآن في الصرف عن الشر إلى الخير، وبالتالي هذا قول بعيد جداً.(141/12)
تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون)
قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10]، في هذا إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، ولا يمكن أن يصرف إنسان عاقل عن الحق إلى الباطل؛ لأن الباطل ليس له أدلة يستند إليها، ولأن كل ما يتعلق بالتوحيد والإيمانيات وهذه الأمور الكلية المهمة الخطيرة قامت عليها أدلة هي أوضح من الشمس، فبالتالي لا يمكن أن ينصرف عنها من يكون عنده برهان ودليل، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما أوجب على كل مكلف البحث عن الدين الحق أوجب عليه أمرين: الأول: أن يجتهد ويبذل غاية وسعه في البحث عن دين الحق.
الثاني: أن يجتهد في الوصول إلى دين الحق، مثل: القضايا الفقهية فإنه يجوز للعالم أن يجتهد كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، أما في قضايا الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوحيد، وأدلة صدق النبوة وصدق الرسالة وصدق القرآن الكريم فلا؛ لأن الأدلة واضحة تماماً لا يصد عنها إلا من أفك وإلا من سبقت له الشقاوة، لكن في الحقيقة لا يمكن أن يكون لمبطل دليل كما قلنا في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فقوله: ((إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)) هل لهذا مفهوم؟ بمعنى: أنه لو أتى واحد يعبد غير الله ويزعم أن معه برهاناً على عبادة غير الله، هل هذا يقع؟ لا يمكن أبداً أن مشركاً يكون عنده أدلة أو برهان أو دليل، ولذلك نجد دائماً الباطل في مواجهة الحق لا يمكن أن يسلك المسلك الشريف العلمي النزيه أبداً، فأصحابه يخافون جداً من النقاش الحر، والأدلة العلمية عندهم إنما هي المكر أو المجادلة أو التشنيع على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ووصفهم بأنهم إرهابيون وأصوليون ومتطرفون، إلى آخر هذه الشتائم وهذا التشنيع الذي يراد به الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، لكن هل يقوون على مواجهة الحق للباطل وكل يدلي بدلوه؟ لا يمكن أن يثبت أبداً أي باطل في مواجهة دين الإسلام، فالواجب على كل عاقل أن يجتهد في البحث عن دين الحق، ثم يجتهد حتى يصل إلى الحق، فلا يقبل مثلاً من إنسان على الإطلاق أن يقول: بحثت وتحريت فوجدت البوذية هي دين الحق، ويقول: هذا هو اجتهادي واعذروني في اجتهادي، ويبنى على ذلك أيضاً فكرة المساواة بين الأديان وأخوة الأديان إلى آخر هذا الضلال المبين، أو واحد يقول: أنا اجتهدت في البحث وتحريت ثم توصلت إلى أن النصرانية هي دين الحق، هذا مستحيل أن يقع؛ لأن على الحق أدلة لا يمكن أن تلتبس على ذي بصر ولا ذي عينين، إلا أنه يمكن أن يصرف بقدرة الله عن الحق، بحيث يرى الحق لكن لا يرزق اتباعه، كحال علماء اليهود الذين عرفوا الحق وعرفوا أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكنهم استكبروا واستنكفوا عن اتباعه، وحسدوا العرب أن يخرج منهم النبي الموعود صلى الله عليه وسلم، فليس نكوصهم لأنه ليس هناك أدلة؛ ولكن لما في نفوسهم من جحود واستكبار وعلو في الأرض، ولذلك تجد عامة من ينتكس والعياذ بالله إلى التنصر أو إلى غير ذلك من أنواع الردة، فليس معنى ذلك: أنه لم يرتد عن الإسلام إلا بعد أن ظهر له دليل وبرهان، لكن الله سبحانه وتعالى كتب على هذا الشقاء منذ الأزل؛ أولاً: هذا لا يمكن أن يكون مسلماً حقيقياً إلا أن يشاء الله.
ثانياً: غالباً تكون المغريات بشهوات أو بأموال أو بكذا أو كذا من هذه الأشياء، كما يحصل الآن في الفردوس الثاني الذي يوشك أن نفقده وهو أندونيسيا، فأندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم كله، ولذلك تتكالب عليها قوى الكفر والإلحاد لتفتيتها بواسطة الذين يخرجون الآن عليها ويريدون الاستقلال، وهم المرتدون الذين أفكوا عن الحق بارتدادهم إلى النصرانية لغرض أو لآخر، وقد اشتدت الحملة منذ سنوات طويلة جداً في أندونيسيا من أجل صرف الناس عن الدين وصرفهم عن الإسلام وتنصيرهم، وقد حكيت لكم من قبل قصة تنم عن مدى تغلغل النشاط التنصيري واستغلال ثالوث الفقر والجهل والمرض، وكيف تخرج الحملات التبشيرية للناس في أندونيسيا، حتى إن أحدهم قام بإغراء هؤلاء الفقراء بالأرز والطعام والأموال، ومن شدة الفقر في أندونيسيا استجابوا لهذا المنصر في الظاهر، وأظهروا التنصر، فهذا القسيس تدرج معهم حتى عمدهم أي: غطسهم في التعميد المعروف، وفرح جداً بما وصل إليه من إنجازات فقال لهم: إن الكنيسة تريد أن تكافئكم على أنكم الآن دخلتم في دين المسيح فتنصرتم، فكل واحد منكم يطلب طلباً وسوف نحققه له؛ مكافأة لكم على استجابتكم، فصاح الجميع بصوت واحد: الحج إلى مكة.
إذاً: غاية ما يفعله المنصرون وما يستطيعون القيام به أن يستعبدوا الناس بهذه المساعدات المسماة بالإنسانية، كالتمريض، وفتح المدارس الخاصة التي يضعون فيها الراهبات وهكذا، فهم يتخذون وسائل ملتوية، أما أن يقف الباطل في مواجهة الحق ويأتي بأدلة فلا، إنما يعرف الباطل الظلم والخسة والنذالة، ولا يمكن أبداً أن يهزم الإسلام على الإطلاق في أي مناظرة شريفة، يمكن أن ينهزم المسلمون في بعض الأحوال نتيجة ضعف القوى المادية، لكن أن يقف الباطل أمام الإسلام ويثبت في مناظرة علمية هذا مستحيل، والتأريخ ينبئنا بمصداق ذلك.(141/13)
تفسير قوله تعالى: (الذين هم في غمرة ساهون هذا الذي كنتم به تستعجلون)
قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:11 - 14].
قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} أي: في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة وترك الشبهات الواهية.
أو: غافلون عما نزل إليهم بالانهماك في اللذات البدنية واستئثار الحظوظ العاجلة.
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي: متى يوم الجزاء، ويوم يدين الله العباد بأعمالهم؟! هذا السؤال منهم كان على سبيل الاستنكار أو الاستحقار أو الاستبعاد، فجاءهم الرد: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي: يحرقون، والفتنة هنا بمعنى الإحراق، وهي إحدى إطلاقات الفتنة في القرآن الكريم، يقال: هذا دينار فتين، أي: محروق، وأصل الفتن: إذابة الجوهر الخام كالذهب ليخرج منه ما يخالطه من شوائب كثيرة، قال عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] أي: أن الشوائب تذهب ويبقى المعدن الخالص.
كما قال بعض السلف في حق الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر رحمه الله تعالى، فأصل (الفتن) إذابة الجوهر ليظهر غشه، ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يعني: يقدر هنا مقولاً لهم أي: أثناء تعذيبهم، يقال لهم في هذه الحالة: ((ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)) أي: ذوقوا عذابكم الذي استعجلتموه قبل وقته، كما قال: ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)) أي: هذا ما استعجلتم حصوله في الدنيا، لأنكم كنتم تتحدون الرسول أن يأتيكم بهذا العذاب إن كان من الصادقين، فهذا الذي كنتم به تستعجلون، قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:53 - 54].(141/14)
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات:15] لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه، فقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يفهم منها بدلالة الإيماء والتنبيه أن سبب دخولهم الجنات وتنعمهم بالجنات أنهم كانوا من المتقين.
إذاً: التقوى وسيلة للحصول على هذا النعيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، وقال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل:31].
قوله: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ)) أي: الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)).(141/15)
تفسير قوله تعالى: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)
قال تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قال ابن جرير: أي عاملين ما أمرهم به ربهم مؤدين فرائضه.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله تبارك وتعالى: ((آخِذِينَ)) حال من قوله: ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ))، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون ((آخذين ما آتاهم ربهم)) أي: من النعيم والسرور والغبطة، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم من النعيم والسرور والغبطة، ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ)) أي: في الدنيا.
((مُحْسِنِينَ)) أي: قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، وظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم كما بينه بقوله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].(141/16)
تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون)
قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] أي: كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً لتتقوى نفوسهم على عبادته تعالى بنشاط.
وروى ابن جرير عن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: (أنهم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء).
وقال: محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة، أي: حتى يصلوا صلاة العشاء.
وعن مطرف قال: قلَّ ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل إما من أولها أو من أوسطها.
وعن الحسن قال: كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله.
إذاً: قيام الليل فيه نوع من المجاهدة؛ لأن الإنسان في حالة اليقظة بالنهار حتى من الناحية (الفسيولوجية) يفرز هرمونات النشاط، وضوء النهار يمر من عين الإنسان، فيؤثر على غدة معينة فتزيد الإفراز من هرمونات النشاط، أما في حالة الليل فإنه يقل، وبالتالي إذا أراد الإنسان السهر يحتاج إلى مجاهدة ومكابدة ومقاومة للرغبة في النوم.
وقال الضحاك: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} * {كَانُوا قَلِيلًا} ثم ابتدأ فقال: ((مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)) يعني: المحسنين كانوا قليلاً، فيسكت ثم يبتدئ فيقول: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} * {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} على أساس أن (ما) نافية، بمعنى: لا يهجعون.
يقول ابن كثير: وهذا القول فيه بعد وتعسف.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم وترك الاستراحة؛ وذلك لأنه ذكر القليل ((مِنَ اللَّيْلِ))، والليل هو وقت النوم، والهجوع هو الخفيف من النوم.
حتى أنه لم يقل: ما ينامون، لكن قال: ((ما يهجعون)) فاختار أخف درجة من النوم التي هي الهجوع.
و (ما) زائدة تدل على القلة، وبالجملة ففي الآية استحباب قيام الليل وذم نومه كله، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة.(141/17)
تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون)
قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
قال القاضي: أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
ومعناه: أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، كانوا إذا دخل عليهم وقت السحر أخذوا في الاستغفار، كأنهم قضوا ما مضى من الليل في الجرائم والكبائر، وفي الحقيقة هم مجتهدون في العبادة.
يقول الرازي: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه فيستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم، فهو يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به.
فكان حال السلف أنهم كانوا مع إحسانهم خائفين، أما نحن فمع إساءتنا آمنون كأن معنا صكوك غفران من الله سبحانه وتعالى فيها الضمان بدخول الجنة.
ثم يقول: وفيه وجه آخر ألطف منه، وهو أنه تعالى لما بين أنهم يهجعون قليلاً، والهجوع مقتضى الطبع، قال: ((يَسْتَغْفِرُونَ)) أي: يستغفرون من ذلك القدر القليل من النوم.
وفيه لطيفة أخرى يبينها في جواب
السؤال
وهو أنه سبحانه مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر، يعني: لم يقل الله سبحانه وتعالى: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون، وإنما قال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فما الحكمة من ذلك مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة؛ لأنهم كانوا ينامون أخف درجات النوم الذي هو الهجوع من أجل أن ينشطوا للقيام.
ويتقووا بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالنوم الذي هو مباح في أصله صار عبادة في حقهم مع أنهم نائمون، وهذا المعنى لن نستفيده إذا كانت الآية مثلاً: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون.
قوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر، كقولهم: ربنا اغفر لنا، وطلب المغفرة بالفعل في بالأسحار وهو الصلاة، والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر؛ لأن الصلاة تسمى تسبيحاً، فكذلك أيضاً قد تسمى ركوعاً، فيطلق الجزء مراداً به الكل، فكذلك الاستغفار؛ لأنه جزء من الصلاة فأطلق على الصلاة كلها، فقوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} معناه: يصلون صلاة تتضمن الاستغفار، وهذا مما يؤيد القول الثاني، ومما يؤيده أيضاً: الإشارة إلى الزكاة في الآية التي بعدها مباشرة، وهي قوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:18 - 19]، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات، فكذلك يفهم أن هناك قرناً بين إيتاء للزكاة وإقامة الصلاة.
وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار الإشارة إلى أن ركنها المهم في التهجد هو الاستغفار كما في حديث التنزل الإلهي: (من يستغفرني فأغفر له؟)، وفي قصة يوسف عليه السلام {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:97 - 98] قال بعض المفسرين: إنه عنى بذلك أنه سوف يؤخر لهم الدعاء إلى السحر، حيث يستجاب الدعاء.
وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها كالركوع: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، والسجود كذلك وبين السجدتين (رب اغفر لي، رب اغفر لي)، وآخر الصلاة كما أخرجه الشيخان وأهل السنن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك.(141/18)
تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)
قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] أي: أن المحروم هو الفقير المتعفف، لكن من شدة تعففه يحسبه الجاهل غنياً كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] فيحرم الصدقة.
قال قتادة: هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل بكفه، وفقير متعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه).
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق وإن جاء على فرس) ورواه أبو داود، ثم أسنده من وجه آخر عن علي رضي الله عنه.
ويدخل في المحروم كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف، ولذا عوَّل عليه الأكثر، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}: سوى الزكاة، يصلون بها رحماً، أو يقرون بها ضيفاً، أو يحملون بها كلاً.(141/19)
تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين)
ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات، بل لابد من الدلائل الواضحات الكثيرة فقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] أي: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس وينثلج له الصدر، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النباتات والحيوانات والوهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، ويرون آيات عظاماً وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته جل جلاله.(141/20)
تفسير قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)
قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
في الحقيقة الآيات الأولى من سورة الذاريات إلى قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] تشتمل على آيات الله سبحانه وتعالى في الخلق وفي الوجود وفي أنفسنا، ويكفي أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شرح هذه الآيات القلائل في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) في أكثر من مائة صفحة، شرحها مع كثير من التأمل قدر ما توافر له آنذاك من العلوم البشرية ما يعين الإنسان على التأمل في خلق الله سبحانه وتعالى، والتوصل فعلاً إلى توحيد الله بالأدلة والبراهين المبثوثة في كل ما حولنا، ولذلك نحن نقول: إن التفكر ليس أمراً مستحباً فحسب، ولكنه فريضة على كل مسلم، قال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] هذا فعل أمر، والأمر ظاهره الوجوب، فيجب أن يتأمل الإنسان في مثل هذه الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191]).
فالتفكر وظيفة في غاية الأهمية بالنسبة للمؤمن لكي يزداد إيماناً ويقيناً.
ولو وقفنا فقط -وبالذات في ضوء المكتشفات الحديثة والعلوم الحديثة كعلم الطب وعلم التشريح وغيرهما- مع قوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} لطال بنا الكلام جداً، لكن ننصح الإخوة بمطالعة كلام الإمام ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) على هذه الجملة من الآيات طلباً للاختصار.
قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي: في حال اهتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ولا لسان بليغ.
يعني: خلق الله سبحانه وتعالى إيانا في أحسن تقويم، وجعل كل عضو في أفضل مكان له، فلم يجعل الأذنين في مؤخرة الرأس مثلاً أو في الرجلين، ولم يجعل الفم أعلى الجبهة، أو الأنف في الخلف، بل تجد كل شيء وضع في موضعه، فالقواطع في مقدمة الفم، والأنياب تمزق الطعام على الجانبين، ثم الأضراس للطحن، فلو أن الأضراس هي التي كانت في مقدمة الفم لاختل هذا النظام، ومع ذلك يأتي السفهاء والملاحدة ويقولون: إن الأمر صدفة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
إذاً: الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر في المخلوقات، لو أنك درست علم التشريح أو علم وظائف الأعضاء، أو علم الأمراض أو غير ذلك من فروع العلوم كلها، مثل: علوم النباتات، أو علوم الهندسة النووية، أو العلوم الجينية، أو الهندسة الوراثية، إذا درست هذه بنية التأمل والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى كما أمرنا هنا وفي كثير جداً من الآيات فإنك تكون في عبادة.
هذا العلم ما خلقه الله إلا ليدلنا عليه سبحانه وتعالى وعلى توحيده، وهذه العلوم لا تجافي علم الدين، بل الآيات كما قلنا مراراً نوعان: آيات تنزيلية، وآيات تكوينية، فالآيات التنزيلية هي آيات القرآن الكريم وآيات الوحي، وأما الآيات التكوينية فهي صفحة هذه المخلوقات التي تكشف عن صانعها وخالقها وهو الله سبحانه وتعالى، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا والكلام في هذا يطول.
وأنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكر والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشي قوله: وإذا نظرت تريد معتبراً فانظر إليك ففيك معتبر أنت الذي تمسي وتصبح في الـ دنيا وكل أموره عبر أنت المصرف كان في صغر ثم استقل بشخصك الكبر أنت الذي تنعاه خلقته ينعاه منه الشعر والبشر أنت الذي تعطى وتسلب لا ينجيه من أن يسلب الحذر أنت الذي لا شيء منه له وأحق منه بما له القدر(141/21)
تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)
قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] قوله: ((وفي السماء رزقكم وما توعدون) أي: في السماء المزن وهو السحاب، وعلى هذا فالمراد بالرزق هنا المطر؛ لأن المطر هو سبب الأقوات.
قوله: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: من العذاب السماوي؛ لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها، والخطاب لمشركي مكة.
((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) أي: الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر ((إِنَّهُ لَحَقٌّ)).
((مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)) أي: مثل نطقكم، والضمير في قوله: (إِنَّهُ) عائد لما ذكر من أمر الآيات والرزق.
أو عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، أو عائد على ما توعدون وهو أقرب مذكور، ويؤيد الأخير ذكر مصائر ووعيد المكذبين من قوم لوط وفرعون وعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، وبدأ منها بنبأ قوم لوط؛ لأن قراهم واقعة في ممر كفار قريش إلى فلسطين للاتجار، ومن ثم قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] إلى آخر الآيات.(141/22)
أقوال العلماء في كون الرزق من السماء وحقيقته
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر، والذي أنزل من السماء؛ لأنه يكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13] أي: ينزل لكم من السماء الماء الذي يكون بسببه نماء الرزق.
وقال تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} [الجاثية:5] أي: من مطر.
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق.
وقال بعض أهل العلم: معنى قوله تعالى: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)) أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، فهو سبحانه يدبر أمركم ويكتب أرزاقكم وأجلكم في السماء، كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5].
والمراد بقوله: ((وما توعدون)) كما قال بعض أهل العلم: الجنة؛ لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح؛ لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك، فسقف المسجد، وسقف البيت يسمى سماء، وشاهد ذلك من القرآن قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] أي: من كان يظن أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر نبيه محمداً عليه السلام ويجعل له العاقبة، فليربط الحبل إلى سقف الحجرة، ثم يفصل نفسه عن الأرض بالوقوف على الكرسي والحبل في عنقه، وبالتالي يشنق نفسه بهذه الطريقة.
فالشاهد هنا: أن ((فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ)) يعني: أن كل ما علاك يطلق عليه سماء؛ ولذلك قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه: (بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له صلى الله عليه وسلم: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: أجل إن شاء الله).
وقال بعض أهل العلم: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: ما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب للمعنى الثاني في الرزق، وهو أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة والله عز وجل يدبر أمر الأرض من السماء.
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، ومن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فقال: أنا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً فلما كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه رأياً، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت.
وعن الأصمعي قال أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع.
قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن.
قال: اتل علي.
قال: فقرأت عليه من أول سورة الذاريات حتى بلغت قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال الأعرابي: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد فصرت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رفيع، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي وقال: اتل علي سورة الذاريات، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين، قال ذلك ثلاث مرات، وخرجت معها نفسه.
فهذه النقول وهذه القصص تدل على أنهم فهموا من قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أن الأرزاق يكتبها الله سبحانه وتعالى ويقدرها، وكذلك ما توعدون من خير أو شر إنما هو أمر مقدر في السماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت).(141/23)
تفسير سورة الذاريات [24 - 60](142/1)
تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)
انتهينا في تفسير سورة الذاريات إلى قول الله تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] وقلنا من قبل: إن الضمير في قوله تعالى: ((إنه لحق)) يحتمل أن يعود إلى ما ذكر من الآيات والرزق، أو يعود إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعود إلى قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] أي: أن ما توعدون من العذاب السماوي لحق، ومما يؤيده أن الله سبحانه وتعالى أتبع ذلك بأنباء وعيد المكذبين، فبدأ منها بنبأ قوم لوط عليه السلام؛ لأن قراهم واقعة في طريق كفار قريش، فكانوا يمرون في أثناء أسفارهم على قراهم قوم لوط، فبدأ الله تعالى بذكر قصة تعذيب قوم لوط، وإن كان بدأها بذكر خبر إبراهيم: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)).
ومناسبة ذكر قصة إبراهيم هنا مع أن الهدف الأساسي لذهاب الملائكة ومرورهم بإبراهيم عليه السلام إنما كان لإهلاك قوم لوط، لكنهم قبل أن يذهبوا مروا بإبراهيم لتبشيره بالولد.
قوله: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) يعني: الملائكة الذين دخلوا عليه في صورة ضيف.
قال الزمخشري: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ)) هذا فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي.
((الْمُكْرَمِينَ)) أي: أنهم في أنفسهم مكرمون؛ لأن الملائكة كرام، وهذا وصف ثابت للملائكة، أو أن الخليل إبراهيم عليه السلام أكرمهم بنفسه غاية الإكرام وأخدمهم امرأته ونحو ذلك مما سنذكره من ملامح كرم ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة.(142/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً إنه هو الحكيم العليم)
قال تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:25 - 30].
قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)) أي: سلام عليكم.
((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) أي: أنتم قوم لا أعرفكم.
وهذا كالسؤال منه عن أحوالهم ليعرفهم، فإن قولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك عرفني نفسك وصفها.
((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِن)) أي: ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفه ويعذره؛ لأن الضيف إذا سألته: هل نعد لك الطعام أم لا؟ سوف يستحي وفي الغالب أنه يقول: لا، ويكفك عن أن تكرمه، لكن الكريم كإبراهيم عليه السلام لشدة حرصه على إكرام ضيوفه لم يستأذن الضيف، ولم يخبرهم بأنه سيعد الطعام أو كذا، وإنما ذهب خفية، وهذا من غاية الإكرام.
عن أبي عبيد قال: إنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية؛ لأن الروغ فيه معنى الاستخفاء، ولذلك يقال: روغ اللقمة إذا غمسها في السمن تماماً حتى رويت من السمن.
((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: قد أنضجه وشواه.
قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: وضعه بين أيديهم.
((قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: منه.
قال القاضي: وهو مشعر بكونه حنيذاً، يعني: مشوياً، والهمزة في قوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب، فقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) أفضل من أن يقول: كلوا؛ لأن في قوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حث على الأكل على طريقة الأدب وفيه تلطف بهم.
أو أنه قال هذه العبارة: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حينما رأى إعراضهم عن الطعام، فللإنكار عليهم قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)).
((فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أي: أضمر الخيفة؛ لظنه أنهم أرادوا به سوءاً.
((قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) أي: يبلغ ويكمل علمه.
((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)) أي: صيحة.
((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً على عادة النساء في كل غريب عندهن، ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) أي: عاقر ليس لي ولد.
((قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ)) أي: مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك، فإنما نخبرك عن الله فاقبلي قوله ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة.
((إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)).(142/3)
حقيقة الغلام المبشر به إبراهيم وحقيقة أمه
قوله: ((وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) من الغلام؟ هو إسحاق عليه السلام؛ لقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ولأن في نفس هذه القصة في سورة هود جاء نفس سياق ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة.
هناك أمر آخر في قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) العجوز العقيم؟ هي سارة امرأته وقد كانت حرة، أما هاجر فكانت أمة؛ ولذلك قال: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فأبدت السبب من جهتها، وفي سورة هود أبدت السبب من جهتها ومن جهة إبراهيم عليه السلام {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72] فهذا إنما كان في حق سارة وليس في حق هاجر.(142/4)
كلام ابن القيم في جلاء الأفهام عن تفسير الآيات الأول من سورة الذاريات
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى له كلام قيم جداً في تفسير هذه الآيات، يقول رحمه الله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) إلى آخر الآيات، في هذا ثناء على إبراهيم عليه السلام من وجوه متعددة:(142/5)
الوجه الأول: معنى الإكرام في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)
الوجه الأول: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، فعلى أحد القولين: أنه إكرام إبراهيم لهم، والقول الآخر: أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين؛ فالآية تدل على المعنيين.(142/6)
الوجه الثاني: عدم ذكر استئذان الضيف حين دخلوا على إبراهيم وسبب ذلك
الوجه الثاني: قوله تعالى: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)) فلم يذكر استئذانهم وفي هذا دليل على أنه كان قد عرف واشتهر بإكرام الضيفان، واعتياد قراهم، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورد، وهو لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم.
أي: أن إبراهيم عليه السلام جعل بابه مفتوحاً والطعام مهيئاً.(142/7)
الوجه الثالث: الفرق بين سلام الملائكة على إبراهيم وسلامه عليهم
قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا)) ما إعراب (سلاماً)؟ مفعول مطلق بمعنى: نسلم عليك سلاماً.
فقال إبراهيم: (سلام) أي: سلام عليكم.
أيهما أفضل تحية الملائكة أم تحية إبراهيم؟ تحية إبراهيم أفضل؛ لأن الرفع في اللغة العربية أكمل من النصب.
يقول ابن القيم: الوجه الثالث: قوله لهم: (سلام) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت واللزوم، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: (سلاماً) يدل على سلمنا سلاماً، وقوله: (سلام) أي: سلام عليكم.(142/8)
الوجه الرابع: وجه حذف المبتدأ في قوله: (قوم منكرون)
الوجه الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ((قوم منكرون))، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف، كأن يقول لهم: أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام.
وإنما قال: ((قوم منكرون))، فلم يعين من هؤلاء القوم، ولم يقل لهم: أنتم قوم منكرون.(142/9)
الوجه الخامس: وجه حذف الفاعل في قوله: (قوم منكرون)
الوجه الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: ((قوم منكرون)) ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.(142/10)
الوجه السادس: عدم إشعار الضيف بإعداد الطعام من كرم الضيافة
الوجه السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان: هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.
وأفظع من هذا من يقول له: نعد لك العشاء أو تنام قليلاً، فهذا مما يؤخذ من قوله: ((فراغ إلى أهله))، وفي الآية الأخرى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69]، قوله: ((فما لبث)) يعني: اختفى وقتاً يسيراً؛ لأن طول الغيبة عن الضيف يشعره بالاحتشام، وأنه أثقل على أهل البيت، بحيث أنهم انقطعوا عن أعمالهم وصاروا يعدون له الطعام، لكن اختفى يسيراً ليجيئهم بنزلهم.(142/11)
الوجه السابع: من الكرم استعداد أهل البيت لطروق الضيف في كل وقت
الوجه السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه.
أي: أنه كان دائماً يعد الطعام لنزل الضيوف، فلم يذهب ليشتريه، أو ليستقرضه من جيرانه، أو يفعل شيئاً من هذا؛ لأنه عليه السلام المتصف بهذا الكرم الشديد البليغ.(142/12)
الوجه الثامن: من كرم الضيافة خدمة صاحب البيت للضيف بنفسه
قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ))، دل على خدمته للضيف بنفسه.
أي: أن من إكرام الضيف أن يقوم صاحب البيت على خدمته كائناً من كان، وليس من المروءة استخدام الضيف، ويمكن أن يستعين بالغلمان أو الخدم أو كذا، لكن إبراهيم عليه السلام لم يفعل ذلك وإنما خدم الضيف بنفسه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.(142/13)
الوجه التاسع: من كرم الضيافة الإتيان بكل الذبيحة للضيف
الوجه التاسع: أنه جاء بعجل كامل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) ولم يأت ببضعة منه.
أي: لم يقطعه أو يأتي بجزء منه، وهذا من تمام كرمه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهو تركهم وشأنهم يختارون ما يستحسنونه من أجزاء هذا العجل.(142/14)
الوجه العاشر: من كرم الضيافة اختيار الذبيحة السمينة للضيف لا الهزيلة
العاشر: أنه سمين لا هزيل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: غير هزيل.
ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.(142/15)
الوجه الحادي عشر: من كرم الضيافة تقريب الطعام إلى الضيف
الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ))، فالطعام يقرب للضيف حيث هو جالس، وهذا من تمام الكرم، ولم يأمر خادمه بأن يحمله ويقربه إليهم، لكن قربه بنفسه.
وأنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة بحيث يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ويحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب هو إليه.
فمن كرم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه هو الذي قربه إليهم، فالطعام هو الذي يقرب إليهم وليس الضيوف هم الذين يقربون إلى الطعام.(142/16)
الوجه الثاني عشر: من كرم الضيافة التلطف في القول عند ابتداء الأكل
الثالث عشر: أنه قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا أو مدوا أيديكم، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه، ولهذا يقولون: باسم الله ألا تتصدق؟ ألا تجبر؟ ونحو ذلك من العبارات التي فيها التلطف بالضيف.(142/17)
الوجه الثالث عشر: سبب عرض إبراهيم الأكل على ضيوفه
الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل؛ لأنه رآهم لا يأكلون؛ ولأن عادة إبراهيم عليه السلام أن ضيوفه لم يكونوا يحتاجون إلى الإذن في الأكل، فعادة ضيوف إبراهيم عليه السلام أنه كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا، وهؤلاء الضيوف خالفوا هذه العادة، فاستوحش وأوجس منهم خيفة، أي: أحسها وأضمرها في نفسه ولم يبدها لهم، فقال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)).(142/18)
الوجه الرابع عشر: من كرم الضيافة عدم إظهار الريبة والخوف عند عدم أكل الضيوف
الخامس عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم ولم يظهر لهم، أي أنه لم يصرح بذلك وإنما سألهم هذا
السؤال
(( أَلا تَأْكُلُونَ)) كأنه يستكشف سر رفضهم الطعام؛ لأن العادة أن من أكل طعامك فإنك تستريح إليه وتطمئن إليه وتأمن من شره، أما إذا لم يأكل الطعام فقد تشك وتظن أنه أتى يريد أن يفعل بك شراً، فإبراهيم لما خاف منهم لم يظهر لهم ذلك.
قوله: فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: ((لا تخف وبشروه بالغلام)).
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها فهي من التكلفات التي هي تخلف وتكلف.
أي: تخلف عن أخلاق الإسلام وآداب الإسلام وأخلاق إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظروا إلى آداب الضيافة، لا كهذه الأفعال المتكلفة التي يلتقطها بعض الناس من آداب الكفار مما يسمونه: آداب (الإتكيت) وهذه الأشياء كلها تكلف وسخافة، كأن يضع الشوكة في اليد اليسار والسكين في اليمين وغير ذلك من الأفعال التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي إذا قارنها بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام، فإنك لا تجد وجه مقارنة على الإطلاق.
ثم يقول: فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.(142/19)
كلام ابن القيم في كتابه زاد المهاجر عن مدح الله وثنائه على إبراهيم في سورة الذاريات وغيرها
تكلم ابن القيم في موضع آخر عن قول الله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) إلى قوله: ((إنه هو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) فقال رحمه الله: فعهدي بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام عليم، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك، فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار، وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها، وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة، وكيف تضمنت علماً عظيماً من أعلام النبوة، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة، وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم أفصحت وقوعه، وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة.
إلى أن قال رحمه الله تعالى: افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام، ولهذا قال بعض الناس: إن (هل) في مثل هذا الموضع بمعنى قد التي تقتضي التحقيق.
أي: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ثم قال: ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام؛ لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به، فتارة يصدره بألا، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر).
ثم قال: وتارة يصدره بهل كقوله: هل علمت ما كان من كيت وكيت، إما مذكراً به، وإما واعظاً له مخوفاً، وإما منبهاً على عظمة ما يخبر به، وإما مقرراً له.
فقول الله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15]، وقوله تعالى: {َهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21]، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وقوله هنا: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفة ما تضمنته.(142/20)
إخبار الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بقصة إبراهيم علم من أعلام النبوة وصدقها
وفيه أمر آخر: وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة.
أي: إشارة إلى أنك من قبل القرآن ما كنت تعلم شيئاً من هذه الأحاديث، يقول عز وجل: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] فكذلك قوله تعالى هنا: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)) إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق إلا بالوحي، وأن ما علمه من هذه الأخبار إنما هو بوحي لم يكتسبه بنفسه.
ثم قال: فهذا العلم الذي يأتيك علم من أعلام النبوة فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا أم لم يأتك إلا من قبلنا؟ فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام، وتأمل عظمة موقعه من جميع موارده، يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.(142/21)
ثناء الله على إبراهيم بوصف ضيفه بالمكرمين
وقوله تعالى: ((ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) متضمن لثنائه على خليله إبراهيم، فإن في المكرمين قولين: أحدهما: إكرام إبراهيم لهم، ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف.
والثاني: أنهم مكرمون عند الله كقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] وهو متضمن أيضاً لتعظيم خليله ومدحه؛ إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافاً لإبراهيم، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم.
تخيل لما يأتي إنسان له منصب كبير ويزور أحد الناس، فإنه يريد أن ينشر ذلك في الأخبار والجرائد في اليوم الثاني وفي الصفحة الأولى أن فلاناً زاره، أو أن فلاناً أفطر عنده، أو تغدى عنده ويفخر بذلك، فكيف إذا كان إبراهيم عليه السلام مضيفاً للملائكة الذين وصفهم الله بأنهم عباد مكرمون؟! فهذا أيضاً فيه ثناء على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(142/22)
الثناء على إبراهيم بكون تحيته للملائكة أكمل وأحسن من تحيتهم له
يقول ابن القيم وقوله: ((فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)) [الذاريات:25] متضمن لمدح آخر لإبراهيم، حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره: سلمنا عليك سلاماً، وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره: سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم، ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث، فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.(142/23)
أوجه المدح لإبراهيم في قوله: (قوم منكرون)
يقول ابن القيم: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) فيه من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح: أحدهما: أنه حذف المبتدأ والتقدير: أنتم قوم منكرون، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً بما يكرهه، بل يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا).
والثاني: قوله: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم، حيث لم يقل: أنا أنكركم، كما قال في موضع آخر: (نكِرَهم) ولا ريب أن قوله: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) ألطف من أن يقول: أنكرتهم.(142/24)
وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فراغ إلى أهله)
قوله: ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) متضمن وجوهاً من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف.
منها: قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) والروغان: الذهاب بسرعة واختفاء، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء، وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه.
أي: بخلاف من يكون بارداً بطيء الحركة أو هادئ الأعصاب لا يبالي بهذا الأمر.
وقوله: فهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه، ثم يبرز بمرأى منه، ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ.
هذا من قبل حيث كانت الأموال من الدراهم والدنانير توزن، وفي معناها الآن الريالات والفلوس كأن يفتح الدرج أو المحفظة ويخرج الفلوس ليشتري بها الطعام للضيف أمام الضيف.
فيقول: وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمرأى منه، ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ، ويتناول الإناء بمرأى منه، ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه، فلفظة (راغ) تنفي هذين الأمرين.
وفي قوله تعالى: ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ)) مدح آخر له لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ولا يذهب إلى غير أهله؛ إذ قرى الضيف حاصل عندهم.(142/25)
وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فجاء بعجل سمين) وتنوع ذلك
وقوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) [الذاريات:26] هذا يتضمن ثلاثة أنواع من المدح.
أحدها: خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه.
الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا.
الثالث: أنه سمين ليس بمهزول، وهذا من نفائس الأموال، فإنهم يعجبون بولد البقر السمين، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.(142/26)
وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فقربه إليهم فقال ألا تأكلون)
قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ)) متضمن المدح وآداباً أخرى، وهو إحضار الطعام بين يدي الضيف، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه.
وقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) فيه مدح وآداب أخر، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ))، وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام كلوا تقدموا ونحو هذا.
قوله: ((فأوجس منهم خيفة)) لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر؛ فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به، فلما علموا منه ذلك ((قالوا لا تخف)) أي: قد فهمنا أنك قد خفت منا، وأفهموه أنهم ملائكة والملائكة لا تأكل ولا تشرب، وهذا هو السبب والعذر الذي من أجله لم يأكلوا ((قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم)).(142/27)
حقيقة الغلام المبشر به في قوله تعالى: (وبشروه بغلام عليم)
يقول ابن القيم: وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل.
موضوع الآيات التي فيها الخلاف هي الآيات المتعلقة بالذبيح هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ قطعاً هو إسماعيل عليه السلام بخلاف ما يقوله أهل الكتاب، ووافقهم للأسف بعض العلماء.
قوله: وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل؛ لأن امرأته عجبت من ذلك فقالت: عجوز عقيم لا يولد لمثلي، فأنى لي بالولد، وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر، وكان بكره وأول ولده، وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
أي: بشرناه بإسحاق وزيادة على إسحاق أنه سوف يرزق من إسحاق ولداً ويعيش حتى يرى هذا الولد الذي هو يعقوب ((فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)) وهذا يفهم منه أن إسحاق سيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وينكح ويولد له.
أما الذبيح فقد كان غلاماً وهو إسماعيل، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] فلو كان هو إسحاق لتنافى مع هذه الآية؛ لأن البشارة أخبرت أن إسحاق سوف يعيش إلى أن يتزوج بل ويولد له يعقوب، فيصدق هذا على إسماعيل وليس على إسحاق، وهذه القصة التي في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] هي نفس هذه القصة التي وردت في سورة الذاريات من الإكرام لهؤلاء الضيفان.(142/28)
ظهور ضعف المرأة من خلال قوله: (فصكت وجهها)
قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) يقول ابن القيم: فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار.
كما قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسيره هنا: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)): أي: في صيحة.
((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً.
وليس هذا من اللطم الذي هو من النياحة، وإنما هذا على سبيل التعجب.
ثم يقول القاسمي: على عادة النساء في كل غريب عندهن لم تتمالك نفسها من شدة التعجب من هذه البشارة فلطمت وجهها.
فيقول ابن القيم: فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها.
أي: أن المرأة كتلة من العاطفة فتنفعل أحياناً ولا تنضبط في انفعالها، لذلك يشترط دائماً إبعادها عما يهيج عواطفها، مثل: اتباع الجنائز وقد نهاها الشرع عن ذلك؛ لأنه من الممكن أنها إذا حضرت الجنائز أو حضرت عند الدفن ألا تتمالك نفسها، ومعلوم ما يحصل من بعض النساء من الصراخ والعويل وهذه الأشياء، وحتى عند الفرح لا تتمالك المرأة نفسها إلا من رحم الله، فترى النساء عند الفرح يأتين بهذه الأصوات المنكرة التي يفعلنها، ولذلك الشريعة لا تقبل شهادتها في الجنايات، مثل: حوادث القتل والذبح والحرق، وكذا لا تقبل شهادتها لوحدها في المعاملات؛ لعجزها عن أن تضبط الشهادة على وجهها بخلاف الرجل.(142/29)
وقفة مع أدب الاقتصار في الكلام على ما تؤدى به الحاجة
ثم قال: وقوله: ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة.
مم أخذ أن المرأة إذا خاطبت الرجال تختصر الكلام بقدر المستطاع؟ أُخذ من حذف المبتدأ فهي لم تقل: أنا عجوز عقيم، وإنما قالت: عجوز عقيم، فاختصرت في الكلام جداً، لكن لو أنها واحدة من بنات هذا الزمان أو من نساء هذا الزمان إلا من عصم الله وسئلت: أين فلان؟ لقالت: فلان والله جاء له كذا وكذا وذهب إلى كذا، لكن تفضل وانتظره، إلى آخر هذا الكلام.
بينما المفروض على المرأة إذا خاطبت الرجال أن تختصر جداً في الكلام، وأن تقتصر على ما تتأدى به الحاجة، أما الإطالة في الكلام والإكثار من القيل والقال فهذا مما لا ينبغي.
بالمناسبة نتوقف وقفة يسيرة مع أحد التنبيهات، وهو الكلام على التدخل في خصائص الناس وتحري أسرار البيوت ونحو ذلك من وسائل استنطاق الناس بما عندهم من الأسرار، بعض الناس يكون لهم ظروف خاصة بهم فتأتي بعض النساء فتريد أن تكتنف وتنبش أسرار البيوت وخصائص الناس وأحوالهم الخاصة، فتأتي تكلمها بصورة أو بأخرى حتى تستخرج منها ما لا يعنيها، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) يعني: أن الإعراض عما لا يعني من علامات أن الإنسان قد حسن إسلامه، وهذا ليس خاصاً بالنساء بل يدخل فيه الرجال أيضاً.
ما دمت أيها المسلم لا تسأل أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن هذا الشيء فهو مما لا يعنيك فلا تنشغل به، لكن إذا أتاك الناس واختصموا إليك وسمعت من الخصوم فهذا واجبك، لكن على أن تعدل بين الخصمين ولا يجوز لك أن تتكلم أبداً مع طرف واحد أو تنصت إلى حجج طرف واحد، بل لابد أن تحضر الطرف الآخر وتسمع من الطرفين مباشرة، حينئذ يحق لك أن تتكلم، هذا إذا طلب منك أن تقوم بدور القاضي أو المصلح بين الناس، أما إذا لم يطلب منك أحد أن تتدخل في أحوال الناس فينبغي أن تستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وينبغي أن نتعبد بهذا الأمر.
إذاً: على الإنسان ألا يتدخل في أسرار الناس وخصوصياتهم؛ لأنه كما يقولون: البيوت أسرار، ويقول الشاعر في هذا: ما يريد الناس منا ما ينام الناس عنا لو سكنا باطن الأرض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ينشروا ما قد دفنا وهذا أحد السلف الصالحين لما سألته ابنته يوماً وقالت له: يا أبتاه! أين هذا الجذع الذي كان على بيت جيراننا؟ يعني: مرت سنوات طويلة وهذه البنت من صغرها كانت إذا نظرت إلى بيت الجار تلاحظ فوق سطح الجار في الليل مثل جذع شجرة ثابت دائماً فقالت له: يا أبتاه أين هذا الجذع الذي كنا نراه على سطح الجيران؟ قال: يا بنتاه هذا منصور بن زاذان العابد الجليل كان يقوم الليل وقد توفي.
نفهم من هذا أن أباها ما اشتغل بالكلام عن حال هذا الجار، مع أنه كان في مثل هذا الأمر من العبادة، فهذا يدل على أن السلف ما كانوا يشتغلون بتتبع أسرار الناس واستنطاق الناس بأسرارهم الشخصية؛ لأن الإنسان قد يكتم أموراً ولا يريد أن يظهرها، فأنت تستنطقه وتستخرج منه ما قد يسوءك، فالسلامة أن الإنسان لا يتدخل فيما لا يعنيه إلا إذا كان قاضياً فله أن يسمع من الأطراف كلها، حينئذ يضمن العدل والإنصاف، وإلا لا تجبر الناس على أن يتحدثوا بما يكرهون.(142/30)
وقفة مع ضوابط كلام المرأة الأجنبية مع الرجل الأجنبي
قوله تعالى: ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل: أنا عجوز عقيم.
نحن في الحقيقة بصفتنا مسلمين نفترق تماماً عن غيرنا ممن ارتضوا مناهج أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت من اليهود والنصارى والكفار، مما يسمونها: آداب التعامل أو (الإتكيت) أو كذا أو كذا، فعندهم أن على المرأة أن تكون لطيفة ورقيقة ومهذبة، بحيث تكلم الرجل بميوعة وبخضوع قول وغير ذلك؛ حتى تكون امرأة متحضرة.
نقول: نحن لا نريد هذه الحضارة؛ لأن المرأة المسلمة إذا خاطبت الرجال الأجانب ينبغي أن تتكلم معهم بحزم وخشونة، وأن تختصر وتقتصر على الكلام الذي تحتاج إليه.
أي: إن كانت الحاجة تقضى بثلاث كلمات فلا يجوز لها أن تجعلها خمس كلمات مثلاً، بل تقتصر فقط على مقدار ما تحتاج من الكلام، أما المقاولة والمحاورة فهذا يخرجها من آداب الإسلام، ويفتح أبواب الشيطان على مصارعه، والحوار في الهواتف مع رجل أجنبي في أي حاجة لابد أن تقتصر المرأة فيه على الكلام الجاد والمختصر جداً الذي تؤدى به الحاجة؛ لأن مقصود الشريعة أن تبني علاقة الرجال والنساء الأجانب عنهن على أساس نظام الأسلاك الشائكة، وأن هنا منطقة محظورة فيها الاختلاط إلا بضوابط معينة في المخاطبة أو الكلام إلى آخره، حيث لا خلوة، ولا خضوع في القول.
فأي بلية حصلت في الوجود بين رجل وامرأة إذا تتبعت الخيوط الأولى التي أنتجت هذه البلية ستجدها ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة، ومنها نفذ الشيطان وعبر، لكن متى ما حصلت على نظام الأسلاك الشائكة بين النساء والرجال الأجانب عنهن كانت السلامة من الفتن ومن البلاء، فالمرأة مع الرجال تقتصر على قدر الحاجة، أما أن يستنطقها الرجال أو أن يقولوا: إنها مهذبة وإنها كذا فهذا يتصادم مع مقاصد الشريعة.
وقد تكلمنا من قبل على قصة ذلك الرجل الذي وجد أخته تلبس ثياباً قاتمة داكنة اللون ساترة فقال لها: من رآك في هذا ينفر منك، فكان الجواب أن هذا هو المقصود.
أما أن المرأة المسلمة تلبس الملابس المتناسقة والألوان المتجانسة والتي تشرح صدر من يراها فليس هذا هو مقصود الحجاب، إنما نقصد بالحجاب أن نعمق نظام الأسلاك الشائكة بين النساء الأجانب وبين الرجال الذين ليسوا بمحارم، فهذا هو المطلوب أن الرجل ينفر إذا رأى المرأة وليس أن تجذب نظره إليها، ولا أن تتزين بثياب فيها تناسق وألوان متجانسة، وإنما يكون هذا في البيت أمام المحارم أو أمام زوجها، أما أنها تتأنق في مظهرها وتتزين حتى تكون لطيفة ومهذبة وتريح عين الناظرين وتشرح صدورهم، فهذا مما يتصادم مع الحكمة التي من أجلها شرع الحجاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فالحجاب جعل من أجل ستر الزينة، فهل يعقل أن يكون هو نفسه زينة؟! هو ما شرع إلا ليستر الزينة، سواء كانت الزينة الطبيعية أو الزينة المكتسبة، فكلاهما يستران، فلو افترضنا امرأة لبست ثياباً فضفاضة جداً مثل جلباب، لكن لونه أصفر مثلاً وفيه الورود والزينة والزخارف وكذا، هل هذا حجاب؟ لا، هذه صورة من صور التبرج؛ لأنه افتقد أحد شروط الحجاب، وهو ألا يكون الحجاب زينة في نفسه، سواء في نوع القماش أو طريقة التفصيل أو في ألوانه أو الأشياء الملحقة به من الزينة وهذه الأشياء، فلتتق الله النساء وليتذكرن أن الحجاب إنما شرع ليستر الزينة، فمن ثم لا يقبل أبداً أن يكون هو نفسه زينة؛ لأن هذا لا يكون حجاباً، بل هو صورة من صور التبرج.(142/31)
تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبكم أيها المرسلون وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم)
قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:31 - 37].
قوله: ((قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)) أي: قال إبراهيم لضيفه: ما أمركم وشأنكم أيها المرسلون؟ ((قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)) أي: إنا أرسلنا لمؤاخذة قوم مجرمين ومعاقبتهم.
((لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ)) أي: رجماً لهم على فعلهم الفاحشة.
قوله: ((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)) أي: مرسلة أو معلمة عند ربك للمعتدين حدود الله الكافرين به.
((فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا)) أي: في تلك القرية، وكان الخروج بإيحاء إليهم على لسان الملائكة.
((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) وهم لوط وابنتاه عليهم السلام.
((فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: بيت لوط عليه السلام.
((وَتَرَكْنَا فِيهَا)) أي: في تلك القرية.
((آيَةً)) علامة تدل على إهلاكهم الدنيوي الدال على إهلاكهم الأخروي.
((لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)) أي: في الآخرة.
وقرية قوم لوط عليه السلام هي قرية سدوم.(142/32)
تفسير قوله تعالى: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون فنبذناهم في اليم وهو مليم)
قال تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38 - 40].
قوله: ((وَفِي مُوسَى)) عطف على (فيها)، في قوله: ((وتركنا فيها آية))؛ لأن المعطوف عليه ضمير مجرور، أي: وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه.
((وفي موسى)) أي: آية أيضاً.
((إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) أي: ببرهان ظاهر.
((فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ)) أي: أعرض عن الإيمان، والركن جانب الشيء، ((فتولى بركنه)) أي: بجانب بدنه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية؛ لأن معناه: ثنى عطفه، أو الباء للملابسة، وذهب بعض المفسرين إلى أنه تولى بركنه أي: تولى بجيشه؛ لأنه يركن إليه ويتقوى به، والباء للمصاحبة أو للملابسة.
((وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) أي: موسى عليه السلام ساحر أو مجنون.
((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ)) وكلمة (وجنوده) تقوي قول من قال: ((فتولى بركنه)) أنه جيشه.
((فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)) أي: فأغرقناهم في البحر.
((وَهُوَ مُلِيمٌ)) أي: آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.(142/33)
تفسير قوله تعالى: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم إلا جعلته كالرميم)
قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41 - 42].
قوله تعالى: ((وَفِي عَادٍ)) أي: وتركنا في عاد قوم هود عليه السلام آية.
((إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)) العقيم: هي الريح التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر؛ لأن إنشاء المطر يكون فيه نوع من التزاوج بين الكهربية السالبة والموجبة، أو اللقاح؛ لأن الرياح لواقح لها دور في تكاثر النباتات كما هو معلوم، لكن هذه الريح التي أرسلت عليهم كانت ريح عذاب لا ينشأ منها مطر ولا تلقيح شجر.
((مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)) والرميم هو: الشيء الهالك، وأصل الرميم: البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.(142/34)
تفسير قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين)
قال تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:43 - 45].
قوله: ((وَفِي ثَمُودَ)) أي: وتركنا في ثمود قوم صالح عليه السلام آية.
((إِذْ قِيلَ لَهُمْ)) أي: بعد عقرهم الناقة، ((تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)) أي: تمتعوا في داركم حتى حين، وقيل: هذا الحين ثلاثة أيام، كما بينته الآيات الأخرى.
((فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)) أي: فاستكبروا عن امتثاله.
((فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)) أي: العذاب الحال بهم المعهود.
((وَهُمْ يَنظُرُونَ)) أي: وهم ينظرون إليها؛ لأنها نزلت بهم في النهار.
((فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ)) أي: لما نزل بهم العذاب ما استطاعوا من نهوض، فضلاً عن أن يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم عذاب الله سبحانه وتعالى.
((وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ)) أي: ما كانوا ممتنعين من العذاب.(142/35)
تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل)
قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46].
قوله: ((وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)) قرئ بالجر عطفاً على ((وفي ثمود)) أي: (وقومِ نوح من قبل)، وبالنصب: (وقوم نوح) مفعولاً لمضمر دل عليه السياق والسباق، أي: وأهلكنا قوم نوح، أو عطفاً على مفعول (فأخذناه).
((إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)) أي: مخالفين أمر الله خارجين عن طاعته؛ لأن الفسق هو الخروج، تقول: فسقت الرطبة، أي: خرجت.(142/36)
تفسير قوله تعالى: (والسماء بينيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون)
قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48].
قوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ)) ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم؛ لأن قوله: ((بِأَيْيدٍ)) ليس جمع يد، وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا (بأييد) فَعْل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله: ((بِأَيْيدٍ)) في مكان الفاء، والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام.
ولو كان قوله تعالى: ((بِأَيْيدٍ)) جمع يد لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة، والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين، والياء المحذوفة لكونه منقوصاً هي اللام.
والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] أي: قويناه به.
فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطاً فاحشاً، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة.
قوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ)) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: رفعناها بقوة، قوله: ((وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) أي: قادرون على الإيساع كما أوسعنا بناءها.
هذه الآية الكريمة لو أتينا بواحد مختص في علوم الفلك لحدثنا حولها بالعجائب، من عملية التمدد المستمر للكون، وهناك صور لأجزاء في الفضاء تدل على استمرار تمدد الكون واتساعه بصورة مدهشة، فهذا مما يقر به الكفار.
علماء الكفار الذين يهتمون بهذه العلوم لهم في ذلك بحوث كثيرة جداً، كلها تثبت هذه الحقيقة المعروفة عندهم بتمدد الكون.
والقاسمي فسر الإيساع بالقدرة، أي: كما أوسعنا بناءها فإنا قادرون على إيساعها أكثر من ذلك، أما ما اكتشف حديثاً من التمدد الفعلي للكون فإنه يؤيد ذلك.
قوله تعالى: ((وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا)) أي: مهدناها ليتمتعوا بها.
((فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)) أي: لهم.(142/37)
تفسير قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)
قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] قوله: ((زَوْجَيْنِ)) أي: ذكراً وأنثى، أو نوعين متقابلين.
قال ابن كثير: أي جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات.
وقد دلت ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم على إثبات الزوجية في كل شيء، وأنا عندي بحث مستقل بعنوان: (الزوجية في كل مخلوق) وهو كتاب كبير يتناول الموضوع، فهناك ظاهرة الزوجية في كل شيء، الكهربية: سالبة وموجبة، المغناطيسية: شمال وجنوب وهكذا، كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى تتحقق ظاهرة الزوجية فيه.
يقول ابن جرير: وأولى القولين في ذلك قول مجاهد وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانياً له مخالفاً في معناه، فكل واحد منهما زوج للآخر، ولذا قيل: ((خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)).
((لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) يقول ابن جرير: أي: لتذكروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداء الزوجين من كل شيء لا ما لا يقدر على ذلك.(142/38)
تفسير قوله تعالى: (ففروا إلى الله ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين)
قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50 - 51].
قوله: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: حقيقة الفرار الهرب من شيء إلى شيء، وهو نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، ففرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه، وأما الفرار منه إليه فهو الفرار إلى الله عز وجل بالتوبة والإنابة والإقبال والمسارعة في طاعته وهذا فرار السعداء، وأما الفرار منه لا إليه فهو بعمل المعاصي والإسراف فيها وهذا فرار الأشقياء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: فروا منه إليه واعملوا بطاعته.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (وأعوذ بك منك) وقال عز وجل: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] فهذا فرار الخلص والأولياء.
وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله.
وقال آخرون: اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة.
يقول القاسمي: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: فروا من عقابه إلى رحمته بالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته.
قال الشهاب: الأمر بالفرار من العقاب المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، كأنه فر لمأمنه.
((إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: أنذركم وأخوفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم والذي هو مذيقهم العذاب في الآخرة.
((وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: قد أبان النذارة.
قال أبو السعود: فيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكليف كما قيل، بل بالنهي عن سببه وإيجاب الفرار منه.
قوله: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: بالإيمان وعدم الشرك، وقوله: ((وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) فإن هذا هو مفتاح النجاة.(142/39)
تفسير قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم أتواصوا به بل هم قوم طاغون)
قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52 - 53].
قوله: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كما ذكر من تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، قال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] أي: هم قالوا ذلك تقليداً لآبائهم واقتداءً لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف ومشرع تعنتهم متحد، فآباؤهم واجهوا الرسل السابقين بنفس الاتهام فقالوا: ساحر أو مجنون.
((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) إنكار وتعجب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلاً عن التفوه بها.
قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: كأن كل جيل كان يوصي الجيل الآتي بقوله: إذا أتاكم رسول فقولوا له: أنت ساحر أو مجنون، أو ساحر كذاب.
قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: أأوصى بهذا القول بعضهم بعضاً حتى اتفقوا عليه؟! فأضرب الله سبحانه وتعالى عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) يعني التأريخ يعيد نفسه.
ألا إنما الأيام أبناء واحد وتلك الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات هذه سنة ماضية، فهم لما اتحد جوابهم وتعنتهم مع الرسل لا لأنهم تواصوا به حقيقة؛ ولكن لأنهم يتفقون في صفة هي التي أثمرت لهم نفس الرد وهي أنهم قوم طاغون.
((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ))، فهذا إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه وهو الطغيان الشامل للكل، الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك، فهذا هو السبب الحقيقي في أنهم ردوا نفس الرد، وقابلوا وجابهوا جميع الأنبياء والرسل بنفس التكذيب والإعراض.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52 - 53] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوماً إلا قالوا: ساحر أو مجنون، ثم قال: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال؛ لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا، فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) أي: الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعاً على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد الطغيان، الذي هو مجاوزة الحد في الكفر.
وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة في قول الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118].
فإذا كانت القلوب متشابهة، فإنه يصدر عنها نفس هذا الصد عن سبيل الله، وهذا ما نلاحظه ونشهده في آفاق الأرض كلها، الآن مثلاً يجتمع الجميع على الصد عن سبيل الله وتجد نفس الكلام من الشتم كقولهم: هؤلاء الإرهابيون المتطرفون المهووسون إلى غير ذلك من الشتائم التي يطلقونها علينا.(142/40)
تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم)
قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54].
قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ كقوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10].
((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: ما أنت بملوم ولن نحاسبك لأنهم أعرضوا، إنما أنت تؤدي ما عليك: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22].
((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: لست مسئولاً عن استجابتهم، إنما أنت مسئول عن البيان والبلاغ، ففي هذه العبارة أوضح رد على ما تفوه به بعض المفسرين المعاصرين وأحسبه الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى، حيث يقول: إن الهدف والغاية من بعث الرسل هو إقامة الحكومة الإسلامية.
فبعض الكتاب تصدر منهم تعبيرات مرفوضة، فنحن فقط ننكرها من باب النصيحة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنهم في ذلك، فكان من تعبير بعض هؤلاء الكتاب ومن يسمونهم مفكرين: أن بعض الرسل فشلوا في إقامة الحكومة الإسلامية والبعض الآخر نجح، فنسبة الفشل لبعض الأنبياء هذا شيء فظيع وشيء عجيب! والذي يوضح ويظهر بطلان هذه النظرية وهذا الكلام هذه الآية: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) والرسول ما عليه إلا البلاغ وقد أدى ما عليه، أما أن الرسول يحاسب ويلام لأن قومه لم يستجيبوا له فلا؛ لأنه لا يملك قلوب الناس، ولا يملك هداية القلوب، إذ هداية القلوب فقط بيد الله سبحانه وتعالى، فلذلك قال سبحانه: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: قد أديت ما عليك، وجاء في الحديث: (أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد) لم يستجب له أحد، فهل يطلق على هذا أنه نبي فاشل والعياذ بالله؟! وهل النبي أصلاً يوصف بالفشل؟! فهذا من جراء إطلاق بعض الأدباء العنان لأقلامهم، فيأتون بمثل هذه العبارات السخيفة؛ بسبب عدم معرفتهم لقضية التوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى، وما ينبغي أن ينسب إلى الله وما ينبغي أن ينزه الله عنه، كذلك تنزيه الرسل والأنبياء عن أمثال هذه العبارات الفضيعة التي جرت على ألسنتهم.
فمعرفة وإتقان هذه الضوابط أمر مهم جداً.
فلا يطلق أبداً على النبي أنه فشل -والعياذ بالله- في إقامة حكومة إسلامية؛ لأن الغاية والهدف من إرسال الرسل هو تعبيد الناس لربهم سبحانه وتعالى.
يقول العلامة النسفي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة اللوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه أدى الأمانة ونصح الأمة، وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].
يقول القاسمي: وقول بعض المفسرين: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: فأعرض عن مجادلتهم بعدما كررت عليهم الدعوة، يقول: هذا بعيد عن المعنى بمراحل؛ لأن مجادلتهم مما كان مأموراً به على المدى.
قلنا في تفسير قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ فقط، أي: ليس أعرض عن مجادلتهم وعن إقامة الحجة عليهم وعن دعوتهم فهذا تفسير غير صحيح وإنما الصحيح: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ، لكن فيما يتعلق بوظيفة الدعوة لابد أن يستمر في إقامة الحجة، ولذلك قلنا: إن هذه الآية يفسرها قوله: ((وَدَعْ أَذَاهُمْ))، وقوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، وقوله: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)) ثم قال بعدها: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) أي: عليك هداية البيان والتوضيح وإقامة الأدلة، لكن هداية القلوب للحق هذه لا يملكها إلا الله، وهي التي قال الله فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال الله تعالى فيها: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام كان مكلفاً بهداية البلاغ والبيان على الوجه الأكمل؛ لأن المجادلة والمناقشة وإظهار الحجة وإبطال كلام أعداء التوحيد هو العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، وقد قلنا من قبل: إن المسلمين لا يمكن أن ينهزموا في مناظرة أو في مناقشة علمية نزيهة، فلأهل الحق الظهور على الإطلاق، وإذا حصل ظهور من الكفار فليس ظهور حجة وإنما هو ظهور قهر وكبت وتشنيع وشغب بالشبهات وغير هذه الأشياء، لكن بظهور حجة لا يمكن أن يحصل هذا، لأن الحجة ظاهرة على الإطلاق، فظهور أهل السنة والجماعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين).
إذاً: أدلة الحق هي أوضح من الشمس ولا ينكرها إلا مطموس البصيرة، ولا يمكن للمبطل أن يكون له دليل على باطله، فمن ثم أوجب الله على كل إنسان منذ بعث النبي محمداً عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة أمرين: الأول: أن يجتهد في البحث عن الحق.
الثاني: أن يصيب الوصول إلى الحق، ولا يعتبر عذراً له إذا قال: بحثت وتحريت فوجدت -مثلاً-: النصرانية هي دين الحق أو اليهودية أو البوذية إلى آخره؛ لأن الأدلة واضحة وضوحاً بحيث لا يجحدها إلا مكابر، أما الباحث عن الحقيقة بإخلاص فحتماً لابد أن يصل، والواقع يؤيد هذا كما تعلمون.
فقوله تعالى: ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)) أي: جهاداً ممتداً بالقرآن، وذلك بإقامة الحجج القرآنية على القضايا الكلية، وبالذات قضايا العقيدة والتوحيد.(142/41)
تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)
قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
قوله: ((وَذَكِّرْ)) أي: عظهم.
((فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: من قدر الله إيمانه أو الذين آمنوا؛ فإنهم المقصودون من الخلق لا من سواهم إذ هم العادلون.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئاً لحكم متعددة، فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع، فإنا نذكر بعض حكمه، والآيات الدالة عليها، وقد قدمنا أمثلة ذلك، ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير، وهي رجاء انتفاع المذكَّر.
هنا اقتصر الشنقيطي على ذكر فائدة واحدة وهي التذكير، لكن هناك فوائد أخرى ثبتت من خلال أدلة أخرى منها: إقامة الحجة على العباد، وهذا هو المطلوب في مجادلة الكفار أنك تبلغهم الحق، وأنت غير مسئول عن استجابتهم، عليك فقط أن تبلغ حجة الله وأن تقيم الشهادة لله على هؤلاء الناس أنه وصلهم الحق وهم الذين أعرضوا عنه، وأوضح دليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
ولذلك يقول الشنقيطي: ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير، وهي رجاء انتفاع المذكر؛ لأنه تعالى قال هنا: ((وَذَكِّرْ)) ورتب عليه قوله: ((فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)).
إذاً: هذا تعرض لفائدة من فوائد التذكير.
ثم يقول: ومن حكم ذلك أيضاً: خروج المذكِّر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله: ((قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)).
إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ عهدتك أمام الله سبحانه وتعالى ولا يشترط أن يستجيب الناس لنصيحتك، لكن ما دمت أنت لم تقصر وأديت ما عليك، في هذه الحالة تكون قد أعذرت إلى ربك عز وجل، ولذلك كثير من الناس يتخاذل عن أن ينكر المنكرات، وبالتالي تزداد شيوعاً ويقول: لا فائدة، الناس لا تستجيب وكلامي كعدمه، فيرد على مثل هذا بالقول: إن من حكمة التذكير والنصيحة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تقيم حجة الله على هذا العبد بإيصال الحق له.
((وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) لعلك تصادف قلباً مقبلاً على الله سبحانه وتعالى فيتأثر بالنصيحة كما يحصل لكثير من الناس.(142/42)
وقفة مع المتخاذلين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحقيقة وردت شكوى من أحد إخواننا الأفاضل الأسبوع الماضي يقول فيها: توجد الآن منكرات كثيرة، خاصة فيما يتعلق بالاختلاط القبيح جداً بين الفتيان والفتيات، والمصيبة أن بعض الإخوة يمرون على المنكرات مرور الكرام ولا يتكلمون، مع أنه من المؤكد أنه لن يتعرض لضرر إذا نصح ولن يقبض عليه ولن يعذب ولن يعتقل، ولو كل واحد مر بفتاة وبجانبها شاب أجنبي عنها وغضضت البصر وقال لهما: اتقيا الله سبحانه وتعالى، توبا إلى الله، هذا الاختلاط حرام، إذا كنت أجنبية عنه وهكذا، ونصحهما وأدى ما عليه ومضى فإنه يرجى إن شاء الله تعالى أنه مع الوقت سيشعران بأنهما يفعلان شيئاً خطأ ويبد كل منهما في تحاشي مثل ذلك الاختلاط، لكن سكوتنا مما يعمق ظهور هذه الفتن وهذه المنكرات، وبالتالي نستحق الوعيد الذي قال في شأنه الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه).
فالشاهد: أن الإنسان عليه ينصح، وليس عليه مسئولية الاستجابة، وإنما عليه مسئولية إذا نفر المدعو، وإذا أمر بجهل أو نهى بجهل، أو أخطأ في مراعاة الآداب الشرعية والضوابط الشرعية للنصيحة، لكن ما دام أنه يراعي هذه الضوابط ويتكلم عن علم، ويعظ بالحكمة والموعظة الحسنة فهو غير مسئول، عليه فقط أن يقيم الحجة، فانتبهوا لهذا، حتى لو كان الناس لا يستجيبون فسنظل مطالبين بنصيحتهم.
ثم يقول الشنقيطي: ومن حكم ذلك أيضاً: النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه.
يعني: هذه الأمة وظيفتها أنها نائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والمرسلين ولا نبي بعده، مع أننا نؤمن بأن كل ذكر مولود على الأرض منذ بعثته إلى يوم القيامة مسئول عن دين محمد، وسيسأل في القبر الأسئلة الثلاثة المعروفة: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال عليه السلام: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار) كما في صحيح مسلم.
فإذاً: علينا أن نعي واجبنا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في ضوء قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فهذه الأمة من مسئوليتها القيام بالشهادة وتحمل دعوة الإسلام وإيصالها إلى كل البشر على وجه الأرض؛ لأنها تخلف الرسول عليه السلام في إقامة الحجة على الخلق، يقول الله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فبالنسبة لأمتنا بالذات العلماء ورثة الأنبياء وكل مسلم مطالب بأن يبلغ ما استطاع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية) لأنه بهذا البلاغ تقوم الحجة على الخلق، وتظل وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على البشر من خلال القرآن والسنة قائمة عن طريق الأمة التي تبلغ الناس.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47].
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، هذه الآية تفهم خطأً كالآية التي نحن بصددها، فقوله: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) يظن المتخاذل عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها حجة له في أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نقول: المقصود بقوله: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) أي: الزموا أنفسكم الحق إن لم يستجب الآخرون.
قوله: ((لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) من ضمن التفاسير التي تبطل هذا المذهب قول من قال: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا اهتديتم.(142/43)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: إلا لهذه الحكمة وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتم صلاح ولا تنال سعادة في الدارين إلا بها.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: اختلف العلماء في معنى قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) فقال بعضهم: المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان.
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) من القتل لا من القتال.
أما القراءة الأخرى وهي قراءة حفص عن عاصم {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] ليس فيها إشكال، لكن إذا قلنا: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) على هذه القراءة يكون المعنى: فإن قتلوا بعضكم، فأطلق الكل وأراد البعض.
ثم يقول: ومن شواهده العربية قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد فقوله هنا: (فسيف بني عبس وقد ضربوا به) يفهم من الشطر الثاني أن المقصود بسيف بني عبس الذي ضربوا به هو أن الذي ضرب به هو واحد، لكن نسب السيف إليهم جميعاً.
يقول: فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي.
من ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:99].
وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً أو كرهاً؛ لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبراً عليه.
وهذا كما قلنا: عبودية اختيارية، وعبودية اضطرارية، ومعنى العبودية الاضطرارية: أن سنن الله وأحكام الله تنفذ على الكافر رغماً عنه، إذا شاء الله له أن يولد يولد، وإذا شاء الله له أن يمرض يمرض، وإذا شاء الله له أن يموت في وقت معين يموت في نفس هذا الوقت، وإذا شاء الله أن يعزه يعتز، أو يذله يذل وهكذا، فأفعال الله وقضاء الله ماضية فيه لا انفكاك له عنها، فهذه هي العبودية الاضطرارية.
ثم يقول: ويدل له قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله عز وجل، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعاً وبعضهم يفعله كرهاً.
أي: فالجميع في حالة العبودية، فعلى هذا الأساس اللام في قوله: (إلا ليعبدون) لام التعليل، أي: لإرادة أن يعبدون.
إذاً: الإرادة هنا إرادة شرعية.
يقول الشنقيطي: وعن مجاهد أنه قال: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليعرفوني، واستدل بعضهم لهذا القول بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ونحو ذلك من الآيات.
وعن مجاهد أيضاً في معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره.
وعلى هذا القول: فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله: ((ليعبدون)) إرادة دينية شرعية، وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل بطاعة الله، لا إرادة كونية قدرية؛ لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن، والواقع خلاف ذلك، بدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] إلى آخر السورة.(142/44)
القول الفصل في معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، وأبتليهم أي: أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
قال تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ثم بين الحكمة من هذا الخلق، بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7].
إذاً: كلمة: (لِيَعْبُدُونِ) تساوي في التفسير: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7].
ثم قال الشنقيطي: وقال تعالى في أول سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال تعالى في أول الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، يفسر قوله: (لِيَعْبُدُونِ)، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولاً وبعثهم ثانياً هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ وذلك في قوله تعالى في أول سورة يونس: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:4]، وقوله في النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى أي: مهملاً لم يؤمر ولم ينه، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت، أي: ويجازيه على عمله، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، والبراهين على البعث دالة على الجزاء.
يعني: جميع الأدلة التي تدل على البعث والنشور هي نفسها تدل على الجزاء؛ لأن البعث والنشور لحكمة الجزاء.
ثم يقول الشنقيطي: وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم، منكراً ذلك عليهم في قوله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
ثم يقول: اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما، قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافاً، والواقع خلاف ذلك؛ لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضاً، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء، وأنه محيط بكل شيء علماً، يقول تعالى في آخر سورة الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
إذاً: هذه الآية نصت على حكمة خلق الله للسماوات والأرض لماذا؟ {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
وذكر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده، كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة:164] إلى قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] ولما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده، بقوله بعده: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق كثير جداً في القرآن، يقول تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:2 - 3] وقال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس، وذلك في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7].
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس:4] وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافاً، مع أنها لا اختلاف بينها؛ لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد، وهو معرفة الله وطاعته، ومعرفة وعده ووعيده، فقوله: ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وقوله: ((اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله؛ لأن من عرف الله أطاعه ووحده.
وهذا العلم يعلمهم الله إياه، ويرسل لهم الرسل بمقتضاه، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات بأن الجزاء لابد له من تكليف.
هل يحاسب الله من هو غير مكلف؟ لا، لا يحاسب الله إلا من هو مكلف، والإنسان لا يصير مسئولاً عن الحق إلا بعد أن يعلمه، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فإذاً: هناك تلازم بين هذه الأمور كلها.
ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: فظهر بهذا اتفاق الآيات بأن الجزاء لابد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات، والتكليف لابد له من علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض.
وقد بينا معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون) في كتابنا: (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] أي: ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] فهذه إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله تعالى: ((إلا ليعبدون)) إرادة دينية شرعية.
وبينا هناك أيضاً الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسماً إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، وقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
والحاصل: أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده، وأمرهم بذلك، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية.
يعني: أنه قد يقع وقد لا يقع، وأن الله يحب هذا الذي يأمر به ويرضاه بخلاف الإرادة التكوينية القدرية.
ويقول رحمه الله: ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية، فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة.
وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله تعالى: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ))، وقوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) وبين قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)).
إذاً: قوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) اللام فيها تدل على الإرادة الكونية القدرية، لكن قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) اللام فيها تدل على الإرادة الشرعية الدينية.
ثم قال رحمه الله تعالى: وإنما ذكرنا أن الإرادة(142/45)
تفسير قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)
قال الله تبارك وتعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58] بيان لعظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فإن عبيدهم مطلوبون للخدمة والتكسب للسادة، والسيد يجعل العبيد يعملون ثم يعودون عليه بحاصل ما عملوا به، أما الله فهو غني عن العالمين، ولا يطلب من عباده رزقاً ولا إطعاماً، بل هو الذي يرزقهم، وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله.(142/46)
تفسير قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم)
قال تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات:59].
قوله: ((فإن للذين ظلموا)) أي: ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد.
((ذنوباً)) أي: نصيباً وافراً من العذاب.
وأصل الذنوب في لغة العرب: الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقُلُب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب التي هي الدلو على النصيب، فأصل الذنوب النصيب، لكن لما كان هذا النصيب لا يحصل عليه إلا بالدلو صارت تأخذ معنى النصيب.
قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو: لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب يعني: لنا نصيب ولكم نصيب، فإن أبيتم فلنا القليب.
أي: سنأخذ نحن كل البئر.
ويروى أيضاً: إنا إذا سار بنا سريب له ذنوب ولنا ذنوب فإن أبى كان لنا القليب ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي، وقيل: عبيد: وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لكأس من نداك ذنوب وقول أبي ذؤيب: لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب (المنايا): الموت.
وقوله: (لكل بني أب منها ذنوب) أي: لكل إنسان منها نصيب، ولابد أن يشرب من كأس الموت نصيبه.
إذاً: الذنوب في البيتين النصيب.
قوله: ((فإن للذين ظلموا)) أي: بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم.
(ذنوباً) أي: نصيباً من عذاب الله.
((مثل ذنوب أصحابهم)) أي: من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم، كما قال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:50 - 51]، أي: سيحصلون على نفس النصيب من العذاب.
وقال تعالى هنا: ((فلا يستعجلون)) كما قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]، وقال تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84].
يقول القاسمي: ((ذنوباً)) أي: نصيباً وافراً من العذاب.
((مثل ذنوب أصحابهم)) أي: مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية، وقوله: ((أصحابهم)) أي: أزواجهم وأصنامهم أو نظرائهم، وليس أصحابهم الذين يعيشون معهم.
وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، وهي تذكر وتؤنث فاستعيرت للنصيب مطلقاً، في الشر كالنصيب من العذاب كما في الآية، أو في الخير كما في العطاء في الشعر الذي ذكرناه، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب، فيعطى لهذا ذنوب والآخر مثله.
((فلا يستعجلون)) أي: لا يطلبوا مني أن أعجل هذا الذنوب قبل أجله، فإنه لابد آتيهم، ولكن في حينه المؤخر لحكمة.(142/47)
تفسير قوله تعالى: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون)
قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:60]، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، وقال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:2]، وقال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15]، فكلمة (ويل) قال بعض أهل العلم: إنها مصدر لا فعل له من لفظه، ومعناها: الهلاك الشديد.
وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ من حره.
والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء عليهم بهذا الويل.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)) أي: توعدوا فيه نزول العذاب بهم، وماذا يلقون فيه من البلاء والجهد، واليوم يوم القيامة، أو يوم بدر.
قال أبو السعود: والأول هو الأنسب؛ لما في صدر السورة الكريمة الآتية؛ لأنه كما تعلمون أن هناك علم التناسب والترابط بين سور القرآن بعضها ببعض من حيث الترتيب، فالسورة التالية التي هي سورة الطور في صدرها جاء قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:7 - 10]، فقوله: (يوم) كأن هذا اليوم الذي ورد ذكره هنا في صدر سورة الطور هو الذي اختتم به سورة الذاريات التي قبل هذه السورة مباشرة، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ))، أي يوم هو؟ إنه يوم تمور السماء موراً، وتسير الجبال سيراً.
فإذاً: هذا يكون أقرب من القول أن اليوم هو يوم بدر، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)).
قال أبو السعود: هو الأنسب؛ لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والثاني هو الأوفق لما قبله، منه قوله تعالى: ((فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ)) فيكون هنا أنسب لما قبله؛ لأن كفار قريش أخذوا نصيبهم من الهلاك يوم بدر، والله تعالى أعلم.(142/48)
تفسير سورة الطور [1 - 34](143/1)
بين يدي سورة الطور
قال المهايمي: سميت هذه السورة بالطور لما تضمن من تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم.
والطور هو مكان مهبط الوحي على موسى عليه السلام، فإذا بلغ من شرف هذا الجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى أن أقسم الله به، وسميت السورة به تعظيماً لمهبط الوحي، فكيف بالوحي نفسه؟! لا شك أنه أولى بالتعظيم.
فيعظم الاهتمام بالعمل، لاسيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته، وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
وهذه السورة مكية، وآيها تسع وأربعون، وترتيبها في المصحف الثانية والخمسون.
روى الشيخان ومالك عن جبير بن مطعم قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءةً منه)، وعلى هذا فهذه السورة من السور التي تتلى في صلاة المغرب؛ لهذا الحديث.
وروى البخاري عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي -يعني: أنها مريضة- فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـ {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2]).(143/2)
تفسير قوله تعالى: (والطور وكتاب مسطور في رق منشور)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:1 - 6].
قوله: ((وَالطُّورِ)) قيل: إن المقصود به: طور سينين، وطور سينين أقسم الله عز وجل به في سورة أخرى من القرآن الكريم.
فقوله: ((وَالطُّورِ)) أي: وطور سينين.
وهو جبل بمدين سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تبارك وتعالى.
وكتب التفسير تذكر أن هذا الجبل جبل بمدين، وقيل: إن اسمه الزَّبير، قال الجوهري: والزَّبير: الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقيل: الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور.
وأما مدين فهي مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك على بحر القُلزم، يعني: على البحر الأحمر، وبتعبير أدق على خليج العقبة، وبين تبوك ومدين ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب.
فعلى هذا فالظاهر أن الجبل هو جبل طور سينين أو جبل الطور الذي في مدين الذي كلم الله عليه موسى.
ويتضح من سياق هذا الكلام أن هذا الجبل يقع في الحد الشمالي الغربي من جزيرة العرب، فما أدري ما هو التحقيق في ذلك، خاصة وأنه يشيع عندنا: أن هذا الجبل في سيناء! وحتى الآن ما وقفت على كلام قاطع يوضح هذه المسألة، هل هو الجبل الذي في سيناء أم أنه الجبل الذي في مدين؟ ولكن الظاهر أنه الذي في مدين، والله تبارك وتعالى أعلم.(143/3)
كلام الشنقيطي في أول سورة الطور
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها.
أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع.
يقول الشنقيطي: والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين:1 - 2].
والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2]، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2].
وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد.
وقيل غير ذلك.
وقوله: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7]، وقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5].
و (الرَّق) في قوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه.
وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52].
وقوله: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل.
وأما قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور.
وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟! وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟! إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72].
الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً.
وقول النمر بن تولب العكلي: إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً.
هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6]، فقوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً.
فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38 - 39]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.(143/4)
كلام القاسمي في أول سورة الطور
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَالطُّورِ} [الطور:1] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى.
{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة.
{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور.
إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه.
وغلَّط الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق.
يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق.
أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف:150]، ولم تكن في رق.
فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة.
ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30].
والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام.
كذلك لما اصطحبت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام.
كذلك قول النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] إلى قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2].
فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة.
وقد ذكرت الملائكة لـ هاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك).
يعني: مثل موسى عليه السلام.
فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء.
فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون.
وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام.
وقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.(143/5)
معنى قوله تعالى: (والبيت المعمور)
قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] أي: الذي هو معمور بكثرة من يغشاه، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمار والطائفين والعاكفين والمجاورين، وهذا هو الذي اعتمده القاسمي، فقد رجح أن البيت المعمور هو البيت الحرام بمكة المكرمة، والذي لا يوجد على سطح الأرض بيت يعبد الله سبحانه وتعالى ويوحد كما ينبغي له عز وجل إلا في هذا المكان وحده والعاكفين والمجاورين وغير ذلك.
وهناك قول آخر وهو: أن البيت المعمور هو بيت في السماء بحيال الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه أبداً.
قال القاسمي: والأول أظهر، أي: أن البيت المعمور المقصود به الحرم الشريف؛ لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف البلد الأمين على طور سينين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً؛ لتشابه آياته كثيراً، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب.
أما القول: بأن البيت المعمور هو البيت الذي في السماء، فدليله ما ثبت في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإسراء: (ثم رفع لي البيت المعمور، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم).
ويمكن أن تقرأ (آخرُ ما عليهم)، إن قلنا: (آخرَ ما عليهم) فالنصب على الظرفية، وإن قلنا: (آخرُ ما عليهم) فالرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم، وهذا أولى.
وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه.
ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه).
قال المهايمي: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، يعني: بعدما أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب بقوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2]، وهو الوحي، أورد بعد ذلك البيت المعمور، فربط بين الوحي وبين البيت المعمور، وعلى القول بأن البيت المعمور هو الكعبة، فكأن الربط هنا بين الوحي نفسه وبين مكان الوحي الذي هو البيت المعمور في مكة المكرمة.
يقول: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه؛ ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين؛ ولأنه من أجل الآيات وأكبرها، كما دل عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، وآيات أخر.(143/6)
معنى قوله تعالى: (والسقف المرفوع والبحر المسجور)
قوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] يعني: السماء، وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه، يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32].
وقيل: إن السقف المرفوع هو العرش، على أساس ما ثبت من كون العرش هو سقف الجنة.
وقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] المسجور هو المملوء، أو: المسجور هو الذي يوقد، ويصير ناراً، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6].
قال ابن جرير: والأول أولى.
فشيخ المفسرين رجح أن المقصود بالبحر المسجور: المملوء.
يعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض؛ لأن الأغلب أن من معاني السجر الإيقاد أو الامتلاء.
والبحر غير موقد اليوم، وثبتت له الصفة الثانية وهي الامتلاء؛ لأنه كل وقت ممتلئ، وهذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم من مخلوقاته إلا بما كان عظيماً.
وفيه إشارة إلى دلائل وحدانيته وقدرته عز وجل.(143/7)
تفسير قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع)
ما مضى هو القسم، أما المقسم عليه فهو قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] يعني: ما له من دافع يدفعه عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع.
ومثل هذا آيات أخر تثبت نفس هذه الحقيقة، كقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6].
وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134]، وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2].
وقوله: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)) [الطور:7 - 8].
قال جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه: (قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، -يعني: كان مشركاً في ذلك الوقت، وأتى لفداء أسرى بدر- فوافيته، -يعني: وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب: {وَالطُّورِ} [الطور:1]، إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطور:7 - 8]، -فكأنما صدع قلبي)، يعني: كأنما تشقق قلبه إشفاقاً وخوفاً من هذه الآية الكريمة ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))، يقول جبير رضي الله تعالى عنه: (فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب).
وعن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن، وعنده رجل يقرأ: ((وَالطُّورِ))، حتى بلغ: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)) [الطور:7 - 8]، فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه.
فهذه الآية من أخوف الآيات في كتاب الله تبارك وتعالى؛ ولذلك جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأها في الصلاة فغشي عليه خوفاً وشفقةً من هذا الوعيد الشديد، ولما سقط حمل إلى بيته وظل يعاد أياماً، يزوره الناس يحسبونه مريضاً، وما به مرض، وإنما به الخوف من مما دلت عليه هذه الآية الكريمة! ولما ولي بكار القضاء، جاء إليه رجلان يختصمان، فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، يعني: أن القاضي رغب الشخص الذي حق عليه أن يحلف بالصلح؛ لأن الآخر ليس عنده بينه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فحاول القاضي أن يحرض هذين الخصمين على الصلح، وحرض الذي قبل أن يحلف أنه يعطي خصمه من عنده عوضاً عن يمينه! يضحي بشيء من ماله عوضاً عن أن يحلف، فأبى إلا أن يحلف أنه ليس عنده شيء، فأحلفه بأول ((وَالطُّورِ))، إلى أن قال له: قل: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)) [الطور:7] إن كنت كاذباً.
وفي بعض الروايات: قل: إن عذاب الله بي لواقع إن كنت كاذباً، فقالها، وحلف هذا اليمين، فخرج فكسر من حينه، ولم يفصل، يعني: لم يبين الراوي هل انكسرت رقبته مثلاً فمات أم انكسر منه شيء آخر، على أي الأحوال هذا مما يدل على عظم هذه اليمين.
فقوله تعالى: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)) [الطور:7 - 8]، يعني: لا يدفعه دافع عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع.(143/8)
تفسير قوله تعالى: (يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً)
قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10].
العامل في ((يوم)) قوله: ((واقع)) يعني: واقع يوم.
وقوله: ((تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا)) أي: تضطرب.
وقوله: ((وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)) أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباءً منثوراً، واستدل على هذا التفسير بقوله تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].(143/9)
تفسير قوله تعالى: (فويل يومئذٍ للمكذبين)
قال تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] أي: المكذبين بالحق الجاحدين له.
وقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:12] يعني: في خوض من التكذيب والاستهزاء، يلعبون بآيات الله ودلائله.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] أي: يدفعون إليها بعنف، يقال: دععت في قفاه، إذا دفعته في قفاه بإزعاج وشدة، كما يفعل الشرطي بالمجرم الذي يقبض عليه، فإنه يدفعه من الظهر أو من قفاه بشدة إلى الأمام.
وقوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14] يعني: يقال لهم: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون).
وقوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] يعني: الذي وردتموه الآن، أهذا سحر؟ والفاء هنا للسببية؛ لتسبب هذا عما قالوه في الوحي؛ لأنهم لما وصفوا الوحي بأنه سحر وردوا العذاب نتيجة هذا القول؛ تسبب لهم فيما هم فيه من الدع ومن العذاب.
فقوله: ((أَفَسِحْرٌ هَذَا)) أي: أم هذا الذي تردونه الآن من النكال والعذاب، هل هذا سحر؟ وقوله: ((أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)) أي: أم كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، لا تبصرون في الآخرة أيضاً؟ قال الزمخشري: يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم.
ثم قال تعالى لهم: {اصْلَوْهَا} [الطور:16] أي: ذوقوا حر هذه النار.
وقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا}، يعني: على ألمها.
{أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} يعني: سواء عليكم الأمران ((سواء)) مبتدأ، والخبر ((عليكم))، أي: الصبر والجزع كلاهما عليكم سواء، كما قال الله تبارك وتعالى: {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
فقوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16] أي: الأمران: الصبر وعدمه سواء عليكم.
وقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم وكفركم به.
والإتيان بهذه الصيغة هنا المقصود بها التعليل، يعني: علة هذا التعذيب ما عملتموه من قبل.
قال الزمخشري: فإن قلت: لمَ علل استواء الصبر وعدمه بقوله: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))؟ قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع؛ لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير.
فأما الصبر على العذاب -الذي هو الجزاء- ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.
يعني: أنه علل قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]، بأن المقصود: اصبروا على ألمها أو لا تصبروا، فالصبر والجزع كلاهما سواء، وذكر العلة بقوله: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، إشارة إلى أن الصبر والجزع لا يستويان في دار الدنيا، التي هي دار العمل والكسب والسعي، فالإنسان يصبر ولا يجزع، فإذا صبر فإنه يثاب على هذا الصبر، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فالصبر يكون مراً، لكن عاقبته عاقبة طيبة.
والإنسان عليه أن يصبر على مرارة الصبر؛ لأنه يرى ببصيرته حلاوة العاقبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فالصبر له ثمرة وعاقبة حسنة في الدنيا وفي الآخرة.
أما الجزع في الدنيا فلا شك أن الصبر أفضل منه؛ لأن الصبر يرجى من ورائه عاقبة حلوة، أما في دار الجزاء بعدما انتهت الدنيا، فليس فيها أي كسب جديد، فقد انتهى العمل، وانقطعت الأسباب وانقطع العمل.
فحينما ينتقل الإنسان إلى دار الجزاء، فيدخل النار ويعذب، فيصبر أو لا يصبر، لا فرق بين الاثنتين؛ لأن الصبر هنا في هذه الحالة لا يرجى من ورائه فائدة؛ لأنه في دار الجزاء، ودار الثواب أو العقاب، وليس في دار العمل.(143/10)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]: الدع في لغة العرب: الدفع بقوة وعنف، ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2] أي: يدفعه عن حقه بقوة وعنف.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين: أحدهما: أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة.
الثاني: أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخاً وتقريعاً: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، كقوله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22].
وقال تعالى في سورة سبأ: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42].
وقال تعالى في سورة المرسلات: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:29 - 32].
وقوله عز وجل: ((يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا))، يبينه قوله عز وجل في سورة الدخان: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] يعني: جروه بقوة وعنف إلى وسط النار.
والعتل في لغة العرب: الجر بعنف وقوة.
ومنه قول الفرزدق: ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل وقال عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، وهذه الصورة من صور العتل أو الدفع بعنف والدع الشديد وبقوة تكون داخل النار.
وقوله عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، هذا فيه تفصيل أكثر وتوضيح أكثر لكيفية الدع بعنف، يعني: أن الزبانية تجمع بين ناصية الواحد منهم وبين قدمه، والناصية هي: مقدم شعر الرأس، فتمسك الملائكة بمقدم شعر رأسه وتجمعه مع قدمه.
فيا له من منظر فظيع: أن يأتي الملك ويقبض على قدم الإنسان مع ناصيته، ثم يدفعه في النار بقوة وشدة.
وبين الله سبحانه وتعالى أيضاً: أن من صور هذا الدع أو العتل الشديد: أنهم يسحبون في النار على وجوههم، كما قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
وقال تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:70 - 72].
وقوله هنا في هذه الآية: ((يَوْمَ يُدَعُّونَ)) بدل من قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ))، فإنه تعالى قال: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11]، ثم قال: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13].(143/11)
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور:17 - 18] يعني: متلذذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة.
وقوله تعالى: ((فَاكِهِينَ)) مفردها: فاكه، وفاكه معناها: ذو فاكهة، كتامر ذو تمر، ولابن ذو لبن، كذلك فاكه، يقال: رجل فاكه: يعني: ذو فاكهة.
ويقول الشاعر: وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر يعني: أنك ذو لبن وذو تمر.(143/12)
تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة)
قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:19 - 20].
قوله تعالى: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ))، زوجناهم هنا بمعنى قرناهم بالحور العين، فهي مثل قول الله تبارك وتعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: قرناءهم أو أشكالهم، وليس من كلام العرب: تزوجت بامرأة، ولا زوجته بامرأة.
إذاً: قوله تعالى هنا: ((وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)) الفعل هنا تعدى بالباء، وليس في كلام العرب (زوّج بـ).
ولذلك في التفسير نقول: إن قوله تعالى: ((وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)) أي: قرناهم بحور عين، وهذا كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: قرناءهم، وقال بعضهم: إن (زوجت بـ) لغة أزد شنوءة أو قبيلة معينة من العرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: ((بِحُورٍ عِينٍ)) عين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين في حسن.(143/13)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)
قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
قوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ)) يعني: أنهم آمنوا، ثم إن ذريتهم من بعدهم اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح.
وقوله: ((أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) يعني: في الجنات والنعيم.
والخطاب لما كان مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم واثقون بوعد الله، تمت لهم البشارة بالموعود به بأنه سوف ينال ذريتهم أيضاً، ولكن هذا بشرط أن يتبعوا آباءهم بإحسان، فإذا جاءت الذرية واتبعت الآباء بإحسان، فيكافئ الله سبحانه وتعالى هؤلاء الآباء بأن يضم إليهم ذريتهم في الجنات والنعيم، هذا هو المراد من الآية، والقاسمي رحمه الله تعالى يرجح هذا التفسير.
فقوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ)) يعني: بشرط أن تتبعهم ((بِإِيمَانٍ)) والجزاء هو: ((أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)).
فشرط استحقاق أن يلحق بالآباء الأبناء والذرية أن يتبعوا آباءهم بإحسان على نفس الطريقة، هذا هو المراد من الآية، وأما من قال في معناها: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل، فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً، وهذا شائع في كتب التفسير، حيث يذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية: إن الذرية تلحق بالآباء ولو كانت الذرية دون الآباء في العمل، فإن من النعيم الذي ينعم الله به على الآباء أن يرفع الذرية وإن كانوا دون آبائهم في العمل إلى مقامهم؛ لأنهم يقولون: إنما كنا نعمل لأولادنا، يعني: نعمل العمل الصالح حتى تكون عاقبته في أولادنا، ويوردون في ذلك كثيراً من الآثار، وهذا المعنى إذا صح في الحديث فعلى العين والرأس، أما إن لم يصح في الحديث فلا يصح أن نفسر به هذه الآية؛ لأن الآية لا تدل على هذا المعنى الذي يذكرونه، وإنما تدل على ما ذكره القاسمي هنا: أن ذلك إنما هو بشرط أن يتبع الأبناء آباءهم بإحسان، ويتبعوهم بإحسان.
فأما قول من قال: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل! فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً.
وقوله: ((وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) يعني: وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئاً.
وقوله: ((كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)) أي: بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، و (كل) تفيد العموم، فكل إنسان حبيس أو رهين بما عمل من خير أو شر، ولا يؤاخذ إلا بعمله، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، وهذا مبدأ المسئولية الفردية، وهو من أحد الخصائص الواضحة جداً في دين الإسلام، كما قال عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15].
وقول الله تبارك وتعالى هنا: ((كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)) يؤكد هذا المعنى، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره.(143/14)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء)
يقول العلامة الشنقيطي في تفسيرها: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس، وقد بين الله تعالى في آيات أخرى، أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم، وذلك في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] وهذا على تفسير قوله: ((رَهِينَةٌ)) بمعنى حبيسة بما كسبت.
وعلى هذا المعنى فالذي حبس هم كل المجرمين أو الكفار؛ ولذلك استثنى فقال: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:39 - 41]، ومن المعلوم أن التخصيص بيان كما تقرر في الأصول.
وهذا كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 33]، وقال أيضاً: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15]، وقال: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات:41 - 42].
أما اللحم المذكور: فوصف بأنه من الطير، قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21]، والإنسان روح وجسد، فكما تتنعم الروح كذلك يتنعم الجسد.
فلا يوجد أي إشكال في هذا، بل بالعكس هذا من أساليب الترغيب التي تتوافق مع الفطرة السليمة، فالإنسان روح وجسد، وكما أن الجسد يتنعم كذلك الروح تتنعم.
ثم قد دلت الأدلة على أن المتاع الروحي لأهل الجنة أعلى بكثير من المتاع الحسي، بدليل قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وبدليل أنهم إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى وكشف لهم وجهه الكريم في الجنة، فإنهم يتلهون وينسون كل ما هم فيه من النعيم.
واليهود والنصارى في موضوع الجنة أو النار ليس عندهم أي نوع من التفصيل، فمن منة الله سبحانه وتعالى ونعمته علينا أن جعلنا من هذه الأمة التي جاء فيها هذا العلم الوافر من القرآن ومن السنة، وأعلمنا بكثير من الغيبيات التي امتازت الأمة الإسلامية بها على من عداها من الأمم، فجاء التوضيح الشافي لأمور كثيرة من المغيبات بفضل الوحي، فعرفنا تفاصيل ما يحصل في الغيب، وبالذات ما نحن بصدده من الكلام في تفاصيل نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار.(143/15)
تفسير قوله تعالى: (وأمددناهم بفاكهة ولهم مما يشتهون يتنازعون فيها كأساً)
قال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور:22] قوله: ((وأمددناهم)) في هذا أن المدد مستمر، يعني: زدناهم وقتاً بعد وقت، فهو مدد متجدد ومستمر.
قوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} [الطور:23] يعني: يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها، ويتناول بعضهم من بعض كأساً، والمقصود بالكأس ما فيه من خمر الجنة، وخمر الجنة يشربها من امتنع من خمر الدنيا، وخمر الدنيا بالعكس تماماً في كل صفاتها بالنسبة لخمر الجنة، فخمر الجنة قال الله عز وجل فيها: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] وخمر الجنة لا تذهب العقل، وليست خبيثة في الرائحة كخمر الدنيا، وهي طاهرة وليست نجسة كخمر الدنيا، وهكذا كل صفات خمر الدنيا تنافي الصفات الثابتة لخمر الجنة، فمن شرب الخمر ولبس الحرير في الدنيا، فإنه يحرم من ذلك في الآخرة، ولا يشرب من خمر الجنة، ومن امتنع من خمر الدنيا ابتغاء رضوان الله فإنه يكافئ بأن يشربها في الجنة.
قوله: ((يَتَنَازَعُونَ فِيهَا))، كأن المؤمنين ومن ألحق بهم من ذريتهم، أو أهل الإيمان مع بعضهم البعض يتعاطون في الجنة كأس الشراب ويتجاذبونها ويتناول بعضهم من بعض.
وقوله: ((كَأْسًا)) المقصود بالكأس: الخمر؛ لأن الإناء الفارغ لا يطلق عليه كأس في لغة العرب، فلا تكاد العرب تستعمل كلمة كأس إلا فيما هو مملوء، فكأس هنا المقصود به كأس خمر.
والتنازع لغة: يطلق على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضاً شيئاً ويناوله أياه، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه في الشراب قول الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري قوله: (وشارب مربح) المربح هو: الذي ينحر لضيفانه الربح وهي الفصلان.
وقوله: (بالكأس نادمني لا بالحصور) يعني: ليس بخيلاً ضيقاً كالحصير.
وقوله: (ولا فيها بسوار) السوار هو: المعربد الوثاب، يعني: أنهم يعيبونه بأنه إذا شرب ترك بقية في قعر الإناء.
وقوله: (نازعته طيب الراح الشمول وقد) نازعته يعني: ناولته، وهذا هو الشاهد، فالمناولة يطلق عليها المنازعة، ونحن دائماً نظن أن المنازعة هي العراك على شيء معين، ولكن المنازعة قد تطلق على المناولة بين القوم، فهذه تسمى منازعة، وهذا هو الشاهد من البيت.
وقوله: (طيب الراح الشمول) يقصد بذلك الخمر.
وقوله: (وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري) يعني: صاح الدجاج وقت السحر، والمقصود بالدجاج هنا الديكة، لكن إذا قيل: هذه دجاجة، فالمقصود الأنثى.
وقوله: (وحانت وقعة الساري) أي: وقعة الإبل إذا بركت، والساري: هو السائر بالليل.
إذاً: قوله: (نازعته طيب الراح الشمول) يعني: ناولته كئوس الخمر وناولنيها، فإذا كان كل واحد يناول الآخر، فهذا يطلق عليه منازعة.
ومنه المنازعة في الكلام، وذلك بأن يتكلم رجل والآخر يرد عليه، ومنه قول امرئ القيس: ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال والكأس تطلق على إناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة، فلا يقال: هذا كأس، ولكن يقال: هذه كأس.
وقوله تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23]، نلاحظ في القرآن الكريم أنه حيثما ذكر خمر الجنة تجدها دائماً توصف بصفات تتناقض تماماً مع خمر الدنيا، وليس بينهما تشابه إلا في الاسم فقط، وأما الحقيقة فيا بعد ما بينهما! فخمر الجنة التي يتعاطها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغو هو: كل كلام ساقط لا خير فيه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان؛ لأنها لا تؤثر في عقولهم، بخلاف خمر الدنيا، فإنهم إن شربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو.
والتأثيم هو: ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها؛ لأنها مباحة له، فيتنعم بلذتها، كما قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثماً، بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها، ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:45 - 47].
فقوله: ((لا فِيهَا غَوْلٌ)) يعني: ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا.
وقوله: ((وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ)) يعني: لا يسكرون.
وكقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:17 - 19].
وقوله: ((لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا)) يعني: لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها.
فخلاصة الكلام: أننا ننتبه لهذا دائماً في القرآن، وهو أنه متى ذكرت خمر الجنة نجدها توصف بصفات مناقضة تماماً لصفات خمر الدنيا.
ومن وصف خمر الدنيا قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، ولذلك فسر بعض العلماء الرجس بأنه النجس، وذهبوا إلى أن الخمر نجسة؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، فقالوا: هذا الشراب الطهور هو الخمر، فخمر الجنة طهور، والقاعدة: أن صفات خمر الجنة بالعكس من صفات خمر الدنيا، فإذا وصف الله ذلك الشراب بأنه طهور فيفهم منه أن خمر الدنيا ليست بطهور، يعني: أنها نجسة؛ ولذلك عامة أهل المذاهب يفتون في الخمر بأنها نجسة، ويعتبرون الخمر نجسة نجاسة حسية، وفي المسألة نزاع مشهور، وعلى الأقل فالأحوط للإنسان أن يجتنب استعمال الكحول، فما الذي يلجئك أن تتعاطى الكولونيا مثلاً أو العطور التي فيها الكحول، وقد وسع الله عليك بوجود الزيوت العطرية التي تغني عن هذه الخمر المختلف في نجاستها؟ فهل تريد تطييب نفسك أم توسيخها بما هو نجس في رأي المذاهب الأربعة؟! فالاحتياط على الأقل أن الإنسان يتجنب العطور التي فيها هذه الكحول.(143/16)
تفسير قوله تعالى: (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون)
قال الله تبارك وتعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] أي: مصون في كن، وهذا أنقى له وأصفى لبياضه.
يقول الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل الجنة يطوف عليهم غلمان، جمع غلام، والمقصود: خدم لهم، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53].
وقوله: ((وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ)) لم يبين هنا ما يطوفون عليهم به، وذكر هنا حسنهم، فقال: ((غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)) أي: مكنون في أصدافه؛ لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه، وقيل: ((مكنون)) أي: مخزون لنفاسته؛ لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن.
وبين تعالى في سورة الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18]، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين.
وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71]، وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15 - 16].
وبعض هذه الآيات نلاحظ أن الفعل فيها مبني للمجهول، يعني: حذف فاعله، فالظاهر أن الفاعل المقصود به هؤلاء الغلمان، كما قال الله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19].(143/17)
تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)
قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم، يعني: أن كلامهم ذكر وشكر لله سبحانه وتعالى، ومن تمام النعيم حصول المواجهة كما قال تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، والتقابل هو: أن يكون الإنسان وجهه في وجه محدثه، وهذا أتم للنعيم وللسرور، فيجلسون يتحادثون، ويسترجعون ذكريات ما كانوا يعانونه في الدنيا، وكيف أنهم صبروا ابتغاء وجه الله، ويسترجعون ما رأوا في الدنيا من البلاء، وحسن صبرهم على هذا البلاء.
فقوله: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)) يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث التي تفضي في النهاية إلى شكر المنعم والتحدث بنعمة الله، وذلك فيه مساءلة بعضهم بعضاً عما مضى لهم في الدنيا، أو مساءلة بعضهم بعضاً: ما الذي أبلغك هذه المنزلة من الأعمال؟ وهكذا.
ومن نماذج هذا الحديث الذي يدور بين أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم- ما ذكره الله عز وجل في قوله: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، قوله: ((قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) أي: في الدنيا، ((فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)) أي: خائفين من عذاب الله؛ فإن الخوف من عذاب الله هو الذي أوصلهم إلى الأمن من هذا العذاب، وإلى هذا النعيم المقيم.
وقوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] أي: فلم ينج أحد إلا بمنة الله عز وجل، وقوله: ((وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)) يعني: عذاب النار.
وأصل السموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، سميت بها نار جهنم لمشابهتها لها، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى، لكنهم لريح السموم أعرف؛ لمشاهدتهم لها في الدنيا، فهذا هو سر تسمية نار جهنم بريح السموم؛ لأن الناس في الدنيا يعرفون ريح السموم ويحسون بها.
وقوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} [الطور:28] أي: نعبده مخلصين له الدين، وقد سبق مراراً وتكراراً لفظ الدعاء يأتي كثيراً جداً مرادفاً للفظ العبادة، كقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وكقوله سبحانه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] يعني: وما تعبدون، فكثيراً جداً ما يتناوب هذان اللفظان، فيعبر عن العبادة بالدعاء، وعن الدعاء بالعبادة، وقد صح في الحديث: (الدعاء هو العبادة) وأما حديث: (الدعاء مخ العبادة) فحديث ضعيف.
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] البر: المحسن لمن دعاه، وقيل: البر هو: الصادق فيما وعد، أي: لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.(143/18)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]: ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، وأن المسئول عنهم يقول للسائل: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) يعني: في دار الدنيا، ((فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)) أي: خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء، ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)) أي: أكرمنا وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة من عذاب السموم، والسموم: النار ولفحهها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجه لم تلحه السمائم وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، فهو من الأضداد، ومنه قول الراجز: اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه فهذه الفاء في قوله تعالى: ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)) تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا، يعني: كنا نخاف الله ونشفق ونحن في أهلنا من عذاب الله، ((فمن الله علينا)) يعني: أن سبب النجاة من العذاب هو هذه الخشية التي كانت في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة في الآخرة، يفهم من دليل خطابه -يعني: من مفهوم المخالفة- أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة.
فقوله: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]، هذا هو المنطوق، ومفهوم المخالفة: أن من لم يكن مشفقاً في الدنيا من عذاب الله، فإنه لا ينجو من هذا العذاب في الآخرة، ويوضحه قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:10 - 14].
يعني: أننا وصلنا إلى هذا المعنى عن طريق الاستنتاج من طريق مفهوم المخالفة في الآية هنا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]، فأخذنا من منطوق الآية: أن من خاف عذاب الله في الدنيا فإن عاقبته النجاة منه في الآخرة، هذا هو المنطوق، وأما المفهوم فهو: أن من لم يخف ولم يبال بعذاب الله في الدنيا، فإنه لن ينجو منه في الآخرة، وهذا المفهوم يدل عليه المنطوق صراحةً في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:10 - 12].
وقوله: (وراء ظهره) لا تتعارض مع أنه يأخذ كتابه بشماله؛ فإنه يأخذه بشماله من وراء ظهره، فتمد يده إلى وراء ظهره، ويأخذ كتابه بشماله التي تمتد إلى وراء ظهره.
وقوله: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا)) يعني: يقول: واثبوراه! واهلاكاه! وقوله: ((وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ)) هذا مسلك من مسالك التعليل، ومعروف في بحث الإيماء والتنبيه أن (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى هنا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) علة لقول الله تبارك وتعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا))، وكأن سائلاً بعدما سمع قوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)) يسأل ويقول: لماذا يدعو ثبوراً؟ ولماذا يصلى سعيراً؟ فالجواب والعلة والسبب: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) بخلاف حال المؤمنين: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ))، أما هذا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا))، والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف.
ويؤيد ذلك قوله سبحانه بعد هذه الآية: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14]؛ لأن معناه: أنه ظن ألن يرجع إلى الله حياً يوم القيامة، وهذا بخلاف المؤمن الذي يذكر نفسه دائماً: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، وهذا من شؤم الكفر باليوم الآخر، كما بين الله تعالى ذلك في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105]، فالكذب لا يصدر إلا عمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وكذلك السرور والبطر والفرح في الدنيا، والاطمئنان والأمان في الدنيا وعدم الخوف من عذاب الله في الدنيا؛ كل هذا ثمرة من ثمار عدم الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك قال هنا: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)) أي: أنه لن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن من ظن أنه لن يبعث بعد الموت لا يكون مشفقاً في أهله خوفاً من العذاب؛ لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء.
وقوله: ((لن يحور)) بمعنى: لن يرجع، وهذا معروف في لغة العرب، ومنه قول المهلهل بن ربيعة التغلبي: أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري يعني: لا ترجعي، أي: أنها كانت ليلة شقاء وبؤس وضنك، فهو يخاطب هذه الليلة الطويلة المؤلمة بقوله: لا تعودي علينا، أي: كما كنت في الأيام التي لا تدور، كما تقول: هذه أيام كذا الله لا يرجعها، فكذلك هنا يقول: إذا أنت انقضيت فلا تحوري.
يعني: فلا ترجعي.
وكذلك منه قول لبيد بن ربيعة العامري: وما المرء إلا كالشهاب وضوءه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع أي: أنه كالنار التي تشتعل ثم تخمد.
فقوله: (يحور) بمعنى يرجع، وقيل: بمعنى يصير، والمعنى واحد.
وقال تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44]، لماذا؟ {إِنَّهُمْ} [الواقعة:45] انظر إلى (إنَّ) التي تأتي للتعليل، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:45 - 47].
وتنعمهم في الدنيا المذكور في قوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)) هو في نفس معنى قوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)).
وإنكارهم للبعث المذكور في قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48]، دليل على أنهم لم يكونوا مشفقين في الدنيا من عذاب الآخرة؛ لأنهم ما كانوا أصلاً يؤمنون بالآخرة ولا بالبعث ولا بالنشور، فهذا هو علة كونهم في سموم وحموم، فقوله تعالى: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:42 - 43] السبب: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)) [الواقعة:45 - 47].
وقد قدمنا قريباً أن: (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ))، علة لقوله: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ)).
وقد ذكر جل وعلا: أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه، قال تعالى في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28]، إلى قوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]، فمن خاف الله في الدنيا أمن من عذابه يوم القيامة.
ومن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة.
وذكر الله سبحانه وتعالى أن ذلك من صفات أهل الجنة في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].
وقد قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:11 - 12].
وقوله تعالى في الآية السابقة في سورة الواقعة: ((وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ)) يعني: يديمون ويعزمون على الذنب الكبير، كالشرك وإنكار البعث، وقيل: المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة التي كانوا يحلفونها، كما في قوله تعالى حاكياً عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38].
وثبت في الحديث أن أحد الصحابة أتى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تصلي وتقرأ هذه الآية: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ))، فانصرف لما سمعها تردد هذه الآية، وذهب إلى السوق، وقضى حاجته، وغاب مدة طويلة ثم رجع، وهي قائمة تصلي بنفس الآية، ترددها وتتدبر(143/19)
تفسير قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر)
قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29].
قوله: ((فَذَكِّرْ)) أي: من أرسلت إليهم وعظهم.
وقوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ)) يعني: تتكهن فيما تدعو إليه، والتكهن هو: أن يخبر الإنسان بما في غد من غير وحي.
وقوله: ((وَلا مَجْنُونٍ)) يعني: ما لك رئي من الجن يخبر قومه كما يعتقد العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقاً.
يقول الشنقيطي: نفى الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، فقال: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:29 - 30].
أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون فقد نفاهما صريحاً بحرف النفي، الذي هو (ما) في قوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ))، وأكد النفي بالباء في قوله: ((بِكَاهِنٍ)).
وأما كونه شاعراً فقد نفاه ضمناً بـ (أم) المنقطعة في قوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ))؛ لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن النفي؛ لأن (أم) المنقطعة تقدر ببل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون: شاعر؟ فـ (بل): للإضراب، و (أيقولون) هذه همزة الاستفهام التي فيها معنى الإنكار.
وقد جاءت آيات بنفي هذه الصفات عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول سورة القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، وقال في التكوير: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين -أعني: الكهانة والشعر-: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42].
وقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، يعني: حوادث الدهر أو الموت؛ لأن المنون قد يراد به الدهر، وريبه: صروفه، وقد يراد به الموت، وريبه: نزوله.
ثم قال تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] أي: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد.
فقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، أي: ننتظر به حوادث الدهر حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه، التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع لأن الضمير في قوله: (وريبه)، يدل على أن المنون هو الدهر.
ومن ذلك أيضاً قول آخر: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها وقال بعض العلماء: المنون في الآية: الموت.
إذاً: القول الأول: المنون في الآية هو الدهر.
وريبه: هي حوادث الدهر.
القول الآخر: المنون: الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب.
ومنه قول أبي الغول الطهوي: هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى، فالمنون هنا بمعنى: الموت.
والوقبى اسم مكان من بلاد بني مالك تجمعوا فيه، ثم جاءت ضربة الموت وأخذتهم كلهم ضربة واحدة، فجمعت هذه الضربة بينهم في مكان واحد، ولو كان كل واحد منهم مات في بلده، لماتوا أماكن شتى، لكن الموت هنا جمعهم.
قوله تعالى: ((قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) يعني: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد.
وقوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)) يعني: فما أنت وقد أنعم الله عليك بالإسلام وبالنبوة وبالوحي: ((بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)).
وهناك قول آخر: أن قوله: ((بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)) هنا قسم، لكن الأظهر هو القول الأول، والله أعلم.(143/20)
تفسير قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون)
قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32] أي: هل هذا التناقض في كلامهم أمرتهم به أحلامهم وعقولهم أم هم قوم طاغون؟ ونلاحظ هنا: نسبة الأحلام -أي: العقول- إلى هؤلاء الكفار، وقد ورد في بعض الآثار -ومنها أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح- أن الكافر لا يوصف بالعقل، فلا يقال للكافر: عاقل، فهل معنى ذلك أن الكافر مجنون؟
الجواب
لا، بل الكافر ميزه الله بالعقل؛ لأن كل إنسان عاقل مميز عن البهائم والجمادات بالعقل والحياة، فالكافر أعطي العقل، لكنه استعمل العقل في غير ما خلق من أجله، استعمله في محاربة الله، وفي الصد عن سبيل الله، وفي الكيد للمسلمين، ونحو ذلك، أو في خدمة الدنيا كما يفعل الكفار الذين يتقلبون في البلاد، ويسخرون عقولهم في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا من أجله! فالعقول يستعملونها في كل ضرب ونوع من أنواع خدمة الدنيا والتبتل في عبادتها وعبادة الشهوات، وهم لهم أحلام ولهم عقول، بدليل قوله تعالى هنا: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، لكنهم لما لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، صح نفيها عنهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يعقلون، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، ويوضح هذا قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ} [الأعراف:179] يعني: عقول، {لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فصح نفي العقل عنهم؛ لأنهم وإن أوتوا عقولاً، لكنهم عطلوها عن الوظيفة التي خلقت من أجلها، وهي التدبر في آيات الله وفي الآفاق وفي أنفسهم حتى يصلوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى، سواء في ذلك الآيات الكونية أو الآيات التنزيلية.
قيل لـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟! يعني: في مثل هذه الآية: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، فقال: تلك عقول كادها الله يعني: لم يصحبها التوفيق، فخذلت، فالله سبحانه وتعالى وهبهم العقول، لكنه حرمهم نعمة التوفيق، وهي إرادة الحق وحب الحق والانقياد له في القلب.
فالإنسان يرى الحق واضحاً ويعلم تماماً أنه حق من عند الله، لكن لا يوفقه الله للانقياد لهذا الحق، والتوفيق لا يكون إلا من عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88].
فانظر إلى تعبير عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعمرو بن العاص من أعقل عقلاء العرب، فيقول هذا الكلام الرائع؛ فإنه لما قيل له: ما بال قومك لم يؤمنوا، وقد وصفهم الله بالعقل؟ رد قائلاً: تلك عقول كادها الله.
يعني: لم يوفقها، فإذا وكل الإنسان إلى عقله وإلى نفسه، فأول ما يجني عليه هو هذا العقل إذا حرم من توفيق الله؛ ولذلك كان من دعاء الصديق اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً، وارزقني اجتنابه.
فالخطوة الأولى: أن يرى الإنسان الشيء على حقيقته؛ لأن أكثر الناس يرون الحق باطلاً، ومنهم من يرى اتباع السنة تطرفاً، ومنهم من يرى التزام شرائع الإسلام تعصباً ورجعية وهمجية وهوس وأصولية وتطرف إلى آخر هذه الشتائم، هكذا زين لهم سوء أعمالهم! فرأوا الحق باطلاً، فحرموا من البداية من منبع التوفيق.
فحتى هذه المرحلة حرموا منها، ولم يوفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يروا الحق حقاً، وإنما رأوا الحق تطرفاً وتعصباً ورجعيةً وتخلفاً وأصولية وإرهاباً إلى آخره.
وممكن أن الإنسان يرى الحق حقاً، لكن يستكبر عن أن يتبع هذا الحق، كحال اليهود الذين عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام وعرفوا القرآن كما يعرفون أبناءهم.
وهل يضل الرجل عن ابنه؟!
الجواب
لا يضل أبداً، فكذلك كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأن الرسول مرسل من عند الله، ومع ذلك كفروا جحوداً وحسداً واستكباراً! فليس معنى أن الإنسان يعرف الحق يصير مؤمناً، بل لابد أن ينقاد لهذا الحق، كما هو معروف في الشروط السبعة لشهادة (لا إله إلا الله).
فالعقل الذي يضل عن توفيق الله لا يأخذ صاحبه إلا إلى الضياع والدمار.
فقوله: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا)) يعني: بهذا التناقض، وهل يقوله عاقل؟ أو هل يأمر به عقل؟ وقوله: ((أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) (أم) هنا بمعنى بل، والمعنى: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق.(143/21)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور:33] أي: اختلق هذا القرآن من عند نفسه.
قال تعالى: {بَل لا يُؤْمِنُونَ} [الطور:33] أي: لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً؛ فلذلك يرمونه بتلك الفرى.
وقوله سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:33] أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، وهذا كقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} [القصص:49]، فليأتوا بحديث مثل القرآن إن كانوا صادقين في زعمهم؛ فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34]: قد قدمنا أن الله تحداهم بسورة واحدة من هذا القرآن في سورة البقرة، في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وفي سورة يونس في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38].
وتحداهم في سورة هود بعشر سور منه، في قوله: {ُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:13].
وتحداهم هنا في سورة الطور بأن يأتوا بمثله كله، في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34].
وبين في سورة بني إسرائيل أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
وقد أطلق جل وعلا اسم الحديث على القرآن في قوله هنا: ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ))، كما أطلق عليه ذلك في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23]، وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111].
وقد وصف القرآن بأنه محدث، كما في قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وقال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5].
وليس في هذا دليل للمعتزلة على ما زعموه من كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يستدلون على ذلك بكونه وصف بأنه محدث،
و
الجواب
أن الحدوث هنا حدوث نسبي، يعني: أن القرآن في حد ذاته ليس حادثاً؛ لأنه صفة الله وكلام الله، ولا يمكن أن يكونه مخلوقاً، وإنما الحدوث بالنسبة إلى المخلوقين، بمعنى: أنه من الحدوث، وهو كون الشيء بعد أن لم يكن.
فالقرآن العظيم حينما كان ينزل كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس، ولم يكونوا علموه من قبل، فهو محدث بالنسبة إلى الناس، ألا تراه قال: ((مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ))، فقوله: ((مَا يَأْتِيهِمْ)) إشارة إلى هذا التجدد الذي هو بالنسبة إلينا نحن المخلوقين، فهو محدث إليهم حين يأتيهم.
وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحدث لنبيه ما شاء، وإن مما أحدث لنبيه ألا تكلموا في الصلاة).
قال أبو عبيد إمام اللغة: (محدث) أي: حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما علم الله ما لم يكن يُعلم.(143/22)
تفسير سورة الطور [34 - 49](144/1)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين)
قال الله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:29 - 34].
قوله تعالى: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا)) أي: أتأمرهم عقولهم بهذا التناقض في القول؟ ((أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) يعني: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق.
وهذه الآية: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} فيها إثبات الأحلام والعقول للكافرين يعني: أن لهم عقولاً ولهم أحلاماً، في حين أن كثيراً من الآيات تنفي عن الكفار صفة العقل، ولا تعارض على الإطلاق، وإنما المقصود: أن الله سبحانه وتعالى آتاهم العقول، ولكنهم عطلوها، واستعملوا العقول في كل شيء إلا فيما خلقوا من أجله، وهو التفكر في آيات الله التكوينية والتنزيلية للاستدلال بها على توحيده وعبادته وحده عز وجل.
وقد قيل لـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ يعني: بمثل هذه الآية: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا}، فقال: تلك عقول كادها الله.
يعني: لم يصحبها توفيق الله، وإنما خذلها الله عز وجل، وحرمها من الهداية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
والجواب الأوضح عن هذا السؤال في قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] يعني: عندهم العقول؛ لكنهم لا يُعملونها ولا يستعملونها في الاهتداء إلى التوحيد.
وقوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ)) يعني: اختلق هذا القرآن من عند نفسه، ((بَل لا يُؤْمِنُونَ)) يعني: لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً، فلذلك يرمونه بتلك الفِرى.
قوله: ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)) أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، كقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} [القصص:49]، وهنا قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}، ووصف القرآن بأنه حديث أو محدث كما في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] هو محدث بالنسبة للبشر، أما بصفته كلام الله سبحانه وتعالى فلا شك أنه كلام الله غير مخلوق، بدليل أننا نستعيذ بكلمات الله فنقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولا يستعاذ إلا بالخالق أو بصفاته عز وجل، أما المخلوق فلا يصح بحال الاستعاذة به، فإثبات الحداثة هنا هو بالنسبة للبشر حينما يأتيهم ما لم يعرفوه من قبل.
وقوله: ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)) أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، ((إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)) أي: في زعمهم؛ فإنهم من أهل لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل، فلو كان هو كلامَ بشر فعادتهم أن يتساجلوا ويتراسلوا ويضاهي بعضهم قول بعضهم، فإنهم ملكوا زمام الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك عجزوا عن أن يقبلوا هذا التحدي، مما يثبت أنه كلام فوق مستوى البشر، وأنه تنزيل من عند الله تبارك وتعالى.(144/2)
تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون)
قال تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36].
قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) قال ابن جرير: أي: أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يفهمون لله حجة، ولا يعتبرون له بعبرة، ولا يتعظون بموعظة؟! وقد قيل: إن قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) تفسيرها: أم خلقوا لغير شيء؟! يعني: لا لحكمة، وإنما خلقوا عبثاً! كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، بمعنى: لغير شيء.
وقوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) أي: أنفسهم، أو هذا الخلق، فهل هم الذين خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذه المخلوقات، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله ولا ينتهون عما نهاهم الله؟ فالله سبحانه وتعالى بما أن له الخلق فلا بد أن يكون له الأمر، فالذي يخلق هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر، وهو الذي يحلل، وهو الذي يحرم، فهناك ارتباط وثيق بين صفة الخلق وبين توحيد الله تبارك وتعالى، فالله وحده هو الخالق، وهذا مظهر توحيد الربوبية، وهو الذي ينبغي أن يُعبد وحده، وهذا تحقيقٌ لتوحيد الألوهية، فلا يعبد إلا الله، فكما أنه لا يخلق إلا الله فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن الله له الخلق وله الأمر عز وجل.
فقوله تبارك وتعالى هنا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} يعني: لا يوقنون بوعيد الله وما أعد لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة، فلذلك فعلوا ما فعلوا.(144/3)
أسلوب السبر والتقسيم ودليله من القرآن الكريم
هذا الأسلوب الذي احتج الله سبحانه وتعالى به على المشركين هو مما يسمى بالسبر والتقسيم عند الأصوليين.
والدليل الأصولي متركب من أصلين: الأصل الأول: حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهذا هو التقسيم.
الأصل الثاني: بعدما نحصر الأقسام التي ينقسم إليها هذا الشيء أو الاحتمالات التي ينحصر فيها نختبر تلك الأوصاف المحصورة ثم نبطل ما هو باطل منها، ونبقي ما هو صحيح منها، وهذا هو الذي يسمى بالسبر، يقول في مراقي السعود: والسبر والتقسيم قسمٌ رابعُ أن يحصر الأوصاف وصفٌ جامعُ ويبطل الذي لها لا يصلحُ فما بقى تعجيله مصطلحُ ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم: هذه الآية الكريمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح، فنقسم تقسيماً صحيحاً ونضع كل الاحتمالات ونحصرها: الاحتمال الأول: أن يكونوا خلقوا من غير شيء، يعني: بدون خالق أصلاً.
الاحتمال الثاني: أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذا العالم.
ولا شك أن هذين الاحتمالين باطلان قطعاً بالضرورة، ولا يحتاج إلى إقامة دليل على بطلانهما.
الاحتمال الثالث: أن يكون قد خلقهم خالق غير أنفسهم، فهذا هو الحق الذي لا شك فيه، وهو أن الله جل وعلا هو خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا.
وفي هذه الآية الكريمة صرح الله سبحانه وتعالى بالقسمين الأولين فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}، أما الاحتمال الثالث فسيأتي لوحده.
هناك مثال آخر في القرآن الكريم أيضاً حصل فيه استرسال بنفس دليل السبر والتقسيم، وذلك في سورة مريم في قول الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً} [مريم:77 - 80]، فقول الله تبارك وتعالى: ((أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)) هو العاص بن وائل السهمي، ((وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً)) يعني: لأوتين يوم القيامة مالاً وولداً، فهذا الزعم الذي زعمه العاص بن وائل حينما أعطاه الله في الدنيا المال والولد فأقسم وحلف على سبيل القطع أن الله سبحانه وتعالى كما كرمه في الدنيا بهذه الأعراض الدنيوية فسوف يعطيه نفس الشيء أيضاً في الآخرة، ولذا قال: ((لَأُوتَيَنَّ)) يعني: يوم القيامة، ((مَالَاً وَوَلَدَاً)).
وهذا القول لا يخلو مستند قائله في هذا الزعم من واحد من ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول: قال تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي: أنه قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، فمن أين له أن يقسم على أن الله سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً؟! فأول احتمال: أن عنده اطلاعاً على الغيب استطاع به أن يطلع على ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، فعلم أن هذا مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، وهذا الاحتمال أبطله الله سبحانه وتعالى في نفس الآية، بأداة الإنكار في قول الله تبارك وتعالى: ((أَطَّلَعَ الْغَيْبَ)) فالإنكار يبطل هذا الاحتمال، فإن قوله تعالى: ((أَطَّلَعَ الْغَيْبَ)) يدل على أنه ما اطلع الغيب، ولذلك أنكر الله بأداة الإنكار.
الاحتمال الثاني: قال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً)) يعني: أنه يقول ذلك مستنداً ومعتمداً على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه عهداً، والله لا يخلف الميعاد، ولا يخلف عهده، فهو يقول: إن الله أعطاه عهداً أنه سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً، وهذا أيضاً أبطله الله بأداة الإنكار.
الاحتمال الثالث والأخير: أن يكون قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، وهذا الاحتمال هو المتعيِّن، وما سواه باطل؛ فإنه قال ذلك افتراءً على الله سبحانه وتعالى من غير عهد ولا اطلاع غيب، والدليل قوله تعالى: ((كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ))؛ فإن (كلا) حرف زجر وردع، فدل على أن هذا الاحتمال الثالث هو الاحتمال المتعيِّن، وهو أنه ما قال ذلك إلا افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، قال تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً} * {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً} فيلزم أن الأمر ليس كذلك؛ فإنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله؛ لأنه لو كان أحدهما حاصلاً -أي: لو أنه استند إلى اطلاعٍ على الغيب أو استند إلى عهدٍ- لم يستوجب الردع عن مقالته بلفظة: (كلا).
وبنفس الدليل أبطل الله سبحانه وتعالى دعوى اليهود حينما ادَّعوا: ((وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً)) قالوا: هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل، فأبطل الله سبحانه وتعالى هذه الدعوى من اليهود -لعنهم الله- بقوله عز وجل: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80].
والاحتمال الثاني لم ينص الله سبحانه وتعالى عليه هنا، فقوله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً)) فيه التقسيم: أنهم يدعون هذه الدعوى؛ وهي: أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة.
فإن قيل: ما مستندهم في ذلك القول؟ فنقول: إذا حاولنا حصر الاحتمالات سنجدها تنحصر أيضاً في نفس الثلاثة الأقسام التي تكلمنا عنها في سورة مريم: الاحتمال الأول: قوله تعالى: ((قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)).
الاحتمال الثاني: لم يذكره الله سبحانه وتعالى هنا، وإنما دلت عليه الآية السابقة في سورة مريم في قوله سبحانه: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً}، فالاحتمال الثاني هو: أن يكون اليهود قد اطلعوا على اللوح المحفوظ وعرفوا أو علموا الغيب، وعلموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فحذف هنا هذا الاحتمال الثاني لدلالة ما هناك عليه؛ لأن هذا هو الحصر الطبيعي.
الاحتمال الثالث: قوله تعالى: ((أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)).
فلا شك أن الاحتمالين الأولين باطلان: الاحتمال الأول: قوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}، وليس عندهم عهد.
الاحتمال الثاني: أنهم اطلعوا الغيب وعلموا ذلك من خلاله، وهم لم يطلعوا على الغيب.
إذاً: كلا الاحتمالين باطل.
وبقي الاحتمال الأخير وهو: قوله تعالى: ((أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) يعني: أنكم تفترون على الله الكذب، وهذا هو الواقع والمتعين.
فهذا هو دليل السبر والتقسيم في هذه الآيات الكريمات.(144/4)
تفسير قوله تعالى: (أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون * أم لم لهم سلم يستمعون فيه)
قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37] أي: خزائن رزقه، فهم لاستغنائهم معرضون، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] أي: الجبابرة المتسلطون.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور:38] أي: مرتقىً إلى السماء، {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور:38] يعني: الوحي فيدعون أنهم سمعوا هنالك من الله: أن الذي هم عليه حق، فقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يعني: مرتقى يرتقون به إلى السماء، فيستمعون الوحي من الله سبحانه وتعالى يخبرهم ويطمئنهم أن ما هم عليه من الدين هو الحق.
قال تعالى: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] يعني: الذي يدعي ذلك عليه أن يأتي بحجة واضحة تصدق دعواه.(144/5)
تفسير قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجراً)
قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور:39]: حيث جعلوا لتفاهة رأيهم الملائكةَ إناثاً وأنها بناته تعالى! مع أنه كان حالهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58].
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرَاً} [الطور:40] أي: أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى؟ {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] أي: فهم من التزام الغرامة وهذه الأجرة مثقلون من أدائها حتى زهدهم ذلك في اتباعك؟ قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:41] أي: يكتبون منه ما شاءوا وينبئون الناس عنه بما أرادوا؟ قال تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدَاً} [الطور:42] أي: بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42] أي: هم الممكور بهم دونك، فثق بالله وامضِ لما أمرك به.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور:43] أي: له العبادة على جميع خلقه؟ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43] أي: تنزيهاً له عن شركهم وعبادتهم معه غيره.(144/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم)
قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفَاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطَاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]: هذا جواب لمشركي قريش حيث كانوا يستعجلون العذاب ويقترحون الآيات، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعَاً} [الإسراء:90] إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفَاً} [الإسراء:92] يعني: قطعاً، وفي الآية الأخرى: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفَاً مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:187]، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفَاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطَاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} يعني: لو أن الله استجاب استعجالهم هذا العذاب ونزوله بهم، وحقق لهم ما اقترحوه؛ لعاندوا ولجادلوا ولقالوا: ليس هذا عذاباً لكنه: ((سَحَابٌ مَرْكُومٌ)) يعني: متراكم بعضه فوق بعض.
يقول الزمخشري: يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط من عذاب! قال تعالى: {فَذَرْهُمْ} [الطور:45] أي: يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل، {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] أي: يموتون.
قال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [الطور:46] أي: لا يدفع عنهم مكرهم من عذاب الله شيئاً: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:46].(144/7)
تفسير قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك)
قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] أي: دون يوم القيامة، يعني: عذاباً أقل من عذاب يوم القيامة، أو عذاباً قبل يوم القيامة.
وهذا يكون إما عذاباً في الدنيا بالقحط أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم.
وهناك قولٌ آخر: إن قوله تعالى: {عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ} المقصود به: عذاب القبر.
فقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ} المقصود به: إما عذاب القبر أو القحط أو النوازل والمصائب التي تذهب بأموالهم وأنفسهم.
وهذه كلها أقوال للسلف، واللفظ صادق للجميع؛ لأن قوله: (عذاباً) نكرة فيعم هذه الأقوال كلها، سواءً كان عذاباً في الدنيا كالنوازل والزلازل وغير ذلك أو كان في القبر؛ لأن هذا كله دون يوم القيامة.
وقوله: ((دُونَ ذَلِكَ)) يعني: دون ذلك اليوم المشار إليه في قوله: {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:45 - 46].
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:47] يعني: لا يعلمون سنة الله في أمثالهم من الفجرة.(144/8)
تفسير قوله تعالى: (واصبر لحكم ربك فإن بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم)
قال تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] أي: الذي حكم به عليك وامضِ لأمره ونهيه وبلغ رسالاته.
{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] قال ابن جرير: أي: بمرأىً منا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.
وقال الشهاب: يعني: أن العين لما كان بها الحفظ والحراسة استعيرت لذلك وللحافظ نفسه، فالحافظ نفسه يسمى عيناً، والحارس يسمى عيناً، وتسمية الحافظ عيناً هو استعمال فصيح مشهور.
والله عز وجل جمع العين هنا فقال: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) وأفردها في قصة الكليم موسى في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فأفردها في قصة الكليم عليه السلام، وجمعها هنا فقال: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، وأضافها إلى ضمير الجمع؛ وذلك لأن الآية هنا مضافة إلى ضمير الجمع: ((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))، فناسب أن تأتي أيضاً مجموعة.
ولما كانت في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} مضافة إلى ضمير الواحد ناسب أن تكون واحدة.
ويوجد معنىً آخر ونكتة أخرى لهذا الجمع هنا، يقول الشهاب: ونكتة جمع العين هنا وإفرادها في قصة الكليم عدا أنه جُمع هنا لما أضيف لضمير الجمع، ووحد ثمة عند إضافته لضمير الواحد؛ هو المبالغة في الحفظ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم.
إذاً: النكتة هي: بيان المبالغة في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم، لأن المقصود: تصبير حبيبه على المكايد ومشاق التكاليف والطاعة، فناسب الجمع؛ لأن أفعال الطاعة التي يمتثلها الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، ويحتاج كل منها إلى حارس بل حراس، بخلاف ما ذكر هناك من حفظه لموسى عليه السلام في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}.(144/9)
معنى قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك حين تقوم)
قوله تبارك وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] يعني: حين تقوم من منامك.
روى الإمام أحمد والبخاري في صحيحه وأهل السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تعارَّ -أي: استيقظ من الليل- فقال -يعني: هذا المستيقظ-: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي.
أو قال: ثم دعا، استجيب له)، فهذا دعاء إذا قاله الإنسان ووفق إليه يستجيب الله له دعاءه، بشرط أنه أول ما ينتبه من النوم يتذكر هذا الحديث ويقول هذا الدعاء: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يقول: رب اغفر لي، أو يدعو أيَّ دعاء، ففي هذه الحالة يستجاب له.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإن عزم -أي: نهض من فراشه- فتوضأ ثم صلى قُبلت صلاته).
وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم دعاء: (سبحان الله وبحمده، سبحان القدوس، ولا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)، والحقيقة أن هذا الدعاء بعينه لا نظن أنه ثبت في أحاديث الاستيقاظ من النوم؛ لكن تكفي الأحاديث الأخرى الثابتة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد الله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره) وهذا يعتبر امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}.
فيمكن أن تكون الآية نفسها دليلاً على أن الإنسان يقول: (سبحانك الله وبحمدك)؛ لأن التعليق هنا جاء بوظيفة القيام: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}، ومن ذلك أيضاً هذا الحديث؛ لأن فيه: (مَن تعارَّ من الليل فقال: وذكر من ضمن ما يقوله: سبحان الله والحمد لله)، وهذا يدخل في امتثال الآية الكريمة.
وأيضاً مما يقال عند القيام من النوم: المعوذتان؛ لأن الرسول عليه السلام قال لـ عقبة بن عامر: (اقرأ بهما إذا نمت، وإذا استيقظت، وإذا أخذت مضجعك).
وقيل في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] يعني: حين تقوم إلى الصلاة، روى مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في ابتداء الصلاة: (سبحانك الله وبحمدك! وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وهذا على احتمال أن قوله: ((حِينَ تَقُومُ)) يعني: إلى الصلاة.
وهذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد رضي الله عنه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك.
وعن مجاهد قال في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}: حين تقوم من كل مجلس، وكذا قال عطاء وأبو الأحوص، ولعل في هذا التفسير الإشارة إلى الدعاء المشهور في كفارة المجلس، وهو في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه -يعني: اللغو أو الكلام الذي لا يفيد- فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك) رواه الترمذي وصححه، وكذا الحاكم.
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يا رسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنتَ تقوله فيما مضى، فقال صلى الله عليه وسلم: كفارة لما يكون في المجلس) وقد أفرد الحافظ ابن كثير في هذا الحديث جزءاً على حدة، وذكر فيه طرقه وألفاظه وعلله، فرحمه الله.
ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق على المواضع المذكورة كلها، وتدل الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها، فإن السنة بيان للكتاب الكريم.
إذاً: كما بينت هذه الأحاديث الآية: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}، فيدخل في حكم الآية كل ما ثبت في السنة مما يبين هذا التسبيح، فيدخل فيها أولاً حديث: (مَن تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله).
وكذلك يدخل فيها أذكار الاستيقاظ من النوم على أن قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] يعني: من النوم عند الاستيقاظ.
وأيضاً قوله: ((حِينَ تَقُومُ)) يعني: إلى الصلاة، وهذا ثابت في أدعية الاستفتاح.
وأيضاً: ((حِينَ تَقُومُ)) يعني: في القيام من المجلس، فيدخل فيها دعاء كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلخ.(144/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم)
قال تبارك وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49].
قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي: اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل، كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُودَاً} [الإسراء:79]، وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث، وقد جمعت ذلك مُعَرَّىً عن الأسانيد في كتاب الأوراد المأثورة.
هذا كلام القادري رحمه الله تعالى.
وقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ أي: وسبحه وقت إدبارها، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق بانتشار ضوء الصبح.
وأما المقصود بقوله تعالى: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) فقيل: عَنَى بذلك فريضة الفجر، أو نافلته، أو ما يشملهما.
إذاً: قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49] يعني: فسبحه أيضاً، والتسبيح في إدبار النجوم: إما أن المقصود به صلاة الفجر، أو سنة الفجر، أي: الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر.
وبعض الناس يضطرب عندهم الأمر ويسألون كثيراً: ما هو الفرق بين الصبح والفجر؟
و
الجواب
أنه يقال: صلاة الصبح أو صلاة الفجر، وسنة الفجر أو سنة الصبح، فاللفظان مترادفان، ولا إشكال في إطلاق أي واحد منهما.
فإن قيل: هذه صلاة، والأمر هنا بالتسبيح فكيف ذلك؟ فنقول: إن الصلاة يطلق عليها: تسبيح؛ لأن الصلاة تسمى بأجزائها، كما تقول: صليت ركعة، أو صليت ركعتين، فتعبر عن الصلاة كلها بجزء منها وهو الركوع؛ مع أن الصلاة ليست ركوعاً فقط، فالصلاة تسمى بجزء من أجزائها كالفاتحة مثلاً، فقد سمى الله الفاتحة صلاة، كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) وذكر الفاتحة فقط، إشارة إلى أنها من أركان الصلاة المهمة، وإن كانت الصلاة فيها أركان أخرى غير مجرد قراءة الفاتحة، فأطلق الجزء وأراد به الكل، وكذلك تقول: سجدة الضحى وتعني: صلاة الضحى، وهكذا.
وفي الحديث أيضاً: (جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة ولم يسبح بينهما شيئاً) أي: جمعهما ولم يصل بينهما نافلة.
ومن ذلك أيضاً قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (لو كنتُ مسبحاً لأتممت) يعني: لو كان لي أن أتنفل في السفر لكان الأولى أن أتم الصلاة، وليس أقصر الصلاة وأصلي النوافل الأخرى، أي: غير الوتر وركعتي الفجر، فقوله: (لو كنتُ مسبحاً لأتممت)، أي: لو كنتُ متنفلاً، فأطلق التسبيح على صلاة النافلة.
فالصلاة تطلق وتسمى أحياناً ببعض أجزائها، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49] يعني: وسبحه وقت إدبار النجوم بالصلاة، إما صلاة الفريضة وإما صلاة النافلة في الفجر.
قال قتادة: كنا نُحَدَّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر.
وقد ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعهداً منه على ركعتي الفجر)، وفي لفظ لـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
وأوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بالمحافظة عليهما، فقال: (ولو طاردتكم الخيل) يعني: لو كنتم تطاردكم خيل الأعداء فلا تضيعوا ركعتي الفجر أبداً.
قال الزمخشري: وقرئ: {وَأَدْبَارَ النُّجُومِ} بالفتح، بمعنى: في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت.(144/11)
الاستدلال بالآية على أفضلية الإسفار بصلاة الصبح، وذكر الخلاف في ذلك
قال في الإكليل: قال الكرماني: إن بعض الفقهاء استدل بهذه الآية على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل؛ لأن النجوم لا إدبار لها، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون، ثم علق صاحب الإكليل على هذا فقال: وهو استدلال متين.
يعني أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل من التغليس، والغلس هو: ما تبقَّى من الظلمة في آخر الليل عند بداية طلوع الفجر، حيث يكون هناك بقايا ظلمة منتشرة، فالتغليس بالصلاة هو: أداؤها في وقت الغلس، يعني: حين يطلع الفجر، لكن بقيت ظلمة من آخر الليل.
فيقول الكرماني: إن بعض الفقهاء استدل بقوله تعالى: ((وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)) على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل؛ لأن النجوم لا إدبار لها، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون.
يعني: أن صلاة الصبح تكون وقت إدبار النجوم، والنجوم لما ينتشر ضوء الصباح تختفي؛ لأن الضوء ينتشر فيسترها.
فهذا الفريق من الفقهاء قالوا: إذا قلنا: إن (إدبار النجوم) صلاة الفجر، ففي هذه الحالة يكون المعنى: صل صلاة الصبح وقت استتار النجوم، ومتى تستتر؟ تستتر بانتشار الضوء الذي هو الإسفار.
وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، على ثلاثة أقوال: القول الأول: إنه يغلس بصلاة الفجر، يعني: تصلى في أول الوقت.
القول الثاني: إنه يصلى في وقت الإسفار.
القول الثالث: -وهو الراجح-: أن أدلة كلا الفريقين صحيحة؛ لكن المقصود: أنه يدخل في الصلاة في وقت الغلس ثم يطيل الصلاة حتى ينصرف منها وقت الإسفار، هذا هو الجمع، والله تعالى أعلم.(144/12)
تفسير سورة النجم [1 - 4](145/1)
فضل صيام تاسوعاء وعاشوراء
من السنة صيام يوم عاشوراء الذي هو العاشر من شهر الله المحرم، فقد روى مسلم بسنده عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية).
وأيضاً وردت أحاديث في صحيح مسلم تحث على أنه يُصام يوم بعده أو يوم قبله، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، خالفوا اليهود)؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم؛ لأنه اليوم الذي نجى الله سبحانه وتعالى فيه موسى وقومه من فرعون.
يقول ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها -يعني: أقلها-: أن يُصام وحده.
أي: أن يصوم الإنسان يوم عاشوراء وحده، فهذا ينال الثواب والأجر وتكفير ذنوب السنة الماضية إذا صام هذا اليوم.
ولا يكره في هذه الحالة إفراد يوم السبت بصيام؛ لأنه هنا يقصد صيام يوم عاشوراء.
أما المرتبة الثانية: فأن يصام التاسع معه.
يعني: أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء.
وفوقه -وهي المرتبة العليا-: أن يصام التاسع والعاشر والحادي عشر.
فصيام الأيام الثلاثة بلا شك أفضل، وتكون فيه فوائد متعددة: منها: أنه إذا صام الأيام الثلاثة فيرجى أن يكتب له أجر صيام الشهر كله، على أساس القاعدة العامة وهي: أن الحسنة بعشر أمثالها، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويأمر بها).
ومنها: أن صوم هذا الشهر أفضل الصوم بعد رمضان: كما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (أفضل الصوم بعد رمضان شهر الله المحرم)، فهذا الشهر من الأشهر الحرم، وله حرمة عظيمة، وصيامه من أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان.
وأيضاً من بركات هذا الصيام: أنه يكفر ذنوب سنة كاملة.
وفي مثل هذا يراد -والله تعالى أعلم- أنه يكفر صغائر الذنوب، أما كبائر الذنوب فلابد لها من توبة خاصة.
وقولنا: إنه يكفر الصغائر لا يعني أن الباب قد سُد أمام الكبائر؛ ولكن يعني أن على الإنسان أن يجدد التوبة من الكبائر، والتوبة منها لابد أن تستوعب أربعة أركان أو شروط: الأول: ترك الذنب والبعد عنه، يعني: الانقطاع عن التمادي في الذنب.
ثانياً: الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي.
ثالثاً: العزم على عدم الرجوع في المستقبل إلى هذا الذنب.
رابعاً: رد الحقوق إلى أهلها إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي.
ونشرع -بإذن الله تبارك وتعالى- في تفسير سورة النجم.(145/2)
ترتيب سورة النجم ونزولها وعدد آياتها وسجودها
وسورة النجم ترتيبها في المصحف: الثالثة والخمسون، وهذه السورة مكية، قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
وآيُها: ثنتان وعشرون آية.
روى البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة: ((وَالنَّجْمِ))، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد مَن خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً)، وهو أمية بن خلف، ووقع في رواية غيره تسمية غير أمية.
والمقصود أنه سجد لما فرغ من قراءتها؛ لأن السجدة في هذه السورة في آخرها.
والرجل الذي أخذ كفاً من تراب معناه أنه استكبر عن أن يسجد لله تبارك وتعالى، فأخذ كفاً من تراب فسجد عليه.
وفي رواية: (فرفعه إلى وجهه فقال: يكفيني هذا)، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (فرأيته بعد ذلك قتل كافراً)، وهو أمية بن خلف، وقيل: غيره.(145/3)
تفسير قوله تعالى: (والنجم إذا هوى)
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1].
قوله تبارك وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، قيل: النجم المقصود به هنا: الثريا، والثريا إذا سقطت تسقط مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجماً وإن كانت في العدد نجوماً، من باب إطلاق المفرد على الجمع.
وقيل: إن المقصود بالنجم النبات الذي ليس له ساق، كما قيل أيضاً في قوله تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].
((إِذَا هَوَى))، يعني: إذا سقط على الأرض.
وقيل: النجم نجوم القرآن، وعلى هذا فالمعنى: والقرآن إذا نزل؛ لأن القرآن الكريم كان ينزل نجوماً.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) أي: إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو إذا انتثر يوم القيامة، أو انقض.
والحقيقة: أنه مر مرور الكرام على كلمة (انقض) مع أنها مفتاح لقول رجحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو: أن المقصود من قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى): الإشارة إلى حفظ السماء بسبب نزول القرآن الكريم؛ حيث حُرست السماء، وكانت الشياطين تُرجم بالنجوم وبالشهب إذا أرادت أن تسترق السمع، كما سيأتي بيانه.(145/4)
تفسير الإمام ابن القيم لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة في كتابه (التبيان في أقسام القرآن): ومن ذلك قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3]، أقسم سبحانه بالنجم عند هَوِيه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي.
واختلف الناس في المراد بالنجم، فقال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم بالقرآن إذا نزل منجماً على رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن النجم هنا هو القرآن، حينما كان ينزل منجماً، يعني: متفرقاً؛ وذلك بأن تنزل أربع آيات، وثلاث آيات، وتنزل سورة كاملة، وكان بين نزول أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
وكذلك روى عطاء عنه، وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد، واختاره الفراء، وعلى هذا فسمي القرآن نجماً لتفرقه في النزول.
فيكون أحد أسماء القرآن الكريم نجماً، لقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، يعني: والقرآن الكريم؛ لتفرقه في النزول.
والعرب تسمي التفرق تنجماًً، والمفرق نجماً، ونجوم الكتاب أقساطها، ويقال: جعلت مالي على فلان نجوماً ومنجماً، كل نجم كذا وكذا.
هذا هو الاستعمال اللغوي لهذا التعبير، فقول القائل: جعلتُ مالي على فلان نجوماً، يعني: أقساطاً، وقوله: كل نجم كذا وكذا، يعني: كل قسط كذا وكذا.
وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها، فيقولون: إذا طلع النجم -يريدون بذلك الثريا- حل عليك الدين.
ومنه قول زهير في دية جُعلت نجوماً على العاقلة: ينجمها قوم لقوم غرامة ولم يهرقوا ما بينهم ملء محجم يعني: أنهم عدلوا عن الثأر وعن القصاص والقتل بأن قبلوا أن تدفع عاقلة الجاني الدية منجمة مقسطة، ولم يسفكوا دماً ولو قليلاً.
ثم جعل كل تنجم تقسيطاً وإن لم يكن مؤقتاً بطلوع نجم، فشاع استعمال كلمة (التنجم) على أنها تساوي التفريق، ولم يشترط أن تكون مرتبطة بالفعل بطلوع النجم.
وقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) إذا كان النجم إذا هوى هو: القرآن الكريم؛ لنزوله منجماً أو على نجوم، فما معنى: (هوى) على هذا القول؟
الجواب
معناه: نزل من علو إلى سفل، أي: والقرآن المنزل المقسط أو الذي جزئ أجزاءً وتفرق إنزاله.
قال أبو زيد: هوت العقاب تهوي هَوِياً -بفتح الهاء- إذا انقضت على صيد أو غيره.
وكذلك قال ابن الأعرابي، وفرق بين الهَوِي لقوله: والدلو في إقعادها عجل الهَوِي وقال الليث: العامة تقول: الهُوِي -بضم الهاء- في لفظة: هَوَى يهوي.
وكذلك قال الأصمعي: هوى يهوي هو بفتح الهاء إذا سقط إلى أسفل، قال: وكذلك الهَوِي في السير إذا مضى.
وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه غلط فيه أبو محمد بن حزم أقبح غلط، فإنه ذكر في ضمن أسماء الرب تبارك وتعالى الهَوِي، واحتج بما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى الهَوِي)، وهذا -والله تعالى أعلم- لأن ابن حزم لم يخالط العلماء مخالطة كاملة كما ينبغي لمن يسلك هذا الطريق، فربما كانت هذه إحدى سقطاته التي تنشأ من مثل هذا، وهذا من الوهم في فهم بعض الأحاديث؛ لعدم التلقي على الشيوخ؛ لأنه ربما لو تلقى هذا عن شيخ ما كان يقع في هذا الفهم الذي استبد به وأوقعه في الخطأ الفاحش، فـ عائشة تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى الهَوِي)، فظن أبو محمد أن (الهَوِي) صفة للرب، وليس كذلك؛ فإنه يقال: مضى هَوِي من الليل على وزن فعيل، ومضى هزيع من الليل أي: طرف وجانب، والمقصود بالحديث: أنه كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) في قطعة من الليل وجانب منه، فالهَوِي هو قطعة ووقت طويل من الليل، فكان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المدة، ويفسر ذلك ما صرحت به أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها في اللفظ الآخر حيث قالت: (كان يقول: سبحان ربي الأعلى، الهَوِي من الليل).
إذاً: إعراب (الهَوِي) أنه ظرف زمان.
يقول الحافظ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]: وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية علي بن أبي طلحة وعطية: يعني: الثريا إذا سقطت وغابت.
وهذه هي الراوية الأخرى عن مجاهد، والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا، قال الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها وقال أبو حمزة اليماني: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) يعني: النجوم إذا انتثرت أو إذا انتشرت يوم القيامة.
وقال ابن عباس في رواية عكرمة: يعني: النجوم التي تُرمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع.
يقول ابن القيم: وهذا قول الحسن، وهو أظهر الأقوال.
فالإمام ابن القيم يرجح قول الحسن، وهو أيضاً قول ابن عباس في رواية عكرمة عنه.
يقول ابن القيم: ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها سبحانه آية وحفظاً للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وصدق.
يعني: كقوله تعالى في سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:211 - 212]، وذلك بعدما ذكر صفات القرآن الكريم وأنه تنزيل من الله تبارك وتعالى، وفي هذا ربطٌ بين رجم الشياطين بالنجوم وبين حفظ القرآن؛ كما قالت الجن أيضاً: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيدَاً وَشُهُبَاً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً} [الجن:8 - 9]، فحرست السماء إرهاصاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأجل صيانة القرآن الذي كان ينزل.
فبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معللاً سبب ترجيحه هذا القول أن المقسم عليه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا القسم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]، يعني: أن المقصود أنه وحي محفوظ، وليس للشياطين أبداً طريق إليه.
يقول ابن القيم: ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله سبحانه وتعالى آية وحفظاً للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسوله حق وصدق، لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حُرس بالنجم إذا هوى إرهاصاً بين يدي الوحي -مقدمة بين يدي الوحي-، وحرساً له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه.
فالمقسم به هو: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، والمقسم عليه هو ما ضل صاحبكم وما غوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
يقول ابن القيم: وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى.
يعني: أن هذا معنىً غير واضح، فهو يرى أن هذا القول مرجوح.
وكذلك يقول: وليس بالبين أيضاً تسمية نزوله هَوِياً، ولا عهد في القرآن ذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه.
أي: أن القرآن يوصف بأنه نزل أو أنزل، لكن لا يصح أن يقال: إن القرآن هوى، بمعنى: أن القرآن نزل.
يقول ابن القيم: وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت، وليس بالبين أيضاً القسم بالنجم أو بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة، بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلاً لعدم ظهوره للمخاطبين.
أي: أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يستبعد أيضاً القول بأن المعنى: والنجوم إذا انتثرت أو إذا انتشرت يوم القيامة، يقول: لأن العادة في القرآن أن الله سبحانه وتعالى يقسم بالآيات الظاهرة البينة للناس.
أي: يبعد أن يكون المقصود: والنجوم إذا انتثرت وانتشرت يوم القيامة، ويقول: لأن هذا مما يقسم الرب عليه، والله سبحانه وتعالى يقسم على أن النجوم سوف تنتثر، ولا يحلف بالنجوم إذا انتثرت.
ويقول ابن القيم: بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلاً لعدم ظهوره للمخاطبين، ولا سيما منكرو البعث، فإنه سبحانه إنما استدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، فأظهر الأقوال قول الحسن.
والله تبارك وتعالى أعلم.
هذا فيما يتعلق بتحقيق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى للقول الراجح في تفسير هذه الآية.(145/5)
تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)
أما العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى فقد تكلم أيضاً في تفسير هذه الآية بقوله: اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وتطلق لفظة (النجم) على الثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجرداً إلا عليها، ومنه قول نابغة ذبيان: أقول والنجم قد مالت أواخره إلى المغيب تثبت نظرة حار يعني بذلك: الثريا.
وقوله تعالى: (إِذَا هَوَى)، أي: سقط مع الصبح، وهذا اختيار ابن جرير.
وقيل: النجم الزهرة.
أي: كوكب الزهرة، وخصه بالذات؛ لأنه كان هناك قوم يعبدونه.
وقيل: المراد بالنجم نجوم السماء، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45])، فأطلق المفرد والمقصود الجمع، أي: ويولون الأدبار.
وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر:22]، والمقصود بالملك الملائكة.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أي: الغرف.
وقال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلَاً} [الحج:5]، يعني: أطفالاً.
وإطلاق النجم مراداً به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب وقال الراعي: فباتت تعد النجم في متسحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها أي: ولو كان النجم واحداً فقط كما هو في اللفظ المفرد لما كانت ستعد النجوم.
وإنما هو من باب إطلاق المفرد والمراد به الجمع.
وعلى هذا القول فمعنى هَوِي النجوم: سقوطها إذا غربت، أو انتثارها يوم القيامة.
وقيل: النجم النبات الذي لا زرع له.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم: الجملة النازلة من القرآن، فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجماً منجماً في ثلاث وعشرين سنة، وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقاً عربياً صحيحاً، كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة، والكتابة المنجمة على العبد المكاتَب.
وعلى هذا فقوله: (إِذَا هَوَى)، أي: نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: هوى يهوي هُوِياً إذا اخترق الهواء نازلاً من أعلى إلى أسفل.
ثم يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً: أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحد ليس بوجيه عندي.
وكما قلنا مراراً: العلامة الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى لما يقول كلمة: (عندي) فهو أهل لأن يقول (عندي)، لأنه يعتبر -والله تعالى أعلم- من أعلم الناس بالقرآن في هذا العصر المتأخر، صحيح أن الشيخ توفي سنة 1393هـ رحمه الله تعالى؛ ولكن بشهادة جميع تلامذته أنه ما رئي أعلم بكتاب الله منه على الإطلاق، والشيخ الشنقيطي من الذين علمهم أكبر من كتبهم، يعني: الكتب هذه التي نقرؤها وبخاصة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، لا يدل على سعة علمه الحقيقية، ومن الناس من تكون كتبه أكبر من علمه، ومنهم من يكون علمه أكبر من كتبه، كالإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى، ومن سمع تسجيلات الشيخ الشنقيطي يظن أنه يقرأ، وإنما كان يتناثر العلم منه كالدرر التي لا تنقطع، كالسيل الهادر إذا هجم، ولا يتوقف عن الكلام إلا لسعلة تصيبه أو كحة أو شيء من هذا أو يأخذ نفساً أثناء الكلام، فعندئذ فقط يتوقف.
أما علمه الغزير الذي ما عرف له نظير فهو في علم القرآن الكريم في هذا الزمان بشهادة تلاميذه، وهم أنفسهم أئمة، كالشيخ بكر أبو زيد والشيخ عبد الخالق وغيرهم ممن تتلمذوا على يديه، بل ممن تتلمذ عليه الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، مع جلالة قدره؛ لكنه أخذ عنه شيئاً من العلوم، خاصة في البلاغة واللغة وهذه الأشياء، فالمهم أن العلامة الشنقيطي وإن كان معاصراً حينما يقول هذا القول: (ليس بوجيه عندي) فهذه كلمة مقبولة، لا كما يتشدق بها الكثير من الأفراخ من طلبة العلم الذين يقول أحدهم: عندي في هذه المسألة القول الراجح كذا، وعندي كذا، فهؤلاء حقيق أن يقال لهم قول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند يقول الشيخ رحمه الله تعالى: والأظهر أن النجم يراد به النجوم، وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]؛ لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة.
وقد اختلف العلماء أيضاً في المراد بمواقع النجوم، فقال بعضهم هي: مساقطها إذا غابت، وقال بعضهم: انتثارها يوم القيامة، وقال بعضهم: منازلها في السماء؛ لأن النازل في محل واقع فيه، وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له -أي: العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري، أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجماً فنجماً، وذلك لأمرين: أحدهما: أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه ما ضل وما غوى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم.
يقول: والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:1 - 5].
وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:1 - 4].
وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
إذاً: هذا هو الدليل الأول، استدل بأن المقسم عليه هو هذا القرآن الكريم.
والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76].
أي: أنه يفسر آية النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] بقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75].
يقول: كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]؛ لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة، ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض، والعلم عند الله تبارك وتعالى.(145/6)
تفسير قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى)
يقول الله تبارك وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
هذا هو جواب القسم، يعني: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حاد عن الحق ولا زال عنه.
والضلال -كما قال بعض العلماء-: يقع من الجهل بالحق، فيطلق على الشخص إذا جهل الحق وما علم به ولا سمعه.
أما الغي فهو العدول عن الحق مع معرفته.
يقول القاسمي: ((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ)) أي: ما حاد عن الحق ولا زال عنه، ((وَمَا غَوَى))، أي: ما صار غوياً؛ ولكنه على استقامة وثبات ورَشَد وهدىً، وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغي، وذِكره صلى الله عليه وسلم بعنوان ((صاحبهم)) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شئونه المنيفة، فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرَّح باسمه، وإشارة إلى أنه كان أبداً موحداً لله، فما ضل صلى الله عليه وآله وسلم وما غوى.
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: وبين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى.
والمقسم به في رأي ابن القيم هو قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، أي: النجوم التي ترجم بها الشياطين لحراسة الوحي، وحراسة السماء، والمقسم عليه هو قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:2 - 3].
فيقول: بين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى، فإن النجوم التي ترمي الشياطين آيات من آيات الله يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم، بها ظهر دينه وشرعه وأسماؤه وصفاته، وجعلت هذه النجوم المشاهَدة خدماً وحرساً لهذه النجوم الهاوية، ونفى سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشاد، ففي ظل هذا النفي الشهادةُ له بأنه على الهدى مرتين: فالهدى في علمه.
والرشاد في عمله.
-صلى الله عليه وسلم- وهذا الأصلان هما غاية كمال العقل، وبهما سعادته وفلاحه، وبهما وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلفاءه فقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، كما في حديث العرباض بن سارية - فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال، وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو صاحب الهدى ودين الحق، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، ولا يشتبه الراشد المهدي بالضال الغاوي إلا على أجهل خلق الله وأعماهم قلباً وأبعدهم من حقيقة الإنسانية، ولله در القائل: وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم فالناس أربعة أقسام: القسم الأول: ضال في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء شرار الخلق، وهم مخالفو الرسل.
الثاني: مهتدٍ في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية.
وهي أمة اليهود لعنهم الله؛ فعندهم العلم، لكن ليس عندهم العمل، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة:60]، وهكذا حينما وصف الله سبحانه وتعالى الصراط المستقيم قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:5 - 7] وهم اليهود لفسادهم العملي، {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]؛ لفسادهم الاعتقادي والعلمي.
يقول ابن القيم: الثاني: مهتدٍ في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية ومن تشبه بهم، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به.
الثالث: ضال في علمه، ولكن قصده الخير وهو لا يشعر.
الرابع: مهتدٍ في علمه راشد في قصده، وهؤلاء ورثة الأنبياء، وهم إن كانوا الأقلين عدداً فهم الأكثرون عند الله قدراً، وهم صفوة الله من عباده وحزبه من خلقه.
وتأمل كيف قال سبحانه وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2] ولم يقل: ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم، تأكيداً لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، كما قال تعالى آمراً نبيه أن يقول: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرَاً مِنْ قَبْلِهِ) [يونس:16]، فهم يعرفونه، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، ويقرون أنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمراً قط، وقد نبه على هذا المعنى تبارك وتعالى بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69] وبقوله تبارك وتعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، أي: وأنتم تعرفون ذلك؛ لأنه صاحبكم، وقد عاشرتموه عمراً مديداً طويلاً.
ويقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]: قال بعض العلماء: الضلال يقع من الجهل بالحق، والغي هو العدول عن الحق مع معرفته، أي: ما جهل الحق وما عدل عنه، بل هو عالم متبع له.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه صلى الله عليه وسلم على هدى مستقيم جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وقال تعالى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].
وقول الله تبارك وتعالى هنا في هذه الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] استدل به علماء الأصول على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجتهد، والذين قالوا: إنه قد يقع منه الاجتهاد استدلوا بقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] إلى آخر الآية.
قالوا: فلو لم يكن هذا عن اجتهاد لما قال الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، ولما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا منافاة بين الآيات؛ لأن قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عن الله إلا شيئاً أوحى الله إليه أن يبلغه، فمن يقول: إنه فعل أو سحر أو كهانة أو أساطير الأولين هو أكذب خلق الله وأكفرهم، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزوة تبوك، وأسَر الأسارى يوم بدر، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك.
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف ما نزل عليه وحي خاص، وإلا لو أوحى الله إليه وحياً خاصاً في هذه المواقف لكان سوف يبلغه عن الله كما أنزله الله، أما ما وقع في هذه المواقف فلأنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عليه وحي خاص في ذلك.(145/7)
تفسير قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى.
إن هو إلا وحي يوحى)
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
قال قتادة: أي: وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا أيضاً فيه تعريض بهم أنهم هم الذين ينطقون عن الهوى.
قال أبو عبيدة (عن الهوى) أي: بالهوى.
ففسر (عن) بـ (الباء)، فتكون كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرَاً} [الفرقان:59]، أي: فاسأل عنه خبيراً، فجاءت (الباء) بمعنى: (عن).
قال النحاس: قول قتادة أولى، وتكون (عن) على بابها، أي: ما يخرج نطقه عن رأيه إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4].(145/8)
بيان أن السنة وحي من الله عز وجل
وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) حرف (عن) فيه تنزيه لمصدر كلامه في الدين، وأنه لا يصدر عنه كلام في الدين إلا عن الوحي لا غير، ولا يمكن أن يكون صادراً عن هواه، فقوله هذا أبلغ من القول بأن (عن) بمعنى الباء، وأقوى من هذا القول قول من قال في معنى الآية: ما ينطق في أي شأن من شئون الدين عن الهوى، فيستدل بهذا على أن السنة وحي كالقرآن؛ لقول الله تبارك وتعالى بعده مباشرة: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وجملة ((يُوحَى)) صفة مؤكدة لـ (وحي)؛ لأنه إذا جاءت ((يُوحَى)) بعد (وحي) فإنها قطعاً تقطع وتمنع وترفع احتمال أي مجاز.
وأيضاً لتفيد الاستمرار التجددي؛ لأن الوحي كان عند نزول هذه السورة مستمر، فقوله: (يوحى)، يعني: سوف يستمر ويتجدد نزوله إلى أن ما شاء الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ((إِنْ هُوَ))، أي: القرآن، مع أن القرآن لم يذكر آنفاً؛ لكن فُهم من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مطلقاً، أي: أن كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم متعلقاً بالدين فما هو إلا وحي يُوحى، واستُدل بذلك على أن السنن القولية من الوحي، وقواه بما في مراسيل أبي داود عن حسان بن عطية قال: (كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن).
واستُدل بهذه الآية أيضاً على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، والصواب هو الأول.
والقاسمي رحمه الله يرجح أن الضمير يعود إلى القرآن الكريم؛ لفهمه من السياق؛ ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، أي: أنه رد لقولهم: (افتراه)، والقرينة من أكبر المخصصات، وجلي أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول بالرأي في أمور الحرب وأمور أخرى، فلابد من التخصيص قطعاً، وبأنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول.
يعني: مرسل حسان بن عطية.
وكلام الإمام القاسمي رحمه الله تعالى فيه نظر، فقوله: (إنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول) هذا لو كنا نحتج على أن السنة وحي فقط بهذا المرسل، ونحن في الحقيقة غير محتاجين وغير مفتقرين للمرسل؛ لأنه من أقسام الضعيف؛ لكن عندنا ما هو أقوى؛ عندنا أدلة من القرآن نفسه، وعندنا أدلة من السنة، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى.
والحقيقة أننا نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة مع هذه القضية؛ لكن بعد أن نذكر أيضاً كلاماً للإمام ابن القيم في تفسير هذه الآية.
يقول ابن القيم رحمه الله: ثم قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، ينزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عن الهوى، وبهذا الكمال هداه ورشده، وقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟! فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق.
ونفيه عن نفسه.
فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال.
يعني: ما يصدر عنه ما هو إلا بالوحي لا عن الهوى، وهذا أقوى من قولك: وما ينطق بالهوى؛ لأنه في هذه الحالة إذا قلنا: (بالهوى) فإن فيه تنزيهاً لنفس النبي عليه السلام أنه لا ينطق بالهوى، وإنما ينطق بالحق؛ لكن حينما نقول: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) يتضمن أمرين: يتضمن نفي الهوى عن مصدر نطقه.
ثم أيضاً نفي الهوى عن نفسه.
يقول ابن القيم ثم قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى): فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.
وآنفاً ذكرنا أن القاسمي يرجع أن الضمير في قوله تعالى: ((إِنْ هُوَ)) يعود إلى القرآن الكريم، وقال: لأن هذا هو الذي كان الكفار يزعمون أنه مفترى، وذكر أن القرآن هو المفهوم من السياق.
فيقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.
يعني المصدر المفهوم من الفعل ((يَنْطِقُ)) وهو النطق، فمعنى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وما نطقه إلا وحي يُوحى، هذا معنى كلامه.
يقول: وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن؛ فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يُوحى، وقد احتج الشافعي لذلك.
يعني: أن الإمام الشافعي ينتصر لهذا القول، لأن الآية: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) تفسَّر بمعنى: أن كل ما نطق به النبي عليه السلام في الدين فهو وحي، سواء كان في القرآن أو في السنة.(145/9)
الحجج على أن السنة وحي من عند الله عز وجل
يقول ابن القيم: وقد احتج الشافعي لذلك بقوله: لعل من حجة من قال بهذا قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، والعطف هنا يدل على المغايرة، أي: أن الكتاب غير الحكمة، وأرسى قاعدة، وهي: أنه متى ما ورد الكتاب مقترناً بالحكمة في القرآن الكريم في سياق الامتنان على هذه الأمة أو على النبي صلى الله عليه وسلم، فالحكمة هي السنة باتفاق السلف.
فـ الشافعي قال: لعل من حجة من قال بهذا قوله: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113].
إذاً: (الحكمة) معطوفة على (كتاب)، والكتاب أنزله الله، فتكون الحكمة أيضاً أنزلها الله.
قال: ولعل من حجته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم-: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم ردٌّ عليك) إلخ الحديث.
وذكر أيضاً جملة من الأحاديث والآثار سوف نذكرها.
وقال الشافعي: أخبرنا مسلم -يعني: ابن خالد الزنجي - عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أن عنده كتاباً نزل به الوحي، وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقه وعقول فإنما نزل به الوحي.
والعقول: جمع عقل، والمقصود بها الدية.
وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياه.
وذكر الأوزاعي أيضاً عن أبي عبيد صاحب سليمان قال: أخبرني القاسم بن مخيمرة قال: حدثني ابن نضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا، قال: لا تسألني عن سنة أحدثها فيكم لم يأمرني الله بها، ولكن سلوا الله من فضله) وابن نضيلة هذا يسمى طلحة.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، وهذا هو السنة بلا شك، وقد قال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، وهما القرآن والسنة.
فنحن نقول: إن (هو) تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل (ينطق)، فقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} [النجم:3 - 4] يعني: إن نطقه {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وهذا أرجح من قول من قال: إن الضمير يعود إلى القرآن الكريم، وهذا هو أولى الأدلة على أن السنة وحي؛ لأن الأدلة على هذا أدلة من القرآن وأدلة من السنة، وليس فقط مرسل حسان بن عطية، إذ ليس هناك أي قضية متوقفة على كلمة حسان بن عطية.
ومن الأدلة قول الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتاب (الإحكام): قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50] وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وبعض المفسرين وبعض الأئمة كالإمام عبد الله بن المبارك فهم أن الذكر هنا أيضاً يعم القرآن والسنة، ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام عبد الله بن المبارك يذكر له الأحاديث الموضوعة التي يضعها بعض الناس، فرد عليه قائلاً: (تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9])، فيفهم من ذلك أن الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كان يرى أن (الذكر) يشمل القرآن ويشمل السنة.
إذاً: هناك تنزيلان: تنزيل نزل أولاً.
ثم تنزيل آخر أتى مبيناً لهذا الذي أنزل أولاً، فقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)، أي: السنة (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي: القرآن الكريم، يعني: أن السنة تبين القرآن.
يقول ابن حزم بعدما ذكر هذه الجملة من الآيات: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك.
وتأملوا في هذا الضابط وهذا القيد في قوله: (أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله)، ثم قال هنا: (في الدين)، ليخرج الكلام الذي يكون في الدنيا، كما قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ويخرج أيضاً الأمور التي حصل فيها اجتهاد، يعني: وإذا قلنا: إنه يجتهد ويخطئ في الاجتهاد فالوحي لا يسكت أبداً على هذا، وإنما يصحح له ويبين له الحقيقة.
يقول: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه.
وربما يقول قائل: كيف تقول: إن السنة كلها محفوظة أيضاً كالقرآن، ولا يمكن أن تضيع على جميع الأمة؟ والجواب هو: أن الأحاديث قد تلتبس على بعض الناس، إذ قد يلتبس الضعيف بالصحيح، ولكن نقول: إنما يلتبس على الجهلاء، أما المختصون وأما أهل الحديث فإنها لا تلتبس عليهم.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الروح): والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم، فيا ويل أعداء السنة! وقد سئل ابن المبارك عن هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: (تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]) وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس.
وتخيلوا إذاً ما قاله العقيد القذافي مثلاً من الضلالات التي قالها في شأن السنة، وأنه يريد أن يفهم القرآن فقط.
ولا يخرج هذا الكلام إلا من ناس مهووسة ومتهمة في عقولها، سواء كانوا من الكتَّاب أو المفكرين أو الضالين، بل كثيراً ما كانت تبدأ فكرة ادعاء النبوة بنفي السنة أولاً، بل هذا شأن كل من يدعون النبوة تقريباً، وهذا ما قاله شيخنا العلامة الشيخ بديع الدين السندي رحمه الله تعالى، فإنه كان يقول: إن تفتش في سيرة الذين يدعون النبوة تجد كثيراً منهم تقدم ادعاء النبوة بالتكذيب بالسنة.
وهذا فعلاً نجده كثيراً، كما في مسيلمة السودان المدعو: رشاد خليفة، فهو بدأ بإنكار السنة، وقال: هذه السنة وحي من الشيطان! إلى آخر خزعبلاته، ولا نضيع الوقت بذكرها.
فكثير ممن يدعون النبوة يبدءون أولاً بهدم السنة؛ لأن السنة سوف تأتي له بصداع، فإنه يسمع الناس تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي)، وغير هذا من الأدلة، بخلاف أدلة القرآن فإنها قد تكون طيعة في يد صاحب الهوى، كما يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل لأن القرآن يحمل أوجهاً شتى، فالقرآن محتاج إلى السنة كي تبينه وتفصله وتوضحه، فمن أجل ذلك فهم يريدون أن يسدوا باب السنة؛ ليبتدعوا ما يريدون، ولذلك وجدنا بعض هؤلاء الضالين يقول: إن الصلاة لا تجب إلا ركعتين في الصبح وركعتين في الليل! ويزعمون أنهم يستدلون بفهمهم السقيم للقرآن.
فحفظ الإسلام لا يتم ولا يُحفظ إلا بحفظ القرآن، والقرآن لا يُحفظ إلا بحفظ السنة، ولا شك في ذلك.
يقول: فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، وأن يتعهد ببقائها.
فلابد أن تُحفظ السنة أيضاً كي يُحفظ القرآن، وحتى لا يحصل إلحاد في فهم آيات الله تبارك وتعالى.(145/10)
الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من الله عز وجل
ومن الآيات التي اقترن فيها الكتاب بالحكمة، وهي حتماً -بالشروط التي ذكرناها- يُقصد بها السنة: قول الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151].
ومنها: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، يعني: القرآن والسنة، وهي دعوة إبراهيم، وقد استجيبت.
وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فالكتاب مقترن بالحكمة في سياق الامتنان مخاطباً به الرسول عليه السلام، ولهذا لابد أن تفسر الحكمة بأنها السنة.
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه} [البقرة:231].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، والذي كان يتلى في بيوت نساء النبي عليه السلام هو القرآن والسنة.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات القرآنية التي تدل على أن السنة وحي: قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
والشاهد هنا في قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، فهذا تعهد وضمان من الله أنه سوف ينزل أيضاً ما يبين القرآن الكريم، أي: إن علينا إظهاره بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل، وعلينا كذلك تبيين ما فيه من الأحكام وما يتعلق بها من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال، والتقييد والإطلاق، وما إلى ذلك، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
من ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50].
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53]، وهل هداية الرسول عليه السلام إلى القرآن فقط أم أنه يهدينا إلى القرآن وإلى السنة؟
الجواب
يهدينا إلى القرآن وإلى السنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي).
فالعصمة من الضلال مشروطة بشرطين، فكل من ادعى أنه مهتدٍ وأنه بعيد عن الضلال، وفي نفس الوقت يدعي أنه يتبع القرآن فقط فنقول له: أنت ضال، ولذلك قال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة، فقال لك: دعنا من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال.
أي: أعطه هذا الختم فوراً، فمثل هذا ضال، ولا كلام في ذلك، فأي واحد يقول: إنه يأخذ القرآن فقط، ويظن أن هذه الكلمة سوف تشفع له، نقول له: أنت ضال قطعاً؛ لأن العصمة من الضلال لا تكون إلا بالقرآن مع السنة معاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي).
ومعروف أن ما علق على شرطين لا يقوم بأحدهما؛ لأن الشرط إذا عدم لا يوصل إلى الحقيقة أو الذات، فبالتالي لا يمكن أن يعصم من الضلال من قال: آخذ القرآن فقط، بل نحن نقطع جزماً بأنه ضال، أما من قال: آخذ القرآن والسنة فهو المهتدي.
ودليل آخر من أدلة القرآن الكريم على أن السنة وحي: قول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدَاً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:142 - 143]، هل الجعل هنا شرعي أم كوني قدري؟
الجواب
الجعل هنا شرعي، فقوله: ((وَمَا جَعَلْنَا))، يعني: ما شرعنا.
ويُفهم من الآية أن الذي أمر باستقبال بيت المقدس هو الله سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا))، يعني: ما شرعنا وما أمرناكم باستقبال القبلة التي كنتم عليها ((إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)).
ولهذا نسأل سؤالاً: أين يوجد في القرآن الكريم الأمر باستقبال بيت المقدس؟ الجواب: لا يوجد في القرآن، ومع أنها غير موجودة في القرآن فالله سبحانه وتعالى يقول هنا: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ))، وهذا دليل قرآني واضح وضوح الشمس على أن السنة وحي كالقرآن؛ لأن هذا (الجَعل) ما حصل في القرآن، وإنما حصل في السنة، وعرفناه من السنة، وما وجدناه في القرآن على الإطلاق.
قال عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:143 - 144] إلخ الآيات، فهذه الآيات نزلت عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وهي تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس كان مشروعاً من قبل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مع ميله الشديد إلى التوجه إلى الكعبة لكونها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لم يتوجه إليها، بل كان ملتزماً بالتوجه إلى بيت المقدس هو وأصحابه، وإن كان ذلك بخلاف رغبته، لكن استقبلها انقياداً لأمر الله.
وتدلنا أيضاً على أن التزامهم لذلك كان حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحويل، وهذه الآية مع ذلك لم تشرِّع التوجه إلى بيت المقدس؛ لأنها إنما أنزلت في نهاية العمل، فهي تشرع التوجه إلى الكعبة، وليس هناك آية أخرى في القرآن تبين لنا حكم التوجه إلى بيت المقدس، فدلنا هذا كله على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا عاملين بحكم لم ينزل به القرآن، وأن عملهم كان حقاً وواجباً عليهم.
إذاً: كان التوجه إلى بيت المقدس وحياً من الله، لكن ليس في القرآن، فلم يبق إلا أنه وحي السنة.
وقال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، والذي أخبره عن زوجته لا نجده في القرآن، وإنما نجد في القرآن إشارة مجملة فقط.(145/11)
الأدلة من السنة على أن السنة وحي
ثم نتحول إلى أدلة السنة نفسها على أن السنة وحي: فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهَد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم بمثل قراه)، وهذا الحديث صحيح؛ رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه.
فنلاحظ هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه.
أوتيت: فعل مبني للمجهول، والمعلوم منه (آتى)، يتعدى إلى مفعولين، مثل: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:30] (الياء) مفعولاً أولاً، و (الكتاب) مفعولاً ثانياً، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام هنا: ألا إني أوتيت القرآن آتاني الله القرآن، فيكون المفعول الأول هو (الياء)، والمفعول الثاني هو (القرآن) والمعنى: أوحي إلي القرآن ومثله معه، وهذا يدل على أن مصدر الكتاب ومصدر المماثل له واحد، وحيث إن الله عز وجل هو الذي آتى نبيه الكتاب فهو سبحانه الذي آتى نبيه الشيء المماثل لهذا الكتاب، وهو السنة الشريفة.
فمعنى هذه المماثلة في قوله: (ومثله معه): إما أن تكون مماثلة في كونه وحياً، أي: كما أن القرآن وحي فالسنة مثله في كونها وحياً.
وإما أن تكون مماثلة في وجوب العمل بالسنة كالكتاب العزيز.
غير أن الاحتمال الأول تؤيده وترجحه الأدلة السابقة من القرآن الكريم، وأيضاً الأدلة التي سوف تأتي.
فحديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه أفاد أن السنة وحي مع القرآن، وأفاد التشنيع على من يقتصر على القرآن ويرفض السنة، كأفراخ هذا الزمان كـ مصطفى محمود وأمثاله من الجهلة الذين ما عُرفوا على الإطلاق بطلب العلم الشرعي، وليس لهم أي شيء في هذا الصناعة، فهؤلاء الذين يتطفلون على العلم الشرعي ولا يهتمون بذلك بل يتسورون عليه، يريدون أن يهدموا أصول الدين بالطعن في أحاديث متواترة كأحاديث الشفاعة، ويأتون بأشياء غير ذلك من ضلالات هذا الزمان التي لم نعد نستغربها؛ لكثرة ما نسمع المنحرفين والضالين عن هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث أيضاً علم من أعلام النبوة؛ لأنه إخبار عن غيب، وقد وقع كما أخبر، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هناك فرقة ضالة سوف تظهر اسمها: فرقة القرآنيين، وقد ظهرت كما تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء الذين يظهرون بين يوم وآخر ويطعنون في السنة ينطبق عليهم هذا الحديث.
وقوله: يوشك رجل شبعان على أريكته، هذه العبارة مفهومها يدل على منقبة عظمى لأهل الحديث، فأهل الحديث جهادهم ورحلاتهم في طلب العلم منصب في حراسة حديث الرسول عليه السلام، ولو تتبع الإنسان جهد أهل الحديث لوجد فيه الأعاجيب، وكيف أن الله سبحانه وتعالى حفظ الدين بتسخير أهل الحديث، وجهادهم الدءوب في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اتصف أهل الحديث بأمور أساسية جداً، من ضمنها: الجوع والعطش، والفقر، والمعاناة الشديدة في الرحلة لطلب العلم، وفي هذا مصنفات مستقلة تبين أنهم عانوا الفقر والجوع والمرض والنصب في سبيل الرحلة؛ حيث كانوا يمشون آلاف الأميال على أقدامهم، كما فعل بقي بن مخلد حينما رحل على قدميه من الأندلس إلى بغداد؛ ليسمع من الإمام أحمد، فتخيلوا هذه المسافة! والأمثلة في ذلك كثيرة، فهم كانوا يرحلون في طلب العلم، وكانوا يقاسون في هذه الرحلة الشدائد، ويعانقون الفقر والجوع، وهناك قصص طويلة لا نريد أن نخرج عن الموضوع بذكرها.
لكن هؤلاء المكذبون الضالون الذين يطعنون في سنة النبي عليه الصلاة والسلام جمعوا النقيضين، فقوله: (رجل شبعان) فيه إشارة إلى أنهم مترفون، فلا سافروا، ولا جاهدوا، ولا نصبوا، ولا عطشوا، ولا مرضوا في طلب الحديث، فإلى أين رحل هؤلاء المكذبون الذين يطعنون في السنة؟ ما عرفوا بالرحلة على الإطلاق، ولا جثوا على ركبهم أمام العلماء أبداً، لكن سهل على أحدهم أن يتسور ويقفز من السور ويدَّعي أنه دخل في حوزة العلم الشرعي.
وقوله: (متكئ على أريكته) كما في بعض الروايات فيه إشارة إلى البطر، وأنهم ناس مترفون لا يسافرون، ولا هم مستعدون لأن يتعبوا، بل يريد أحدهم لكتاب البخاري أن يرميه في المحرقة، ويريد أن يطمس كل هذه الجهود بجرة قلم أو بكلمة تصدر منه أو بمقالة يكتبها في جريدة ترحب به وبأمثاله من الأبواق الضالة المنحرفة، وتشجعه على أن يمضي في الطعن، ثم يحدثون بالآراء الشاذة التي تدل على ضلالاتهم وشبهاتهم.
فتأملوا كلمة: (شبعان على أريكته)! يعني: أنه إنسان مترف ليس متفرغاً لطلب العلم، ولا يسهر، ولا يرحل ولا يسافر، ولا يمرض، ولا يفتقر، ولا يشرب بوله كما حصل من بعض علماء الحديث، حتى ينقذ نفسه وينقذ حياته وهو راحل في طلب العلم، فهو (شبعان) وجهاده (على أريكته)، فهو متكئ على الأريكة، ويكذب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل تنبأ الرسول عليه الصلاة والسلام بظهوره، ومع هذا يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه! والرسول عليه الصلاة والسلام يرد على هذا المبطل الكذاب بقوله: (وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، بعدما قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، فأكد أن السنة مثل القرآن، فهي وحي آتاه الله إياه، ثم بعد ذلك تنبأ بهؤلاء القرآنيين الضالين.
ثم أعطى قاعدة عامة أيضاً مؤكداً ذلك فقال: إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ثم زاد على ذلك بأن أتى بقسم مهم جداً من أقسام السنة الثلاثة؛ لأن السنة على ثلاثة أقسام: إما أن تأتي مؤكدة لما ورد في القرآن، فيكون هذا من باب توارد الأدلة على المعنى الواحد.
وإما أن تأتي مفسرة للقرآن مبينة له، مقيدة للمجمل، مخصصة للعام، إلخ.
وإما أن تأتي السنة -وهذا أغرب الأقسام إلى أعداء السنة- بحكم مستقل غير موجود أصلاً في القرآن.
فمن ذلك ما ذكره هنا بقوله: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه -لم يبذلوا حق الضيافة- فله أن يعاقبهم بمثل قراه)، أي: يكون له حق فيما يماثل القرى والضيافة.
فالحديث أفاد أن السنة وحي مع القرآن، وأفاد التشنيع على من يقتصر على القرآن ويرفض السنة، وبين أحكاماً فرعية تستقل السنة بتشريعها وهي لم ترد في القرآن الكريم نصاً، وإنما جاءت في القرآن إحالة، بمثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ومن ذلك أيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟! ألا إني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، إنها مثل القرآن أو أكثر).
وعن طلحة بن نضيلة قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عام سنة -عام قحط-: سعِّر لنا يا رسول الله! قال: لا يسألني الله في سنة أحدثها فيكم لم يأمرني بها؛ ولكن اسألوا الله من فضله).
ففي هذا أن الرسول امتنع من التسعير؛ لأنه لم ينزل عليه وحي بهذا التسعير، فيخشى أنه لو قال من عنده بدون وحي يكون قد أحدث فيهم شيئاً لم يأمره الله به، ومع ذلك سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً وبين أحكاماً ليست في القرآن، فدل هذا الحديث على أن ما تكلم به وحي، وأنه لم يحدثه من تلقاء نفسه.
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها، وأسلم سلمها الله، ما أنا قلته؛ ولكن الله قاله)، وهل توجد آية في القرآن نصها: (غفار غفر الله لها، وأسلم سلمها الله)؟
الجواب
لا، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنا قلته؛ ولكن الله قاله).
وعن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله -يعني: بحكم الله-، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم.
فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة -يعني: استعاض بدل رجمه بمائة شاة وجارية- فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت).
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وهذا واضح تماماً أن هذا الحكم غير موجود في القرآن، وإنما هو في السنة، ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله).
وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه كان يقول لـ عمر رضي الله عنه: (ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان بالجعرانة سأله رجل فقال: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبته بعدما تضمخ بالخلوق -يعني: لطخ نفسه بالطيب- حتى كأنه يقطر منه؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت، فجاء ا(145/12)
تفسير سورة النجم [5 - 18](146/1)
تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى)
قال عز وجل: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) أي: علم محمداً صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديدٌ قواه، يعني: جبريل عليه السلام، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين: أولاً: أن جبريل عليه السلام هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي.
الأمر الثاني: أن جبريل شديد القوى، وهذا ما أوضحه قول الله تبارك وتعالى مبيناً أن جبريل هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان سفيراً بينه وبين الله في إيحاء هذا القرآن الكريم إليه، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة:97]، ففي هذا إثبات أن جبريل عليه السلام هو الذي نزله، والمقصود أن الذي أتاه بالوحي ملَكٌ هذا شأنه، لا شيطان كما يزعم المشركون.
وقال تبارك وتعالى أيضاً مبيناً أن جبريل هو الذي علمه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195].
وفي نفس السياق في سورة الشعراء قال تبارك وتعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212]، فنفى أن يكون مصدر القرآن الشياطين، وأثبت أن مصدره هو تعليم جبريل الأمين.
وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114].
وقال تبارك وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، يعني: إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك من عند الله مبلغاً له عنه: ((فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ))، أي: اقرأ كما سمعت الملك يقرأ، وهذا كله يؤكد أن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام.
فهذه الآية دلت على أن جبريل ملك الوحي ((شَدِيدُ الْقُوَى)) * ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى))، وهذا بينه قوله تبارك وتعالى في سورة التكوير بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، وهذه كلها صفات جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
و (القُوى) جمع قوة، ومن العرب من يكسرها فيقول: القوى بكسر (القاف) كالرِّشا بكسر الراء في الرِّشوة جمع رُشوة بضمها، والحِجا جمع حُجوة.
وقوى الحبل: طاقاته، والواحدة قوة.(146/2)
تفسير قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى)
قال تبارك وتعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6].
قوله: ((ذُو مِرَّةٍ)): المِرة بكسر (الميم) أي: ذو متانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذو مِرَّة، من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله.
وكان من قوة جبريل عليه السلام أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحيه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وهذه كلها من شدة قوة جبريل عليه السلام.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم أخبر تعالى عن وصف مَن علمه الوحي والقرآن مما يُعلم أن صفات هذا الملك الذي علمه القرآن الكريم مضادة لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية.
فقال تبارك وتعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وهذا نظير قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20].(146/3)
السر في وصف جبريل بالقوة، ووجه إضافة القرآن الكريم تارة إلى جبريل وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أما السر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة فقد وضحه الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه المبارك: (التبيان في أقسام القرآن) أثناء شرحه سورة التكوير فقال: ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، وهو القرآن الكريم وأخبر أن هذا القرآن قول رسول كريم.
والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سياق هذه الآيات الكريمة من الصفات ما يعيِّن ويحتِّم أنه جبريل، فقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، فهذا كله لا شك أنه في شأن جبريل عليه السلام.
وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47]؛ لأنه عندما قال تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) نفى بعد ذلك مباشرة قول من زعم من أعدائه أنه قوله، فقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) رداً على من قالوا: إنه قول شاعر، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) يعني: كما تزعمون، فيلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أقسم على أن القرآن قول رسول نسبه إلى الرسول الكريم مرتين: مرة عنى بها جبريل عليه السلام، كما في سورة التكوير، وأيضاً هنا في سورة النجم.
ومرة أخرى في سورة الحاقة، وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن القيم: فنسب هذا القول -القرآن الكريم- تارةً إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان.
فلا يمكن أن يفهم أحد أن إضافة القول إلى أحد الرسولين تعني أنه كلام من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، لأنه لو قلنا إن المتكلم به أو المصدر له هو جبريل أو هو الرسول عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة سوف يظن القارئ أن القرآن صدر عن هذين المصدرين، وبهذا تتناقض النسبتان.
لكن القول الصحيح أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، يعني: إنه لقول الله الذي بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بلغه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الناس.
يقول: فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك.
يعني: أن كلمة (الرسول) في حد ذاتها تؤيد هذا المعنى، وهو أن الإضافة إضافة تبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يكون مرسلاً بالإبلاغ.
يقول: فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، وهذا صريح في أنه كلام مَن أرسل جبريل، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن كلا منهما بلغه عن الله، فهو قوله مبلغاً، وقول الله الذي تكلم به حقاً، فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلماً بالقرآن، وهو كلامه حقاً في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تبارك وتعالى.
يعني: أن الجهمية الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو مخلوق، قد يفرحون ويجدون متنفساً في هاتين الآيتين وفي هاتين النسبتين؛ لكن نقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنه لو صح أن هذه إضافة إنشاء لتناقضت النسبتان، فلا ينبغي لأهل البدع أن يفرحوا بهذه النسبة إلى الرسول البشري أو إلى الرسول الملكي؛ لأن نفس الآية دليل عليهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأرسى قاعدة عامة فقال: (أنا ألتزم -يعني: أنا أضمن- أنه لا يحتج مبتدع بآية أو حديث لتأييد باطله إلا وكان في نفس الآية أو الحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه)، فهنا نفس هذه الآية فيها دليل يبطل كلام هؤلاء الجهمية، وهو قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)، أي: رسول مبلغ وليس منشئاً الكلام من عنده.
يقول ابن القيم: فهما من أظهر الأدلة على كون هذا القرآن كلام الرب تبارك وتعالى، وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ، فجبريل سمعه من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، فوصفه أنه كريم قوي مكين عند الرب تبارك وتعالى، وأنه مطاع ثم أمين فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن.
أي: أن السند الذي وصل به القرآن إلينا هو عن جبريل، وجبريل تلقاه مباشرة عن الله سبحانه وتعالى، ثم بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، فهذه الصفات الخمس فيها تزكية لسند القرآن، فالسند الأول: هو السند الملكي جبريل، وجبريل رسول كريم قوي مكين مطاع في السماوات أمين، فلا شك أن هذا كله تزكية لسند القرآن الكريم.
يقول: ثم إنه سماع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك عن هذا السند علواً وجلالة.
فالله هو الذي زكى هذا السند العظيم، فلذلك كان من أشرف الأنساب أن يحمل المرء القرآن الكريم عن الشيوخ بالأسانيد، فإذا تلقيت القرآن فتلقه عن شيخ شفاهاً كما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان لا يصدق عليه وصف قارئ إلا إذا تلقى القرآن مشافهةً من شيخ مسند، تلقاه عن مشايخه، حتى ينتهي هذا السند إلى التابعين، ثم إلى الصحابة، ثم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى الله سبحانه وتعالى.
فينبغي للإنسان إذا أراد أن يحوز هذا الشرف العظيم أن ينضم إلى هذه السلسلة التي سوف تبدأ باسمه وتنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فالذي ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تلقي القرآن شفاهاً، أما تلقي القرآن عن طريق الأشرطة أو عن طريق قراءة كتب التجويد فكل هذا هروب من الحقيقة، وليس هذا هو الصحيح في تلقي القرآن، بل القرآن يُتلقى مباشرة عن الشيخ المقرئ، إذ لابد أن يكون الشيخ المقرئ قد تلقاه أيضاً عن مشايخ، كما قال عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] يعني: اقرأه كما سمعته من جبريل عليه السلام.(146/4)
أهمية تلقي القرآن الكريم بالمشافهة
فالأمة تلقت القرآن بهذه الأسانيد المتواترة طوال هذه القرون التي مرت بطريق التلقي الشفاهي، والقرآن نفسه اسمه: القرآن، ومعناه: القراءة، أي: أنه يُقرأ.
فجزءٌ أساسي في تعريف القرآن هو الكيفية التي يُتلى بها القرآن، فإنه يُتلى بطريقة معينة، وهي: مراعاة أحكام التجويد وصفات الحروف ومخارجها ونحو ذلك.
فالعدول عن ذلك بأن يتلقى الإنسان القرآن عن طريق سماع الأشرطة ليرضي ضميره غير صحيح.
وبعض الناس يقول: أنا لست مقصراً مع القرآن، بل إنني طوال النهار متابع لإذاعة القرآن الكريم، ومعي الأشرطة أسمعها، وهذا هروب، فإن التعبد بالقرآن ليس بسماعه فقط، فهل أنت الذي تتعبد أم جهاز التسجيل أو الراديو الذي يتعبد؟ لابد أن يكون لك ورد تقرؤه من القرآن، ولا بأس أن تسمع، لكن لابد أن يكون هناك تعبد بلسانك أنت وبقلبك أنت وبعقلك أنت، حتى لو كنت تتعتع في قراءة القرآن فاستمر وجاهد فلك في ذلك الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فحتى الشخص الذي لا يعرف التجويد ولا يحسن قراءة القرآن يقرأ؛ فإن له أجرين على ذلك.
فالمطلوب أن الإنسان لابد أن يتلقى القرآن، هذا إذا كان يريد أن يكون طالب علم حقيقياً وليس طالب علم مزوراً، فإن أول خطوات طلب العلم أن تقرأ القرآن الكريم على شيخ مشافهةً، فإن لم يكن مشافهةً لم يسم تلقياً؛ لأن المشافهة أن تتلقى عن الشيخ -ليس فقط من صوته- لكن تتلقى بنظرك بعينيك وبلحظك أيضاً، ولا تأخذ منه اللفظ فقط لكن أيضاً تأخذ عن طريق اللحظ، فهناك من صفات الحروف ومن أحكام التجويد ما يدرك بالنظر، ولذلك منع العلماء أن يتلقى أعمى عن أعمى، لأن هناك أحكاماً لا تفهم إلا بالنظر، مثل: الروم والإشمام، ونحو هذه الأشياء، فلابد من النطق بالحرف مع النظر إلى كيفية نطقه، ومعرفة كيف يخرج الحرف مرققاً، وكيف يخرج مفخماً، وهذه لا تدرك إلا بالنظر إلى الشيخ.
فينبغي أن يُجتهد في هذا الأمر.
فإن كان الإنسان يعجز عن تلقي التجويد أو القرآن عن شيخ مشافهة فهناك حل بديل ينفع لمن عجز عن الحصول على شيخ، وذلك لو أمكن مشاهدة بعض الأشرطة البصرية السمعية، إن أمكن استعمالها في التعلم؛ لأنه توجد أشرطة فيها بعض الشيوخ يعلمون التجويد بأشرطة فيديو تقريباً، فهذه يمكن النظر إليها مؤقتاً إلى أن يتوفر الشيخ؛ ولكن نحن نعيش في مصر، ولسنا نعيش في بلاد واق الواق حيث لا يوجد فيها شيوخ ولا كذا، فعندنا شيوخ وبالذات الشيوخ الأزهريون، فإنهم يتقنون جداً أحكام التجويد، فينبغي أن يلوذ كل واحد منكم بشيخ يتلقى عنه القرآن شفاهاً، ولا يلجأ إلى هذه الوسائل البديلة؛ لأن هذا لا يطلق عليه قارئاً، إنما القارئ من يتلقى القرآن مشافهة.(146/5)
ذكر صفات جبريل عليه السلام
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام:(146/6)
الكرم
الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كريماًً: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، فهو ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير.
أي: أن الشيطان سيئ وقبيح في كل ما يتعلق به، ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى شجرة الزقوم قال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، إشارة إلى أن الشيطان أقبح ما يكون.
وهنا إشارة عابرة: بالنسبة لهذه الأمور الغيبية نجد أحياناً عدواناً يحصل من بعض المتسمَّين بأسماء المسلمين حيث تصدر منهم أشياء فظيعة، مثلاً: نجد تصميمات لأغلفة للكتب، كأن يكون كتاب يتكلم عن الشياطين، فتجدهم يحاولون أن يرسموا منظراً معيناً للشيطان، ويجتهدون في كونه قبيح الصورة ذا قرون ونحو ذلك، فنقول: ما أدراكم أن هذه هي صورة الشيطان الحقيقية؟! أليس هذا عدواناً على الغيب؟! ويأتي كتاب يتكلم عن الجنة، فيرسمون على غلافه من بساتين الدنيا، صحيح أنه بستان جميل أو حديقة جميلة؛ لكن هل يجوز أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اترك الغلاف خالياً خالصاً وضع أي لون آخر، غير أنك لا تحاول أن تقرب الجنة إلى أذهان الناس بأن تصور لهم صورة من زينات الدنيا، فماذا تكون هي في جنة الآخرة؟ فهذا عدوان على الغيب، وهذا تحقير للجنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأنها: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، بمعنى: أنك مهما حاولت أن تتخيل كيف هي الجنة وكيف هو جمالها ونعيمها، فإنك مخطئ في التخيل، فإذا كان هذا أمراً نحن نجزم به ونقطع به، وهو أن الجنة ما خطر شكلها وحسنها على قلب بشر، فكيف يتجرأ هؤلاء الناس على أن يرتكبوا هذا الكذب وهذا العدوان على حقيقة من حقائق الغيب؟! وهكذا نفس الشيء في النار، حيث يأتون بصور نار مشتعلة، وما أدراكم أن هذه هي النار؟! هذه النار غيب، ونحن نعرفها الآن بالوصف فقط، أما المعاينة فنسأل الله أن يعافينا جميعاً من رؤيتها ومن مسيسها وحرها، فهذا أيضاً عدوان على الغيب، ناهيك عما يحصل من بعض الناس الذين يزينون الجدران أو الستائر أو كذا ببعض الأشياء فيها صورة الملائكة على هيئة بنت صغيرة لها جناحان، وهذا أيضاً عدوان! وأنتم تعرفون جميعاً التشنيع الذي شنعه القرآن على هؤلاء الذين اعتدوا على الغيب حينما زعموا أن الملائكة بنات الله، فتجيء أنت أيها المسلم! فتقول بقول المشركين، وتأتي بصورة بنت صغيرة على أن هذه هي من الملائكة وهذه صورة الملائكة! فهذا عدوان ولا ينبغي أن يصدر من المسلمين، فإن صدر من غير المسلمين فليس بعد الكفر ذنب، أما مسلم ويضاهي بفعله أو بقوله أو بصوره أفعال المشركين فهذا ما لا ينبغي ولا يليق.
فهذا جبريل عليه السلام رسول كريم، وليس كما يقول أعداء الله وأعداء جبريل: إن الذي جاء بالقرآن شيطان.
يقول ابن القيم: فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير، فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير، طيب مطيَّب معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر، فهو مما أجراه ربه على يديه، وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي.(146/7)
القوة
الوصف الثاني: أنه ذو قوة، كما قال في سورة النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وفي هذا تنبيه على أمور: أحدها: أن جبريل عليه السلام وصفه الله سبحانه وتعالى الجبار القوي المتين بأنه ذو قوة، وبأنه شديد القوى، فإذا وصفه الله بذلك فأي قوة تكون قوة جبريل عليه السلام؟! ووصف جبريل بأنه شديد القوى أو ذو قوة يفيد أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو من هذا القرآن الكريم، أو أن ينالوا منه شيئاً أو أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقرأ.
الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادٌّ له وناصر، وإذا كان جبريل عليه السلام ذا قوة وشديد القوى فهو نصير، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فجبريل يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره ويؤيده ويعضده، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره.
الأمر الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك.
الأمر الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أُمر به، فإذا كلف جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل فلأنه شديد القوى فهو قادر على أن ينفذ ما أُمر به لقوته، ولا يعجز عن ذلك، وهو مؤد له كما أمر به لأمانته، كما قال سبحانه: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21] وأحدنا إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، كما قالت ابنة الرجل الصالح: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فيمكن أن يوجد إنسان قوي على الوظيفة لكنه خائن غير أمين، ويمكن أن يوجد أمين تقي وورع؛ لكنه غير قوي، ولا يستطيع أن يؤدي هذه الوظيفة، وفقدان هاتين الصفتين هو الذي ألجأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشكوى في قوله: (أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة).
فقوله: (جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجراً لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاساً في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلاً، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور، كما قال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
يقول ابن القيم: وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً معظماً ذا مكانة عنده مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه.
أي: أن هذا الاصطفاء وهذا الاختيار لجبريل عليه السلام وهو القوي الأمين شديد القوى المكين المطاع في أهل السماوات، كل هذه الصفات تدل على عظمة شأن المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا كان هذا رسول الله سواء كان الرسول البشري أو الرسول الملكي فالله أعظم، فيدل على عظمة شأن المرسِل، وشأن الرسول، وهو جبريل، وشأن الرسالة نفسها لأنها هي القرآن الكريم، والمرسَل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم (حيث انتدب له الكريم القوي المتين عنده المطاع في الملإ الأعلى الأمين حقاً؛ فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية.
هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: ((ذِي قُوَّةٍ)).(146/8)
الوجاهة عند الله تعالى
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام: وقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، أي: له مكانة ووجاهة عند الله سبحانه وتعالى، وهو أقرب الملائكة إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير:20]، إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريباً من ذي العرش سبحانه وتعالى.(146/9)
معنى قوله تعالى: (مطاع ثم أمين)
ثم قال تبارك وتعالى: ((مُطَاعٍ ثَمَّ))، (ثم) بمعنى: هناك، وفي هذا إشارة إلى أن جنود جبريل عليه السلام وأعوانه يطيعونه إذا ندبهم لنصر صاحبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إشارة أيضاً إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعاً في الأرض، كما أن جبريل مطاع في السماء، وأن كلاً من الرسولين مطاع في محله وقومه، وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع، وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حُمِّله وأدائه له على وجهه.
ثم نزه الله عز وجل رسوله البشري وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين.
فهذا فيما يتعلق بما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كون قوله تعالى في سورة النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] نظير قوله تعالى: في سورة التكوير: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20].(146/10)
إضافة في تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى)
أما قول الله تبارك وتعالى هنا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:5 - 6] أي: جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة، ليس شيطاناً، فهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له، كما تقدم نظيره في سورة التكوير، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلاله، وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، كما أن هذه منزلة جبريل في أهل السماوات، فكذلك فيها إشارة -كما قال ابن القيم - إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يصير رسولاً نبياً مطاعاً في أهل الأرض، ويعلو دينه على كل الأديان، وكما كانت هذه أوصاف الرسول الملكي كذلك كانت أوصاف الرسول البشري صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد القوة؛ حتى إن رجلاً مصارعاً أبى أن يسلم إلا أن يصارع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن غلبه فهو رسول الله حقاً، فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه وغلبه فأسلم، وكان الصحابة يقولون (كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه)، أي: كانوا يختبئون خلفه، ويجعلونه هو الدرع والترس في مواجهة الأعداء وهم وراءه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، وكل هذه الصفات لو تكلمنا على كل صفة على حدة لطال الكلام جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع كل ما يمكن من أوصاف الكمال البشري، كما قال الشاعر: فغاية القول فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهمُ وقوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ))، أي: مكانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذا مرة، من أمررت الحبل يعني: إذا أحكمت فتله.(146/11)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلقه الله عليها
وقوله: {فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:6 - 7]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قال الزمخشري: فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي؛ وكان ينزل في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه.
يعني: كان جبريل عليه السلام إذا أتى في صورة بشرية يتمثل في صورة دحية الكلبي؛ لكن في هذه الآية: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:6 - 7] هذه المرة رآه على صورته الحقيقة وكانت هذه إحدى المرتين اللتين رأى فيهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فما أدري كيف يتخيل لنا هذا هؤلاء الرسامون الذين يرسمون ويخترعون صوراً للشياطين، وتارةً صوراً للجنة، وصوراً لعذاب جهنم، وصوراً ليوم القيامة، وهذا كله غيب؟! فالعقل البشري لا يمكن أن يصل إلى إدراك كنهه مهما اجتهد في ذلك، فكيف يصورون لنا صورة جبريل عليه السلام وقد سد الأفق تماماً؟! فإن كل القبة السماوية امتلأت بصورة جبريل عليه السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل وله ستمائة جناح) فهؤلاء العباقرة كيف يتخيلون لنا وكيف يركبون ستمائة جناح؟! ولكن نقول كما قال أحد العلماء لما أراد أن يعجِّز من وقع في عملية تشبيه الغيب بالمنظور وبالمجسم قال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح، فعجز، فقال له: أضع عنك سبعاً وتسعين وخمسمائة جناح، فالباقي ثلاثة من الستمائة، فتخيل لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة، كيف ستركب هذه الأجنحة؟! فعجز! فالشاهد: أن سياق الآية هنا يتحدث عن إحدى المرتين اللتين تجلى فيهما جبريل عليه السلام بصورته الحقيقية.
وقوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى))، قال بعض العلماء: الفاء فاء السببية، والمعنى الذي تفيده في هذه الحالة هو: أن تشكل جبريل عليه السلام يتسبب عن قوته وعن قدرته على الخوارق.
وهناك قول آخر بأن (الفاء) عاطفة على (علَّمه) في قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] يعني: علَّمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.(146/12)
تفسير قوله تعالى: (وهو بالأفق الأعلى)
قال تعالى: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:7].
الأفق: الناحية، وجمعه: آفاق، والمراد: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة؛ لأن أهل الهيئة -علماء الفلك- يقولون: الأفق هو الملتقى الذي يلتقي فيه مد البصر أقصى شيء يلتقي من الأرض بالسماء، أو من البحر مثلاً بالسماء، فهذا الجزء يُسمى الملتقى لا يُسمى الأفق؛ لكن المقصود بالأفق هنا: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، يعني: ما يعبر عنه أحياناً بالقبة السماوية.
وقال ابن كثير: قوله تعالى: ((فَاسْتَوَى))، يعني: جبريل عليه السلام.
قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس.
وقيل: جبريل عليه السلام استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد.(146/13)
تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)
قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9].
قوله: ((ثُمَّ دَنَا)) يعني: أنه دنا بعدما استوى في أفق السماء، أي: اقترب جبريل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: ثم تدلى فدنا، ولكنه حَسُنَ تقديم قوله: ((دَنَا)) إذ كان الدنو يدل على التدلي والتدلي على الدنو، كما يقال: زارني فلان فأحسن، أو تقول: أحسن إلي فزارني.
وقال الشهاب: التدلي: مجاز عن التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الدنو منه، لا بمعنى التنَزُّل من علو كما هو المشهور، أو هو: دنو خاص بحالة التعلق فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو.
ونقول: لا داعي لافتراض المجاز؛ لأن الأصل حمل كل شيء في القرآن الكريم على الحقيقة.
وقوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)، أي: كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين أي: بقدرهما إذا مدا، أو أقرب، أو الضمير لجبريل بأن قربه قدر ذلك.
يقول الشهاب: وقاب القوس وقيده: ما بين الوتر ومقبضه.
والمراد به هنا المقدار، فإنه يقدر بالقوس كالذراع، فهذه إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا -يعني: إذا أجروا وعقدوا حلفاً فيما بينهم- أخرجوا قوسين، ويمسكون أحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقاً للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معاً ويرميان بهما سهماً واحداً، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدها رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه، كما قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين.
فهذا هو السر في هذا التعبير عن القرب بـ ((قَابَ قَوْسَيْنِ))، فالعرب كانوا يتحالفون في الجاهلية، والحلف في الجاهلية: أن تنصر هذه القبيلة القبيلة الأخرى سواء كانت ظالمة أم مظلومة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام)، يعني: مثل هذا الحلف الذي كان يقع في الجاهلية، فكانوا يأتون بقوسين، فيلصقون أحد القوسين بالآخر، فيشكلان نصف دائرة، ثم يضعون فيهما سهماً واحداً ويرمون هذا السهم معاً، يعني: أنها عملية رمزية في صورة حسية تؤكد التزامهم بهذا الحلف، ولذلك يقال دائماً لما يُعبر عن الوحدة: يرمون عن قوس واحدة، للدلالة على وحدة إرادتهم وتوحدهم ضد أعدائهم.
وقوله تبارك وتعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (أو) هنا لا تفيد الشك؛ لأنه لا يمكن أن يصدر عن الله سبحانه وتعالى شك، وإنما المقصود تحقيق قدر المسافة، وأن هذه المسافة لا تزيد على قوسين البتة.
وهذا تماماً مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، وليس هذا على الشك؛ ولكن المعنى: أنه إذا رآهم الرائي يقول: هم مائة ألف أو يزيدون؛ لكنه لا يرى احتمالاً أنهم يكونون أقل من مائة ألف، فهذا فيه تأكيد أنهم مائة ألف، كذلك هذه الآية الكريمة: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، ليست على وجه الشك، بل فيه تحقيق لقدر المسافة، وأنها لا تزيد على قوسين البتة، فالمعنى: ((فَكَانَ)) يعني: بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي، أي: لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك، فهو تمثيل لشدة القرب وتحقيق استماعه لما أوحي إليه.
وقيل: (أو) بمعنى: بل، أي: بل أدنى، على أنها للإضراب، وأدنى: أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف، يعني: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) من قاب قوسين.(146/14)
تفسير قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى)
قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10].
قوله: ((فأوحى))، أي: جبريل عليه السلام؛ لأننا نفسر {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} بجبريل، وإن كان هناك رأي آخر فهو رأي مرجوح غير معتمد، وهو: أن الذي دنا هو الله سبحانه وتعالى، كما ورد في بعض الأحاديث؛ وسيأتي ذكر هذا؛ لكن الظاهر هنا أن المقصود بقوله: ((فَأَوْحَى)) يعني: جبريل عليه السلام.
وقوله: ((إِلَى عَبْدِهِ))، أي: إلى عبد الله عز وجل وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس وغاية ظهوره، والفاعل هنا هو الله سبحانه وتعالى؛ لكن أوحى بواسطة جبريل، فهذا بما أنه في غاية الوضوح ولأن اللبس مأمون، عبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه الشريفة بالضمير.
أو فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه، ((مَا أَوْحَى)) أي: مما أمره به، وفيه تفخيم للمُوحى به، إذ الإبهام يفيد تعظيم وتفخيم هذا الذي أوحي إليه صلى الله عليه وسلم؛ كأنه أعظم من أن يحيط به بيان.
وسياق الآيات إلى الآن هو في توثيق الوحي وتعديله وتزكيته، كما بين ذلك الإمام ابن القيم.(146/15)
تفسير قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى)
قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
أي: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه، يعني: أنه رآه بعينه وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق، يعني: أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وافق عينه، وكان على يقين بكل وسائل التيقن، فقد رأى جبريل بعينه، وأيضاً قلبُه كان على يقين أنه يرى جبريل عليه السلام، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق.
وقرئ: (ما كذَّب) بالتشديد، يعني: أنه صدقه، ولم يشك أنه ملك رباني لا خيال شيطاني، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25].
وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما سبق الكلام عنه.(146/16)
تفسير قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى)
قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12].
أي: أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه.
قال القاشاني: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى)، أي: أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره؟! فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟!.
ويقول: وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقةً.
انتهى كلامه.
ويقول القاسمي: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله بالوحي حالة خاصة بالأنبياء لا يمكن لغيرهم اكتناهها.
فكل من ليس بنبي من البشر فواجبه الإيمان بهذا الأمر والإذعان له؛ لقيام الدليل عليه، يعني: هذا خبر أتانا فنحن نصدقه ونؤمن به؛ لكن هل لا نصدقه إلا إذا رأينا جبريل ورأينا الملك؟
الجواب
لا؛ لأن رؤية الملك ورؤية جبريل عليه السلام هي حالة خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما أنتم فلا تماروا في شيء، ولا سبيل لكم إلى رؤيته، وإنما المقصود منكم جميعاً أيها البشر! أن تؤمنوا بهذا الخبر؛ لأن هذا الخبر قصص القرآن، والقرآن ثبت بالمعجزات والأدلة أنه كلام الله لا ريب في ذلك.
فيقول: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها، لقيام الدليل عليها، وبالجملة: فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئي؛ لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يره مرة واحدة وإنما رآه مرتين في صورته الحقيقية.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه، وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه.
يعني: يمكن للإنسان أن يرى شيئاً على خلاف ما هو عليه في الحقيقة، لسبب أو لآخر، وهذا معروف، وفي بعض الأمراض النفسية يكون من ضمن الأعراض أن يرى شيئاً على خلاف حقيقته، فنفي الله سبحانه وتعالى هنا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعارض قلبه مع عينه، وإنما توافَق القلب مع العين في إثبات رؤية الملك، فقلب الرسول عليه الصلاة والسلام صدق ما رأته عيناه.
يقول: وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك.
وفيها قراءتان: إحداهما بتخفيف: كَذَبَ والثانية بتشديدها يقال: كَذَبَتْه عينُه وكَذَبَه قلبُه وكَذَبَه جسدُه إذا أخلف ما ظنه وحدثه، قال الشاعر: كَذَبَتْك عينُك أن رأيت بواسط غلس الظلام من الرماد خيالاً أي: أرتك ما لا حقيقة له.
فنفى هذا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن فؤاده لم يكذِّب ما رآه.
و (ما) في قوله: ((مَا رَأَى)) إما أن تكون مصدرية؛ يعني: ما كذب الفؤاد رؤيته، وإما أن تكون موصولة، يعني: ما كذب الفؤاد الذي رآه بعينه، وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما، وتصديق كل منهما لصاحبه، وهذا ظاهر جداً في قراءة التشديد: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، ثم أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم مكابرتهم وجحدهم له على ما رآه، كما ينكر على الجاهل مكابرته للعالم ومماراته على ما علمه.
وقوله تعالى: ((أفتمارونه)) فيها قراءتان: ((أَفَتُمَارُونَهُ)) و ((أَفَتَمْرُونَهُ)) وهذه المماراة أصلها من الجحد والدفع، يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته، كما قال الشاعر: لإن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا ومنه المماراة، وهي: المجادلة والمكابرة، ولهذا عُدِّي هذا الفعل بـ (على)، وهي على بابها وليست بمعنى: (عن) كما قاله المبرد؛ لأن المماراة هنا فيها معنى المجادلة والمكابرة.
ومن قرأ: ((أَفَتَمْرُونَهُ)) فمعناها: أفتجحدونه؟.(146/17)
تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى الكبرى)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13 - 18].
قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، أي: مرة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية التالية هذه بنفي الريبة والشك عنها أيضاً، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه، فهذا تأكيد للرؤيتين كلتيهما.
وقوله: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)، أي: موضع الانتهاء، فالمنتهى اسم مكان أو مصدر ميمي، وقد جاء في الصحيح: (أنها شجرة نبْق في السماء السابعة إليها ينتهي ما يُعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها، وما يهبط به من فوقها فيقبض منها)، ولعلها شبهت بالسدرة، كما قال القاضي، لأنهم يجتمعون في ظلها.
يعني: أن شجر النبْق يجتمع الناس في ظله، وهذه الشجرة أيضاً يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت سدرة لذلك، والله تعالى أعلم.
لكن ورد في الحديث: (أن كل نبْقة فيها كقلة من قلال هجر)، فهي على هذا حقيقةٌ، وهو الأظهر.
ولا شك أنها حقيقة؛ لأن الحديث صحيح، وكان الأولى بـ القاسمي رحمه الله أن ينزه تفسيره من ذكر حكايات بعض العلماء الذين يزعمون المجاز في مثل هذه الأشياء؛ فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وصف سدرة المنتهى بأن كل نبَقة فيها كقلة من قلال هجر، فهذا يرفع أي احتمال للمجاز كما يزعمون.
(عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)، أي: التي تأوي إليها أرواح المقربين.
وقوله: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)، أي: من جلال الله وعظمته، ومعناه: أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها.
(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، هذا تنزيه لبصره صلى الله عليه وسلم، أي أنه ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه.
((وَمَا طَغَى))، يعني: ما تجاوز مرئيه المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته.
(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) في هذا إشارة إلى أنه رأى الكبرى من آيات الله، وهو جبريل عليه السلام، أي: رأى الملك الذي عاينه وأخبره برسالته، وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبرى، ويحتمل أن تكون ((الكبرى)) صفة لآيات في قوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ) أي: الآيات التي هي الكبرى، وعلى هذا يكون المرئي محذوفاً.
يعني: إذا قلنا إن (الكبرى) المقصود بها جبريل، فتكون هي المفعول به؛ لكن إذا قلنا: إن (الكبرى) صفة لـ (آيات)، ففي هذه الحالة يكون المفعول به محذوفاً، وحُذف لتفخيم الأمر وتعظيمه، وكأنه قال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أموراً عظاماً لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.(146/18)
كلام ابن القيم على أوائل سورة النجم
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه عن رؤيته لجبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى.
فالمرة الأولى: كانت دون السماء: ((بِالأُفُقِ الأَعْلَى)).
والثانية: كانت فوق السماء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى).
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: كما في الصحيحين عن زر بن حبيش رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، فقال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح).
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] قال: (رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح)، وقال البخاري عنه: (أي: رأى رفرفاً أخضر يسد الأفق).
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة.
والتقدير على رأي ابن مسعود: ((فَأَوْحَى)) أي: جبريل، ((إِلَى عَبْدِهِ)) أي: إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرى أن الذي ((دَنَا فَتَدَلَّى)) هو جبريل، وأنه هو أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله؛ أوحى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إلى جبريل.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) قال: رأى جبريل عليه السلام.
وفي صحيحه أيضاً عن مسروق قال: (كنت متكئاً عند عائشة رضي الله عنها فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعذليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]، وقال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض.
ثم قالت: أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]؟ أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولَاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]؟ قالت: ومن زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]).
وفي الصحيحين عن مسروق أيضاً قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله! لقد قف شعري مما قلتَ.
وفيهما أيضاً قال: قلت لـ عائشة: فأين قول الله عز وجل: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]؟ قالت: (إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق).
وفي صحيح مسلم أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور، أنى أراه؟!).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وهذا الحديث ساقه مسلم بعد حديث أبي ذر المتقدم، وهو كالتفسير له.
فالحجاب هو النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحجاب قابل لأن يكشف، كما سنبين.
ولا ينافي هذا قوله في حديث الصحيح -حديث الرؤية يوم القيامة-: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه)، فإن النور الذي هو حجاب الرب تبارك وتعالى يراد به الحجاب الأدنى إليه، وهو لو كشف لم يقم له شيء، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] قال: (ذاك نوره الذي هو نوره -يعني: الذي هو نور الله- إذا تجلى به لم يقم له شيء).
وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخره؛ لكن هل يلزم من نفي الإدراك نفي الرؤية؟
الجواب
لا يلزم من ذلك أن الله لا يُرى، بل يُرى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك.
يعني: لا يُحاط بالله أبداً، وإنما يُرى بالأبصار، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وأبصارنا لا تقوم بإدراك الشمس على ما هي عليه؛ فهل نستطيع نحن أن نحدق في الشمس وننظر إلى قرص الشمس في وقت الضحى مثلاً ونحملق فيه؟
الجواب
لا، بل لو حصل ذلك قد يعمى الإنسان، فإذا كانت الشمس وهي مخلوقة لا نستطيع أن ندركها على ما هي عليه بأعيننا مع القرب الذي بين المخلوق والمخلوق، فالتفاوت الذي بين الخلائق وذات الرب جل جلاله أعظم وأعظم، ولهذا لما حصل للجبل أدنى شيء من تجلي الرب ساخ الجبل واندك بسبحات ذلك القدر من التجلي، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَاً} [الأعراف:143].
وفي الحديث الصحيح المرفوع: (جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، فهذا يدل على أن رداء الكبرياء على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات، ولا يمنع من أصل الرؤية، فإن الكبرياء والعظمة أمر لازم لذاته تعالى، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينهم وبينه فهو الحجاب المخلوق، وليس هو نور الله عز وجل؛ لأن نور الله لا يزول أبداً، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينه وبينهم فهو الحجاب المخلوق، وأما أنوار الذات التي يحجب عن إدراكها، فذاك صفة للذات لا تفارق ذات الرب جل جلاله، ولو كشف ذلك الحجاب الذي هو من نور الله لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمصدق الموقن، وأما المعطل الجهمي فكل هذا عنده باطل ومحال.
والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل عليه السلام، فقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] أي: جبريل {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] * ((فَأَوْحَى)) أي: فأوحى الله، ((إِلَى عَبْدِهِ)) يعني: إلى عبده محمد عليه السلام، والمفهوم: أن الوحي إنما يكون بواسطة جبريل، أو ((فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ)) يعني: أوحى بواسطة جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ((مَا أَوْحَى)).
وأما قول ابن عباس: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين) فالظاهر أن مستنده هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وقد تبين أن المرئي فيها جبريل، فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي الإجماع على ما قالته عائشة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فقال في نقضه على بشر المريسي الكلام على حديث ثوبان ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي البارحة في أحسن صورة)، فحكى تأويل المريسي الباطل، ثم قال: ويلك! إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبتَ إليه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: (إنه لم ير ربه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وأجمع المسلمون على ذلك، مع قول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعنون: أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤية كانت في المنام.
يعني: أن حديث ثوبان ومعاذ كانت رؤيا منام(146/19)
أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه
ثم قال الله تبارك وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]: قال ابن عباس: (ما زاغ البصر يميناً ولا شمالاً، ولا جاوز ما أُمر به)، وعلى هذا المفسرون، فنفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين يدي الملوك والعظماء من التفاته يميناً وشمالاً، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة، إذ لم يلتفت جانباً، ولم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات وما هناك من العجائب، بل قام مقام العقل الذي أوجب أدبُه إطراقَه وإقبالَه على ما رأى دون التفاته إلى غيره، ودون تطلعه إلى ما لم يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال.
وزيغ البصر: التفاته جانباً.
وطغيانه: مده أمامه إلى حيث ينتهي.
فنزه في هذه السورة علمه عن الضلال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، ونزه عمله عن الغي، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] ونطقه عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، ونزه فؤاده عن تكذيب بصره: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، ونزه بصره عن الزيغ والطغيان: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وهكذا يكون المدح: تلك المكارم لا قعبان من لبن شبن بماء فعادت بعد أبوالا(146/20)
أنواع الاستطراد في القرآن الكريم
ولما ذكر رؤيته لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد، وذكر أن جنة المأوى عندها، وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى، وهذا من أحسن الاستطراد، وهو أسلوب لطيف جداً في القرآن الكريم, والاستطراد في القرآن الكريم يأتي على نوعين: أحدهما: أن يستطرد من الشيء إلى لازمه، مثل هذه الآية.
فالسياق أساساً في الكلام على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل، قال تبارك وتعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] إلى أن قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وهذا كله في إثبات رؤية جبريل، ثم قال: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14]، هذا هو الموضع الذي رآه فيه، ثم استطرد القرآن الكريم إلى شيء من التفصيل عن سدرة المنتهى، وهذا من الاستطراد الذي يكون أحسن ما يكون وأفخم ما يكون وأبدع ما يكون، فحينما ذكر سدرة المنتهى استطرد في وصفها وأحوالها: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:15 - 16].
ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، ثم استطرد من جوابهم إلى قوله تبارك وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتَاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:10 - 13] إلى آخر الآيات، فهذا ليس من جوابهم؛ ولكنه تقرير له وإقامة للحجة عليهم.
فهل الكفار لما يوجه إليهم
السؤال
(( مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) هل هم يقولون: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً} [الزخرف:9 - 10]؟
الجواب
لا، بل انتهى جوابهم عند: ((خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))، فاستطرد القرآن الكريم من هذا إلى ما يلزم منه، وهو ذكر صفات الله تبارك وتعالى وأفعاله.
ومن ذلك أيضاً -من هذا النوع من الاستطراد-: قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:49 - 52] فهذا جواب موسى، ثم استطرد سبحانه وتعالى من جواب موسى فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجَاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:53 - 55]، ثم عاد إلى الكلام الذي استطرد منه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56] إلخ.
النوع الثاني: أن يحصل استطراد من الشخص إلى النوع، كقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:12 - 13] فـ (الهاء) في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} تعود إلى الإنسان.
فهنا استطرد، فـ (الهاء) لا تعود على المذكور من في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ} [المؤمنون:12]؛ لأن الإنسان هنا هو آدم عليه السلام.
فقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)، الذي خلق من طين هو آدم فقط، وقوله: ((ثُمَّ جَعَلْنَاهُ)) المقصود هنا من بعد آدم عليه السلام، وهذا استطراد من الشخص الذي هو آدم إلى النوع الإنساني بعد آدم وهو سائر البشر.
ومن هذا النوع من الاستطراد أيضاً: قول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:189 - 191]، فسياق آخر الآيات في المشركين، وليس في آدم وحواء، فآدم نبي، وحواء كانت مسلمة، فإذا أحسنا فهم القرآن لم نقع في الاشتباه الذي يقع من بعض الناس، حتى إن بعض المفسرين زعموا أن المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كانت حواء -فيما يزعمون ولم يصح- كلما رزقت بولد لا يعيش، فأتاها الشيطان وقال لها: لو أردته أن يعيش فسميه عبد الحارث، فلما رزقت بولد سمته عبد الحارث، والحارث شيطان، فلذلك قالوا: إن هذا هو المقصود بقوله تعالى: ((جَعَلاَ)) أي: جعلا -أي: آدم وحواء - (لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، وهذا السياق لا يمكن أن يكون في آدم وهو نبي معصوم، ولا في حواء وهي أول مسلمة على وجه الأرض، وإنما الصحيح أن هذا نوع من الاستطراد في القرآن الكريم، وهو استطراد من الشخص إلى النوع، وذلك في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} [المؤمنون:12 - 13] وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [السجدة:8] لكن هنا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} فـ (الهاء) لا تعود على آدم، إنما هذا استطراد في نوع آدم، وهم بنوه.
أما هذه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) لأن حواء خلقت من آدم (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ)؛ لأن الحمل في البداية يكون خفيفاً؛ ولذلك تستطيع أن تتنقل وتروح وتجيء بلا عبء ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)) معناه: فرغت من الوضع (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) هنا السياق بدأ ينتقل استطراداً من الشخص إلى النوع، وأما الكلام عن آدم وحواء فقد انتهى، وصار الكلام هنا عن المشركين من ذريتهما، ولا بد أن تفهم الآية على هذا النحو.
وعلى هذا فقوله: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً)) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، هذا هو معنى الآية، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف:11]، يعني: بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنه أصلكم، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11] فخاطبنا نحن وإن كان المقصود آدم لأنه أصل الذرية، فكذلك هنا في قوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: جعل كثير من ذرية آدم وحواء بعد ذلك شركاء فيما آتاهما، فهنا استطرد من ذكر الأبوين إلى ذكر المشركين من أولادهما، والدليل: قوله تعالى -مباشرة بعد هذه الآية-: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) * (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، فهذا نص صريح بأن المراد المشركون من بني آدم.
والله أعلم.(146/21)
تفسير سورة النجم [19 - 41](147/1)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20].
سبق تفسير قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13 - 18].
ثم قال تبارك وتعالى منكراً على المشركين عبادتهم الأوثان واتخاذهم لها البيوت مضاهاةً للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده لا شريك له: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20].
قال ابن كثير: اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت في الطائف له أستار وسدنة -يعني خادماً- وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها -أي: باللات- على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تبارك وتعالى فقالوا: اللات، يعنون مؤنثة من لفظه تعالى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
أي: زعم المشركون أن اللات -والعياذ بالله- مؤنث لفظة الجلالة (الله)، فهذا من افترائهم الذي نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى، كما قالوا: عمرو وعمرة، فكذلك قالوا: الله، فزعموا أن اسم اللات مؤنث لفظ الجلالة.
وقال الزمخشري: هي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون بالعبادة أو يلتوون عليها، يعني: يطوفون بها.
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى} [النجم:20]-بتشديد التاء- وفسروه بأنه كان رجلاً يلتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، يعني: يعد للحجاج هذا الطعام ويقدمه لهم، والسويق طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، سمي سويقاً لانسياقه في الحلق، ويقال: لتَّ السويق، يعني: خلطه بسمن وغيره، ويقال: لتَّ العجين، يعني: بلَّه بشيء من الماء، ومن كلام العرب: فلان يلُتُّ ويعجن، يعني: إذا كان ثرثاراً يبدئ ويعيد فيما يقول.
فإذاً: من قرأ (اللَّاتَّ) بتشديد التاء فسره بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه.
وَالْعُزَّى: هي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.
قال ابن جرير: اشتقوا اسمها من اسمه تعالى: العزيز.
وقال الزمخشري: أصلها تأنيث الأعز.
وقوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} هي: صخرة كانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه.
وقال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: اللات والعزة ومناة الثالثة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص الله عليها في كتابه العزيز؛ وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أكثر من غيرها.
وقال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجَّاب، ويُهدى لها كما يُهدى للكعبة، وتطوف بها -أي: العرب- كطوافها بالكعبة، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجَّابها من بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً وأمره بهدم العزى فهدمها رضي الله تعالى عنه، وجعل يقول: يا عزى كفرانكِ لا سبحانكِ إني رأيت الله قد أهانكِ وروى النسائي عن أبي الطفيل قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات -شجر السَّمُر المعروف- فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان مبنياً عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئاً، فرجع خالد فلما أبصرته السندة -وهم حجبتها- أمعنوا في الحيل، وهم يقولون: يا عزى! -أي: يستغيثون بها كي تنقذ نفسها من أن يحطمها خالد أو يقتلها- فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى).
فإن صح هذا فإنه يبين أن من الشياطين من يكون في هذه التماثيل وهذه المعبودات من دون الله سبحانه وتعالى، وقد يتكلم بكلام أو يفعل أشياء ليزيد فتنة الذين يعبدون هذه الأصنام، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولذلك كان من الشعر الذي قيل في هذا الموقف: قول بعض السدنة لها: أعزى إن لم تقتلي المرء خالداً فموتي بإثم عاجل أو تنصري فأقبل خالد وجعل يهدمها وهو يقول: يا عزى كفرانكِ لا سبحانكِ إني رأيت الله قد أهانكِ قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجَّابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها، وجعلا مكانها مسجداً بالطائف.
وقال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها، ويقال: علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.(147/2)
تفسير قوله تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى)
قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:21].
قال الزمخشري: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى مع وأدهم البنات أي أن قول الله سبحانه وتعالى لهم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} يعني: أنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وأن هذه الأصنام بنات الله، فلذلك كانوا أحياناً يئدون البنات لشدة بغض البنات، ويقولون: نحن نلحقهن ببنات الله، كي ينتقلن إلى جوار الملائكة؛ لأن هؤلاء بنات والملائكة بنات الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى)، يعني: أنتم تبغضون البنات -وحالهم في ذلك معروف- ومع ذلك رضيتم أن تنسبوا إلى الله سبحانه وتعالى أسوأ الحظين في نظركم! وإلا فإن بغض البنات جاهلية بغيضة، وليس من الإسلام على الإطلاق بغض البنات، وإنما هو من خصال أهل الجاهلية.
ويجوز أن يُراد أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمونهن آلهة؟!.
وفي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] (أرأيت) اسم فعل أمر بمعنى: أخبرني، واختلف العلماء في فعل الرؤية في قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ) هل هو الرؤية البصرية أم أنها الرؤية العلمية؟ وكأن أصل التركيب: ألكم الذكر وله هن، أي: تلك الأصنام؟ وإنما أوثر هذا الاسم في قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} لوقوعه رأس فاصلة، أي: لأنه في فاصلة الآية.(147/3)
تفسير قوله تعالى: (تلك إذاً قسمة ضيزى)
قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ إِذَاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22].
(تلك) إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]، فهذا يفهم منه أن هناك قسمة هم قسموها، حيث جعلوا لهم الذكر وله الأنثى، فهذه القسمة فهمت من الجملة الاسمية.
(قِسْمَةٌ ضِيزَى)، أي: قسمة جائرة غير مستوية، ناقصة غير تامة؛ لأنكم جعلتم لربكم من الولد والند ما تكرهون لأنفسكم وآثرتم أنفسكم بما ترضونه.
وقال ابن جرير: والعرب تقول: ضِزْتُه حقَّه، بكسر الضاد، وضُزْتُه بضمها، فأنا أضيزه وأضوزه، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته.(147/4)
تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)
قال تبارك وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
(إِنْ هِيَ إلا أسماء) يعني: هذه الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لها ليس لها من الألوهية إلا الأسماء المزعومة فقط؛ لكن ليس لها أي نصيب من الألوهية، فهي اسم بلا مسمى.
قال الشهاب: والمراد من قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا}، يعني: لا نصيب لها أصلاً ولا وجه لتسميتها بذلك، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة، فهو من نفي الشيء بإثباته.
أي: وإن كان ظاهر الآية إثبات أنها أسماء، لكن المقصود نفي حقيقتها، يعني: لولا أنكم أسميتموها آلهة -مع أنها لا حظ لها من الألوهية على الإطلاق، لما كانت شيئاً على الإطلاق، وإنما هي مجرد أسماء فقط أنتم زعمتومها، فهذا ادعاء محض لا طائل تحته.
(أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)، يعني: سميتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى أهوائكم وتقليد التابع للمتبوع وبدون وحي إلهي.
(مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)، أي: من برهان يتعلق به.
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، يعني: إلا توهماً أن ما هم عليه حق.
(وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)، أي: ما تشتهيه أنفسهم.
قال ابن جرير: لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله تبارك وتعالى، ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم.
ولذلك قلنا مراراً: دائماً يأتي الهوى والوحي متفاصلين، فالهوى ضد الوحي، والإنسان إما أن يتبع الهوى وإما أن يتبع الوحي الإلهي، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم أشرنا إليها مراراً، منها الآية التي في صدر السورة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] يعني: للوحي {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقوله سبحانه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] أي: بالوحي {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، ومنها أيضاً قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} وهذا هو الهوى {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وهو: الوحي، فالهوى يأتي في مقابلة الوحي، وعبر عن الوحي هنا بالمعنى.
فهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم عن الله ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه.
(وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، أي: الدليل الواضح والبيان بالوحي أن عبادتها لا تنبغي، وأنه لا تصلح العبادة إلا لله تعالى وحده.
وقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، هذا تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس وزيادة تقبيح لحالهم، فإن اتباعهما من أي شخص كان قبيح، وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول وإنزال الكتب أقبح.
يعني: هم بنزول الوحي وبدون إعراض عن الوحي مذمومون مقبحون بالافتراء على الله سبحانه وتعالى واتخاذ ألأصنام أنداداً من دون الله عز وجل، فما بالك وقد قامت الحجة عليهم؟! (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، يعني: مع أنه قد جاءهم من ربهم الهدى، ومع أن الوحي نزل والرسول أرسل وبعث ودعاهم إلى توحيد الله أعرضوا، فلا شك أن هذا يكون أقبح.
قال السيوطي في (الإكيل): استُدل بقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ) إلخ، على أن اللغات توقيفية، ووجهه: أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف لما صح هذا الذم؛ لكون الكل اصطلاحاً منهم.
واستُدل بقوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) إلخ، على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقاً -يعني: سواء في العقائد أو في الأمور العملية الفقهية العبادية - واستدلوا به أيضاً على إبطال القياس، ولهم في ذلك وجه معروف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر رضي الله عنه قال: (احذروا هذا الرأي على الدين، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً؛ لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً).(147/5)
تفسير قوله تعالى: (أم للإنسان ما تمنى)
يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24].
يعني: ليس له ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد وتعنته في دفاع اليقين بالظن وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيده ولا علم يزعه، فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم.
فهذه الآية كقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123]، وأماني أهل الكتاب مثلاً كقول اليهود لعنهم الله: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً) [البقرة:80]، فيغرون أنفسهم ويخدعون أنفسهم بهذه الأماني، أو قول النصارى مثلاً: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، وقول اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، أو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فكذلك ليس للإنسان ما يشتهيه من الأمور، فالأمور لا تأتي بمجرد التشهِّي أو التمنِّي.
فهؤلاء المشركون يخدعون أنفسهم بالأماني الكاذبة، فمن هذه الأماني أنهم مع شركهم بالله واتخاذهم الأنداد يرجون أن تنفعهم هذه العبادة للأنداد، وأنها سوف تشفع لهم عند الله تبارك وتعالى، فينساقون وراء أهوائهم وضلالهم، ويرفضون ويتأذون أن يُقادوا بقيود الشرع الشريف والوحي الإلهي، فهذا من المحالات في نظر العقل السليم، فالإنسان ينساق وراء الهوى، ثم يمني نفسه بأنه ناجٍ، وأنه كذا، كما يفعل كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام ممن يكثرون من قولهم: يا بَخْتِنا بالنبي! وهم في أحوالهم وأوضاعهم وتضييع الصلاة وتلبسهم بالشركيات على حال لا يخفى، أو من يعبدون الموتى والأضرحة ويذبحون لها وينذرون ويطوفون بها، ويمنون أنفسهم أن هذا نافعهم عند الله، ويقولون نفس حجة المشركين: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، يقولون لك: نحن لا نعبدهم، وإنما هؤلاء فقط نفوسهم طاهرة، وهم ناس صالحون، فهم وسائط عند الله سبحانه وتعالى! وهذه هي نفس حجة المشركين فيما مضى، فلا شك أن الحجة أقوم على من أتاه الوحي، كما قال تعالى هنا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، ولذلك قال بعض العلماء: إن هذه الجملة حالية من قوله (يَتَّبِعُونَ)، يعني: يتبعون والحال أنه قد ((جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)) ومع ذلك يعرضون عن الهدى ويتبعون أهواءهم.(147/6)
تفسير قوله تعالى: (فلله الآخرة والأولى)
قال تعالى: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} [النجم:25].
أي: فمصير الأمر في الآخرة والأولى لله تبارك وتعالى لا للإنسان.
فانظر إلى الربط بين هذه الآية وما بعدها، فقوله: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24] أي: هل للإنسان الذي يظل يتمنى الأماني ويستمتع بأن يفترض ويتخيل ويمني نفسه بالأماني، هل له ما تمنى؟
الجواب
لا، لا ينال الإنسان الأمور بالأماني، بل لابد من العمل، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}، يعني: مصير الأمر في الدنيا وفي الآخرة بيد الله تبارك وتعالى، وليس للإنسان من الأمر شيء، ولن تسير الأمور حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء؛ لأن الله سبحانه وتعالى لن يتبع أهواهم، ولن يتبع أمانيهم، كما قال عز وجل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب قطعاً للمعاذير، وإقامة للحجة على هؤلاء الناس، وقد جاءتهم الحجة، ولذا قال: ((وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)).
ونبه الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير، فمن أراد الحق مخلصاً يصل إليه، ويوفقه الله إلى هذا الحق، ولن يجد شيئاً يكبله ويحول دونه ودون الانقياد لهذا الحق.(147/7)
تفسير قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا يغني من الحق شيئاً)
قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:26 - 28].
ثم يقول تبارك وتعالى توبيخاً لعبدة الأوثان، وإقناطاً لهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ)) وكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إذا كانت الملائكة المكرمون الأطهار المعصومون لا يمكن أن يشفعوا عند الله إلا بإذن من الله، فكيف ستشفع لكم هذه الأحجار وهذه الأصنام عند الله تبارك وتعالى؟! فالملائكة كائنات حية عاقلة مبرأة من السوء ومن الإثم ومنقادة لأمر الله سبحانه وتعالى.
ثم أشار تعالى إلى طغيان آخر للمشركين، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} يعني: تسمية الإناث، وذلك أنهم كانوا يقولون على الملائكة: هم بنات الله، فالأنثى هنا بمعنى: الإناث؛ لأنه اسم جنس يتناول الكثير والقليل.
وقيل في المعنى: تسمية الطائفة الأنثى، فلهذا أفردت.
وقيل: منصوب بنزع الخافض على التشبيه، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية.
وقيل: أفرد لرعاية الفاصلة.
وقيل: الملائكة بمعنى: استغراق المفرد، على أساس أن (ال) هنا للاستغراق في (الملائكة)، يعني: أنهم يسمون كل واحد منهم بنتاً، وهي تسمية الأنثى، على وزن: كسانا الأمير حلة، يعني: كسا كل واحد منا حلة، وهنا أفردت لعدم اللبس.
ونلاحظ أن الله تبارك وتعالى علق هذا الأمر على عدم الإيمان بالآخرة، وفي هذا إشعار بالشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً، يعني: لا يطاوع إنساناً قلبه أن يتفوه بهذا الزعم -وهو أن الملائكة بنات الله- إلا من كان كافراً بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمن أصلاً بالآخرة، ولذلك علقها الله تبارك وتعالى على عدم الإيمان بالآخرة، وبين أنه لا يطاوع امرءاً قلبه على أن يتفوه بهذا الكلام إلا كافر موغر في الكفر والإلحاد مكذب باليوم الآخر.
(وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، أي: ليس عندهم أثارة من علم على صحة ما يزعمونه وينسبونه إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نفى عنهم العلم، وأثبت لهم اتباع الظن، فقال: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئَاً).
(وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) يعني: لا يقوم مقام الحق، ولا يصلح بديلاً عن الحق، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما تُدرك إدراكاً معتداً به إذا كان عن يقين، لا عن ظن وتوهم.(147/8)
تفسير قوله تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا)
يقول تبارك وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29].
يعني: من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها لقَصْر نظرهم على المحسوسات؛ لأن هؤلاء الكفار لا يريدون الآخرة، وهم يعرضون عن ذكر الله، وما يريدون إلا الحياة الدنيا، ولا شك أن هذا واقع نلمسه في حياة الكفار أجمعين، إذ ليس لهم همٌّ إلا شهواتهم، وما يعمرون به هذه الحياة الدنيا.
وكان في هذه الآية وحدها أعظم ما يقنع هؤلاء الذين ينبهرون بالكفار والملاحدة من الشرق والغرب، ويغترون بما هم عليه، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، فكيف ننقاد ونتْبع هؤلاء حذو القذة بالقذة ونحن أهل التوحيد، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعناهم؟! فحصل من الناس الآن افتتان شديد جداً بما عليه الكفار، في حين أن الكفار ليس عندهم إلا الدنيا بغدرها وبمفاسدها ونحو ذلك، فهذه الآية تكفي في نهي المسلمين عن الانسياق وراء الكفار ووراء مذاهبهم ومناهجهم، وكأنهم لم يسمعوا بقرآن ولا بسنة! وكأنهم لا يعتزون بدينهم وهويتهم الإسلامية! (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)، في هذا أمر لنا بالإعراض عنهم، ولكن كثيراً من الناس الآن يلهثون وراءهم لهثاً، ويركضون وراءهم ركضاً، تقليداً لهم واتباعاً لشأنهم وبحثاً عن كل ما يرضيهم ويستجلب استحسانهم.
ويفهم من ذلك أن كل من تولى عن ذكر الله عز وجل لا يُتخذ صاحباً، ولا يُتخذ أسوة ولا قدوة، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَاً} [الكهف:28]، وقال الله عز وجل أيضاً لموسى عليه السلام: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، أي: تهلك مع هذا الهالك، فهؤلاء لا يصلحون أسوة، ولا يصلحون قدوة، ولكن مَن تبعهم قادوه إلى النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها).
وفي هذه الآية غاية المذمة لمن جمع بين هذين الأمرين: لم يعش إلا للدنيا، وأعرض تماماً عن الآخرة، وأعرض أيضاً عن ذكر الله تبارك وتعالى.
وقد فهِم الزمخشري فهماً باطلاً من هذه الآية الكريمة؛ فزعم أن معنى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يعني: أعرض عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
والصحيح: أن المقصود من الإعراض هنا هجرهم هجراً جميلاً، وترْك إيذائهم، ولا تعني الآية بحال من الأحوال أمره بأن يكف عن دعوة هؤلاء المعرضين، لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه على الإطلاق، لا سيما والدعوة للمعرضين، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة، فالله سبحانه وتعالى الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هو الذي قال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادَاً كَبِيرَاً} [الفرقان:52]، وهؤلاء نفس الكفار المعرضين، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد أعظم الاجتهاد في تبليغهم الدعوة ومحاجتهم ومناظرتهم وإقامة الحجة عليهم، ونحو ذلك.
فمعنى الآية: أعرض عن أذيتهم، واصفح عنهم، ودع أذاهم في مقابلة ما يجهلون عليك، مع الاستمرار في الدعوة، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.(147/9)
تفسير قوله تعالى: (ذلك مبلغهم من العلم)
((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) يعني: أمر الدنيا منتهى علمهم، فلا علم لهم فوقه، وما يريدون إلا الدنيا، وما يعلمون إلا الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريٍّ، جواظٍ، صخابٍ في الأسواق، جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة).
فهو يعلم أسماء لاعبي الكرة، وأسماء فرق الكرة في كل مكان في العالم، ومن هو الكابتن، وكم أحرز هدفاً! وإلى آخر هذا الكلام، حتى اللون الذي يحبه، والأكل الذي يحبه، والثياب التي يحبها، ويقلدونهم! ويعرف أسماء الممثلين والمطربين والفنانين، وكذا وكذا! ولا يعرف الأسئلة الثلاثة التي سوف يُسأل عنها أول ما يوضع في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فمع اجتهادهم وتسخيرهم العقول في كل ما يخدم الدنيا، لو صرفوا جزءاً يسيراً من عبادتهم وتبتلهم للدنيا لوجه الله سبحانه وتعالى لكانوا عباداً ورهباناً متبتلين؛ لكن انظر إلى اجتهادهم في الدنيا وتعظيمهم الدنيا، ومع ذلك يحاربون أهل الحق، ويريدون أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى، ويجتهدون في ذلك ليل نهار بكل الأساليب، سواءً بذبح المسلمين، أو إذلال المسلمين، أو تجويعهم وغير ذلك مما نلمسه من أعداء الله في مشارق الأرض ومغاربها، هذا مع أنهم على الباطل، ومع أنهم لا يتبعون إلا الظن، وما يتبعون إلا الأهواء، وأصبحوا مفلسين، وما عندهم شيء يقدمونه للبشرية، فليس لدى أمريكا وغيرها من أعداء الله ما يقدمونه لإصلاح البشرية، ما لديهم إلا الفساد والانحلال وتحطيم الخير في هذه الأرض ونشر الفساد فيها! فقوله تعالى: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)، يعني أن الدنيا هي المحطة النهائية عندهم، ولا يوجد عندهم خط ثانٍ بعد هذا، ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ))؛ لأن المكان المعين وصلوه، فلا يوجد بعده مكان آخر.
و (ذَلِكَ) الإشارة فيه إلى أمر الدنيا الذي ورد في آخر الآية السابقة: ((وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)).(147/10)
التحذير من تحريف النصوص الشرعية لخدمة الأمور الدنيوية
والعجيب أن من مظاهر غربة الإسلام: أن علم الدنيا صار أشرف في نظر كثير من الناس من علم الدين! وهذا بلاء عظيم جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام جعل من أشراط الساعة: (أن يقل العلم، ويظهر الجهل) أي: يقل العلم الشرعي الشريف ويظهر الجهل بالعلم الديني، كما هو الحال الآن! وللأسف، وإلا لو كان المقصود بالعلم -كما يزعمون- علوم الدنيا لانعكس الأمر الآن؛ لأن الظاهر أن الناس قد ظهر فيهم القلم، والناس تتعلم كثيراً جداً من علوم الدنيا، فهل يقال: إنه قد ظهر العلم في هذا الزمن، بمعنى: ظهر العلم الذي قصده النبي عليه السلام حينما جعل من علامات الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل؟!
الجواب
لا.
بل العلم المقصود به العلم الذي هو أشرف العلوم على الإطلاق وهو علم الدين، وأشرف علوم الدين هو علم التوحيد؛ لأن أي علم يُعرف شرفه بشرف معلومه، أي: المعلوم الذي تتعلمه من خلاله، فأشرف العلوم لا شك أنها علوم الدين.
فهناك محاولات مستميتة لتسخير النصوص الدينية التي تحث على الآخرة وتحث على العلم الشرعي لخدمة الدنيا، فهي عملية استخدامٍ للدين من الذين يريدون أن يحولوا الدين إلى خادم، والمفروض أن الدين مخدوم، ولو أن واحداً -مثلاً- أراد أن ينظف أسفل نعله فما لقي مكاناً ينظفه فيه إلا خده، فنظفه بخده! فهذا إنسان سفيه؛ لأنه قلَب الخادمَ مخدوماً، فالوجه شريف يُخدم، والنعل -وبالذات أسفل النعل- المفروض أنه خادم، فأنت تحوله إلى مخدوم والمخدوم إلى خادم! فاستعمال نصوص الشريعة لتلميع مفاهيم دنيوية يعتبر مضادة لشرع الله تبارك وتعالى، فمثلاً: يدخل في هذا الذين يتكلمون عن العمل وزيادة الإنتاج، ويستدلون بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]! صحيحٌ أن العمل من أجل الرزق أمر من الأمور التي حث الإسلام عليها؛ لكن هل هذا هو المقصود بقوله: (اعْمَلُوا) هنا؟! وهل هي تخاطب الشيوعيين والماركسيين والنصارى واليهود؟! فالآية تخاطب المسلمين المؤمنين، وقوله: (اعْمَلُوا)، يعني: اعملوا صالحاً، ((فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)).
فأشرف العلوم على الإطلاق هو علم الدين وعلوم الآخرة، فإذا نظرت إلى موضوعها أو إلى ثمرتها ستجدها هي التي تجلب للإنسان السعادة والفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً: يجب ربط الدين بالنصوص، فإن العلم هو أقوى مؤيدات الإسلام، حتى العلم الحديث هو من أقوى مؤيدات الإسلام؛ لكن تركوه من جهة أنهم نسوا الخالق وذكروا المخلوق، حتى سموا أماكن معينة في جسم الإنسان بأسماء الخواجات، وكأنهم هم خلقوها! مثال ذلك: ما يسمونه بقناة استاكس، فأنا مسلم وفي جسمي حاجة اسمها: قناة استاكس باسم واحد كافر! وهكذا ما يُسمى بجزر لانجرهانز التي في البنكرياس، وهكذا صار جسم الإنسان مثل الشوارع التي تسمى بأسماء الكفار! فالشاهد: إذا كان هذا من أجل أن واحداً اكتشف، فما بالك بمن خلق وصنع؟! فالعلم الآن في حالة من الجحود والنكران لفضل الله ونعمة الله تبارك وتعالى على البشرية.
من الذي خلقها؟! ولماذا لا ينسبونها إلى الله سبحانه وتعالى؟! ولماذا لا نقول: خلق الله في البذور قوة الإنبات، ورزقنا الله الماء كي تنبت البذور ويحصل كذا وكذا؟! وخلق الله الجمجمة وفيها من العظام كذا، وفيها ثقوب خلقها الله كي تمر من الأعصاب مثلاً، وكذا وكذا؟! ورتب كذا على كذا لأجل حماية كذا؟! فلماذا لا يُنسب الفضل لصانعه؟! ولماذا يمضي العلم بعيداً عن الله سبحانه وتعالى؟! وليس هذا فحسب، بل ربما أحياناً ينصب هذا العلم في تأييد مذاهب كفرية وإلحادية لا تقوم إلا على الظن وما تهوى الأنفس، وهي أبرأ ما تكون من العلم، كنظرية فرويد أو نظرية داروين أو غيرها من هذه النظريات التي سخرت لخدمة الإلحاد.
فالعلم الآن صار يُستعمل آلة لخدمة الإلحاد، مع أنه أقوى ناصر ومؤيد للإسلام، وأوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وهكذا في السنة النبوية الشريفة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها)، وشمل الحديث تقسيم الأرض إلى الأنواع الثلاثة المعروفة، فيفسرون الحديث لطلبة المدارس ويقولون لهم: أرض الطائفة الأولى التي حبست الماء وأنبتت العشب والكلأ الكثير فانتفع بها الناس هي هذه التكنولوجيا! فأصبح الحديث يفسر أن هذا حث على التكنولوجيا، وليس على العلم الشرعي.
والأرض الأخرى هي التي أمسكت الماء فقط.
والأرض الثالثة التي غورت الماء، وتركت الماء يذهب سدىً، لم يُحبس ولم يُنتفع به للزرع وغيره، فيقولون: هذا دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يسرف في استعمال الماء، ولابد من ترشيد استعمال المياه! وما علاقة هذا بذاك؟! هذا النوع بعيد جداً، صحيحٌ أن الإسرافَ محذور، لكن هذا الحديث لا يحثنا على التكنولوجيا، ولا يحثنا على ترشيد استعمال المياه، وليس هذا هو المقصود بالحديث، وإنما هذا تسطيح للمعاني الإسلامية الرفعية والعالية.
فهذه الآية: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) من أقوى ما يوضح أنهم توقفوا عند علوم الدنيا، أما أخطر قسم من العلوم وهو العلم الذي يترتب عليه خلود إلى الأبد في جنة أو في نار فلا خبر عندهم عن هذا العلم، ومن كان هذا أقصى معارفه فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله، فمثل هذا لا يستحق أنك ترد على جهله بجهل مثله، وإنما تصفح عنه، وتعرض عنه، فهذا هو المقصود من قوله: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا) يعني: أعرض عن أذيتهم، ولا تقابل سفاهتهم بمثلها، بل استمر في دعوتهم، ولا تلقِ بالاً للترهات والأذية والجهل ونحو ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريٍّ، جواظٍ)، الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع؛ يجمع المال ويبالغ في جمعه، ثم يمنع حقه من الصدقة والزكاة وغيرها.
وقوله: (صخابٍ في الأسواق)، أي: يرفع الصوت بالجلبة والصياح.
وقوله: (جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار)، يعني: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، ولا يصلي صلاة عشاء ولا فجر ولا غيرهما فضلاً عن النوافل، وأما في عمل الدنيا فهو كالحمار بالنهار، وطبعاً إذا رأينا هذا المثال في هذا الحديث يطرأ إلى أذهاننا الناس الذين يتفانون في خدمة الدنيا كاليابانيين؛ فإنهم يفنون تماماً أثناء الخدمة، وما عندهم خبر عن موضوع الآخرة أبداً، بل تراهم يعملون مظاهرات؛ لأن الحكومة لا تريد تشغيلهم في يوم إجازة، إذ كيف يتوقفون عن العمل؟! ولذلك تاتشر في يوم من الأيام عيرتهم في تصريحات رسمية فقالت: أنتم شعب كائن مثل النمل، فرد وزير الخارجية الياباني وقال لهم: وأنتم الأوربيون كائنون مثل الصراصير، فتبادلوا الاتهامات، فحتى الأوروبيون لم يعجبهم اليابانيون، ويقولون: أنتم تعيشون مثل النمل، يعني: ما وراءكم غير الشغل فقط، وسبحان الله! من ذهب إلى اليابان يرى الأماكن التي ينامون فيها مثل الصناديق، يعني: الغرف مثل الصناديق، كالجثة موضوعة في قبر أو صندوق أو كذا.
وقوله: (عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة)، أي: تعلم من العلوم كثيراً مما لا ينفعه، والجهل به لن يضره، وفي نفس الوقت أعرض عن ذكر الله، وأعرض عن القرآن، وأعرض عن أن يتدبر في الغاية من خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وكيف يجيب على هذا الامتحان الإجباري الذي سوف يُسأل عنه كل إنسان: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟)، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن كان هذا قصارى علمه، فما على الداعية إلا الصفح عنه، والصبر على جهله.
وقوله: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ) اسم مكان، وكأنه محل وقف فيه علمهم ادعاءً، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض، فقال تعالى: ((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ))، فهذا تعليل لقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، والسياق: ((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)) تعليل للإعراض؛ لكن جملة: ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) جملة اعتراضية، فقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ} يعني: أعرض؛ لأن {رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}، وإذا كان الله أعلم بالفريقين فلابد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلاً بما يقتضيه عمله.
والله سبحانه قدم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيْلِهِ} على قوله: ((بِمَنِ اهْتَدَى))؛ لأن هؤلاء الذين ضلوا هم المقصودون أساساً من الخطاب، وسياق الكلام في شأنهم.(147/11)
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
قوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، في هذا تنبيه على سعة ملكه عز وجل وعظمة قدرته، وأن ما فيهما في قبضته، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجرة، كما قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)، يعني: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.(147/12)
تفسير قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
ثم لما ذكر المحسنين وجزاءهم الذي هو المثوبة الحسنى بيَّن عز وجل صفات هؤلاء المحسنين، فقال عز وجل: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ) يعني: ما كبر الوعيد عليه من المناهي.
(وَالْفَوَاحِشَ)، يعني: ما فحش منها، والعطف: إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام.
وقوله: (إِلَّا اللَّمَمَ)، أي: إلا الصغائر من الذنوب.
ومثله أبو هريرة بالقبلة والغمزة والنظرة، فيما رواه ابن جرير.
وأصل معنى اللمم: ما قل قدره.
ومنه لمة الشَّعَر؛ لأنها دون الظفرة.
وقيل: معناه: الدنو من الشيء دون ارتكاب له.
والاستثناء في قوله سبحانه: (إِلَّا اللَّمَمَ) منقطع، بمعنى: (لكن).
واللمم أن يدنو الإنسان من الشيء؛ لكن لا يرتكبه، فهذا هو المقصود باللمم، يعني: إلا اللمم بما دون الكبائر والفواحش فإنه عفو، وهو أن يهم دون أن يفعل، وهو شيء أقل من الكبائر والفواحش، يدنو منه، ثم يعرض عن ذلك، فهذا يعفو الله سبحانه وتعالى عنه.
وقيل: إن الاستثناء في قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) متصل، والمراد: مطلق الذنوب.
وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلاً، وإن (إلا) صفة بمعنى غير.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أن معنى اللمم: ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها لهم حين أسلموا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: هو الرجل يلم بالفاحشة، ثم يتوب ولا يعود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تغفر اللهم تغفر جماً، وأي عبد لك ما ألما؟!).
وقال الحسن: اللمم أن يقع في الوقعة ثم ينتهي.
يعني: ولا يعود إليها.
وكل هذا مما يتناوله اللفظ الكريم، والأقوى في معناه هو الأول، يعني: الصغائر من الذنوب، ولذلك استُدل بالآيات على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، فاجتناب الكبائر هو في حد ذاته كفارة للصغائر، والدليل الأصلح لذلك قول الله تبارك وتعالى في جملة شرطية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31].
(إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي: واسعٌ عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم.
(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ)، قال ابن جرير: أي: أحدثكم منها؛ بخلق أبيكم آدم منها.
فقوله: (إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) الخطاب لنا والمقصود آدم عليه السلام، أي: إذ أنشأ أباكم آدم الذي هو أصلكم من الأرض.
(وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)، أي: حينما أو حيثما يصوركم في الأرحام، فالله سبحانه وتعالى عليم بكم أيضاً في هذه الحال.
(فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)، يعني: إذا كان الله سبحانه وتعالى عالم بكم حين أنشأ آدم من الأرض، وأعلم بكم (إذ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) فهو أعلم بكم فيما هو بعد ذلك، فقوله: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)، يعني: لا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي، والمراد به النهي عن الثناء تمدحاً أو رياءً، كالإنسان الذي يثني على نفسه، ويمدح نفسه، أو يرائي بإظهار العمل الصالح وإظهار أنه تقي، فهذه كلها من تزكية الأنفس، يعني: مدح النفس والثناء عليها، والتجمل للناس بغير ما هي عليه في الحقيقة.
(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)، أي: بمن اتقاه؛ فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه، وأصلح، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلَاً} [النساء:49].
وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! قطعت عنق صاحبك مراراً، إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك)، يعني: تمدحه بما فيه، وتعلقه على هذا اللفظ: (أحسبه كذلك)، ولا تقطع ولاتجزم؛ لأن الله هو أعلم بحقيقة هذا الإنسان، وهو المطلع على قلبه، فلا ينبغي للإنسان أن يجازف في المديح؛ لأن ذلك يكون فتنة لمن يمدحه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُحثى التراب في وجوه المداحين.
ويدخل في تزكية الأنفس المنهي عنه في مثل هذه الآية: أن يُسمى الإنسان باسمٍ فيه تزكية، كما كانت زينب تُسمى برة، من البر، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها إلى زينب، وقال: (الله أعلم بأهل البر منكم)، فينبغي للإنسان أن يتجنب التسميات التي يكون فيها مثل هذا المديح، ولذلك كان الإمام النووي رحمه الله تعالى يُلقب محيي الدين، فكان يقول: لا أجعل في حل -يعني: لا أسامح- من سماني محيي الدين.(147/13)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى ألا تزروازرة وزر أخرى)
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:33 - 38].
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم:33]، يعني: تولى عن الذكر بعد إذ جاءه، كما قال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32].
{وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} أي: قطع العطاء بخلاً وشحاً.
((أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى))، يعني: حتى يراه؟! وحتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز؟! {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36 - 37]، أي: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124].
ثم قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تؤاخَذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس آثمة فإن إثمها عليها، وهذا كان في صحف إبراهيم عليه السلام، وأيضاً في صحف موسى.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: إنما عنى بقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة.
يعني: كما رُوي أن الوليد بن المغيرة همَّ بالدخول في الإسلام، فأتاه رجل من المشركين عيَّره بذلك وقال: كيف تدخل في الإسلام، وتضل عن دين آبائك وأجدادك؟! ثم ضمن له هذا الرجل المعيِّر أنك إن أعرضت عن الإسلام وأعطيتني من المال كذا وكذا أضمن لك ألا تعذب في الآخرة.
يعني: مثل نظرية (صكوك الغفران).
فقالوا: إن هذا السياق في هذه الآيات هو في هذا الشخص، فقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} [النجم:33 - 34]، أي: حيث أعطاه بعض المال الذي وعده به.
قال ابن جرير: قيل: إن المقصود هو هذا الرجل الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، يقول: ألم يخبر قائل هذا القول وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها.(147/14)
تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الجزاء الأوفى)
قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41].
{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
أي: وأنه لا يُجازى عامل إلا بعمله خيراً كان أو شراً، وظاهر السياق يُشعر بلزوم الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً، ولذلك فمفهومها الشمولي جلي.
واستُدل بهذه الآية على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحي والميت، يعني: لا يصح أن ينوب أحد عن أحد في صلاة ونحوها.
واستدل به الشافعي على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
وقال ابن كثير: ومن هذه الآيات الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إليها، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إلى ذلك بنص ولا إيماء.
يعني: أن ثمة سنة تركية، فالشيء قد يكون مقتضاه موجوداً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالبلاغ، وأي شيء له علاقه بالدين يقربنا وينفعنا عند الله ويبعدنا من النار أمر به النبي، وما كتم شيئاً؛ فهو مأمور بالتبليغ، ومعصوم من الكتمان، وهل الموتى من المسلمين في حاجة إلى إحسان أقاربهم أو إخوانهم إليهم بقراءة القرآن ثم إهداء الثواب، أم ليسوا في حاجة إلى هذا؟ فالناس محتاجون إلى أن يقرءوا القرآن ويهدوا ثوابه إلى الموتى، فالزمان كان زمان تشريع، والرسول عليه السلام مأمور بالتبليغ، والوحي ينزل عليه، والداعي المقتضي موجود، والمانع مفقود، أي لا يوجد مانع يمنعهم من أن يشرع لهم ذلك، ومع ذلك لم يشرعه.
فإذاً: السنة في هذا أن نترك ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المقتضي كان موجوداً، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه، فدل على أنه ليس من الدين.
إذاً: من تعبد ببدعة فهو يرهق نفسه بما لا طائل من ورائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
هذا أنموذج من المسائل التي فيها مثل هذا الكلام، وهو موضوع قراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الموتى، لكن يُستثنى من هذا الابن مع أبيه، كما ذكر ذلك العلامة الألباني رحمه الله تعالى في كتابه المبارك: (أحكام الجنائز) فقال: يُستثنى الابن فقط، الابن يقرأ ويهدي الثواب لأبيه؛ لأن الابن من كسب أبيه.
بل بعض العلماء يقول: إن الابن أصلاً لا يحتاج حتى لإهداء الثواب؛ لأن كل ما يعمله الابن من العمل الصالح يجازى الأب بمثله، وكل ما يعمله الابن من العمل يصل ثوابه إلى ميزان أعمال الأب؛ لأن الابن من سعي أبيه، فهو الذي تسبب في وجوده في هذه الدنيا.
فهذا كما يقول ابن كثير: ومن هذه الآيات الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله تعالى ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم يُنقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص -وإلا يُفتح باب الابتداع في الدين على مصراعيه- ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذلك مُجمَع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
فالأدلة أتت بأن الدعاء ينفع الموتى، والصدقة تنفع الموتى، وبعض العبادات تنفع الموتى، كالحج ونحو ذلك.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم يُنتفع به)، فهذه الثلاث-في الحقيقة- هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: (إن أطيب ما أكل الرجل من كده، وإن ولده من كده)، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، فقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
قال الرازي: المراد من الآية: بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل.
ونقول: المشهور أنها لكل عمل؛ فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، أي أن قوله هنا: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، يعني: إلا سعيه وكسبه.
و (ما) هنا مصدرية.
فبعض العلماء يقول إنها تعم.
وبعضهم يقولون: إنما تعني الأعمال الصالحة.
يقول الرازي: والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه (اللام) في قوله تعالى: ((لِلإِنسَانِ))، فإن (اللام) لعَود المنافع، و (على) لعَود المضار، تقول: هذا له، وهذا عليه، وتقول: هذا يشهد له، وهذا يشهد عليه، في المنافع والمضار.
وأيضاً مما يقوي هذا المذهب: قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:41] فهذا قطع بأن هذا الفعل سوف يُجزى عليه الإنسان الجزاء الأوفى، والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، أما في حالة السيئة فإنما يجزى بالمثل أو دونه أو العفو عن الإثم بالكلية، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]، وقد يعفو الله عن السيئة، بل قد يبدلها حسنات.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) يعني: سوف يراه، ويُعرض عليه، ويُكشف له، مِن (أُريتُ الشيء).
أو سَوْفَ يُرَى للخلق وللملائكة، ففيه بشارة للمؤمن وإفراح له، ونذارة للكافر وإرهاب له.
أو هو مِن (رأى) المجرد، يعني: سوف يراه، كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
(ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى)، أي: يُجزى سعيه جزاءً وافراً، لا يُبخس منه شيء.(147/15)
تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:33 - 41].
(تولى) أي: رجعل وأدبر عن الحق.
(وَأَعْطَى قَلِيلَاً): قال بعضهم: أعطى قليلاً من المال.
وقال بعضهم: أعطى قليلاً من الكلام الطيب.
(وَأَكْدَى)، أي: قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر، يقال: أكدى إذا ظل يحفر حتى اصطدم بصخرة لا يقدر على الحفر فيها، فينقطع عن الاستئناف وتكملة الحفر.
وأصله من الكُدَية، وهي: الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه، فتمنعه الحفر.
وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى: اختلف فيه العلماء: فقيل: هو الوليد بن المغيرة؛ قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك، وأعطى الذي عيَّره بعض ذلك المال الذي ضمن، ومنعه باقي هذا المال، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}، يعني: بعدما كاد يقبل على الإسلام، {وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى}، يعني: أعطى هذا الذي ضمن له أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، (وَأَكْدَى) يعني: توقف عن استئناف العطاء وتكملة المال المتفق عليه.
وقيل: ((وَأَعْطَى قَلِيلَاً)) من الكلام الطيب، كمدحه للقرآن واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَأَكْدَى)) أي: انقطع عن ذلك ورجع عنه.
وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل، ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول السدي، ولم ينسجم مع قوله بعده: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم:35] إلخ.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: إنه أبو جهل، قال: والله! ما يأمرنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بمكارم الأخلاق.
وذلك معنى إعطائه القليل، وقطعه لذلك معروف.
يعني: فيما حصل منه من أذية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلا ينبغي أن نفرح حينما نجد كافراً من الكفار ينطق ببعض الكلمات التي فيها بعض الإنصاف للإسلام أو للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لا ينبغي أن نتجاوز بمثل هذا الإنسان قدره؛ لأنه حتى إذا أعطى قليلاً لكنه يُكدي، ولا يكمل الرحلة، فنجد بعض الناس يفرحون بقول بعض الكفار من الأمريكان في كتابه: العظماء مائة، أعظمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهل نحن نقول: لا إله إلا الله، محمد عظيم، عليه الصلاة والسلام؟! ونشهد أن محمداً عبقري، وأنه أعظم مائة عرفهم التاريخ؟! وهل عظمة النبي عليه السلام وعبقريته محل خلاف؟! كل محور الخلاف هو: هل هو نبي يُوحى إليه أم لا؟! هذا هو جوهر القضية، فكل إنسان مهما نطق بمعسول من القول ولم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهو من أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو باقٍ في الكفر، صحيحٌ أنه أحياناً ينفع الاستدلال بهذا الكلام؛ لكن أقول: الناس تجازف وتغالي في المدح والثناء في حين أنه ينطبق عليه هذه الآية، فهو حينما يمدح الإسلام فهو يقرر أمراً واقعياً، فهذا دين الله عز وجل وليس مذهباً أرضياً ولا مذهباً فكرياً، بل هذا نظام إلهي ووحي إلهي.
فحينما يفعل كافر شيئاً من هذا أو تسمعون تصريحاً لكافر تذكروا دائماً هذه الآية، خاصة على هذا التفسير.
أما الزمخشري فاقتصر على أن المقصود بالآيات -ولا حول ولا قوة إلا بالله! - عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح -وهو أخوه من الرضاعة- يوشك ألا يبقى لك شيء! فقال عثمان رضي الله عنه: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه.
يعني: كأنه لم يستجب لهذا الكلام، كعادة الكريم؛ لأن الكريم لا يستفيد من التجارب، كما يقول البعض: الكريم لا تنفعه التجارب، ولا يستطيع أبداً أن يقاوم الرغبة في البذل والتضحية والإنفاق.
فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء، فنزلت الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} [النجم:33 - 34]، يعني: لم يتم له العطاء.
يقول: فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
أي: لا يليق هذا حتى وإن كان يمدح عثمان بالنفقة، لأن السياق يقول: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:35 - 39]؟! فهذا شيء لا يُقبل في شأن أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين المهديين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فهذا قول ساقط، ولا يمكن أن يصح.(147/16)
تضمن الآيات لسبعة أمور يدل عليها القرآن
يقول العلامة الشنقيطي: تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور: الأول: إنكار علم الغيب المدلول عليه بـ (الهمزة): (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ)، والمقصود نفي علمه بالغيب.
الثاني: أن لكل من إبراهيم وموسى صحفاً لم ينبأ بما فيها هذا الكافر.
الثالث: أن إبراهيم وفَّى، أي: أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها.
الرابع: أن في تلك الصحف: أنه لا {تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
الخامس: أن فيها أيضاً: أنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى.
السادس: أنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى.
السابع: أنه يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى، أي: الأكمل والأتم.
وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأول منها -وهو: عدم علمهم بالغيب- فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى هنا: ((أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ)).
وقال عز وجل أيضاً: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم:47].
وقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً} [مريم:78].
وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179].
وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65].
الأمر الثاني: أن لكل من إبراهيم وموسى صحفاً لم يُنبأ بما فيها هذا الكافر، ولم يكن هذا المتولي المعطي قليلاً المكدي عالماً بها، قال الله تبارك وتعالى أيضاً: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19].
وأما الثالث منها -وهو أن إبراهيم وفَّى في تكاليفه- فقد ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] يعني: وفَّى.
وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلي بها أنها التكاليف.
وأما الرابع: وهو أنه لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12].
وقال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [فاطر:18].
أما الخامس منها -وهو أنه لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى فقد وضحه قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7].
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].
وقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44].
وقوله عز وجل هنا: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) يدل على أن الإنسان لا يستحق أجراً إلا على سعيه بنفسه، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات.
وهذا ما نفصله -إن شاء الله تعالى- فيما سيأتي، والله أعلم.(147/17)
تفسير سورة القمر [6 - 53](148/1)
تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم يوم عسر)
يقول تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:6 - 8].
((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): هذا وقف التمام، يعني: هذا تمام الكلام المتصل بما مضى، فيقرأ المرء: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] * ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ))، ثم يبتدئ الكلام: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6].
أو يكون الكلام متصلاً، ويكون المعنى كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فقوله عز وجل هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد.
ثم بين هذا اليوم الذي يلقون فيه الوعيد الشديد بقوله: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، وكما ذكرنا إما أن نقف وقفاً تاماً: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ))، ثم نبتدئ: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، يعني: يخرجون من الأجداث {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ)) [القمر:6 - 7] فتكون: (يومَ) منصوبة بقوله تعالى: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ))، أو تكون منصوبة بفعل تقديره: واذكر يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ.
أما إذا قلنا: إنه لا وقف بعد قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) فيكون المعنى: أعرض عنهم يوم القيامة، ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم، فإنهم يُدعَون إلى شيء نكر، وينالهم عذاب شديد، كما تقول لمن أخبرته بأمر عظيم وقع وجرى لشخص: لا تسأل عما جرى لفلان، لأنه أمر عظيم فظيع، فهذا نفس المعنى هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)) يعني: أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم؛ فإن البلاء الذي يكونون فيه عظيم.
((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ))، أي: داعي الله إلى موقف القيامة.
أو الداعي الذي يأمره الله سبحانه وتعالى أن يدعوهم إلى الحضور في موقف القيامة، وهذا الداعي هو ملَك.
وقيل الداعي هو إسرافيل يدعوهم بالنفخة الثانية.
أو الداعي هو الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فإذا دعاهم فإنهم يخرجون من الأجداث.
((إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، أي: شيء فظيع تنكره النفوس إعظاماً له، وهو موقف الحساب، وليس معنى تنكره النفوس أنهم يجحدونه ويكذبون به ساعتها، إنما تنكره النفوس من شدة إعظامهم لهذا الموقف، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء.
((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ)) [القمر:7]، من الذل والصغار، وهذا حالهم حينما يُدعون إلى موقف القيامة أو حينما يخرجون من الأجداث.
يقال: خشع بصرُه إذا غَض طرْفَه.
ونلاحظ هنا أنه أضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، وهذا محمل دقيق، وهو أن عامة أحوال الإنسان تظهر في عينيه، فالعين تظهِر ما يخفيه الإنسان من الشعور بالعز أو بالانكسار أو بالذل أو بالفرح والسرور، فالعين آية من آيات الله سبحانه وتعالى تكشف عما في باطن الإنسان، وعن أحواله النفسيه الدفينة أو الكامنة في نفسه، فلهذا كان للنظر إلى العين أثر مهم جداً في انعكاسه على من يحادثه الإنسان وينظر إليه، ولذلك يقولون: إذا أردت أن تعرف صدق الشخص وهو يحدثك بحديث فانظر إلى عينيه، فإنه يظهر على عينيه الاضطراب إذا كان كاذباً فيما يقول.
هذا فيما يتعلق بإضافة الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، كما قال تبارك وتعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:9]، وقال عز وجل أيضاً: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45].
((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ)) يعني: من قبورهم، جمع جَدَث، ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ)) [القمر:7] شبههم في الكثرة والتموج والانتشار بالجراد، والجراد مثلٌ في الكثرة، فإذا أردت أن تشبه شيئاً وأن تصفه بالكثرة الكاثرة فإنك تشبهه بالجراد، لأن أسراب الجراد إذا هاجمت الحقول والمزارع فإنها تكون كثيرة جداً.
والسر -والله أعلم- في تشبيههم بالجراد كما قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الجراد لا جهة له يقصدها، فهو أبداً مختلط بعضه في بعض، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها.
وبين الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا معنىً آخر: وهو أنه ربط بين قوله عز وجل: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ)) [القمر:7] وبين قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:8]، أما قوله عز وجل: ((مُهْطِعِينَ)) فمعناه: مسرعين مادِّي أعناقهم إليه، بمعنى: أنهم شُبهوا أولاً بالجراد عند خروجهم من القبور، ليس لأحد منهم جهة يقصدها، ثم بعد ذلك تكون حال أخرى.
إذاً: هما صفتان في وقتين مختلفين: الوقت الأول: عند الخروج من الأجداث.
الوقت الثاني: حينما يدعوهم الداعي إلى موقف الحساب وهو موقف القيامة، فحينئذٍ يحددون جهة الداعي ويسرعون نحوه ((مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)) [القمر:8].
فقوله تبارك وتعالى هنا: ((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))، كقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4].
(يوم عسر) لشدة أهواله.(148/2)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، ذكر الله تبارك وتعالى جملاً من وقائع الأمم الماضية تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له.
((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل أهل مكة ((قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ))، هذا الفعل (وازدجر) معطوف على: ((وَقَالُوا))، والفعل ((وَقَالُوا)) معطوف على: ((فَكَذَّبُوا))، في قوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] أي: أن كلمة (وازدجر) ليست داخلة في مقول القول؛ بل هي جملة مستقلة جديدة ليست داخلة في الكلام الذي قالوه.
هم قالوا: ((مَجْنُونٌ)) حينما كذبوه، ((وَازْدُجِرَ)) نوح، بمعنى أنه زُجِرَ عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة، كما تدل عليه صيغة (افتُعِل).
قال الناصر: وليس قوله: ((فَكَذَّبُوا)) الثاني تكراراً.
لأننا نلاحظ هنا تكرر مادة (التكذيب)، فقال: ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ))، ثم قال: ((فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا))، فيقول الناصر: وليس قوله ((فَكَذَّبُوا)) الثاني تكراراً؛ لأن الأول مطلق والثاني مقيد، فلا يكون تكراراً.
فهذا كقوله في نفس السورة: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29]، فإن تعاطيه هو نفس عقره؛ ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهاباً، وهو بمثابة ذكره مرتين.
جواب آخر: هو أن المكذَّب أولاً محذوف دل عليه ذكر نوح، فكأنه عز وجل قال: كذبت قوم نوح نوحاً، ثم جاء تكذيبهم بتكذيبهم ثانياً مضافاً إلى قوله: ((عَبْدَنَا))، فوصف نوحاً بخصوص العبودية لكونها صفة عالية شريفة، فالتكذيب المخبر عنه ثانياً أبشع عليهم من المذكور أولاً بتلك اللمحة، وكرر لأجل بيان عظم جريمتهم حينما لم يكذبوا شخصاً عادياً وإنما كذبوا عبد الله ورسوله نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقيل: لأنهم كذبوه تكذيباً عقب تكذيب؛ لأن نوحاً مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكلما مضى منهم قرن مكذب تبعه الجيل الذي يأتي بعده، ويأتي قرن آخر مكذب، فهذا هو السر في تكرار مادة (التكذيب)، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)) [القمر:9].
وقيل: إنه لم يذكر المفعول به فيُقدر الضمير: كذبت قبلهم قوم نوح المرسلين، كما جاء في آيات آخرى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، مع أن الذي أرسل إليهم هو نبي واحد، ولكن لأن القاعدة: الكفر بنبي واحد يستلزم الكفر بجميع الأنبياء وينقض الإيمان كله من أصله.(148/3)
تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)
قال تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14].
((فَدَعَا رَبَّهُ))، يعني: فدعا عليهم نوح ربه، ((أَنِّي مَغْلُوبٌ))، أنهم غلبوني بتمردهم، ((فَانْتَصِرْ)).
يقول القاسمي: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ))، أي: غلبني قومي تمرداً وعتواً فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس منهم؛ لأنهم جيل وراء جيل، وقرن وراء قرن، ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وما يأتي جيل إلا ويكون كافراً كالذي قبله، حينئذٍ دعا عليهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (فاستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم).
فمعنى قوله تعالى: ((فَانْتَصِرْ))، يعني: فانتقم لي ممن كذبني.
((فَفَتَحْنَا))، هذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاء نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالطوفان الذي هلكوا فيه.
ونجد المفسرين لدقتهم في الفهم يقدرون هنا كلاماً تدل عليه المواضع الأخرى التي ذكرت قصة نوح، فيقولون: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ))، فأجبنا دعاءه، وهذه دل عليها قوله في سورة الأنبياء: ((وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)) [الأنبياء:76].
((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)) [القمر:10]، فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة؛ لأن الأمر باتخاذ السفينة كان قبل الطوفان.
((فَفَتَحْنَا))، وفي قراءة ابن عامر: ((فَفَتَّحْنَا)) بالتشديد ((بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)) [القمر:11]، أي: متدفق، والماء المنهمر هو الكثير السريع الانصباب، فشبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشُق لها أديم الخضراء، يقول الشاعر: أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير بادٍ من معد وحاضر (أعيني جودا بالدموع الهوامر) يعني: الغزار الكثيرة.
((وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً)) [القمر:12]، أي: وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، ((فَالْتَقَى الْمَاءُ))، أي: ماء السماء وماء الأرض، ماء من السماء كثير وسريع الانصباب، وماء ينبع ويتفجر من الأرض، ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر:12]، أي: على حالٍ قدَّره الله وقضاه في اللوح المحفوظ، وهذا الأمر هو هلاك قوم نوح وغرقهم.
وقيل: ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر:12]، يعني: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض بعلم الله سبحانه وتعالى، أي: أن هذا الماء الذي نبع من الأرض وتفجر منها هو في كمه يساوي نفس كمِّ الماء الذي نزل من السماء.
لكن القول الأول أقرب.
وقال محمد بن كعب القرظي مشيراً إلى أن كل شيء إنما يجري بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء.
ثم تلا هذه الآية: ((فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر:12].
فهذا نوع من الاستشهاد بالآية على معنىً آخر، وهو أن كل شيء سبق قضاء الله سبحانه وتعالى به؛ وقوله: (كانت الأقوات قبل الأجساد)، يعني: قبل أن يخلق الله النفس يكون قد كتب لها رزقها وقوتها الذي تقتاته.
(وكان القدر قبل البلاء)، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، كونها تقع على وفق علمه السابق وتقديره السابق فهذا أمر يسير جداً في حق الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، فهذا مما يدل على عظم وعموم قدرته تبارك وتعالى.
((وَحَمَلْنَاهُ)) يعني: وحملناه على سفينة ((ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، وهذا من بديع الكلام، حيث أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها؛ لأن هذا الوصف يؤدي المعنى.
((وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، يعني: على السفينة، وألواحُها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت، أما (الدُّسُر) فجمع دِسار كـ (حِمار) و (حُمُر)، أما إذا قلنا: إن (دُسُر) جمع دَسْر فتكون كـ (سَقْف) و (سُقُف)، وهي أضلاع السفينة، أو حبالها التي تشد فيها، أو مساميرها، فـ (الدُّسُر) المسامير والحبال التي تُشَد بها الألواح.
هناك قول آخر في (الدُّسُر): إن الدُّسُر هو صدر السفينة؛ لأنه يدسر الماء، أي: يشق الماء ويدفعه إلى الأمام، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن زكاة العنبر، فقال: إنما هو شيء دَسَره البحر)، رواه الإمام أحمد، يعني: قَذَفه أو دَفَعه البحر.
((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا))، أي: بمرأىً منا، أي: بحفظ الله عز وجل وعنايته، ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ))، من هو الذي كان كُفر؟ إما أنه الله سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: جزاء لمن كُفر به، وهو الله عز وجل.
أو جزاء لمن كان كُفر به، وهو نوح عليه السلام، وما جاء به نوح.
فهذا هنا من الكفر الذي هو ضد الإيمان.
قال بعض المفسرين: قوله تبارك وتعالى: ((جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)) (مَن) هنا تكون بمعنى (ما) أي: جزاء لما كان كُفر من نعم الله عند الذين أغرقهم؛ لأن (مَن) قد تأتي بمعنى (ما).
وقد قرأها قتادة: ((جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ))، أي: لمن كان كَفَرَ بالله.(148/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد تركناها آية عذابي ونذر)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:15 - 16].
((وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا)) إما قصة نوح عليه السلام، أو السفينة على جبل الجودي حتى رآها صدر هذه الأمة كما ذُكر في كتب التفسير، وإن كان قد حصل بحث مشهور من قبل لجنة أوروبية أعتقد أنها إنكليزية في شريط فيديو مشهور اسمه (سفينة نوح) وقد رأيته عند أحد الإخوة هنا، هي عبارة عن بعثة من الباحثين الإنكليز، يصورون جبل الجودي، ومما يذكر عنهم أنهم ليس لديهم تحمس لدين معين، وإنما يبحثون في أي شيء، فكان مما أتوا به: النصوص الموجودة في التوراة التي تشير إلى موضع استقرار السفينة، وأتوا بنص القرآن الكريم: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، وبحثوا وتحروا بأجهزة كشف، وصوروا الموقع وحدود السفينة عن طريق أجهزة معينة ترصد حدود السفينة في الأرض، وبالفعل حددوا موقع السفينة على جبل الجودي، وصوروا الجبل، والسفينة مرسومة عن طريق أجهزة معينة ترصد الشيء المدفون في الأرض، واستنتجوا أن القول الوحيد الصحيح هو ما أشار إليه القرآن الكريم من أنها استوت على الجودي.
فقوله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً))، إما: تركنا القصة عبرة وآية، وإما: تركنا السفينة نفسها حتى يراها الناس وتكون آية وعبرة يعتبر بها.
((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) أي: فهل من معتبر ومتعظ؟ وأصله: (مُذْتَكر).
((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)) أي: كيف كان عذابي لهؤلاء الكفرة من قوم نوح، وإنذاراتي لما أحللت بهم، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.(148/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)
يقول تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:17].
((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)) أي: سهلناه للادِّكار والاتعاظ؛ لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية.
وقال بعض المفسرين: سهلناه للحفظ والقراءة.
وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، أن من مظاهر تيسير القرآن للذكر: أن قلوب الآدميين تطيق أن تحمل كلام الله عز وجل في الصدور، حتى يستظهره الغلام ذو السبع السنوات، ويستطيع أن يحفظ كلام الله عن ظهر قلب، ولا شك أن هذه الآية فيها حض على الإقدام على حفظ القرآن الكريم وقراءته وتلاوته؛ لأن هذا الأسلوب فيه تحضيض وتحريض.
((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: إن حفظ القرآن يسير؛ لكن انْوِ أنت وأقبل على هذا يسهله الله عليك، هذا وعد من الله بالتسهيل على من صعدت همته إلى حفظ كلام الله، ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، يعني: فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ يعني: بزواجر ومواعظ القرآن الكريم، ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، فيعتبر بما فيه ويثوب إلى رشده؟ وكما قلنا: هذا حث على قراءته وحفظه وتعلمه، ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين لما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل.(148/6)
كلام الشنقيطي على قصة نوح
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:9 - 16].
للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فيما يتعلق بقصة نوح عليه السلام، يقول: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، أن نبيه نوحاً دعاه قائلاً: إن قومه غلبوه؛ سائلاً ربه أن ينتصر له منهم، وأن الله انتصر له منهم فأهلكهم بالغرق؛ لأنه تعالى فتح ((أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)) وأنه تعالى فجر الأرض عيوناً، وإعرابها: تمييز محوَّل عن المفعول، والأصل: فجرنا عيون الأرض.
والتفجير: إخراج الماء منها بكثرة، و (ال) في قوله: (الماء) للجنس، ومعناه: التقى ماء السماء وماء الأرض، ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) أي: قدره الله وقضاه.
وقيل: إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدارٍ ليس أحدهما أكثر من الآخر.
والأول أظهر.
وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من دعاء نوح ربه جل وعلا أن ينتصر له من قومه فينتقم منهم، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعاً بالغرق في هذا الماء الملتقي من السماء والأرض، وضحه قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:76 - 77]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:75 - 76]، إلى قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:82].
وبين جل وعلا أن دعاء نوح فيه سؤاله الله عز وجل أن يهلكهم إهلاكاً مستأصلاً، فجاءت آيات تبين قوله هنا: ((فَانْتَصِرْ))، أي: انتقم لي، كقول الله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:26 - 27]، وهذا طبقاً للتجربة السابقة بالإضافة إلى إخبار الله عز وجل في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]).
يقول: وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، وذلك في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، وقد قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
قالوا: وقوله تعالى: ((وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً)) قرأه ابن كثير، وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية شعبة، وحمزة، والكسائي: {عِيُونَاً} [القمر:12] بكسر (العين) لمجانسة (الياء)، ولها نظير في سورة الأحزاب: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وفي قراءة أخرى: ((بِيُوتِكُنَّ)).
وقرأه نافع، وأبو عمرو، وابن عامر في رواية هشام، وعاصم في رواية حفص: ((عُيُونَاً)) بضم (العين) على الأصل.
قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، لم يبين هنا ذات الألواح والدُّسُر؛ ولكنه بين في موضع آخر أن المراد: وحملناه على سفينة ذات ألواح، أي: من الخشب، و (دُسُر) أي: مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وواحد (الدُّسُر) دِسار ككُتُب وكِتاب، وعلى هذا القول أكثر المفسرين.
وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة: (الدُّسُور): الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة.
وقال بعض العلماء: (الدُّسُور): جؤجؤ السفينة، يعني: صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء، أي: تدفعه وتمخره به، قالوا: هو من الدَّسْر، أي الدفع.
فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر هي السفينة قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، أي: السفينة، كما يدل عليه قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32]، (الجوار) السفن التي تجري، وقال تعالى: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)) [العنكبوت:15]، وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال بعض العلماء: إن (الهاء) أو الضمير في قوله: ((تَرَكْنَاهَا)) عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل الله سبحانه وتعالى بقوم نوح، والمعنى: ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم؛ لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل؛ لئلا نفعل بهم مثلما فعلنا بقوم نوح.
وكون هذه الفعلة آية نص عليه تعالى في قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37]، وقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:119 - 121].
فهذا كله يؤيد القول بأن الآية هي ما فعله الله بهم من الإغراق.
وقال بعض العلماء: الضمير في: ((تَرَكْنَاهَا))، عائد إلى السفينة.
وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا} [العنكبوت:15] أي: السفينة {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15]، وقال تعالى أيضاً: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:41 - 42].(148/7)
تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد فهل من مدكر)
قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً صَرْصَرَاً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:18 - 22].
((كَذَّبَتْ عَادٌ))، أي: نبيهم هوداً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بمثل ما كذبت به قوم نوح، ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)).
((إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً صَرْصَرَاً))، أي: شديدة الهبوب لها صرير ((فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ))، أي: شر وشؤم عليهم.
جاء في بعض الكتب: أن هذا الوقت كان يوم أربعاء في آخر الشهر، ولا يصح في هذا شيء؛ لأن التشاؤم معتقد جاهلي بغيض، وبعض الناس تدعي أن في يوم الأربعاء ساعة نحس والعياذ بالله، فيتشاءمون من هذا اليوم أو من ساعة معينة في هذا اليوم، وإن كان رُوي في بعض الأحاديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على الكفار ثلاثة أيام، دعا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء فيما بين الصلاتين) يعني: بين الظهر والعصر، وهو من حديث جابر بن عبد الله، ويزعمون أن هذا وقت نحس، وحتى لو صح هذا فيطلق على أنه نحس على الكفار.
وقد ذكر بعض المفسرين كـ القرطبي رحمه الله تعالى: أن من أوقات إجابة الدعاء خاصة دعاء المظلوم على الظالم يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فيدعو عليه، فإن لم يسبق رجعة -يعني: الظالم لم يتب- قبل حلول هذا الوقت؛ فلا بد أن يصيبه عذاب.
فعلى أي الأحوال هذا لم يرد في حديث مرفوع صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلمه، والله تعالى أعلم.
والشيطان يسول للناس أمثال هذه المعتقدات التي لا تثبت، وهذا مِن تلاعبه بهم، كما فعلوا ما هو أشنع من ذلك حينما زعم الجهلة الحمقى أن في يوم الجمعة ساعة نحس! كيف يكون هذا في اليوم المبارك العظيم الذي هو العيد الأسبوعي للمسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن فيه ساعة إجابة وليست ساعة نحس، على خلافٍ في تحديد هذه الساعة؛ هل هي متنقلة؟ وإن كان أقرب الأوقات أنها آخر ساعة بعد العصر، والله تعالى أعلم.
على أي الأحوال حتى لو فرضنا ورود حديث، وصح أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا عليهم يوم الأربعاء ما بين الصلاتين فأنزل الله العذاب بهم أو هزم هؤلاء الكفار، فإنه لا يُحمل على أن المسلمين يتشاءمون، لأن المسلم لا يتطير أبداً ولا يتشاءم، فإن هذا من العقائد الجاهلية البغيضة، لكن لو صح ذلك فنقول: إنه نحس على الفجار وعلى المفسدين، لا على الصالحين، وهذا اليوم الذي يصفه الله بقوله: ((فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ))، هل أصاب هذا الشر وهذا الشؤم هوداً عليه السلام والمؤمنين معه؟ لا.
إنما كان نحساً على من أرسل عليهم العذاب، وهو لا شك حقيق أن يكون نحساً عليهم لكفرهم واستحقاقهم غضب الله وعقابه.
((مُسْتَمِرٍّ)) أي: دائم الشؤم، فاستمر عليهم ودام حتى أهلكهم، هذا إذا قلنا: ((مُسْتَمِرٍّ)) بمعنى: دائم الشر أو الشؤم.
هناك تفسير آخر لقوله: ((مُسْتَمِرٍّ)) أنه من المرارة، فهو يوم مرير شديد المرارة؛ لعظم البلاء والنكال الذي وقع بهم في هذا اليوم.
((تَنزِعُ النَّاسَ)) أي: هذه الريح الصرصر تقلعهم عن أماكنهم، ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ))، أي: فتتركهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ؛ لأن هذه الريح تنزع الناس فترفعهم ثم تقلبهم على رءوسهم، ثم تدكهم في الأرض فتنكسر أعناقهم، فيصبحون كأعجاز النخل التي لا رأس لها لما انكسرت رءوسها، فيُلقَون في الأرض بهذه الهيئة وهذه الصورة، ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)) أي: أصول نخل منخلع عن مغارسه.
وأصل (منقعر) ما أُخرج من القعر، فنلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى شبههم بالنخل؛ لأنهم كانوا طوالاً، وهذا معروف عن قوم عاد، حتى ذكر بعض المفسرين أن الواحد منهم كان طوله اثني عشر ذراعاً، أي حوالي ستة أمتار، والله أعلم.
فلعل هذه مناسبة تشبيههم بالنخل.
((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ))، كرره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوهم، أي: فكيف كان عذابي لقومه وإنذاري لهم على لسانه.
((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)).(148/8)
تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود من الكذاب الأشر)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:23 - 26].
يحتمل أن يكون (النذر) هنا بمعنى الإنذار، أو جمع نذير، أي الرسل، وإنما جمع لأن من كذب نبياً واحداً فقد كذب كل الرسل، فلذلك قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ}.
وهذا على القول بأن (النذر) جمع نذير، أما (النذر) بمعنى الإنذار، فيكون المعنى: كذبت ثمود بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
((فَقَالُوا أَبَشَرَاً)) يعني: أنتبع بشراً ((مِنَّا وَاحِدَاً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذَاً))، إذا اتبعناه، ((لَفِي ضَلالٍ))، أي: خطأ وذهابٍ عن الصواب، ((وَسُعُرٍ)) أي: جنون أو عناء، فهو اسمٌ مفرد.
وقيل: ((وَسُعُرٍ)): جمع سعير، كأنهم رتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على عدم اتباعهم له.
قال الزمخشري: قالوا: ((أَبَشَرَاً)): إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، قالوها إنكاراً، يعني: هل يصلح أن نتبع بشراً مثلنا من جنس البشر؟! وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة، وقالوا: ((مِنَّا)) لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، ((وَاحِدَاً)) قالوها إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً، أو أرادوا واحداً من أبنائهم من أشرافهم وأفاضلهم، ويدل على هذا قولهم: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر:25]، يقصدون بذلك ازدراء نبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
((أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ)) يعني: الوحي، {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا}، أي: وفينا من هو أحق بها؛ لكونه أعز مالاً ونفراً، فكأنهم يقصدون: كيف خُص من بيننا بالنبوة والوحي وفينا من هو أكثر منه مالاً وأعز نفراً؟ ((بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ))، أي: متكبر حمله كبره وفخره بنفسه على أن يطلب منا أن نتبعه ونكون أتباعاً له.
وقيل: إن معنى (الأشر) المرِح المتكبر، أو البَطِر.
وقيل: إن الأشر المتعدي إلى منزلة لا يستحقها.
وقيل: الذي يقول كلاماً ولا يبالي ما قال.
وأما قوله: ((إِنَّا إِذَاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)) كما قلنا: قيل إن (السعر) هو الجنون، إذا قلنا: إنها كلمة مفردة، تقول العرب: ناقة مسعورة، كأنها مجنونة من النشاط.
وهناك معنى آخر لـ (سعر) مفرداً، أي: شقاء وعناء لأجل ما يلزمنا من طاعته، رتب على طاعتنا إياه تكاليف وأوامر ونواهٍ وهكذا.
((سَيَعْلَمُونَ غَدَاً))، أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة.
((مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ)) أي: من المتكبر عن الحق البَطِر له.
وقوله تعالى هنا: ((سَيَعْلَمُونَ غَدَاً)) هو على التقريب وليس على التحديد، فليس هو اليوم الثاني مباشرة، بل استعملت هنا على عادة العرب أو على عادة الناس في قولهم للعواقب: غداً، على سبيل التقريب، وتقول العرب في الكلام عن عواقب الأمور: إن مع اليوم غداً، يعني: هناك عاقبة لهذا اليوم، وقال الشاعر: من لم يكن ميتاً في اليوم مات غداً (مات غداً) يعني: في المستقبل، وليس المقصود أنه يموت بالفعل في الغد.
ولذلك فسره المفسرون بقولهم: وذلك عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة، فأطلق عليه (غداً) مع أنه بعيد نسبياً عن الأيام التي كانوا فيها.(148/9)
تفسير قوله تعالى: (إنا مرسلو الناقة كل شرب محتضر)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ}، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ))، أي: مخرجوها من الهضبة ((فِتْنَةً لَهُمْ))، ابتلاءً واختباراً لهم، فقوله (فتنة): مفعول من أجله؛ لأنهم اقترحوا على صالح إخراج ناقةٍ من صخرة، وأنها إن خرجت لهم من هذه الصخرة آمنوا به واتبعوه، فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزةً لصالح عليه السلام.
و ((فِتْنَةً لَهُمْ)) أي: ابتلاءً واختباراً، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها، وأن الله حذرهم على لسان نبيهم صالح من أن يمسوها بسوء، وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه.
والمفسرون يقولون: إنهم قالوا له: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء اتبعناك.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله أرسل لهم هذه الناقة امتحاناً واختباراً، وأنهم إن تعرضوا لآية الله -الناقة- بسوء أهلكهم وضحه قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف:73].
وقال تعالى في سورة هود عن صالح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:64 - 65].
وقال تعالى في الشعراء: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156].
وقد بين تعالى أنهم عقروا الناقة فجاءهم العذاب المستأصل في آيات من كتابه، كقوله تعالى في الأعراف: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف:77]، إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78].
وقال تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء:157 - 158]، وقال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:14 - 15].
فمعنى: (مرسلو) هنا مخرجو الناقة، أخرجها لهم من الصخرة، حينما سألوا صالحاً أن يخرج لهم ناقة من تلك الصخرة.
((فِتْنَةً لَهُمْ)) يعني: مرسلوها لهم كما أرادوا، آية وحجة لصالح على قومه امتحاناً لهم وابتلاء.
((فَارْتَقِبْهُمْ))، أي: انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها، ((وَاصْطَبِرْ)) على دعوتهم، أو ((وَاصْطَبِرْ)) على ما يصيبك من أذاهم.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} أي: أخبر يا صالح ثمود أن الماء -وهو ماء البئر الذي كانت تشرب منها الناقة- قسمة بينهم، فيوم للناقة ويوم لثمود، فقوله: ((بَيْنَهُمْ)) أي: بين الناقة وثمود، وغلَّب العقلاء على الناقة، والضمير يعود إلى عاقل وهم هؤلاء البشر، ((كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ)) أي: يحضره صاحبه؛ فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آية أخرى، وهي قوله تعالى في الشعراء: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، يعني: إياكم أن تتعرضوا لشرب هذه الناقة في موعدها.
((وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ))، الذي يردونه لشرب مواشيهم ((قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ)) أي: مقسوم بينهم لها شرب ولهم شرب يوم ((كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ))، أي: يحضره صاحبه في نوبته ويستحقه، و (الشِّرب) النصيب من الماء.(148/10)
تفسير قوله تعالى: (فنادوا صاحبهم فهل من مدكر)
قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:29 - 32].
ثم أشار تبارك وتعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}.
((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) وهو كما يقول المفسرون: قيدار بن سالف، ((فَتَعَاطَى))، يعني: تعاطى عقر الناقة.
وقيل: (تعاطى) أي: تناول الناقة بيده، ((فَعَقَرَ)) أي: فعقرها فقتلها، ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)).
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها جبريل عليه السلام عليهم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي: كالشجر اليابس المتكسر، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}: قال أبو حيان في البحر المحيط: (تعاطى) هو مطاوع (عاطى)، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً، فتعاطها قيدار وتناول العقر بيده، والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله.
ولذلك رأينا بعض المفسرين يفسر ((فَتَعَاطَى)) بأنه تعاطى العقر، فتكون بمعنى العقر.
و (تعاطى) كما قال القاسمي معناه هنا: تناول الناقة بيده، فالفعل هنا: إما فعل الشيء أو تناوله، فتعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه: كلتاهما حلب العصير فعاطَني بزجاجة أرخاهما بالمفصل وقوله: ((فَعَقَرَ))، أي: تعاطى عقر الناقة فعقرها، فمفعولا الفعلين (تعاطى، عقر) محذوفان.
وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ))، وعبر عنه في سورة الشمس بأنه أشقاهم في قوله: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}، وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى في هذه الآية نسب العقر لواحد لا لجماعة: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم، كقوله في سورة الأعراف: ((فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)) [الأعراف:77]، وقال في سورة هود: ((فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)) [هود:65]، وقال في الشعراء: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء:157]، وقال في سورة الشمس: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14].
يقول: ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو: أن قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة، فنادوا واحداً منهم لينفذ ما اتفقوا عليه أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر، وصحت نسبته أيضاً إلى الجميع لأنهم متمالئون، كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بـ (الفاء) في قوله تبارك وتعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، على ندائهم.
يعني: رُتب التعاطي على النداء، ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) بعدما تمالئوا واتفقوا على العقر، فلما نادوه لكي ينفذ هذه المهمة ((تَعَاطَى فَعَقَرَ)).
وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر: وهو أن إطلاق المجموع مراداً به بعضه أسلوب عربي مشهور، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، من ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] على قراءة حمزة، بصيغة المجرد في الفعلين؛ لأن من قُتل ومات لم يبق فيه نفَس ولا حياة، فالمراد: إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر الذي ما زال حياً.
ونظيره قول عبد الله بن مطيع: فإن تقتلونا عند حرة واقم فإنا على الإسلام أول مَن قتل أي: فإن تقتلوا بعضنا.
ومنه أيضاً قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، وهذا في بعض الأعراب دون بعض، والدليل قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99] إلى قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:99].
ومِن أشهر الشواهد العربية على أنه قد يطلق المجموع ويراد به البعض قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدَي ورقاء عن رأس خالد وقوله تعالى: ((فَعَقَرَ)) أي: قتلها.
والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح، ومنه قول امرئ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقِرَى الضيف قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا يقول الله تبارك وتعالى: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) يعني: حضوه على عقرها، ((فَتَعَاطَى)) على العقر ((فَعَقَرَ)).
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر:30 - 31] صاحها جبريل -عليه السلام- عليهم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، أي: كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.
وقرئ بفتح الظاء: ((كَهَشِيمِ الْمُحْتَظَرِ)) على أنه اسم مكان، أي: كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها.
وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم فلم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد الزرع والنبات بعد خضرة ورقه وحسن نباته، قال ابن زيد: كان العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبيس الشوك.
وعن سفيان: الهشيم: إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط، والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً.
((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)).(148/11)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط فهل من مدكر)
قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:33 - 40]، ((حَاصِبَاً)) بمعنى: ملَكاً يرميهم بالحصباء والحجارة، أو ريحاً تحصبهم بالحجارة، يعني: ترميهم.
{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أي: نجيناهم من ذلك العذاب في سحر، و (الباء) للملابسة أو المصاحبة، وذلك أنه تبارك وتعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل؛ فنجوا مما أصاب قومهم.
ولم يؤمن بلوط من قومه أحد حتى امرأته، وقد أصابها ما أصابهم، وخرج نبي الله لوط عليه السلام وبنات له من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء.
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي: إنعاماً منا، إذاً: هذه علة لـ (نجينا).
{كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي: فأطاع ربه وانتهى إلى أمره ونهيه.
والشكر: صرف العبد جميع ما أنعم عليه إلى ما خلق لأجله، أي أن يستعمل نعم الله سبحانه وتعالى فيما أعطاه هذه النعم لأجله.
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوط عليه السلام ((بَطْشَتَنَا))، أي: أخذتنا بالعذاب، {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي: بإنذاراته تكذيباً له.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي: طالبوه بإتيان الفاحشة معهم، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته عجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام، وهذه هي خيانتها له المذكورة في قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] وإلا فزوجات الأنبياء لا يمكن أن يقعن في الفاحشة.
فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فتلقاهم يناشدهم الله ألا يخزوه في ضيفه، فأتوا عليه وجاءوا ليدخلوا عليهم، فأعمى الله أبصارهم فلم يروهم، كما قال تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}، وقيل: طمس أعينهم فلم يبق حتى الشق الذي تخرج منه العين في وجوههم.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ}، أي: أتاهم صباحاً عذابٌ مستقر نازل يدوم بهم إلى النار، أي: فهو عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ بدايته لحظة نزول هذا العذاب في الصباح، ولا نهاية له والعياذ بالله، ((فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)).
((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، قال الزمخشري: (فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: ((فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ وقبل أن نبين هذا: معلومٌ أننا تكلمنا من قبل على سبب التكرار، فهو إما للتأكيد وإما للتأسيس، فمتى احتمل الكلام التأسيس والتوكيد فإنه يترجح القول بالتأسيس؛ لأن فيه معنى جديداً، كذلك هنا، ولها نظائر في عدة مواضع من القرآن كقوله في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، وقوله تعالى في المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15]، وغير ذلك.
فيقول الزمخشري: فائدة هذا التكرار أن يجددوا عند استماع كل نبإٍ من أنباء الأولين ادكاراً واتعاظاً، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولي عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير كقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، عند كل نعمة أعدها في سورة الرحمن، وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15]، عند كل آية أوردها في سورة المرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في نفسها لتكون العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.(148/12)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاء آل فرعون النذر أخذ عزيز مقتدر)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:40 - 41].
(ولقد جاء آل فرعون): وهم القبط، و (النذر): موسى وهارون، وكما قلنا في نظائرها: إما (النذر) جمع نذير، وإما (النذر) بمعنى الإنذار.
فإذا قلنا: (النذر) جمع نذير: فيكون قد عبر عن موسى وهارون وهما مثنى بالجمع، ويكون جمْعُها للتعظيم.
((كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا)) يعني الآيات التسع، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تبارك وتعالى.
((فَأَخَذْنَاهُمْ)): بالعذاب ((أَخْذَ عَزِيزٍ)) غالب في انتقامه، وعاقبناهم عقوبة شديد لا يغالَب، ((مُقْتَدِرٍ)) عظيم القدرة لا يعجزه شيء.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن آل فرعون جاءتهم النذر.
الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله.
الثالث: أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر.(148/13)
ذكر ما يوضح أن فرعون وقومه جاءتهم النذر
أما الأول وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر: فقد وضحه قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47].
أما الإنذار ففي قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48].
وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون، كما قال تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16]).
وهنا جمع (النذر) في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}، وللعلماء عن هذا أجوبة: أحدها: أن أقل الجمع اثنان، كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وذكره صاحب مراقي السعود بقوله: أقل معنى الجمع في المشتهِرِ الاثنان في رأي الإمام الحميري ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فجمع (قلوب) مع أنهما قلبان.
وقال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11].
والمراد بالإخوة اثنان فصاعداً كما عليه الصحابة فمن بعدهم، خلافاً لـ ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال تبارك وتعالى: {وَمِنَ آنَاءِ الَّليْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، وله طرفان.
ومنها: ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بـ (النذر): موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء؛ لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون.
ومنها: أن (النذر) مصدر بمعنى الإنذار.
كما أشرنا.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، ومن كذب نذيراً واحداً فقد كذب جميع النذر؛ لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة، وهي مضمون (لا إله إلا الله) كما أوضحه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلَاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقَّاً} [النساء:150 - 151]، وأشار إلى ذلك في قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} [النساء:152].
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد هو تكذيب لجميع الرسل في قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحاً وحده، حيث قال تبارك وتعالى لما فصَّل ذلك: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} [الشعراء:106]، إلى قوله: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء:117]، كذبوا واحداً، ولم يقل: كذبونا.
فالذي أرسل إليهم واحد؛ لكن عبر عنهم بالجمع؛ لأن دعوة الرسل واحدة، فمن كذب واحداً صح أن يطلق عليه أنه كذب الجميع؛ لأن دعوتهم واحدة، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده، حيث أفرده بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:124].
ونحو ذلك في قصة صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وأصحاب الأيكة، كما هو معلوم وهو واضح لا خفاء فيه، ويزيده إيضاحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء أولاد علات؛ ديننا واحد) (أولاد علات) يعني: أولاد ضرائر الأب واحد لكن الزوجات شتى، فالعقيدة واحدة (لا إله إلا الله) لكن الشرائع تختلف، فهم كلهم متفقون في الأصول، وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع.
هذا فيما يتعلق بالأمر الأول وهو ما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}.(148/14)
ذكر ما يوضح تكذيب فرعون للنذر ونزول العذاب به
والأمر الثاني، وهو ما دل عليه قوله تعالى: ((كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا)) فقد وضحه قوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:132].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، وقال تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات:20 - 21]، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوَّاً} [النمل:13 - 14].
أما الأمر الثالث وهو قوله تعالى: ((فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)) فقد بينه قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40].
وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78].
وقال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50].
وقوله: ((أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ))، يوضحه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102])، و (العزيز): الغالب، و (المقتدر): شديد القدرة عظيمها.(148/15)
تفسير قوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم والساعة أدهى وأمر)
قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:43 - 46].
((أَكُفَّارُكُمْ)): هذا استفهام إنكاري معناه: إن كفاركم يا قريش ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلكناهم.
((خَيْرٌ)): أشد وأقوى ((مِنْ أُوْلَئِكُمْ)) الكفار المعدودين الذين حلت بهم النقمة حتى يأمنوا جانبها! ((أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)) يعني: في الكتب المتقدمة، أي: هل معكم براءة من أن يصيبكم ما أصابهم من عقاب الله تبارك وتعالى؟ هل عندكم أمان من الله، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم؟ فأنتم أنتم تفعلون أفعالهم، فلا تنتظروا إلا جزاءهم، فإنكم على شاكلتهم، وهم كانوا أقوى منكم، ومع ذلك أهلكهم الله! {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} يعني: بل أيقولون: نحن يد واحدة على من خالفنا فننتصر منهم؟ فمعنى قوله: {مُنْتَصِرٌ} ممتنع حصين لا يرام.
أو منتصر ممن أراد حربنا وتفريق كلمتنا.
أو: متناصر، ينصر بعضنا بعضاً.
فالافتعال بمعنى التفاعل، والاختصام بمعنى التخاصم وإفراد (منتصر) مراعاة للفظ (جميع)؛ لأن لفظة (جميع) هي على لفظ واحد، وإن كانت اسماً لجماعة؛ فهذا لأجل خفة الإفراد ولرعاية الفاصلة.
((سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ)) يعني: جمع كفار قريش ((وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)) أي: يولون أدبارهم المؤمنين بالله عند نزالهم.
وإفراد (الدبر) لإرادة الجنس، كما تقول: إن فلاناً لكثير الدينار والدرهم، ولرعاية الفواصل ومشاكلة قرائنه.
وقد وقع ذلك يوم بدر، وهذا من دلائل النبوة؛ لأن هذه الآية مكية، ففيها إخبار عن الغيب، وهو من معجزات القرآن الكريم، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، وهذا ما حصل في غزوة بدر.
{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يقول ابن جرير: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم، ((بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)) للبعث والعقاب ((وَالسَّاعَةُ أَدْهَى))، أي: أعظم داهية، والداهية هي الأمر المنكر الذي لا يُهتدى لدوائه، ((وَأَمَرُّ)) يعني: أمر مذاقاً من القتل والأسر.
أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها إذا التقوا مع المؤمنين للقتال.(148/16)
تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر كلمح بالبصر)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:47 - 50].
ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن مشركي مكة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]).
((إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ)) أي: عن الحق في الدنيا ((وَسُعُرٍ))، أي: نيران تستعر عليهم في الآخرة.
وقيل: ((فِي ضَلالٍ))، أي: عن طريق الحق؛ لِعَمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم، ((وَسُعُرٍ)) أي: جنون ووَلَهٍ؛ لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم وحيرتها في الباطل.
((يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ))، أي: يجرون عليها، ((ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ))، أي: ذوقوا حرها وألمها, و (سقر): من أسماء جهنم أعاذنا الله منها، ولا ينصرف للعلمية والتأنيث.
ثم يقول تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: بمقدار استوفي فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبباتها، ومنه خلق دار العذاب لما كسبت الأيدي، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرَاً} [الفرقان:2]، وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3] أي: قدر قدراً وهدى الخلائق إليه.
ولا مانع أن تكون هذه الآيات وما بعدها إلفاتاً لعظمته تعالى وكبير قدرته، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يُعبد وحده، ويُرهب بأسه، ويُتقى بطشه، لا سيما وقد صدع الداعي بإنذاره، ومن أنذر فقد أعذر.
و (كل) في قوله: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ))، مقدر بفعل يعني: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر.
وفي صحيح مسلم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكسل).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خدك)، يعني: ما من شيء يقع في الوجود إلا بقدر سابق من الله تبارك وتعالى.
((وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ))، يعني: مرة واحدة لا مثنوية لها، فلا يحتاج إلى تكرار الأمر: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
((وَمَا أَمْرُنَا)) الذي به الإيجاد ((إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ))، أي: كلمة واحدة يكون بها كل شيء بمقتضى استعداده ((كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)) في السرعة.
وقيل: المراد بـ (أمرنا) هنا: قيام القيامة أو الساعة.(148/17)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا أشياعكم وكل صغير وكبير مستطر)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:51 - 53].
((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ)) يعني: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة، فأصل معنى (الأشياع) جمع شيعة، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع.
ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذُكر إما باستعماله في لازمه أو بطريق الاستعارة.
((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)): هل من متعظ بذلك ينزجر به؟ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} ضمير الفاعل في قوله (فعلوه) تعود إلى الأمم السابقة، أي: فعله هؤلاء الأشياع، {فِي الزُّبُرِ}، أي: في الكتب.
والكتب إما أن يقصد بها اللوح المحفوظ، أو التي أحصتها الحفظة عليهم.
((وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ)) من الأعمال المتقدمة ((مُسْتَطَرٌ))، مكتوب مسطور لا يمحى ولا يُنسى، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً} [الكهف:49].
وقال عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً} [الإسراء:13 - 14].
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالباً).
فمعنى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أن كل ما يفعله الإنسان مدون عليه مسئول عنه، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بالصغائر أو يحتقرها؛ لأنها كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل محقرات الأعمال كمثل قوم كانوا بفلاة، فحضر صنيع القوم فجعل الرجل يجيء بعود.
وقيل: يجيء ببعرة، حتى أوقدوا ناراً عظيمة وأنضجوا بها هذا الطعام)، فالبعرة أو العود الصغير هو شيء صغير في نفسه؛ لكن عندما ينضم شيء صغير إلى شيء صغير يصير كبيراً مهلكاً، كما قال بعض العلماء: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار والله أعلم.(148/18)
تفسير سورة الرحمن [1 - 13](149/1)
تفسير قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن)
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة الرحمن وهي السورة الخامسة والخمسون في ترتيب المصحف الشريف.
يقول المهايمي: سميت به؛ لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة، وهي راجعة إلى هذا الاسم.
إذاً: هذه السورة حافلة بذكر نعم الله سبحانه وتعالى ومننه على عباده، وكل هذه النعم إنما هي من آثار اسمه الكريم الرحمن.
وهي سورة مكية على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وآيها ثمان وسبعون آية.
وقد روى الإمام أحمد: أن أول مفصل ابن مسعود كان الرحمن.
والمعروف أن الراجح في هذا أن أول المفصل سورة ق كما بينا ذلك في موضعه.
وقال مقاتل: لما نزل قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:60]، قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فقال الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2].
يعني: أن الرحمن الذي أنكروه هو الذي علم القرآن، وتكرر منهم ذلك أيضاً في موقف آخر كما في كتابة صلح الحديبية، حينما أنكروا أن يكتب في وثيقة الصلح: بسم الله الرحمن الرحيم، وأصروا على أن يكتبوا باسمك اللهم؛ إنكاراً لاسم الرحمن جل جلاله، وهذا منهم مكابرة، وإلا فاستعمال هذا الاسم الجليل شائع في أشعارهم قبل الإسلام، وكانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى بأنه الرحمن أيضاً، لكن هذا من الجحود ومن الكفران والاستكبار.
يقول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2] أي: بصر به الناس وأخبرهم بما فيه رضاه وما فيه سخطه.
{عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لفظة (القرآن) تعرب على أنها مفعول به ثان؛ لأن (علّم) تتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول هو الرسول، فيكون التقدير: علم الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن، وعلم أمته هذا القرآن الكريم.
وقيل: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} بمعنى: يسر القرآن.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: بصر به، وعلمهم وأخبرهم بما فيه رضاه وما فيه سخطه برحمته، فهذا التعليم وهذه الهداية هي من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ ليطاع باتباع ما يرضيه، وعمل ما أمر به، وباجتناب ما نهى عنه وأوعد عليه، فينال جزيل ثوابه وينجى من أليم عقابه.
قال القاضي: لما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدرها بهذا الاسم الفريد (الرَّحْمَنُ).
وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها على الإطلاق على البشرية وهي نعمة إنزال القرآن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن هو أصل كل النعم الدينية، وهو أجل هذه النعم الدينية، يقول عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فإنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه هذا كله؛ لأن القرآن أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوحي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصدق لما سبقه من الكتب كما أنه مهيمن عليها.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي: علم نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن فتلقته أمته عنه، وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم: إنه تعلم هذا القرآن من بشر، كما قال تبارك تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103]، وكذلك في قوله تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] وهذا الوليد بن المغيرة حينما زعم أن القرآن سحر يؤثر.
قوله: (يؤثر) يعني: ينقل ويرويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غيره.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:4 - 5].
فقوله تبارك وتعالى هنا: {الرَّحْمَنُ} * {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} فيه رد على كل هذه الفرق، يعني: ليس الأمر كما زعمتم من أن هذا القرآن سحر يؤثر، أو إنما علمه بشر، أو أساطير الأولين وغيره ذلك، بل الرحمن جل وعلا هو الذي علمه هذا القرآن.
والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً، كقوله تعالى في جملة من الآيات تشهد بأن الله هو الذي أنزل هذا القرآن: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6]، وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وقال تعالى: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت:1 - 4]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، صلى الله عليه وآله وسلم.
فلاشك أن أعظم ما علمه الله سبحانه وتعالى هو هذا القرآن العظيم، وقال أيضاً: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
وبين الله سبحانه وتعالى أن أعظم نعمة أنعمها على الرسول صلى الله عليه وسلم في المقام الأول ثم على أمته هي تعليم هذا القرآن، فقد قال تبارك وتعالى في سياق الامتنان: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] وأرشدنا الله سبحانه وتعالى وعلمنا أن نحمده على نعمة إنزال القرآن، فقال تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، وقال تبارك وتعالى مبيناً أن إنزال القرآن رحمة لهذا الخلق، فقال: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]، وقال أيضاً: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:5 - 6].
فقوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، فيه حذف أحد المفعولين، والتحقيق -كما يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى- أن المحذوف هو المفعول الأول لا الثاني كما ظنه الفخر الرازي، وقد رده عليه أبو حيان.
والصواب: هو ما ذكره من أن المحذوف هو المفعول الأول وتقديره: علم النبي القرآن، أو علم جبريل القرآن، أو علم الإنسان القرآن.(149/2)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان علمه البيان)
قال تبارك وتعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3 - 4] إيماء بأن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وميزهم عن سائر الحيوانات بالبيان والنطق، والبيان هو التعبير عما في الضمير وإفهام الآخر، أي: أن يستطيع أن يعبر عما يكنه من المعاني في ضميره، ويستطيع أن يفهم غيره بهذه اللغة وبهذا البيان بما عنده، وهذا يدرك بسبب تلقي الوحي، والتعرف على الحق وتعلم الشرع.
فإذا كان خلق الله لهم إنما هو في الحقيقة لذلك، اقتضى ذلك اتصاله بالقرآن وتنزيله الذي هو منبعه وأساس بنيانه، {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
ونلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وقال مباشرة بعدها في الإنسان: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) فنجد كثيراً من التعابير في الخلق بالنسبة للإنسان وسائر المخلوقات، أما القرآن فما جاء أبداً التعبير بأنه مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ليس بمخلوق، فلذلك هذا وصف اتصل بالقرآن {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ولم يقل: خلق القرآن، أما الإنسان فقال فيه: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) إذاً: في هذا إيماء بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، بخلاف هذه المحدثات.
قوله تعالى: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))، اختلف فيه فقيل: الإنسان اسم جنس، يعني: خلق الناس جميعاً، وعلى هذا الأساس فقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ما المقصود بالبيان فيه: أي علمه النطق والتمييز، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: ما يقول وما يقال له، وقيل: الخير والشر، وقيل: طرق الهدى، وقيل: الكتابة والخط.
إلا أن الكثير من المفسرين رجحوا قول الحسن من أن البيان هو النطق والتمييز.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها.
إذاً: قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الأرجح أن المقصود بالإنسان جنس الإنسان، والمقصود بالبيان: النطق والتمييز.
وقيل: الإنسان آدم، والبيان أسماء كل شيء أو بيان كل شيء أو اللغة.
وقيل: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) أي: خلق محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: علمه بيان ما كان وما يكون.
والظاهر والله تعالى أعلم أن الأقرب هو القول الأول أن الإنسان اسم جنس يعم سائر الناس.
هذه الآيات أتت خالية من حرف العطف {الرَّحْمَنُ} * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
يقول الزمخشري: وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ يعني: أن سبب خلو الآيات من العاطف هو أن الآيات واردة في سياق تعديد النعم، فالله سبحانه وتعالى خلقك أيها الإنسان وعلمك البيان.
قال الشهاب المرجح الإشارة إلى أن كلاً منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر.
قول آخر في تعليل خلو هذه الآيات من حرف العطف: أنه لو حصل عطف قد يقتضي هذا العطف تتابع الصفات أو الأفعال المتشابهة، وإنما خلت من حرف العطف إشارة إلى أن كل نعمة مستقلة بذاتها، فتقتضي الشكر عليها بذاتها، فهذا فيه إيماء إلى تقصير الخلق في شكر هذه النعمة، ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة، لكن لما خلت من حرف العطف فهذا يؤكد أن كل نعمة مستقلة وحدها.
قوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
فتعليم القرآن نعمة مستقلة تستوجب الشكر، كذلك خلق الإنسان، كذلك تعليمه البيان، وفي ذلك إشارة إلى تقصير الخلق أو قصورهم عن أداء شكر هذه النعم كلها.(149/3)
النطق أشرف ما خص الله به الإنسان
وقال الأصفهاني في الذريعة: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان يعني: مما يتميز به أنه حيوان ناطق، لا يوجد غير الإنسان من الحيوانات ناطق، وما عدا ذلك قد ينطق على سبيل التقليد دون أن يعي ما يقول، حتى الببغاء يجيد ترداد الكلام، لكنه لا يعي الكلام ولا يفهمه، إنما عنده القدرة على محاكاة أصوات يسمعها دون أن يعيها أو يفهمها، فالإنسان حيوان ناطق ميزه الله سبحانه وتعالى بهذه النعمة، بل شرفه بهذه النعمة وهي نعمة البيان.
يقول: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان، فإنه صورته المعقولة التي باين بها سائر الحيوان، قال الله عز وجل في بيان تشريف الإنسان بهذا الشرف: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ولم يقل: خلق الإنسان وعلمه البيان، إذ جعل قوله: ((علمه)) تفسيراً لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))؛ تنبيهاً أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق الحيوانات، لكن لما خلا من حرف العطف فهمنا أن قوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} هي تفسير لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))، يعني: خلقه مبيناً ناطقاً مميزاً.
فهذا تنبيه على أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعاً لكانت الإنسانية أقل درجة مما شرفها الله به.
ولذلك قيل: لولا اللسان ما الإنسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة.
يعني: منظر وشكل فقط كشبح، لكن البيان هو الذي رفعه وشرفه، ولذلك يتفاوت الناس ببيانهم، فإذا سكت الناس فإنهم يتساوون، لكن إذا أفصحوا وبينوا ظهر حينئذ تفاوتهم في علمهم وفي ذكائهم وفي فصاحتهم، وغير ذلك من الصفات التي يتفاوت الناس فيها.
وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا نطق كشف نفسه.
وقال الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم إشارة إلى أن الإنسان قلب ولسان، واللسان يعرب عما في هذا القلب، وما عدا ذلك صورة اللحم والدم.
فإذا توهم في ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد حرم من أمرين: النطق فلا يستطيع أن يبين ولا أن يتكلم، وفي نفس الوقت القلب أو الفؤاد الذي يفقه به ويفهم ويميز، فإذا تخيلنا أن هذا الإنسان بدون نطق وبدون بيان وبدون عقل أو قلب، لم يبق إلا صورة اللحم والدم، فيتساوى مع سائر العجماوات.
فإذا كان الإنسان هو اللسان، فلا شك أن من كان أكثر منه حظاً فهو أكثر منه إنسانية، والصمت من حيث هو مذموم؛ لأنه من صفات الجمادات فضلاً عن الحيوانات، وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتاً بلا ترتيب.
إذاً: لا يستطيع أي مخلوق آخر أن يبين ويتكلم كما فعل الله ذلك في الإنسان.
ومن مدح الصمت فإنما مدح الصمت بالنسبة له؛ لأنه إذا تكلم نطق بشر أو بسوء فالصمت أفضل، مثل قول أحدهم: الصمت أزين للفتى من منطق في غير حينه وكما يقولون: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، هل هذه الكلمة صحيحة؟ لا؛ لأن الإنسان ربما ينطق بكلام هو أثمن من الذهب، وربما ينطق بكلام سيئ فيكون الصمت أفضل منه، فهي مسألة نسبية، فإذا مدح الصمت فذلك مقارنة بالكلام القبيح؛ لأنه إذا صمت فهو على سبيل السلامة لا غنم ولا غرم، لكن إذا نطق بالسوء فهو الغرم، فإذا كان الإنسان مخيراً بين صمت ونطق بالشر فالأولى أن يصمت، أما إذا كان مخيراً بين الصمت والنطق بالخير فالأولى أن ينطق، وقد يجب ويتعين عليه ذلك.
سئل حكيم عن فضلهما، فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق.
وسئل آخر: أيهما أفضل؟ فقال: الصمت عن الخنى أفضل من الكلام في الخطأ.
وعنه أخذ الشاعر: الصمت أليق بالفتى من منطق في غير حينه حكى الشهاب أنه يجوز أن يكون (الرحمن) خبراً لمبتدأ محذوف، يعني: كأن المبتدأ يكون الله، والرحمن خبر، وما بعده مستأنف بتعديد نعمه.
قوله: ((علم)) من التعليم، ومفعوله مقدر أي: علم الإنسان أو جبريل أو محمداً صلى الله عليه وسلم.(149/4)
الخلاف في معنى قوله: (خلق الإنسان * علمه البيان)
هناك خلاف في معنى قوله: ((خلق الإنسان)) و ((علمه البيان)).
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3 - 4]: اعلم أولاً أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة، كما أشار إليه تعالى بقوله في أول سورة النحل: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4].
هذا أيضاً ينص بأن خلق الإنسان وتكريمه بإعطائه الإبانة والتوضيح والإفصاح عما في قلبه، بحيث يقوى على الخطاب والمجادلة والمحاججة والنقاش.
ثم قال أيضاً: وقوله: في آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77].
فالإنسان بالأمس نطفة، واليوم هو في غاية البيان وشدة الخطاب، يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن الله خلقه من نطفة وجعله خصيماً مبيناً، آية من آياته جل وعلا دالة على أنه المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق.
انظر إلى هذه النطفة المهينة كيف خلق منها هذا الإنسان وهذا الكيان، حتى إنه قدر على الإبانة وعلى الفصاحة وعلى البلاغة، بل إنه يخاصم حتى في ربه، فانظر بعد ما بين المرتبتين، كما جاء في الحديث القدسي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في كفه، ثم أشار بأصبعه فقال: يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنا تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين برديك، وصار للأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم -يعني: حتى إذا أتى أوان قبض روحك- قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {خَلَقَ الإِنسَانَ} لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان، ولكنه بينها في آيات أخر، كقوله في سورة الفلاح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14].
وبلا شك فإن في سورة الرحمن آيات لها ارتباط وثيق جداً بالحقائق العلمية الحديثة، ولولا الخوف من الإطالة والتأخر في التفسير لأفضنا في هذا كثيراً.
هذه الآية وحدها: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) شرحتها آيات أخرى في القرآن الكريم، ثم أتت العلوم الحديثة وكشفت مؤخراً عن مراحل تكوين الجنين، وبان بذلك أن الوصف الذي في القرآن هو وصف في غاية الدقة لكل المراتب التي يمر بها نمو الجنين في بطن أمه، وكثير من الحقائق العلمية كما أشرنا من قبل.
ويكفي أن أشهر مرجع على الإطلاق في علم الأجنة -لدكتور كندي- تضمن صوراً لأجزاء من المصحف من سورة المؤمنون ومن سورة الحج حتى يوثق كلامه، وقال: إن هذا يدل على أن هذا القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً أن يكتشف هذه الأشياء من عند نفسه، بل هو تنزيل من لدن حكيم خبير.
والأمر يطول لكن بعد أن نفرغ من درس التفسير يمكن أن نفرد للآيات التي لها ارتباط بموضع الإعجاز العلمي دروساً مستقلة إن شاء الله تعالى إن تيسر ذلك.
وقد بين القرآن الكريم المراحل التي مر بها خلق الإنسان حتى قبل أن يكون نطفة، وهي أنه كان من تراب ومن ماء ومن طين ومن صلصال كما هو معروف.
ثم قال: وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، التحقيق فيه: أن المراد بالبيان: الإفصاح عما في الضمير.
وهذا وضحه قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4] فقوله تعالى: ((مُبِينٌ)) على أنه اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم، أي: مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره؛ وذلك لأن ربه علمه البيان.
ثم قال: وقد امتن الله جل وعلا على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9].
وهذا في سياق المنة، وبلا شك فإن اللسان والشفتين هما آلات البيان.(149/5)
تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)
قال الله تبارك وتعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5].
قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} مبتدأ والخبر محذوف تقديره: يجريان بحسبان.
قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي: يجريان بحساب معلوم مقدر في بروزهما ومنازلهما لا يعدوانها، به تتفق أمور الكائنات الحسية، وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الحسبان: مصدر زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران، فمعنى: ((بحسبان)) أي: بحساب وتقدير من العزيز العليم، وذلك من آيات الله ونعمه أيضاً على بني آدم؛ لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام، ويعرفون شهر الصوم، وأشهر الحج، ويوم الجمعة، وعِدَدَ النساء اللاتي تعتد بالشهور، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5]، وقوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12].(149/6)
تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)
قال تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].
قوله: ((والنجم)) اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية: فقال بعض العلماء: النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول، والشجر هو ما له ساق.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم نجوم السماء.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه: أن المراد بالنجم هو نجوم السماء، والدليل على ذلك: أن الله جل وعلا في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه، ونعني بآية الحج قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18]، فدلت هذه الآية أن الساجد مع الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه فالمراد بالنجم النجوم.
يعني: هي مفرد، لكن يراد بها الجمع، ومن ذلك قول الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها فقوله: (فباتت تعد النجم) فالنجم هنا مفرد، لكن هي في الحقيقة كانت تعد النجوم؛ لأنه لو كان نجماً واحداً لما تعبت في عده، بل كانت تعد النجوم، وفي لغة العرب يكثر إطلاق المفرد مع إرادة الجمع.
ومن ذلك أيضاً قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب قوله: (عدد النجم والحصى والتراب) يعني: عدد النجوم، مع أن اللفظ هنا مفرد.
وقول الله تبارك وتعالى هنا: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15]، فنسب السجود إلى كل هذه المخلوقات، فسجود كل شيء بحسبه.
يعني: كل كائن من المخلوقات له تسبيح وله سجود، لكن منه ما نفهمه وهو الذي يتعلق بلغتنا نحن، أما سجود غيرنا من الكائنات فهذا ليس إلينا؛ لأنه مما لا ندركه كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فأثبت لهم تسبيحهم، ولم يقل: ولكن لا تفقهون تسبيحها مع أن هذا هو الأصل؛ لأنها من غير العقلاء، لكن أنزلها منزلة العقلاء فأتى بضمير العقلاء (هم) تغليباً للعقلاء.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، قوله: ((والنجم)) أي: النبات الذي ينجم.
يعني: الذي يطلع من الأرض ولا ساق له.
قوله: ((والشجر)) أي: الذي له ساق.
إذاً: القاسمي رجح التفسير الآخر وهو: أن النجم هو الشجر الذي لا ساق له وذلك لاقتران النجم بالشجر.
بينما كلمة النجم تحتمل أن تكون النجوم في السماء أو النجوم وهو النبات الذي لا ساق له.
وربما الذي أداه إلى هذا القول هو اقترانها بالشجر، فصار نسبة السجود للشجر الذي له ساق، والشجر الذي لا ساق له.
قوله: ((يسجدان)) ثنى فعلهما على وفاق لفظهما، وإن كانت هذه الأسماء مفردة في الحقيقة؛ لكنها تدل على المجموع، فالتثنية هنا نظراً إلى اللفظ فقط، أما من حيث المعنى فهي سجود لعدد كبير.
((يسجدان)) أي: ينقادان لله فيما يريد بهما طبعاً، انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وفي الحقيقة مما يؤسف له أن في الأجزاء الأخيرة من تفسير القاسمي ميلاً كثيراً إلى القول بالمجاز، وتوسع في ذلك حتى كأني أكاد أحس أن هناك شخصاً آخر كتب الجزء الأخير هذا؛ لأن كثيراً جداً منه فيه مخالفة لمنهج السلف في تفسير أمثال هذه الأشياء، هل يستحيل أن النجم يسجد لله والشجر يسجد لله؟! إذا قلت: كل يسجد بحسبه، لماذا تنطلق أذهاننا فقط إلى السجود الذي هو متعلق بنا نحن؟ نحن لنا سجود ندركه؛ لأنه متعلق بالسجود الذي نفهمه، ونحن نسبح الله بالطريقة المعروفة، لكن ما الذي يمنع أن الجبال تسبح؟ هل هذا من حيث العقل مستحيل، بحيث أننا نلجأ دائماً إلى المجاز، ونقول: إن تسبيح الجبال هو أن من رآها قال: سبحان الله؟! الذي خلق هذه الجبال وغيرها أتانا بالدليل، مثل قوله تعالى في الآية التي في سورة ص: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]، ومثل قوله تبارك وتعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فكان داود عليه السلام يسبح ويذكر الله سبحانه وتعالى بصوت عال، والجبال تردد معه والطيور تسبح من ورائهم.
يا ليتنا أدركنا هذا المنظر الرائع! داود عليه السلام يسبح والجبال تنطق بالتسبيح معه، والطيور كذلك، الله قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء.
إذاً: الجبال لها تسبيح يناسبها، وكذلك كل هذه المخلوقات لها تسبيح يناسبها، كذلك الموج له تسبيح وكل شيء له تسبيح.
وما يدرينا لعل الأصوات التي نسمعها مثل: أصوات العصافير في الصباح وفي المساء، لعل هذه الطيور أيضاً تقول أذكار الصباح والمساء بطريقة يعلمها الله، ألم يعلَّم الله سبحانه وتعالى سليمان عليه السلام لغة الطير، وفهم كلام الهدهد؟ إذاً: ما الذي يدعو الناس إلى اللجوء إلى المجاز؟ هل يعجز الله شيء حتى نهرب إلى المجاز دائماً؟! فالشاهد: أنه لو كان تسبيح الجبال بأن من رآها قال: سبحان الله! فإنها لا تسبح أصلاً، فلماذا نستبعده؟! ولو كان كذلك لما خص تسبيحها بالعشي والإشراق، لكن سيكون هذا في كل وقت؛ لأن الناس إذا رأوها وقالوا: سبحان الله! فهذا سيكون بالعشي والإشراق، والليل والنهار، والظهر والضحى، وكل الأوقات، فعندما يرونها سيقولون: سبحان الذي خلقك! لكن هنا تخصيصها بالعشي والإشراق فيه دليل على أنه تسبيح حقيقي، ولو كان غير حقيقي لم يقل الله تبارك وتعالى في الجبال: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] من الجبال ما يتفطر من خشية الله، ونظائر ذلك كثيرة تكلمنا عنها بالتفصيل أثناء تلخيص كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الفاضل الشيخ محمد فريد، وهو كتاب قيم جداً في هذا الباب، ننصح الإخوة بقراءته.(149/7)
تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
قال تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9].
قوله: ((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا))، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6].
((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا))، يعني: خلقها مرفوعة، وكل ما علا فهو سماء، السحاب سماء، الغلاف الجوي سماء، ما يسمى خطأً بالفضاء سماء.
((وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)) أي: العدل بين خلقه في الأرض، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، يعني: وأنزل الكتاب وأنزل الميزان.
واختلف في الميزان هنا فقال القاسمي: الميزان هو العدل بين خلقه في الأرض؛ لأن المعادلة موازنة الأشياء، وقيل: هو الميزان المعروف الذي يستعمل لوزن الأشياء؛ كي يتناصف الناس في الحقوق ويأخذ كل إنسان حقه، وقيل: الميزان هو القرآن الكريم نفسه.
{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (أن) فيها قولان: إما بمعنى اللام، يعني: وضع الله سبحانه وتعالى الميزان ليأخذ كل حقه، ولا يطغى أحد على أحد في الميزان، أو (أن) هنا للتفسير، فتكون (لا) للنهي، والمعنى: لا تجاوزوا العدل بالإفراط عن حد الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد.
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي: بالاستقامة على الطريقة، وملازمة حد الفضيلة.
كما قال تعالى أيضاً: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152]، فقوله تعالى: ((وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)) يعني: لا تنقصوا الوزن.
قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق ونصبه للحق.
وممن فسر الميزان في الآية بالعدل مجاهد وتبعه ابن جرير وكذا ابن كثير.
وجوز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء، كذلك ما يعرف به مقاييس الأشياء، فالميزان ليس فقط لوزن الأشياء التي توزن بالثقل، وإنما ما يضبط من حقوق الناس ومستحقاتهم، فالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء، سواء الأشياء الموزونة أو المكيلة أو المقيسة المذروعة.
قال السيوطي في الإكليل: فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه، وعليه فوجه اتصال قوله: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} بما قبله، أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار، ويسوى بين الحقوق والمواهب.
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازي: الميزان ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى، فالأول: هو الآلة، والثاني: المطر، والثالث: للمفعول، أي: الموزون.
يعني: ذهب الرازي إلى أن الميزان هنا ذكر ثلاث مرات، الأول: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7]، الثاني: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، الثالث: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، فالأول: هو آلة الوزن التي يعرف بها مقادير الأشياء، أما الثاني: فالمقصود به هنا المصدر، الذي هو الوزن نفسه، أي: ألا تطغوا في عملية الوزن، والثالث: للمفعول، يعني: الشيء الموزون، وهذا من لطائف التفسير.
ثم قال: وهو كالقرآن الكريم ذكر بمعنى المصدر في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، يعني: قراءته، وبمعنى: المقروء، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد:31] وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87].
ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب، والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات، فهذا وجه الجمع في هذا السياق بين القرآن الكريم وبين الميزان؛ لأن الله تعالى قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، إلى قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:7 - 8].(149/8)
تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)
قال تبارك وتعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:10 - 11].
قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وضع الأرض للأنام، والأنام هو الخلق؛ لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار، وحفر الآبار، وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات، وغير ذلك من المنافع، من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم.
ولهذا قال الله تبارك وتعالى بعدها مباشرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، إشارة إلى أن خلق الأرض على هذه الصورة المهيأة والمسخرة لمصالحكم ومنافعكم من نعم الله سبحانه وتعالى العظمى عليكم.
ثم يقول: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم، واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:30 - 33]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48]، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق:7 - 9]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
هذا كله إشارة إلى منة خلق الله سبحانه وتعالى لهذه الأرض، والإنسان يقع في تقصير شديد جداً، وهو مستقبح من كل إنسان، ولكنه أقبح من المسلم المؤمن، وهو أن الإنسان لا يستحضر نعماً إلا النعم الخاصة، وربما أيضاً أهمل نعمة هي أعظم نعمة على الإطلاق يمن الله بها على الإنسان وهي نعمة الإسلام، فينبغي للمؤمن بين وقت وآخر أن يذكر نعمة الإسلام، وأن الله هداه للإسلام وشرح له صدره، فهذه أعظم نعمة في الوجود.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب مرة على زوجته، فقال لها: (والله لأسوأنك! فقالت له: هل تملك أن تخرجني من الإسلام بعد أن أعزني الله به؟ قال: لا، قالت: فبم تسوءني إذاً؟) يعني: أي شيء أقل من زوال هذه النعمة فهو أمر هين، ما دمت لا تستطيع أن تنزع من قلبي نعمة الإسلام فلا يضرني شيء مهما فعلت بعد ذلك، إشارة إلى أن أعظم نعمة على الإنسان هي نعمة الهداية إلى الإسلام، فمعظم الناس لا يهتمون إلا بشكر النعم الخاصة: نعمة المال، الصحة، المنصب، الوجاهة، وهكذا؛ لأن النعم عندهم هي هذه، وهذا نظر خاطئ، وتراهم بالمقابل يهملون النعم العامة، مع أنهم يتمتعون بها في كل لحظة، مثل: نعمة الشمس، ونعمة الهواء، ونعم الله سبحانه لا تعد ولا تحصى كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ومجرد ذكر النعم وإمرارها على الفكر والقلب هذا في حد ذاته شكر لله عليها، واعتراف بنسبتها إلى المنعم بها وهو الله سبحانه وتعالى.(149/9)
أدلة فرضية التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى وآلائه
إذاً: ينبغي أن نخصص أوقاتاً للتفكر، وإياكم أن تظنوا أن التفكر أمر مستحب، بل التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى فريضة وليس أمراً مستحباً، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت: (حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبكت رضي الله تعالى عنها -وكان هذا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، فقلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، فقام فأخذ يصلي ويبكي حتى بل لحيته، ثم تمادى في البكاء حتى بل حجره، ثم استمر في البكاء حتى بل الثرى - ابتلت الأرض من دموعه صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما دخل عليه بلال ليؤذنه بالصلاة، رآه يبكي فبكى، وقال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزل عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191]) إلى آخر الآيات من أواخر سورة آل عمران.
قوله: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) هذا هو الشاهد، انظر إلى قوله في صدر هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] * {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إذاً: التفكر ليس شيئاً مستحباً إنما هو واجب، وبه يصل الإنسان إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى وزيادة الإيمان واليقين.
وهناك دليل آخر من القرآن على وجوب التفكر في بعض هذه الآيات، وهو قوله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] أي: ليتفكر، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف، فهذا أيضاً دليل على وجوب التفكر فيما تأكله من الرزق، فتفكر في نعمة الله عليك في الطعام، فينبغي أن يكون للتفكر وقت مخصص، بأن يخلو الإنسان ويتفكر في آيات الله، وأن يدرس العلوم الحديثة، خاصة أن العلوم الحديثة الآن كشفت عن آيات توحيد الله سبحانه وتعالى بحيث أصبح الإنسان لا يقرأ سطراً إلا ويسبح الله سبحانه وتعالى ويعظمه ويحمده، فآيات الله ظهرت الآن بصورة مبهرة.
والعلوم الحديثة مثل: علم الجينات، وعلم الفضاء، وعلم البحار، وعلم النباتات، هذه إذا قرأتها بنية التفكر في خلق الله كما ينبغي لها أن تكون فستكون فرعاً من علم التوحيد.
فهنا يمتن الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه كلما ذكر جملة من الآيات في سورة الرحمن ختمها بقوله عز وجل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] معناها: أن الله سبحانه وتعالى يمن علينا بنعم معينة ويطالبنا بالتفكر فيها واستحضار نعمة الله فيها، ثم يعاتبنا أننا قصرنا في شكر هذه النعم، فتأملوا كل جملة من الآيات بعدها يأتي: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
إذاً: فتش عن الآلاء والنعم في الآيات قبل قول الله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
فهذه الجملة من النعم ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10]، فخلق الأرض واستقرارها والرزق الذي فيها، كل هذه الأشياء لماذا نحن نقصر في شكرها وهي نعم عامة، ونحن نتمتع بها؟! تخيل أن الله منع الله عنك الهواء، أو منع عنك الماء، فهل لأنها نعم عامة لكل البشر فنحن لن نستحضرها؟ تذكروا قصة ذلك الملك الذي أصيب باحتباس في البول وتألم لذلك جداً، حتى أتاه بعض العلماء وقال له: هذا الملك الذي أنت فيه الآن، كم تبذل في سبيل إخراج هذا الذي احتبس منك؟ قال: أبذل ملكي كله.
انظروا جعل ملكه في كفة وتفريغ هذا البول في كفة أخرى.
إذاً: كم من النعم ييسرها الله سبحانه وتعالى لنا صباح مساء، ولا نحس بقيمتها إلا حينما نفقدها، حاول مرة أن تغمض عينيك، وأن تمشي في الطريق بدون نعمة البصر، حتى تدرك قيمة نعمة البصر، ربما لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها لحظات، لكن تأمل لو أنك تمشي بدونها، كذا في كل نعمة تأمل لو أنك محروم منها، أو اجلس إلى من امتحنه الله بفقد البصر حتى تعرف مدى نعمة الله عليك، كثير منا مثل المسمار -ونعتذر عن هذا التشبيه- لا يتقدم حتى يُضرب على رأسه، فكثير منا لا يستقيم على طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته إلا إذا ابتلي، أو حرم من النعمة بحيث ينتبه لقيمة هذه النعمة، فالنعم لا تعد ولا تحصى، وكما أشرنا هذه السورة حافلة بذكر النعم التي يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى ضرورة شكرها والتفكر فيها.
قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} الأنام قيل: هم الناس، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الإنس والجن.(149/10)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام) وما بعدها من الآيات
يقول القاسمي: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي: مهدها للخلق.
{فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي: صنوف مما يتفكه به من ألوان الثمار.
{وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} يعني: ذات أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه العنقود، ثم ينشق عن العنقود فيكون بسراً ثم رطباً، ثم ينضج ويتناهى نضجه واستواؤه، وإنما أفردها بالذكر لما فيها من الفوائد العظيمة.
فإذاً: النخل من الفواكه، لكن الله سبحانه وتعالى لخصوصيات في النخل أفرده بالذكر وكأنه ليس من الفواكه، مع أنه فرد من أفرادها ونوع من أنواعها، لكن أشار الله سبحانه وتعالى إليه لأنه أشرف أنواع الفواكه.
والنخل أيضاً له علاقة خاصة بالمؤمن، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الصحابة، فقال لهم: (أخبروني عن شيء من الشجر هو أشبه شيء بالمسلم أو بالمؤمن، فخاض الناس في أنواع الشجر، وكان في القوم عبد الله بن عمر، وهم أن يقول: إنها النخلة، لكنه استحيا؛ لوجود من هم أكبر منه سناً في المجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة)، هناك إشارة أيضاً في القرآن في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] يعني: النخل {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25].
كذلك النخل بالذات لا يوجد فيه شيء يرمى ويستغنى عنه، فمثلاً: كان العرب الكرام إذا أحبوا أن يكرموا ضيفاً أخذوا جذع نخلة وفتحوه واستخرجوا منه شيئاً اسمه الجمار وقدموه للضيف، وطعمه رائع جداً.
إذاً: لو ذهبنا نعدد ونتكلم في نعمة الله سبحانه وتعالى بالنخل لأدركنا لماذا خص الله سبحانه وتعالى النخل بالذكر بعد قوله: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ))، ثم قال: ((وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ)).
يقول القاسمي: وإنما أفردها بالذكر لما فيها من الفوائد العظيمة، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها -الظروف يعني: الأوعية- والانتفاع بثمارها، وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك.
فثمارها تختلف باختلاف الأوقات مع أن أصلها واحد، لكنها تتفاوت في وقت عنها في وقت آخر، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار.
فإذاً: ذكر الفاكهة دون أشجارها كما في قوله: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) لأن فوائد أشجارها في عين ثمارها، يعني: فوائد شجر البرتقال والمانجو والموز وكذا وكذا في الثمرة، لكن شجرة النخل كل شيء فيها مفيد.(149/11)
كلام الشنقيطي على قاعدة: (الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل بالمنع)
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى أن بعض علماء الأصول أخذ من هذه الآية الكريمة: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} وأمثالها من الآيات كقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، أخذوا: أن الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل خاص بالمنع؛ لأن الآية وردت في سياق الامتنان على العباد {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}.
وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فخلقه هذه الأشياء كلها وتسخيرها لبني آدم يدل على أن الأصل فيما هو في هذه الأرض الإباحة إلا أن يرد دليل خاص بالمنع؛ لأن الله أمتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل فيها أرزاقهم من القوت، وحثهم على التفكر في هذه الآلاء، وامتن عليهم بها، ومعلوم أن الله جل وعلا لا يمتن علينا بحرام، إذ لا منة في شيء محرم.
ومن أدلتهم على هذا الأصل: حصر الأشياء المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتابه تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] إلى آخر الآية، فهذا أيضاً يؤكد أن الأصل هو الإباحة، وأن دائرة التحريم دائرة ضيقة جداً، وهي استثناء وليست أصلاً.
وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا} [الأعراف:33]، و (إنما) تفيد الحصر {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات.
وهذه المسألة فيها قولان آخران للعلماء: أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة.
وعللوا ذلك بأن جميع الأشياء مملوكة لله عز وجل، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ليس هذا محل ضبطها.
والقول الثاني -وهو يعتبر القول الثالث- هو التوقف وعدم الحكم فيها بغير عنوانها إذا حكم حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن الأصل هو المنع.
المذهب الثاني: أن الأصل هو الإباحة.
المذهب الثالث: التوقف إلى أن يأتي دليل.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل؛ لأن الأعيان التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الأرض للناس لها ثلاث حالات: الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر بوجه من الوجوه، كأنواع الفواكه مثلاً ونحو ذلك.
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع، فهي ضرر محض، كأكل الأعشاب السامة القاتلة مثلاً.
الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك؛ لعموم قول الله تبارك وتعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}، وقوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:11 - 12]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}.
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات: الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر.
الثانية: أن يكون الضرر أرجح من النفع.
الثالثة: أن يتساوى الأمران، فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساوياً له فالمنع، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بمعنى: أن هذا الشيء إذا كان سيأتي بالمفسدة وبالمنفعة وكلاهما متساويتان فإنه في هذه الحالة (درء المضار مقدم على جلب المنافع)، وإن كان النفع أرجح فالأظهر الجواز؛ لأن المقرر في الأصول: أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: وألغِ إن يك الفساد أبعد أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب ومراده تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة.
يعني: إن كانت المفسدة راجحة على المصلحة كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى، يعني: إذا كان هناك أسرى مسلمون -مثلاً- في أيدي الكفار أو النصارى، ولن يطلقوهم إلا بدفع الفدية، ولا شك أن بذل الأموال للكفار مما يقويهم على معاداة المسلمين ومقاتلتهم، فهم ينتفعون بهذا المال، وهذه مضرة وفي نفس الوقت فإن فك أسرى المسلمين مصلحة، إلا أن المصلحة هنا تترجح على المفسدة، فبالتالي يبذل المال للكفار، مع أن فيه ضرراً يترجح عليه مصلحة إطلاق الأسارى.
كذلك زراعة العنب، فالعنب -مثلاً- قد يستعمل عصيره في صناعة الخمر، لكن الأصل استعماله فيما يباح، فالمصلحة هنا تترجح على وجود احتمال أنه يصنع به الخمر.
وصاحب مراقي السعود ذكر هذه القاعدة وهي: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة ومثل لها بالمثالين السابقين، وهما: الأول: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداءً للأسارى.
الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه؛ لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب المراقي بقوله: والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع(149/12)
تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان)
قال تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12].
قوله: ((والحب)) هنا مفرد ويراد به الجمع، يعني: جميع الحبوب كالبر والشعير وغير ذلك.
((ذو العصف)) قيل: الورق، وقيل: المأكول من الحب، والأقرب والله تعالى أعلم أن العصف هو ورق الزرع، أو الورق اليابس كالتبن.
((والريحان)) أي: الورق الأخضر، وهذا تذكير بالنعمة به وبورقه في حالتي الاخضرار واليبس، وقلنا: إن العصف هو الورق اليابس الجاف، وأما الريحان فهو الورق في حالة كونه خضراً.
إذاً: هنا إشارة إلى حالتي الورق، فهو أحياناً يكون يابساً، وأحياناً يكون غضاً طرياً أخضر.
قوله: (والريحان) على قراءة الجر هو الورق الأخضر، لكن على قراءة الرفع ((وَالرَّيْحَانُ)) هو الزرع الأخضر مطلقاً، يعني: أي زرع أخضر يطلق عليه الريحان، وسمي به تشبيهاً له بالروح؛ لأنه ما دام أخضر فهو حي.
قال ابن عباس: (الريحان خضر الزرع).
وقال القرطبي: الريحان: إما فيعلان من روح، فقلبت الواو ياء وأدغما ثم خفف، أو فعلان قلبت واوه ياء للتخفيف، أو للفصل بينه وبين الروحان وهو ما له روح.(149/13)
الأقوال في تفسير الريحان
ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى الخلاف في تفسير الريحان وقال: إن هناك أربعة أقوال في تفسير الريحان: القول الأول: أن الريحان هو الرزق.
يعني: الأرض فيها فاكهة وكذا وكذا، وفيها أيضاً الريحان، فالريحان هو الرزق، تقول: خرجنا نطلب ريحان الله، يعني: رزق الله سبحانه وتعالى.
وقال النمر بن تولب: فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد فأحيا البلاد وطاب الشجر فقوله: (وريحانه) يعني: رزقه.
القول الثاني: أن الريحان هو خضرة الزرع، ويسمى ريحاناً لاستراحة النفس بالنظر إليه، ولا شك أن النظر إلى اللون الأخضر في النباتات بالذات له أثر رائع جداً في استمتاع النفس واستراحتها.
القول الثالث: أن الريحان هو هذا الريحان الذي يشم.
يعني: هو هذا الذي له رائحة نفاذة طيبة معروفة.
القول الرابع: أنه ما لم يؤكل من الحب يسمى الريحان، وأما العصف فهو ما يؤكل من الحب.
فهذه الأقوال الأربعة ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسيره (زاد المسير في علم التفسير).(149/14)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فيها فاكهة والحب ذو العصف والريحان)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) أي: فواكه كثيرة، وهذا أسلوب عربي معروف.
((وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ)) أي: صاحبة الأكمام.
والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النَّور.
وقيل: هو ليفها، واختار ابن جرير شموله للأمرين.
((وَالْحَبُّ)) كالقمح ونحوه.
((ذُو الْعَصْفِ)) قال أكثر العلماء: العصف: ورق الزرع، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5].
وقيل: العصف التبن.
((وَالرَّيْحَانُ)) اختلف العلماء في معناه: فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه.
وقال بعض العلماء: الريحان الرزق، ومنه قول النمر بن تولب العكلي: فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد فأحيا البلاد وطاب الشجر ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}، بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على (فاكهة) أي: فيها فاكهة وفيها الحب إلخ.
وقرأ ابن عامر: (والحبَ ذَا العصفِ والريحانَ) بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي (ذا العصف) بألف بعد الذال مكان الواو، والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان، وعلى هاتين القراءتين فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين.
وقراءة حمزة والكسائي فبضم الباء في (الحبُّ) وضم الذال في (ذو العصف) وكسر نون (الريحانِ) عطفاً على العصف، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم؛ لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف، وهو الورق أو التبن، وليس صاحب مشموم طيب ريح.
فيتعين على هذه القراءة -أي: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ} [الرحمن:12]- أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:31 - 32] يعني: الفاكهة متاعاً لكم، والأب متاعاً لأنعامكم.
وقوله تعالى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} [السجدة:27]، وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:53 - 54]، وقوله تعالى: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [النحل:10 - 11].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في سورة الفلاح: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:19]، وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9] وقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا} [عبس:27 - 28]، وقوله تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]، وقوله تعالى: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} [الأنعام:99]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره تعالى من الامتنان بالنخل جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق:10 - 11]، وقوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون:19] والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي جاء موضحاً في آيات كثيرة أيضاً، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس:31]، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:21] وقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64] والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة.(149/15)
تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاءِ ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13].
يقول تعالى بعد ذكر هذه الجملة العظيمة من النعم التي ابتدأها بأشرف وأعظم نعمة على الإطلاق وهي نعمة إيحاء القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: لما عدد الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نعماءه وأذكر عباده آلاءه، ونبأهم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل مجموعة من النعم تنفصل عما بعدها بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.(149/16)
وجه تكرار: قوله تعالى: (فبأي آلاءِ ربكما تكذبان) ومعناه
ذهب بعض العلماء إلى أن التكرار هنا للتوكيد، وصحيح أن العرب يستعملون أحياناً التكرار من أجل إفادة التوكيد، تقول مثلاً: نعم نعم، هذا تكرار من أجل التوكيد.
لكن متى ما احتمل الكلام التوكيد وجب حمله على التأسيس لأن فيه معنى جديداً، فمثلاً قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1] فالصد له معنيان: الأول: أن الصد بمعنى الإعراض، كما تقول مثلاً: كلمته فصد عني، يعني: فأعرض عني، فالفعل هنا لازم غير متعد، له فاعل فقط وليس له مفعول.
الثاني: إذا كان الفعل متعدياً فيكون بمعنى الصد عن سبيل الله، كالكافر الذي يشنع على الإسلام أو ينفر الناس منه فهو يصد عن سبيل الله.
إذاً: فقوله تعالى مثلاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1] يحتمل أن يكون الصدود بمعنى الإعراض فيكون هنا تكرار؛ لأن كلمة (كفروا) هي بمعنى أعرضوا وكذبوا، فعلى هذا يكون هذا للتوكيد، وتأتي بمعنى كفروا في ذواتهم وصدوا غيرهم، فهم ضالون قد أضلوا أنفسهم وأضلوا غيرهم، هذا على أن الفعل متعد.
إذاً: مادام اللفظ محتملاً التأكيد ففي هذه الحالة يترجح حمله على التأسيس، وهذا له نظائر كثيرة منها هذه الآية التي تتكرر في سورة الرحمن {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فهي ليست للتوكيد وإنما هي للتأسيس، بمعنى: أنها كلما ذكرت فهي تشير إلى نوع معين من النعم التي ذكرت قبلها مباشرة، كما في قوله تعالى في سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يعني: الذين كذبوا بما سبق ذكره، فهي ليست للتوكيد وإنما هي لتأسيس معنى جديد.
فهنا لما عدد الله سبحانه وتعالى هذه الجملة من النعم جعل هذه الآية {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فاصلة بين كل نعمتين ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقولك للرجل: ألم أبوئك منزلاًَ وكنت طريداً؟ أفتنكر هذا؟! ألم أحج بك وأنت صرورة؟! أفتنكر هذا؟! كذلك هنا يذكر الله جملة من الآيات ثم يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.(149/17)
صورة من تفاعل الجن مع القرآن، وبعض صور التفاعل وحكمه
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً)؛ لأن هذه السورة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ليلة الجن، فلما رأى الصحابة سكوتاً قال: (ما لي أراكم سكوتاً!) هذه إشارة إلى التفاعل مع القرآن؛ لأن بعض الكفار أسلموا لما نظروا إلى المسلمين وهم يصلون، يقول هذا الذي كان كافراً ثم أسلم أشعر أنه يتحدث مع كائن لا نراه.
فأنت في القرآن تتكلم مع الله سبحانه وتعالى وتناجيه وتمجده وتسبحه وتحمده، يعني: هناك تفاعل مع كلام الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه إشارة إلى أدب من الآداب التي يلتزمها المسلم عند تلاوة القرآن وهي التفاعل مع الآيات، إذا قرأت آية رحمة تسأل الله الرحمة، وإذا قرأت آية عذاب تتعوذ بالله من العذاب، وإذا قرأت آية سؤال تسأل، مثلاً في هذه السورة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ترد أيضاً بما يدل على أنك لا تجحد هذه النعم، فالتفاعل مع القرآن من آداب تلاوة القرآن الكريم، يعني: أن تتفاعل مع كل عبارة بما يناسبها، خاصة إذا كان فيها استفهام أو إقرار بنعمة معينة ونحو ذلك، كما في آخر سورة القيامة مثلاً: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]؟ تقول: بلى، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، تقول: بلى، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]؟ تقول: بلى، {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، فتتوقف وتقول: صدق الله، {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36]؟ تقول: نعم ثوب الكفار ما كانوا يفعلون، مثلاً في آخر سورة الملك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30]، تقول: الله رب العالمين، فلو لم تكن العبارة منصوصاً عليها إلا أن هذا من التفاعل المحمود مع القرآن الكريم، كذلك هنا في هذه السورة عاتب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على سكوتهم حينما سمعوا سورة الرحمن، فقال لهم: (ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً) وفي بعض الروايات: (ما تلوتها على الجن ليلة الجن إلا كانوا أحسن مردوداً منكم) يعني: أنتم سكتم لكنهم كانوا يردون كلما قرأت قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وفي هذه الرواية قال: (ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلاّ قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد).
يعني: كان كلما تلا عليهم هذه الآية كانوا يردون على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول: (ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد).
وهذا رواه الترمذي وقال: غريب، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.(149/18)
حقيقة المخاطبين بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الخطاب هنا للثقلين، وهذان الثقلان هما الجن والإنس، ومدلول عليهما بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} يعني: للخلق، وسوف يأتي النص بذكر الثقلين صريحاً فيما بعد في قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31].
فهذا يؤكد أن المقصود بالخطاب هنا الجن والإنس؛ لأنهما المكلفون بشكر النعم، والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتماً، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية؛ لأنه لم يقل: فبأي آلاء إلهكما أو نحو ذلك، وإنما قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)).
إذاً التذكير هنا بصفة الربوبية؛ لأنها تنبئ عن الملكية الكلية، وأن الله سبحانه وتعالى مالك كل شيء، فالله يملك ما في السماوات والأرض.
كذلك أيضاً الربوبية فيها معنى التربية مع الإضافة إلى ضميره: ((رَبِّكُمَا)) لتأكيد النكير عليهم بإهمال شكر هذه النعم، ولتشديد التوبيخ.(149/19)
معنى التكذيب بالآلاء وأقسامه
ما معنى تكذيبهم بآلائه تعالى؟ معناه: كفرهم بهذه النعم، إما بإنكار كونها نعمة في نفسها، فمن الكفار من لا ينظر إلى هذه النعم على أنها نعمة، وبالذات نعمة القرآن الكريم، مع أن نعمة إنزال القرآن هي أشرف نعمة على الإطلاق امتن الله بها على البشرية في كل عصورها، فمن الكفار من لا يراها نعمة في نفسها، وبهذا استحق أن ينكر الله عليه بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، كذلك ما يستند إلى القرآن من النعم الدينية.
أو بإنكار أن هذه النعمة هي من عند الله تبارك وتعالى مع الاعتراف بأنها نعمة في نفسها، وهذا حال سائر الكفار، فهم يعترفون أن الشمس مفيدة للإنسان، ولولا الشمس لحصل كذا، ولولا المطر لحصل كذا، ولولا كذا وكذا من النعم التي يمن الله سبحانه وتعالى علينا بها، فهم يعترفون أنها مفيدة وأنها نعمة، لكن لا ينسبونها إلى المنعم وهو الله سبحانه وتعالى.
إذاً: التكذيب بآلائه تعالى كفرهم بها، إما بإنكار كونها نعمة في نفسها كالقرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونها من الله تعالى مع الاعتراف بكونها نعمة في نفسها، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسنادها إلى غيره تعالى استقلالاً، فهم يسندون النعم إلى غير الله استقلالاً أو اشتراكاً صريحاً، فإما يشركون مع الله آلهة أخرى، وإما ينسبونها إلى غير الله تبارك وتعالى، وإما ينسبونها أحياناً إلى أنفسهم كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب كما في قوله هنا: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، ولم يقل: فبأي آلاء ربكما تكفران، وإنما عبر بالتكذيب لأن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك، فكفرهم تكذيب بها لا محالة، فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان، مع أن كلاً منها ناطق بالحق شاهد بالصدق، كأن كل أية وكل نعمة تنطق بالحق وتشهد بأن لا إله إلا الله، وبحق الله سبحانه وتعالى بأن تشكروا له هذه النعم وتنسبوها إليه، فهي تنطق بالحق وأنتم تكذبونها، كأن الآية نفسها هي التي تتكلم وأنتم تكذبون فيما تشهد به، فلذلك ناسب أن يقول ((تُكَذِّبَانِ)).(149/20)
شهادة النعم بوحدانية الله سبحانه وتعالى
إن هذه النعم تنطق وتتكلم وتشهد بالحق كما قال الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فكل كائن ليشهد أن لا إله إلا الله، ويدل على أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تأتي هذه الشهادة بطريقة عجيبة، فيمكننا أن نتعرف على شهادتها بالتفكر فيها، ودلالتها على خلق الله ونعم الله بها، لكن أحياناً يأتي بصورة أصرح وأصرح وأصرح، كم رأينا من أوراق الشجر وقد كتب عليها الله؟ هناك كتاب بالإنجليزية يسمى (تاريخ الأسماك) هذا الكتاب فيه صورة لسمكة مكتوب عليها باللغة العربية الواضحة جداً: لا إله إلا الله.
والحوادث في ذلك كثيرة، ولعلكم رأيتم أشياء كثيرة مثل هذا، مثلاً: كان هناك شخص تركي عنده منحل، فاستيقظ في الصباح فوجد حركة نشاط غير عادية في النحل، كأن أمراً وصله وهو ينفذه، فبعد أن فرغوا من الشغل انقشع النحل فإذا بورقة سدر مكتوب عليها لفظ الجلالة (الله) بخط في غاية الروعة والجمال.
وعندي هذه الصورة، وعندي صورة أخرى لشجرة في غابة من الغابات في أستراليا، والصورة عبارة عن جذع شجرة على هيئة رجل عربي يلبس قميصاً وهو راكع ومستقبل القبلة.
فهذه صورة من صورة الشهادة، وهناك سمكة في السنغال نشرت صورتها مكتوب عليها: محمد عبد الله ورسوله، بخط في غاية الوضوح، هذه الصور تأتي أحياناً بصورة في غاية البساطة حتى يقر هؤلاء الجاحدون بأن لا إله إلا الله؛ لأن كل هذه الآلاء وكل هذه النعم تنطق بأن لا إله إلا الله، وتشهد بشهادة الحق، وتقودك لو تفكرت فيها إلى التوحيد وإلى شهادة الحق، فصار من يجحد بهذه النعم ويغسله عن خالقها ولا يشكره عليها كأنه يكذبها فيما تشهد به، فلذلك قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).(149/21)
ما جاء من أقوال المفسرين في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان، وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والأرض خاطب الجن والإنس فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم.
وقال ابن قتيبة: الآلاء النعم، واحدها (ألا) مثل قفا، وإلا مثل معى.
فإن قيل: كيف خاطب اثنين وإنما ذكر الإنسان وحده؟ وذلك في قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وكذا الإشارة في صدر السورة بقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4]، وقد سبق أن ذكرنا في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أن هناك تفسيراً لتكذبان وأن معناه: أيها الثقلان؛ لأنه فيما بعد أتى قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، وهناك تفسير آخر وهو أن الخطاب أساساً موجه للإنسان؛ لأنه هو الذي سبق ذكره وحده، فكيف خوطب الإنسان بقوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؟ قيل عنه جوابان: الأول: أن العرب تخاطب الواحد والقوم بفعل الاثنين، هذا أسلوب عربي معروف، فالعرب أحياناً تخاطب الشخص الواحد بالفعل الذي يخاطب به الاثنان كما في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، والخطاب هنا لخازن النار، وتقول العرب للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها.
وقال الشاعر وهو مضر بن ربعي الأسدي: فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز شيحا (صاحبي) يعني: الشخص الذي يحتطب له، وهو شخص واحد، وكان عندهما اللحم يريدان شواءه.
(لا تحبسانا) يعني: لا تحبسنا ولا تعطلنا عن شي اللحم، وواضح جداً أن الخطاب لواحد، لكن استعمل خطاب الاثنين.
(اجتز شيحا) يعني: اكتف بقطع الشيح؛ لأن الشيح أسهل وأسرع حتى نأكل بسرعة، هذا معنى كلامه.
والشاهد هنا في قوله: (لا تحبسانا)، يعني: لا تحبسنا عن شي اللحم.
وأنشد أبو ثروان فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحمي عرضاً ممنعاً وواضح جداً أنه يخاطب ابن عفان وحده.
يقول ابن الجوزي: فيروى أن ذلك منهم لأن الرجل أدنى أعوان إبله وغنمه اثنان.
يعني: أقل عدد من الأعوان عند العرب للذي يكون معه إبل وغنم يكون اثنان.
قال: وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قيل: يا صاحبيَّ يا خليليّ؟ فكثير جداً من الشعراء حتى في الجاهلية، دائماً يقولون: يا صاحبي يا خليليّ.
وقال امرؤ القيس: خليليّ مرا بي على أم جندب نقض لبنات الفؤاد المعذب يعني: حاجات الفؤاد المعذب، ثم قال: ألم تر أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيَّبِ سنلاحظ أنه يخاطب في الظاهر اثنين، لكن اتضح بعد ذلك أنه يخاطب واحداً؛ لأنه في الأول قال: (خليليّ) كعادة العرب في خطاب الواحد بلفظ الاثنين؛ لأن الغالب أنه يكون معه اثنان، فيستعمل معهما صيغة المثنى، فإذا كان معه واحد استعمل أيضاً صيغة الاثنين؛ لأنهم تعودوا عليه.
ولهذا قال هنا في البيت الثاني: (ألم تر) يعني: يا صاحبي، الذي عبر عنه قبل ذلك بالاثنين.
فهذا هو الجواب الأول، لو قلنا: إن ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) خطاب للإنسان وحده.
القول الثاني: وهو الأرجح -والله تعالى أعلم- أن الذكرى أريد به الإنس والجان، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: أيها الثقلان، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها.(149/22)
تفسير سورة الرحمن [14 - 36](150/1)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:14 - 16].
قوله تعالى: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) أي: آدم عليه السلام.
((مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)) قال أبو السعود: تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بموجب شكر النعمة المتعلقة بذات كل واحد من الثقلين؛ لأن الخطاب في هذه السورة هو موجه للثقلين: الجن والإنس، وصرح به في قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:33]، فعلم أن الخطاب بالتثنية موجه للثقلين: الجن والإنس، فهنا تمهيد لما سوف يحصل من التوبيخ على تقصير الجن والإنس في شكر نعم الله تبارك وتعالى المتعلقة بذاتيهما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بأن خلقه أولاً من صلصال كالفخار، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار: الخزف.
وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً، أي: أن الأصل هو التراب، فجعل التراب طيناً لما أضيف إليه الماء، ثم صار كالحمأ المسنون، ثم صار صلصالاً كالفخار، هذه أخبار عن حالات أصله، وقد أتت بكل حالة آية تدل على إحدى هذه المراحل، فلا تعارض بين الآية الناطقة بإحدى هذه المراحل وبين ما نطقت به الآيات الأخرى.
((وَخَلَقَ الْجَانَّ)) أي: الجن أو أبا الجن.
((مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)) أي: من لهب صافٍ، واللهب الصافي هو الذي لا دخان له.
((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما ومن سوابغ النعم عليكما، ومما أظهره لكما بالقرآن الكريم.(150/2)
تفسير قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان ِ)) [الرحمن:17 - 18].
قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما.
((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) يعني: بما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.(150/3)
تفسير قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:19 - 21].
قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}، يعني: أرسل البحرين ((يلتقيان))، من قولك: مرج فلان دابته إذا أرسلها وتركها، والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح والبحر العذب.
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} يعني: يتجاوران، وهذا معروف بظاهرة الأنهار والبحار، فكثير من الأنهار تلتقي في النهاية مع البحار، وتصب فيها ماءها، فما أعجب خلق الله سبحانه وتعالى لهذه البحور والأنهار التي تصب فيها، فلا الأنهار جفت، ولا البحار امتلأت!! فهنا يشير الله سبحانه وتعالى إلى آية أخرى من آياته ونعمة من نعمه وهي قوله: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ))، أي: أرسل وأطلق البحرين ((يَلْتَقِيَانِ))، البحرين: العذب والملح، ويمكن أن يقال: المالح أيضاً كما يقول الشاعر: تلونْتَ ألواناً علي كثيرة وخالط عذباً في إخائك مالح فهذا شاهد في استعمال كلمة مالح في الملح.
((يَلْتَقِيَانِ)) يعني: يتجاوران.
((بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ)) أي: حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه.
((لا يَبْغِيَانِ)) أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، والناس المتخصصون في علوم البحار يعرفون جيداً أن هناك منطقة دائماً تكون بين النهر العذب وبين البحر الملح، وهذه منطقة لها خواص معينة، فهي بمثابة برزخ وحاجز حتى إنه لتعيش فيها كائنات مائية خاصة لا تعيش في العذب ولا تعيش في الملح، وهذه نحن نلاحظها هنا في مصر في منطقة رشيد، وهذه الأماكن التي يحصل فيها هذا الإلتقاء والتشابك حينما تصور من الفضاء أو من الجو تلاحظ بشكل مميز، وهي التي تحول دون اختلاط البحرين تماماً في بعضهما البعض، فلا يبغي واحد منهما على الآخر؛ فلذلك قال تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} يعني: إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجري فيه فراسخ ولا يتلاشى ولا يضمحل حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه كما نشاهده.
وهذه ليست فقط بين البحار والأنهار، فإن هناك حدوداً ربانية بين البحار، فمثلاً: المحيط الأطلسي والبحر المتوسط عند نقطة التقائهما هناك أيضاً برزخ وحاجز، فخصائص هذا الماء غير خصائص الماء الآخر، والكائنات التي تعيش هنا ليست الكائنات التي تعيش هنا وهكذا، وهذه موجودة حتى بين البحار الكبرى.
((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: مما في البحرين وخلقهما من الفوائد.(150/4)
تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
أشار إلى بعض الآلاء التي هي في البحرين العذب والملح بقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:22 - 23].
قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} هذه نعمة جديدة وتوبيخ جديد للجن والإنس على عدم شكر هذه النعمة، أو على التقصير في شكر هذه النعمة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: كبار الدرر أو الدر وصغاره، والمرجان: الخرز الأحمر المعروف، وإنما قيل منهما مع أنه يخرج من أحدهما وهو الملح؛ لأنه لامتدادهما يكون خارجاً منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم.
قال الناصر: وهذا هو الصواب، ومثله قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: من إحدى القريتين، لكن هو إذا كان من إحدى القريتين فيصدق عليه أنه خرج من مجموع القريتين، كما في قوله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] وليس هناك رسل من الجن، وإنما أتى الرسل من الإنس فقط، فيصدق أيضاً أن يقال: إن الرسل بعثوا من مجموع الإنس والجن، ولا يتعارض هذا مع كونهم من الإنس فقط، فهذا مذهب من يقول: إن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الملح فقط، قالوا: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا)) من أحدهما وهو الملح، والمقصود: يخرج من مجموعهما فلا يتنافى مع كونه يخرج من الملح فقط، وكما يقال: فلان من أهل مصر، هذه صفة، وإن كان من محلة منها، كأن يكون من الإسكندرية مثلاً أو من المنيا أو غيرها، فيكون من أهل مصر، ولا تعارض بين الاثنين.
يقول: ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس لتحليهم بها كما يشير له قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، قال سبحانه: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، ولو تأملنا هذه الآية التي أوردها القاسمي للاستشهاد هنا على نعمة الله سبحانه وتعالى في قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا)) فسوف نبدأ بالحديث عن هذا الباب الشائع عند المفسرين، والذي تناقلوه جيلاً بعد جيل، وهو الذي شرحناه آنفاً، وهو أن المقصود: يخرج منهما، يعني: من أحدهما وهو الملح، بناءً على أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان فقط من الملح، لكن إذا تأملنا هذه الآية: ((وَمِنْ كُلٍّ)) وهذا التنوين هو تنوين تعويض، وهو تعويض عن اسم، فعندما تقول: كل إنسان قائم، فيمكن أن تحذف كلمة إنسان وتنون كل فتصبح كلٌ قائم، فهذا التنوين ينوب عن الاسم، فكذلك هنا: ((وَمِنْ كُلٍّ))، يعني: من كل من البحرين.
{تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، اللحم الطري: الأسماك التي تأكلونها من هذا النوع ومن هذا.
فإذاً قوله هو: ((وَمِنْ كُلٍّ)) ينبغي أن يشمل أيضاً قوله: ((وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا))، وهذا يتعارض مع ما سبق، وسوف نوضح هذا إن شاء الله بالتفصيل.
فلما كان خروج هذين الصنفين اللؤلؤ والمرجان نعمة على الناس قال تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، وهي كما ذكرنا في أمثالها من قبل.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال ابن عباس: أي: أرسلهما، وقال ابن زيد: أي منعهما أن يلتقيان بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
وعلماء المسلمين والمفسرون في ذلك الوقت لم يكونوا قد أطلعوا على هذه الدراسات الحديثة والتصوير الذي يتم من الفضاء والدراسات بالآلات الحديثة وغير ذلك، لكنهم في ضوء القرآن الكريم فهموا أن بينهما برزخاً لا يبغيان.
والمراد بقوله: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)) الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وقال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53] أي: أرسلهما، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] أي: حدود فاصلة بين الاثنين.
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} يعني: جعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، وهنا ابن كثير يفسرها بأن البرزخ حاجز أرضي، في حين أن الآية أوضحت أن المقصود أنه حينما يكون الماء مجاوراً للماء تكون بينهما منطقة البرزخ أو هذا الحاجز.
لكن لا شك أن التفسير أحياناً يتأثر بمستوى الدراسات العلمية حسب عصر كل مفسر، وهذا يعتبر من التراث البشري؛ لأن ذلك في حدود علمه، فهي كمعلومات بشرية تركها الله سبحانه وتعالى للبشر يكتشفونها بمرور الأزمان.
فلا شك أن قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، إذا كان بينهما البرزخ من البر ومن الأرض فليس هذا التقاءً ولا تظهر بذلك آية، وإنما الآية العظمى في أن يلتقيا بالفعل دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويضمحل فيه.
يقول ابن كثير: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق، واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، وقيل: كباره وجيده، وقيل: نوع من الجواهر أحمر اللون.
أما قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)) فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية إنما هي من الملح دون العذب، وهذا التفسير بما كان يعرفه ابن كثير من الثقافة السائدة في ذلك الوقت.
يقول ابن كثير: ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).(150/5)
كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
هنا بحث للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تكلم فيه على هذا الموضوع بكلام جيد سنتلوه عليكم، يقول رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو: ((يُخَرج منهما اللؤلؤ والمرجان)) بضم الياء وفتح الراء مبنية للمفعول، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل يخرج، وقرأه باقي السبعة: (يَخرُج منهما)، بفتح الياء وضم الراء مبنية للفاعل، وعليه فاللؤلؤ فاعل يخرج.
ثم يقول: اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن المراد بقوله في هذه الآية: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا))، أي: من مجموعهما الصادق بالبحر الملح، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح وحده دون العذب.
وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه؛ لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12] فالتنوين في قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ))، تنوين عوض، أي: من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحماً طرياً، وتستخرجون حلية تلبسونها وهي اللؤلؤ والمرجان، وهذا مما لا نزاع فيه.
يعلق الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى -والشيخ عطية ممن توفوا في عام الحزن أيضاً وهو العام المنصرم توفي هذا العالم الجليل الذي هو أخص تلامذة الإمام القرآني العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى- يعلق في الهامش على قول شيخه يقول: هذا الاستنتاج الذي توصل إليه فضيلة الوالد رحمه الله يعتبر فتحاً من الله؛ لأنه توصل إليه استنتاجاً، فجاء الواقع يشهد بذلك وإن لم يطلع عليه الشيخ رحمه الله تعالى، فكان ذلك مما يلزم التعليق أو التنبيه عليه، وذلك أنه قد ثبت وجود اللؤلؤ في الماء العذب كما ذهب إليه رحمه الله، كما جاء في دائرة معارف الشعب المصرية عدد (ثلاثة وسبعين) صحيفة (سبعة وثلاثين وخمسمائة)، حيث تكلمت عن اللؤلؤ إلى أن جاء فيها ما نصه: وأنواع المحار جميعها قد تنتج اللؤلؤ ولكنه يوجد غالباً في أنواع معينة منها، فلقد عثر مثلاً على لآلئ رائعة الجمال في محار المياه العذبة التي تعيش في بريطانيا وخاصة أنهار ويلز واسكتنلدا.
وأشهر لؤلؤة منها عثر عليها في نهر (كيمواي) في القرن السابع عشر وأهداها أحد نبلاء الإنجليز إلى الملكة كاترين وما زالت محفوظة ضمن مجوهرات التاج البريطاني في برج لندن، ولا يزال الأهالي يقتنون المحار عند مصب هذا النهر إلى آخره.
فكان إثبات الشيخ رحمه الله تعالى وجزمه باستخراج اللؤلؤ من الماء العذب مغايراً لما عليه جميع المفسرين إثباتاً مؤيداً بنور الله، شهد بهذا كله الواقع وصدقه الحس، وفي ذلك تأييد لكل مجتهد وجد مستنداً صريحاً لما ذهب إليه، ولما فهمه من كتاب الله وإن غاير أقوال الآخرين ما دام له مستند ظاهر كهذه المسألة، يعني: هذه المعلومات تفيد أنه يخرج اللؤلؤ أيضاً من الأنهار العذبة وليس فقط من المالحة كما كانت معلومات من سبق.
يقول: وهذا مصداق ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه وما نطق به من مشكاة النبوة حينما سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من الوحي؟ فقال: لا، إلا بما في هذه الصحيفة أو فهماً في كتاب الله يعطيه من شاء من عباده، وهذا هو الفهم الصحيح المستند إلى نص صريح يعطيه الله تعالى له رحمه الله رحمة واسعة.
ونحن ما فصلنا قليلاً في هذه المسألة إلا لأن هذا القول شائع جداً في كتب التفاسير ويضرب به المثل في أن الخطاب في هذه الآية بالذات يراد به أحد المجموعين وإن كان الخبر يشمل الاثنين.
فقوله تعالى: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا)) يعني: من البحر الملح والبحر العذب، على خلاف ما هو شائع عند عامة المفسرين، ولم يخالف فيما نعلم إلا العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ لأنه جمع بين هذا وبين الآية التي في سورة فاطر: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا))، ومن كل أيضاً: ((تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)).(150/6)
تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:24 - 25]، ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
قوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن، جمع جارية.
((الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)) وقراءة أخرى: (المنشِآت) فإذا قلنا: المنشآت -بكسر الشين- فهي بمعنى: الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن بشكل أفقي، وبفتحها المنشآت بمعنى المرفوعات القلاع التي تقبل بهن وتدبر.
فقوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن الجارية.
وقد فسرت هنا بما كان في زمن المفسرين، فالذي كان يحرك السفينة فيما مضى الشراع فقط، فلذلك قال: (المنشَآت) بمعنى: القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر؛ لأن حركة السفينة تتم حسب حركة الرياح بالأشرعة المعروفة، لكن الآن نحن نرى سفائن منشآت فعلاً في البحار كالأعلام، يعني: كالجبال من ضخامتها.
وخبر السفينة التي تسمى (تيتانك) ليس ببعيد، والخبر معروف جداً فإن أصحابها كانوا قد طغوا وتجبروا وبغوا {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24]، وكان الاحتفال بتدشين بناء هذه السفينة فيه نوع من الاغترار الشديد جداً بمدى فخامتها، فأغرقها الله سبحانه وتعالى وأهلكها، وكان بعضهم قد صرح في حينها بأن هذه السفينة لا يمكن أن تغرق بأي حال من الأحوال لما فيها من الاستعدادات والاحتياطات وكذا وكذا.
فالشاهد أننا نرى هذه السفن -كنا على شاطئ البحر- في الأفق كأنها جبل جاثم فوق سطح الماء، ليست الأشرعة فقط كما كان عليه الحال فيما مضى، لكنه جسم السفينة نفسه كالجبل، وتعرفون اليوم حاملات الطائرات وبعض السفن التي تكون مدناً كاملة مقامة على ظهر البحر، فهذا كله من تسخير الله ومن نعم الله على العباد، ولكن أكثر الناس لا يشكرون؛ ولذلك قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:24 - 25].
والأعلام: جمع علم، والعلم هو: الجبل الطويل، ولما كانت السفن من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع قال تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: بأي نعمه التي أنعم بها عليكم في هذه الجمادات، من خلق موادها والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإمضائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره سبحانه وتعالى، فالسفينة وهي هذه الكتلة الهائلة على البحر، واستعمالها في نقل الأشياء الثقيلة وفي نقل المسافرين وفي الحروب ونحو ذلك كلّ ذلك لا شك في أنه من قدرة الله تبارك وتعالى؛ لأنه إذا قال قائل: العقل البشري هو الذي يبني هذه الأشياء، فإننا نقول: ومن أعطى الإنسان نعمة العقل؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن يحس بقيمتها فليقارن بين الشخص العاقل وبين الشخص المجنون الذاهب عقله، وانظر إلى الفرق بينهما حتى تدرك ما قيمة العقل، أو بالأحرى قس الإنسان العاقل بالبهائم والحيوانات وقارن بينهما، فالله سبحانه وتعالى هو الذي وهب للإنسان نعمة العقل، وأمتن عليه به، فكل ما نجم عن نعمة العقل ما هو إلا من فيض نعمة الله سبحانه وتعالى على الإنسان بهذا العقل.(150/7)
تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:26 - 28].
قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، كقوله أيضاً: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقوله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، وقوله تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]، والوجه صفة من صفات الله العلي التي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:26 - 27] يعني: كل من على ظهر الأرض هالك، وهنا نلاحظ أنه لم يأت فيما مضى قريباً ذكر الأرض إلا في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] فبسبب بعد العهد والسياق عن لفظة الأرض قال بعض المفسرين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} هذا الضمير كناية عن غير المذكور وهو الأرض.
((فَانٍ)) أي: هالك.
((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)) أي: ذاته الكريمة.
((ذُو الْجَلالِ)) ذو العظمة والعلو والكبرياء.
((وَالإِكْرَامِ)) أي: التفضل التام، وهذه الآية كآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.
وقال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، المعنى: أن الله تعالى مستحق أن يجلَّ ويكرم ولا يجحد ولا يكفر به.
وهناك احتمال آخر في التفسير: وهو أن يكون معنى: ((ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)): أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم.
وقد يحتمل احتمال ثالث وهو: أن يكون أحد الأمرين مضافاً إلى الله تعالى، والثاني: مضافاً إلى الخلق، بمعنى: أن أحد الأمرين في قوله ((ذو الجلال)) مضافاً إلى الله تعالى، يعني: أن الجلال صفة لله، واللفظ الآخر: وهو الإكرام يكون مضافاً إلى العبد، بمعنى: أن الفعل منه، كقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] فتكون الآية على هذا الاحتمال الثالث مثل هذه الآية تماماً، فقوله: ((هو أهل التقوى)) مضافة إلى العبد، ((وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)) هو الله سبحانه وتعالى.
فإذاً: أحدهما راجع إلى العبد والآخر راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فالجلال صفة الله، والإكرام فعله بعباده، وهو أنه يكرم عباده.
ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، قال الله سبحانه وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، فإذا كانت الدنيا دار فناء، والعباد والصالحون إنما يعملون للإقامة في الآخرة والتمتع بجنات النعيم، فإن هذا الفناء لابد منه لكي يكون وسيلة إلى برزخ يمر به العبد إلى بعد ذلك، وهذه المرحلة الأخرى وهي يوم البعث والنشور الذي ينتهي به استقرار المؤمنين في الجنة والكافرين في النيران وفي العقاب والعذاب.
فلا شك أن هذا الإخلاء من هذه الزاوية نعمة من نعم الله على العباد، يتجلى فيها عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فيقول: ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل.
فإظهار أهل الحق لتمييز الحق من الضلال من نعم الله عز وجل.
ويقول: وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، لذلك قال سبحانه وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
وقد أشار الرازي إلى ما في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} من الفوائد بقوله: فيه فوائد منها: الحث على العبادة، وترك الزمان اليسير إلى الطاعة.
أي: فيها حث على أن يجتهدوا في العبادة، وأن يستثمروا الزمان اليسير القليل في الطاعة.
ومنها: المنع من الوثوق بما يكون للمرء.
يعني: إياك أن تثق أو تتوكل على مال أو جاه أو منصب أو سلطان أو كذا أو كذا، وإنما تجعل ثقتك وتوكلك على الله سبحانه وتعالى وحده، لأن الكل يفنى ويهلك فلا يوثق به ولا يصلح أن تتوكل عليه، وإنما يصح التوكل على الباقي سبحانه وتعالى.
فلا يقول المرء إذا كان في نعمة: إنها لن تذهب، فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه، ولكن يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.
ومنها: الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل، وإذا أصابه بلاء أو ضرر يتذكر هذه الآية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، فلابد لهذا البلاء من نهاية، فيهون عليه البلاء ويسهل عليه الصبر، ويعصم نفسه من أن يقع في الكفر.
ومنها: ترك اتخاذ الغير معبوداً؛ لأن كل من عدا الله فان، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فالله سبحانه وتعالى الذي يبقى وجهه ذو الجلال والإكرام هو الأحق بأن يعبد ولا يشرك به شيء فانٍ.
ومنها: الزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى، فإن أمرهم إلى الزوال قريب.
أي: أن الإنسان لا يغتر إذا كان مقرباً من ملك أو حاكم وأنه سيحميه ويرزقه ويعطيه ويفعل به كذا وكذا؛ لأنه لو تذكر قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} لعلم أن هذا عما قريب سوف يزول، ومهما طال بهم الزمان فنهايتهم إلى التراب، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
ومنها: حسن التوحيد.
أن يحسن الإنسان توحيد الله تبارك وتعالى، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً؛ لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد، وأي إله يعبد من دون الله فإنه فان بدلالة هذه الآية، فلا يصح الشرك الأكبر، وأيضاً لا يصح الشرك الأصغر الذي هو الرياء؛ لأن هؤلاء الذين ترائي من أجلهم إذا كانوا فانين فلماذا تبطل ثواب العبادة بأن تتزين لهم؟! فهؤلاء الناس لن يقدروا على ثوابك، وإنما الرياء يحبط عبادتك ويذهب جهدك سدى؛ فلذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من تذكر هذه الآية الكريمة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبداً.
قال قتادة: أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان.
وفي الدعاء المأثور: (يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك).
فالإنسان يحرص على أن يتوكل على الله سبحانه وحده ويستعيذ بالله من أن يكله إلى غيره، ولا ينبغي للإنسان أن يتوكل على غير الله تبارك وتعالى.
وقال الشعبي: إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقرأ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}؛ لأن هذه الآيات متقابلة في المعنى، فيها نفي وفيها إثبات، ينبغي أن نصل بينهما في القراءة، فلا تقرأ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ثم تقف، بل الأدب والأكمل أن تتم المعنى؛ لأن المعنى يظهر بالصور المتضادة، فإذا كان كل من عليها فان فلابد أن تثبت قوله تعالى بعدها (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
وهذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي: هو أهل أن يجلَّ فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وكقوله إخباراً عن المتصدقين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9].
قال ابن عباس: ((ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أي: ذو العظمة والكبرياء.
ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الفناء، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؛ لأن الموت والفناء هو وسيلة للانتقال إلى دار الجزاء ودار الرحمة والعدل.(150/8)
تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:29 - 30].
قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هذا إخبار عن غناه عما سواه، وامتداد لمعاني ما مضى؛ لأنه إذا كان: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}، فإذا كان هو الباقي سبحانه وتعالى وهو ذو الجلال والإكرام فإنه مستحق لأن يعبد ويجلَّ ويعظم ولا يلحد ولا يكفر به، ثم إنكم لا غنى لكم عن الله طرفة عين، ولا تستطيعون الاستغناء عن الله، بل أنتم فقراء إلى الله فقراً ذاتياً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، فلذلك أتبع ذلك بقوله: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) وهذا إخبار عن غنى الله سبحانه وتعالى عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الأشياء، فكلهم يسألون الله سبحانه وتعالى سواء بلسان الحال أو بلسان المقال، والله سبحانه وتعالى غني عنهم وهم الفقراء إليه بدليل أنهم يسألونه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.
قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير: قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) من شأنه أن يجيب داعياً، أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً.
وقال مجاهد: كل يوم هو يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً.
وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وطريقهم، ومنتهى شكواهم.
وعن صهيب بن جبلة الفزاري قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي رغاباً، ويقسم عقاباً.
وأقوال المفسرين عموماً تعود إلى هذه المعاني وسنزيدها إن شاء الله تعالى إيضاحاً.
يقول القاسمي: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: يدعونه ويرغبون إليه ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي وغناه المطلق.
((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) أي: كل وقت يحدث أموراً، ويجدد أحوالاً، كما قال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت؛ ولذلك فإن هذه الآية من الآيات التي يستدل بها في مسألة القدر في التقدير اليومي، ومسألة القدر هي سدس الإيمان، فالإيمان ستة أسداس، وهي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما قال لابنه: إنك مهما فعلت، فإذا لقيت الله دون أن تؤمن بالقدر كأنك ما فعلت شيئاً، لا تنجو من النار حتى تؤمن بالقدر.(150/9)
أنواع المقادير التي يقدرها الله سبحانه وتعالى
باختصار شديد نلفت النظر إلى هذه المسألة -نظراً لأهمية مدارسة العقيدة وبالذات قضية القضاء والقدر- فإن الآية مما يستدل بها على إحدى مراتب المقادير؛ لأن التقدير أنواع: فمنه التقدير الأزلي حينما أمر الله سبحانه وتعالى القلم بأن يكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة).
ومنه: التقدير الذي كان حينما استخرج من صلب آدم عليه السلام الذرية وقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار).
ومنه: التقدير الحولي الذي هو التقدير السنوي ودليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3 - 4]، ففي ليلة القدر في كل سنة تتم كتابة المقادير من هذه السنة إلى السنة التي تليها، وما الذي سيحصل في هذا الوجود خلال هذه السنة.
وهذا التقدير ليس بجديد بل هو موافق دائماً لما أثبت في اللوح المحفوظ، مطابقاً لعلم الله سبحانه وتعالى السابق، ولكن تعاد كتابته، أو يكتب من جديد موافقاً لما سبق، وليس فيه أي تغيير.
فإذاً: هناك التقدير الأزلي وهو تقدير أصلي عند خلق القلم.
ثم التقدير حينما استخرج الله سبحانه وتعالى من صلب آدم الذرية.
وهناك التقدير الحولي كل سنة، ودليله قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وليست ليلة النصف من شعبان وإنما ليلة القدر، بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، ونفهمها من ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، فهذه تفسر تلك.
ثم هناك التقدير اليومي، ودليله هذه الآية: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فكل يوم يكتب فيه تقدير للأشياء التي سوف تحصل في هذا اليوم، فهو يبديها وليس يبتديها، تكشف هذه الأحكام وليس إنشاء لها من جديد؛ لأنها سبقت في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي.
وهناك مرحلة أخرى من التقدير وهي التقدير العمري والجنين في بطن أمه، حيث يأتي الملك فيؤمر بنفخ الروح، ويؤمر بكتب أربعة أشياء، فيقول: (أي ربي ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟)، فهذا يكتب في هذه اللحظة أو في هذا الوقت بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الجنين موافقاً لما سبق، وموافقاً أيضاً لما سيأتي في أنواع التقادير الأخرى كما ذكرنا، إذاً: فهذه الآية من آيات القدر ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وهي دليل على التقدير اليومي.
قال مجاهد: يعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً.
وقوله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: مما أجاب به سؤالكما، فأنتم تسألون الله وما أكثر ما سألتم الله سبحانه وتعالى بلسان الحال أو بلسان المقال فأجاب سؤالكم ودعاءكم وآتاكم من فضله، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)): أراد في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر: الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة.
فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب.
وقيل المراد بذلك: الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر، والشأن في اللغة: الخطب العظيم، والجمع: الشئون.
والمراد بالشأن ها هنا الجمع ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فهو مفرد لكن يراد به الجمع كقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67]، يعني: أطفالاً.
وقال الكلبي: شأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمقادير التي سبق بها القلم تساق في كل يوم إلى المواقيت، أي: الزمان الذي حدده الله كي يموت فلان أو يمرض فلان، أو يرزق فلان، أو ينصر فلان وهكذا.
وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)): من شأنه أن يميت حياً، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً.
وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد، فانصرف كئيباً إلى منزله، فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه، فقال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، يعني: أن هذه كلها من أفعال الربوبية ومن مقتضياتها، وهي من أدلة حدوث العالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث فيه، وهذه المخلوقات تخضع لما يشاء الله سبحانه وتعالى فيها، فأي جبار مهما طغى وتجبر لا يستطيع أن يرد قضاء الله سبحانه وتعالى إذا نزل به، وأي سفاح من السفاحين كرئيس الجمهورية العربية السورية، الذي دك بلدة حماة على المسلمين، وانتهكت الأعراض، واستبيحت الأموال، وقتل عشرة آلاف مسلم في يوم أو في يومين، فهذا السفاح انظر إلى نهايته، كيف أنه خضع للموت ولم يملك الاعتراض على ملك الموت الذي أتى لقبض روحه، بل إنه خضع لما أراده الله سبحانه وتعالى به.
((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) فهذا الشأن هو الذي يحدث الله فيه ما يشاء في خلقه مما يقضيه ويقدره بهم.
فلما قال هذا الغلام للأمير: شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، يعني: كل ما يحدث في العالم من أمور وأحداث يشاءها الله سبحانه وتعالى فالله هو الذي يدبرها، فهناك إرادة وهناك قوة هي قوة الله سبحانه وتعالى تغير أحوال هذا العالم من حال إلى حال، في حين أن الكفار يعتقدون -حتى الذي يعتقد أن هناك إلهاً- أن الله سبحانه وتعالى خلق العالم ثم حركه ثم تركه ونسي العالم، فليست هناك محاكمة ولا شريعة ولا حلال وحرام؛ لأنه خلق العالم وحركه ثم تركه!! كلا، بل العالم وكل هذه الموجودات لا غنى لها عن الله طرفة عين، ولا يمكن أن تستغني عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين وإلا فسد كل ما في هذا الوجود ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافىً ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً.
فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام.
فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا داخل في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فقد غير حالي وغير حال الوزير، أي: حين خلع ثياب الوزير التي هي ثياب الوزارة وكساها لهذا الغلام، فقال له: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا نموذج من نماذج أن الله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، يحدث في خلقه ما يشاء من الأفعال.
وعن عبد الله بن طاهر أنه دعى الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، وقد صح أن الندم توبة.
وقوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فما بال الأضعاف.
يعني: الإشكال الأول: وهو أنه قد صح الحديث (أن الندم توبة) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، والسياق في ذم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فإذا كان أصبح من النادمين فكيف يعذب؟ وتعرفون الحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فإذا كان سياق الآية واضحاً في ذم قابيل مع أنه ندم، وكان الندم توبة فلماذا يعذب؟! فقال له الحسين بن الفضل: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركها فيها الأمم.
وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على أنه لم يحمل جثة أخيه لكي يواريها في التراب {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، أي: على أنه لم يدفن أخاه، وليس من النادمين على المعصية نفسها، والله تعالى أعلم.
وأما الإشكال الثاني في قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا كان القلم قد جرى بكل ما يكون إلى يوم القيامة، فكيف أنه كل يوم هو في شأن، أي: تقدر أشياء كل يوم؟ فقال له: أما قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها، فانظر إلى فصاحة العلماء ووجازة كلامهم المبارك، فقوله: (شئون يبديها) يعني: يخرج إلى حيز الوجود ما علمه الله من قبل، فما كان غيباً يخرج علمه للشهادة في وقته الذي حدده الله سبحانه وتعالى، فـ ((كل يوم هو في شأن)) أي: أن هناك تقديراً عما سيحصل في كل يوم لهذه المخلوقات، وهذا لا يتعارض على الإطلاق مع ما كتب في اللوح المحفوظ، فهي شئون يبديها ويكشفها وليست شئون يبتديها، فهذا العلم ليس علماً مستأنفاً وليس علماً محدثاً وإنما هو موافق لعلم الله سبحانه وتعالى.
وأما الإشكال الثال(150/10)
تفسير قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:31 - 32].
قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، معناها: سنقصد لحسابكم، قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً، وتفرغت لكذا، واستفرغت مجهودي في كذا، أي: بذلته، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه وإنما المعنى: فاحذر أن تتصور أن قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، كفراغ واحد من البشر، أن يقول مثلاً: أنا سوف أفضي نفسي وأخلص الذي في يدي وأتفرغ لك!! لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شيء عن شيء، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، أي: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك، يعني: أقصدك، وتقول للرجل الذي لا شغل له أصلاً وليس منشغلاً بشيء: قد فرغت لي، قد فرغت تشتمني، يعني: أخذت في هذا الأمر وأقبلت عليه.
وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على معنيين: أحدهما: الفراغ من الشغل.
والآخر: القصد للشيء والإقبال عليه، كما هنا في هذه الآية، فمعنى الفراغ: سنقصد لحسابكم، وليس معناها: سنفرغ من شغل معين ثم نتفرغ لكم.
وهو تهديد ووعيد، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، فليس هذا على سبيل تمثيل تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة والإحياء والمنع والإعطاء، ليس فيه تمثيل بحال من كان في شغل يشغله عن شغل آخر، فإذا فرغ من ذلك الشغل شرع في الآخر، لكن المقصود هنا {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، أي: سنقصد لحسابكم.
وقيل: الفراغ: الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقد وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده، فمعنى: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) سنحاسبكم أيها الثقلان.
والثقلان: تثنية ثَقَل بفتحتين، فعل بمعنى: مفعل، أي: مثقل؛ لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى: مفعول؛ لأنهما أُثقلا بالتكاليف، وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب.
والخطاب في ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) قيل: للمجرمين من الثقلين، لكن يأباه قوله تعالى: ((أَيُّهَا الثَّقَلانِ))، فالمقصود بالتهديد هم، ولا مانع من تهديد جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم؛ لأن المقصود بـ (سنفرغ) سنقصد لحسابكم، فتشمل الفريقين، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضاً، فهي تشمل وعداً ووعيداً، حتى يقال: إنها وعيد فقط في حق المجرمين! بل هي في حق الجميع، أي: سنقصد المؤمنين بالوعد لحسابهم ومثوبتهم الإثابة الحسنة على الإيمان والعمل الصالح، ونقصد المجرمين لحسابهم بالعدل، بالعقوبة والجزاء وكفى، فهذه عامة وتشمل الأمرين معاً.
يقول: والخطاب في (لكم) قيل: للمجرمين، لكن يأباه قوله: ((أَيُّهَا الثَّقَلانِ))،المقصود بالتهديد هم ولا مانع من تهديد الجميع، ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت بل هو حامل للوعد أيضاً؛ لأن المعنى سنفرغ لحسابكم، وسنثيب أهل الطاعة ونعاتب العصاة، وهو جلي؛ ولذلك اعتد ذلك نعمة عليهم، فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: من ثوابه أهل طاعته وعقابه أهل معصيته.(150/11)
الكلام على أخوف آية في كتاب الله سبحانه وتعالى
وهذه الآية الكريمة وهي قول الله تبارك وتعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، من الآيات التي رشحها بعض العلماء بأنها أخوف آية في القرآن الكريم، يعني: كما أن هناك بحثاً معروفاً في علوم التفسير وعلوم القرآن في أرجى آية، هناك بحث آخر في أخوف آية، وقد تكلمنا على الآيات المحتملة لهذا مرات كثيرة، أما أخوف آية فما أظن أننا فصلنا فيها، وإن كان الوقت لا يحتمل التفصيل لكن سنشير إشارة عابرة إلى هذا البحث، فما هي أخوف آية للعصاة في القرآن الكريم؟ قيل: هذه الآية: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، فإنها تهديد بالحساب، وقيل: أخوف آية قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130 - 131].
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
يقول الغماري: فالعجب من ضعف العلماء الذين يتحايلون لإباحة صور من الربا بعد سماعهم للآية الكريمة، يا ويلهم من الله سبحانه وتعالى.
وفي سورة الزمر آية مثل هذه في الشدة إن لم تكن أشد منها وهي قوله تبارك وتعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر:47]، قال الزمخشري: وعيد لهم -يعني: وعيد للذين ظلموا- لا كنه لفظاعته وشناعته، يقول: وهو نظير قوله تعالى في الوعد: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، هذا في الوعد والثواب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، أما هذه فقيل: إنها في الوعيد بنفس الدرجة على الجهة الأخرى، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}، وجزع محمد بن المنكدر عند موته، فقيل له، فقال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، يعني: ما لم أكن أظنه، قلت: وهذه والله قاصمة الظهر، نسأل الله العفو والعافية، هذا كلام الزمخشري.
وآية ثالثة مثل سابقتها وهي قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]، فعبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وعجائب القرآن لا تنتهي، وروعة القرآن الكريم ومعجزاته لا تنفد أبداً، ولو أن الواحد منا لم يعتن بكلام العلماء ويحاول أن يستخرج مثل هذه العجائب ربما صعب عليه جداً.
فقوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]، النكتة أنه في الذنب الأول قال: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وفي الثانية قال: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).
يقول الغماري أيضاً في خواطره: عبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وعبر في التاركين للنهي عن المنكر؛ لأنهم العلماء والأحبار لما رأوا هؤلاء لم ينهوهم عن المنكر، فعبر عن التاركين نهيهم بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).
قال الزمخشري: كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، يعني: الساكت عن النهي عن المنكر أشد وزراً من مرتكب المنكر، قال: لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، يعني: أن الشيء المتقن الذي يكون الإنسان قد تدرب فيه مدة كافية وتمكن منه، يقال فيه: إن فلاناً هذا عنده الصنعة الفلانية، فتجد عنده المهارة والتمكن وكثرة الممارسة.
يقول الزمخشري بعد ذلك: وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة له بفعل غيره، يعني: عامل المعصية عنده شهوة في داخله هي التي تؤزه عليها أزاً، لكن الشخص المطالب بأن ينهاه ليس معه نفس هذه الشهوة؛ لأن شهوة غيره ليست في قلبه هو، فبالتالي يكون أقوى في النهي عن المنكر، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع، ولعمري إن هذه الآية مما تهز المسامع وتنعي على العلماء توانيهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي أشد آية في القرآن، يعني: آية الوعيد للذين يتركون النهي عن المنكر، {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62]، هؤلاء العصاة، {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]، وهذا دليل على أن الترك فعل؛ لأنه قال في الترك ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)) فعبر بالصنعة؛ لأن هؤلاء قد تمكنوا ورسخوا في هذا العمل.
وعن الضحاك قال: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، وتوضيح ذلك أنه لما ترك الإنكار على مرتكبي المناكير معبراً عنه بالصناعة كان هذا الذم أشد من سابقه؛ لأنه جعل ما ذموا به صناعة لهم وحرفة لازمة وهم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم، وهذا وجه الأشدية التي أشار إليها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: هي أشد آية في القرآن، والأخوفية التي ذكرها الضحاك في قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
وفي سورة التوبة آية شديدة أيضاً وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24].
قال الحسن: أمره: عقوبة عاجلة أو آجلة.
وقال الزمخشري: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجدُ عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول ويغويه الشيطان عن أقل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره.
والبحث في أخوف آية بحث في آيات كثيرة جداً نرجو أن تأتي فرصة فيما بعد كي نفصله.(150/12)
تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33 - 34].
قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم فانفذوا، وإن كنتم تستطيعون الخروج عن المملكة وهي السماوات والأرض بحيث تعجزوني فاخرجوا.
((فَانفُذُوا)) أي: فجوزوا واخرجوا وهذا تحدٍ.
((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم هذا السلطان وهذه القوة وهذا القهر الذي يخرجكم من ملك الله سبحانه وتعالى إلى غيره؟! ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت:22] أي: لن تخيفوه ولن تعجزوه.
ويقال معنى الآية: إن استطعتم أن تعملوا ما في السماوات والأرض فاعملوه ولن تعملوه إلا بسلطان، يعني: ببينة من الله تعالى.
والمعنى الأول أظهر؛ لأنه لما ذكر في الآيات الأولى أنه لا محالة مجاز للعباد عقبه بقوله: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ)) إلى آخره، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده الله سبحانه وتعالى، فالآية التي قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} أي: سنقصد إلى حسابكم، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: إن استطعتم أن تهربوا من حسابي الذي سبق ذكره آنفاً، وإن استطعتم أن تعجزوني وتهربوا وتخرجوا من ملكي فاخرجوا.
((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) ووأنّى لكم هذا السلطان؟! أنّى لكم هذه القدرة وهذه القوة التي تخرجكم من ملكوتي كي تعجزوني؟! ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: بالتسوية بين جميعكم؛ لأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده الله بكم.
وقال القاضي: أي: من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).(150/13)
تفسير قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:35 - 36].
قوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ)) أي: لهب (من نار).
((وَنُحَاسٌ)) أي: صفر مذاب يصب على رءوسكم.
((فَلا تَنتَصِرَانِ)) أي: لا تمتنعان وتنقذان منه، يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول صلى الله عليه وسلم فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، يعني: أن بعض العلماء قالوا: إن هذه الآية المقصود بها في الآخرة، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، يعني: إن استطعتم أن تهربوا من حسابي ومن عقابي في الآخرة.
وقال هنا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}، يقول ابن كثير: هذا في مقام الحشر والملائكة محدقة بالخلائق، محيطة بهم فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان، أي: بأمر الله، {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:10 - 11] أي: لا ملجأ، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:12].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]، ولهذا قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}، والمعنى: أنكم لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردعتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا.
يقول القاسمي: ثم رأيت أنه قد سبقه إلى ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه طريق الهجرتين في تفسير هذه الآية بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا))، قال: وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق فهرب الخلائق فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً كما قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:32 - 33]، أي: يحاولون الهروب لكن لا يستطيعون.
قال مجاهد: فارين غير معجزين، ((يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ)) فارين لكن في قبضة الله وقدرته.
وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هرباً، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، كذلك قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17]، لا يستطيع أحد أن يهرب أبداً من العذاب، وقوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا))، وهذا القول أظهر، والله تعالى أعلم، هذا كلام ابن القيم.
فإذا بهذه الخلائق إذا فاجأهم هذا الموقف ولوا مدبرين، فيقال لهم: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، يعني: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم فافعلوا، وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول؛ لأن قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، وهذا في الآخرة، وبعدها: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}، إلى قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}، وهذا أيضاً في الآخرة.
وأيضاً: فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن، إذ أتى فيه بصيغة العموم وهي قوله: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ))، فلابد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وقال تعالى: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ))، ولم يقل: إن استطعتما؛ لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ)) [الأنعام:130]، فجاءت (ألم يأتكم) بصيغة الجمع.
وقال هنا: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا))، ولم يقل: يرسل عليكم؛ لأنه هنا أراد الصنفين الجن والإنس، أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً، وهذا وإن كان مراداً بقوله: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ))، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم، وحسن الخطاب بالتثنية في قوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا)) لأمر آخر وهو موافقة رءوس الآي، فاتصلت التثنية بالتسوية، وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب للتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما، والله تعالى أعلم.
يقول القاسمي بعدما أورد هذا البحث: وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده؛ لأنه ليس من نظائره.(150/14)
وجه تفسير قوله تعالى: (لا تنفذون إلا بسلطان) على أن السلطان العلم والرد عليه
هنا تنبيه أخير قبل أن نختم الكلام فيما يتعلق بقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، يقول صاحب كتاب (خواطر دينية): كثير من أهل العلم يدعي في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أنه يشير إلى الطائرات وسفن الفضاء، ويقولون: إن معنى: ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) يعني: إلا بعلم، ففيه الإشارة إلى أن العلم سيصل إلى اختراع ما ذكر، وقد حصل ذلك أخيراً كما هو مشاهد، وهذا غلط؛ لأن سياق الآية لا يفيد ذلك ولا يساعد عليه، بل الخطاب فيها لتعجيز الثقلين وإعلامهم أنهم لا يقدرون على الخروج من نواحي السماوات والأرض هرباً من يوم الحساب.
((إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: بقوة، ولا قوة لهم على ذلك، وهذه الطائرات وسفن الفضاء لم تخرج عن أقطار السماوات والأرض، ولا يمكن أن تخرج عنها أبداً، وإنما هي تطير داخلها مهما أبعدت في طيرانها، وحتى لو خرجت خارج المجرة أو خارج كل المجرات القريبة مثلاً فهم ما زالوا في داخل أقطار السماوات، حتى إنهم إلى الآن لا يعرفون حدود سماء الدنيا.
ولم يخرج أحد عن أقطار السماوات إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حيث تجاوز السماوات السبع إلى سدرة المنتهى وإلى الجنة، وكان ذلك إكراماً خاصاً به صلى الله عليه وآله وسلم، فهل تجاوزت طائرة أو سفينة فضاء السماء الدنيا؟ بل هل هي وصلت أصلاً إلى حدود السماء الدنيا؟ نعم أشار القرآن إلى الطائرات بأنواعها بإشارة صريحة في قوله تعالى وهو يذكر نعمته علينا في خلق المواصلات حيث قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] يعني: من وسائل المواصلات التي سوف تصنعونها وتخترعونها وتكون سريعة جداً، وهذا أشرنا إليه من قبل في تفسير سورة يس، وتكلمنا في بحث مفصل عن إخبار القرآن في عدة آيات وكذلك السنة في بعض الأحاديث عن هذه المواصلات الحديثة من السيارات والطائرات ونحوها.
أما قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} [الحج:15] أي: بحبل، {إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني: إلى سقف الحجرة، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] فالشاهد أن السماء تطلق لغة على السقف وغيره، والسحاب يطلق عليه سماء، قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [المؤمنون:18] السماء هنا المقصود بها: السحاب؛ لأنه يعلونا، أيضاً الغلاف الجوي سماء: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] فالغلاف الجوي سقف محفوظ يحفظ الأرض والكائنات الحية من الإشعاعات الضارة التي قد تبيد الحياة، والكواكب يطلق عليها سماء؛ لأنها تعلونا، فقول الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] يعني: أن الجن لا ينفذون إلى ما فوق السماء الدنيا.
ثم قال تعالى: {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] أي: حراسة السماء لنزول القرآن، وهذه كانت من إرهاصات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أمراً عظيماً سوف يحدث، لذلك حرست السماء حتى لا يختطف الجن الوحي فيخلطوه بالكذب كما هو معلوم في الأحاديث.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] لا تعني أبداً أنهم قد اخترقوا أو نفذوا من أقطار السماوات والأرض، خاصة وأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا)) تهديد، ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: لابد لكم من قوة وقدرة على الاختراق، وأنى لكم هذه القدرة التي تمكنكم من أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض.(150/15)