تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون)
قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60].
((منكم)) هنا معناها: بدلكم، يعني: أن (من) تأتي بمعنى بدل، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]، يعني: بدل الرحمن، وقوله تعالى في سورة التوبة: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38]، يعني: بدلاً عن الآخرة.
((مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ)) أي: يكونون مكانكم، وهذا إيعاد لهم بأنهم في قبضة الله ومشيئة، وأنه لو شاء إهلاكهم وإبدال من هو خير منهم لفعل، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
وقيل: معنى ((لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ)): لولدنا منكم ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير أب؛ لتعرفوا تميزنا في القدرة.
واللفظ الكريم يحتمله، إلا أن الأظهر هو الأول.(103/21)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61].
((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) قيل: إن الضمير عائد إلى القرآن، كما ذهب إليه قوم، أي: وإن القرآن الكريم يُعْلِم بالساعة، ويخبر عنها، وعن أهوالها، وفي جعله عين العلم مبالغة، والعلم بمعنى: العلامة.
وقيل: الضمير عائد إلى عيسى عليه السلام، أي أن ظهوره من أشراط الساعة، فتكون هذه الآية من أدلة نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
وهناك آية أخرى تدل على هذا المعنى، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، على التفسير الأرجح من أن الهاء تعود إلى المسيح عليه السلام؛ لأن المسيح ما مات، بل هو حي في السماء، وسوف ينزل في آخر الزمان حاكماً بالقرآن، كما أشارت بذلك الأحاديث.
فالمسيح يصدق عليه تعريف صحابي؛ لأنه لقي الرسول عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج مؤمناً به بلا شك بجانب أنه رسول الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعلى هذا فهو أفضل الصحابة، وهو أيضاً آخر الصحابة موتاً؛ لأنه لم يمت بعد، وسيموت بعدما ينزل إلى الأرض.
وقوله: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) [الزخرف:61] قيل: إن ظهور المسيح عليه السلام من أشراط الساعة، ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا؛ لأن هذه الآيات الكبار تتابع كما تتتابع حبات العقد إذا انفرط نظامه.
وقال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها، فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث.
فقوله: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) أي لعلامة على إمكان البعث والنشور؛ لظهور قدرة الله سبحانه وتعالى في كيفية خلق المسيح عليه السلام من غير أب.
وقرئ: ((وإنه لَعَلَمٌ للساعة)) بفتحتين، أي أنه كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه؛ لأن العَلَم هو: الجبل، والجبل يسمى العلامة؛ لأن كل الناس يرونه.(103/22)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً)
ونختم الكلام بكلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى لقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي: (يصُدون) بضم الصاد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة: ((يَصِدُّونَ)) بكسر الصاد، فقراءة الكسر معناها: يضجون ويصيحون، وقيل: يضحكون.
وقيل: معنى القراءتين واحد، كيعرِشون ويعرُشون ويعكِفون ويعكُفون.
وعلى قراءة الضم فهو من الصدود، والفاعل المحذوف في قوله: ((ضُرِبَ)) قال جمهور المفسرين: هو عبد الله بن الزبعري السهمي قبل إسلامه.
أي: أن الذي ضرب ابن مريم مثلاً هو هذا الرجل قبل أن يدخل في الإسلام.
المقصود: ولما ضرب ابن الزبعري المذكور عيسى بن مريم مثلاً فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك.
أو أنه قال هذا الكلام الذي سنحكيه.
والظاهر أن لفظة (من) هنا في قوله: ((إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) سببية، كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة: أقسم بالله لمن ضربه مات.
يعني: بسبب ضربه مات.
وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، قال ابن الزبعري: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: إن كل معبود من دون الله في النار، وإننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى بن مريم قد عبده النصارى من دون الله، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة؛ لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.
فيقتضي أن يكون عيسى عليه السلام مثلاً لأصنامهم في كون الجميع في النار، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يثني على عيسى الثناء الجميل، وهذا المشرك العنيد كأنه يلزم الرسول عليه السلام، ويقول للناس: هذا كلام محمد يضرب بعضه بعضاً، إذ كيف يثني على عيسى ويمدحه، ويصفه بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ثم يقول: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)) وهو معبود، فيدخل هو وعابدوه النار؟! فزعم ابن الزبعري أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار، مع أنه عليه الصلاة والسلام يعترف بأن عيسى رسول الله، وأنه ليس في النار، فيدل ذلك على بطلان كلامه عنده، وأن الكفار وآلهتهم لا يدخلون النار.
عند ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:101 - 103].
وأنزل الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، أي: ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل، لقصد الغلبة بغير حق.
وقيل: إن (جدلاً) حال، وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل: أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموا، وهم أهل اللسان، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات، والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الوضع العربي لغير العقلاء؛ لأنه قال: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ))، ولم يقل: إنكم ومن تعبدون، وذلك صريح في أن المراد بها هنا الأصنام؛ لأنها جماد لا يعقل، فلا يقال فيها: (من) إنما يقال فيها: (ما) فهي مقتصرة هنا على الأصنام.
وأن قوله: ((وَمَا تَعْبُدُونَ)) لا يتناول عيسى ولا عزيراً ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لا يرد ذلك بقوله تبارك وتعالى بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
ووجه التعبير بصيغة الجمع في قوله تبارك وتعالى: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) مع أن القائل هو عبد الله بن الزبعري السهمي يرجع إلى أمرين: أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس، مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم، وهو ورقاء بن زهير.
والشاعر يهجو بني عبس بذلك.
الأمر الثاني: أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، وفرحوا بذلك، ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه.
وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف:77] وقوله أيضاً: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] وبين صيغة الإفراد في قوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29].(103/23)
معنى آخر لآية: (ما ضربوه لك إلا جدلاً)
وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) هو عامة قريش؛ لأن كفار قريش لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عيسى، وسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك، كما عبد النصارى عيسى! وعلى هذا القول فمعنى قوله: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) أي: ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه.
وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] هذه الآية وإن كانت من القرآن المدني النازل بعد الهجرة إلا أن معناها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكررها عليهم كثيراً قبل الهجرة.
فالإشارة هنا إلى أن هذا المعنى كان ثابتاً عندهم وإن لم يكن قد نزل في ذلك نص هذه الآية من سورة آل عمران.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، ولا شك أن كفار قريش متيقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في مكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم، وهم يعلمون أنهم مجادلون في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ))، التحقيق أن الضمير في قوله: ((هُوَ)) راجع إلى عيسى، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى.
قيل: لأنهم يتخذون الملائكة آلهة، والملائكة أفضل عندهم من عيسى، وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عُبد من دون الله، ولم يكن ذلك سبباً لكونه في النار، ومعبوداتنا خير من عيسى، فكيف تزعم أنهم في النار؟ وقال بعض العلماء: أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم، والمعنى أنهم يقولون: عيسى خير من آلهتنا في زعمك، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، وعيسى قد عبده النصارى من دون الله، فدلالة قولك على أن عيسى في النار مع اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أننا وآلهتنا في النار ليس بحق أيضاً.
وقوله تعالى: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) أي: لد مبالغون في الخصومة بالباطل، كما قال تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، أي: شديدي الخصومة، وقال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]؛ لأن وزن فَعِل كالخصم من صيغ المبالغة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الرجال عند الله الألد الخصم).
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله تعالى: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) إنما بينته الآيات التي ذكرنا بيان سببها، ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها، فعلى القول الأول أنهم ضربوا عيسى مثلاً لأصنامهم في دخول النار، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية قوله تعالى قبلها: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]؛ لأنها لما نزلت قالوا: إن عيسى عُبد من دون الله كآلهتهم، فهم بالنسبة لما دلت عليه سواء، وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفاً، وعلى القول الثاني: أنهم ضربوا عيسى مثلاً لمحمد عليه الصلاة والسلام في أن عيسى قد عُبد، وأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُعبد كما عُبد عيسى.
فكون سبب ذلك سماعهم لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59].
وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى يوضح المراد بالمثل.(103/24)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل)
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59].
التحقيق أن الضمير في قوله: ((إِنْ هُوَ)) عائد إلى عيسى أيضاً، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله: ((أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) لم يبين هنا شيئاً من الإنعام الذي أنعم به على عبده عيسى، ولكنه بين ذلك في سورة المائدة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة:110]، وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45] إلى قوله: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:46].
والله تعالى أعلم.(103/25)
تفسير سورة الزخرف [61 - 71](104/1)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61].
((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ))، الضمير في قوله: (وإنه) إما للقرآن كما قال ذلك بعض المفسرين، فيكون المعنى أن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وعن أهوالها، وفي جعلها عين العلم مبالغة، والعَلَم بمعنى العلامة.
وقيل: الضمير لعيسى عليه السلام أي أن ظهور المسيح عليه السلام من أشراط الساعة، ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا، قال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها، وفي قراءة: ((وإنه لعَلَمٌ للساعة)) أي: شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها، فالمعروف أن من علامات الساعة الكبرى نزول المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
أو إنه سبب للعلم بالساعة؛ لأن عيسى عليه السلام والمعجزات التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يده من أعظم الدلائل على إمكان البعث والنشور، فعيسى عليه السلام في حد ذاته خلق من غير أب فهو آية من آيات الله التي تظهر قدرته على كل شيء، ومن ذلك الإحياء بعد الإماتة، وكذلك المعجزات الأخرى من شفاء الأكمه والأبرص، وإحياء الميت بإذن الله، كل هذا يدل على إمكان البعث والنشور، كما تقول: أمطرت السماء نباتاً، أي: أرسلت ماء يتسبب في إنبات النبات.
كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه، فبعيسى عليه السلام يهتدى إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها؛ لأننا نستدل بخلقه من غير أب، وبإحيائه الموتى بإذن الله على إمكان حصول الساعة أيضاً.(104/2)
نزول عيسى عليه السلام ثابت في القرآن وفي السنة المتواترة
((فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: اتبعوا هداي أو اتبعوا شرعي أو رسولي، أو هو أمر للرسول أن يقول: ((هذا)) أي: القرآن أو ما أدعوكم إليه ((صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) ((وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ))، أي: عن الاتباع ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)).
فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى الكلام في هذه الآية يقول: التحقيق أن الضمير في قوله: (وإنه) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: ((لعلم للساعة)) على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حياً علم للساعة، أي علامة لقرب مجيء الساعة؛ لأنه من أشراطها الدالة على قربها، وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى جار على أمرين كلاهما أسلوب عربي معروف.
أحدها: أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقرب الساعة كانت تلك العلامة سبباً لعلم قربها، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب.
وإطلاق المسبب وإرادة السبب أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تبارك وتعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13]، فالزرق مسبب عن المطر، والمطر سببه، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب.
والثاني من الأمرين: أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كثير في القرآن وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الاعراب إذا ما حذفا وهذا الأخير هو أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل، تقصد: زيد ذو كرم، وعمرو ذو عدل، كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، فقد قال تعالى في سورة النساء في حق المسيح عليه السلام: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، ومعروف أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه.(104/3)
إثبات الشنقيطي لحياة عيسى عليه السلام بالأدلة
فقوله هنا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض.
فإن قيل: قد ذهبت جماعة من المفسرين من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) راجع إلى الكتابي، أي: إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي، يعني: يقولون إن عيسى يمثل له عند موته، فيراه ويؤمن عند احتضاره وخروج روحه أنه عبد ورسول وليس رباً.
ف
الجواب
أن كون الضمير راجعاً إلى عيسى يجب المصير إليه دون القول الآخر؛ لأنه أرجح منه من أربعة أوجه: الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر من السياق، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض، أما القول الآخر فبخلاف ذلك.
وإيضاح هذا: أن الله سبحانه تعالى قال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء:157]، ثم قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ))، أي: عيسى، ((وَمَا صَلَبُوهُ)) أي: صلبوا عيسى، ((وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ))، والذي شبه لهم هو عيسى عليه السلام، ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)) أي: في عيسى، ((لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)) أي: عيسى، ((مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ))، أي: عيسى، ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)) أي: عيسى، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] أي: عيسى، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:159] أي: عيسى ((قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: عيسى، ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)) أي: يكون عيسى عليهم شهيداً.
فهذا السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى.
هذا هو الوجه الأول الذي يترجح به عود الضمير إلى عيسى عليه السلام.
الوجه الثاني من مرجحات هذا القول: أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله تعالى: ((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ)).
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: (ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته)، أي: موت أحد أهل الكتاب المقدر.
أي: فعلى القول بأن الضمير في قوله: (موته) راجع إلى الكتابي، لا يجود ما يفسر الضمير في الآية، فيحتاج إلى تقديره بما ذكر، وهو تكلف، ولا شك أن التفسير الذي لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير؛ فإذا فسرناه: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: قبل موت المسيح ما احتجنا إلى أي تقدير؛ لأن كل الضمائر كما ذكرنا سياقها في شأن المسيح عليه السلام، أما على القول الآخر فلا بد من تقدير.
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح: أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة؛ فلقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسيح عيسى عليه السلام حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً، ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر.
وللأسف الشديد أنه تورط بعض من له فضل على مذهب السلفية في مصر، وهو الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى وعفا عنه، حيث تابع شيخه الشيخ محمد عبده في هذه الضلالة، وهي إنكار نزول المسيح عيسى عليه السلام آخر الزمان! رغم خدمات الشيخ رضا للمنهج السلفي، وأنه ممن أحيوا هذا المنهج هنا في مصر، ومع ذلك كان في متابعاته لـ محمد عبده ما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه فيه، أو عنهما جميعاً، فهذا مما ضل فيه وزل الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى، والعلماء ردوا عليه في عدة كتب.
قال ابن كثير بعدما نصر هذا القول: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى اهـ.
ويعني بالدليل القاطع: الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً؛ لأن الروايات كثيرة جداً؛ لكن القدر المجمع المتفق عليه هو إثبات نزول المسيح عليه السلام، وليس مثلاً كحديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ لأن التواتر هنا تواتر لفظي.
يقول الشنقيطي معلقاً على قول ابن كثير: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى اهـ.
يقول: وقوله: بالدليل القاطع، يعني السنة المتواترة؛ لأنها قطعية، وهو صادق في ذلك، وقال ابن كثير في تفسير آية الزخرف ما نصه: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً، وأما القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى أهل الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل لا من كتاب ولا سنة.
الوجه الرابع: هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره، ظاهرة البعد والسقوط؛ لأنه على القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص.
أما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب! يعني: لا يمكن الأخذ بهذا القول الثاني إلا بتأويل أو تخصيص؛ لأنه من الممكن أن يأتي الموت لأي رجل كتابي فجأة، فلا يمكنه أن يرى عيسى ولا غيره، كمثل من سقط من مكان عال إلى أسفل، أو من قطع رأسه بالسيف فجأة وهو غافل، أو من مات وهو نائم ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص.
فيقال: كل أهل الكتاب ما من منهم أحد حينما يموت إلا ويؤمن بالمسيح قبل موته إلا من سقط من أعلى إلى أسفل، وإلا من صدمته سيارة فمات فجأة، وإلا من مات وهو نائم، وإلا من قطع رأسه بالسيف وهو غافل، وإلا من كذا وكذا ممن لن يستطيعوا أن يروا المسيح قبل الموت ويؤمنوا به.
وهذا التخصيص ليس عليه دليل.
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة.
وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله (قبل موته)، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا: (وإنه لعلم للساعة)، كما ذكرنا.(104/4)
إبطال الشنقيطي بأن عيسى قد توفي من أربعة أوجه
فإن قيل: إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وقوله تعالى على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117].
وهذا السياق للأسف الشديد أورده الشيخ محمد رشيد رضا وهو شيء مؤلم حقيقة وددنا لو لم يقع في مثل هذه الزلات! ف
الجواب
أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلاً، أما قوله تعالى: (إني متوفيك) فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه: الأول: أن قوله: (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص، والعرب تقول: توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له، إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص.
فمعنى: (إني متوفيك) في الوضع اللغوي أي حائزك إلي كاملاً بروحك وجسمك، وعيسى عليه السلام رفع بجسده وروحه، ولو سلمنا جدلاً أن قوله: (إني متوفيك) معناها: إني مميتك، فلا إشكال فيها فإننا نؤمن بأن الله سوف يميت المسيح يوماً من الأيام بعد ما ينزل، كل ما في الأمر أنه لم يحدد متى سيتوفاه، فلم يقل مثلاً: إني متوفيك قبل رفعك إلى السماء، وإنما قال: (إني متوفيك)، فهذا لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه مضى، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما.
وبعض الناس قد يقول: ألم يقل الله: (إني متوفيك ورافعك إلي) فربط التوفي بالرفع على أساس أن العطف يقتضي التتابع أو الترتيب؟! فنقول: لا دليل في ذلك؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العرب على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك، وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق، خلافاً لـ قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الجاحظ وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه، وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه، وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي.
وخلاصة الكلام أن الواو تقتضي مطلق التشريك، تقول: جاء محمد وعلي وحسن، فالعطف هنا يقتضي أنهم كلهم اشتركوا في المجيء، لكن لا يفيد أن مجيئهم كان مرتباً، بخلاف ما إذا قلت: جاء علي ثم محمد ثم حسن، فإن (ثم) تقتضي الترتيب.
وقد استدل القائلون بالترتيب بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ)))، ولكن لا يدل ذلك على اقتضائها الترتيب، وإنما تدل على الاهتمام بالشيء المقدم، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالمذكور الأول، كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، وأحياناً يكون المعطوف بها مرتباً، كما قال حسان: هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذلك الجزاء على رواية الواو، لأن هناك رواية أخرى: هجوت محمداً فأجبت عنه وقد يراد بالواو المعية، كما في قوله: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، يعني مع أصحاب السفينة، وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9]، يعني مع القمر، لكن لا تحمل الواو على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل يدل على ذلك.
فهذا هو الوجه الأول في الجواب.
الوجه الثاني: أن معنى (إني متوفيك) أي: منيمك، (ورافعك إلي)، أي في تلك النومة.
كأنه ألقي عليه النوم ثم رفعه الله سبحانه وتعالى إليه، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين.
الوجه الثالث: أن (متوفيك)، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفى فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى (متوفيك) على هذا: قابضك منهم إلي حياً، وهذا اختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
ثم أعاد التنبيه في بيان أن (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه كاملاً من غير نقصان، فالمعنى أنه توفاه بالروح والجسد، في حين أن معنى: إني مميتك فيها التوفي بالروح فقط وليس الجسد، فيكون قوله: (إني متوفيك) دالاً على نقيض ما يستدلون له.
الدليل الثاني: أن (متوفيك) وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك، أي على أن ذلك في المستقبل بعدما ينزل إلى الأرض.
الثالث: أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن الوفاة تطلق على النوم.
أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]، فدلالته على أن عيسى مات، ودلالة هذا القول على أن عيسى مات منفية من وجهين: الأول منهما: أن عيسى عليه السلام يقول ذلك يوم القيامة، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة،، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى.
والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد لا توفي موت.
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117]، تدل على ذلك؛ لأنه لو كان التوفي هنا توفي موت لقال: وكنت عليهم شهيداً ما دمت حياً فلما توفيتني؛ كما قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]؛ لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة، أما التوفي الذي يقابل بالديمومة فيهم والبقاء فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر، وهو الرفع إلى السماء، فيكون المعنى: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني) أي: نقلتني من الأرض إلى السماء، ولم أعد دائماً فيهم.
وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقاً: أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا: إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلاً، وذلك السبب الذي زعموه منفي يقيناً بلا شك؛ لأن الله جل وعلا قال: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)).
فإذا أتى اليقين من الله سبحانه وتعالى بنفي موت المسيح عليه السلام بالقتل ونفي موته بالصلب لم يبق إلا أنه رفعه إليه، ومن ادعى أن المسيح مات لم يدع إلا بسبب من هذين السببين إما القتل وإما الصلب، فإذا نفى الله قطعاً كلا السببين لم يبق إلا أنه باق على الحياة، قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال أيضاً: ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ))، وانظر إلى الإضراب والانتقال من الضد إلى الضد، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وفيها إشارة إلى معنى العزة والقهر والغلبة، وأن الله ينفذ إرادته ضد إرادة من أراد قتل المسيح عليه السلام أو صلبه.
وضمير (رفعه) في قوله: (بل رفعه الله إليه) ظاهر في رفع الروح والجسم معاً.
وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر، فصار من يراه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه عيسى عليه السلام، وهذا هو السبب في أنهم أنفسهم يقولون: ((إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ))، فهم رأوا صورة المسيح على شخص آخر، فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي على هذا الشخص اعتقاداً جازماً أنه عيسى فقتلوه، فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، فمحمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى، كما أوضحه تعالى بقوله: ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)).
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله من علامات الساعة، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى، وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك، وأن قوله: (متوفيك) لا يدل على موته فعلاً، وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه.(104/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات هذا صراط مستقيم)
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63].
((تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) أي: من أحكام التوراة وغيرها، كاختلاف اليهود في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم، وقد جاء في نحوها آية: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وقد وضع عيسى عن اليهود شيئاً من إصر التوراة وأغلال الناموس كما فعل في يوم السبت.
قال بعض المحققين: وإنما لم يقل: لأبين لكم كل ما تختلفون فيه، بل قال: ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ))، لأنه لم يفعل ذلك، بل ترك بيان كثير من الأشياء كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم تركه للفارقليد، أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده، وجاء في آخر طبعات الأناجيل في قصة نهاية مواقف المسيح عليه السلام أنه قال لمن حوله من الحواريين: إنني ينبغي أن أنصرف عنكم الآن؛ لأني إن لم أنصرف لا يأتيكم الفارقليد روح الحق الذي هو من عند الله سبحانه وتعالى، يأتيكم ويخبركم بكل ما كنت أريد أن أقوله لكم، وإنه ينطق بالحق على فمه، ولا بد أن أمضي الآن، حتى يأتيكم الفارقليد.
والذي سوف يدين العالم ويفعل كذا وكذا.
فتكرر استعمال لفظ الفارقليد أو الفارقليتوس باللغة اليونانية القديمة، وقد كان صاحب كتاب صصد الأنبياء على معرفة بأستاذ اسمه كارلون لينو وهو إيطالي متخصص ومتعمق جداً في اللغة اليونانية القديمة، فقال له: ما معنى كلمة الفارقليد فقال له: إن القسس يزعمون أن معناها المعزي أو المخلص أو المحامي إلى آخر كلامهم، فقال له: أنا لا أسأل القسس أو القساوسة، ولكني أسأل الدكتور كارلون لينو الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، فقال: إنها تعني الشخص الذي في اسمه حمد كثير، قلت له: هل يعني ذلك صيغة أفعل التفضيل من حمد أو أحمد، قال: نعم، قال: كذلك اسم نبينا محمد {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، قال: يا أخي إنك تقرأ كثيراً وسكت اكتفاء بهذا التعليق! وهناك بحوث كثيرة جداً وخاصة من علماء النصارى الذين يدخلون في الإسلام عن علم وعن خبرة وبحوث في غاية العمق، خاصة عبد الأحد داود الذي كان من أكبر قساوسة الطائفة الكلدانية في العراق، ثم أسلم، وله كتب في غاية القوة، ولهم بحوث مستفيضة في ذلك، الذين قاموا بالترجمة من اللغة العبرانية التي تكلم بها المسيح عليه السلام على هذه الكلمة (الفارقليد) لم يحافظوا على اللفظ، بل ترجموا الكلمة بمعناها، مع أن المفروض أن الأعلام لا تغير، فالذي اسمه كريم يظل اسمه في كل العالم (كريماً)، وتكتب حتى بالإنجليزي ( K
الجواب
REEM) مثلاً، لكن الذي حصل أنهم لما ترجموا أحمد ترجموها بالمعنى، مثل أن تحول كريم إلى: جنرس!! فحولتها لمعنى اللغة التي ترجمتها، فهذا الذي فعلوه بكلمة أحمد، حيث ترجمت على أنها صيغة أفعل التفضيل من المدح، والشخص الذي في اسمه حمد ومدح وثناء كثير هو محمد أو أحمد.
فهذا هو السبب في أن هذه الكلمة الفارقليد التي تعني أن هذا الاسم شخص في اسمه حمد كثير، على وزن أفعل التفضيل من حمد، يعني: أحمد بالضبط، فالذي حصل أنهم تناقلوه، لما كثر استدلال المسلمين بهذه الآية، وكثر دخول النصارى في الإسلام بسبب ورود نص في الإنجيل على الفارقليد وأن المسيح مضى كي يأتي الفارقليد، وأنه سوف يغير كل شيء، وأنه ينطق بالحكمة ويعلمهم كل ما يحتاجونه، وأنه هو الذي سيدين هذا العالم وغير ذلك من صفات النبي عليه السلام؛ عندها بدءوا مهنة التحريف، فبدأوا يتجنبون في الطبعات الأخيرة من الأناجيل كلمة الفارقليد ويقولون: المعزي أو المخلص كي يهربوا من ذلك، لكن الأناجيل القديمة كلها كانت تستعمل الفارقليد.
فقوله: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63]، إنما قال: (بعض) لأنه ترك مهمة تبيين كل ما يختلفون فيه إلى من سيأتي بعده، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتى بكتاب يهيمن على كل الكتب السابقة، وذلك لعدم استعداد الناس في زمانه لقبول كل شيء منه، كما قال هو عن نفسه في إنجيل يوحنا في الإصحاح السادس عشر: وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد، وتراث أجدادهم، ولو أنه كشف لهم التزييف الذي زيفوه لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون.
وأما قول الله تعالى على لسانه: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، فالمراد بمثل هذا التعبير أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت، يعني: أن المسيح أخبرت به التوراة، فمجيئه بعد ذلك مما يصدق أن التوراة من عند الله، وكلمة التوراة تطلق على كتب العهد القديم، فالمعنى أن النبي عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل، ولولاه لما صدقت تلك النبوات فإنها لا تنطبق إلا عليه، وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية، وإلا لما قال بعدها مباشرة: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها؟! فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، والمفسرون ما لا يفهمون.
انتهى كلامه، وهو وجيه جداً.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف:64].
قال ابن جرير: أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له عز وجل هو ربي وربكم جميعاً، فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً.
((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعته، وإفراده بالألوهية هو الطريق القويم، وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله، ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه.(104/6)
تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)
قال سبحانه وتعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65] أي: اختلفت الفرق المتحزبة اختلافاً نشأ من بينهم، ولم ينشأ الاختلاف من كلام الله، ولا من كلام عيسى، وإنما نشأ من بينهم هم، فهم الذين اختلفوا في الحق ظلماً وعناداً.
((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) أي: مؤلم من شدة الأهوال وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية.
((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) ولا بد من تفسير الذين ظلموا بالذين كفروا، وفي القرآن يطلق الظلم على الظلم الأكبر: الكفر والشرك، ويطلق كذلك على ظلم دون ظلم وهو المعصية، فهنا لا بد من تفسير ظلموا بالذين كفروا، بدليل ما جاء في سورة مريم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] في نفس المناسبة، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقال أيضاً: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، وقال عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، وقد جاء في الحديث تعيين الظلم هنا بأنه الشرك.(104/7)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة إلا المتقين)
قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:66 - 67].
((هَلْ يَنظُرُونَ)) أي قريش، وينظرون أي: ينتظرون، والاستفهام هنا بمعنى النفي، أي: لا ينتظر الكفار ((إِلَّا السَّاعَةَ)) أي القيامة، ((أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) أي: في حال كونها مباغتة، أو مفاجئة لهم، وهم لا يشعرون بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها.
والمصدر من (أن) وصلتها في قوله: ((أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الساعة.
قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، وقال تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49].
((الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ)) أي: المتخالون على المعاصي والفساد والصد عن الحق يوم القيامة ((بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) أي: معادٍ يتبرأ كل من صاحبه ((إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) إلا المتصادقين في طاعة الله ومحبته عز وجل.(104/8)
تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم أنتم وأزواجكم تحبرون)
قال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69].
((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)) يعني: يؤمنهم من العذاب، ((وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) أي: على فوات لذات الدنيا، لكونهم على حال ألذ منها وأحسن حالاً وأجمل.
((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا)) أي: صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، ((وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) أي: أهل خضوع لله بقلوبهم وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء لا يهود ولا نصارى ولا أهل أوثان {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة، فذكر منها هنا الإيمان بآياته والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع، فمن ذلك -يعني: مما ينفي عن الإنسان الخوف والحزن يوم القيامة-: الإيمان والتقوى، قال سبحانه وتعالى في سورة يونس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] ومن ذلك أيضاً: الاستقامة، وقولهم: (ربنا الله) {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقال في الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13].
والخوف في لغة العرب: الغم من أمر مستقبل.
والحزن: الغم من أمر ماض.
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر.
وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف.
قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]، يعني: إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] يعني: إذا علمتم أنكم لن تعدلوا في اليتامى.
ومنه قول أبي محجن الثقفي: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها يعني: من شدة ما يحب شرب الخمر يتمنى أن يدفنوه بعد موته إلى جنب شجرة عنب، حتى تروي عظامه بالكرم، فالعروق والجذور تتغلغل في الأرض وتصل للعظام.
ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها في الفلاة: أي في الصحراء الخالية، بل ادفني في بستان فيه شجرة عنب.
(فإني أخاف): أخاف هنا معناها: أعلم، أنني إذا مت لن أستطيع أن أذوقها؛ لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته.
قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام، وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وثبت في الصحيح حديث وفد عبد القيس، وفيه أنه جعل من الإيمان الأعمال الظاهرة: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
وقال تبارك وتعالى: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)) أي: تسرون سرواً يظهر حبوره أي أثره على جلودكم، كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)).
قوله تعالى: ((أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ)) فيه لعلماء التفسير وجهان: أحدهما: أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة، ومن هم على شاكلتهم في الإيمان وتقوى الله، وهذا القول اقتصر عليه ابن كثير القول الثاني: أن المراد بأزواجهم: نساؤهم في الجنة، قالوا: لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول؛ ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة، قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:55 - 56]، وقال تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] وقال: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23]، وقال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، إلى قوله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وقال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52].
ومفرد الأزواج زوج بلا هاء -يعني هذا هو الأصل في اللغة- والزوجة بالهاء لغة وليست لحناً، خلافاً لمن زعم أن الزوجة من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة، ومنها قول الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها وقول الحماسي: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية: (إنها زوجتي).
وقوله: ((تحبرون)) معناه: أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها.(104/9)
تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأنتم فيها خالدون)
قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
الصحاف: جمع صحفة وهي آنية الأكل، والأكواب: جمع كوب، وهو ما يشرب منه كالكوز، لكن الكوب ما لا عروة له، قال الشهاب: ما يمسك منه، ويسمى أذناً، ولذا قال من قال فيه: وذي أذن بلا سمع له قلب بلا قلب إذا استولى على صب فقل ما شئت في الصب (وذي أذن بلا سمع) يعني: هو الشيء الذي له أذن لكن لا يسمع بها، وهو الإبريق الذي يكون له أذن يمسك منها (إذا استولى على صب) الصب: يعني المولع بالغرام والشوق.
(فقل ما شئت في الصب) يعني: صب الماء.
ومن اللطائف هاهنا أنه قيل: إنه لما كانت الأواني للمأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب في العادة جمع الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة؛ لأن أواني الأكل تكون أكثر، وأواني الشرب تكون أقل.
((وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ))، أي: تلتذ الأعين برؤيته لحسنه، كما قال تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] وأسند اللذة إلى العين وإن كان المقصود الرائي بالعين، وهذا كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]، والمقصود صاحب هذه الناصية أي: الشخص نفسه، كذلك أيضاً إسناد الخشوع إلى الوجوه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3]، المقصود بها الشخص كله، لكن عبر عنها بالوجوه.(104/10)
تفسير سورة الزخرف [72 - 89](105/1)
تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)
تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة، كقوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
وقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63].
وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
وهذه من الإحالات الكثيرة التي يتميز بها كتاب (أضواء البيان)، وكتاب (أضواء البيان) أهم شيء فيه هذه الإحالات، وأول الطبعات التي طبعت في حياة الشيخ رحمه الله لم يحصل فيها إثبات لهذه الإحالات أو فهرسة كافية لها.
وقد أحسن بعض الإخوة الأفاضل حين ألف كتاب (التبيان لمواضع الإحالات في أضواء البيان)، وهو كتاب لابد منه لمن يتعامل مع أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛ لأنه في كل موضع فيه إحالة يكتب نفس اسم السورة ومواضع الآيات كما هي هنا، مثل قوله: وقد قدمنا الكلام عن هذه الآية الكريمة، فيكتب المواضع التي سبق الكلام فيها بالنسبة لهذه الآيات الكريمة.
إلا أن المؤسف أن بعض الناس لما شرعوا في طباعة الكتاب عدة طبعات كان المفروض للذين يعملون طبعة أن يعملوا فيها جهداً جديداً، وليس مجرد أنه يسرق جهد الآخرين، فلا أحد حتى الآن نعرف أنه خدم الكتاب كما ينبغي، خاصة بالنسبة لقضية الإحالات التي يكون القارئ أحوج ما يكون إليها، فموضوع الإحالات لأضواء البيان مهمة؛ فمثلاً: أنا أنفقت وقتاً كثيراً جداً في محاولة الوصول إلى هذه المواضع؛ لأن المذهب الذي رجحه العلامة الشنقيطي هنا مذهب قويم؛ حيث بين وجه الجمع بين تلك الآيات التي فيها إثبات دخول الجنة بالأعمال، وبين الأحاديث التي فيها: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، فهو جمع حسن وقريب، كما سنبين إن شاء الله تعالى، فرجعت حتى إلى كتاب الفهارس، والأخ أثبت أن فيه إحالة، لكن يبدو أنه مثلي أعياه الوصول إلى هذه الإحالة، فبحثت عن جميع المظان التي يمكن أن يكون الشيخ أشار إليها هنا في حدود علمي، فما استطعت الوصول إليها فيما سبق من أضواء البيان، لا هذه الآية التي هي آية الأعراف، ولا التي تليها التي هي في سورة مريم، فالله أعلم أين تكلم الشيخ على ذلك، ويحتمل أنه كان يقوله في الدروس وليس في الكتاب، وعلى أي الأحوال هذه فائدة عابرة: أنه لابد لمن يتعامل مع أضواء البيان من وجود كتاب الإحالات (التبيان لمواضع الإحالات من أضواء البيان).
المهم أن الشيخ يقول: قد تم الكلام على الجمع بين هذه الأدلة التي تثبت أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وبيَّنا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها مع قوله عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
ومن أوجه الجمع بين الآيات والحديث: أن الباء باء السببية، وليست باء المقابلة، فقولك: اشتريت منك هذا الثوب بعشرين جنيهاً فمعناه: أن الثوب يساوي العشرين جنيهاً، فهذه باء مقابلة، لكن الباء في الحديث سببية، أي: أن العمل مجرد سبب في دخول الجنة.
وشيخ الإسلام له رسالة مستقلة في هذا الموضوع، وكذا الإمام النووي فقد بحثه في شرح صحيح مسلم.
وبعض العلماء قالوا: إن دخول الجنة برحمة الله، أما تفاوت الدرجات في داخل الجنة فهذا بالأعمال الصالحة، لكن العلامة الشنقيطي هنا يقول: إن أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وبين الحديث الشريف: أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل.
فالعمل الذي يكون سبب دخول الجنة ليس كل عمل، وإنما هو العمل الذي يتقبله الله سبحانه وتعالى برحمة منه وفضل، وأما العمل الذي لا يدخل الجنة فهو الذي لم يتقبله الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فإذا تقبله الله فهذا هو الذي يكون سبباً في دخول الجنة، وأما ما لم يتقبله الله فإنه لا يكون سبباً في دخول الجنة.(105/2)
تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)
يقول تبارك وتعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:73].
أي: ما اشتهيتم، و (من) إما ابتدائية، أو تبعيضية، ورجح التبعيض بدلالته على كثرة النعم، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأنها مزينة بالثمار أبداً موقرة بها، أي: فمهما أكل أهل الجنة فإنما يأكلون بعضاً من هذه الثمار وليس كلها فهذا هو وجه ترجيح كون من تبعيضية وليست ابتدائية.(105/3)
تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون كانوا هم الظالمين)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:74 - 76].
((إِنَّ الْمُجْرِمِينَ))، أي: الذين اجترحوا الكفر والمعاصي في الدنيا ((فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)).
((لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ)) أي: لا يخفف ولا ينقص.
((وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ))، أي: يائسون.
((وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ))، أي: بهذا العذاب، ((وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)) أي: بكفرهم بالله وجحودهم توحيده عز وجل.(105/4)
تفسير قوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك)
قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
((وَنَادَوْا)) يعني: بعد إدخالهم جهنم.
((يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) أي: يمتنا، فهذه اللام لام الدعاء، ولا يصح أبداً أن تكون لام الأمر؛ لأن الخطاب من شخص عادي للملك لا يصح أن يكون أمراً.
والمعنى: سله أن يفعل بنا ذلك، فتمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدة التألم من عذاب جهنم.
((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) أي: لابثون.(105/5)
تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)
قال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].
أي: لا تقبلونه، وتنفرون منه، وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليداً، وهذا في غاية الدقة، وهو من مظاهر بلاغة القرآن الكريم.
وقوله: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)) وهل بعض الكفار يحبون الحق؟ ولماذا قال: ((أَكْثَرَكُمْ)).
الجواب
الكفار نوعان: النوع الأول: أكثر الكفار الذين يكرهون الحق ويبغضونه وينفرون منه، ولو كان واضحاً لديهم أنه حق، فهم يجحدون ويعاندون.
النوع الثاني: الأتباع الذين يتبعون هؤلاء الرؤساء أو هؤلاء السادة أو المفكرين أو المثقفين، فيكفرون تقليداً لهم، فالذي يكفر تقليداً ليس كارهاً للحق، ولكنه كافر كفر التقليد، وهو أن يأخذ غيره بزمامه كالدابة دون أن يبحث عن دليل أو يتعرف على برهان، فهذا النوع موجود ضمن الكفار الذين يكفرون بالحق، لكنهم لم يكرهوه، بمعنى: أن كفرهم إنما كان تقليداً لكبرائهم ورؤسائهم، لكن أكثرهم كانوا كارهين مبغضين للحق.
قال القاشاني: سمي خازن النار مالكاً لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها، وبمن حصل الدنيا وملكها، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39].
كما سمي خازن الجنة رضواناً لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
اللام في قوله: ((لِيَقْضِ عَلَيْنَا)) لام الدعاء، والظاهر أن مرادهم بذلك: سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت، فتفسير الآية: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) معناها: ادع الله لنا أن يميتنا، هذا هو التفسير الأرجح للآية.
والدليل على ذلك أمران: الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله في أنفسهم أن يميتهم لما نادوا مالكاً، ولما خاطبوه في قولهم: (ربك).
الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى بين في سورة (المؤمن) أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب؛ وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49].
وقوله: ((لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) أي: ليمتنا، فنستريح بالموت من العذاب.
وهذا نظير قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، يعني: أماته.
وقوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، هذا دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية، فقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يخرجون منها.
أما كونهم لا يموتون فيها فدل عليه قوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، وقوله تبارك وتعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:11 - 13]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، وقوله عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17].
وأما كون النار لا تخفف عنهم فقد بينه قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]؛ لأن (كلما) صيغة عموم.
وقال تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36].
وقال: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:162].
وقال: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف:75].
وقال: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].
وقال: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77].
أما كونهم لا يخرجون منها فالآيات أيضاً كثيرة في هذا المعنى.(105/6)
تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً لديهم يكتبون)
ثم قال تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80].
((أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا)) أي: أم أبرم مشركو مكة أمراً؛ فأحكموه يكيدون به الحق الذي جاءهم، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم من النكال، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42].
وكما قال تعالى أيضاً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ)) أي: ما أخفوه من تناجيهم عندما يمكرون، فيحسبون أنا لا نجازيهم عليه لخفائه علينا؟! ((بَلَى)) أي: نسمعه ونطلع عليه، ((وَرُسُلُنَا)) أي: الحفظة، ((لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)) أي: ما تكلموا ولفظوا به من قول.(105/7)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81].
ثم أشار إلى رد إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى ختماً للسورة بما بدئت به؛ لأن صدر السورة تعرض لإبطال ودحض دعواهم أن الملائكة بنات الله، وهذا يسمى في علم البديع رد العجز على الصدر.
قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) أي: لذلك الولد، والأولية بالنسبة للمخاطبين لا لمن تقدمهم.
قال الشهاب: ولو أبقي على إطلاقه على أن المراد إبهام الرغبة والمسارعة جاز.
قال القاشاني: وهذا إما أن يدل على نفي الولد عن الله سبحانه بالبرهان، وإما أن يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم.
أما دلالته على الأول ففي قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82].
والتفسير في هذه الآية -وبالذات في تفسير القاسمي - مختصر جداً؛ مع خطورة الانحراف في فهم هذه الآية الكريمة.
ولذلك سوف نستعرض كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ حيث أبدع أعظم الإبداع في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)).
اختلف العلماء في معنى (إن) في هذه الآية؛ فقالت جماعة من أهل العلم: إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
والذين قالوا: إن (إن) شرطية اختلفوا في المراد بقوله تبارك وتعالى: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)).
فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد.
وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً.
وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله؛ جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد.
والإنسان قلبه يتفطر وهو يقرأ هذا التفسير؛ لأن بعض الناس يتساهل في التفسير وعدم تنقيح الأقوال إلى هذا الحد الخطير، كما يتضح لنا أثناء مدارسة كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.
وبعضهم قال: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، يعني: لذلك الولد، لكن هو ليس له ولد.
وهناك قول آخر: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً.
وكلا الاحتمالين في غاية الخطورة؛ لأنه يشترط في صحة الإيمان الكفر بعبادة أي والد وأي مولود، لا يصح الإيمان ولا الإسلام لأي شخص إلا إذا كفر أو اعتقد عدم استحقاق أي والد أو أي مولود لأن يعبد أو يتخذ إلهاً، هذا شرط في صحة الإيمان، والقضية في غاية الخطورة، كما سيأتي إن شاء الله.
القول الثالث: قوله: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد.
وقال جماعة آخرون: إن لفظة (إن) في الآية نافية، تساوي ما النافية، والمعنى: قل ما كان للرحمن ولد.
وعلى القول بأن (إن) نافية ففي معنى قوله: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) ثلاثة أوجه: الأول وهو أقرب الوجوه: أن معنى قوله: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)): ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له عن الولد وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
والذي يقوي ويؤكد هذا التفسير ويصححه دون غيره هو قوله سبحانه في الآية التي بعدها مباشرة: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82].
الوجه الثاني: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، أي: أنا أول الآنفين المستنكفين من ذلك القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له، والعرب تقول: عَبِد بكسر الباء، يعبَد بفتحها، فهو عَبِد، بفتح فكسر على القياس، و (عابد) سماعاً: إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه.
ومنه قول الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليباً بدارم قوله: (وأعبد) أي: آنف وأستنكف.
ومنه أيضاً قول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالم يعني: يستنكف أو يستكبر عليه.
وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه المشهورة: (أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت فولدت في ستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم؛ اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد؛ لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، ويقول جل وعلا: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، فلم يبق عن الاتصال من المدة إلا ستة أشهر، فما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها لترد ولا ترجم).
فتأملوا هنا قول الراوي: (فما عبد عثمان) يعني: ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق حين أفتاه به علي رضي الله تعالى عنه.
الوجه الثالث: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
قال مقيده غفر الله له وعفا عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن (إن) نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء، وإنما اخترنا أن (إن) هي النافية لا الشرطية وقلنا: إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور: الأول: أن هذا القول جارٍ على الأسلوب العربي جرياناً واضحاً لا إشكال فيه، فكون: ((إِنْ كَانَ))، بمعنى: ما كان، كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29] أي: ما كانت إلا صيحة واحدة.
فمعنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم المنزه عن الولد، أو ما كان لله ولد فأنا أول الآنفين المستنكفين أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وهل الآية على هذا فيها إشكال؟
الجواب
لا إشكال.
وأيضاً: هذا القول دال على تنزيه الله سبحانه وتعالى تنزيهاً تاماً عن الولد من غير إيهام لخلاف ذلك، فلا يوجد أي شيء من هذه الاحتمالات المبنية على أساس أن (إن) نافية، ولا يتوهم متوهم أن الله يمكن أن يكون له ولد أو أن يتخذ ولداً، فهذا الاحتمال أو هذا الإيهام غير وارد على الإطلاق.
الأمر الثاني الذي يعين تفسير (إن) بمعنى (ما) النافية: أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5].
وفي سورة مريم قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:88 - 92].
والآيات التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية؛ لأن سياق آيات القرآن ونظام القرآن في كل الآيات عند نفي قضية الولد تأتي حاسمة وجازمة بنفيه بصورة ليس فيها أدنى إيهام.
فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح، فلنسلك بهذه الآية نفس المسلك؛ لأن هذه الآية قد تنازع العلماء في تفسيرها، فيترجح القول الذي يتفق مع أسلوب القرآن الكريم في عدة آيات في الصرامة والوضوح الكامل في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
فعندما نقول: ما كان للرحمن ولد على أنها بصيغة النفي الصريح، فهذا مطابق لقوله تعالى في آخر سورة بني إسرائيل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111].
وقال تعالى في أول سورة الفرقان: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان:2].
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91].
وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3].
وقال عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:151 - 152]، إلى غير ذلك من الآيات.
والعلامة الشنقيطي يتناول هذه المسألة تناولاً في غاية الروعة، وكتاب أضواء البيان من درر العلم وكنوزه النادرة، وفيه من التحقيقات ما لا يوجد في غيره.
يقول: وأما على القول بأن (إن) شرطية، وأن قوله تعالى: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى.
أي: أن هذا التفسير لا توجد آية واحدة تسانده.
الأمر الثالث الذي يحتم القول بأن (إن) نافية هو: أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا يجب تنزيهه عن حمله على معانٍ محذورة لا يجوز القول بها.
وإيضاح هذا: أنه على القول بأ(105/8)
تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون)
قال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82].
((سُبْحَانَ)) مصدر يدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وإجلاله، ولما قال تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) نزه نفسه تنزيهاً تاماً عما يصفونه به من نسبة الولد إليه، مبيناً أن رب السماوات والأرض ورب العرش جدير بالتنزيه عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.(105/9)
تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا)
قال تبارك وتعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83].
((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا)) أي: في باطلهم، ((وَيَلْعَبُوا)) أي: في دنياهم، ((حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)) وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة.(105/10)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84].
هذا مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الأنعام {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، يعني: هو الإله الحق المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، ولا ينافي ذلك كون المشركين اتخذوا معه آلهة باطلة؛ لأن مآلهم مع هذه الآلهة هو الخلود في جهنم إلى الأبد، فهذه الآلهة آلهة باطلة، ولذلك فإن معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وأما ما عدا الله من آلهة فهو باطل بلا شك.
وقوله: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ))، يعني: هو معبود في السماء ومعبود في الأرض، كما في آية الأنعام.
((وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) أي: في تدبير خلقه وتسخريهم بما يشاء لمصالحهم.(105/11)
تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض)
قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف:85 - 86].
((وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)) يعني: لا يملك هؤلاء الذي يعبدونهم من دون الله أن يشفعوا لهم كما يزعمون.
((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، أي: من آمن بالله فأقر بتوحيده وهم يعلمون حقيقة توحيده، أي: وحدوه وأخلصوا له على علم منهم ويقين، وهذا كقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
قال ابن كثير: هذا استثناء منقطع.
أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له.
قال الشهاب: استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم، وأنها تجوز وإن لم يشهد.(105/12)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فإنى يؤفكون)
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87].
أي: ليقولن الله هو الذي خلقنا؛ لتعذر المكابرة من فرط ظهوره، وهذا أحد الأدلة الكثيرة التي تثبت أن المشركين كانوا يقولون: لا رب إلا الله، والنصارى يقولون: لا رب إلا الله، وهكذا جميع طوائف المشركين، حتى اليهود يقولون: لا رب إلا الله.
وأبو جهل وأبو لهب كانا يقولان: لا رب إلا الله، وتوحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله التي تأتي من آثار ربوبيته، كالخلق والإحياء والإماتة والرزق، ونحو ذلك، فكل ما يأتي من الله إلى العباد فهو من أفعال الربوبية، فهم جميعاً كانوا يقرون أنه لا رب إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله وهكذا.
فتوحيد الله في أفعاله عقيدة مشتركة بين كافة الأمم الكافرة، ولم يقص الله في القرآن عن أمة واحدة أنها أنكرت وجود الله، نعم منهم من أنكر البعث والنشور، كالدهريين الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، لكنهم لم ينكروا وجود الله.
لكن بيت القصيد هو لا إله إلا الله، هذه هي القضية، فكلمة النجاة ليست: لا رب إلا الله؛ لما نرى هنا في هذه الآية: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ)) من ربهم الذي خلقهم؟ ((لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))، فهم يقرون بذلك.
((فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ))، أي: يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.(105/13)
تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون)
قال تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88].
((وَقِيلِهِ)) أي: قال محمد صلوات الله وسلامه عليه شاكياً إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذبوه وما يلقى منهم.
وبعض العلماء عدوا هذه الآية من الآيات التي فيها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيها القسم بقول النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك شيء آخر أيضاً من الخصائص في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فقوله: (لَعَمْرُكَ) يعني: وحياتك يا محمد؛ لأن لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وآياته العظيمة، وانظر إلى حب الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام، ولذا يحلف بحياته فيقول: لعمرك يا محمد! وهذا ما لم يحصل لنبي آخر من الأنبياء.
وهنا أقسم الله سبحانه بقول محمد عليه الصلاة والسلام فقال: ((وَقِيلِهِ)) فإنه قال شاكياً إلى الله: ((يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)).
وقيل: إن (قيله) معطوفة على ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)).
فقوله: ((وَقِيلِهِ)) أي: قيل محمد صلوات الله عليه، شاكياً إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذبوه وما يلقى منهم: ((يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ))، أي: إن هؤلاء الذين أمرتني بإبلاغهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك قوم لا يؤمنون بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر، وهذا كقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].(105/14)
تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)
ثم قال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89].
هذا خطاب له صلى الله عليه وسلم، فادعاء أن الضمير عائد على عيسى عليه السلام لا دليل عليه، ولا وجه له، وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من شكواه عليه الصلاة والسلام إلى ربه عدم إيمان قومه جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
وقال موسى عليه السلام شاكياً قومه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22].
وقال نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6] إلى آخر الآيات.
وقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، هذه الآية فيها قراءتان: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، والقراءة الأخرى: ((فسوف تعلمون)).
يقول الشنقيطي رحمه الله: هذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة أمور: الأول: أمره بالصفح عن الكفار.
الثاني: أن يقول لهم: ((سَلامٌ)).
الثالث: تهديد للكفار بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار.
أما الأول: فقد أوضحه قوله تعالى: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ))، وقال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وقال عز وجل: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]، والصفح هو الإعراض عن المؤاخذة بالذنب، قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو؛ لأن الصفح مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضاً عن عتابه فما فوقه.
وأما الأمر الثاني: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ))، فقد بين تعالى أنه شأن عباده الطيبين، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم هو سيد الطيبين عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وهناك كلمة في اللغة العربية على وزن المفاعلة، هي (المتاركة)، وهي أن يذهب كل في شأنه ويترك صاحبه، فهذا يعبر عنه بكلمة (المتاركة)، وهذا كما في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وكذلك قال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
وقال عز وجل عن إبراهيم أنه قال له أبوه: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47].
ومعنى السلام في الآيات المذكورة: إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ومن مجازاتهم لهم بالسوء، فلا يتعارض النهي عن بداءة اليهود والنصارى بالسلام مع الأمر هنا بالسلام؛ فالسلام هنا المقصود منه المتاركة، وليس المقصود التحية، فالمعنى: أخبر هؤلاء الكفار بأنك لن تمسهم بأذى، وأنك لن تجزيهم بالسوء يعني: سلمتم منا؛ فلا نسافهكم ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
فمعنى (سلام): أننا لا نؤذيكم، فلا يجوز للإنسان أن يستعمل نفس الآية في المسافهة؛ لأن بعض الناس يريد أن يشتم خصمه ويصفه بالجهل، فيقول له: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وهو يقصد أن يصفه بالجهل، فهذه مسافهة، والمقصود بالآية: سلام عليكم أننا لن نؤذيكم، وهذه متاركة كما قلنا.
وأذكر أن في إحدى المحاكمات القديمة كان القاضي يسرد أسماء بعض الناس ويقول له: مذنب أم غير مذنب؟ فكان البعض يرد على القاضي بقوله: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
وهذا في هذه الحالة ناقض المعنى الذي تدل عليه الآية، والله تعالى أعلم.
أما الأمر الثالث الذي هو تهديد للكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة فقد قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وقال أيضاً: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67]، وقال: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4 - 5]، وقال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3 - 4]، وقال أيضاً عز وجل: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:6 - 7].
وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ))، وما في معناه منسوخ بآيات الجهاد، وجماعة من المحققين يقولون: ليس بمنسوخ، والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم وصف كريم وأدب سماوي لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى.
فحتى لو وصل الأمر في مواجهة الكفار إلى حد القتل، فلا يعني ذلك أن يكون الإنسان سيء الخلق، وألا يتحلى بمكارم الأخلاق، فالقتل في محل يجب فيه القتال، وأما الصفح عن الجهلة والصبر على آذاهم أو الإعراض عنهم فهو وصف كريم وأدب سماوي ليس مما يدخله النسخ؛ لأن هذا من محاسن الأخلاق، كالعفو والإعراض عن الجاهلين.
قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الخاتمة من سورة الزخرف: ((فَاصْفَحْ)) أي: أعرض ((عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ)) لكم أو عليكم، أو أمري سلام، أي: متاركة، يقول القاسمي: فهو سلام متاركة لا تحية.
وقال الرازي: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر، ثم قال: إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قول: سلام، وأن يقال للمؤمن: سلام عليكم.
والمقصود: التنبيه على التحية التي تنسب للمسلم والكافر، أي: فإن كان كافراً قلت: سلام، ولكن هذا الكلام الذي ذكره الرازي فيه نظر؛ لأنه جمود على الظاهر البحت هنا والغفلة عن نظائره، يعني: أن بعض الناس فهم من الآية أنك تقول للكافر: سلام فقط، لكن المسلم تقول له: سلام عليكم، وهذا فيه غفلة عن نظائره من القرآن، مثل قوله تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، فإنه استعمل كلمة (عليك) لأبيه وهو كافر.
وكذلك في الآية الأخرى في سورة القصص قال سبحانه: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، استعمل كلمة عليكم.
على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف، والتقدير: (فقل سلام): أي عليكم، والمقدر كالمذكور، والمحذوف لعلة كالثابت، فالصواب أن السلام للمتاركة.
والله تعالى أعلم.
فإذاً: هذا السلام سلام متاركة، وليس سلام تحية، فإذا قلنا: إنه سلام متاركة لم يحصل تعارض بين فهم هذه الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).
فالظاهر تحريم مبادأة اليهود والنصارى بالسلام، إلا إن كان على صفة عامة، مثل قول الله تبارك وتعالى حاكياً كلام موسى عليه السلام: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، فيمكن إذا دخلت مجلساً فيه مسلمون وكفار أن تقول: السلام على من اتبع الهدى، وأنت تقصد المسلمين.
وأيضاً: فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل الكتاب إلى هرقل سلم بقوله: (السلام على من اتبع الهدى).
كذلك يمكن أن تقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أما مبادأة اليهود والنصارى بالسلام فإن ذلك لا يجوز، كما بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهل يجوز ابتداؤهم بغير السلام؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء؛ فبعض العلماء يقول: يجوز أن تقول للكافر: كيف حالك؟ ونحو ذلك وهناك رواية عن الإمام أحمد أنه قال: هذا أشد من السلام.
وإن كان لا يوجد دليل على المنع من ذلك، لكن بعض العلماء قالوا: إذا هو بدأ بالسلام وأنت ترد التحية بمثلها فهنا يجوز أن ترد عليه بالسلام؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
وعلى أي الأحوال نرجو أن يأتي وقت آخر نفصل فيه أحكام السلام إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، أي: حقيقة ما أرسلت به في سمو الحق وزهوق الباطل.
والحقيقة أن هناك كلاماً فيما يتعلق بإعراب قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
قال القاسمي: قرئ: (وقيلَه) بالنصب عطفاً على (سرهم ونجواهم) في قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، وهذا القول ضعيف؛ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أو أنه معطوف على محل (ساعة)؛ في قوله: ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))؛ لأنه مصدر مضاف لمفعوله، فهو في محل نصب، أو بإضمار فعل، أي: وقال قيلَه.
وقرئ بالجر عطفاً على الساعة، أو أن الواو للقسم، والجواب محذوف، أي: لأفعلن بهم ما أريد، أو مذكور، وهو قوله: ((إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)).
وقرئ بالرفع (وقيلُه) عطفاً على (علم الساعة) بتقدير مضاف، أي: وعنده قيله، أو مرفوع بالابتداء، وقوله: (يا رب) إلى آخره هو الخبر، أو أن الخبر محذوف، أي: وقيلُه كيت وكيت مسموع أو متقبل.
والله أعلم.
هذا آخر تفسير سورة الزخرف، ونشرع بعد ذلك إن شاء الله في تفسير سورة الدخان.(105/15)
تفسير سورة الدخان(106/1)
تفسير قوله تعالى: (حم.
والكتاب المبين؟ إنا أنزلناه في ليلة مباركة)
سورة الدخان سورة مكية، وآيها تسع وخمسون، وقد روي مرفوعاً: (من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك) وهذا الحديث منكر لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2] تقدم الكلام مراراً في الحروف المقطعة في أوائل السور.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يعني: ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم، وكانت في رمضان، كما قال سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
إذاً: وصف هذه الليلة بأنها أنزل فيها القرآن يفسره قوله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، ووصف الليلة بأنها مباركة أيضاً يفسره قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3]، ولا شك أن كونها خيراً من ألف شهر مظهر من مظاهر هذه البركة، كما أن إنزال القرآن فيها مظهر أيضاً من مظاهر كونها ليلة مباركة.
قال ابن كثير: ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النجعة؛ فإن نص القرآن أنها في رمضان، وما روي من الآثار في فضل ليلة النصف من شعبان لا تثبت، فهي ما بين مرسل وضعيف، وعلى فرض صحتها فهي لا تفيد أن القرآن نزل فيها، والبركة اليُمن، ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، وذلك بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى والنجاة من الضلال والردى.
قال القاشاني: ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة والهداية والعدالة في العالم بسببها، وازدياد رتبته صلى الله عليه وسلم وكماله بها، كما سماها ليلة القدر؛ لأن قدره وكماله إنما ظهر بها.
قوله: (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) أي: من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذام، وتذلل للهوى، ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.(106/2)
تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم)
قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي: يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة على وجه متين محمود عند الكمل، تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم.
وهذه الآية تدل على نوع من أنواع القدر وهو التقدير الحولي؛ لأن ليلة القدر تأتي في الحول مرة في شهر رمضان، حيث يكتب في ليلة القدر موافقاً لما سبق به القضاء في اللوح المحفوظ ما يحصل من هذه السنة إلى السنة التي تليها؛ فإن هناك تقديراً عاماً قبل خلق السماوات والأرض، وهناك تقديراً يومياً ويدل عليه قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] وهذه التقادير لا تتناقض ولا تتعارض؛ لأنها كلها تكون متوافقة مع ما سبق به القدر في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5] نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، فبعدما فخّم الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، ووصفه بقوله: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2]، فهذا بيان لفخامة القرآن الذاتية من حيث كونه كلام الله سبحانه وتعالى، ومن حيث كونه كتاباً مبيناً؛ أتبع ذلك ببيان فخامته الإضافية إلى الله.
إذاً: قوله عز وجل: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية.
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6] أي: مرسلين إلى الناس رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ رحمة منه تعالى بهم لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] السميع لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها، (العليم) أي: بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال.(106/3)
تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض بل هم في شك يلعبون)
قال الله تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7].
قوله: (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدون اليقين، وليس معنى: (إن كنتم موقنين) يعني: إن كنتم متصفين باليقين؛ لأن الخطاب هنا يعم أيضاً الكافرين، فيقول أبو مسلم: (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا، كقولهم: فلان منجد مسهم أي: يريد نجداً وسهاماً.
انتهى.
وقيل: معناه: (إن كنتم موقنين) بما تقرون به من أنه رب الجميع وخالقهم، وذلك بتوحيد الربوبية؛ فينبغي ألا تعبدوا إلا الله كما أنكم توقنون أن لا رب إلا الله، ولذلك أتبع الآية التالية بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:8].
قال عز وجل: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9] أي: بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته؛ لأن الإيقان يستلزم قبول البرهان، فإنما يقولون هذا القول وهذا الإقرار على سبيل مزجه باللعب.(106/4)
تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم)
قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:10 - 12].
قوله: (فارتقب) أي: انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه.
يقول القاسمي: وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:(106/5)
الوجه الأول في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)
قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، يعني السبع العجاف التي قاد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام الحركة الاقتصادية في مصر وأخرجهم من الأزمة، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يعاقبوا بسنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على قريش فأخذوا بالمجاعة.
ما علاقة ذلك الجدب بالدخان؟ قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.
كأن هذا عرض نفسي، كما يعبر في الأمراض النفسية بالهلوسة البصرية، وهو خلل في إدراك الأشياء، فيرى شيئاً معيناً نتيجة خلل أو اضطراب، وبعض الأدوية قد تحصل بها تلك الهلوسة للإنسان إذا استيقظ من النوم.
روى ابن جرير عن مسروق قال: (كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن قاصاً عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بنفوس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله! فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؟ فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [ص:86] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من قريش إدباراً عن دعوته ورفضاً، قال: اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حطت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قال الله عز وجل: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)) * ((يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)) * ((رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)) * ((أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ)) * ((ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)) * ((إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ)) [الدخان:10 - 15] قال: فكشف عنهم).
والحقيقة أن هذه الآية من الآيات التي اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلافاً مشهوراً، ولذلك يهتم بها علماء التفسير اهتماماً خاصاً، فيفصلون الكلام فيها ويطيلون النفس، فهذا ابن مسعود يجزم بأن آية الدخان قد مضت في هذه المناسبة التي ذكرنا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
إذاً: ابن مسعود كان يقطع بأن آية الدخان قد مضت، وهي الدخان الذي كان يراه أحدهم من شدة الجوع كأنه في السماء.
قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما.
ثم قال: وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى جماعة من السلف كـ مجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: (ثم عادوا) وفي الآية: (إنكم عائدون).
يعني: حينما يستجيب الله لدعاء نبيه فيكشف عنكم هذا العذاب سوف تعودون إلى الكفر من جديد، ولا توفون بما وعدتم به من الإيمان والطاعة.
يقول: ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب حاضراً ذلك، فلذلك قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت في المدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جداً، والله المستعان.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما: أن في سنة القحط يعظم اليبس بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان، ولذلك يقال لسنة المجاعة: الغبراء.
ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب الكثير بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، يعني: حصل بسببه شر كثير أو شر غالب، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه أو على ما يلزمه الدخان؛ ولذا قيل: تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان لا بد أن تكون هناك صفات غير مرغوبة في الإنسان، كالعود لا يفوح منه الريح الطيب إلا مع خروج الدخان فيه.
يعني: أنه لا يوجد إنسان معصوم يسلم من الشر قط إلا الأنبياء.
إذاً: هذا ما يتعلق بالوجه الأول في تفسير الآية على ما قاله وانتصر له وجزم به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو: أن الدخان آية حصلت ومضت وانقضت.(106/6)
الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)
الوجه الثاني في الآية: أن هذا الدخان المذكور في قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد وهو آت، وهذا قول حذيفة رضي الله تعالى عنه، ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين.
قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الوجه الأول: أن قوله: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ)) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، فقوله: (يوم تأتي السماء بدخان) نص واضح وصريح على أن السماء نفسها سوف تأتي بدخان، ولا شك أن الأصل حمل الآية على الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تصرفه عنها.
إذاًَ: لفظ هذه الآية: ((يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة للعين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فهذا الشيء الذي يراه الجائع من شدة الجوع من ظلمة أو غبراء لا يطلق عليه دخان، ولا ينطبق عليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين).
(يَغْشَى النَّاسَ) فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل يرجح هذا التأويل، وهذا لا يجوز.
الوجه الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً يقول عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها حالة عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً.
الوجه الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، قال تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل.
الوجه الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة، فقد ثبت في الأحاديث أن الدخان من الآيات المنتظرة ومن أشراط الساعة.
والقول الأول لا شك أنه يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً.
فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى قص عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام الأمر؛ فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى ذلك عنهم رجعوا إلى شركهم؛ ولأننا إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ.
نقول: هذا كلام أيضاً فيه نظر، ويجاب عنه: ما المستغرب أنها تكون آية من آيات القيامة ومن أشراط الساعة، وأنهم إذا نزلت بهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيقول الله لهم بعدما يصيبهم هذا العذاب أو هذا الدخان: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] أي: رغم كشفنا عنكم هذا العذاب، فهل هذا فيه أي إشكال؟! ليس فيه أي إشكال، إلا في حالة واحدة وهي لو كانت هذه العلامة مثل: علامة طلوع الشمس من مغربها حيث يغلق باب التوبة ولا يستجاب لهم في مثل ذلك، لكن لم يأت دليل على أن آية الدخان مثل هذه العلامة، فلا إشكال في كون العذاب يقع عليهم كما أخبر الله ويدعون الله قائلين: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) ويقول الله لهم: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون).
ثم يقول: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فإن عامة علامات القيامة لا توجب انقطاع التكليف، فخروج المهدي مثلاً لا يوجب انقطاع التكليف على النفس، ونزول المسيح عليه الصلاة والسلام لا يوجب انقطاع التكليف، وغير ذلك من أشراط الساعة التي لا توجب انقطاع التكليف، بل الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه، والله تعالى أعلم.
وقد رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة.
فـ ابن عباس يخالف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في مجموعة أخرى من الصحابة والتابعين.
إذاً: قول ابن عباس لا شك أنه ظاهر القرآن، وهو أن قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} من علامات الساعة، أي: دخان بين واضح يراه كل أحد، أما على تفسير ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس بدخان بيّن حقيقي وإنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، لكن قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} يعني: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يغشى الناس) أي: عامة الناس، أما ما حصل لأهل مكة فكان في الكافرين.
قوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (هذا عذاب أليم)، كقوله عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:13 - 14] أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون)، أو يقول بعضهم لبعض: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون).
وقوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي يقول الكافرون ذلك إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، وكذا أيضاً قوله تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44]، وهكذا هنا حين قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] قال لهم الله سبحانه وتعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13] أي: كيف لهم في التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] أي: ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، كقوله جلت عظمته: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23]، وكقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51] إلى آخر سورة سبأ.
ثم قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] هنا معنيان: أحدهما: أنه تعالى يقول: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75]، وكقوله جلت عظمته: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
المعنى الثاني: أن يكون المراد بقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً) أي: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من كشف العذاب عنهم أن يكون العذاب قد نزل بهم بالفعل، وإنما يكون العذاب قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم ثم كشفه الله عنهم وإن لم ينزل بهم، وذلك مثل قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فقوم يونس لم ينزل بهم العذاب ثم كشفه الله عنهم، وإنما كانوا قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناهم من سنته، وإلا فأي أمة استحقت العذاب فلا بد أن يصيبها العذاب.
إذاً: قوم يونس لما آمنوا حينما استحقوا العذاب عوملوا معاملة استثنائية، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فلم يكن العذاب قد اتصل بهم، وهذا هو الشاهد على أن قوله: ((إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ)) لا يستلزم أن يكون العذاب قد باشرهم واتصل بهم، وإنما قد يكون المعنى: أن العذاب قد انعقدت أسبابه بعد أن استحقوه.
يقول القاسمي رحمه الله: ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ ي(106/7)
الوجه الثالث في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)
قال القاسمي: وأما الوجه الثالث في الآية: فروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الرحمن الأعرج في قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: كان يوم فتح مكة.
أي: أن هذا الدخان المبين كان يوم فتح مكة.
قال ابن كثير: وهذا القول غريب جداً، بل منكر.
ومثل هذا القول لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ترجمان القرآن أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له وصدقها عليه، لاسيما وأن قوله تعالى في آخر السورة: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] يفهم منه أن هذا وعد بظهوره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء الكفار، وكان ذلك بالفعل يوم الفتح، وحينئذ فمعنى قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} [الدخان:15] أي: ما ينزل بهم يومئذ برفع القتل والأسر عنهم.
قوله: (إنكم عائدون) أي: إلى لقاء الله ومجازاته.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب عليهم الرضوان اهتماماً في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها، حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية، وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار، وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم وإيثاره من الألفاظ أرقها وأوجزها.(106/8)
تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون)
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16].
قوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى) فسرها ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول من وافق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه من رواية العوفي عنه، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل.
يقول القاسمي: والظاهر أن ذلك يكون يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة.
وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله تعالى أعلم.(106/9)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان:17].
(ولقد فتنا) أي: ابتلينا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وذلك بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان.
قوله: (وجاءهم رسول كريم) أي: كريم على الله وكريم على المؤمنين، أو كريم في نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18] أي: قال موسى عليه السلام مخاطباً فرعون وقومه: أرسلوا معي بني إسرائيل.
قوله: (عباد الله) يحتمل في إعرابها أن قوله: (عباد الله) منادى حذفت أداة ندائه، أي: يا عباد الله، لكن الأرجح أن قوله: (عباد الله) مفعول به، أي: أرسلوا أو ابذلوا إلي عباد الله، بدليل آية طه: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:47] فهي تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله)، كذلك قوله في الآية الأخرى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17]، فهذه تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أنها مفعول به منصوب، ولفظ الجلالة مضاف إليه.
قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أي: أرسلوا معي بني إسرائيل؛ لأسير بهم إلى بلادنا الأولى، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم، فإنهم قوم أحرار، وأنتم أذللتموهم واستعبدتموهم، فهم رفضوا هذه الديار وكرهوا هذا الضيم وهذا الذل، فأطلقوهم من هذا الحبس وهذا الظلم.
قوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: على وحيه ورسالته التي حملنيها إليكم؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم.
قوله تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان:19] أي: لا تعلوا على الله بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم وتكذيب رسوله.
قوله: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة واضحة على ربوبية الله ونبذ ربوبيتكم، وعلى رسالتي، وعلى أن بني إسرائيل عباده.
قوله تعالى: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان:20] أي: اعتصمت به من رجمكم -يعني: القتل-، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه.
وهكذا قوة التوكل على الله سبحانه وتعالى، كما في مواقف أخرى لموسى عليه السلام حينما أتى مع قومه البحر وطاردتهم جيوش فرعون، قال قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] منتهى الثقة والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وهكذا هنا قال: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي: اعتصمت به من أن ترجموني أو تقتلوني، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه، وقصد بهذا الكلام إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزل الأقدام خوفاً ورعباً، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله سبحانه وتعالى وتأييده.
قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21] أي: فكونوا بمعزل عني فلست بموال منكم أحداً.(106/10)
تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء مجرمون إنهم جند مغرقون)
قال الله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ} [الدخان:22] أي: لما امتنعوا عن إجابة موسى عليه السلام دعا ربه (أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي: مشركون مفسدون.
قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان:23] أي: فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً.
(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي: أن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا خرجتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم.
قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24] قوله: (رهواً) أي: إذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ولا تضربه بعصاك؛ ليدخله القبط فيغرقون.(106/11)
تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات ونعيم وأورثناها قوماً آخرين)
قال الله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] أي: بعد إهلاكهم بالغرق تركوا بساتين وعيوناً يسقى منها ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكه والتنزه.
قوله تعالى: {وَزُرُوعٍ} [الدخان:26] أي: مزارع قائمة مليئة وحافلة بالأقوات.
قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:26] أي: محافل مزينة ومنازل مزخرفة.
قوله تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:27] أي: متنعمين بهذه النعمة من النساء والأموال والحشم وما لا يحصى من المشتهيات.
وقوله: (كم) هنا للتكثير، أي: أخرجناهم مثل هذا الإخراج، فالجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك، أو هو خبر محذوف يعني: الأمر كذلك، والمراد به التأكيد والتقرير.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] يعني: من خلفهم بعد مهلكهم.(106/12)
تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض)
قال الله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].
قال الزمخشري: إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، فيقول الشاعر: فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة يعني: حزناً على هذا الرجل الخطير المهم الذي مات.
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا أي: تبكي عليك نجوم الليل وكذلك القمر يبكي معها.
وقالت الخارجية ليلى بنت طريف الشيباني ترثي أخاها الوليد: أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف يقول: وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه.
والقاسمي شرح ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة أو السلف في تفسيرها على أنها تعبير لغوي عند العرب، يعبرون به عن شدة المصيبة التي نزلت بموت هذا الخطير، فيقول: وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء؛ فهو تمثيل.
ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم قتله، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض.
وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
يعني: ما بكى عليهم أهل السماء وهم الملائكة وأهل الأرض وهم المؤمنون.
أما القول الذي صدر به القاسمي تفسيره فعجيب، وهو -أي: القاسمي - مع سلفيته القوية الواضحة يجنح أحياناً إلى القول بالمجاز كما في هذه الآية، ما الذي يمنع من أن يكون هناك بكاء حقيقي للسماوات والأرض من حيث النصوص؟ وقد دلت النصوص أن السماء والأرض تسبح: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
إذاً: لا يوجد شيء يمنع أبداً من أن يخلق الله سبحانه وتعالى في الجمادات إدراكاً تدرك به بعض هذه الأشياء، والكلام في هذه المسألة مستوعب بتفصيل كبير في كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الشيخ فريد التوني، ففيه نقد لكل هذه المناحي التأويلية أو المجازية في نظائر ذلك من آيات القرآن الكريم، فعلى الأقل يقال: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} يعني: ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، أما أن يقال: إن هذا مجرد مجاز أو تمثيل فهذا مبني على استبعاد أن يحصل هذا حقيقة، وقد ثبت أن الجذع قد حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى لفراقه، حتى نزل من المنبر وضمه إليه حتى هدأ، فهذا جذع حن لفقد النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات كثيرة في مثل هذه المعاني، وننصح الإخوة بمراجعة كتاب ((عبودية الكائنات)) فإنه استوفى البحث في هذه الآية ومظاهرها.
قوله: (وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) أي: مؤخرين بالعقوبة، بل عوجلوا بها زيادة سخط عليهم.(106/13)
تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان:30] يعني: بالعذاب المهين: استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
قوله تعالى: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31] إعراب: (من فرعون) بدل من العذاب على حذف مضاف، يعني: من عذاب فرعون، أو جعله عذاباً مهيناً مبالغة لإفراطه في التعذيب، يعني: كأن فرعون نفسه هو العذاب، أو يكون فرعون حالاً من المهين، بمعنى: هذا العذاب المهين واقع من جهة فرعون.
قوله: (إنه كان عالياً) أي: متكبراً على الناس، وكلمة الفراعنة مرتبطة بالتعالي والتجبر والعلو في الأرض.
قوله: (من المسرفين) أي: المتجاوزين الحد في العتو والشر.(106/14)
تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)
قال الله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32].
قوله: (ولقد اخترناهم) أي: فضلنا بني إسرائيل على العالمين، وليس لبني إسرائيل في هذا الزمان أو المنسوبين إليهم أن يفرحوا بمثل هذه الآية، ويستدلوا بها في أروقة الأمم المتحدة على أن القرآن يمدحهم، وأن القرآن يثبت أحقيتهم بفلسطين، كلا، فإن هؤلاء الذين يمدحهم الله سبحانه وتعالى في القرآن هم المؤمنون من بني إسرائيل، وهم إخواننا وهم مسلمون مثلنا، فهؤلاء المؤمنون لو عاشوا في هذا الزمان لقاتلوا مع المسلمين هؤلاء اليهود.
فأي آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة وليست مطلقة، أي: فضلوا على عالمي زمانهم فقط، أما الأمة المفضلة على جميع العالمين فهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فكنتم هنا بمعنى: أنتم.
قوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ) أي: بني إسرائيل.
قوله: (عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: فضلناهم لأجل علم معهم على عالم زمانهم، أو فضلناهم على علم منا بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا ويفضلوا، فهذا مدح لبني إسرائيل المؤمنين الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وهؤلاء كانوا مسلمين موحدين، وهؤلاء لو أدركوا محمداً عليه السلام لآمنوا به وأسلموا ودخلوا في دينه.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ} [الدخان:33] يعني: زيادة على اختيارهم وتفضيلهم، آتيناهم زيادة على ذلك.
(مِنَ الآيَاتِ) أي: المعجزات والكرامات.
(مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) بلاء: نعمة ظاهرة؛ لأنها حجة واضحة على أعدائهم.(106/15)
تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون.
إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين)
قال الله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:34 - 35].
(إن هؤلاء) مشركي مكة (لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) أي: الموتة التي يموتونها بعد وجودهم هنا في الدنيا.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) كأنهم أرادوا إن هي إلا موتتنا هذه التي سوف نموتها، لكن هل يفهم من هذا التعبير أن المشركين يثبتون موتة ثانية؟ لا، لكن المقصود (إن هي إلا موتتنا الأولى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه فقط.
قال العلامة الأسنوي في التمهيد: الأول في اللغة: ابتداء الشيء.
إذاً: الشيء الذي يبدأ قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول -مثلاً- لشخص اشتغل في الصباح فقابلته فسألته: كم معك مدخول؟ قال: هذا أول ما اكتسبته، هل معنى ذلك أنه لا بد أن يكتسب بعد ذلك شيئاً؟ لا، قد يكتسب وقد لا يكتسب، فهذا يدل على الأولية فقط.
ومن فروع المسألة فرع فقهي يترتب على هذا الفهم، وهو لو أن رجلاً قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإذا ولدت هذا الذكر أتطلق أم لا تطلق؟ تطلق.
لكن للأسف الشديد نحن علمنا الناس وحفظناهم في مسألة الطلاق أنه إذا سأل شخص عن مسألة طلاق أن يقال له: نيتك كانت ماذا؟ وأصبح الواحد يُسأل هذا السؤال وهو قد أتى بمصيبة كبرى ويقول: لم تكن نيتي طلاقاً! فنحن الذين علمنا الناس، وكذلك علمناهم مسألة الطلاق حال الغضب، وأن الغضب قد يكون عذراً، وما أكثر المفاسد المترتبة على هذا! نحن نقول في طلاق الكناية: اسأله عن النية، لكن من أتى بلفظ صريح فإنه يقع به الطلاق، كأن يقول لها: أنت طالق، أو كان الطلاق معلقاً بشرط ووقع الشرط؛ فحينئذ يقع الطلاق، وموضوع النية يكون في طلاق الكناية، كالحقي بأهلك مثلاً، أو غير ذلك من العبارات التي تفتقر إلى استبيان النية من الشخص، ويجب أن يكون صادقاً في الإجابة؛ لأن الله سيحاسبه على ما في قلبه، فموضوع النية لا بد أن يوضع له حد، وكذلك الكلام في موضوع الغضب، وهذه لفتة عابرة، ونعود لموضوعنا؛ من فروع المسألة أنه لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإنها تطلق إذا ولدت هذا الولد وإن لم تلد غيره باتفاق العلماء؛ لأنه قال: أول ولد، ولا يقال: ننظر الثاني فقد يكون أنثى، لا؛ لأنه لا يشترط، وقد تلد مرة ثانية وقد لا تلد؛ لأن كلمة أول هي مجرد ابتداء الولادة بدون ارتباطها بكونها تلد ثانياً أو ثالثاً.
قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولاً أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط ألا يتقدم عليه غيره.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه التي ستحصل لنا في الدنيا، والمشركون لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية.
قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ) أي: وما نحن بمبعوثين، وهذا يؤيد أن المشركين لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن هناك موتة ثم حياة لما أنكروا البعث والنشور، فقوله: (وما نحن بمنشرين) يدل على أنهم يعتقدون أن هذه الموتة لا شيء بعدها: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].(106/16)
تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين إنهم كانوا مجرمين)
قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36] أي: إن كنتم صادقين في أننا نبعث بعد بلائنا من قبورنا (فأتوا بآبائنا) أي: أحضروا لنا آباءنا.
قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في دار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً.
ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم من المشركين فقال سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37].
قوله: (أهم خير) أي: في القوة والمنعة.
قوله: (أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) أي: أهلكناهم بجرمهم وفحشهم وفسادهم، وهم ما هم من حيث القوة والرخاء وكذا وكذا، فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ أهلكهم الله عز وجل، وفرقهم في البلاد شذر مذر، كما تقدم في سورة سبأ.
وقد ذكر تبع في القرآن مرتين هنا وفي سورة (ق)، وتبع من الصالحين الذين ورد ذكرهم في القرآن واختلف في إثبات نبوتهم، كـ ذي القرنين وكالخضر ونحو ذلك، فالأفضل في أمر ذي القرنين وتبع أن يتوقف الإنسان في إثبات النبوة لهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الحاكم والبيهقي وصححه، وهو صحيح: (ما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري أذو القرنين نبي أم لا؟)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوقف فنحن قطعاً لا بد أن نتوقف، وإن كان البعض من السلف خاضوا وناقشوا هذه القضية، لكن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدر العلم بالنسبة لنا لا يدري فنحن أحرى ألا ندري.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: كانوا عرباً من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافراً -يعني: لا يوصف حاكم مصر بأنه فرعون إلا إذا كان كافراً- والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل -يعني: كانوا يقرونه ويبذلون له القرى الذي يقدم للضيف من الطعام والإكرام بالليل-؛ لأنهم كانوا يرون هذا واجباً عليهم؛ لأنهم عرب كرام -فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما- أخذ الحبرين اليهوديين- معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر، ثم كر راجعاً إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه ((السيرة)) وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر ابن عساكر أنه ملك دمشق، وساق ما روي في النهي عن لعنه.
قال ابن كثير: وكأنه -والله أعلم- كان كافراً ثم أسلم، وتابع دين الكليم عليه السلام على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق، قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن، وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله، وعبد الله بن سلام هو أثبت وأكبر وأعلم، وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها.
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ.
ثم قال: وتبع هذا هو تبع الأوسط واسمه أسعد أبو كريب، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة.
وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف، وكان ممن يحفظ هذا الشعر أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو: شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل غم ثم ساق ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه.
وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروية في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح إلا أن ذلك مما يجوز التوسع فيه؛ لأنه عبارة عن خبر محض لا يتضمن حكماً شرعياً، لكن يؤكد حقيقة أخرى وهي أن تبعاً كان له خبر متواتر عند قريش يتناقلونه جيلاً بعد جيل، وكان خبراً عظيماً بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال مخاطباً قريشاً: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) يعني: قوم تبع الذين تعرفونهم وتسمرون بأخبارهم، وتتناقلون أخبارهم جيلاً بعد جيل، فيفهم من قوله: (أهم خير أم قوم تبع) أن المخاطبين وهم قريش يعرفون من هو تبع، بل يعرفون خبر تبع، وأنه أقوى منهم وأملك منهم في كل شيء، فإذا كان قوم تبع مع قوتهم وشدتهم لما كفروا أهلكهم الله، أفلا يهلك قريشاً إذا سارت على درب الكفر؟! لا شك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به في شأنه، وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا جعل ذلك خبراً من الأخبار وسمراً من الأسمار كما هو السر في أمثال نبئه، وبالله التوفيق.(106/17)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38 - 39] أي: خلق الله السماوات والأرض وبث فيهما من آياته؛ ليستدل العباد بهذه الآيات على توحيد الله سبحانه وتعالى، وينقادوا إلى طاعته وعبادته.
قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] أي: لا يعلمون حكمة خلقها؛ ولذا يعرضون عنه سبحانه.(106/18)
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)
قال الله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40] أي: فصل الله بين الخلائق ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شر.
قوله تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41] أي: للإثابة أو تحمل عقاب، كقوله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42] أي: بأن وفقه للإيمان والعمل الصالح.
قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي: الغالب في انتقامه من أعدائه.
قوله: (الرَّحِيمُ) أي: بأوليائه وأهل طاعته.(106/19)
تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)
قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان:43] أي: التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية.
قوله تعالى: {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:44] أي: الفاجر الكثير الآثام.
قوله تعالى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] قوله: ((كالمهل)) وهو دردي الزيت، كما تقول العرب: أول الدن دردي، أو أول القصيدة كفر كما يقولون، يعني: إذا كان الدن الذي فيه زيت دردياً ممتلئاً بالقاذورات والخبائث فماذا سيكون في أسفل الدن؟! قوله: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) أي: يضطرب في البطون من شدة الحرارة فيحرقها.
قوله: ((في البطون)) كقوله الله سبحانه وتعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:6 - 7].
وكذلك آيات الصافات: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:62 - 67].
قوله تعالى: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] أي: الماء الحار الذي انتهى غليانه.
قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] العتل: هو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر كعتل البعير.
قوله: ((خذوه فاعتلوه)) يعني: جروه وادفعوه بعنف.
قوله: ((إلى سواء الجحيم)) أي: وسطها ومعظمها.
قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها، لم يقل: صبوا فوق رجليه؛ لأنه إذا صب على الرجلين سيصيب الرجلين فقط، لكن لما يصب من فوق الرأس فإنه يصيب جميع البدن، فينال كل جزء من البدن نصيبه من العذاب عافانا الله وإياكم منه.
قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] أي يقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يقال له ذلك على سبيل الهزء والتهكم، فيتم له مع العذاب الحسي بالنار العذاب النفسي والعقلي والعياذ بالله.
فقوله: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)) فيه توبيخ وتقريع وتأنيب واستهزاء وتهكم به.
قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ قيل في تفسيرها: ذق بأنك أنت العزيز الكريم، أو لأنك العزيز الكريم؛ لأن أبا جهل -كما روي- لقي النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما معناه: لا تستطيع أن تفعل أنت ولا ربك لي شيئاً؛ فإنه ليس في قريش أعز مني ولا أكرم.
فقال بعض المفسرين: إن هذا خطاب لـ أبي جهل ومن كان مثله، فإنه يقال له يوم القيامة: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)) يعني: بزعمك كما قال قوم شعيب له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] على أحد التفسيرين: أنهم أرادوا الاستهزاء به؛ لأنهم يقصدون -والعياذ بالله- وصفه بأنه سفيه جاهل.
قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50] أي: هذا العذاب أو هذا الأمر ما كنتم تشكون فيه مع ظهور دلائله، أو تتمارون وتتلاحون وتتجادلون وتناقشون فيه.(106/20)
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] أي: يأمن صاحبه من الخوف والفزع.
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:52 - 53] قوله: ((سندس وإستبرق)) يعني: ما رق من الحرير وما غلظ من الديباج.
((متقابلين)) أي: في مجالسهم أو أماكنهم؛ لحسن ترتيب الغرف وتصفيف منازلهم كالإخوة يتجالسون مواجهة؛ لأنه قال في سورة الحجر: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] أي: قرناهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم لوصولهم بمحبوبهم، وحصولهم على كمال مرادهم.
قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55] قوله: ((يدعون فيها بكل فاكهة)) أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه.
قوله: ((آمنين)) من كل ضرر.
قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] قال ابن جرير: أي: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه (إلا) هنا بمعنى سوى، أي: سوى الموتة الأولى فلا يذوقون الموت بعد ذلك، يعني: أن الاستثناء منقطع، ((ووقاهم عذاب الجحيم)).
ثم قال تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57].(106/21)
تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)
قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان:58] يعني: سهلناه حيث أنزلناه بلغتك.
قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: يتعظون بعبره وعظاته وحججه؛ فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق.(106/22)
تفسير قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون)
قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] أي: ما يحل بهم من عذاب بسبب باطلهم.
قوله: ((إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)) أي: منتظرون عند أنفسهم غلبتك، أو المقصود بقوله: ((إنهم مرتقبون)) ما ورد في قوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] فهم يرتقبون موتك، فارتقب كما قال تعالى: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] أنتم انتظروا ونحن سننتظر، وسنعلم لمن تكون العاقبة: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:42].
فقوله تبارك وتعالى هنا: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} وعد له صلى الله عليه وسلم بالنصرة والفتح عليهم، ووعيد لهم، وقد أنجز الله وعده، كما قال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].(106/23)
تفسير سورة الجاثية [1 - 20](107/1)
بين يدي سورة الجاثية
سورة الجاثية تسمى سورة الشريعة؛ لقوله تعالى فيها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:18].
أما تسميتها بالجاثية؛ فلتضمن آياتها بيان أن سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة اجتماع الأمم للمحاكمة أمام الله سبحانه وتعالى، وفصله بينهم يوم القيامة، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الأمم أنها تكون جاثية حينئذ فقال: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية:28]، وهذه من المطالب الشريفة في القرآن الكريم.
وتسمى سورة الشريعة؛ لتضمن آياتها وجه نسخ هذه الشريعة سائر الشرائع، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، فسميت الشريعة أيضاً؛ لأن نفس هذه الآية التي ذكر فيها لفظ الشريعة تثبت أن هذه الشريعة ناسخة لما قبلها من الشرائع؛ لفضلها وتقدمها عليها، وهذه أيضاً من المطالب العزيزة في القرآن الكريم.
وهذه السورة مكية، واستثنى بعضهم منها آية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ} [الجاثية:14]، فقد قيل: إنها مدنية نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: إن هذا الأثر لا يصح.
أي: لا يصح أن الآية نزلت في هذا الشأن كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وآياتها سبع وثلاثون آية.(107/2)
تفسير قوله تعالى: (حم فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:1 - 6].
قال المهايمي: فعزته تقتضي: إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها، وأنواع السعادات، وحدة النظر، والحكمة تقتضي: محو الشبه، وإزالة المخاوف، وإحراق الشقاوة، وتهذيب الفكر.
وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته؛ لتشمير القوة النظرية والعملية؛ لنتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية من الإيمان والإيقان والعقل، وذلك إنما يكون بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ورفع الشبه، فمنها آيات الأجسام.
يقول عز وجل: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3 - 5].
حذف حرف الجر الذي تكرر في الآيتين السابقتين: (إن في السموات والأرض) (وفي خلقكم)، ثم قال: (واختلاف الليل والنهار)؛ لتقدم ذكره.
وأنشد سيبويه في الحذف: أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل ناراً يعني: وكل نار توقد بالليل ناراً، فهذا شاهد الحذف.
قوله تعالى: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ)) أي: مطر، وسمي رزقاً؛ لأنه سببه.
(فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) أي: عن الله ما وعظهم به ودعاهم إليه.
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6].
(تلك آيات الله)، الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته.
(نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)، أي: بعد الله وبعد آياته ودلائله الباهرة.
وتقديم اسم الله للمبالغة والتعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد وكرمه.(107/3)
كلام الشنقيطي على صدر سورة الجاثية
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره من صدر هذه السورة: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده.
الأول منها: خلقه السماوات والأرض.
الثاني: خلقه الناس لقوله: (وفي خلقكم).
الثالث: خلقه الدواب.
الرابع: اختلاف الليل والنهار.
الخامس: إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به.
السادس: تصريف الرياح.
وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال: (لآيات للمؤمنين)، ثم قال: (آيات لقوم يوقنون)، ثم قال: (آيات لقوم يعقلون).
وذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيل هذه الآيات كما بينتها المواضع الأخرى من القرآن الكريم.
ونتوقف فقط عند أحد هذه الأدلة وهو الخامس منها؛ لأن الكلام تكرر عما سبق من قبل مراراً، فنتكلم عن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به، وإنبات الرزق فيها، كما في قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، فقد بينته آيات أخرى من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:24 - 28]، إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32]، وهذه الآية تدل على وجوب النظر والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وقوله: (فلينظر) أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه الذي يأكله ويعيش به، إنما هو من خلق الله الذي كان سبباً لنباته، وهل يقدر أحد غير الله سبحانه وتعالى أن يخلق هذا النبات أو الماء أو البذر الذي كان منه هذا الخبز؟
الجواب
لا.
ثم هب أن الماء الذي كان سبباً لحياة النبات قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض حتى تروى به الأرض تدريجياً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق، كما قال تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]؟
الجواب
لا.
لا توجد قوة بشرية تتحكم في الماء الذي هو سبب أساسي جداً بالنسبة لحياة كل الكائنات الحية، فما هي إلا رحمة الله سبحانه وتعالى.
هذا الهواء الذي نتنفسه متاع لجميع الناس، هل هناك شركة تصرف لنا الهواء الذي نتنفسه؟ تخيل لو أن أحداً من البشر يملك خزائن رحمة الله سواء من الهواء الذي نتنفسه، أو من الماء الذي نشربه ونحيا به إلى غير ذلك من هذه النعم العامة! ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها من ثمار النبات؟ الجواب: لا.
ثم هب أنك وضعت البذرة في وضع غير الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه في التربة، فسوف تجدها بعد حين اعتدلت وأخذت الوضع الصحيح، بحيث أن الجذر يتجه إلى أسفل، والساق يتجه للأعلى، من الذي يفعل هذا؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
ثم هب أن النبات خرج من الأرض فانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ هذه كلها من آيات الله سبحانه وتعالى التي يجب علينا أن نمتثل أمره الواجب في التفكر فيها، (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، فواجب وفريضة وحتم ولازم أن نتفكر في هذه النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا.
فلابد أننا نلتفت إلى أن هناك قوة، فكل هذه الأشياء لا تحصل بدون مدبر وصانع، وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه وراء كل مظاهر كل شيء في هذا الوجود، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فأي نبات أو أي حركة في هذه الدنيا وفي هذا العالم إنما هي بإرادة الله وبقوة الله عز وجل ومشيئته، فالناس ينظرون إلى النبات وهو ينمو، لكن يجب أن نتفكر ما الذي يُنمِّي هذا النبات؟ هي قوة الله سبحانه وتعالى.
الجنين ينمو فمن الذي ينميه من نطفة من ماء مهين، فيجعله بشراً سوياً؟ إنها قوة الله سبحانه وتعالى.
ولذلك تحداهم الله عز وجل فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74]، تحداهم الله سبحانه وتعالى، وقطع بأنهم يعجزون عن الخلق، ولذلك جزم بقوله: (لن يخلقوا ذباباً)، الذي هو أهون شيء، (ولو اجتمعوا له)، وهذا التحدي قائم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لن يستطيعوا أبداً أن يخلقوا شيئاً مهما كان هذا الشيء حقيراً، بل إن من أخطر وأضر مخلوقات الله التي نعرفها الفيروسات، انظر كيف تأتي بالدمار وبالأمراض الخطيرة جداً مع أنها من الكائنات الدقيقة، ومع ذلك هي جند من جنود الله يسلطها على أعدائه المتمردين عليه.
فالشاهد: أننا لابد أن نلتفت إلى هذه القوة، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه تفكير المؤمن؛ أن ينسب هذه القوة التي لا نراها -لكن نحس أثرها- إلى فعل الله عز وجل.
يقول: ثم هب أن النبات خرج من الأرض وانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا.
ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى ينبت ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا، وقد قال تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99].
وكقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:14 - 16].
وقال سبحانه وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33].
واعلم أن إطلاق الله سبحانه وتعالى الرزق على الماء في آية الجاثية هذه، إنما هو باعتبار أن الماء سبب لحصول الرزق، كما قال في سورة المؤمن (سورة غافر): {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13].(107/4)
دلالة صدر سورة الجاثية على براهين البعث
قال العلامة الشنقيطي: اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة الجاثية ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث كثرة مستفيضة.
الأول منها: خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن مَن خَلق الأعظم الأكبر لاشك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر، كما قال سبحانه وتعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، وقال تبارك وتعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]، وقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11]، (أم من خلقنا) يشير إلى خلق السموات والأرض وما ذكر معهما كما في قوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5].
أما الثاني من البراهين المذكورة فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى؛ لأن من خلقهم على غير مثال سابق لاشك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى كما لا يخفى.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5]، إلى آخر الآيات.
وقال سبحانه تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، ولاشك أن إعادة الخلق أسهل من ابتدائه.
وقال سبحانه: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، وقال سبحانه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وقال عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:45 - 47].
وقال سبحانه وتعالى أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:1 - 6]، إلى قوله تبارك وتعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] يعني: أي شيء يحملك على التكذيب بالدين؟! والدين المقصود به هنا البعث والجزاء، أي: ما يحملك على التكذيب بالبعث والجزاء؟! وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من استطاع الإيجاد الأول فلاشك في قدرته على إعادته مرة أخرى.
وأما البرهان الثالث من براهين البعث في هذه الآيات: فهو إحياء الأرض في قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا))، وقال سبحانه وتعالى موضحاً ذلك: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]، وقال سبحانه وتعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57] أي: كذلك نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت.
((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)) أي: تلك آيات الله الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته.
ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب، كما في قوله هنا: (تلك آيات الله)، والمقصود: هذه آيات الله القريبة، وكقوله تعالى: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] بمعنى: هذا الكتاب.
ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي: أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلك يعني: أنني أنا هذا.
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أي: بعد آياته ودلائله الباهرة.(107/5)
تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم من رجز أليم)
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:7 - 11].
قال الله عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] أي: كذاب يتكلم في حق الله وصفاته على خلاف الدليل.
(أَثِيمٍ) أي: بترك الاستدلال، لاسيما إذا لم يترك عن غفلة، بل مع كونه يسمع آيات الله، فليست له حجة بترك الاستدلال؛ لعدم وجود الأدلة، بل بلغته الحجة فإنه {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
قوله تعالى: ((يسمع آيات الله)) أي: يسمعها بنفسه لا بالإخبار عنها بالغيب، بل (تتلى عليه ثم يصر) أي: على إنكارها، وعدم قبولها، ولا يتأثر بها أصلاً.
(مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم).
يقول تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا} [الجاثية:9]، استهانة بها، وفي قراءة: (وإذا عُلِّم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً)، كما فعل أبو جهل لما نزل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، فأحضر زبداً وتمراً ونادى أصحابه ودعاهم إلى أن يأكلوا، وقال: هذا هو الزقوم الذي يهددنا به محمد؛ استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك من مظاهر استهزاء الكفار بآيات الله عز وجل.
{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية:10]، السياق من أوله: (أفاك أثيم) مفرد (يسمع)، (تتلى عليه)، (ثم يصر)، (كأن لم يسمعها)، (فبشره)، (وإذا علم)، (اتخذها)، ثم قال: (أولئك لهم عذاب مهين)، فاسم الإشارة ورد بالجمع، لأنه رد الكلام إلى معنى لفظ (كل)؛ لأن قوله تعالى: ((وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) إلى آخره، جمع بالنظر إلى معنى كلمة (كل).
وقوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم) يعني: من بعد انقضاء آجالهم عذاب جهنم.
{وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا}، أي: من الأموال والأولاد، ((شَيْئًا))، من عذاب الله.
{وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: آلهتهم التي عبدوها، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر، واتخذوهم نصراء في الدنيا.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
قال تعالى: {هَذَا هُدًى} أي: هذا القرآن بيان ودليل على الحق، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}، أي: بتسخيره.
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية:12] أي: باستفادة علم وتجارة وأمتعة غريبة، وجهاد وهداية، وغوص فيه لاستخراج لآليه، وفيض منه.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: نعمة هذا التسخير، فتعبدوه وحده، وتصرفوا ما أنعم به عليكم إلى ما خلقتكم له.(107/6)
وقفة يسيرة مع قوله تعالى: (من ورائهم جهنم)
قوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم)، وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:15 - 16]، والوراء هنا بمعنى أمام على أصح الوجهين.
فقوله: (من ورائهم جهنم) يعني: أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، يعني: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، كما في قراءة ابن عباس: (وكان أمامهم ملك)، فهل معنى ذلك أن المعنى يختلف للاختلاف في القراءة؟ لا، لكن المقصود أن هذه القراءة تفسيرية، ولهذا نظائر كثيرة، فكان ابن عباس يقرؤها: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً)، يريد بذلك تفسير وراءهم بأمامهم.
ومنه قول لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أي: إذا امتد بي العمر حتى صرت شيخاً هرماً، ماذا أتوقع أن يكون؟ ألست أتوقع أن ألزم العصا تحنى عليها الأصابع؟! ويروى أيضاً: أليس ورائي إن تراخت منيتي أدب مع الولدان أزحف كالنسر يشير بذلك إلى حالة الشيخ الهرم.
ومنه قول الشاعر أيضاً: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا وقول الآخر: ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي ومن ورائك أي: أمامك.
وقوله تبارك وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
(وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)، وقرئ: (مِنّة)، وقرئ أيضاً: (جميعاً مَنُّهُ) أي: فضل الله وتكرمه تبارك وتعالى.
(إن في ذلك لآيات)، أي: في آيات الله وحججه وأدلته.
(لآيات لقوم يتفكرون) يعتبرون بها.
قال المهايمي: منها: أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده، وجعل البعض سبباً لبعض دليل حكمته، وجعل الكل مسخراً للإنسان دليل كمال وجوده، فمن أنكر هذه الآيات ولم يذكره عند النعم استوجب أعظم وجوه الانتقام.(107/7)
تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ثم إلى ربكم ترجعون)
قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14].
(قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه.
(يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قيل: لا يرجون ثوابه، أو لا يخافون بأس الله ونقمته، على أن الرجاء يأتي أحياناً بمعنى الخوف، كقوله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: لا تخافون له عظمة.
وقيل: معنى: (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخشون مثل العذاب الذي نزل بالأمم الخالية، والأيام يعبر بها عن الوقائع والأحداث.
وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه.
وقيل: لا يخافون البعث والنشور.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه.
(يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه في الأمم الخالية.
(ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون)، أي: من عملهم، ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، فيجزي المؤمنين على صبرهم على أذى المشركين الذي أخبرهم الله سبحانه وتعالى به في قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، فهذا أمر بالصبر والتجاوز والعفو عن بعض ما يؤذي وما يوحش، أي: سوف تجزون على ذلك: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14].
وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فنزلت هذه الآية.
قال ابن العربي: هذا لم يصح من حيث السبب.
وقيل: إنها نزلت في غزوة بني المصطلق لما أرسل عمر من سقى وجمع الماء، واستوفى الماء، فقيل لبعض المشركين: إن المسلمين هم الذين أخذوا هذا الماء، فقال: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك! فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاخترط سيفه وأراد قتله، فنزلت هذه الآية.
وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي، فإنه عندما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] قال قولته الشنيعة، ونسب الله سبحانه وتعالى إلى الحاجة والعوز.
وإذا قيل: إن الآية نزلت في كذا، فلا يشترط أن يكون بالفعل هو سبب النزول الذي نزلت الآية من أجله؛ لأن هذه الوقائع كلها بعد الهجرة.
هذا السبب هو الذي جعل البعض يقول: إن هذه السورة مكية إلا هذه الآية، بناء على ما روي فيها من أسباب النزول، ولكن السبب لم يصح، وحتى لو ثبت فلا يستلزم ذلك كونها مدنية، فنزولها في عمر -إن صح ذلك- إنما يعني ذلك أنها تصدق على قضيته، فالمعنى: أن هذه الآية الكريمة تصدق على المناسبة الفلانية، حتى ولو لم يكن نزل فيها بالفعل، وقد سبق التنبيه على هذا.
يقول: وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فتكون الآية المدنية.
قيل: يؤيده ما أورد على كونها مكية، من أن من أسلم بها كانوا مقهورين، فلا يمكنهم الانتصار منهم، والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح، أي: أن البعض استدل على كون هذه الآية مدنية بالأخبار التي أشرنا إليها، وهي لا يصح منها شيء، فأيدوا ذلك بمعنى آخر، فقالوا: إن العفو لا يؤمر الإنسان به إلا إذا كان عن قدرة وتمكن من التنفيذ، فكونها مكية، والمؤمنون في مكة كانوا مستضعفين؛ قد يتعارض مع قوله تعالى: ((يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ))، فالعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح؛ لأنه مقهور لا يمكنه أصلاً الانتصار ممن يؤذيه، فيتعين أن تكون هذه الآية مدنية.
وأجيب: بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله في قلبه ليثاب عليه، حتى لو كان مقهوراً، فهو يشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليثاب على ذلك، مع العلم أنه ليس كل أحد من المؤمنين الموجودين في مكة كانوا مقهورين مغلوبين، بل كان منهم من يستطيع الانتصار لنفسه، وأولهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
فالصواب: أن الآية مكية مثل بقية السورة، ومعنى نزولها في عمر -إن صح الأثر- صدقها على قضيته، والاستشهاد بها لسماحه كما حققنا المراد من النزول غير ما مرة.
ثم قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية:15] لكونه فكها من العذاب.
{وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية:15] أي: أساء عمله بمعصية ربه، فعلى نفسه جنى؛ لأنه أوبقها بذلك.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15] أي: تصيرون، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.(107/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب فيما كانوا فيه يختلفون)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:16 - 17].
(الكتاب): التوراة.
(والحكم): الفهم للكتاب، والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب.
(والنبوة): جعلنا منهم أنبياء ورسلاً إلى الخلق.
وقوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) هل يصلح أن نقول: ابتداء من إسحاق؟ لا؛ لأن إسحاق هو أبو إسرائيل وليس ابن إسرائيل، ولا يصلح أن تقول: ابتداء من يعقوب؛ لأن يعقوب هو نفسه إسرائيل، وإنما أول أنبياء بني إسرائيل هو يوسف عليه السلام، كما قال الله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34].
إذاً: المقصود بقوله: (والنبوة)، من وقت يوسف إلى زمن عيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(ورزقناهم من الطيبات)، المن والسلوى.
(وفضلناهم على العالمين)، على عالم أهل زمانهم، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم.
يقول العلامة الشنقيطي: رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وفضلناهم على العالمين): ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين، ووضحه في قوله في البقرة: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، وقال في الدخان: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وقال في الأعراف: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140].
ولكن الله جل وعلا بين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من بني إسرائيل، وأكرم على الله كما صرح بذلك في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يعني: أنتم، فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع أمم بني إسرائيل وغيرهم.
ومما يزيد ذلك إيضاحاً: حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته: (أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله).
رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور، قال ابن كثير: حسنه الترمذي، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما نحوه.
قال الشنقيطي رحمه الله وغفر له: ولاشك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور رضي الله عنه؛ لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر، في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وفي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
فقوله: (وسطاً) أي: خياراً عدولاً.
إذاً: لا تعارض بين هذه الآية التي تدل على الأفضلية المطلقة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على جميع العالمين، وبين ما دل على تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: (وفضلناهم على العالمين) الموجودين.
فهل كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجودة في ذلك الوقت؟ لم تكن أمة محمد عليه الصلاة والسلام قد وجدت بعد، وبنو إسرائيل المفضلون ليسوا أجداداً للقردة والخنازير الموجودين الآن؛ لأن العلاقة بيننا وبين هؤلاء المذكورين الذين فضلهم الله على العالمين أنهم إخواننا، فهم مسلمون مثلنا، وهؤلاء لو عاشوا حتى أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام لدخلوا في الإسلام؛ لأنهم أتباع موسى على دين الإسلام، وعلى التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؛ فهم مسلمون مؤمنون موحدون يعبدون الله، وإذا كان نبيهم نفسه قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فكيف بأتباع موسى؟ لاشك أنهم سيكونون أحرى وأولى أن ينقادوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولشريعته.
فليس لليهود الكفرة -لعنهم الله- أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم شعب الله المختار؛ لأن الذين اختارهم الله كانوا مسلمين مؤمنين موحدين، ولو قدر أنهم يعيشون الآن لانضموا إلى المسلمين في محاربة اليهود؛ لأنهم كفار، لأن الإيمان يميز الناس إلى حزب الله وحزب الشيطان.
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف:14]، فكلهم بنو إسرائيل، لكن انفصلوا بمجرد الإيمان، وبمجرد الدخول في الإسلام؛ ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ))، وانظر ماذا قال عز وجل بعدها مباشرة: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]، صاروا أعداء بمجرد المفارقة والمفاصلة في ضوء العقيدة وفي ضوء الإيمان، فمن كفر فهو عدو للمؤمن حتى لو كان أباه أو أخاه أو قريبه أو صفيه، فهو عدو له وعدو للجميع.
الشاهد: ليس لهؤلاء الكفار أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم مختارون، وكيف يختارهم الله وهم يشتمون الله؟ كيف وهم قتلة الأنبياء، وهم الطاعنون في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وفي دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! إذاً: التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه، ولكنه تعالى بعد وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم صرح بأنها خير الأمم، وهذا واضح؛ لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل إنما يراد به ذكر أحوال سابقة؛ لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا وكذبوا به، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، والله سبحانه وتعالى في سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة والنساء ذم كفار بني إسرائيل الذين أبوا الانقياد لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام، ففي وقت نزول القرآن هل يمكن أن يكونوا ما زالوا مفضلين على العالمين وقد كفروا وكذبوا به؟ هل يتصور أنهم لا يزالون هم شعب الله المختار، والله سبحانه وتعالى يقول لهم: ((فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ))، ويقصد بذلك اليهود؟ لا يمكن، فالتفضيل إنما هو في حال عدم وجود أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لكن بعد نزول القرآن كفروا بالقرآن وكذبوا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلاً إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق لا في وقت نزول القرآن، فمعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف تفضيل بني إسرائيل، وأنها بعد وجودها صرح الله عز وجل بأنها خير الأمم كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
يقول تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:17] أي: حججاً وبراهين وأدلة قاطعة تأبى الاختلاف، ولكنهم أبوا إلا الاختلاف.
{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] أي: ظلماً وتعدياً منهم؛ لطلب الحظوظ العاجلة.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17] أي: بالمؤاخذة والمجازاة.
قال ابن كثير: وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم، يعني: في الاختلاف والفرقة.(107/9)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)
قال سبحانه وتعالى إشارة إلى هذا التحذير الذي تضمنته هذه الآية، قال بعدها مباشرة: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
قوله هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) الشريعة لغة: الطريق إلى الماء، وضربت مثلاً للطريق إلى الحق لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر وحسنه.
قال القاسمي هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) أي: على طريقة وسنة ومنهاج من أمر الدين الذي أمرنا به.
تلك الشريعة الثابتة بالدلائل والحجج.
(ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) يعني: المشركين، وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها، وتكرر هذا في القرآن الكريم وصف المشركين بأنهم لا يعلمون كما في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118]، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، وفي سورة الروم وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأثبت لهم علم كالعدم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، فأبدل من (لا يعلمون) (يعلمون)، إشارة إلى أنهم لا يعلمون في الحقيقة، والعلم الذي يعلمونه لا قيمة له؛ لأنه منحصر في ظاهر من الحياة الدنيا كما هو حال المشركين في هذا الزمان.
فاستغراق الإنسان في علم الدنيا وتفاصيل أحوال الدنيا مع الغفلة عن الآخرة مما يدرجه في هذا الذم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة).
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر): فالشريعة في اللغة المذهب والملة، ويقال لمشرعة الماء، التي هي المورد والشاربة، والطريق الذي يؤدي إلى الماء، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد، فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع: الشرائع.
وقوله: (من الأمر) قال ابن العربي: والأمر يرد في اللغة بمعنيين: الأول: يأتي بمعنى الشأن، كقوله تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، يعني: شأن فرعون.
الثاني: أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي، فالأمر ضد النهي، وكلاهما يصح أن يكون مراداً هاهنا في قوله: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)، أي: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع حسب ما علمه سبحانه وتعالى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ظن بعض من يتكلم في العلم: أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء، فهل يلزم اتباعه أم لا؟ وهذه إشارة وجيزة إلى أن هذه الآية لا يصلح أن يستدل بها على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، خاصة ما أتى منه في معرض المدح والثناء.
وشرع من قبلنا أحد الأدلة الشرعية المختلف في حجيتها، والأدلة المجمع على حجيتها القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وما عدا ذلك فمختلف فيه مثل المصلحة المرسلة أو الاجتهاد أو قول صحابي أو العرف أو شرع من قبلنا، فهذه أدلة مختلف في حجيتها، لكن على أي الأحوال فشرع من قبلنا شرع لنا إذا وافق شرعنا، وليس المجال مجال تحقيق الكلام في هذه القضية، لكن هذه مجرد إشارة.
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، من المشركين وما هم عليه من الأهواء والضلالات.
وفي الآية إشارة إلى أن الوحي يقابله الهوى، ولذلك قال تبارك وتعالى هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)، أي: الوحي، (فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعملون)، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ))، يعني: للوحي ولشريعتك، ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ))، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].(107/10)
تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً)
قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:19] أي: لن يدفعوا عنك من غضبه وعقابه شيئاً ما.
{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] أي: أعوان وأنصار على المؤمنين وأهل الطاعة، أو: أولياء بعض في التحزب والتقوي، ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم.
{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19] أي: المتقين الشرك والمعاصي، أو: والله ولي من اتقاه بعبادته وحده وخشيته لكفايته من بغى عليه وكاده بسوء، ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))، كما قال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، ولذلك لما قال أبو سفيان في غزوة أحد: اعل هبل، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقولوا: (الله أعلى وأجل)، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم).
{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، فهل يغلب حزب يتولاه الله؟ يقول القاسمي رحمه الله تعالى: الأظهر تفسير هذه الآية بآية: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].(107/11)
تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون)
قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20].
قوله: ((هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ))، (هذا) أي: هذا القرآن.
(بصائر للناس) أي: يبصرون به الحق من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد.
قال الزمخشري: جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل روحاً وحياة.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى}، من الضلالة.
{وَرَحْمَةٌ}، من العذاب لمن آمن وأيقن.
{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يطلبون اليقين، وسبق أن فسرنا آية في سورة الدخان بنفس المعنى، وهي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7] أي: إن كنتم تريدون اليقين، فكذلك هنا (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) أي: يطلبون اليقين، كما تقول العرب: منجد ومتهم، يعني: إذا أراد نجداً وتهامة.(107/12)
تفسير سورة الجاثية [21 - 37](108/1)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا)
قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
هذه الآية لها اسم معين، فهي تسمى: بكاة العابدين؛ لأن كل إنسان له جرح معين وإذا صادف آية معينة من القرآن الكريم سواء إشارة أو نعتاً لهذا الجرح؛ فإنها تثير شجوه وبكاءه، وخوفه من الله سبحانه وتعالى.
فكل إنسان قد يتأثر ببعض الآيات؛ لأنها تمس هذا الأمر أكثر من غيره مما يهمه.
هذه الآية: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ))، أشفق منها السلف، حتى كان منهم من يصلي بها الليل كله لا يتجاوزها، وسبب ذلك أنها آية محكمة، لم يدخلها نسخ.
عن أبي الضحاك عن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري -يعني: أشار إلى مكان معين-، لقد رأيته ذات ليلة قام حتى قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي، وهي قوله تعالى: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)).
وقال بشير: بِتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها لبكاء شديد.
(لم يعدها) يعني: لم يتجاوزها إلى ما بعدها.
وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيراً ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين؛ لأنها محكمة.
قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) أي: اكتسبوا سيئات الأعمال.
(أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) أي: فالأصل عدم التساوي، ومن زعم أن المؤمنين والكفار والذين اجترحوا السيئات سوف يتساوون، فـ (ساء ما يحكمون) أي: ساء ما يزعمونه من عدم التفاوت بين هذا الفريق وذاك.
قال الزمخشري: والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا مماتاً.
لا يمكن أن يستوي المحسنون في الحال ولا في المآل، في الحال يعني: في الحياة، ولا في المآل يعني: بعد الممات؛ لافتراق أحوالهم أحياء حيث اعتاد هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله، والوصول إلى هول ما أعد لهم.
وحيث عاش هؤلاء على الهدى والعلم بالله، وسنن الرشاد وطمأنينة القلب، وأولئك على الضلال والجهل والعيث بالفساد، واضطراب القلب، وضيق الصدر؛ لعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
ولئلا يظن الكافر أنه لا يبرز بكفره، قال سبحانه وتعالى مباشرة بعد قوله: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) * ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)).
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: بالحكمة والصواب.
قال ابن جرير: أي: بالعدل والحق، لا كما حسب هؤلاء الجاهلون بالله من التسوية بين الأبرار والفجار.
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق) بالحكمة وبالصواب وبالعدل؛ ليعدل بين الناس، ولم يخلقها لما يظن هؤلاء الجاهلون من التسوية بين الأبرار والفجار؛ لأن هذه التسوية خلاف العدل والإنصاف والحكمة.
(ولتجزى) معطوف على (بالحق)؛ لأن فيه معنى التعليل للحق، يعني: للعدل بين الفريقين، أو معطوف على معلل محذوف تقديره: خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته.
(وهم لا يظلمون) أي: في جزاء أعمالهم.(108/2)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم)
قال تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، أي: من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى، فكأنه يعبده، فجعله إلهاً، وهذا تشبيه بليغ أو استعارة.
والهوى إله يعبد من دون الله، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق، وعلى الإله الباطل، وتطلق أيضاً بمعنى معبود، وهناك من يعبد الآلهة الباطلة؛ ولذلك قلنا في معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس معناها لا إله موجود إلا الله؛ لأنه من حيث الواقع فالمعبودون من دون الله كثيرون؛ فالشيطان إله يعبد من دون الله، كما قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، فهناك من إلهه الشيطان، والهوى إله كما في هذه الآية وفي آية الفرقان: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، والمال إله يعبد من دون الله كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والشهوات إله تعبد من دون الله، وهكذا كل ما عبد من دون الله فهو إله، لكنها كلها آلهة باطلة، ولا يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل وحده لا شريك له.
يقول القاشاني: الإله المعبود، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلهاً، إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه، ولو كان حجراً.
(وأضله الله على علم)، يعني: أضله الله على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
أو: (أضله الله على علم) أي: عالم بحاله من زوال استعداده، وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية، أو: مع كون ذلك العابد للهوى عالماً يعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون (على علم) حال من الضمير المفعول في (أضله الله)، فإما أن يكون حال، أي: أضله الله على علم منه مسبق فيه أنه لن يهتدي أو: أنها حال من الضمير الهاء، وأضله مفعول فهو يعلم ما يجب عليه من أمر الدين، وحينئذ يكون إضلاله؛ لمخالفته علمه، لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى، أو: على علم منه غير نافع، لكونه من باب الفضول، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول، يعني: له علم لا قيمة له.
(وختم على سمعه وقلبه) أي: بالطرد عن باب الهدى، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه بمكان الرين وغلظ الحجاب، فلا يعقل منه شيئاً.
(وجعل على بصره غشاوة)، أي: عن رؤية حجج الله وآياته.
وكما تلاحظون فإنه جعل الختم على السمع والقلب، أما البصر فقال: (وجعل على بصره غشاوة)، وهذا دليل لمن رأى الوقف في أول سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7]، فهنا تقف، ثم تواصل: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، فهذه الآية دليل لمن رأى الوقف على قوله تبارك وتعالى: (وعلى سمعهم).
(فمن يهديه من بعد الله) أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه، وهذا يرجحهإعراب (على علم) أنها حال من الله سبحانه وتعالى.
(فأضله الله على علم)، يعني: بعلم الله السابق أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آياته.
(فمن يهديه من بعد الله) أي: من يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه.(108/3)
تفسير القرطبي لقوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه.
وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئاً وهويه اتخذه إلها.
وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر.
وقيل: أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده؟ تعجيباً لذوي العقول من هذا الجهل.
وقال الحسن بن فضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه، أفرأيت من اتخذ هواه إلهه.
وقال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه.
والهوى يمكن أن يستعمل في غير الذنب، كما في الحديث: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك).
قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176]، وقال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم:29]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
وعن أبي أمامة مرفوعاً: (ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى).
وتفسير القرطبي من الكتب التي تحتاج إلى تحقيق، خاصة في الأحاديث التي يوردها دون أن يحققها.
وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله).
وعنه صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه والمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعاً لعلمه فيومه يوم صالح.
وقال الأصمعي: سمعت رجلاً يقول: إن الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه فأخذه الشاعر فنظمه وقال: نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت فقد لقيت هوانا يعني: الهوان يساوي الهوى.
وقال آخر: إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد كسبت هوانا وإذا هويت فقد تعبدك الهوى فاخضع لحِبِّك كائناً من كانا ولـ عبد الله بن المبارك: ومن البلاء وللبلاء علامة ألّا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع تارة ويجوع ولـ ابن جريج: إذا خالفتك النفس يوماً بشهوة وكان إليها للخلاف طريق فدعها وخالف ما هويت فإنما هواك عدو والخلاف صديق ولـ أبي عبيد الطوسي: والنفس إن أعطيتها مناها فاغرة نحو هواها فاها وقال أحمد بن أبي الحواري: مررت براهب فوجدته نحيفاً، فقلت له: أنت عليل؟ قال: نعم، قلت: مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي! قلت: فتداو؟ قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمت على الكي، قلت: وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى.
قلت: لنتحفظ من التساهل في حكاية مثل هذه القصص عن الرهبان، فقد أغنانا الله سبحانه وتعالى بالوحي وبالآثار عن سلفنا الصالحين عن أن نحتاج إلى أن نأخذ من راهب يصدق فيه قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104].
وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك؛ فإن خالفته فدواءك.
وقال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما؛ فانظر أبعدهما من هواك فائته.
وللعلماء في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب، وحسبك بقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
ومن أشهر هذه الكتب: كتاب ذم الهوى لـ ابن الجوزي، ومن ذلك أيضاً الفصل الذي ختم به وكذلك الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين وهو فصل رائع في ذم الهوى وكيفية علاجه.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: (وأضله الله على علم) أي: على علم قد علمه منه.
أي: قلنا من قبل: على علم سابق من الله أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
وقيل: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه.
وقال مقاتل: على علم منه أنه ضال، والمعنى متقارب.
يقول القرطبي رحمه الله: وهذه الآيات ترد على القدرية والإمامية ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد، إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية.
قوله: (وختم على سمعه وقلبه) قيل: إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم، وقيل: إنه خارج مخرج الدعاء عليهم، (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) يعني: هذه الجمل دعائية، دعا بذلك عليهم.(108/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا)
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].
قوله سبحانه وتعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي: ما الحياة، أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها.
(نموت) أي: بالموت البدني الطبيعي.
(ونحيا) أي: الحياة الجثمانية الحسية، لا موت ولا حياة غيرهما.
(وما يهلكنا إلا الدهر) أي: مر الليالي والأيام وطول العمر.
(وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) أي: وما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظن وتخمين.
وفي تفسير قوله: (نموت ونحيا) أقوال: منها: في الآية تقديم وتأخير، فيكون الأصل: (نحيا) حياة ثم نموت بعدها، فقدم (نموت) وأخر (نحيا)، وهذا نوع من أنواع علوم القرآن (المقدم والمؤخر).
قول آخر: (نموت ونحيا) يعني: يحيا البعض ويموت البعض.
قول ثالث: (نموت ونحيا) على الترتيب كما هي بدون تقديم وتأخير، لكن المقصود: أن هذا كلام من يقول بتناسخ الأرواح، بعدما يموت الإنسان فإن روحه تخرج ثم تحل في جسد آخر.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وفي قوله: (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)، إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر، أو إلى إنكار البعث، أو إلى كليهما، (وما لهم بذلك من علم).
قال الزمخشري: كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواح بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) أي: فإن الله هو الآتي بالحوادث وليس الدهر.
انتهى كلام الزمخشري.
وقال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها.
والدهر ظرف زمان، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فإنما الدهر زمان جعل ظرفاً لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤساً للدهر أو سباً للدهر.
قال ابن كثير: وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث.
يعني: لا يصح أبداً أن يقال: إن من الأسماء الحسنى الدهر، اعتماداً على هذا الحديث: (أنا الدهر)؛ لأن معناه: أنا خالق الدهر، وأنا مصرف الأحداث ومدبر الوقائع.
وفي هذه الآيات رد على الدهرية وهم المعطلة، لأن متمسكهم ظن وتخييل، لم يشم رائحة اليقين، وما هذا سبيله فالقبول في وجهه مسدود: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36].
قال الشهرستاني في معطلة العرب: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني.
يعني: الطبيعة هي التي تحيي الناس، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
(نموت ونحيا) إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر.
فاستدل الله عليهم بضرورات فكرية وآيات فطرية في كثير من الآيات، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف:184]، يأمرهم بالتفكر، وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} [النحل:48]، وقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1].
فأثبت في الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق، فإنه قادر على الكمال إبداء وإعادة.
انتهى كلام الشهرستاني.
يقول القاسمي رحمه الله: ولي في الرد على الدهريين -وهم الماديون والطبيعيون- كتاب (دلائل التوحيد) فليرجع إليه المريد؛ فليس وراءه بحمده تعالى من مزيد.(108/5)
تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)
قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) قال الله تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، هذا نص البخاري ولفظه، وقد أخرجه مسلم أيضاً وأبو داود.
وفي الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر)، وسواء كان الدهر أو أي وقت آخر للزمان من الليالي والأيام، فهذا مما لا يجوز أن يسب، بل لبيان شرف الزمان أقسم الله به وبأجزائه وأبعاضه، فأقسم به في قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، (والعصر) على أحد التفسيرات يعني: الوقت والزمان، فالله لا يقسم إلا بالآيات العظام والأمور الشريفة، فحينما أقسم بالدهر؛ أقسم ليبين لنا أن الدهر لا ذنب له إنما هو ظرف، وإنما الشؤم يكون من عمل الإنسان ومن كسبه، وليس للدهر في ذلك ذنب، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا وقد تساهل الناس في هذا خاصة في الأناشيد والأغاني والأمثال الشعبية ونحو هذه الأشياء، ففي كثير منها سب الدهر أو وصف اليوم أنه يوم أسود أو يوم كذا، ومن العجب أن يقع ذلك أحياناً في القنوت من بعض الأئمة! فقد اخترعوا دعاء: (وأرنا فيهم يوماً أسوداً)، ولا يمكن أن يكون هذا مأثوراً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن فيه سب الدهر، وفيه أمر آخر وهو قولهم: (أسوداً) وهو على وزن أفعل، ممنوع من الصرف، ولا يمكن أن تكون أسوداً، والصواب لغة أسود، فلذلك الإنسان إذا لم يكن متمكناً من اللغة، ولا يحسن اختيار الألفاظ في الدعاء فعليه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جمع ما لم يوجد في غيره من الفصاحة؛ فهو في قمة الفصاحة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وهو أبلغ العرب وأنصحهم للأمة، وهو أعرف الناس بالله، وأخشاهم لله عز وجل، وأعلمهم بلغة العرب، فمن ثم دائماً الإنسان يحاول أن يقتصر على الدعاء المأثور الذي يعلمه من أجل السلامة من مثل هذه الاختراعات.
كان بعض المكروبين يتبجح ويقول في بعض أشعاره: أقول دهر أحمق الخطا يعني: يخبر أنه أحمق الخطا والعياذ بالله إلى غير ذلك من الأشعار، ولا يليق أن نذكرها كلها.
على أي حال نعود للحديث: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر) استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله، وقال من لم يجعله من العلماء اسماً: إنما خرج رداً على العرب في جاهليتها، فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر، فقيل لهم على ذلك: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) أي: إن الله هو الفعال لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر؛ فيرجع السب إليه سبحانه، فنهوا عن ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم)، ولقد أحسن أبو علي الثقفي حين قال: يا عائب الدهر إذا نابه لا تلم الدهر على غدره الدهر مأمور له آمر وأنت للدهر إلى أمره كم كافر أمواله جمة تزداد أضعافاً على كفره ومؤمن ليس له درهم يزداد إيماناً على فقره فمن الناس من يقول: الدر غدار، والزمن غدار، وهذا سب للدهر.
وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيراً ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر! وأنشد: فما الدهر بالجاني لشيء لحينه ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا ولكن متى ما يبعث الله باعثاً على معشر يجعل مياسيرهم عسرا يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وكان المشركون أصنافاً: منهم هؤلاء -أي: هؤلاء الذين يقولون: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) -، ومنهم: من كان يثبت الصانع وينكر البعث.
وهل مذهب الدهريين يدل على أنهم ينكرون وجود الله لا يستلزم أنهم ينكرون الله عز وجل، وإلا فمشركو العرب كانوا يقرون بوجود الله، وكانوا يوحدون توحيد الربوبية ومع ذلك كانوا ينكرون البعث، فلا تلازم بين إنكار البعث والنشور وبين إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، فلينتبه لهذا.
قال: ومن أصناف المشركين من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره.
وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفاً من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار؛ لأن هؤلاء يلبسون على الناس الحق، ويغتر بتلبيسهم الجاهل، وأما المشرك المجاهر بشركه فيحذره المسلم.
وقيل: نموت وتحيا آثارنا؛ فهذه حياة الذكر.
وقيل: أشاروا إلى التناسخ، أي: يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به.(108/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25].
قال الله تبارك وتعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)؛ لأن الله باعث خلقه يوم القيامة.
(ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)، أي: انشروهم أحياء حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، يعني: أرونا دليلاً عملياً، يا ألله هات آباءنا وأحيهم الآن حتى نصدق أن هناك بعثاً ونشوراً! وقوله: (ما كان حجتهم إلا أن قالوا)، كيف يطلق على ذلك حجة؟ إما حقيقة بناء على زعمهم، يعني: ما كان حجتهم في زعمهم، وهم الذين وصفوها بأنها حجة، لكن هذه لا تصلح أن تكون حجة؛ فإنهم ساقوا هذا الكلام مساق الحجة، أو إن الحجة مجاز، وقالها الله تهكماً بهم كما في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، وكذلك هنا: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ))، استهزاء بما يسمونه حجة، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، بمعنى: أنه لا حجة لهم ألبتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس، حيث سمي ما هو ضد الحجة -وهو الجحد- باسم الحجة، فهذه من المبالغة؛ لأنه نزل الضد منزلة المتجانس.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال الزمخشري: فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها؛ فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة.
أو لأنه من باب أسلوب قول الشاعر: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلاً من تحية بعضهم بعضاً الضرب الوجيع، فهل الضرب تحية؟ ليس تحية، بل هذا تهكم بأن التحية التي حيوا بها خصومهم الضرب الوجيع بالسيوف والقتل.
فكذلك قوله هنا: (ما كان حجتهم) من نفس هذا الأسلوب.
فالمقصود: أنه ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن تكون لهم حجة ألبتة.
فإن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} [الجاثية:26] جواب قوله تعالى: (ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)؟ يقول القرطبي: قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مسكت ألزموا ما هم مقرون به، من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، فهم يقرون بأن الله يحييهم؛ لأنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فألزموا بما هم مؤمنون به على ما هم مكذبون به، فهم يقرون أن الله هو الذي يحييهم ثم يميتهم.
قال القرطبي: ضم إلى ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به، إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق.
قال تعالى: (قل الله يحييكم) ثم قال: (ثم يميتكم ثم يجمعكم) ضم إلى هذا العبرة في القدرة، فما دمتم آمنتم بقدرة الله على خلقكم وعلى إماتتكم، فيلزم على ذلك الإيمان بقدرة الله التي لا يحدها شيء، وقدرته العامة الكاملة على كل شيء، ومنه: خلقكم بعد البعث، فهذا هو أسلوب الإلزام بما يجب أن يقروا به لو أنصفوا.
قال القرطبي: وهو جمعهم يوم القيامة ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
قوله: (قل الله يحييكم) الاستدلال هنا بعموم قدرة الله، وأنتم تقرون بهذه القدرة، وينبغي بناء على ذلك أن تؤمنوا أيضاً بأنه يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، فإذا كان قادراً على هذا فهو أولى أن يكون قادراً على أن يحيي آباءكم، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يجيبهم إلى ما اقترحوه من الآيات، ولماذا لا يجيبهم الله عز وجل إلى ما اقترحوه من الآيات؟ قل لهم في جواب قولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر): (الله يحييكم ثم يميتكم) لا الدهر، لما عرف بالوجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ومسبب الأسباب، ومصدر الكائنات، أو قل لهم في جواب إنكارهم البعث: من قدر على الإبداء يقدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مر مراراً.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:27] أي: فلا مالك غيره، ولا معبود سواه.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] أي: الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم، وهم عبدة غيره تبارك وتعالى.(108/7)
تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية)
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28].
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] (جاثية) أي: جالسة على الركب، غير مطمئنة.
يقول القاسمي: (وترى كل أمة جاثية) أي: جالسة مستوفزة على الركب لا حراك بها، شأن الخائف المنتظر لما يكره، وذلك عند الحساب أو في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: (وترى كل أمة جاثية) يعني: من هول ذلك اليوم، والمقصود بالأمة هنا أهل كل ملة.
وفي الجاثية تأويلات خمسة: الأول: قال مجاهد: (جاثية) مستوفزة.
وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله.
وقال الضحاك: ذلك عند الحساب.
القول الثاني: (جاثية) مجتمعة، قاله ابن عباس.
وقال الفراء: المعنى: وترى أهل كل دين مجتمعين.
القول الثالث: (جاثية) متميزة، قاله عكرمة.
الرابع: (جاثية) خاضعة بلغة قريش، قاله المؤرج.
الخامس: (جاثية) جالسة على الركب، قاله الحسن.
والجثو هو: البورك على الركب، جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثواً وجثياً، وأصل الجثوة: الجماعة من كل شيء.
قال طرفة يصف قبرين: ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد إذاً: قوله تعالى: ((كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا))، أي: باركة مستوفزة على الركب لا حراك بها، شأن الخائف المنتظر لما يكره، وذلك عند الحساب أو في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء.
(كل أمة تدعى إلى كتابها) أي: اللوح الذي أثبت فيه أعمالها، ويعطى بيمينه من كان سعيداً، وبشماله من كان شقياً.(108/8)
تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)
قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] أي: يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تبارك وتعالى؛ لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم.
((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، ولذلك فسرها القاسمي يقول: (نستنسخ): نستكتبها، يعني: نأمر الملائكة بكتابة ما كنتم تعملون.
وقال: القرطبي: (إنا كنا نستنسخ) أي: نأمر بنسخ ما كنتم تعملون، بناء على أن النسخ لا يكون إلا من أصل، وكذلك بعض المفسرين قالوا: إن النسخ هنا هو من اللوح المحفوظ.
قال ابن عباس: إن الله وكل ملائكة مطهرين فينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما يكون من أعمال بني آدم، فيعارضون حفظة الله على العباد كل خميس، فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقاً لما في كتابهم الذي استنسخوا من ذلك الكتاب، لا زيادة فيه ولا نقصان.
قال ابن عباس: وهل يكون النسخ إلا من كتاب.
وقال الحسن: نستنسخ ما كتبته الحفظة على بني آدم؛ لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال، وتوجد أقوال أخرى في هذه الآية، لكن لم يؤثر فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فظاهر معنى قوله: (نستنسخ) أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم وكفى.
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:30] أي: ما صلح به حالهم في المعاد الجثماني.
{فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30] (في رحمته) أي: في جنته، يعني: مكان رحمته وهو الجنة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية:31]، فلابد أن نقدر: وأما الذين كفروا فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31].
(مجرمين) يعني: مسرفين تكتسبون المعاصي؛ ويقال: فلان جريمة أهله إذا كان هو كاسبهم، يعني الذي يشتغل ويكسب المال لينفق عليهم وعائلهم.
فالمجرم أكسب نفسه المعاصي.
وقد قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، فالمجرم ضد المحسن، فهو المذنب بالكفر.
(وكنتم قوماً مجرمين) أي: بكسب الآثام والكفر بالله، وعدم التصديق بالمعاد ولا الإيمان بثواب وعقاب.(108/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
(قلتم ما ندري ما الساعة)، أي: أي شيء هي، أي: لا نستيقن بها.
(إن نظن إلا ظناً) تقديره عند المبرد: إن نحن إلا نظن ظناً.
وقيل: التقدير: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً.
وقيل: أي: وقلتم: إن نظن إلا ظناً، وما نحن بمستيقنين أن الساعة آتية.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33] أي: قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات.
{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية:33] وهو الجزاء.(108/10)
تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا)
قال تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:34] (ننساكم) أي: نترككم في العذاب ترك ما ينسى، كما تركتم التأهب له، وفي هذا المعنى جاء الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: ألم أكرمك وأزوجك وأزودك؟! وأسخر لك الخيل والإبل؟! وأذرك ترأس وتربع؟!)، ترأس: تكون رئيساً على قومك، وتربع: تأخذ المرباع، وهو الذي كانت ملوك الجاهلية تأخذه، فقد كانت تأخذ من الغنيمة ربع الأموال، هذا أصل معنى المرباع، لكن معناه هنا: ألم أجعلك رئيساً مطاعاً؟ (فيقول: بلى، فيقول الله سبحانه وتعالى: أفظننت أنك ملاقي؟! فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني).
أي: أمنعك الرحمة كما امتنعت من طاعتي، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فالنسيان يأتي بمعنى الترك.
يقول تبارك وتعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:34 - 35] أي: خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة، وزعمتم أن لا حياة سواها.
{فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية:35] أي: من النار.
{وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35] يعني: لا يغفر لهم، أو لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي: يرضوه؛ لأن الرضا هو إزالة العتب، فجاء كناية عن الإرضاء.
(ولا هم يستعتبون) يعني: لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله تعالى؛ لأنه ليس وقت توبة ولا اعتراف، ولات حين مندم.
أو المعنى: لا يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة، فما بعد الموت مستعتب.(108/11)
تفسير قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين)
قال تبارك وتعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36].
(فلله الحمد) أي: الثناء الكامل.
قال ابن جرير: أي: فلله الحمد على نعمه وأياديه عند خلقه، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه، دون ما تعبدون من دونه من آلهة ووثن.
{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:37] أي: له الاستعلاء ونهاية الترفع والكبر على كل شيء، وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الجاثية:37] أي: القوي القاهر لكل شيء.
{الْحَكِيمُ} [الجاثية:37] قال القاشاني: المرتب لاستعداد كل شيء بنسخ تبديله المهيأ لقبوله، لما أراد منهم من صفاته بدقيق صنعته، وخفي حكمته، لا إله إلا هو رب العالمين.(108/12)
تفسير سورة الأحقاف [1 - 12](109/1)
بين يدي سورة الأحقاف
نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير سورة الأحقاف.
سميت هذه السورة باسم وادي الأحقاف موطن قوم عاد كما قال الله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21].
وهذه السورة مكية، واستثني البعض منها خمس آيات هي: قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]، وكذلك قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، وقوله تعالى أيضاً: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعه.
وعدد آياتها خمس وثلاثون آية.(109/2)
تفسير قوله تعالى: (حم عما أنذروا معرضون)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {حم} [الأحقاف:1]، سبق أن تكلمنا مراراً عن الحروف المقطعة التي تأتي في أوائل السور فلتراجع {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:2 - 3]، أي: بالحكمة وإقامة العدل في الخلق.
{وَأَجَلٍ مُسَمًّى}، أي: لتقدير أجل معين لكل منها، لينهيه إذا هو بلغه وهو يوم القيامة.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}، (عما أنذروا) من هول ذلك اليوم.
(معرضون)، لا يؤمنون، أي: معرضون مولون لاهون غير مستعدين له.(109/3)
استحقاق الله تعالى للعبادة وحده لا شريك له
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الكلمة: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الأحقاف:3]: صيغة الجمع في قوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا)، للتعظيم، (إلا بالحق) أي: إلا خلقاً متلبساً بالحق، فالباء تدل على التلبس، كما تقول: سبحان الله وبحمده، أي: أسبح الله متلبساً مع ذلك بحمده، فكذلك هنا (إلا بالحق) أي: ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق: أنه خلقهما لحكم ظاهرة ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسان به: إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، ثم أقام البرهان على أن الله هو الإله الواحد بقوله بعد ذكل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]، فتلبس خلق السماوات والأرض بالحق واضح جداً من قوله تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، إلى قوله تعالى: ((لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، بعد قوله تعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى: (لا إله إلا الله)، هو أعظم الحق.
فبدأ الآيات بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، ثم ذكر ما يبرهن على أنه لا إله حق إلا الله، فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، إلى قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فهذا مظهر من مظاهر تلبس خلق السماوات والأرض بالحق، أي: أن يكون في خلقهما وفي الآيات المبثوثة فيهما دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا إله حق إلا هو سبحانه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وهذه أول صيغة أمر في القرآن الكريم: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، وقد تضمنت هاتان الآيتان معنى لا إله إلا الله؛ لأن قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، هذا هو قسم الإثبات، وهو ما يدل عليه قوله: (إلا الله)، أما قسم النفي فهو في قوله: ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))، وهو ما يدل عليه قوله: (لا إله)، فقوله: (واعبدوا ربكم) فيه معنى الإثبات في لا إله إلا الله، وقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه.
وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما في قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بناء} [البقرة:21 - 22] إلى آخر الآية، وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق الذي هو: إقامة البرهان القاطع على توحيده جل وعلا.
ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان المذكور القاطع على توحيده جل وعلا ومن استقراء القرآن الكريم علم أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج لا يصح أن يعبد بحال.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً؛ كقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فقوله: (الذي خلقكم) يدل على أن المعبود هو الخالق وحده.
وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، يعني: أن خالق كل شيء هو المعبود وحده، وهو وحده الذي يستحق العبادة.
وفي سورة النحل لما ذكر تعالى فيها البراهين القاطعة على توحيده جل وعلا في قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:3]، إلى قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، أتبع ذلك مباشرة بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وذلك واضح جداً في أن من يخلق غيره هو المعبود، وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد؛ ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل:20]، وقال في الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال في الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فمن لا يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال.
وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] * {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]، كذلك في أول سورة الفرقان لما بين تعالى صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق أن يعبد، قال في صفات من يستحق العبادة: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال في صفات من لا يصح أن يعبد: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وكلها تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، يعني: أنه خلقهما لكي يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما آية وعلامة وبرهاناً على أعظم حقيقة في الوجود وهي: أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى.
فهذا أحد معاني قوله تعالى في أول هذه السورة الكريمة: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ))، أي: خلق متلبس بالحق، لحكم عظيمة، أعظمها وأجلها: أن يكون خلق السماوات والأرض دليلاً وبرهاناً للناس على أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد إلا من يخلق.(109/4)
قدرة الله تعالى على كل شيء وإحاطته بكل شيء علماً
وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، فمن الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض: أن يعلم العباد ويستدلون بخلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما على قدرته جل وعلا، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، فلا شك أن هذه الآية مصرحة بمظهر من مظاهر هذا الحق الذي خلقت السماوات والأرض متلبسات به، فإن قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، ذكر بعده لام التعليل في هذا الخلق، فقال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وهذا من الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض، فلام التعليل في قوله: (لتعلموا) متعلق بقوله: (خلق سبع سماوات) إلى آخر الآية، وبه تعلم أنه ما خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن إلا خلقاً متلبساً بالحق.(109/5)
التكليف والابتلاء والجزاء
ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، فمن الحق الذي تلبس بخلق السماوات والأرض: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فلام التعليل في قوله: (ليبلوكم) متعلقة بقوله: (خلق السماوات والأرض)، فيكون قوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض)، إلى قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، يدل على أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.
ونظير ذلك قوله تعالى في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، وقال في أول الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال في آخر الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: إلا ليعبدوني وحدي ولا يشركوا بي شيئاً.
وسواء قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم؛ لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له، كما قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، أو قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا ليقروا لي بالعبودية ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي؛ لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً.
ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقاً متلبساً به جزاء الناس بأعمالهم.
وقال في سورة النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، فقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: هو خالقهما وخالق ما فيهما، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
وهذا أيضاً إعلام منه عز وجل بأنه خلق ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الناس بأعمالهم، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:4].
لما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً -بغير حق- لا لحكمة التكليف ولا الحساب ولا الجزاء؛ أبدلهم الويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ضل في قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] * {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:116]، تعالى وتنزه عن أن يخلق خلقه عبثاً، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116].
وهذا الذي نزه الله تعالى عنه نفسه نزهه عنه أولو الألباب من خلقه، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191 - 191]، فمعنى: (سبحانك) تنزيهاً لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلاً لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء.
وقوله تبارك وتعالى هنا في آية الأحقاف: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ))، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً ولا لعباً ولا عبثاً كما صرح بهذا المفهوم في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:27]، وفي قوله: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)) [آل عمران:191]، وفي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39].
وقوله: ((وَأَجَلٍ مُسَمًّى))، هذا معطوف على قوله: (بالحق)، أي: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي: وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في أخريات سورة الحجر في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وانظر كيف قرن خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق بقوله: (وإن الساعة لآتية) إشارة إلى ما ذكر هنا في هذه الآية: (إلا بالحق وأجل مسمى).
وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما، كما قال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وقال تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]، وقال: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14]، إلى غير ذلك من الآيات.(109/6)
إعراض الكافرين عما أنذروا
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، أي: معرضون عما أنذرتهم به الرسل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وقال في سورة يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، وقال أيضاً: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4].
والإعراض عن الشيء هو الصدود عنه وعدم الإقبال عليه، قال بعض العلماء: وأصله من العرض، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشيء يوليه جانب عنقه صاداً عنه، والإنذار: هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً، فالإنذار نوع خاص من الإعلام؛ إذ هو إعلام مقترن بتهديد، والإنذار يأتي عاماً ويأتي خاصاً، فقد يأتي عاماً لكل الخلق، وقد يأتي خاصاً لخاصة الخلق، وهم المؤمنون والمتقون.
وفي هذه الحالة إذا قصر الإنذار على المؤمنين والمتقين يكون لهم فقط؛ لأنهم هم الذين إذا أنذروا ينتفعون بهذا الإنذار، فكأنه ما أنذر سواهم.
وإذا كان للكافرين فإنه لإعلامهم وتهديدهم؛ فهو إعلام مقترن بتهديد.
قوله هنا: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ))، ما: هنا إما أنها موصولة، وإما أنها مصدرية، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيكون المعنى: والذين كفروا معرضون عن الإنذار.
وإذا قلنا: إنها موصولة والعائد محذوف فيكون في غير القرآن: والذين كفروا عن الذي أنذروه معرضون؛ لأنها إذا كانت موصولة فلابد لها من عائد، وهو ضمير يكون في جملة الصلة يعود على الاسم الموصول، فقوله: (عما أنذروا) قال بعض العلماء: هي موصولة والعائد محذوف، أي: الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه وخوفوه من عذاب يوم القيامة، وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مطرد كما هو معلوم.(109/7)
تفسير قول الله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله)
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4].
(قل أرأيتم ما تدعون) أي: تعبدون.
(من دون الله) من الأوثان والأنداد التي تعبدونها.
(أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات)، أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضي بالاستقلال، أو في شيء سماوي بالشركة؛ حتى تستحق العبادة، فقوله: (ماذا خلقوا من الأرض) يريد به على سبيل الاستقلال بخلقه.
(أم لهم شرك في السماوات)، هل خلقوا شيئاً سماوياً بالشركة حتى يستحقوا العبادة؟! (ائتوني بكتاب من قبل هذا)، أي: من قبل هذا القرآن، وهذا تيئيس لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تيئيسم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فالدليل العقلي في قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)، ائتوني بدليل عقلي على أنهم خلقوا فيستحقون أن يعبدوا.
(اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، وهذا تعجيز لهم بطلب دليل نقلي مما أثر في الكتب السابقة، {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم.
(أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، أو بقية من علم بقيت لكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة.
(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم؛ فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها.
والمفسرون في هذا الموضع عند قوله تعالى: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، يتعرضون إلى الكلام في قضية الخط في الرمل، ويشيرون إلى حديث رواه مسلم في صحيحه: (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)، وهذه القضية شغلت العلماء كثيراً وتكلموا فيها كثيراً، وممن تكلم فيها: الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي المتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة من الهجرة في رسالة له بعنوان: الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط، لما روي في ذلك من أحاديث ووجه تأويلها، وهو وإن لم يصحح الحديث فالحديث صحيح ثابت في صحيح مسلم، وإنما قال بفرض صحته فإنه يجاب عنه بكذا وكذا، وذكر بعض التأويلات، وقد أجاد في ذكر هذه التأويلات التي لابد منها بعدما بين أن الله سبحانه وتعالى كذب مدعي علم الغيب، وأنه لا يظهر أحداً على غيبه، فقال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]، وغير ذلك من الآيات.
وهذه إشارة موجزة بحيث من قرأ منكم ذلك في بعض كتب التفسير يعلم أن العلماء قاموا بتأويل هذا الحديث حتى وإن صح سنده، فقد تأولوه على أن ذلك كان آية خاصة بهذا النبي بالذات، وأن هذه كانت علامة خاصة به وليس لأحد أن يدعي علم الغيب عن طريق ذلك.(109/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5].
قوله: (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) دعاءه؛ لعجزه عنه.
(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)؛ لأنهم إما جمادات، وإما مسخرون مشغولون بأحوالهم.
(وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، قال الناصر في قوله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، قال: في قوله: (إلى يوم القيامة) نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، يعني: كأن عدم الاستجابة ممتد إلى يوم القيامة، فيفهم لأول وهلة أنه بعد يوم القيامة قد يستجيب، لكن الأمر ليس كذلك في الحقيقة؛ فعدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية قطعاً؛ لأنهم في يوم القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم.
فالوجه والله تعالى أعلم أنها من الغايات المستمرة؛ لأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه؛ لأن عدم الاستجابة بعد القيامة أشد من عدم الاستجابة فيما قبلها؛ إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالتالي، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، فعدم استجابتهم لهؤلاء التي تنتهي في الظاهر إلى يوم القيامة هي بعد يوم القيامة أشد، وذلك لأن الحالة الأولى التي جعلت غايتها إلى يوم القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، بل تقتصر فقط على عدم الاستجابة.
لكن الحالة الثانية التي في القيامة وما بعدها فيها زيادة على عدم الاستجابة العداوة والكفر بعبادتهم إياهم، فهم ينقلبون عليهم أعداء كما في الآية الثانية مباشرة، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، فمع عدم الاستجابة ينضاف إليها في القيامة وبعد القيامة: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، فليس هم فقط في غفلة عنهم أثناء الدنيا ويوم تقوم القيامة، وهذا هو معنى الغاية، فإن الغاية فقط هي عدم الاستجابة، وفي القيامة عدم الاستجابة ممتدة لكن ينضاف إليها أن يصيروا لهم أعداءً وأن يكفروا بعبادتهم إياهم.
,كنت قد طالعت كتاباً قديماً جداً من كتب التوحيد التي كان لها شأن عظيم في الماضي إلا أنه كتاب منقرض وهو كتاب: صراع بين الحق والباطل، تأليف الأستاذ سعد صادق محمد، أرجو أن يكون الله قد مد في عمره إلى الآن، والكتاب مطبوع سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم جداً في التصدي للضلالات الصوفية، والأستاذ سعد صادق محمد -رحمه الله حياً أو ميتاً- يعد من دعاة أبطال السنة الذين كان لهم قدم صدق في التصدي لبدع الصوفية والضالين.
وأرى أنه من المناسب أن نذكر هذا المثال العابر عند هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، يقول وهو يتكلم عن صور من هذا الضلال، (يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) يدعو الشافعي، يدعو الدسوقي، والبدوي، والموتى، والمقبورين، وهم في غفلة عما هو مهلك نفسه فيه، يقول: منذ سنوات مضت وجد في صندوق السيد البدوي ظرف ختم بالشمع الأحمر وبه ورقة بعشرة جنيهات، يقول: أنا الذي استغربت له: ما الذي أتى بالشمع الأحمر؟! وكأن الرجل أتى كيما يقدم شكوى أو طلباً للبدوي في ظرف مختوم حتى لا يفتحه إلا البدوي بنفسه!! ختم بالشمع الأحمر وبه عشرة جنيهات، ومكتوب في الخطاب: أرجو المعذرة يا سيدي! فهذه الجنيهات العشرة هي كل ما حصلت عليه وما قدرت على جمعه، لذلك أرجو رجاءً خاصاً أن تنتظرني حتى شهر أكتوبر وهو شهر المحصول فأسدد لك باقي الحساب، فعليك الصفح وعلينا الوفاء.
وفي أحد صناديق النذور وجد عقد اتفاق قانوني بين السيد صاحب الضريح والسيدة الناذرة، حيث نذرت لصاحب الضريح في هذا العقد القانوني بين هذه الناذرة الحية وبين هذا الميت، أن الطرف الثاني يتعهد بأن يدفع للطرف الأول مبلغ جنيه واحد كل شهر بدون تأخير ولا مماطلة ولا تسويف، إذا ما توسط الطرف الأول عند الله في أن يعيش ابن الطرف الثاني!! إلى آخر هذا الكلام.
يقول: وهنا يروى أيضاً أن أحدهم وضع في صندوق نذور البدوي مبلغاً من المال على سبيل النصب، ثم رفع قضية إلى وزارة الأوقاف مدعياً أنه أراد أن يضع ورقة من فئة الجنيه فوضع بدلاً منها ورقة من فئة الخمسين جنيهاً!! والكتاب مليء وحافل بنماذج من هذا القبيل، وإنما أردت أن آتي بمثال، ولعل هذا يحتاج إلى درس مستقل بمفرده.
والأفظع من ذلك أن بعض المسلمين يذهبون إلى قبر ما يسمى بالبابا بولس السادس أو الثالث، ويكتبون أمثال هذه الشكاوى وهذه الطلبات من مثل هذا المخلوق!! قبر البابا بولس تكتب له شكاوى ويخاطب ويطلب منه كل شيء مما لا ينبغي أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى!! ويوجد في مجلة البيان عدد شهر رجب ألف وأربعمائة وتسعة عشر، ملف كبير بعنوان: فسطاط الخرافة، ولأول مرة تتعرض المجلة لهذا الأمر، وهو بحث رائع جداً، وللأسف فإنه تأخر عن وقته؛ لأن المفروض أن مثل هذه القضايا هي أولى أن يهتم بها؛ لأن خطرها معلوم، وشيوع الضلال في هذا الباب معلوم، فالحمد لله أن القائمين على المجلة استدركوا هذا التقصير، وهذه أول مرة يفتح فيها هذا الملف ويتعامل معه معاملة سلفية نقية مائة بالمائة.(109/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء)
قال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، (وإذا حشر الناس) أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب، (كانوا) أي: آلهتهم التي عبدوها، (لهم أعداءً) أي: لتبروئهم منهم، (وكانوا بعبادتهم كافرين) أي: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا، فالتكذيب بلسان المقال فضلاً عن بيان أن معبودهم في الحقيقة هم الشياطين وأهواؤهم.
قال القاسمي في قوله تعالى: ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً)): (كانوا أعداءً)؛ لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني، وكذا استعباد الموالي لخدمهم، فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداءً، وأنكروا عبادتهم، يقولون: ما خذلتمونا ولكن خذلتم أنفسكم، كما قيل في تفسير قوله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.(109/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:7]، أي: بادروه بالجحود أول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعمال روية.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) اللام هنا لام الأجل، وهي متعلقة بقال، وقيل: هي بمعنى الباء، وهي متعلقة بكفروا، وعدي الكفر باللام حملاً على نقيضه وهو الإيمان؛ لأن الإيمان يعدى باللام، كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111].
وهذا الذي تضمنته هذه الآية بينه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30]، وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:2 - 3]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7].(109/11)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)
قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:8].
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني شيئاً إن أصابني الله به، و (إن) منقطعة مقدرة بـ (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام المنوه به عن الإنكار والتعجب، فهو يدل على أن الافتراء على الله تعالى والكذب عليه جريمة أشنع من جريمة السحر، فهم يبدءون أولاً بقولهم: (هذا سحر مبين)، وكأن الله يقول: إنهم لا يقتصرون على قولهم: هو سحر مبين، بل يقولون ما هو أشد من ذلك، ثم يرد ذلك بصيغة الاستفهام الإنكاري التعجبي، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، (أم) تفكك إلى بل والهمزة: بل أيقولون افتراه، فجريمة دعوى الافتراء أشد بلا شك من دعوى السحر.
ووجه كون الافتراء أشنع من السحر: أن الكذب -خصوصاً على الله- متفق على قبحه، حتى إنك ترى أن كل أحد يشمئز بنسبته إليه؛ بخلاف السحر فإنه إن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تكون معرفته من السمات المرغوبة.
(هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ)، أي: بما تخوضون في حقه من أنه سحر أو إثم.
(كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، أي: يشهد لي بالصدق مما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده.
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، لمن رجع منكم عن الكفر وتاب وآمن.
قال الزجاج: إنما ذكر ها هنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم به ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به، كمثل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38].
يقول العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:8]: (أم) هذه هي المنقطعة، وتأتي بمعنى الإضراب، وتأتي بمعنى همزة الإنكار، وتأتي بمعناهما معاً الذي هو الإنكار والإضراب، وهذا هو الظاهر في هذه الآية الكريمة.
فـ (أم) هنا تفيد معنى الإضراب والإنكار معاً، والمعنى: دع هذا واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه، فإن السحر أهون وأخف، بل أيقولون افترى على الله الكذب؟! هذا معنى: (أم يقولون افترى على الله الكذب)، دع هذا السحر فهو أخف مما هو آت، ولم يقتصر على ذلك؛ بل قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمداً عليه الصلاة والسلام افترى هذا القرآن.
وقد أكذبهم الله في هذه الدعوى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس:37].
وقوله تعالى: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، أي: إن كنت أنا قد افتريت هذا القرآن على سبيل الفرض فأنتم لن تملكوا لي من الله شيئاً، والله عز وجل هو من يعاجلني بالعقوبة الشديدة إن أنا افتريت على الله كلاماً لم يقله سبحانه وتعالى؛ فلابد أنه معاقبي أشد العقوبة، وأنتم لا تملكون لي من الله شيئاً، ولا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على ما أحدثت من الافتراء، وقد بين هذا قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]، وهذا على سبيل الافتراض أن لو وقع ذلك بم كان سيعاقب الله من يفتري عليه هذا القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم قطعاً أنه معصوم من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، كقوله هنا في آية الأحقاف: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا).
وقوله: (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، يساوي قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]؛ لأن معنى قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]، أي: أنهم لا يقدرون على أن يدفعوا عنه عذاب الله له بالقتل، ونظير ذلك في المعنى قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
وأيضاً جاء معناه في قوله تعالى في سورة يونس: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15]، أي: إني أخاف إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره (عذاب يوم عظيم).
وذكر الله تعالى مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخرى، كقوله سبحانه وتعالى عن صالح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود:63]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود:30].(109/12)
تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل)
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9].
(قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)، البدع والبديع من كل شيء هو المبتدع، والمعنى: أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى من قبلي، فقد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم فلم تستنكرون بعثتي وتستبعدون رسالتي؟ وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، والبدع كالبديع، بمعنى: الجديد المبتدع.
قال ابن جرير: ومن البدع قول علي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد أي: فلا أنا أول الناس الذي أصابتني هذه الحوادث بعد تقلب أحداث الزمان بالبؤس والتعس وبالشقاء والأفراح وغير ذلك.
ومن البديع الذي هو بمعنى الجديد أو المبتدأ قول الأحوص: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع والأحوص -كما في الأغاني- كان يوماً عند سكينة بنت الحسين، وهي من نسل النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن مؤذن، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فاخرت سكينة بما سمعت من ذكر أبيها في الأذان، ولا شك أن هذا فخر في محله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، ورفع ذكر النبي عليه الصلاة والسلام رفع حسي ورفع معنوي، فمن الرفع الحسي: أن يذكر اسمه في الأذان خمس مرات على الأماكن العالية المرتفعة كما هي السنة، كما قال حسان بن ثابت: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد فيقترن الاسم باسم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن الذي فخرت به سكينة فخر عن جدارة واستحقاق، ولا يستطيع أحد مهما حاول أن يدانيها في هذا الفخار وهذا الشرف، فهي لما سمعت المؤذن يؤذن ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله؛ فاخرت بما سمعت، فقال الأحوص معلقاً على ذلك: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع يعني: لست أنت أول من يفخر بهذه المكارم، فأنا أيضاً لي من المكارم ما أفخر به.
فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع لأن الأحوص الشاعر هو أبو عاصم عبد الله بن محمد بن عبيد الله ابن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، فهو يفاخرها به، فيقول: فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع ويفتخر أيضاً بخاله حنظلة: غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع قال أبو زيد: وقد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به يعني: فعلاً هو افتخر بفخر لكن لو كان هذا الفخر على غير سكينة.
وبأبي سكينة حمة أباه الدبر وغسلت خاله الملائكة لأن ما قيمة عاصم بن ثابت وما قيمة حنظلة إن لم يكونا قد شرفا بالانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالفخر عائد أيضاً إلى سكينة.
فالشاهد من كل هذا الكلام: أن كلمة (بديع) تساوي كلمة (بدع) وتساوي المبتدأ أو الجديد، فهو ذكر أولاً شاهد البدع في قول علي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد يقول: ومن استعمال كلمة البديع بنفس المعنى قول الأحوص: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبـ ر قتيل اللحيان يوم الرجيع غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، قال أبو السعود: أي: لا أدري أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يقدر لنا من قضاياه، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله.
وعن الحسن رضي الله عنه قال: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة، أي: وما أدري ما يفعل بي وبكم على جهة التفصيل، على أساس أنه يعرف من خبر الله أن الله سبحانه وتعالى مظهر دينه وناصر دعوته، فلعله يقصد على سبيل التفصيل، فالمنفي هو الدراية المفصلة.
يقول: والأظهر أن (ما) في قوله: (وما أدري ما يفعل) عبارة عما ليس عينه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية دون ما سيقع في الآخرة، (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) يعني: في الدنيا، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين، بالنبي ومن معه وبالكافرين ومن معهم، انتهى كلام أبي السعود.
وهذا القول هو الأظهر، وهو ما عول عليه ابن جرير، قال ابن جرير: (بل لا يجوز غيره)، فلا يجوز ولا يصح على الإطلاق أن يدعي أحد أن المقصود بقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) يعني: في الآخرة.
وقال ابن كثير: (بل لا يجوز غيره)، يعني: لا يجوز غير أن يقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، إذ كيف يجوز ذلك وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة هو ومن اتبعه بإحسان، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئول إليه أمره وأمر مشركي قريش أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون لكفرهم؟! وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: صار لنا في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه -أي: كان من نصيبهم حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين- فاشتكى عثمان عندنا -أي: مرض- فمرضناه، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي)، قالت: فقلت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لـ عثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم.
وفي لفظ للبخاري: (ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به)، وفي رواية: (ما أدري ما يفعل بي)، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، أي: رواية: (ما يفعل به)، بدليل قولها: فأحزنني ذلك على عثمان، فيكون متفقاً مع رواية أم العلاء: (فإنني وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل به)، فلذلك حزنت بعدما كانت ظنت أن الله قد أكرمه بالفعل، فلما أدبها النبي عليه السلام بالأدب الواجب في مثل هذا، وأحزنها ذلك ونامت فرأت رؤيا ما يذهب عنها ذلك الحزن لاطمئنانها على عثمان حين رأت هذه العين الجارية، وأولها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها عمله.
وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة وابن سلام والرميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وأشباه هؤلاء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا ينبغي المجازفة في القطع بالجنة لمن لم ينص الوحي على أنه من أهل الجنة، وهذا للأسف الشديد شائع الآن خاصة في الزعماء والكبراء من الدعاة أو العلماء المعظمين عند أتابعهم، يتكلمون كأنهم جاءهم صك من الوحي بأن فلاناً الآن في الجنة، فهذا مما لا يجوز، وهذا من العدوان، كما هو ظاهر في هذا الحديث.
ومعنى قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)، أي: فيما لم يوح إلي، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي، ولم يكن لي أن أنسب إلى الوحي كذباً من عندي.
(إِنْ أَتَّبِعُ)، أي: في تقرير الأمور الغيبية.
(إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي: منذر عقاب الله على كفركم به، فقد أبان لكم إنذاره، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم.
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية فقال رحمه الله تعالى: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) التحقيق -إن شاء الله-: أن معنى الآية الكريمة: في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء؟ وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة؟ وما أدري ما يفعل بكم: أيخسف بكم أم تنزل عليكم حجارة من السماء ونحو ذلك؟ هذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين.
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، وقال تعالى آمراً إياه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس و(109/13)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله)
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].
(قل أرأيتم إن كان من عند الله)، يعني: إن كان القرآن منزلاً من لدنه سبحانه وتعالى عليَّ لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون.
(وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل)، أي: عالم من علماء بني إسرائيل، واقف على أسرار الوحي عن طريق التوراة التي يؤمن بها، (على مثله).
وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو موسى عليه السلام، (على مثله) أي: على التوراة.
وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو عبد الله بن سلام عالم اليهود وكبيرهم في المدينة وقد أسلم، (على مثله) أي: على مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المطابقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى، أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله.
وقد يكون المثل هنا صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، وهذا تعبير معروف في اللغة العربية أن كلمة (مثل) تستعمل هذا الاستعمال، فقوله: (على مثله) أي: عليه، أي: على أنه من عند الله.
(فآمن) الشاهد وهو ابن سلام، (واستكبرتم) يا معشر اليهود.
والفاء تدل على أن هذا الشاهد سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، هذا استئناف مشعر بأن كفرهم لضلالهم المتسبب عنه ظلمهم، وهذا دليل على جواب المحذوف؛ لأن الجواب هنا محذوف، فيقول: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم، أين الجواب؟ محذوف تقديره: ألستم ظالمين، أو فمن أضل منكم.
فيكون مثل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52]، فوافقهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم إنما هو لظلمهم.
يقول القاسمي: روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فتكون الآيات مدنية مستثناة من السورة؛ لأن عبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، فهذا هو السبب في أن بعض المفسرين قالوا: إن هذه الآية من الآيات المستثنيات؛ لأن السورة مكية، وقالوا: إن هذه الآية آية مدينة؛ لأنه إذا كان الشاهد عبد الله بن سلام فـ عبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة، وهذا استدلال غير قوي، لماذا؟ لأنه لا إشكال أن يخبر القرآن بذلك، وأن يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ويكون قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)، إخبار عما سيقع في المستقبل.
إذاً: السورة مكية، وهذا إنما هو إخبار عما سيقع من إسلام عبد الله بن سلام فيما بعد، فما الإشكال في ذلك؟ وتكون هذه من علامات النبوة، تماماً كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا} [الأعراف:48]، فهذا إخبار بالماضي عن شيء سيحصل في المستقبل.
ويرشحه: أن (شهد) معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً، فلا خير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره بها بياناً للواقع لا عن أنه مراد بخصوصه منها، هذا ما حققوه، وسواء كان هذا الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من علماء بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام فلا إشكال في هذا، فيكون معناها: أنه يصدق واقع استسلام عبد الله بن سلام وشهادته للقرآن وللرسول عليه السلام، فيعم كل من يشهد من علماء وأحبار بني إسرائيل للإسلام وللقرآن، فالمقصود أن اللفظ الكريم يتناول هذا الشاهد كما يمكن أن يتناول غيره.
وقال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10]: التحقيق -إن شاء الله- أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها، فإن المثل في لغة العرب تطلق أحياناً على الذات مثلها، وهذا مشهور جداً في لغتهم كما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، معناها: ليس كالله شيء؛ لأن الله لا مثل له، فهذه الآية جارية على أسلوب عربي معروف وهو إطلاق المثل على الذات نفسها كقولهم: مثلك لا يفعل هذا، يعنون بذلك: أنت لا ينبغي لك أن تفعله، وعلى هذا فالمعنى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)): على هذا القرآن أنه وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له، ولذلك قال: ((فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، فهذا يرجح قول من فسرها بأنه شاهد على القرآن أنه حق من عند الله، فآمن هذا الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، بخلاف ما لو قلنا: (فشهد شاهد) وهو موسى عليه السلام، (على مثله) على التوراة، وماذا ستقولون في قوله: (فآمن واستكبرتم) في حق موسى عليه السلام والخطاب للمشركين؟ فأقوى وأوضح أن يقال: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وهو عبد الله بن سلام، (على مثله) على القرآن نفسه، وليس على شيء آخر كالتوراة مثلاً؛ لما علم من لغة العرب أن المثل تطلق ويراد بها الذات نفسها، فآمن الشاهد وأما أنتم فقد استكبرتم عن الإيمان والانقياد.
وهذا كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، تفسيرها: كمن هو نفسه في الظلمات، وهذا أسلوب من أساليب العرب، وقال أيضاً تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، أي: فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق.
إذاً: القول المحقق في أمثال هذه الآيات: أنه لا يقال: إن (مثل) هنا بمعنى أنه يوجد مماثل آخر، وإنما المقصود هو نفس الشيء، فقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، تفسيرها: فإن آمنوا بما آمنتم به، وليس: فإن آمنوا بشيء آخر مماثل لما آمنتم به، ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، وكأنها قراءة تفسيرية.
والشاهد في الآيات هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية ليست مدنية كما سبق الجواب عن هذا، وأن القول بأنها مدنية غير لازم؛ لأنها في سورة مكية، بل يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل أن يقع، ويحمل قول من قال: إنها نزلت في عبد الله بن سلام على أن لفظ الآية يشمل عبد الله بن سلام وغيره، والله تعالى أعلم.(109/14)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)
أشار تبارك وتعالى إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11].
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، أي: لو كان الإيمان، أو لو كان ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقتمونا إليه، أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به كسائر الخيرات من المال والجاه.
قال ابن كثير: يعنون بلالاً وعماراً وصهيب وخباباً رضي الله تعالى عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطئوا خطأً بيناً، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، يقول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، بلى.
أي: يتعجبون كيف ساد هؤلاء دوننا؟! ولهذا قالوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه).
وهذه العبارة من كلام ابن كثير ينبغي أن تحفظ؛ لأنها عبارة رائعة من ابن كثير رحمه الله، فهو يفرق بين قول أهل الحق، أهل السنة والجماعة، وبين قول هؤلاء الكافرين المتمردين المتكبرين في نظرة كل فريق إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم إن كانوا يقولون: لو كان الإسلام خيراً ما سبقونا إليه احتقاراً وازدراءً لهم فإنا نردد مع ابن كثير رحمه الله تعالى قوله: (وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين)، فهذه عبارة حقها أن تكتب بماء العيون ليس فقط بماء الذهب.
ونحن والكفار كلانا لنا موقف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فقد كانوا يحتقرون ضعفاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفقراءهم وعبيدهم بأن يقولوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه) استكباراً وعلواً واحتقاراً وازدراءً لهم.
أما أهل الحق في كل عصر وفي كل دين إلى أن تقوم الساعة فإنهم يقولون: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى الناس بالخير، وفي هذه العبارة يدفع في صدر كل مبتدع أياً كان إذا كان يبتدع شيئاً لم يفعله الصحابة؛ فإننا ندرأ في نحره بهذه العبارة الرائعة من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى: وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11].
(وإذ لم يهتدوا به) يعني: بالقرآن.
(فسيقولون هذا إفك قديم) أي: كذب قديم، كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حده: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فهم جمعوا بين هذين الركنين من أركان الكبر: بطر الحق: تكبر عن الانقياد إلى الحق، واحتقار الناس: فهم احتقروا الصحابة وقالوا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، وتنقصوا القرآن بأن لم ينقادوا به، بأن قالوا فيه: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}، هذا أساطير الأولين، فجمعوا بين هذين الركنين اللذين هما ركنا الكبر.
فأهل القرآن ينبغي أن يكونوا أعظم الناس حظاً من التبجيل والاحترام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سماهم باسم ينبض بأعظم معاني التكريم ورفع الشأن حينما قال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)، فهم خاصة الله عز وجل من بين الخلق، وهم أيضاً الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ولذلك فقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا) على تفسيرات عدة: منها: من لم يشعر بأنه أغنى خلق الله إذا حاز القرآن بين جنبيه وفي صدره، فهذا قد حاز أعظم الغناء، ولذلك قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام بعدما قال له سبحانه وتعالى أولاً: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فمن ثم نهاه بعدها مباشرة وقال: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:88]؛ لأنك غني بالقرآن، فلا تحتاج أبداً أن تنظر إلى زينة الحياة الدنيا، فالزينة هي القرآن وهي الإيمان، أما هؤلاء الكفار فقد تمكنوا من صفة الكبر، واستوفوا ركني الكبر اللذين هما: بطر الحق، فتكبروا عن الانقياد للحق حينما قالوا: ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، أو قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، وغمط الناس حينما قالوا في المؤمنين: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)).
كان رجل يقول: ما من علم إلا ويوجد في القرآن، فقال له رجل على سبيل التحدي والتعجيز: فأين في القرآن: إن المرء عدو ما يجهل؟ فقال له: في قوله تعالى: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))؛ لأنه لما جهل القرآن وجهل الحق عاداه.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)): أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة: أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ): أنهم كفار مكة، وأن مرادهم: أن فقراء المسلمين وضعفاءهم كـ بلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي الله تعالى عنهم أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير، وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير بزعمهم، وأن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة، وهذا المعنى تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر القرآن به القرآن.
أما ادعاؤهم: أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، فتكذيب الله لهم في ذلك قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]، فمن الاغترار ومن الجهل والحمق أن يظن هؤلاء الكفار أن الله إن كان أعطاهم الدنيا فلابد أن ما هم فيه خير، وأنه سوف يؤتيهم مثله في الدار الآخرة، كلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين والإيمان إلا لمن أحب واصطفى.
ففي ميزان الله سبحانه وتعالى لا الصور ولا الأحساب ولا الأنساب ولا المال ولا الجاه يؤثر على الإطلاق، وإنما أكرمكم عند الله أتقاكم، وإلا فكل البشر سواء؛ لا فضل لعربي على أعجمي لأبيض على أسود ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77 - 80]، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، مع قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]، وفي سورة الكهف: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36].
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير، وأن ما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغناء والجاه والولد من الكفار فقد دلت عليه آيات أخرى، كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، فهمزة الإنكار في قوله: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير، وقد رد الله عليهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، بلى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].
وقال تعالى في الأعراف: ((109/15)
تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة)
قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:12].
(من قبله) أي: من قبل القرآن، (كتاب موسى) ومع ذلك لم يهتدوا به.
(إماماً) أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه.
(ورحمة) لمن آمن به وعمل بما فيه.
(وهذا كتاب) هذا الذي يقولون فيه ما يقولون.
(مصدق) أي: بكتاب موسى، من غير تعلّم من أُنزل عليه إياه.
(لساناً عربياً) (لساناً) حال، (عربياً)، أي: بيناً واضحاً، وفي تقييد الكتاب بذلك مع أن عربيته أمر معلوم للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية.
وهذا معنى جيد، وكان يكفي أن يقال: وهذا كتاب عربياً، لكن أتى بكلمة: (لساناً عربياً) للتوكيد، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً، فزيادة (رجلاً) للتوكيد.
ويذكر القاسمي هنا فائدة لذكر لفظ (لساناً عربياً) أي: بيناً واضحاً، وقيد الكتاب بأنه (لساناً عربياً) مع أن عربية القرآن أمر معلوم، ما سر ذلك؟ سر ذلك: للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية، وهذا كتاب مصدق للتوراة، أتى بلسان عربي فاتحدت معاني الدعوة للتوحيد بين التوراة والقرآن، فالقرآن يطابق التوراة باتحادهما في المعنى، مع أنها غير عربية، ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الذي أوحى القرآن إلى النبي عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعرف لغة التوراة ومع ذلك ففي كتابه نفس المعاني التي في هذا الكتاب.
(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: المشركين.
(وَبُشْرَى)، أي: وهو بشرى، (لِلْمُحْسِنِينَ).
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم حافل بالمواضع التي فيها ربط بين الرسولين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأيضاً في الكتب مواقف كثيرة فيها الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والربط دائماً بين التوراة وبين القرآن الكريم، وبين هذه الأمة وبين أمة بني إسرائيل، ومن ذلك قوله تعالى هنا: (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل القرآن، (كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ) أي: هذا القرآن، (مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا)، فهذا ربط بين القرآن وبين التوراة.
وفي نفس السورة قال تعالى عن مؤمني الجن لما سمعوا القرآن: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30]، فلم يقولوا: من بعد عيسى؛ لأنه كما ذكرنا هناك ربط شديد في القرآن بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن الشريعة الأساسية هي شريعة موسى عليه السلام، أما عيسى فجاءت شريعته مكملة فقط وليست هي الكتاب الأساس، وإنما الأساس هو التوراة.
كذلك أيضاً في مقدمة سورة الإسراء ربط هذا الربط الذي أشرنا إليه، وفي حديث إسلام النجاشي لما تلا جعفر على النجاشي وأصحابه سورة مريم، بكى النجاشي وقال: إن هذا هو الذي جاء به موسى، وإنهما ليخرجا من مشكاة واحدة.
وكذلك قال ورقة بن نوفل مع أنه كان نصرانياً، كما في حديث بدء الوحي، قال: (هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى) إلى آخر الحديث.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(109/16)
تفسير سورة الأحقاف [15 - 20](110/1)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً)
قال الله تبارك وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15].
قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) وقرئ: (حسناً)، وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17] أي أن هذه مقدمة بذكر حق الوالدين قبل التعرض لذكر كل عاصٍ عاقٍ لوالديه.
(حملته أمه كرهاً) قيل: المراد بهذا الكره شدة الطلق، وقيل: حملته أمه كرهاً أي: حملاً ذا كره وهو المشقة التي تعانيها في الحمل كلما ثقل، ((ووضعته كرهاً)) هذا هو الذي قيل إنه شدة الطلق، فشدة الطلق داخلة في قوله: (ووضعته كرهاً).(110/2)
مدة الحمل والرضاع
قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ((وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا))، أي: حمله جنيناً في بطنها وفصاله من الرضاع ثلاثون شهراً، أي: تمضي عليها هذه المدة ثلاثون شهراً بمعاناة المشاق ومقاساة الشدائد لأجله، مما يوجب للأم مزيد العناية وأكيد الرعاية.
ولو أننا حسبنا حمله وفصاله ثلاثين شهراً، فمدة الحمل تسعة أشهر، وأجل الرضاع: أربعة وعشرون شهراً، فيكون المجموع ثلاثة وثلاثون شهراً.
فقوله: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) إما أنهم أسقطوا الكسر واكتفوا بالعقود، أو أن مدة الرضاع لا يشترط أن تستوفى إلى غاية السنتين، فقد تكون أقل من ذلك كما هنا في هذه الآية، أو أن أقل مدة الحمل كما استنبط ذلك علي رضي الله تعالى عنه بضميمة هذه الآية إلى الآية الأخرى، تكون ستة أشهر.
يقول: لا يقال: بقي ثلاثة أشهر؛ لأن أمد الرضاع حولان؛ لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد إتمام الأجل، وإلا فأصله أقل منهما كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، إذاً: لا يشترط أن تستوفى مدة الرضاعة حولين كاملين، ولنفرض أن أمد الرضاع لابد أن يكون سنتين، فيكون في الآية اكتفاء بالعقود وحذف الكسور، فبدل أن يقول: ثلاثة وثلاثون شهراً، اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر العقود الثلاثة وهي الثلاثون، وحذف الكسور جرياً على عرف العرب في ذلك، كما ذكروه في حديث أنس في وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنه توفي عليه الصلاة والسلام على رأس ستين سنة، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين سنة، فهذا يحمل على أن أنساً رضي الله تعالى عنه اكتفى بذكر العقود وحذف الكسور، كما هي عادة العرب في ذلك.
قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيه على العقود وترك الكسور، وسر ذلك هو القصد إلى ذكر المهم وما يكتفى به فيما سيق له الكلام، لا ضبط الحساب وتدقيق الأعداد.
قال ابن كثير: وقد استدل علي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية مع الآية التي في سورة لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(110/3)
معنى الكره في الحمل والوضع
قال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: ((حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)): قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمر وهشام عن ابن عامر (كَرهاً) وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر (كُرهاً) بضم الكاف في الموضعين، وهما لغتان كالضُعف والضَعف، و (حملته كَرهاً أو كُرهاً) معناه: أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة، ومن المعلوم أن ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها يكون كبيراً، ومعنى وضعته كرهاً: أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة كما هو معلوم، وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه، لا شك أنه يعظم حقها بها، ويتحتم برها والإحسان إليها كما لا يخفى، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل دلت عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى في سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]، أي: ضعفاً على ضعف؛ لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ازدادت ضعفاً على ضعف.
وقوله هنا (كرهاً) في الموضعين مصدر منكر، وتعرب: كرهاً على أنها حال مع أنه نكرة، ومجيء المصدر المنكر حالاً كثير، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع وقال بعضهم: كرهاً في الموضعين: نعت لمصدر، أي: حملته حملاً ذا كره، ووضعته وضعاً ذا كره، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: ((وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا))، هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل، ولكن بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل؛ لأن هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف صرحت بأن أمد الحمل والفصال معاً ثلاثون شهراً، فيكون مجموع الحمل مع الفصال ثلاثين شهراً، وقوله تعالى في سورة لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وكذلك قوله في سورة البقرة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، ليبين أن أمد الفطام عامان، وهما أربعة وعشرون شهراً، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمداً للحمل وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، ودلالة هذه الآية على أن الستة الأشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة.
فالحمل إما تسعة أشهر وأقله ستة أشهر، أما الرضاع فأربعة وعشرون شهراً، فحمله وفصاله (9أشهر+24شهر=33شهراً) أو حمله وفصاله (6+24=30)، كما في هذه السورة، إذاً ستة أشهر هي أقل مدة الحمل.(110/4)
معنى بلوغ الإنسان الأشد
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15]، قال القاسمي: حتى إذا استكمل قوته وعقله وبلغ أربعين سنة، وفي ضوء منهج تفسير القرآن بالقرآن هل نستطيع أن نوجد من القرآن الكريم تفسيراً دقيقاً لمعنى (أشده)؟ يقول تعالى في سورة النساء: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، إذا ضممنا هاتين الآيتين إلى بعض وفهمنا هذه الآية في ضوء تلك استطعنا أن نفسر قوله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الأنعام: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، ما معنى أشده؟ أوضحها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، إذاً: في ضوء تفسير القرآن بالقرآن نفهم أن قوله تعالى هنا: (حتى إذا بلغ أشده) أي: بلغ الحلم، (وبلغ أربعين سنة) أي: بعد ذلك وهو غاية الكمال والنضج البدني والعقلي.(110/5)
معنى قوله: (وبلغ أربعين سنة)
قوله تعالى: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:15]، أي: أمهلني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف:15]، أي: بالهداية بالتوحيد والعمل بطاعته وغير ذلك، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] أي: واجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، ((إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ)) أي: من ذنوبي التي سلفت مني، ((وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: المستسلمين لأمرك ونهيك المنقادين لحكمك.
إذاً: يستحب لمن شرع في الأربعين فما فوقها أن يكثر من هذا الدعاء: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ لأنه إذا بلغ هذه السن فقد بدأ المرحلة الأخيرة من العمر، أو بتعبير آخر يسمونها في الطب العمر المتوسط، وهو السن الذي يبدأ من الأربعين إلى الستين، وما بعد الستين يسمونه الشيخوخة، بخلاف العرب فإنهم يعدون من بلغ الأربعين شيخاً.
وقال بعض السلف: تركت الذنوب حياءً من الناس أربعين سنة، وتركتها حياءً من الله أربعين سنة، وقال بعضهم: إن سن الأربعين هو مصدر لإلهام كثير من الأدباء والشعراء بكثير من المعاني التي تفيض بمساءة من قد اقترب من القبر جداً، ولذلك يقول بعضهم: تمسكت بعد الأربعين ضرورة ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ يعني: لم يبق لي إلا أن أتمسك، ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ عندما يأتيه أجله، فهي السن التي يبدأ الإنسان يترقب فيها حضور أجله، فإن الإنسان في فترات الفحولة والصبا والشباب إذا سلم من الآفات في كل هذه الفترات فهو كالزرع إذا سلم من الآفات في جميع مراحل نموه، لكن مهما نما ومهما سلم فسوف تكون نهايته الحصاد، فلابد أن يحصد حتى وإن سلم فيما مضى من السنين.(110/6)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا)
قال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
(أولئك)، أي: الموصوفون بالتوبة والاستقامة في الآيات السابقة.
(الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) أي: من الصالحات فنجازيهم عليها، ونتجاوز عن سيئاتهم، أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم منها، (في أصحاب الجنة) أي: في جملة من يتجاوز عنهم وهم معدودون في أصحاب الجنة وفي زمرتهم ثواباً ومقاماً.
قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] أي: أن كلمة: (في أصحاب الجنة) تعبير يستفاد منه المبالغة في علو منزلتهم في الجنة، فإن قولك: فلان معدود في العلماء، أو فلان من العلماء، أقوى من أن تقول: فلان عالم.
وكذلك قوله تبارك وتعالى هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ))، أي: أولئك في أصحاب الجنة، فهذه أبلغ من قول: أولئك أصحاب الجنة، فتكون من باب قوله تعالى في يوسف عليه السلام: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20]، فيوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ومع ذلك (كانوا فيه من الزاهدين) إشارة إلى علو مقام يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فمن لم يتنبه لهذا المعنى قال: إن قوله: (في أصحاب الجنة) بمعنى: مع أصحاب الجنة، والصواب أن هناك سراً في إيثار (في) على (مع) في اللفظ الكريم، فلم يقل تعالى: أولئك مع أصحاب الجنة، ولكن قال: (أولئك في أصحاب الجنة)؛ لأن (في) تفيد المبالغة في علو مكانهم ومنزلتهم.
(وعد الصدق)، منصوب على أنه مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (أولئك الذين نتقبل عنهم) فهذه فيها معنى الوعظ، كأنك تقول في التفسير: أولئك الذين وعدهم الله أن يتقبل عنهم أعمالهم فوعدهم بالقبول، فقال سبحانه وتعالى: (وعد الصدق) كأنه يقول: وعدتهم وعد الصدق أن أتقبل أعمالهم، يؤكد ذلك قوله تعالى: (الذي كانوا يوعدون) على ألسنة الرسل في الدنيا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران:194]، فقوله تعالى: ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ))، أي: وعدهم تعالى هذا الوعد، وعد الحق في الدنيا وهو موفيه لهم في الآخرة، كما قال: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].(110/7)
تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)
بين الله تعالى من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه من كل ولد عاق كافر، وبين مآله وماله في مآله؛ بقوله سبحانه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا}.
إذاً: هذه الآية نزلت لتشمل كل كافر عاق لوالديه المؤمنين: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17].
(والذي قال لوالديه) أي: حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة، (أف لكما) أي: من هذه الدعوة؛ لأن (أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، (أتعدانني أن أخرج) أي: أبعث من قبري بعد فنائي، (وقد خلت القرون من قبلي) أي: قد هلكت ومضت ولم يرجع أحد منهم، وهذا يعني أن هذا الولد العاق الكافر يكذب بالبعث والنشور، ويقول: (قد خلت القرون من قبلي) ومضوا، ولم يعد منهم أحد.
(وهما يستغيثان الله) أي: يطلبان الغياث بالله منه، والمراد إنكار قوله واستعظامه؛ كأنهما لجئا إلى الله في دفعه، كما يقال: العياذ بالله، أو المعنى: وهما يطلبان من الله أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه، (ويلك آمن): صدق بوعد الله، وأقر بأنك مبعوث بعد موتك، والويل في الأصل معناها الدعاء بالهلاك، فأقيم مقام الحث على فعل أو ترك، أي أن أصل كلمة الويل: دعاء على الإنسان بالهلاك، لكن كثر وشاع استعمالها في الحث على الفعل أو الترك، يقال: ويلك ماذا تفعل؟ ويلك افعل كذا، فتستعمل في الحث على الفعل أو الترك للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه وأخذ الأصلح له.
(إن وعد الله حق) أي: إن وعده تعالى لخلقه بأنه سوف يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حق لا مرية فيه.
(فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين): فيقول هذا الكافر العاق مجيباً لوالديه وراداً عليهما نصيحتهما وتكذيباً لوعد الله: (ما هذا) الذي تقولانه (إلا أساطير الأولين) أي: أباطيلهم التي كتبوها.(110/8)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18].
(أولئك) أي: الكفار، كأن قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) ثم قوله في أول الآية التي تليها: (أولئك الذين حق عليهم القول) إشارة إلى أولئك الكفار العاقين لوالديهم المؤمنين، وهذا الذي رجحه العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.
إذاً: قوله تعالى: (أولئك) أي: أولئك الكفار المشار إليهم في الآية السابقة من كل كافر عاق، (أولئك الذين حق عليهم القول) الإلهي، وهو العذاب المذكور في قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، ((فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ)) أي: مع أمم قد خلت ((مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ)) أي: الذين كذبوا رسل الله وعتوا عن أمره ((إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)) ببيعهم الهدى بالضلال والباقي بالفاني.(110/9)
تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا)
قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19].
(ولكل): هذا تنوين تعويض عن اسم، وهو ما يضاف إلى (كل)، والمعنى: ولكل فريق من الفريقين المذكورين المؤمنين والكفار.
والإشارة إلى الفريقين في قوله: (ولكل درجات مما عملوا) هي إشارة إلى الطرفين المذكورين: الفريق الأول: الذين قال تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14]، إلى قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:15 - 16]، هذا هو الفريق الأول.
والفريق الثاني: (والذي قال لوالديه أف لكما) إلخ.
(ولكل درجات مما عملوا) أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر، فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة وأهل النار في العذاب، فإن درجات الجنة تذهب علواً، كلما ارتفعت تكون أعلى، ودركات النار تذهب إلى أسفل، فالجنة درجات كما أن النار دركات.
(ولكل درجات مما عملوا) أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيئ، (وليوفيهم أعمالهم) أي: جزاءها، (وهم لا يظلمون)، بنقص ثواب ولا زيادة عقاب.(110/10)
ما ورد في سبب نزول الآيات
روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن هذه الآية نزلت في ابن لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال لأبويه وهما: أبو بكر وأم رومان وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام، فكان يرد عليهما ويكذبهما فيقول: فأين فلان؟ وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، فأسلم بعد ذلك عبد الرحمن وحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19].
وهذا غير صحيح، فلا يصح أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)) يثبت لهذا الشخص أو هذه المجموعة من الكفار العاقين دخول النار، فمن أثبت الله له سوء العاقبة، وأنه من أهل النار، فهل يحتمل أن يكون من غير أهل النار؟ وهذا مثل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]، وهذه الآية يذكر أنها علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يسلم أبداً لا هو ولا امرأته، وبالفعل ماتا على الكفر والعياذ بالله، فصارت هذه من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك قوله هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فإذا كان الله قد كتب الشقاء على إنسان فلا يمكن أن يبدل هذا الحكم، في حين أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قد أسلم وحسن إسلامه.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (لكن نفي عائشة وهي أخت عبد الرحمن أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسناداً وأولى بالقبول)؛ فأم المؤمنين عائشة لا شك أنها أعلم بأخيها وبأهل بيتها وبأبويها رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فنفي عائشة أصح من حيث الإسناد وأولى قبولاً، وذلك ما رواه البخاري والإسماعيلي والنسائي وأبو يعلى: أن مروان كان عاملاً على المدينة، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يستخلف يزيد، فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم فذكر يزيد ودعا إلى بيعته، وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلفه -ليدافع عن هذا الأمر، وأن هذه ليست بدعة- فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: ما هي إلا هرقلية، يعني: أنتم تحاولون جعلها نظاماً ملكياً بالتوارث، بعدما يموت معاوية رضي الله تعالى عنه يرثه ابنه الملك ويكون يزيد ملكاً بعده، فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: هرقلية، إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده، فقال مروان: خذوه -اقبضوا عليه- فدخل عبد الرحمن بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا -يقصد عبد الرحمن بن أبي بكر -الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن -أي: نحن آل أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين- إلا أن الله أنزل عذري، ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ومروان في صلبه.
إذاً: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها نفت تماماً وقطعت بأنه لم ينزل في آل بيت أبي بكر شيء من القرآن إلا ما أنزل الله سبحانه وتعالى في براءتها رضي الله تعالى عنها، وهذا من حيث الإسناد أصح، ومن حيث المعنى أولى بالقبول.
قال الزجاج: وقول من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن باطل؛ لقوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون، فما دام حق عليهم القول لا يؤمنون، وعبد الرحمن رضي الله تعالى عنه مؤمن.
يقول القاسمي: ومما يؤيده: أن الذين حق عليهم القول هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين، وقد حاول بعضهم عدم التنافي والجمع بين القولين: بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه ثم يسلم بعد ذلك، ومعلوم أن الإسلام يجب ما قبله، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمقبلين عليه الذين لم يقلعوا لكثرة ما ورد في العفو عن السائلين، وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى، وكلها على من كان مشركاً آنئذ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم، أو أن فيها ما يحط من أقدارهم ويجعلها مغمزاً عليهم، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا هذا، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة وقالة يلوكها الرعاع، وهم الذين يهمه أمرهم، ويرحم الله عبد الرحمن فقد كفى الأمة وصدع بالحق في حين أن لا ظهير له ولا نصير، والله تعالى أعلم.
إذاً: القول الراجح والأقوى من حيث السند ومن حيث المعنى ألا يكون ذلك في عبد الرحمن، واستظهرنا على ذلك بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأحقاف:18] إلى آخره.
وهناك قول آخر لبعض العلماء الذين أرادوا أن يجمعوا بين الاثنين فقالوا: ربما هي فعلاً نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر لكن ذلك كان قبل إسلامه، ثم بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، والإسلام يجب ما قبله، وبما أن الإسلام يجب ما قبله فلا يجوز على الإطلاق تعييره بشيء ارتكبه حال كفره.
واستدل أصحاب هذا القول بأنه في بداية الوحي ونزول القرآن الكريم في السور المكية كانت هناك آيات فيها وعيد شديد للكفار وللمشركين، فكانت تشمل كل مشرك قائم في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك لما أسلم عدد كبير من الصحابة زال عنهم وصف الشرك؛ فخرجوا من استحقاق الوعيد الموجود في هذه الآيات التي نزلت في أول الوحي حينما أسلموا وحسن إسلامهم، وبالتالي لا يجوز أبداً أن يعير مسلم بما ارتكبه في حال الشرك.
فكأنه يقول: حتى لو كانت الآية فعلاً نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فهذا مما لا ينبغي أن يعير به عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه أسلم بعد ذلك، والإسلام يجب ما كان قبله، فلم يكن لـ مروان أن يطعن فيه بمثل هذا؛ بل إنه لجأ إلى أن يعزف على نغمة يطرب لها الجهلة، وقالة يلوكها الرعاع، ويرحم الله عبد الرحمن فقد أحسن في تصديه لـ مروان، ورد أبلغ الرد بحيث إنه كان ضعيفاً لا أهل ولا والد له ولا نصير ولا ظهير إلا الله سبحانه وتعالى.(110/11)
الأضرحة والقبور المزورة
قال ابن قتيبة في المعارف: أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وهم من بعضهم البعض: أبو قحافة وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه محمد بن عبد الرحمن، أي: الجد أبو قحافة والابن أبو بكر والحفيد عبد الرحمن بن أبي بكر وابن ابن الابن وهو محمد بن عبد الرحمن.
وقال ابن قتيبة أيضاً: كان عبد الرحمن من أفضل قريش، ويكنى أبا محمد، وله عقب بالمدينة، وليسوا بالكثير، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين في جبل يقرب من مكة، فأدخلته عائشة رضي الله تعالى عنها الحرم فدفنته وأعتقت عنه.
وفيه مسقى في مقبرة باب السراديب المسماة بالدحداح، ما دام يقال: إنه عبد الرحمن بن أبي بكر وقد أثبت أنه دفن في مكة رضي الله عنه، وأن أم المؤمنين هي التي دفنته، ثم يعقب قائلاً رحمه الله تعالى: وفي دمشق في مقبرة باب سراديب المسماة بالدحداح مزار يقال: إنه قبر عبد الرحمن بن أبي بكر نسب إليه زوراً، وانتبهوا الآن إلى العبارة الجميلة من القاسمي حيث يقول: وما أكثر المزورات في المزارات، كما يعلمه من دقق في الوفيات.
ويوجد بحث رائع جداً يليق أن يجمع كبحث مستقل يسمى: المزارات المزورات، وقد بلغت الفتنة عند المسلمين بموضوع القبور والمزارات والمشاهد إلى أن أصبحت أغلبها مزورة.
وما أكثر المزارات الباطلة والمزعومة أنها للأولياء والصالحين، ولعلنا نذكر من ذلك أمثلة منها: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ضريح الحسين في القاهرة كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم، فإنه معلوم باتفاق الناس أن هذا المشهد في القاهرة بني عام بضع وأربعين وخمسمائة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة، فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين رضي الله عنه قول بلا حجة أصلاً، وقد ورد عن المتائهي ابن دقيق العيد وابن خلف الدمياطي وابن القسطلاني والقرطبي صاحب التفسير وعبد العزيز الديجني: إنكارهم أمر هذا المشهد؛ بل ذكر عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد -مشهد الحسين - مبني على قبر نصراني! وهذا شيء لا يستغرب، فإنه يوجد في العهد القريب في دمنهور مولد أبي حصيرة وهو يهودي، بدليل أن اليهود جعلوه مسمار جحا، ويأتون كل سنة في مولده، وتقام حفلات كبيرة عنده، حتى إن الدولة أقامت لهم (كوبري) يوصل إلى أبي حصيرة مباشرة، فيأتي اليهود والمسلمون يحتفلون معاً بمولد أبي حصيرة اليهودي، وعليه يبعد أن يكون ما ذكره ابن القسطلاني: صحيحاً، وهو أن المشهد الحسيني مبني على قبر نصراني.
يقول شيخ الإسلام: وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة هناك ضريح آخر في سفح جبل الجوشن غربي حلب ينسب إلى رأس الحسين أيضاً، وهو من أضرحة الرؤيا -أي: بني بسبب رؤيا- وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال: إن بها رأس الحسين في دمشق والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنهم، وفي كربلاء حيث قيل: إنه أعيد إلى جسده.
ورغم أن المحققين يقولون: إن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ماتت بالمدينة ودفنت في البقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق هو القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه، ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا بسنوات معدودة، ويقول علي مبارك في الخطبة التوفيقية: لم أر في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات.
وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة.
هناك بعض المواضع سوف نتجاوزها فكلها تعكس فتنة كثير من المسلمين بهذه القبور، وكيف أن بعض القرى قد يعير أهلها لعدم وجود شيخ يحرسها، ومن يسافر على الطريق الزراعي يلاحظ المقابر ويرى وجود حفرة كبيرة يعتقدون أن هذا يحرس البلد، وكذلك يكون هناك قبر متميز.
يقول: بل وصل الأمر إلى حد أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً من نسل النبي عليه السلام مر عليهم وهو مسافر، ولحبهم له أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها!! ومن الحب ما قتل! أيضاً يقول: في (تنارك) في الهند قبر أبي البشر آدم عليه السلام وتنارك هذه بلدة فيها جماعة سلفية قوية جداً في الهند، ومع ذلك يوجد فيها أيضاً قبوريون، وهناك قبر زوجه وقبر أمه، يقولون: هذا قبر آدم، وهذا قبر حواء، وهذا قبر أم آدم، ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة! ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى: أن شريف مكة الشريف عون عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، فقد كانوا يعتقدون أنه في جدة، وإنما يقال لها: جدة من جدة البشر، أي: جدتنا حواء، فلأجل ذلك -والله أعلم- يسمونها جدة، فاعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء؛ بحجة أن حواء أم لجميع الناس، وليست أماً للمسلمين فقط.
وعلى كل حال: هذه إشارة عابرة من هذا الملف القيم إلا إنه بقي أيضاً بعض الإشارات تتعلق بما ذكرنا نحن به أهل الإسكندرية فهي مناسبة بمناسبة الكلام على المزارات المزورات.
يقول الأستاذ سعد صالح محمد في كتابه: صراع بين الحق والباطل) المطبوع سنة 1368 هجرية: نشرت جريدة الجمهورية سنة 1359هـ أن أحد قطاع الطرق أراد أن يبحث عن عمل آخر غير احتراف السلب وترويح الناس، ففكر في مزاولة جريمة سلب أموال الناس في مجال آخر؛ ليكون في مأمن من يد القانون، وتشاور الرجل مع أفراد عصابته، وأخيراً استقر رأيهم على أن يدعي قاطع الطريق أنه ولي من أولياء الله الصالحين، فيطلق لحيته، ويلبس زي الدراويش، كما اتفقوا أيضاً على أن يقوم أفراد العصابة بأدوار المريدين، وأن يسيروا في ركاب ولي الله ليروجوا بين الناس معجزاته، ولكي يؤمن الأهالي بالشيخ ويشهدوا له ولو بمعجزة واحدة -هم يقصدون كرامة لا معجزة؛ لأن المعجزة خاصة بالأنبياء- اقترح قاطع الطريق أن يسرق رجاله محراثاً كان يمتلكه شيخ القرية، وأن يقوموا بتخبئته في مكان معلوم من الترعة، وسوف يقوم المريدون بالدعاية للولي في القرية، ويدعون أنه يعرف الغيب، وعندئذ سوف يأتيه شيخ القرية ليرشده إلى المحراث المسروق، وسوف تتم هنا المعجزة المشهودة، حيث يحقق ولي الله أمل صاحب المحراث، وبعدها سيصبح قاطع الطرق في معتقدات الأهالي من أولياء الله، ثم تتدفق عليهم جميعاً العطايا، وقام رجال العصابة بتنفيذ الفكرة وحدث ما توقعوه، وكبر الأهالي وهللوا؛ فقد أصبح الشيخ محقق المعجزات، وكان جوهرها قائماً على سرقة المحراث وتخبئته!! كشفت الأيام الغطاء عن ولية خيالية، وضعها سادة القبور ليحجبوا عن أعين الناس الحقيقة التي كانت مختفية تحت ذلك الضريح الوهمي، قرر المسئولون عام تسعة وخمسين وثلاثمائة وألف هدم مبنى محافظة القاهرة بناحية باب الخلق لبنائه من جديد، وكان المبنى القديم يضم في أحد أركانه ضريحاً أطلق عليه اسم: الشيخة سعادة، وادعى السدنة أنها ابنة الحسين رضي الله تعالى عنه، وبعد أن تم هدم المحافظة نفسها جاءت الفئوس لتأتي على بقية المبنى، وهو الركن الذي يضم الضريح، وانتشر خبر هدم الضريح في حي قبر سعادة والأحياء المجاورة لها، وسرعان ما تجمع الأهالي والمضللون وأحاطوا بالضريح على عادتهم في مثل هذه الحوادث، وراح المبطلون وغيرهم يتناقلون عن بعضهم بجهل وتقليد ما توارثوه من كلام سخيف غير معقول حول الضريح، فمن قائل: إن العامل الذي بدأ في الهدم شلت يداه ونحو ذلك، فبدءوا يحكون الكرامات حتى يحتالوا على الناس، وكلها في الكرامات المؤذية، فالذي بدأ في الهدم شلت يداه، وكسرت يد فأسه، وغير ذلك من الأراجيف والمفتريات.
أما سادنة هذا الضريح فلم تنس هي الأخرى أن تطلق عدة شائعات، وكيف تنسى وقد هزتها الصدمة وزلزلت كيانها بسبب هدم الضريح، فقد كان مورد رزقها الوحيد، ومما كانت تحكيه السادنة عن كرامات الشيخة المزعومة: أن مهندساً حاول هدم الضريح وفوجئ في اليوم الثاني بقرار نقله إلى الصعيد، وبينما الناس مشغولون بقصة الضريح كانت الفئوس تنزل بالحفر إلى مسافات كبيرة، ولم يجدوا في الضريح شيئاً سوى بقايا ساقية وبعض المواسير والأسلاك الكهربائية والأحجار، وفضحت هذه الخدعة.
أيضاً قال الشيخ سيد سابق حفظه الله تعالى حين كان مدير الثقافة بالأوقاف وقتها: إن هناك شيخاً اسمه الأربعين، له عدة أضرحة في أماكن متفرقة بمصر، وإنه لا يوجد شيخ بهذا الاسم، يقول: فليت سكان الصعيد الأفاضل يقتنعون بهذه الحقيقة وينصرفون عن هذا الولي الوهمي وغيرهم من الأولياء الذين أحبوهم وقدسوهم.
يأتي دورنا هنا أهل الإسكندرانية، يقول: ولـ أبي الدرداء ضريح وهمي، وله أيضاً قصة تحمل في طياتها كرامة خيالية كان وما زال لها شأن كبي(110/12)
معنى (الذي) في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، يقول: التحقيق -إن شاء الله- أن الذي في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) بمعنى: الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث، والدليل من القرآن على أن (الذي) بمعنى: الذين، وأن المراد به العموم، وأن الذي في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) مبتدأ وخبره: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فالذي: مبتدأ، وأولئك هي الخبر، والإخبار عن لفظة الذي في قوله: (أولئك الذين حق عليهم القول) بصيغة الجمع صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وبهذا الدليل القرآني نعلم أن قول من قال في هذه الآيات الكريمة: إنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ليس بصحيح كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه، وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا بتلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف:18]، ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وغاية ما في هذه الآية الكريمة إطلاق (الذي) وإرادة (الذين)، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ لأن لفظة: (الذي) مفردة ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها؛ لأن (الذي) من صيغ العموم، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم كما أشار إليه في مراقي السعود في قوله: صيغه كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع إشارة إلى أن من صيغ العموم صيغة كل، وصيغة الجميع، وقوله: (وقد تلا الذي التي) الذي هي اسم موصول، وكذلك والتي أيضاً، والفروع: فروعهما اللذان واللتان وهكذا.
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، وقوله تعالى في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]، في التفسير نقول: كمثل الذين استوقدوا ناراً، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
وقوله أيضاً في البقرة: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] تفسيرها: كالذين ينفقون، بدليل أنه قال: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:264] بالجمع، وقال في الزمر: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، كذلك قال في التوبة: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] أي: كالذين خاضوا، بناءً على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة: فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد والمقصود: الذين، لأنه قال: هم القوم.
وقول عدي بن الفرح العزي: وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي وقول الراجز: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد يعني: إلا الذين قاموا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (والذي قال لوالديه أف لكما)، أف: كلمة تضجر، وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهي الله تعالى في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23].
{أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] الأساطير: جمع أسطورة، وقيل: جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي: ما كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.(110/13)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)
قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20].
(ويوم يعرض الذين كفروا) أي: واذكر لهم يوم يعرض الذين كفروا على النار، وهذا توبيخ لهم، (أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا) وقُرأت: (آذهبتم) وقرئ أيضاً: (أأذهبتم)، والعرب توبخ بألف وبغير ألف.
(أذهبتم طيباتكم) أي: فما بقي لكم من اللذائذ شيء باستيفائكم إياها.
{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: الهوان، {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بغير ما أباح لكم وأذن، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} عن طاعته فأبعدكم عن كرامته.(110/14)
استحباب عدم التوسع في المباحات
قوله تعالى: (فاليوم تجزون عذاب الهون) الهون: هو الهوان بلغة قريش، فقد تورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، وكان يقول: أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقرعهم: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)، وقال أبو مجلز: ليتفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصناباً وصلائق، ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) قوله: (لأنا أعلم بخفض العيش) أي: أنا أعرف جيداً كيف أتمتع بأصناف المأكولات والمشروبات والملبوسات، فعندي خبرة في هذا وأعرف ذلك جيداً، وما أعرضت عنها جهلاً بها ولكنه يخشى هذه الآية.
ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء، والصلاء: هو السواء، والصواب: هي الأصبغة، والصلائق: ما يسلق من البقول وغيرها، والصلائق: الخبز الرقاق العريض، يقول: ولكني أستبقي حسناتي؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها).
وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وألينكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة، ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله، فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة.
فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بوناً بعيداً.
وفي صحيح مسلم وغيره: (أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه، قال: فالتفت فلم أر شيئاً يرد البصر إلا أهباً -أي: جلوداً- معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله! أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالساً وقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، فقلت: استغفر لي، فقال: اللهم اغفر له).
وقال جابر رضي الله عنه: اشتهى أهلي لحماً فاشتريته لهم، فمررت بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟! فأخبرته، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه؟ أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]؟ قال ابن العربي: وهذا عتاب منه على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جنس الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض؛ لغلبة العادة واستكراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله، والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأخذ ما وجد طيباً كان أو قفاراً ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلاً ولا يجعله ديدنه، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة وطريقة الصحابة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام، فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص ويعين على الخلاص برحمته.
وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن تناول الطيبات الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه، واستعان به على ما لا يحل له، فقد أذهبه، والله تعالى أعلم.(110/15)
معنى عرض العذاب على الكفار
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]، فقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] معناه: يباشرون حرها كقول العرب: عرضهم على السيف إذا قتلهم به، وهذا معنى معروف في كلام العرب، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:34]، وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب.
وقال سبحانه وتعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:45 - 46]، فالعرض ليس معناه: أنه يعرض أمامهم العذاب، بل يعرضون على النار يعني: يدخلون العذاب ويباشرونه مباشرة، (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)؛ لأنه عرض عذاب.
قال بعض العلماء: معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها، والكشف لهم عنها حتى يروها، كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف:53]، وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23].
وقال بعض العلماء: في الكلام قلب، وهو من أساليب العرب، والمعنى: ويوم تعرض النار على الذين كفروا، فالآية: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] والمعنى: ويوم تعرض النار على الذين كفروا، كما تقول العرب: عرضت الناقة على الحوض، يعنون: عرضت الحوض على الناقة، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية كقلب الفاعل مفعولاً والمفعول فاعلاً ونحو ذلك اختلف فيه علماء العربية؛ فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه، فأجازوا قلب المشبه مشبهاً به والمشبه به مشبهاً بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسراً لطيفاً، كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه بالمخلوق، وأجازه كثير من علماء العربية، والذي يظهر لنا: أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ولا يقاس عليه، يعني ما سمع فقط هو الذي يحفظ ويستعمل، لكن لا يقاس عليه غيره، ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز رؤبة: ومهمة مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه يعني: كأن سماءه لون أرضه.
وقول آخر: وبدا الصبح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح الأصل تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح، فقلب في التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه، فهو يمدح وجه الخليفة لما يضيء ويشبهه بنور الصبح، وأيهما يكون أقوى بالشبه: المشبه أم المشبه به؟ المشبه به يكون أقوى، نقول: علي قوي كالأسد، مع أن الأسد أقوى، فالأصل أنه يشبه وجه الخليفة بنور الصبح، لكن أراد أن يوهم أن الخليفة نوره قوي جداً لدرجة أنه يشبه الصبح، فهو يوري بهذا القلب.
قالوا: ومن أمثلة القلب في القرآن قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، (وآتيناه) أي: قارون، (من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) الذي ينوء بالمفاتيح هم العصبة، يعني: مجموعة من الرجال الأشداء الأقوياء، يعني: بمشقة كبيرة يستطيعون أن يرفعوا مفاتيح الخزائن، فهنا في القرآن الكريم جعل المفاتيح هي التي تنوء، فهذا من القلب؛ لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها، فهذا مثال من أمثلة القلب.
ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} [القصص:66]، يعني: عموا هم عن هذه الأنباء.(110/16)
قول الشنقيطي في التقشف والتوسع في المباحات
يقول الشنقيطي: واعلم أن للعلماء كلاماً كثيراً في هذه الآية قائلين: إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20].
والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية: هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذائذ التي أباحها الله لهم؛ لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، أما كون الآية في الكفار: فقد صرح تعالى بقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20]: هذا حاسم في الجواب، {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20].
إذاً: الآية في الكفار، والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع، مخلصاً فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم، ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله؛ فإنه يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق والعافية ونحو ذلك، ولا نصيب له في الآخرة.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] وهذا واضح تماماً أنه في حق الكفار.
وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وهذا الثواب الدنيوي المذكور في هذه الآيات إنما هو بمشيئة الله وإرادته، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18].
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)، وهذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي لفظ له عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته).
فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً، وبمقتضى ذلك يتعين تعييناً لا محيد عنه: أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر؛ لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة؛ لأن الدنيا جنة الكافر، وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً فلم يذهب طيباته في الدنيا؛ لأن حسناته مدخرة له في الآخرة، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثواباً في الدنيا، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وعلى كل حال فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، وتفسير ذلك في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
فقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32]، يعطيها للكفار في الدنيا، ولكن هي {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] خالصة يوم القيامة للمؤمنين، فالدنيا يعطيها الله من يحب ويعطيها من لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا لمن أحب.
فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة يكون لهم أجر زائد على ذلك؛ لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد كما هو معلوم، والنصوص دلت على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا؛ لأنه يجزى عليها في الدنيا فقط كالآيات المذكورة من قبل، وحديث أنس عند مسلم، قد تم الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].
قوله تعالى: ((فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) يعني: الذل والصغار، (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون): هذه الباء سببية، وما مصدرية، أي: تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض وكونكم فاسقين.
وأوضح ذلك في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20]، وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20]، (بغير الحق): مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكباراً متلبساً بغير الحق، كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} [آل عمران:167]، ومعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه، فهذا أسلوب من أساليب العرب نزل به القرآن الكريم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} مع أن كل استكبار يكون بغير الحق، وهذا جارٍ على نفس هذا الأسلوب العربي.(110/17)
تفسير سورة الأحقاف [21 - 35](111/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف)
قال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21].
قوله تعالى: (واذكر أخا عاد) يعني: هوداً عليه السلام، فقد كان أخاهم في النسب وليس في الدين، فهي أخوة نسبية وليست دينية.
(إذ أنذر قومه بالأحقاف) ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر قصتهم لقومه؛ ليخافوا ويتعظوا.
وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه إياه.
(إذ أنذر قومه بالأحقاف) الأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع.
قال قتادة: ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر.
إذاً: الأحقاف هي ديار عاد، وهي الرمال العظام في قول الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم.
إذاً: الأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج، ولم يبلغ أن يكون جبالاً.
وقال ابن زيد: الأحقاف رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً.
يقال: احقوقف الرمل، أو احقوقف الهلال، أي: اعوج.
وقال قتادة: هي جبال مشرفة بالشحر، والشحر قريبة من عدن.
وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت.
وهناك بعض الأقوال الضعيفة سبق أن تعرضنا لها قريباً، وهي أن قوم عاد كانوا بمصر، وإليهم تنسب الآثار والديار المعروفة عند قدماء المصريين، والله تعالى أعلم.(111/2)
إعراب قوله تعالى: (إذ أنذر قومه)
(إذ أنذر) إعرابها: بدل اشتمال من (أخا عاد) وهو هود عليه السلام.
(إذ أنذر قومه)، أي: وقت إنذاره إياهم، فالبدل إما بدل كل من كل، ويكون مطابقاً للمبدل منه ومساوٍ له في المعنى، كما تقول: مررت بأخيك زيد، أو زره خالداً.
هذا بدل كل من كل.
وهناك بدل بعض من كل، كما تقول: أكلت الرغيف ثلثه.
هذا بدل بعض من كل.
وهناك بدل مباين للمبدل منه، وهو إما أن يكون على سبيل الإضراب أو الغلط والنسيان.
الإضراب مثل أن تقول: أكلت خبزاً لحماً.
وبدل الغلط والنسيان مثل أن يكون الإنسان يتكلم ثم يخطئ في الكلام، ثم يأتي بالكلام الصحيح عقب ما أخطأ فيه، فهو كان يقصد البدل فقط، وإنما غلط فذكر المبدل منه، كما يقول مثلاً: رأيت رجلاً حماراً، أخطأ ثم استدرك وقال: رأيت حماراً، فأتى بها على نسق واحد، رأيت رجلاً حماراً.
أما البدل الذي هنا في قوله: (إذ أنذر قومه) فهو بدل الاشتمال، وبدل الاشتمال يدل على المعنى في متبوعه، كما تقول: أعجبني زيد علمه، فهذا بدل اشتمال، ومثاله في القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217]، أي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، و (قتال فيه) بدل اشتمال من الشهر الحرام.
كذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} [مريم:16] يعني: أن شأن مريم يشتمل على أمور كثيرة، فأنت تذكر انتباذها مكاناً شرقياً، فكذلك هنا (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه) أي: اذكر وقت إنذاره قومه، فهذا بدل اشتمال من هود.(111/3)
معنى قوله تعالى: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه)
((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)) أي: قد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده؛ متفقين على ألا تعبدوا إلا الله.
إذاً قوله تعالى: ((وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)) الجملة في محل نصب حال، و (خلت) يعني: مضت.
(الرسل من بين يديه) الهاء تعود على هود عليه السلام.
(من بين يديه)، من قبله.
(ومن خلفه)، من بعده.
قال ابن كثير: وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين.
(ألا تعبدوا إلا الله)، أي: لا تشركوا مع الله سبحانه وتعالى شيئاً في عبادتكم إياه.
وقال كل واحد منهم عليهم السلام: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} [الأعراف:59] أي: من عبادة غير الله {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] أي: بمقدار عذاب الله بالشرك.(111/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا)
قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22].
(قالوا أجئتنا لتأفكنا)، أي: جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا.
وقيل: (لتأفكنا) أي: لتزيلنا أو لتمنعنا أو لتصرفنا، وكلها معان متقاربة (فأتنا بما تعدنا) من العذاب.
وهذه الآية فيها دليل على أن الوعد قد يطلق ويوضع موضع الوعيد؛ لأنه قال هنا: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) يعني: في وعدك لنا به، أو: (إن كنت من الصادقين) في أنك نبي، وهذا استعجال منهم بعذاب الله وعقوبته على سبيل استبعادهم وقوعه، كقول الله سبحانه وتعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى:18].
((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ)) أي: إني وإن علمت إتيانه قطعاً، وإن كنت أقطع بأن العذاب آتيكم بسبب كفركم وإعراضكم، لكنني لا أعلم وقت مجيئه؛ لأن العلم بوقته عند الله سبحانه وتعالى، فيأتيكم الله به في وقته الذي قدره له.
((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ)) أي: أنا شأني ووظيفتي فقط أن أبلغكم ((مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا لما جئتكم به، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل، وهذا الاقتراح يكشف مدى جهلهم؛ لأنهم حينما يطلبون من الرسول أن يأتيهم بالعذاب؛ ويستعجلونه بإتيان العذاب؛ فهذا من جهلهم، فناسب أن يوصفوا بالجهل؛ لأن هذه ليست وظيفته هو، إنما وظيفته أن يبلغهم، أما متى يحين الأجل الذي ينزل الله فيه العذاب؟ فهذا ليس إلى الأنبياء، وإنما هو إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال لهم لما قالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)): {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23].
وقال الطبري: تجهلون مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.(111/5)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم)
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24].
أي: لما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه فرأوه عارضاً في ناحية من نواحي السماء، متجهاً نحو مزارعهم، والهاء في قوله: (فلما رأوه)، تعود إلى غير مذكور، وقد بين هذا المذكور قوله تعالى: (عارضاً).
إذاً: الضمير يعود إلى السحاب؛ لأنه نصب كلمة عارضاً على الحال من سحاب، أي: عرض له، فعارضاً منصوب على الحال.
وقيل: الضمير يعود إلى (ما) في قولهم: (فأتنا بما تعدنا)، ثم جاءت الآية: (فلما رأوه)، يعني: ما كان يعدهم.
(فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) سمي السحاب عارضاً؛ لأنه يبدو في عرض السماء.
وقال الجوهري: العارض السحاب يعترض في الأفق.
(فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) يعني: متوجهاً نحو أوديتهم.
قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له: المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر.
قال ابن كثير: قال الله سبحانه وتعالى: (بل هو ما استعجلتم به) أي: هو العذاب الذي قلتم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
وقال غيره: قال لهم هود: (بل هو ما استعجلتم به) من العذاب حيث قالوا: (فأتنا بما تعدنا).
(ريح) أي: هي ريح.
أو ريح بدل من ما؛ (ريح فيها عذاب أليم).
((تُدَمِّرُ)) تهلك.
((كُلَّ شَيْءٍ)) من أموالهم وأنفسهم.
((بِأَمْرِ رَبِّهَا)) بإذنه الذي لا يعارض، فلم تدفع عنهم آلهتهم بل دمرتهم.
{فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] بيوتهم.(111/6)
تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها)
وقوله عز وجل: (ريح فيها عذاب أليم)، هذه صفة للريح، (تدمر كل شيء)، هذه صفة ثانية للريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت هذه الريح تحمل الفساطيط -جمع فسطاط وهي الخيام -وتحمل الظعينة -وهو الجمل يظعن عليه- والهودج سواء كانت فيه امرأة أم لا، فترفعها كأنها جرادة ثم تضرب بها الصخور.
قال ابن عباس: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب، ورأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريح، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم ورمتهم في البحر، فهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (تدمر كل شيء بأمر ربها).
قال ابن عباس: (تدمر كل شيء) أي: كل شيء بعثت إليه، وهذا التفسير يجب أن ننتبه له، فقوله: (تدمر كل شيء بأمر ربها)، ليس على عمومه ولا على إطلاقه، لكنه مقيد بـ: كل شيء بعثت لتدميره، وليس كل شيء على الحقيقة كما يظهر لأول وهلة.
قيل: إن هذه الريح أمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال كما قال الله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]، والحسوم: الدائمة في الشر، إذ شرها مستمر لا ينقطع، ثم أمر الله سبحانه وتعالى الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم ورمتهم في البحر، والتدمير الهلاك، وكذلك الدمار، وقرئ: (يدمر كل شيء)، من دمر دماراً دمره ودمر عليه ودمر يدمر دموراً: دخل بغير إذن، وفي الحديث: (من سبق طرفه استئذانه فقد دمر) يعني: دخل بغير إذن.
قوله عز وجل: (تدمر كل شيء)، يعني: تدمر كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب، كما قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] يعني: كالشيء البالي.
إذاً: كل شيء هنا ليست على عمومها وإنما المقصود بها: كل شيء أمرت به، أو من شأنه أن يدمر، وما الدليل على قولنا: لابد من تفسيرها: بأنها دمرت كل شيء أمرت بتدميره؟
الجواب
قوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)، فبقية الآية دل على أن المساكن لم تؤمر الريح بتدميرها.
وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله تعالى بهذه الآية في مسألة من مسائل العقيدة، وهي مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، فإنه اعتمد على هذا التفسير بأن هناك فرقاً بين قول الرحمن وبين ما كان بقوله.
قال الإمام أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أخبرونا عن القرآن هو شيء؟ فقلنا: نعم هو شيء، فقال: إن الله خالق كل شيء، فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء؟! ومثل هذا السؤال من المغاليط، فهو يدفع إلى إجابة بعينها ويحاول أن يستدرجك إلى إجابة بعينها، مع أن الصواب ليس فيها، وإنما الصواب في غيرها.
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: فلعمري لقد ادعى أمراً أمكنه فيه الدواء، ولبس على الناس بما ادعى، فقلنا -رددنا على هذا المغالط-: إن الله في القرآن لم يسم كلامه شيئاً، وإنما سمى شيئاً الذي كان يقوله، ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل:40]، فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان بقوله، وفي آية أخرى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس:82]، فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره.
ومن الأعلام الدالات أنه لا يعني أن كلامه من الأشياء المخلوقة، أنه قال للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، وقد أتت تلك الريح على أشياء، فلم تدمرها مثل منازلهم ومساكنهم والجبال التي بحضرتهم.
فكذلك إذا قال: ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:62]، لا يعنى نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة.
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، فمما يخبر به عن الله أنه شيء، ولذلك كما قلنا في تفسير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] نقول: خالق كل شيء في عالم الممكنات لا المستحيلات ولا الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، كما هو اصطلاح المتكلمين.
كذلك قال في ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، أليس ملك سليمان شيئاً؟ وهل هي أوتيت ملك سليمان؟ لا.
يعني: أوتيت من كل شيء مما تؤتاه الملوك، وليس على الإطلاق، وقد كان ملك سليمان شيئاً ولم تؤته.
وكذلك إذا قال: (خالق كل شيء)، لا يعني أن كلامه مع الأشياء المخلوقة.
وشأن أهل البدع دائماً إساءة الفهم، ومغالطتهم في المناقشات، مثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقال المسيح عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، مع أنه قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يعني بقوله: (كل نفس ذائقة الموت)، نفسه عز وجل تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فبنفس الباب نرد على من يستدل بقوله: (الله خالق كل شيء)، على أن كلام الله أو أن القرآن مخلوق لعموم قوله: (كل شيء)، كما بينا.(111/7)
الفرق بين أمر الله القدري والشرعي
قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، هذا أمر كوني قدري، وأمر الله سبحانه وتعالى نوعان: الأمر الشرعي الإرادي الديني، والأمر الكوني القدري، فالأمر الشرعي الإرادي كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فهي أوامر فيها تكليف.
أما الأمر الكوني القدري فمثل قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقوله عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47]، وقال: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، وقال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16].
والأمر الشرعي الإرادي والأمر الكوني القدري جمعهما الله سبحانه وتعالى في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالخلق متعلق بالربوبية، والأمر متعلق بالألوهية؛ فالأمر الشرعي الإرادي الديني متعلق بالألوهية وبالشرع.
إذاً: الأمر الشرعي هو شرعه ودينه، وهذا الأمر قد يعطيه الفجار والفساق.
أيضاً الأمر الشرعي يتعلق بالمحبة والرضا، فالله لا يأمر أمراً شرعياً إلا بما يحبه ويرضاه، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، فالأمر الشرعي متعلق بألوهيته وشرعه ودينه، أما الأمر الكوني القدري فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وهو قضاؤه وقدره وفعله.
والأمر الشرعي الإرادي الديني قد يعطيه الفجار والفساق، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس مثلاً بالصدق، وببر الوالدين، وبالعدل والإحسان، فهل لابد أن يقع مادام الناس أمروا به؟ لا، فهذا أمر شرعي كلف الله العباد به، لكن قد يخالفه البعض ويمتثل الأمر البعض الآخر، أي: قد يتمرد على هذا الأمر الكفار والفساق، بخلاف الأمر الكوني القدري فإنه لا يمكن لأحد أبداً الخروج عن حكمه.
إذاً: الأمر الشرعي الإرادي الديني يتعلق بالمحبة والرضا، أما الأمر الكوني القدري فلا يتعلق بالمحبة والرضا مطلقاً؛ لأن هذا أمر يعم ما يحبه الله وما لا يحبه الله، ولابد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف.
إذاً: الأمران غير متلازمين، فقد يقضي الله سبحانه وتعالى ويقدر ما لا يأمر به وما لم يشرعه سبحانه وتعالى، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه، ولا يقدره.
إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية، بمعنى: أن الحكم الكوني أو القدري مع الحكم الشرعي يجتمعان في كل ما يقع من العباد من طاعات وإيمان وغير ذلك من هذه الأمور التي هي أولاً: حكم شرعي؛ لأن الله أمر بها، ولأن الله يحبها، ويجتمعان في أنها أيضاً داخلة في إرادته الكونية العامة، فهنا اجتمعا فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم.
وهل ينتفي الحكمان معاً الشرعي الإرادي والكوني القدري؟ نعم ينتفيان فيما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، فإن الله لا يأمر بالكفر، وهذه الأشياء بالذات لم يقدرها كوناً وقدراً.
وقد ينفرد الحكم الشرعي والقضائي الديني فيما أمر الله به وشرعه، ولكن لم يفعله المأمور، فهنا وقع الحكم الشرعي والقضاء الديني، لكن لم يقع الأمر الكوني القدري؛ لأنه لم ينسبه ديناً.
ومتى ينفرد الحكم الكوني القدري؟ ينفرد فيما وقع من المعاصي، وهذا وقع من حيث كوناً وقدراً، لكن هل يقع بشرع الله وإرادته الشرعية؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بذلك.
إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإن الله لا يأمر إلا بما يريده شرعاً وديناً، ولا يأمر إلا بالأشياء التي يريدها ويحبها مثل: أمره الكافر بالإيمان شرعاً وإن كان لم يوفقه له كوناً وقدراً.
كذلك أمر خليله عليه السلام بذبح ولده شرعاً، لكنه ما أراده كوناً وقدراً، بدليل أنه لم يقع.
وأمر رسوله بخمسين صلاة، لكنه لم يرد ذلك كوناً وقدراً.
والله سبحانه وتعالى يحب إيمان الكفار، ولكنه سبحانه اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح.
ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن هذا التدبير لا يقتصر على عاد، بل هو منتظم لكل من كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، يقول سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:13] أي: الكافرين إذا تمادوا في غيّهم وطغوا على ربهم سبحانه وتعالى.(111/8)
الهدي النبوي مع السحاب والمطر
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) يعني: كان إذا ضحك يتبسم، لكن ما كان يحصل أنه يفتح فمه حتى تظهر اللهاة التي في آخر الحلق من شدة الضحك، وهذا أدب من آداب النبوة، (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه -كان يتغير وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً- قلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية! فقال: يا عائشة! وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب - أي: وما يضمن لي-؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}) متفق عليه.
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عنها رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به، فإذا تخبلت السماء؛ تغير لونه، وخرج ودخل، وأدبر وأقبل، فإذا مطرت سري عنه -لأنه عرف أن هذه رحمة وليست عذاباً،- فسألته فقال: لعله -يا عائشة - كما قال قوم عاد: ((هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))).(111/9)
معنى قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)
قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، هذه قراءة عاصم وحمزة، أما ابن كثير فقرأ: (فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم)، وقراءة باقي القراء (فأصبحوا لا تَرى إلا مساكنهم) يعني: لا ترى -يا محمد عليه الصلاة والسلام- إلا مساكنهم.
قال الفراء: لا يرى الناس؛ لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم؛ لأنها قائمة.(111/10)
تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:26]، لفظة: (إن) في هذه الآية الكريمة فيها ثلاثة أوجه، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: يدل استقراء القرآن على أن واحداً منها هو الحق دون الاثنين الآخرين.
قال بعض العلماء: (إن) ظرفية، لكن الجواب محذوف، والتقدير (ولقد مكناكم فيما إن مكناكم فيه)، كأنها: لو مكناكم فيه لطغيتم وبغيتم، هذا هو القول الأول، وهو: أن شرطية، وجوابها مضمر محذوف، والتقدير: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26].
القول الثاني: قوله: (إن مكناكم فيه) (إن) زائدة بعد ما الموصولة، حملاً لما الموصولة على ما النافية؛ لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة (إن) كما هو معلوم، كما قال الشاعر: ما إن رأيت ولا سمعت به.
وتقدير الكلام على القول الثاني: (ولقد مكناهم فيما مكانكم فيه)، ومنه قول الأخفش: يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب يعني: يرجي المرء الشيء الذي لا يراه، فـ (إن) هنا زائدة، يؤمل المرء ما إن لا يراه، يعني: الشيء الذي لا يراه، وتعرض دون أدناه الخطوب: وتأتي الخطوب والأخبار تحول وتقطع عن أقرب أمل يؤمله.
وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما، إذاً: القول بأن إن شرطية، أو زائدة كليهما مرجوح.
أما القول الثالث -وهو الصواب إن شاء الله تعالى- فهو: أن لفظة: (إن) نافية بعد ما الموصولة، أي: (ولقد مكناكم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام وكثرة الأموال والأولاد والعدد)، وإنما قلنا: إن القرآن يشهد لهذا القول؛ لكثرة الآيات الدالة عليه، فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشاً وقوة، وأكثر منهم عدداً وأموالاً وأولاداً، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله؛ ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه؛ كقوله تعالى في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر:82].
وقال أيضاً في نفس السورة: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر:21].
وقال في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].
وقال تعالى في سورة الزخرف: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8].
إذاً: الراجح: أن (إن) هنا نافية.
وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26] قال الطبري: أي: جعلنا لهم سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصاراً يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم.
وسبق أن تكلمنا في سبب إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة في جميع آيات القرآن الكريم، وذكرنا بأن سبب ذلك أنها أتت بلفظ المصدر وهو (السمع).(111/11)
حلول نقمة الله بعاد لما جحدوا آياته
{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26]؛ لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له بل في خلافه.
{إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26]، أي: من العذاب، وهذا وعيد من الله جل ثناؤه لقريش، يقول لهم: (فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله ما حل بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة).
قال الشهاب: أفرد السمع في النظم وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات، وتعددت مدركات غيره، ولأنه في الأصل مصدر، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد.(111/12)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى)
قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] أي: ما حول قريتكم -يا أهل مكة- من حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبار هؤلاء القوم المهلكين متواترة عند قريش كحجر ثمود، وأرض سدوم، ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها فجعلنها خاوية على عروشها؛ لعلهم يرجعون عن الكفر بالله ورسله.
قال القرطبي: وفي الكلام متروك، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه، وهو: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) يعني: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم والتمادي على غيهم، فأهلكناهم فلم ينصرهم منا ناصر.(111/13)
تفسير قوله تعالى: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة)
قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28].
(لولا) بمعنى: هلا، أي: هلا نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم، حيث قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم! وقال الكسائي (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة) القربان: كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين.
و (قرباناً) إعرابها: حال.
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] أي: هلكوا عنهم، أو ضلت عنهم آلهتهم؛ لأنها لم يصبها ما أصابهم إذ هي جماد.
وقيل: (ضلوا عنهم)، أي: تركوا الأصنام وتبرءوا منها.
{وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} [الأحقاف:28] أي: والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى.
(وذلك إفكهم)، يعني: كذبهم، وفي قراءة أخرى: (وذلك أفَكَهُم) أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد، وقرأ عكرمة: (وذلك أفَّكَهم) يعني: قلبهم عما كانوا فيه من النعيم، وفي قراءة أخرى مروية عن ابن عباس: (وذلك إفكِهم) يعني: صارفهم، وعن عبد الله بن الزبير على اختلاف فيه: (وذلك آفكَهم) أي: أصارهم إلى الإفك.
والدليل على قراءة العامة: (وذلك إفكهم) قوله تعالى: (وما كانوا يفترون).(111/14)
تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30].
(وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي: أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك.
(يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا)؛ ليتم التدبر والتفكر.
(فلما قضي) فرغ من قراءته كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، يعني: من شدة تأثرهم بسماع القرآن أرادوا أن يؤثروا به في قومهم من الجن.
(ولوا إلى قومهم منذرين) أي: رجعوا فوراً، (إلى قومهم منذرين) لهم عما هم فيه من الضلال.
(قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)، وخص موسى لأنه المتفق على تعظيم كتابه، وقد علمنا صدقه؛ لأن هذا القرآن رأينا أنه يصدق الكتب التي بين يديه، وقد فضل عليها؛ لأنه (يهدي إلى الحق) أي: إلى معرفة الحقائق.
(وإلى طريق مستقيم) لا عوج فيه، وهو الإسلام.
قال ابن كثير: (يهدي إلى الحق) في الاعتقاد والأخبار، (وإلى طريق مستقيم) في الأعمال، فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن: (يهدي إلى الحق) أي: في الاعتقادات، (وإلى طريق مستقيم) أي: في العمليات.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله.
{وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:31 - 32] أي: ليس بمعجز ربه بهربه إذا أراد الله عقوبته؛ لأنه في قبضته وسلطانه.
{وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه.
{أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32] أي: على غير استقامة.
هذه الجملة من الآيات نحتاج إلى إيضاح بعض الأمور المتعلقة بها.(111/15)
الربط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشرع
قوله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) ذكر الله سبحانه وتعالى أنه صرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من الجن، والنفر عدد أقل من العشرة.
وأخبرنا جل وعلا أنهم لما حضروه قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) أي: اسكتوا مستمعين، (فلما قضي) أي: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته (ولوا) أي: رجعوا (إلى قومهم) من الجن في حال كونهم (منذرين) أي: مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله، ويجيبوا داعيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى المنزل من بعد موسى (يهدي إلى الحق) وهو ضد الباطل، (وإلى طريق مستقيم)، لا اعوجاج فيه.
يوجد ارتباط وثيق بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وكليم الله موسى عليه السلام، والقرآن دائماً يربط بينهما في مناسبات عدة منها هذه الآية، وقوله أيضاً: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف:12]، فانظر إلى الربط بين القرآن والتوراة؛ لأنها أساس الإنجيل الذي هو فرع عن التوراة ومكمل لها.
كذلك الربط بين محمد وموسى في حادثة الإسراء والمعراج، وتردد الرسول عليه الصلاة السلام بين ربه وبين موسى عدة مرات.
كذلك في حادثة بدء الوحي عندما قال ورقة بن نوفل لـ خديجة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى.
كذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي سورة مريم وبكى من حوله قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.(111/16)
عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن لتلاوته
دل القرآن الكريم على أن اجتماع هؤلاء النفر من الجن، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله؛ وقع ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه بذلك، كما قال تعالى في القصة بعينها: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)، لكنه في سورة الجن فصل سبحانه وتعالى هذه القصة بالتفصيل فقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2] إلى آخر سورة الجن.(111/17)
إرهاصات ما قبل النبوة
بين يدي الأحداث المهمة يحصل دائماً إرهاصات، وهي تعتبر كالمقدمات لأمر مهم سوف يحصل بعد ذلك.
نضرب أمثلة لذلك: ميلاد المسيح عليه السلام: ما الإرهاصات التي كانت قبله؟ حمل امرأة زكريا بيحيى عليه السلام، وهذه مقدمة بين يدي ما هو أعظم؛ لأن امرأة زكريا كانت قد بلغت من الكبر عتياً، وجرت سنة الحياة أنه لا يولد لمثلها؛ لأنها كانت عقيماً، وكان هو قد بلغ من الكبر عتياً، ولما رأى كرامات الله سبحانه وتعالى لـ مريم عليها السلام قال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:37 - 38]، فدعا ربه أن يهبه الولد الصالح، وقد كان -كما هو مفصل في القرآن الكريم- خرق للعادة، ومعجزة، لكنه إرهاص ومقدمة بين يدي ما هو أعظم وأخطر، وهو معجزة ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
أيضاً: بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لها إرهاصات ومقدمات تنبئ عن أن شيئاً مهماً جداً سوف يحصل؛ مثل حادثة الفيل، فهي إرهاص حصل قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام يدل على أن الله يحمي هذا البيت؛ لاقتراب بعثة محمد؛ لأنه ولد عليه السلام في نفس عام الفيل.
ومن هذه الإرهاصات أيضاً: ما حصل من هواتف الجن وإخبارها عن شيء خطير وقع في هذا الكون، وهو تشديد الحراسة في السماء، فعلموا أن شيئاً خطيراً سوف يحصل؛ لأن السماء ما حرست من قبل هذه الحراسة؛ وذلك إنما حصل لأجل أن يحرس الوحي، ولا يتمكن الجن أن يسترقوا شيئاً من أخبار الوحي.
من هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظنه، وهذا من الفراسة قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، يعني: أول ما رأى عمر هذا الرجل قال: أظن أن هذا كان كاهناً في الجاهلية، وعمر من المحدثين الملهمين، وكانت عنده فراسة شديدة رضي الله تعالى عنه، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! فقال عمر: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، فقال الرجل: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قولها: ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: تحيرها ودهشتها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص، جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، وأحلاسها: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت الظهر.
فقال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، يعني: في تلك اللحظة لما ذبح العجل صرخ هذا الجني بهذا الصوت: يا جليح! وهذا اسم رجل، فكان يناديه: يا جليح! رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
فـ عمر نفسه أكد الخبر الذي قاله هذا الرجل الذي كان كاهناً في الجاهلية، بأن حكى هو حكاية حضرها أن جنياً صاح هذا الصياح.
وهل الجن يعرفون الغيب؟ لا، لكن هذه الإرهاصات كانت بمثابة مقدمات بين يدي نزول الوحي؛ إذ قبل أن ينزل الوحي إلى السماء اشتدت الحراسة كما قال الله حاكياً عن الجن قولهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8 - 9].(111/18)
استماع الجن للقرآن في وادي نخلة
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت عكرمة، عن الزبير في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) قال: بنخلة -وهذا اسم للمكان- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة، ويقرأ القرآن، فأمال الله هؤلاء الجن ووجههم كي يحضروا هذه الصلاة.
وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] أي: من الزحام، وحرصهم على استماع القرآن.
(لبداً) يعني: بعضهم على بعض، فاللبد يكون طبقات بعضه على بعض.
وروى أحمد والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ورجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]، وأنزل الله على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] إلى آخر الآية، فمعنى ذلك أن الرسول عليه السلام ما شعر بهم حين استمعوا إليه، وإنما أوحي إليه قول الجن؛ لأن الله تعالى قال: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من آية الجن).
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
قال الحسن البصري: إنه عليه السلام ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم.(111/19)
من هواتف الجن قبل البعثة
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود -وهو ابن أبي هند - عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: (لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير -أي: اغتيل- فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم).
ولهذا الحديث عدة طرق تدل بمجموعها أن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المرات ذهب إلى الجن قصداً، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت، ويحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قال ابن عباس، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما قال ابن مسعود.
وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيداً منهم، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً، فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبث جنوده، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض.
وذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وإيذائهم له، فذكر القصة بطولها ثم قال: (ولما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن باسم الله)، قال ابن كثير: (وهذا صحيح، ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور، وخروجه إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين.
والرجل الذي كان كاهنهم هو سواد بن قارب، قال البيهقي في حديث سواد بن قارب: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح.
ثم روى بسنده عن البراء قال: (بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كان السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب؟ قال: فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً، قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب، قال: فقال له عمر: يا سواد! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: إني كنت نازلاً بالهند، وكان لي رئي من الجن، قال: فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل، فقد بعث رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتحساسها وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى أخير الجن كأنجاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى راسها قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب! إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس قداماها كأذنابها فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى قابها فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال: عجبت للجن وتخبارها وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس ذوو الشر كأخيارها فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجن ككفارها قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة -يعني: مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب! قد علمنا ما جاء بك، قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعراً فاسمعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: قل يا سواد! فقلت: أتاني رئي بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت بي الدعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن).
وساق الإمام الماوردي هذا الحديث الذي هو علم من أعلام النبوة في هتوف الجن ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه، ولا يحد قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النصوص بشير، وقد قبلها السامعون، وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها، فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، -ونحن لم نقل: إنها دليل من أدلة النبوة، وإنما قلنا: هي إرهاصات ومقدمات بين يدي الوحي- وهنا الإمام الماوردي رحمه الله تعالى يقول: وإذا كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، فيجوز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، وعنده وجهان: أحدهما أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخباراً.
والثاني: أن الكهانة عن مغيب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم.(111/20)
معنى صرف الجن إلى النبي
قوله تبارك تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن).
قال الماوردي: في صرف الجن المذكور في قوله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) وجهان: أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض، وتخيلوا به تجديد النبوة، فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عامداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن ورأوه كيف يصلي، ويقتدي به أصحابه، فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب، وعرفوا أن الوحي ينزل على نبي بعث حديثاً، وأنه لأجل ذلك حرست السماء، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقيل: إن السورة التي كان يقرأ بها هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وقيل: إنها سورة الرحمن؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قرأتها -أي: سورة الرحمن- على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن رداً منكم، كنت كلما قرأت قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:13]، كان الجن يقولون: ولا بشيء من نعمك -يا ربنا- نكذبك، لك الحمد).
الوجه الثاني في قوله (وإذ صرفنا إليك): أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة، فنزل عليه جبريل في هذه الآية وأخبره بوفود الجن، وأمره بالخروج إليهم، فخرج ومعه ابن مسعود حتى جاء إليهم، قال ابن مسعود: (فخط علي خطاً، وقال: لا تجاوزه).
فعلى الوجه الأول: لم يعلم بهم حتى أتوه، وعلى الوجه الثاني: أعلمه جبرائيل قبل إتيانهم.
واختلف أهل العلم في رؤيته لهم، وقراءته عليهم.
وقوله تعالى: (فلما حضروه قالوا أنصتوا)، لما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتوا لسماعه، وهذا أدب منهم.
وقد روى البيهقي عن جابر قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً؟! للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذبك، لك الحمد).
ورواه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير.
قوله تعالى: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)) دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامَّ الرسالة إلى الإنس والجن، قال ابن كثير: لأنه دعا الجن إلى الله تعالى، وقرأ عليهم السورة التي فيها تقابل الفريقين، أي: قرأ عليهم سورة الرحمن، وسورة الرحمن فيها خطاب للجن والأنس، وفيها تكليفهم ووعدهم ووعيدهم؛ ولهذا قالوا: (أجيبوا داعي الله وآمنُوا به).(111/21)
رسل الله إلى الجن
قال الماوردي: لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث الله إليهم رسولاً من الإنس، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم أي: جواز أن يكون الرسول جنياً اختلفوا فيه، لكن لم يختلفوا في جواز أن الله سبحانه وتعالى يبعث إلى الجن رسولاً من الإنس.
قال: جوز قوم إرسال رسول من الجن إلى الجن؛ لقول الله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ومنع آخرون منه، وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس، وحملوا قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين، ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلاً في آية سورة يس {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:14].
وقوله: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي)، قراءة الجمهور على البناء للمفعول، (فلما قُضي)، وقرأ بعضهم: (فلما قَضى) أي: قضى النبي صلى الله عليه وسلم يعني: فرغ من قراءته، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10]، وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12]، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200].
قوله: (ولوا إلى قومهم منذرين)، أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، واستدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل.
ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، وقال عن إبراهيم الخليل: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.
وقد يعترض بعض الناس بآية الأنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ف
الجواب
أن المراد في الآية هو مجموع الجنسين، وهذا لا يتعارض مع اقتصار الرسل على كونهم من الإنس.
فقوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)، المراد هنا مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وهو يخرج من أحدهما.(111/22)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)
قال تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] أي: القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى.
قال عطاء: كانوا يهوداً فأسلموا، ولذلك قالوا: (أنزل من بعد موسى).
وعن ابن عباس: أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: (أنزل من بعد موسى).
قال ابن كثير: ولم يذكروا عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشرعية التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: (أنزل من بعد موسى).
وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه أول مرة، فقال: بخ بخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً، يعني: شاباً عند ظهورها.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:30 - 31] يعني: محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يدل على أنه بعث إلى الجن والإنس، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وهي سورة الرحمن، ولهذا قال: (أجيبوا داعي الله وآمنوا به).
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة).
قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].
(يغفر لكم من ذنوبكم) والله سبحانه وتعالى قد يتجاوز للإنسان عن حقوقه هو، لكن حقوق العباد والمظالم التي بينهم فلا يتجاوز الله سبحانه وتعالى إلا أن يستحل صاحب هذا الحق.
وهذا هو السبب في قوله عز وجل: (يغفر لكم من ذنوبكم) فـ (من) هنا للتبعيض، أي: بعض هذه الذنوب، وهو ماعدا حق العباد، قاله الشوكاني.
وقيل: إن (من) هنا لابتداء الغاية، مثلما تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، فقوله: (يغفر لكم من ذنوبكم)، أي: يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى.
وقيل: إن (من) زائدة.(111/23)
دخول المؤمنين من الجن الجنة
قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم) أي: ويقيكم من عذابه الأليم، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة.
قال أبو حنيفة: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم، وهذا قول الحسن.
وقال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.
وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة، يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه مال مالك والشافعي وابن أبي ليلى.
وقال الضحاك: الجن يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون.
ودليل هذا المذهب قوله تبارك وتعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، قال ابن كثير: والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]-فيدل على أن الجن قد يثابون أيضاً بالحور العين- وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، فهو خطاب للإنس والجن، فالله سبحانه تعالى يقول: (ولمن خاف) وهذه صفة عموم، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فقد امتن الله تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد؛ فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم.
وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى.
ومما يدل أيضاً على ذلك عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107]، وما أشبه ذلك من الآيات.
أيضاً من الأدلة: أن هذه الجنة يبقى فيها متسع بعدما يدخل الله كل الخلق ممن يستحقون الجنة، حتى أن الله سبحانه وتعالى ينشئ لها خلقاً جديداً يسكنهم الجنة، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحاً؟! وما ذكروه هنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم.
هذا كلام ابن كثير.
هذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:4]، وفي هؤلاء المخاطبين من آمن من قوم نوح، فهل الآية اقتصرت فقط على ذكر أن ثوابهم إذا آمنوا وأطاعوا أن يغفر الله لهم ذنوبهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى وأنهم لا يدخلون الجنة؛ لأنه لم يذكر ذلك في هذه الآية؟ لا خلاف أن مؤمني قوم نوح في الجنة، فكذلك هؤلاء.
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19]، يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة؛ لأنه قال في أول الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام:130]، إلى أن قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132].
(ولكل) يعني: الإنس والجن، والله تعالى أعلم.
قال الله في الترغيب: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، ثم قال تعالى في الترهيب: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:32] أي: لا يفوت الله، ولا يسبقه، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه إن هرب كل مهرب فهو في الأرض، ولا سبيل له إلى الخروج منها، وفي قوله: {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله، وبين سبحانه وتعالى بُعد استحالة نجاته بوساطة غيره.
وقوله: {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32] الإشارة إلى من لا يجب داعي الله سبحانه وتعالى.(111/24)
كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به)
العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تكلم في هذه الآية بكلام نختصره، يقول في قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: منطوق هذه الآية: أن من أجاب داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به وبما جاء به من الحق غفر الله له ذنوبه، وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها -يعني: مفهوم المخالفة، أو دليل الخطاب-: أن من لم يجب داعي الله من الجن ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، وقال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:94 - 95].
أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة فلم تتعرض له الآية بإثبات ولا نفي، وقد دلت آيات أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47].
ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فإنه يشير إلى أن في الجنة جناً يطمثون النساء كالإنس.
و
الجواب
أن آية الأحقاف نص فيها على الغفران، والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة؛ لأنه تعالى قال فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فقوله: (ولمن) يعني: وللذي أو للذين، وهذا يعم كل خائف مقام ربه، ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معاً بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان).
فإذاً: لا تعارض بين الآيتين؛ لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى، يعني: أن آية الأحقاف لم تتعرض لدخولهم الجنة، لكن آية الرحمن أثبتت دخولهم الجنة، فلا تعارض بين الآيتين، ولو سلمنا أن قوله تعالى: ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) يفهم منه عدم دخول الجنة، فالدليل هنا هو مفهوم الآية، (يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) حيث يفهم منها: أن هذا هو جزاؤهم لكن لا يدخلون الجنة، أما قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فهذا عموم يدل على دخولهم الجنة بدلالة المنطوق، ولا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، وهذا دليل أصولي آخر.
وسبق أن ذكرنا أن سر التبعيض في قوله: (يغفر لكم من ذنوبكم) هو: أن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان، كذنوب المظالم، أي: حقوق العباد، وفيه نظر؛ لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة، وسفك الدماء المحقونة، ثم حسن إسلامه جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إنكار.
ويقال: إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضاً.
والسر فيه: أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن، يعني قال: (يغفر لكم من ذنوبكم) لأنه خطاب موجه لكافر، فيكون فيه قبض لا بسط للثواب، بخلاف كون الإنسان إذا آمن وأسلم، فإن الأمر يكون فيه بسط.
قال ابن كثير: جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب، ولهذا نجع كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً.(111/25)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)
قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر، فقال: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت البراهين عليه، ولم ينجع في الكافرين؛ (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) أي: الزم الثبات والحزم فإنك منهم.
قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
وقيل: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى.
وقال ابن جريج منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس.
وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة.
وقيل: هم الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل؛ لقوله بعد ذكرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
وقيل: إن الرسل كلهم أولو عزم، وعلى هذا فتكون (من) في قوله تعالى: (فاصبر كما صبر ألوا العزم من الرسل) بيانية لا للتبعيض، أي: اصبر كما صبر الرسل الذين هم أولو العزم.
وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل.
وقال الحسن: هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى.
فأما إبراهيم فقيل له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقاً صابراً في جميع ما ابتلي به.
وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62].
وأما داود فأخطأ خطيئة فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة وقعد تحت ظلها.
وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها.
فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي: كن صادقاً فيما ابتليت به، كما صدق إبراهيم، واثقاً بنصر مولاك مثل ثقة موسى، مهتماً بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى.
ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف.
وقيل: إنها محكمة.
وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له.
يقول القاسمي: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، أي: أولوا الثبات والجد منهم فإنك منهم.
والعزم في اللغة كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر، والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه، فالمراد به هنا: المجتهدون المجدون أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم وقدره وقضاه عليهم.
ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل وكثير من الأولياء، فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مقصود ببعضهم فلابد من بيانه ليظهر وجه التخصيص، وقد اختلف في عددهم إلى أقوال: الأول: أنهم جميع الرسل.
والثاني: أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد.
والثالث: أنهم خمسة، بزيادة عيسى كما قيل: أولي العزم نوح والخليل المنجد وموسى وعيسى والنبي محمد عليهم الصلاة والسلام.
والرابع: أنهم ستة بزيادة هارون أو داود.
والخامس: أنهم سبعة بزيادة آدم.
والسادس: أنهم تسعة: بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف، وقد يزاد وينقص.
وتوجيه التخصيص: أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية وأموره الخارجية، ومبارزة كل أهل عصره كما وقع لنوح، أو الملك الجبار في عصره وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية كـ نمرود إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى، ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل، وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة حسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام؛ فمن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره.
وقوله تعالى: ((وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)) أي: ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتدت عليك الأمور من جهتهم.(111/26)
كلام الشنقيطي في المراد بأولي العزم من الرسل
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافاً كثيراً، وأظهر الأقوال في ذلك: أنهم خمسة، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب والشورى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] عليهم السلام.
وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة، فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم.
واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن لفظة (من) في قوله: (من الرسل)، بيانية الذي يظهر أنه خلاف التحقيق، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس؛ لأنه هو صاحب الحوت.
وكقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فآية القلم، وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل.
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] يعني: بالدعاء عليهم أو في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غايتهم يوم القيامة.
(ولا تستعجل لهم) مفعول لأجله، يعني: لا تستعجل لهم العذاب.(111/27)
معنى قوله تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون)
قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35] من العذاب أو من الآخرة.
{لَمْ يَلْبَثُوا} [الأحقاف:35] أي: في الدنيا، حتى جاءهم العذاب، أو لم يلبثوا في قبورهم حتى بعثوا للحساب.
{إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] يعني: في جنب يوم القيامة.
قيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا.
{بَلاغٌ} [الأحقاف:35] أي: هذا القرآن بلاغ، (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف، والدليل قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52]، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، والبلاغ بمعنى التبليغ.
وفي قوله: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] بعض العلماء وقف على (ولا تستعجل)، ثم بدأ: (لهم بلاغ) وهذا خطأ، ذكر ذلك أبو حاتم، ويجوز بلاغاً على المصدر أو على النعت للساعة، والخفض على معنى: من نهارٍ بلاغٍ.
وروي عن بعض القراء (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) فيقف على (من نهار).
وقرأ: (بلّغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).
قرأ الجمهور (يُهلك) على البناء للمفعول، وقرأه ابن محيصن: على البناء للفاعل.
(يَهلك) والمعنى: أنه لا يهلك لعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة، الواقعون في معاصي الله.
وقال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مسرف.
وقيل: هذه الآية أقوى آية في الرجاء، (بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)، يعني: لا يهلك مع رحمة الله وفضله (إلا القوم الفاسقون).
قال العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: (بلاغ) أصوب القولين في قوله تعالى: (بلاغ) أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، بدليل قوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52]، وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ، وقد علم من استقراء اللغة العربية أنه يأتي كثيراً بمعنى التفعيل، فبلغه بلاغاً أي: تبليغاً، وكلمه كلاماً أي: تكليماً، وطلقها طلاقاً أي: تطليقاً، وسرحها سراحاً، وبينه بياناً، كل ذلك بمعنى التفعيل؛ لأنها مضاعفة العين غير معتلة.
وأما القول بأن المعنى وذلك بلاغ، فهو خلاف الظاهر كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
وقال القاسمي رحمه الله تعالى: (فهل يهلك) أي: بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة، (إلا القوم الفاسقون) الذين خالفوا أمره، وخرجوا من طاعته، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.(111/28)
تفسير سورة محمد [1 - 3](112/1)
بين يدي سورة محمد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فنشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة القتال، وهي المسماة بسورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمى سورة الذين كفروا، جاء في الأسباب إنها بدأت بقوله تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1].
أما تسميتها باسم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فلما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقاً أعظم من الإيمان بما نزِّل مجموعاً على جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
وتسمى بسورة القتال؛ لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، فلا حرمة لهم عن قتالهم، وأيضاً سميت بسورة القتال لما ذكر فيها من أحكام القتال، وكثرة فوائده.
وهي مدنية في قول ابن عباس ذكره النحاس، وقال الماوردي: مدنية في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة، فإنهما قالا: إنها مدنية إلا آيةً منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه، فنزل عليه قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
وقد غلط الثعلبي حيث قال: إنها -أي: السورة- مكية، فهذا قول غريب.
وروى ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت في المدينة سورة الذين كفروا، أي: سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهم في المغرب: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))).
وآيها ثمان وثلاثون آية، وقيل: تسع وثلاثون، ومثل هذا الاختلاف في عدد الآيات لا يعني اختلافاً في ألفاظ الآيات، فهي نفس الألفاظ، فبعض الآيات قد يرى بعض العلماء مثلاً أنها آية كاملة، والبعض يرى أنها جزء آية، وليس يمنع هذا الاختلاف في عدد ألفاظ السورة، وإنما في موضع الآية.(112/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)
فقوله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
قال ابن عباس ومجاهد: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، هم أهل مكة.
(كفروا) أي: بتوحيد الله، (وصدوا) أنفسهم والمؤمنين عن دين الله -وهو: الإسلام- بنهيهم عن الدخول فيه، فصدوا أنفسهم بعد الإيمان، وصدوا غيرهم بنهيهم عن الدخول في دين الإسلام.
فـ ((الَّذِينَ كَفَرُوا))، أي: جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره، ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أو صدوا غيرهم عن ذلك فهذا هو تفسير القاسمي لقوله تعالى: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)).
أي: أن الفعل (صدَّ) إما أنه فعل لازم، وإما أنه متعد، فإذا قلنا: إنه لازم، فمعنى (صدوا) أي: أعرضوا، وتقول مثلاً: فصد عني، أي: فأعرض عني، وإذا قلنا إنه متعد فالصد هنا بمعنى المنع، فالكافر يصد عن سبيل الله، أي: أنه يمنع الآخرين وينهاهم عن الدخول في دين الله عز وجل، وسيأتي تفصيل ذلك.
وقال الضحاك: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: عن بيت الله بمنع قاصديه.
وقيل: هم أهل الكتاب.
والاسم الموصول في قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا)) مبتدأ، والخبر قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
وقد حقق العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في تفصيل كثير جداً لا نحتاجه في القرآن الكريم؛ ولذلك نحن نقف معكم هذه الوقفة، يقول رحمه الله: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، قال بعضهم: هو من الصدود؛ لأن صد في الآية لازمة.
وقال بعضهم: ليس من الصدود، وإنما هو من الصد؛ لأن صد في الآية متعدية، وعليه فالمفعول محذوف، أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله، وهو الدخول في الإسلام.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا القول الأخير هو الصواب؛ لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكراراً، فصد يعني: أعرض هو عن الإسلام ولم يدخل فيه بنفسه، فيكون الفعل هنا صد من الصدود وهو الإعراض، فيكون تكراراً مع قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يعني: صد عن سبيل الله يكون توكيداً بكفروا، والتكرار عامة يكون للتوكيد؛ لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود أي: الإعراض عن سبيل الله.
أما على القول: بأن صد متعدية فلا تكرار؛ لأن المعنى: أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، فهذا مثل قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
فإذا حملنا الحياة الطيبة على أنها الآخرة، وقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} [النحل:97] في الآخرة فإنه يكون توكيداً، لكن ممكن أيضاً أن يكون المعنى: ((فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)) هذا في الدنيا، ((وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ)) في الآخرة، فيكون على هذه الحال تأسيساً، وهو الأولى، فاللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
فالأرجح في قوله هنا: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) -والله تعالى أعلم- أن (صد) متعدية، والمعنى: أنهم كفروا في أنفسهم، وكانوا نشطين في دعوة غيرهم للبقاء على هذا الكفر، ونهوا الناس عن الدخول في دين الله، فالراجح إذاً هو حملها على التأسيس لا التوكيد.
((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، للمفسرين أقوال في تفسير قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، قال القاسمي: أي: جعلها على غير هدى ورشاد.
وقال الضحاك: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل كيدهم ومكرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم.
وقيل: معنى ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل ما عملوه في حال كفرهم مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، فهم في حالة كفرهم كانوا يفعلون بعض الأعمال من مكارم الأخلاق، كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحسن الجوار، وغير ذلك، فهذه الأعمال باعتبار أنها غير مبنية على العقيدة الصحيحة فإنها تحبط، ولا تستعظم في الآخرة، ولم يجعل الله لها جزاءً ولا ثواباً، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فأعمالهم لا تنفعهم في الآخرة.
وقيل: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها، وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق.
يقول العلامة الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، أي: أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقرى الضيف، وبر الوالدين، وحمى الجار، وصلة الرحم، والتنفيس عن المكروب فإنه يبطل يوم القيامة ويضمحل، ولا يكون له أثر، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وهذا هو الصواب في معنى الآية.
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم جداً في القراءة، فنحن نقول: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل ثوابها في الآخرة، فالكافر إذا عمل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة فإنه يثاب عليها في الدنيا إذا شاء الله له ذلك، فالمجال الوحيد في أن يثاب على ما عمل هو: أن يثاب عليها في الدنيا فقط، وذلك بإيساع الرزق والصحة، وغير ذلك من الأمور في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يثاب الكافر على عمل عمله وقد قدم على الله كافراً به، فلابد من العقيدة الصحيحة، وأما في الدنيا فقد يثاب بإذن الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18].(112/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا عملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2].
فبعد أن ذكر الكافرين أتبعهم بذكر المؤمنين، قال: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، و (الذين) صيغة عموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها.
فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار، وقيل: في أناس من قريش، وقيل: في مؤمني أهل الكتاب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم.
قوله: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، وهذا من عطف الخاص على العام، فـ (آمنوا) في أول الآية عام، ثم ذكر الخاص بعد ذلك: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، صلى الله عليه وسلم، فهذا عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.
أي: (والذين آمنوا) إيماناً عاماً بكل ما ينبغي الإيمان به، لكن هناك إيمان خاص بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان بما نزّل على محمد، وهو شرط في صحة الإيمان، وإذا لم يأتوا بهذا الشرط حبط كل عملهم، فبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم غلقت جميع الأبواب المؤدية إلى الجنة، ولم يبق إلا باب وطريق واحد وهو اتباع ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن لم يؤمن بمحمد عليه السلام بعد بعثته كان من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)، وهذه إشارة إلى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.
قال الشوكاني رحمه الله: وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله، تنبيهاً على شرفه وعلو مكانته.
أي: مع أن الإيمان بمحمد داخل في قوله: (والذين آمنوا)، لكن خُصّ بالذكر لينبه على شرفه وعلو مكانته.
قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذه جملة معترضة بين المبتدأ وهو: ((والذين آمنوا)) وبين خبره وهو ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)).
قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))، قال الشوكاني: معنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله.
قوله: ((مِنْ رَبِّهِمْ))، في محل نصب على الحال.
قال القرطبي: يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم.
وقيل: إن القرآن هو الحق من ربهم، فقد نسخ به ما قبلهم.
قوله: ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: السيئات التي عملوها فيما مضى، فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح.
قوله: ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) قيل: شأنهم، أو أمورهم، أو حالهم، والمعاني الثلاثة متقاربة، وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بالإيمان.
وحكى النقاش: أن المعنى: ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح نياتهم، وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينه، يعني: بعض العلماء قالوا: إنها متأولة، أصلح بالهم أي: أصلح ما يتعلق بدنياهم، كذلك قلنا: بأنه الشأن أو الأمور أو الحال.
وقال الشوكاني: قيل: ومعنى ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: عصمهم من المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، وقد جاء في حديث تشميت العاطس: (يهديكم الله ويصلح بالكم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.
قوله: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) أي: بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خصه بالذكر مع دخوله فيما قبله تعظيماً لشأنه؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه في إفراده بالذكر، وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))؛ لتبين شرف وعظم مكانة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إليه: (وهو الحق) أي: الثابت بالواقع ونفس الأمر، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الفسق والمعاصي، فالتكفير هو التغطية، ومنه كفرت البذرة إذا غطيتها بالتراب، فالمقصود: أن الإيمان والعمل الصالح ستر وغطى على ما كان منه من الكفر والمعاصي؛ لنزوعهم عنها وتوبتهم، (وأصلح بالهم) أي: حالهم وشأنهم وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الشهاب: البال يكون معناه الحال والشأن، وقد يَخَصّ بالشأن العظيم، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (كل أمر ذي بال) (ذي بال) أي: ذي شأن عظيم.
ويتجوَّز به عن القلب.
أي: قد يستعمل استعمالاً مجازياً بمعنى القلب، ولو فسر البال هنا بالقلب لكان المعنى حسناً أيضاً، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح قلوبهم.
وقد فسره النسفي بالفكر؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره صلحت عقيدته وأعماله.
وقال ابن جرير (البال) كالمصدر مثل الشأن، لا يعرف منه جمع، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة الفعل، فإذا جمعوه قالوا: بالاً، بالاً.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (وأصلح بالهم) أي: أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه.
وما ذكره الله جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة من أنه يبطل أعمال الكافرين، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحاً في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]، تأملوا الظرف (فيها)، فالهاء تعود إلى الحياة الدنيا، أي: لا يجازَون إلا في الدنيا؛ ولذلك صح في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) فالدنيا هي المكان الوحيد الذي يثاب فيه على ما عمل من الأعمال الحسنة، فيوجد من التقاة من يعمل أعمالاً حسنة كبر الوالدين، وصدق الحديث، والوفاء بالوعد، والإحسان إلى الفقراء، فهذا قد يحصل من الكافر، فيثاب عليها في الدنيا فقط، بشرط أن يشاء الله ذلك.
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] أي: في الدنيا فقط.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} [هود:16] أي: في الآخرة، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:23 - 24].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وقال تعالى في سورة الأحقاف: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20].
قوله تعالى: ((وأضل أعمالهم)) أصله من الضلال، وهو بمعنى: الغيبة والاضمحلال، فالشيء إذا غاب فقد ضل، وليس مأخوذاً من الضالة، فهذا كقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24].
قوله تعالى: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، قال ابن كثير: هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17].
وقوله تعالى: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، فالله يشهد لنبيه بأنه على الحق: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:50 - 51]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس:108]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170].(112/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم)
قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3].
((ذلك)): إشارة إلى المذكور من فعله تعالى بالفريقين من مؤمنين وكفار، حيث أضل أعمال الكافرين، وكفر سيئات المؤمنين وأصلح بالهم.
قوله: ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) أي: يسبب لهم الأسباب، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً، قال الزمخشري: فإن قلت: أين ضرْب الأمثال؟ ف
الجواب
هو في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو أن المثل في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين.
فقوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)) أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) وهو التوحيد والإيمان، ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) أي: يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم.
فالإشارة في قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره أي: الأمر ذلك، وهذا هو ما يعتمد عليه بعض القراء في مثل هذا الموضع بأنه يجيز الوقف هنا، فلو وقفت هنا بعد كلمة (ذلك) يكون المعنى: الأمر ذلك، ويكون إعرابها: خبر لمبتدأ محذوف، فكأن المعنى قد تم؛ ولذلك جاز الوقوف، وإن وقف عند قوله (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا) أي: الأمر ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.
قوله: ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) الضمير في (أمثالهم) يرجع إلى كلا الفريقين: الذين كفروا، والذين آمنوا.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) أي: ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار، أي: إبطالها واضمحلالها، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين، وتكفير سيئاتهم، وإصلاح حالهم كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل، والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً، وضده الحق، وقد سبق هذا مراراً في أثناء تفسير القرآن الكريم الحق الثابت الدائم الباقي، فالباطل معناه: الزائل المضمحل، فقال الله عز وجل هنا: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)) أي: الزائل ومضمحل، ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ))، وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية وليست زائلة مضمحلة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن اختلاف الأعمال يستلزم اختلاف الثواب لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، أي: لا يتوهم استواء المؤمن مع الكافر أو استواء أعمال المؤمن مع أعمال الكافر إلا كافر جاهل، وينبغي أن يستنكر عليه تسويته بين المؤمنين والكافرين، وهذا ما وضحه قوله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فهذا معناه أنه يستوجب الإنكار عليهم؛ لأن هذا هو الذي فعله الله بهم، ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ)) الذين اتبعوا الحق من ربهم ((كَالْمُجْرِمِينَ)) الذين اتبعوا الباطل؟! لا يستويان، قال تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) سبق بيان معناه، وضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له.(112/5)
تفسير سورة محمد [4 - 6](113/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: قال تبارك وتعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
قوله تعالى: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ))، لما ميز الله سبحانه وتعالى بين الفريقين أمر المؤمنين بجهاد الكفار، (فإذا لقيتم) أيها المؤمنون! ((الذين كفروا فضرب الرقاب)).
قال ابن عباس في الذين كفروا هنا: هم الكفار المشركون عبدة الأوثان، ويقول: هم كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي، واختاره ابن العربي فقال: وهو الصحيح؛ لعموم الآية فيه، أي: أن الآية أتت بصيغة عموم ((الذين كفروا))، فتعم كل من كفر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً.
((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) ضرْب: مصدر، قال الزجاج في قوله: ((فضرب الرقاب)): أي: فاضربوا الرقاب ضرباً، وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطع الرقاب، وقيل: إنه لفظ دل على الإغراء، أي: فالزموا ضرب الرقاب.
قال أبو عبيدة: وهو كقولك: يا نفس! صبراً، إغراءً بالصبر، أي: يا نفس! اصبري صبراً.
وقيل: التقدير: فاقصدوا ضرب الرقاب.
وقال بعض العلماء: الحكمة من قوله تعالى: ((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) ولم يقل فاقتلوهم أن في التعبير بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل؛ لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجَه أعضائه.
قوله: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) أي: أثخنتم القتل، قال الشوكاني: حتى إذا بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل بهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب لا لبيان غاية الحق، وهو مأخوذ من الشيء الثخين أي: الغليظ، تقول: هذا قماش ثخين، أي: غليظ وسميك، فكذلك هنا: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) يعني: أكثرتم فيهم القتل.
قوله: ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)) قرأ الجمهور بفتح الواو من الوثاق، وقرأ السلمي بكسرها.
والوثاق: اسم للشيء الذي يوثق به كالرباط أو الحبل مثلاً، وقرأ الجمهور: وإنما أمر سبحانه بشد الوثائق لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق.
قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، أي: فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر مناً أو تفدون فداءً، والمن: هو الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يَفدي به الأسير نفسه حتى يتحرر من الأسر.
ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم، فالأمر هنا يكون تخييراً بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، واقتصر هنا في هذه الآية على التخيير بين المن والفداء ولم يذكر القتل؛ لأن القتل مذكور في أول الآية.
وقد قرأ الجمهور: ((فإما منا بعد وإما فداء)) بالمد، وقرأ ابن كثير: ((وإما فدىً)) بالقصر، وإنما قدم المنّ على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق، فلهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وكما يقول الشاعر الآخر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المغيض المحنق فمما كانت تفتخر به العرب: المنّ مع القدرة على الفدية، فيمنون بفكاك الأسرى بلا مقابل، كما قال شاعرهم في البيت السابق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وروي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفاً على رأس الحجاج حين أُتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة، فقتل منهم نحواً من ثلاثة آلاف، حتى قُدِّم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج! ما جازاك الله عن السنة والكرم خيراً، قال: ولم ذاك؟ قال: لأن الله تعالى قال: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) في حق الذين كفروا، فوالله! ما مننت ولا فديت، فقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم فقال الحجاج: أفٍ لهذه الجيف -يقصد بالجيف الثلاثة الآلاف الذين حصدهم عما قريب- أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟! خلوا سبيل من بقي، فخلّي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين؛ بقول ذلك الرجل.
((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) الوزر: هو الثقل، ومنه وزير الملك، فسمي وزيراً لأنه يتحمل عنه الأثقال والأعباء، قال مجاهد وابن جبير في قوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)): هو خروج عيسى عليه السلام.
وعن مجاهد أيضاً: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي.
فقال الكسائي: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) حتى ينتهي الجهاد.
ولا ينتهي الجهاد حين يسلم الخلق أجمعون.
وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر.
وقال الكلبي: حتى يظهر الإسلام على الدين كله.
وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله.
والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور وهي: القتل أو المن أو الفداء، إلى غاية وهي: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى تنتهي الحرب مع الكفار.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً، وَحكَماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها)، فإذا صح هذا الحديث فإنه يكون تفسيراً لقوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى يسلم الخلق أجمعون.
وعن سلمة بن نفيل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج) أخرجه ابن سعد، والإمام أحمد، والنسائي، والبغوي، والطبراني، وابن مردويه.
قال قتادة في قوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)): أي: حتى لا يبقى شرك.
وهذا كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: حتى لا يكون شرك، ويكون الدين لله.
وقال ابن كثير: وقوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم، وكأنه أخذه من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال) رواه أبو داود.
إذاً: فلعل هذا الحديث هو الذي استندوا إليه في هذا التفسير، ومعلوم أن الذي يقاتل الدجال هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون معه المسلمون، فيقاتلون الدجال وأتباعه من اليهود.
وروى أبو القاسم البغوي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح فقالوا: يا رسول الله! سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها؟ قالوا: لا قتال، قال: كذبوا! الآن جاء القتال، لا يزال الله يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعقر دار المسلمين بالشام) هكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي.
إذاً: فهذا يقوي القول بعدم نسخ الآية، وأن هذا التشريع مستمر إلى أن ينزل المسيح يقتل الدجال، فكأن هذا الحكم -وهو التخيير بين الثلاثة الأمور- شرع باقٍ مادامت هناك حرب، فإذا انتهت الحرب فحينئذ يرفع هذا الحكم، وهذا يقوي القول بعدم نسخ هذه الآية الكريمة.
وقيل: معنى (الأوزار): السلاح، فالمعنى: شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح، ويكون معنى الحرب هنا (حتى تضع الحرب أوزارها): الأعداء المحاربين، أي: حتى يضعوا سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، ويقال للكراع: أوزار.
قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا(113/2)
خلاف العلماء في تأويل قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
وقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية الكريمة: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)).
القول الأول: إن هذه الآية كانت في أهل الأوثان ثم نسخت، فلا يجوز أن يفادوا، ولا يمن عليهم، والناسخ لها عندهم قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))، وهذه آية السيف المعروفة في سورة براءة، قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، فقالوا: إن هذه الآية ناسخة للآية التي في سورة محمد، بمعنى: أن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا، ولا أن يمن عليهم، وإنما الواجب هو قتلهم.
ونسختها أيضاً آية: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]، وأيضاً قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة:36].
قاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من الكوفيين.
وقال عبد الكريم الجزري: (كُتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه؛ لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا).
قال الشوكاني: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن تؤخذ منهم الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
القول الثاني: إنها في الكفار جميعاً، وهي منسوخة أيضاً على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد قالوا: إذا أسر المشرك لم يجز أن يمنّ عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة؛ لأنها لا تقتل، والناسخ لها قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))؛ إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء، والصبيان، ومن يؤخذ منه الجزية، فهناك أدلة في النهي عن قتل النساء، والصبيان، ومن لا يؤخذ منهم الجزية كالرهبان المعتزلين في الصوامع وغير ذلك.
وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة؛ خيفة أن يعودوا حرباً على المسلمين، أي: إذا تُركوا.
وعن قتادة قال: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) قال: نسخها قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57].
وقال مجاهد: نسخها قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))، وهو قول الحكم.
إذاً: فالقولان يقولان: إنها منسوخة، لكن القول الأول يقول: إنها في أهل الأوثان، والقول الثاني: أنها في الكفار عامة، إلا ما استثني من النساء، والصبيان، ومن لا تؤخذ منه الجزية.
القول الثالث: إنها ناسخة، فعن الضحاك قال في قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) قال: نسخها قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)).
وعن عطاء في قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً))، قال: فلا يقتل المشرك، ولكن يمنّ عليه ويفادى كما قال الله عز وجل.
وقال أشعث كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)).
وعن الحسن قال: ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمنّ، أو يفادى، أو يسترقّ.
القول الرابع: إنه لا فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره، وهذا قول سعيد بن جبير.
القول الخامس: إن الآية محكمة لا نسخ فيها، والإمام مخير في كل حال.
رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من العلماء منهم: ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيره، واختاره القرطبي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا ذلك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، وفادى سائر أسارى بدر، ومنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناساً من المسلمين، وهبط عليه صلى الله عليه وسلم قوم من أهل مكة فأخذهم النبي عليه الصلاة والسلام ومنّ عليهم، وقد منّ على سبي هوازن، وهذا كله ثابت في الصحيح.
قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن؛ لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للنسخ، وذكْر المنّ والفداء لا ينافي جواز القتل، وإذا كان الأسر والاسترقاء والمفاداة والمنّ فيه مصلحة للمسلمين جاز.
وقد فصل القاسمي رحمه الله تعالى أيضاً في حكم هذه الآية بما مختصره: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، يعني: سبق في الآيات السابقة إشارة إلى ما اقتضى استحقاق المشركين للقتال والشدة والغلظة، وهو أنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأنهم اتبعوا الباطل، فهم يستحقون التشنيع المذكور في الآية الرابعة، فإذا لقيتم هؤلاء الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فأضل الله أعمالهم، والذين اتبعوا الباطل خلافاً للمؤمنين.
يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادين عن منهج الرشاد، وبعثاً على الصدق في قتالهم، وكسحاً لعقبة باطلهم، عملاً بما يوجبه الإيمان، ويقبضه الإيقان، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، فأعقب تلك الطليعة بهذه الجملة، أي: أعقب ذكر هذه الطليعة المقدمة في أوائل السورة بهذه الجملة: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)).
ولهذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: إن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام، وكأن المعنى: فإذا كان الأمر على ما ذكر من أن: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:1 - 2] إلى آخر الآية، فإذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحاربة فضرب الرقاب، وأصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وقدّم المصدر، فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وفيه اختصار وتأكيد بليغ، والتعبير به عن القتل تصوير للقتل بأشنع صوره، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، فإن أيسر وأسهل طريقة للقتل هي ضرب الرقاب.
قوله: ((حتى إذا أثخنتموهم)) أي: حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وقهرتم وغلبتم من تبقى منهم ممن لم تضرب رقبته في القتال فصاروا في أيديكم أسرى ((فشدوا الوثاق)) أي: أمسكوهم بهذا الوثاق؛ كي لا يقتلوكم فيهربوا منكم.
قوله: ((فإما مناً بعد وإما فداءً)) أي: فإما تمنّون بعد ذلك عليهم فتطلقونهم بغير عوض لزوال سبُعيتهم -أي: كأنهم كالوحوش الضارية-، وإما تفدونهم فداء، فتطلقونهم بعوض مال، أو مبادلة الأسرى كمسلم أسروه، فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم.
ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما مر من قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السَّبُعية، أي: من كان في عتاة الكفار وأقويائهم ممن لم يقهر، وبقي فيه الكبر والإصرار على النكاية بالمسلمين، فإن رأى الإمام أن مثل هؤلاء لو أطلقوا فإنهم يعودون بالضرر على المسلمين؛ لبقاء السبعية فيهم كاملة، والقدرة على الأذية والنكاية، فله أن يقتلهم؛ كي لا يعودوا إلى مقاتلة المسلمين.
ولم يذكر الاسترقاق أيضاً هنا؛ لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبُعية، ولا تزال كذلك حتى تضع الحرب أوزارها، أي: إلى انقضاء الحرب، والأوزار كالأحمال وزناً ومعنى، واستعير لأداة الحرب التي لا تقوم إلا بها، أي: أنه شبه آلات الحرب بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا يعني: آلات الحرب.
وقيل: (أوزارها) آثامها، أي: حتى يترك أهل الحرب -وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم، وذلك بأن يسلموا.
قال في الإكليل: في الآية بيان كيفية الجهاد.
يقول القاسمي: وهذا القول هو الذي أختاره؛ أن الآية محكمة، والإمام بالخيار بين واحد من هذه الثلاثة: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، فإذا دار الأمر في الآية بين الإحكام و(113/3)
تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)
قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5 - 6].
سبق أن تكلمنا في الحكمة من تشريع الجهاد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بعض أحكام الجهاد وشرحناها فيما مضى، ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل فيه كثير من المؤمنين قال الله سبحانه وتعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: لن يذهبها، بل يكثرها وينميها ويضعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، أي: منهم من يجري عليه ثواب عمله الصالح ما دام في البرزخ، ويستمر وكأنه لم يمت.
فلذلك قال تعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فجاء هذا الثواب العظيم للشهادة والقتل في سبيل الله في هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث؛ لأنه ربما يخشى الإنسان أن يقتل في سبيل الله فيلقى الله وعليه ذنوب وخطايا أو غير ذلك مما يخشى منه، فضمن الله لهم الثواب الجزيل كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى؛ ترغيباً لهم في التقدم نحو الجهاد في سبيل الله عز وجل.
يقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
قال بعض المفسرين: يريد قتلى أحد من المؤمنين، ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: لن يذهبها، بل سيكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفر عنه كل خطيئة) وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا) أي: يمحو ويكفر خطايا الإنسان، (ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان).
وروى الإمام أحمد أيضاً عن المقداد بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) (إلا الدين)؛ لأن هذا حق للآدميين، فلا بد أن يؤدى ويستوفى.
وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُشفَّع الشهيد في سبعين من أهل بيته)، رواه أبو داود.
((والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم))، وهذه قراءة العامة -أي: عامة القراء أو جمهورهم- وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ أبو عمرو وحفص ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير، أي: ((قتِّلوا) وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة: (والذين قَتَلوا في سبيل الله) أي: قتلوا المشركين.
وقد رجح بعض العلماء هذه القراءة ((والذين قتلوا في سبيل الله)) من حيث المعنى، وذلك أن السياق يناسبه أن يكون هذا في الدنيا؛ لأنهم قتلوا المشركين وبقوا في الدنيا يعملون، فهم لم يفارقوا الحياة الدنيا، ولذلك قال: ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
ثم قال: ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: فيما يستقدم مما تبقى من أعمارهم، إذا فهم لا زالوا في الدنيا؛ لأن الآخرة دار جزاء.
فهم ركزوا على كلمة: ((سَيَهْدِيهِمْ))، ففهموا من ذلك أنهم لابد أن يبقوا أحياء بعد قتلهم غيرهم، وأما لو كانوا قد قتلوا فهذا بعيد.
لكن هذا المذهب مرجوح وسنوضح إن شاء الله تعالى عما قريب سبب ذلك.
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة: (والذين قَتَلوُا) أي: قتلوا المشركين في سبيل الله، وقال قتادة: ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات -أي: جراحات القتل-، ولما وجد المشركون الجراحات كثيرة، وقد قتل عدد كبير من المسلمين اغتروا وتكبروا وأخذوا ينادون: اعل هبل اعل هبل، فينادون بالعلو الإلهي لهبل، وهو أحد أصنامهم، فرد عليهم المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا سواء لا سواء -أي: لا نستوي نحن وأنتم-؛ فقتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون فقال المشركون: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم).
قال القشيري: قراءة أبي عمرو (قُتِلُوا) بعيدة لقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}، والمقتول لا يوصف بأنه سوف يُهدى؛ لأنه قد فارق الحياة.
وقال غيره: يكون المعنى على قراءة: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) * {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}، إذا رجعنا إلى تذكر أنواع الهداية التي دائماً ما نتكلم عنها فأولها: الهداية العامة لجميع الخلق، وغير ذلك من أنواع الهداية التي تنتهي بالهداية في الدار الآخرة، وهي: هداية المؤمنين إلى الجنة وهداية الكفار إلى النار.
إذاً: لا استبعاد على الإطلاق في قراءة: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا))، وهي قراءة أبي عمرو وحفص؛ لأن هذا لا يتنافى مع قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}؛ لأن المعنى يكون: سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي: يحقق لهم الهداية.
وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر، ويثبتهم عند السؤال في القبر.
وقال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) * ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: إلى الطريق المؤدية إلى الجنة، وأما هداية الآخرة فكما في هداية الكفار إلى صراط الجحيم، قال تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] أي: فاسلكوا بهم إلى صراط الجحيم.
وقال ابن كثير: ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: إلى الجنة؛ لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9].
ويمكن أن نضيف إلى قول ابن كثير آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، وهذا كلام المؤمنين الذين يدخلون الجنة كما هو السياق في سورة الأعراف.(113/4)
تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)
قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] أي: أنهم إذا دخلوها فإنه يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم، قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً! أي: لا يسألون غيرهم أن يدلهم عليها، فإنك إذا ذهبت إلى مكان لا تعرفه فإنك تستدل وتسأل: أين المكان الفلاني؟ وأين الشارع الفلاني؟ وأما أهل الجنة فإنهم لا يحتاجوا على الإطلاق إلى تعريف، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تعريفهم بمنازلهم في الجنة.
وروي نحوه عن زيد بن أسلم فقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انطلقتم من الجمعة.
بل إن هدايتهم إلى منازلهم في الجنة عندما يدخلونها أكبر وأعظم من هدايتهم إلى بيوتهم التي في الدنيا إذا خرجوا منها ثم عادوا إليها، فقد روى البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده! إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله كان في الدنيا).
وقال الحسن: وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها.
وهذا قول آخر في تفسير قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي أنه: وصفها لهم وهم في الدنيا وصفاً مشوقاً لكل مؤمن أن يسعى لتحصيلها.
وقيل: فيه حذف، والتقدير: عرّف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف.
وقيل: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) بواسطة دليل يدلهم على المكان، وهذا الدليل هو الملك الموكل بعمل العبد، فإنه يمشي أمام الإنسان وهو يتبعه حتى يأتي العبد منزله، ويعرّفه الملك جميع ما جُعل له في الجنة، وحديث أبي سعيد السابق يرد هذا القول؛ لأن هذا القول يثبت الواسطة، وأما حديث أبي سعيد فلا يثبت الواسطة، بل إن الله هو الذي يعرفهم مكانهم في الجنة.
فالأقرب والصحيح أنه بغير واسطة، والله تعالى هو الذي يعرفهم ويهديهم إلى منازلهم في الجنة.
وقال ابن عباس: (((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) من العرف، أي: مأخوذة من العَرْف، وهو: الرائحة الطيبة.
قال ابن عباس: (أي: طيبها لهم بأنواع الملاذ)، ويقال: طعام معرف، أي: مطيب، تقول العرب: (عرفت القدر) إذا طيبتها بالملح والإبزار، وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، ويقال: حرير معرف، أي: بعضه فوق بعض، فهو من العرف المتتابع، كعرف الفرس.
وقيل: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) أي: وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة.
وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها.
وقيل: عرف المطيعين أنها لهم.
فهذه هي الأقوال في تفسيرها، وإذا صح عن النبي عليه السلام قول في تفسير آية ما وجب المصير إليه، فيجب تفسير الآية هنا بما فسرها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن معنى: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) أنه يهديهم إلى منازلهم في الجنة بمجرد دخولها، وبدون واسطة.(113/5)
تفسير سورة محمد [7 - 14](114/1)
تفسر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] قال قتادة في قوله تعالى: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)): لأنه حق على الله أن يعطي من سأله، وينصر من نصره.
وقوله: ((وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) قال ابن جرير: ويقوكم عليهم ويجرئكم حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم، وقل عددكم، وقال القرطبي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي: إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار، نظيره: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، وقال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد.
قوله: ((وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) أي: عند القتال، وقيل: يثبت أقدامكم على الإسلام، وقيل: على الصراط، وهذه كلها ليس بينها تعارض، فهي من اختلاف التنوع، وليست من اختلاف التضاد.
وقيل: المراد تثبيت القلوب للأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب، قال تعالى في الأنفال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، فأثبت في الأنفال واسطة أن التثبيت يكون عن طريق الملائكة: ((فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))، أما هنا في هذه الآية فلم يذكر هذه الواسطة، بل قال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ))، فنصر الله إما بإلقاء الأمنُ والسكينة في القلوب، وإما بالملائكة، وإما بغير ذلك من الأسباب.
وهذا يكون كقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، وهو القائل عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الروم:40]، فهو يميتكم بواسطة الملك، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2]، ومثل هذا كثير، فلا فاعل في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى وحده.
واستدل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة بالعبارة المشهورة: (الجزاء من جنس العمل) ولهذا قال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))، كما جاء في الحديث: (من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقد دلت كثير من الآيات القرآنية على نفس هذه المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة القتال، وذلك كقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
إذاً: فهنا ضمان بالنصر والتثبيت، وهذا الضمان مشروط بشروط وهي: أن ينصر العبد الله سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فمن أعزّ أمر الله أعزّه الله، ومن نصر دين الله نصره الله، كما في هذه الآية: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) وأما ما هو شائع على ألسنة كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم يبارزون الله سبحانه وتعالى بالمعاصي والمخالفات وأن الله سوف ينصرهم، فهؤلاء لا ينصرون؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)) وقال: ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ))، وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] أي: المتصفين بالإيمان، وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، إذاً: فالذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ليسوا داخلين في وعد الله بالنصر ألبتة، بل مثلهم كمثل الأجير الذي استأجره مستأجر، فلم يعمل لمستأجره شيئاً، ثم جاء بعد ذلك يطلب منه الأجرة وهو لم يعمل شيئاً، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فمن يتمادى في المعاصي والمخالفات ثم يقول: إن الله معنا، وإن الله سينصرنا، فهذا غرور منه، فهو ليس من حزب الله الموعودين بنصر الله عز وجل؛ لأنه لم ينصر الله، ولم ينصر دينه وكتابه، ولم يكن جهاده لإعلاء كلمته، وإقامة حدوده وفرائضه عز وجل.
وقد رأينا عواقب ذلك، فرأينا أصنافاً كثيرين مغترين في هذا الزمان، وما أكثر ما يستدلون بهذه الآية: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) رأيناهم في النكبة، وذلك حينما كان المذيع يقول: أم كلثوم معك في المعركة، وشادية معك في المعركة، وعبد الحليم حافظ معك في المعركة، فكيف يكون الله معنا وهؤلاء أيضاً معنا؟ وكيف نكون من حزب الله ونحن نطلب النصرة من هؤلاء الأقوام، ومن حزب الشيطان؟! وهذه الآية أيضاً مما يصدق أن يستدل بها في مواجهة كثير من الناس الذين يكثرون الشر، وحينما تدعوهم إلى بعض التكاليف الشرعية سواء كانت ظاهرة أو باطنة، وسواء كانت في الفرائض أو غيرها، كاللحية مثلاً، أو الكلام في أي قضية من القضايا التي لا تروق لبعض الناس، فإنهم يقولون لك: المسلمون يذبّحون وأنت في وادٍ آخر، والكنيسة الشرقية تتحد مع الغربية، واليهود يفعلون، والنصارى يفعلون، وأنت تقول للناس: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، وتتكلم في توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات!! ينبغي أن نشتغل بالأمور المهمة، فالمسلمون يذبحون ويضطهدون، فنقول: هم يتخيلون أن العلاقة بين هذا وذاك علاقة تضاد، وكأنه لا يستطيع المسلم أن يؤدي هذه الأمور كلها، سواء كانت فرعية أو أصلية، فالمسلم يستطيع أن يقوم بهذه الأمور التي ذكرنا، وفي نفس الوقت يكون مجاهداً في سبيل الله إذا أتيح له الجهاد.
وأما هؤلاء فيظنون أن العلاقة علاقة تضاد، وأن المسلم لا يستطيع أن يجاهد وهو عافٍ للحيته مثلاً!! فليس هناك علاقة تضاد، ويمكن للإنسان المسلم أن يعمل أكثر من عمل في وقت واحد، فأنا مثلاً الآن جالس، وفي نفس الوقت متكلم، وناظر، وسامع، فهذه كلها توفرت في شخص واحد، وفي وقت واحد، بخلاف الأمور المتضادة كاجتماع النقيضين، فإنهما لا يجتمعان في مكان واحد، وفي آنٍ واحد، كالعمى والبصر، فهذه علاقة تضاد، وكالأبوة والبنوة في شخص واحد من جهة واحدة، فهذا لا يكون أبداً، وأما الصفات غير المتضادة، والصفات المتباينة فيمكن أن تجتمع في وقت واحد، وفي مكان واحد، كالسواد والحلاوة، فإنهما يجتمعان في العسل والتمر مثلاً، أو البياض والبرودة، فيجتمعان في الثلج، فكذلك نفس الشيء هنا، الإنسان يستطيع أن يعفي لحيته مثلاً ويجاهد في سبيل الله، فليس بينهما تضاد بل العكس، فالعلاقة بينهما في الحقيقة بمقتضى هذه الآية تكون علاقة تلازم؛ لأن الله يقول: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ))، فنصرة الله تكون بإقامة شرعه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، وكثير من هؤلاء الناس لا يستعملون هذا النوع من الجدل إلا في مصادمة السنة، ومن يدعوهم إلى الالتزام بالسنة، في حين أنهم هم أنفسهم في حياتهم العادية يمارسون أشياء منكرة، فبعضهم مثلاً يلبس (الكرفتة) ويكوي ملابسه، ويشتري فواكه، ويعمل رحلات ترفيهية، ثم لا يقبل من أحد أن يقول له: المسلمون يذبحون وأنت تأكل الفاكهة! والمسلمون يضطهدون في أقصى الغرب وأنت تكوي ملابسك وتهتم بكذا وكذا! فهو لا يقبل ذلك ممن يعترض عليه، فأولى ثم أولى حينما نأمرهم بأمر الله، أو أمر رسول الله عليه السلام ألّا يحق لهم الاعتراض بقولهم: المسلمون يذبحون، وكما قال أحد إخواننا في اليمن رداً على هؤلاء القوم حينما اشتغلوا بهذا الفهم، فقال أحدهم: يا جماعة! أنتم غاضبون على الناس عندما تركوا الحجاب، وحلقوا اللحى، والمسلمون في أفغانستان يحاربون من قبل الشيوعيين! وأنتم لا تتكلمون إلا في هذا، فقال له أحد الإخوة من أهل اليمن: هب أننا حلقنا لحانا، وخلعت نساؤنا الحجاب، فماذا يفيد إخواننا الأفغان ذلك؟ وماذا تستفيدون من ذلك؟ فالشاهد: أنه ليس هناك علاقة تضادّ بين التمسك بكل أمور الدين -سواء فرعية أو أصلية- وبين جهاد الأعداء، بل هناك علاقة تلازم، وإثباتها من باب إثبات اللازم للملزوم، فإن نصر الله إنما يتنزل على من ينصر الله، قال تعالى: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))، ثم ليس هناك قاعدة تضبط مثل هذا التفكير، فما يعظمه بعضهم قد يحتقره الآخر، وما يحتقره بعضهم قد يعظمه الآخر، وبالتالي تصبح الشريعة ألعوبة في أيدي الناس، فهذا يحذف منها ما شاء بدعوى عدم التمسك بهذه القشور وهذه المظاهر إلى آخره، وفي ترك ذلك تضييع لكثير من شعب الدين والإيمان.(114/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم)
قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8]، قوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا)) يجوز أن يرفع على الابتداء، ((وَالَّذِينَ)) اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ، ويجوز فيه النصب، ويفسره قوله: ((فَتَعْسًا لَهُمْ)) أي: وكأنه قال: أتعس الله الذين كفروا فتسعاً لهم، وأما قوله: ((فَتَعْسًا لَهُمْ)) فإنه منصوب على المصدر على سبيل الدعاء عليهم، وهو مثل قولك: سقياً لك ورعياً، وهناك عبارة في العربية وهي: (لعاً له) أو (لعاً لك)، وهي كلمة تقال لشخص وقع في حفرة مثلاً وهو آتٍ في الطريق، فأنت تقول له: (لعاً لك) يعني: نجاك الله من هذه الحفرة ورفعك منها، فإذاً (لعاً له) كلمة يدعى بها للعاثر، ومعنى: (لعاً له) ارتفاع له، أي: أن يرتفع من هذه العثرة، قال الأعشى: بذات لوث عصرنا إذ عثرت فالتعس أولى لها من أن أقول لعا وفي قوله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ)) عشرة أقوال: بعداً لهم، حزناً لهم، شقاءً لهم، شتماً لهم من الله، هلاكاً لهم، خيبةً لهم، قبحاً لهم، رغماً لهم، شراً لهم، شقوة لهم، وقيل: إن التعس: الانحطاط والعسار، وقال ابن السكيت: التعس: أن يخر على وجهه، والنكس: أن يخر على رأسه، قال الجوهري: وأصله الكبت، وهو ضد االانتعاش، ويقال: تعس يتعس تعساً.
قال مجمع بن هلال: تقول وقد أفردتها من خليلها تعستَ كما أتعستني يا مجمع فيبدو أنه قتل زوجها أو خليلها، فهي تدعو عليه وتقول: تقول وقد أفردتها من خليلها تعست كما أتعستني يا مجمع وجوز قوم تعِس بكسر العين، ومنه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط)، رواه البخاري.
وفي بعض طرق هذا الحديث: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) رواه ابن ماجة.
وخبر الموصول محذوف في قوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ))، فإذا قلنا: إن الموصول (الذين) مبتدأ فالخبر في هذه الحالة محذوف وتقديره: والذين كفروا فتعسوا تعساً لهم، ودخلت الفاء في قوله: ((فَتَعْسًا لَهُمْ)) تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، واللام في ((لَهُمْ)) للبيان، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ((وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
قوله: معطوف على ما قبله، وداخل معه في خبرية الموصول.(114/3)
تفسر قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)
ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى سبب إتعاسهم وإذلالهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] أي: ذلك الإضلال والإتعاس لأنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأحبط أعمالهم، أي: الأعمال التي عملوها في الدنيا من صور الخيرات التي تدخل تحت العمل الحسن، كعمارة المسجد، وقرى الضيف، وأصناف القرب الأخرى، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن، وذلك بشرطين: الأول: الإخلاص، وذلك أن يراد بالعمل وجه الله، (إنما الأعمال بالنيات).
الثاني: الاقتداء، متابعة النبي عليه السلام، بدليل قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فالإخلاص والاتباع شرطان في العمل الصالح إذا صدر من المؤمن، وإذا صدر من غير المؤمن فلابد من شرط آخر مهم جداً وهو: الإيمان بالله تعالى ودينه، ثم بعد ذلك يكون الاتّباع والإخلاص لله عز وجل.
وقيل: ((أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) أي: عبادة الصنم.(114/4)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10].
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: عاقبة من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلها، الرادة لنصائحهم ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: ما اختصوا به وكان لهم.
يقال: دمره، بمعنى: أهلكه، ودمر عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس، والثاني أبلغ، أي: أن قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أبلغ من عبارة: دمرهم؛ لأن قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) تعم في هذه الحالة إهلاك أنفسهم، وإهلاك ما يختص بهم كالأموال وغيره، فإذا قلت: دمرهم الله، ففيه ذكر المفعول به وهو الضمير: (هم)، من دمرهم الله، وأما قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) فإنه لم يصرح بالمفعول؛ لأن الله دمرهم ودمر كل ما يختص بهم، فكأنهم قد صاروا نفياً منفياً عدماً، ولذلك لم يذكر المفعول إيماءً إلى أن التدمير يعمهم ويعم ما يختص به.
وأتى بكلمة بعلى في قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) لأن كلمة ((دَمَّرَ)) ضُمِّنت معنى: أطبق عليهم، وكلمة ((أطبق)) تتعدى بعلى، فمعنى: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: أطبق عليهم، ومعنى ذلك: أنه أوقعه عليهم محيطاً بهم من كل الجهات، أو ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: هجم الهلاك عليهم، وأتاهم بغتة.
قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)): المقصود بالكافرين هنا: المكذبين للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) أي: أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، فهذه الآية مما يستدل به على حجية دليل من الأدلة الشرعية وهو القياس، فالله سبحانه وتعالى هنا رغبهم إلى أن يقيسوا أحوالهم على أحوال الأمم المكذبة، فإذا كان حالهم كحالهم في تكذيب الرسل فليقيسوا عاقبتهم على عاقبة الأمم السالفة.
وهذه الآية الكريمة إنما ذكرها الله سبحانه وتعالى بعدما بيّن أحوال المؤمن والكافر تنبيهاً على وجوب الإيمان في الآيات السابقة، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فهذا حال المؤمنين، ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ثم وصل هذا بالأمر بالتفكر والاعتبار والتدبر والسياحة في الأرض؛ ليروا آثار القوم المهلَكين، فقال: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم، ((فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: فينظروا بقلوبهم، ((كَيْفَ كَانَ)) آخر أمر الكافرين قبلهم، ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: أهلكهم واستأصلهم، ثم توعد المشركين، فقال: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) أي: أمثال هذه الفعلة، يعني: التدمير.
وقال الزجاج والطبري: أن الهاء في قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) تعود إلى العاقبة في قوله: ((كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ))، أي: وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا.(114/5)
تفسير قوله: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] وفي حرف ابن مسعود: (ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا).
قوله: ((ذَلِكَ)) أي: ما مضى مما فعله الله عز وجل بفريق المؤمنين، وما فعله بفريق الكافرين، أو ((ذلك)) إشارة إلى ما ذكره من أن للكافرين أمثالها.
قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ)) فالباء هنا سببيه، ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: وليهم وناصرهم، قاله ابن عباس وغيره.
قوله: ((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)) مثل قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، ولذلك نادى أبو سفيان صخر بن حرب حين كان رئيس المشركين يوم أحد -قبل أن يسلم في فتح مكة- بعدما لاحت لهم بشائر الغلبة على المسلمين نادى فقال سائلاً: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ فلم يجب، فقال: أما هؤلاء فقد هلكوا؛ فظن أنه لم يوجد أحد منهم لأنهم ماتوا، فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله! بل أبقى الله لك ما يسوءك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سِجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم ذهب يرتجز فيقول: اعل هبل، اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: (ألا تجيبوه! قالوا: وما نقول يا رسول الله؟!)، وتأملوا أن الرسول لما كان أبو سفيان يقول: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ لم يجبه، ولما أراد أن يخدش عقيدة المسلمين واستعصامهم بربهم أمرهم بالإجابة، فعندما قال: (اعل هبل) وهذا اعتداء على مقام الألوهية، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا تجيبوه! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).(114/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
ثم ساق الله سبحانه وتعالى الآية الثانية لبيان ولاية الله للمؤمنين، فإن الآية السابقة كالعنوان وهي قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا))، ثم بين في هذه الآية مظاهر ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12].
وفي قوله تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) رد على من يقول: إن الإيمان من الرجل يقتضي الطاعة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح، وقيل: إن الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تُستحق بالأعمال الصالحة، والله تعالى أعلم.
قوله: ((جَنَّاتٍ)) وهي البساتين, وإنما سميت جنات لأنها تُجِنّ من فيها، أي: تستره بشجرها، ومنه المجن، وهو الترس؛ لأن صاحبه يستتر به أثناء القتال، فإذا جاءت الطعنة فإنها تصيب الترس ولا تصيب صاحبه، فهذا هو المجن، ومنه سمي الجنين؛ لأنه مستور في بطن أمه ولا يُرى ومنه الجن، لأنهم لا يُرون.
قوله: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) إعراب ((تَجْرِي)) فعل مضارع مرفوع؛ لأنه يسبقه ناصب ولا جازم، وحذف الضم من الياء لثقلها، فأصلها (تجريُ)، لكن الياء مع الضمة ثقيلتان، فحذفت الضمة من الياء، فنقرأها: ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ))، عند الأعراب مرفوع بالضمة المقدرة على الياء.
وقوله: ((مِنْ تَحْتِهَا)) أي: من تحت أشجارها، فما من جنة ولا بستان إلا وفيه أشجار، فلفظ الجنات دالٌ على الأشجار، فمعنى ((من تحتها)) أي: من تحت أشجارها.
وقوله: ((الأَنْهَارُ)) أصل النهر: هو الأخدود، فإذا حفر في الأرض وصار فيها هذا الفراغ الذي يجري فيه الماء، فهذا الأخدود هو النهر، والمقصود هنا في هذه الآية هو الماء الذي يجري في هذا الأخدود، فنسب الجري إلى الأنهار توسعاً، وإنما الذي يجري هو الماء وحده، فحذف اختصاراً، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، والمقصود: واسأل أهل القرية.
وقال الشاعر: نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كُلَيب المجلسُ يعني: أهل المجلس فحذف (أهل)، والنهر مأخوذ من أنهرتُ أي: وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم يصف طعنة طَعن بها عدواً له، فيقول: ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها فقوله: (ملكت بها كفي) أي: سددت وقويت بها كفي، (فأنهرت فتقها) أي: أنه طعن هذا الرجل طعنة واسعة بحيث لو أن شخصاً وقف خلفه يرى من خلاله فيرى ما وراء المطعون.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه)، يعني: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر، وجمع النهر: نُهُر وأنهار، ونهر أي: كثير الماء، وروي أن أنهار الجنان لا تجري في أخاديد، وإنما تجري على سطح الجنة منضبطة بقدرة الله حيث شاء أهلها، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ))، وهذا هو كل غايتهم وقصارها، أي: أن ينالوا المتع الحسية في الدنيا كأنهم أنعام، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فالذين كفروا يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، فهم ساهون عما في غدهم، فهل الأنعام تخطط للمستقبل، أو تفكر في المحيط؟ لا، فهي تتمادى في الشهوات، وهي لا تعلم أنها كلما استمرت في ذلك عُجِّل في ذبحها، لأن الناس يستحسنون عاقبة الذبح حينما يأكلون هذا اللحم السمين، فكذلك الذين كفروا غافلون عما ينتظرهم في العاقبة، وقيل: إن المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، ((وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)) أي: مقاماً ومنزلاً.
وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق حديث الشيخين المتفق عليه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو قال: كان أبو نهيك رجلاً أكولاً، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فقال: فأنا أؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أطبق العلماء على تأويل هذا الحديث، فالمشرحون إذا فتحوا بطن الكافر فإنهم لا يجدون أمعاءه سبعة أضعاف أمعاء المؤمن لذلك فأطبق العلماء على تأويل الحديث؛ لقرينة وهي قول أبي نهيك: فأنا أؤمن بالله ورسوله، يعني: لست كافراً.
فاختُلف في معنى هذا الحديث، فقيل: ليس المراد ظاهره، وإنما هو مثَل ضُرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله مادياً يأكل في مِعيٍّ واحد، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها، يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبَّر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر.
وقيل: المعنى: أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود، نقله ابن التين.
وقيل المراد: حضّ المؤمن على قلة الأكل، إذا علم أن كثرة الأكل صفة للكافر فإن نفسه تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ))، وهذا مشاهد في أغلب الكفار وبالذات في الأمريكان كما رأيت، فهم شديدو الشره في الطعام بحيث أنك إذا رأيت الطعام الموضوع على المائدة تعجب كيف سيأكله رجل واحد مع أنه يصلح لعشرة أفراد، وإذا بهذا الكافر يلتهمه التهاماً، فهم يأكلون كميات ضحمة من الأكل! وقد لا يظهر ذلك عليهم؛ لأنهم يمارسون الرياضات، فهم شديدو الشره للطعام بطريقة عجيبة! فكأن الحديث يذكر أن كثرة الأكل والشره في الطعام صفة من صفات الكافر، فالمؤمن دائماً حريص على ألا يتشبه بالكافر، وينفر من صفات الكافر المختصة به، فهذا هو المقصود من الحديث: أن ينفَّر المؤمن الأكول من التشبه بالكافر، وقد تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله عليه السلام: (كف عنا جشاءك؛ فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة)، كما يقول الشاعر: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقد وصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: رأيت قوماً ليس لهم فضل على أنعامهم، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!.
فالأنعام معروفة بكثرة الطعام، والشره في تحصيل الشهوات، فهم كالأنعام، وليس لهم فضل على أنعامهم بعقل ولا حكمة، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، أي: أن كل همهم ما يأكلونه ويلبسونه من المتاع والملاذ، قوله: (وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك)، يعني: من المسلمين، (ويشتهون كشهوتهم)، فالمؤمن لا ينخرط في تحصيل متاع الدنيا كالكافر؛ لأن الكافر سبب فعله هذا جهله بالله، وجهله بأحوال يوم القيامة وغير ذلك من الأضرار والأخطار، فإذا بدر منه ذلك فهذا لا يؤاخذ، وأما المؤمن الذي يعرف ما لا يعرفه هؤلاء من عاقبة الانخراط في الشهوات فلا ينبغي له فعل ذلك؛ فلذلك قال هنا: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ)).
وهناك قول آخر في تأويل الحديث السابق، وهو: أنه يحمل على ظاهره، فليس فيه تأويل، واختلف الذين قالوا: إنه باق على ظاهره في معناه على أقوال: أحدها: أنه ورد في شخص بعينه، فـ (ال) في كلمة (الكافر) تكون للعهد، أي: في شخص معين فلا تعمم، وجزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن، وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله.
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيرا ً فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
ودُفع هذا القول بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم، فقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة عن واسع بن محمد عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه، فأدخلت رجلاً يأكل معه، فأكل كثيراً، فقال: يا نافع! لا تُدخل هذا عليّ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فهذا يدل على أن ابن عمر راوي الحديث الأول يرى عموم هذا الحديث الذي رواه عن النبي عليه السلام، فهو لم يقصره على شخص بعينه، فقد عممه على هذا الرجل الذي أُتي به ليأكل معه.
وتعقِّب هذا القول أيضاً بأنه غير متفق مع تعدد الاستدلال بالحديث مع فرضية تعدد الواقعة، أي: أن القول بأنه ورد في شخص بعينه، وأن اللام عهدية هذا مدفوع بوقوع تعدد الا(114/7)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك)
قال الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
قوله: (وكَأَيِّنْ) بمعنى: كم، قال الخليل وسيبويه: أصلها -أي: كلمة (كَأَيِّنْ) - أي، فدخلت عليها كاف التشبيه، فصارت كأين، وهي بدون التنوين في الأول، يعني: أن (أي) همزة وياء مشددة، أضف عليها كاف التشبيه فصارت (كأي)، فلزمتها كاف التشبيه فصار في الكلام بمعنى: كم، وجعل التنوين في المصحف نوناً فصارت (كَأَيِّنْ)؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها بتغير معناها، ثم كثر استعمالها عند العرب وتصرفت الكلمة فحصل فيها أربع لغات: وكائن، وكئن، وكأين، وكأي وكأيئن أربع لغات، وكلها بمعنى: كم، كما قال الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا وكئن: كاف همزة على نبرة ثم نون، ولفظ: (كأين) كهذا الذي في سورة القتال، ومنه قول الشاعر: كأين أبدنا من عدو بعزنا وكائن أجرنا من ضعيف وخائف وتقول: كأين رجلاً لقيته، بنصب ما بعد (كأين) على التمييز، وتقول أيضاً: كأين من رجل لقيته، وإدخال (من) بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود، يعني: أن تقول: وكأين من رجل لقيت، أفضل وأبلغ من أن تقول: وكأين رجلاً لقيته، كما تقول أيضاً: بكأين تبيع هذا الثوب، أي: بكم تبيعه؟ فقوله تعالى هنا: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) أي: وكم من أهل قرية وهي مكة، ((هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) أي: أخرجك أهلها، فهو على حذف المضاف.
قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حذيفة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أُراه قال: التفت إلى مكة فقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك)، فأعدى الأعداء من أعتدى على الله في حرمه، أو قتل غير قاتل، أو قتل بلحون الجاهلية، واللحون: هي الأحقاد والعداوات، وهي جمع لحن، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}.
قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، يعني: هذا هو السر في تأنيث كلمة ((أخرجتك))؛ فقال أولاً: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) وهذا مؤنث، ((هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ))، ثم قال بعد ذلك: ((أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ))، ولم يقل أهلكتها فلا ناصر لها، ففهم أن المقصود من القرية أهل القرية، لكنه في الجزء الأول راعى اللفظ، وفي الجزء الثاني راعى المعنى، فقوله: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) راعى فيه لفظ ((قرية))، وأما في قوله: ((أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) نظر فيه إلى المعنى.
قال جل ثناؤه: (أَخْرَجَتْكَ) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، ثم قال: (أَهْلَكْنَاهُمْ)؛ لأن المعنى في قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) ما وصفتَ من أنه أريد به أهل القرية فأخرج الخبر مرة عن اللفظ ومرة عن المعنى.
قوله: ((فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) تهديد شديد، ووعيد لأهل مكة في تكذبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببه، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟! فإنه رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن هذه الأمة لم يهلكها الله سبحانه وتعالى إهلاكاً عاماً، فهذه من خصائص أمة محمد عليه الصلاة السلام أنه لا يأتي عذاب يستأصلها جميعها.
وكذلك بين الله سبحانه وتعالى أن هناك أمانين في عهد النبي عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فقد كانوا يستعجلون نزول العذاب، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فالله أرحم بهم من أنفسهم فلولا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن انظر إلى الجهل والعتو! فإنهم قالوا: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى قائلاً: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، إكراماً لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما دام في وسط هؤلاء المشركين، فوجوده أمان من نزول العذاب، فبركة وجود النبي عليه السلام تعم حتى هؤلاء الكفار؛ لأن وجوده معهم وبينهم يمنع نزول العذاب عليهم فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] أي: وما كان الله ليعذبهم وفي وسطهم مؤمنون يستغفرون الله عز وجل.
إذاً: فهناك مانع يمنع وقوع العذاب على كثير من المشركين ولا أقول كل المشركين؛ لأن منهم من وقع عليه العذاب كـ أبي جهل، وغيره من أعداء الله، وخاصة من قُتلوا في بدر، وقد رفعت العقوبة في الدنيا عن كثير منهم بسبب وجود الرسول نبي الرحمة عليه الصلاة السلام، وليس معنى هذا أنه إن خفف عنهم في الدنيا أو لم يوقع بهم العذاب في الدنيا فإن العذاب سيخفف عليهم في الآخرة، كلا، فإنه سوف يضاعف لهم العذاب في الآخرة، قال تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20].(114/8)
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله)
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14].
قوله: ((أَفَمَنْ كَانَ)) الهمزة فيه للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، و (من) مبتدأ، والخبر ((كمن زين له))، وأفرد هنا باعتبار لفظ (من)، وجمع في قوله: ((وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)) باعتبار معناه.
ثم قال: ((وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، فجمع باعتبار معنى (من)؛ لأن (من) هنا تفيد العموم.
قال القرطبي: الأَلِف أَلِفُ تقرير، ومعنى: ((عَلَى بَيِّنَة)) أي: على ثبات ويقين قاله ابن عباس.
وقال أبو العالية: إن المقصود به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ))، وقوله: ((عَلَى بَيِّنَةٍ)) المقصود بالبينة الوحي، ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)) أي: عبادة الأصنام، وهو أبو جهل والكفار.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) أي: على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، وبما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة، هل هذا كمن: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)) أي: ليس هذا كهذا، وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19]، وكقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].(114/9)
لا ينسب الشر إلى الله تعالى
نختم الكلام ببحث يتعلق بقوله عز وجل: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ))، فنحن نحتاج إلى بعض هذه المسائل المهمة أن تكرر بين وقت وآخر، فإن في التكرار تثبيتاً للمعلومات، وتنبيهاً للغافلين، وهذا البحث هو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، فقوله تبارك وتعالى هنا: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)) هذا التزيين: هو من جهة الله خلقاً وكوناً وخبراً، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحبه ويرضاه، ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة، ويجوز أن يكون من الكافرين؛ حيث يزين بعضهم لبعض الكفر.
وقال الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من شر الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فـ (ما) هنا: موصولة، أي: من شر الذي، ولا يجوز غير ذلك، والشر هنا مسند إلى المخلوق المفعول، أي: من شر ما خلقه الله، أو من شرِّ كل ما خلقه الله، أو من شر كل ذي شر خلقه الله.
فالشر هنا مسنود إلى المخلوق وليس إلى خلق الرب تبارك وتعالى الذي هو فعله وتكوينه، فالشر يكون من حيث إضافته إلى المخلوق، وأما من حيث الفعل والتكوين بصفته فعل من أفعال الله، فليس فيه شر بوجه ما، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى، كما أنه لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق، والجلال التام، ولا عيب ولا نقص فيها بوجه ما.
وكذلك أفعاله سبحانه وتعالى كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه وتعالى لاشتق له منه اسم والعياذ بالله، فلم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم تعالى الله وتقدس عن ذلك! فالله سبحانه وتعالى لا ينسب إلى ذاته أو أفعاله أو صفاته أي شر على الإطلاق، فهو يتنزه ويتعالى عن الشر.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما هو شر بالنسبة إليهم هم، فالشر وقع في تعلق هذه الأفعال بهم وقيامها به، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة أي: المخلوقات المنفصلة، ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال: أحدهما: أن ما كان متضمناً للشر فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً، ولا يكون وصفاً لله، ولا فعلاً من أفعاله.
والأمر الثاني: أن كونه شراً هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تقلقه بفعل الرب وتكوينه، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقاً وتكويناً ومشيئة؛ لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر الله بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد.
وفاعل الشر إنما يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فالله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، فلأنه غني وحميد لا يفعل الشر، ولا ينسب الشر إليه، فالشخص الذي يفعل الشر كالسرقة مثلاً فإنما يفعل ذلك لأنه متحاج إلى المال، ولأنه فقير، والشخص الشرير الذي يحب أذية الناس، إنما يفعل ذلك لأنه مذموم لا يستحق أن يحمد، ولله المثل الأعلى، وأما الله سبحانه وتعالى فهو غني حميد، غني عن خلقه، ومتصف بالحمد، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً، وإن كان هو الخالق للخير والشر، ونوضح ذلك بالمثال التالي، وهو: أن السارق إذا قطعت يده فذلك شر بالنسبة إليه، والشريعة حكمت بقطع يد السارق، فقطع هذه اليد بالنسبة إلى السارق هو شر، لكن ذلك خير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً، لما في ذلك من الإحسان إلى الناس عموماً، وهي خير بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الذي أمر وحكم بقطع يد السارق؛ لأنه بذلك يحسن إلى عبيده بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم، المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به، ومشكور عليه، ويستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، ورجم من يصول عليهم في أعراضهم، فإن كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم، فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟! فالله سبحانه وتعالى لا يضع رحمته ورضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] * {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] فهذا تعجب منهم، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تليق بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون له في كل ما يريد، فيحبون ما يبغضه ويدعون إليه، ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فإذا عرفنا هذا عرفنا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك) أي: أن الشر لا ينسب إلى الله: لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فإن كل أفعاله من حيث كونها صادرة عنه عدل وحكمة ورحمة، فمن هنا لا يصح قول من قال في تأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك) قال: معناه والشر لا يتقرب به إليك، أو: والشر لا يصعد إليك، صحيح أنهم يريدون أن ينزهوا الله عن أن يصعد إليه الشر أو أن يتقرب إليه بالشر، لكنه قول لا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقول المعصوم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن تنزيه الله في ذاته تبارك وتعالى عن أن ينسب إليه الشر بوجه من الوجوه، لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، أي: لا ينسب الشر إلى الله أبداً، فينزه الله سبحانه وتعالى عن الشر في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أنه داخل في مخلوقاته، فالشر يضاف إلى المخلوقات كما في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2].
فمن حيث هو فعل الله هو خير، وهناك كثير من الحكم يمكن أن نتدبرها أو نفصلها في موضع آخر.(114/10)
طرق القرآن الكريم في نسبة الشر
أيضاً ممن ينبغي أن نلتفت إليه مراعاة لهذا الأمر وهو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فليس في فعل الله شر، ولا في ذاته، ولا في صفاته مطلقاً.
فنسبة الفعل إلى الله خير محض، ولا يمكن أن يكون فيه شر، وأما من حيث إضافته إلى المخلوق فقد يكون شراً بالنسبة إليه، كقطع يد السارق، لذلك نجد أن هذه القاعدة كشفت لنا كثيراً من المعاني في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم له أسلوب خاص في إضافة الشر، فإما أن يضاف الشر إلى سببه ومن قام به، وإما أن يضاف مع حذف فاعله.
فمثال إضافة الشر إلى سببه ومن قام به قوله تبارك وتعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فتجد أن الظلم نسب إلى الكافر نفسه، فإنه ظلم نفسه، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6]، فلفظة (فاسقين) صيغة فاعل، فهم الذين يفعلون الفسق، كذلك قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء:160] إلى آخره، فهنا أضاف الشر إلى اليهود، فنسب الشر إلى فاعله من المخلوقين، وكقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام:146] فأضيف الشر إلى الكافرين، وكقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] فأضاف الظلم إلى هؤلاء القوم.
الطريقة الثانية: أن يضاف الشر مع حذف الفاعل، أي: أن ترد الصيغة وليس فيها الفاعل، كقوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، فنسب الخير إلى الله تعالى؛ لأنه خير محض، فقالوا: ((أم أراد بهم ربهم رشداً))، وأما في الشر فبنوه للمجهول، وحذفوا فاعله فقالوا: ((وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض))؛ لأن الله لا يريد الشر ولا ينسب إليه، وإن كان قد خلقه كوناً وقدراً لحكمة بالغة ليس فيها شر، فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد، ونظيره في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم} [الفاتحة:7] فخاطبوا الله سبحانه وتعالى بسبق النعمة؛ لأنها خير محض، {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، المغضوب اسم مشتق من غضب عليهم، فهو اسم مفعول مشتق من صيغة الفعل المبني للمجهول، وليس من صيغة الفاعل، أي: غضب الله عليه، فلذلك فقالوا: ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين))، فنُسب الضلال إليهم، وهذا من النوع الأول، أي: أن الشر ينسب إلى فاعله المرتبط به، وحُذف الفاعل في قوله: ((غير المغضوب عليهم))، واستعملوا صيغة المبني للمجهول أو المشتق منه وهو اسم المفعول، فذكرت النعمة مضافة إلى الله: ((صراط الذين أنعمت))، وذُكر الغضب مع حذف فاعله، كقول الخضر في السفينة لما صنع فيها العيب: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب الشر إلى نفسه مع أنه كان بأمر الله، وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] فلما كان خيراً محضاً نسبه إلى الله تعالى.
ومثله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} [الحجرات:7]، فأضافه إلى الله؛ لأنه خير، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7]؛ لأنه خير محض، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فنسب هذا الأمر المحبوب إليه، لكن في حب الشهوات قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14]، فحذف الفاعل منه ولم يصرح به.
وقال تعالى هنا في هذه الآية: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، ومثله قول الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي} [الشعراء:78]، فنسب الفعل إلى الله سبحانه وتعالى، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78 - 80]، وهنا حذف الفاعل؛ لأن المرض شر، فنسبه إلى نفسه، فما أعرفه بربه! {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 - 82]، فنسب الخطيئة إلى نفسه؛ لأن هذا شر، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة، ومثله قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121]، وهذه الصيغة غالباً ما تكون في سياق المدح، فالله سبحانه وتعالى هو الذي آتاهم الكتاب، فقوله: ((الذين آتيناهم الكتاب)) غالباً ما تكون في سياق مدح مؤمني أهل الكتاب.
وغالباً ما تستعمل صيغة: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101] في الذم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14] فالسر في هاتين الصيغتين أنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعاً في سياق المدح، وحيث حذفه واقعاً في سياق الذم، وذلك من أسرار القرآن، فمثلاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] يعني: أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فنسب الإيراث إلى اسم الاستفهام المتعدي؛ لأنه أسلوب مدح، وقال في أهل الكتاب: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]، فالذي يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كله خير ومصلحة وعدل، والشر ليس إليه، فالحمد لله أولاً وآخراً.(114/11)
تفسير سورة محمد [15 - 21](115/1)
تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)
قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15].
لما قال الله سبحانه وتعالى فيما تقدم: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [محمد:12] وصف هنا تلك الجنات المعدة للمتقين.
وقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) فـ (مثل) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: ((كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا)) بتقدير حرف إنكار ومضاف، والمعنى: أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد؟! فالهمز للاستفهام الإنكاري، فيقدر في الأولى حرف الإنكار، وفي الثانية في قوله: (كمن هو خالد) عبارة: كمثل من هو خالد، ويمكن أن يكون المعنى: أمثَل الجنة كمثل جزاء من هو خالد، فلفظ الآية وإن كان بصيغة الإثبات إلا أنه في معنى الإنكار والنفي: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها) ثم قال تعالى: (كمن هو خالد في النار)، فصورتها ولفظها الإثبات، لكنها في الحقيقة يراد بها الإنكار والنفي، أي: ليس هذا كذلك؛ لانطوائه تحت كلام مقدر بحرف الإنكار، وانسحاب حكمه عليه، وليس في اللفظ قرينة على هذا، وإنما هي في السياق، وهذا من جزالة المعنى، وثَم أعاريب أخر.
قال القرطبي: وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (مثال الجنة التي وعد المتقون)، وقال الشوكاني: الجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة، وبيان ما فيها، ومعنى: (مثل الجنة) أي: وصفها العجيب الشأن، وهذا مبتدأ خبره محذوف كما بينا، قال النضر بن شميل: تقديره: ما يسمعون، وقدره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة التي وعد المتقون، قال: والمثل هو الوصف، ومعناه هنا: وصف الجنة التي وعد المتقون، وجملة: (فيه أنهار من ماء غير آسن) إلى آخره مفسرة لهذا المثل، وقيل: إن (مثل) زائدة، أي: الجنة التي وعد المتقون إلى آخره، وقيل: إن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله تعالى: (فيها أنهار)، وقيل خبره: (كمن هو خالد)، وهذا الذي ذكره القاسمي كما بينا.
(مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) أي: غير متغير الرائحة، والآسن من الماء مثل الآجن، وقد أسن الماء يأسن أسناً وأسوناً إذا تغيرت رائحته، ويأسن الرجل أيضاً إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك، فغشي عليه أو دار رأسه، قال زهير: قد أترك القرن مصفراً أنامله يميد في الرمح ميد المائح الأسن وقرأ الجمهور: (فيها أنهار من ماء غير آسن) بالمد، وقرأ حميد وابن كثير بالخفض: (غير أسن)، وهما لغتان كحاذر وحذر، وقال الأخفش أسن للحال، وآسن فاعل يراد به الاستقبال.
إذاً؛ فمعنى: (فيه أنهار من ماء غير آسن)، أنه ماء صافٍ لا كدر فيه.
(وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي: لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة، فلبن الجنة في غاية البياض والحلاوة والدسومة، وورد في بعض الآثار المقطوعة: (لم يخرج من ضروع الماشية).
ثم قال تعالى: (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل هي حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل، ومعنى: (الفعل) أي: حسنة الأثر، فقد نزه الله خمر الجنة، بقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47]، وقال: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، وقال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46].
وفي بعض الآثار: (لن تعصرها الرجال بأقدامها).
إذاً: فوصف خمر الجنة بهذه الأوصاف يقتضي نجاسة خمر الدنيا كما ذهب إليه جمهور العلماء، فالله سبحانه وتعالى وصف خمر الجنة بأنه شراب طهور، أي: أنه ليس بنجس كخمر الدنيا، (وأنهار من خمر لذة للشاربين)، وهذا فيه تنويه بخمر الدنيا من حيث حكم مظهرها وطعمها ورائحتها وفعلها، أي: أن أثرها لا يسلب العقل كما تفعل خمر الدنيا، ولذلك فإن من ترك الخمر في الدنيا لله فإنه يثاب بالشرب من خمر الآخرة، وكذلك من امتنع من لبس الحرير في الدنيا فإنه يثاب بلبسه في الجنة، وهكذا: (من ترك شيئاً لله عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه).
(وأنهار من خمر لذة للشاربين) لذة: قراءة الجمهور بالجر على أنها صفة للخمر، وقرئ بالنصب: (لذةً للشاربين) على أنه مصدر أو أنه مفعول له، وقرئ بالرفع: (لذة للشاربين)، فيكون صفة لأنهار.
قال الطبري: فأما القراءة فلا أستجيزها إلا خفضاً لإجماع الحجة من القراء عليها.
(وأنهار من عسل مصفى)، والعسل يذكر ويؤنث.
قال القرطبي: العسل ما يسيل من لعاب النحل، أي: ما يفرزه النحل، (مصفى) أي: مصفى من الشمع، ومصفى من القذى، خلقه الله سبحانه وتعالى كذلك لم يطبخ على نار، ولا دنسه النحل.
وفي سنن الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد) أي: تتفرع منها الأنهار بعد ذلك، قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة).
وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، وقد أخذ البعض من هذا الوصف للفردوس أن الجنة -من حيث الخلق- كروية؛ لأن الأوسط لا يكون أعلى إلا فيما هو كروي.
(ومنه تفجر أنهار الجنة)، وهذا هو الشاهد في موضوعنا.
(ولهم فيها من كل الثمرات)، كقوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55]، وقوله عز وجل: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] يعني: لأهل الجنة في الجنة، وذلك مع ما ذكر من الأشربة من كل صنف من أصناف الثمرات، (ولهم فيها من كل الثمرات) (من) هنا زائدة للتوكيد، قاله القرطبي.
(ومغفرة من ربهم) أي: ومع ذلك كله مغفرة من ربهم لذنوبهم، ونُكِّرت (مغفرة) لأجل تعظيم هذه المغفرة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من ثوابهم المعنوي، فالجنة فيها كل أنواع النعيم كما قال تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، وأما ما يشتغل به بعض الجهلة والملاحدة من الكفار والمستشرقين وأذنابهم من أنهم يمنعون على القرآن الكريم أن يعد المؤمنين بالمتاع والطعام والشراب والفاكهة في الجنة، فهذا بلا شك جهل منهم؛ لأنهم أصلاً ليس عندهم وصف للجنة، وليس لديهم تفصيل بذلك كما بينه الله سبحانه وتعالى في هذه الرسالة الخاتمة، وإنما عندهم أن الإنسان الذي يثاب فإن ذلك يكون بألا تخرج منه الروح فقط، فتطلع روحه إلى السماء ثم ترجع وإلى جسده، وأما في الإسلام فمعلوم أن الإنسان مركب من روح وجسد، فالروح لها متاعها، والجسد له متاعه، ولا ينكر شيء من هذا على الإطلاق، ثم إن آدم وحواء كانا في الجنة، ثم خرجا بسبب مخالفة أمر الله تعالى بعدم القربان من الشجرة، فهذا الأمر متفق عليه بيننا وبين أهل الكتاب، فهم يؤمنون أنهما كانا في الجنة، إذاً: فأهل الجنة يأكلون، لكنهم يتنزهون عن الأنجاس والأوصاف التي تكون في الدنيا، فمتاع الدنيا لابد أن يوجد فيه ما يكدره، ولا يوجد شيء من متاع الدنيا صافٍ، فقد يحب الإنسان نوعاً معيناً من الفاكهة، لكن قد يجد فيها ما يكدره ويضايقه، فعلى الإنسان أن يفتقد أن الدنيا دار متاع، وأن ما يوجد من هذا المتاع فإنه لمجرد التنبيه إلى لذات الآخرة الحقيقية الدائمة، فعامة لذات الدنيا لابد فيها من مكدر، وذلك إما بالنصب والتعب في تحصيلها، وإما ببعض المشاق في إعدادها للطعام وغير ذلك، فالدنيا ليست دار نعيم مطلق، وإنما هي دار ابتلاء، وكما قال تبارك وتعالى في النار مثلاً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73]، فبين عز وجل أن الحكمة من خلق النار (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين) أي: إذا رأوها تذكروا نار الآخرة، و (متاعاً للمقوين) أي: متاعاً للاسترفاه، ولإنضاج الطعام، وللإضاءة وغير ذلك من منافع النار، لكن الهدف الأساسي والغاية الأولى هي: (تذكرة) أي: رأيتموها تذكرتم نار الآخرة، وكذلك إذا رأى الإنسان نعيماً في الدنيا فإنه يذكره بنعيم الآخرة، فلذلك جعلت عامة الشهوات مقرونة بالأوجاع والآلام والمكدرات؛ تنبيهاً إلى أن هذه الدار ليست هي دار النعيم، وإنما هي دار قرن ما فيها من نعيم بما يكدره وينغصه، فالإنسان إذا لم يذق هذا المتاع فإنه لا يستطيع أن يتخيل متاع الدنيا، فإذا وجد أي نوع من أنواع هذا المتاع في الدنيا فإنما هو لتنبيه الإنسان على أن في الجنة ما هو أعظم منه، فقوله هنا: (ومغفرة من ربهم) هو نوع من أنواع نعيمهم الروحي، وجزائهم المعنوي، وقال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] وقد تو(115/2)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك)
قال تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، يذكر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم أنهم كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً.
قال القرطبي: أي: من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم: قوم يستمعون إليك، وهم المنافقون كـ عبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت والحارث بن عمرو ومالك بن الدخشم، فقد كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنها، فإذا خرجوا سألوا عنه، وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر، لأن على قلوبهم أقفالاً، وتلك الأقفال تمنع من أن يدخل فيها الإيمان، أو أن يخرج منها النفاق، والله تعالى أعلم.
قوله: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا)).
يقول ابن جرير: حتى إذا خرجوا من عندك قالوا إعلاماً منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله، وتلاوتك عليهم ما تلوت، وقيلك لهم ما قلت، يقولون لمن كان حاضراً من أهل العلم: إنهم لم يصغوا سماعهم لقولك وتلاوتك، ماذا قال آنفا؟ يعني: ماذا قال لنا محمد صلى الله عليه وسلم آنفا؟ قوله تبارك وتعالى: (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم) قال ابن كثير يعني: من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقال عكرمة: هو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهذه منقبة لـ عبد الله بن عباس، وقال ابن عباس: أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل.
وفي رواية عن ابن عباس أن المقصود بالآية عبد الله بن مسعود وكذا عبد الله بن بريدة.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: هو أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، وقال ابن زيد: إنهم الصحابة، وقال الشوكاني: والأول أولى، يعني: علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا تعارض بين ما ذكر من أمثلة من علماء الصحابة وبين التعميم.
قوله: (آنفاً) أي: الآن، على جهة الاستهزاء، أي: إما أنهم يقولون: ماذا قال آنفاً؟ على سبيل الاستفهام الحقيقي، وهذا يدل على غباوتهم، وقلة فهمهم، وبلادة عقولهم، فهم لا يعون ما يعيه المؤمنون.
وتفسير آخر: (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً) أنهم يقولون ذلك على جهة الاستهزاء، وإعلاناً منهم أنهم لا يبالون بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم لن يلتفتوا إلى قوله عليه الصلاة والسلام، أما قوله تعالى: (ماذا قال آنفاً) فالآنف: هو الساعة أو الوقت الذي هو أقرب الأوقات إليك، تقول: استأنفت الشيء إذا بدأت به، ومنه: أمر أنف، أي: مبتدأ، و (روضة أنف) أي: لم يرعها أحد، و (كأس أنف) إذا لم يشرب منها شيء، فكأنه استأنف شربها، وهو مثل: روضة أنف، وأنف كل شيء أوله.
وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عَقِل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقِل ولم ينتفع بما سمع، وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عالم، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك.
(ماذا قال آنفاً) قرئ (آنفاً) منصوباً على الظرفية، أي: وقتاً مؤتنفاً، أو حال من ضمير من قال.(115/3)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم)
قال تبارك وتعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، أولئك إشارة إلى المذكورين من المنافقين، وقلنا: إنهم منافقون؛ لأن الذين كانوا يحضرون مجلس النبي عليه الصلاة والسلام كانوا من المنافقين، وكانوا لا يجترئون على مواجهته بما يكره، والمنافقون -كما تعلمون- ظهر أمرهم في المدينة ولم يكونوا في مكة، وهذه السورة مدنية، فكانوا يحضرون ويمارسون جميع تعاليم الإسلام الظاهرة، ويتواجدون في مجامع ومجالس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا خرجوا من عنده طفحت قلوبهم، وفاضت ألسنتهم بما في قلوبهم من النفاق، كما سيأتي في قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
(أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) (أولئك) أي: المذكورون من المنافقين، (الذين طبع الله على قلوبهم) فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير، (واتبعوا أهواءهم) أي: في الكفر والعناد.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وسوى جل ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين في أنهم جميعاً إنما يتبعون أهواءهم، فيما هم عليه من فراقهم دين الله الذي ابتعث به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل في هؤلاء المنافقين: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم).
وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك: (كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)؟ وقال القاسمي: (واتبعوا أهواءهم) أي: آراءهم لا ما يدعو إليه البرهان، ولفظ (الهوى) عامة في القرآن مذموم، فالهوى لا يأتي في القرآن إلا مذموماً.
وقال ابن كثير: (واتبعوا أهواءهم) أي: فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح.(115/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدىً)
قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، (والذين اهتدوا) أي: للإيمان (زادهم الله هدىً)، وقيل: (زادهم هدىً) أي: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدىً، وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى أي: يتضاعف يقينهم، ولاشك أن هذا أحد الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن القاعدة: أن ما كان قابلاً للزيادة فإنه يكون قابلاً للنقص، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، وهذه من عقائد أهل السنة والجماعة التي فارقهم فيها أهل الأهواء والبدع كالمرجئة، فقد ذهبوا إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، وهذا غير صحيح؛ فكلما تعلم الإنسان أكثر وزاد من الأعمال الصالحة ازداد عنده الإيمان، فكثير من الناس يسألون وهم متحيرون، فيقول أحدهم: إنه يشعر بضعف إيمانه، ويشعر بضعف يقينه، ويشعر بتراجع في قوة إيمانه، والأمر في ذلك واضح، فكما ازددتَ من الأعمال الصالحة ازداد وارتفع الإيمان في قلبك، وكلما أكثرت من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، وتجنبت المعوقات كإطلاق البصر، ومقارنة جلساء السوء، والتعرض لمواقع الفتن، ووفرت الشروط، ونفيتَ الموانع شعرت في نفسك بقوة الإيمان وزيادته، فهذا الأمر محسوس، فكلما أتيت من شعب الإيمان بما هو أكثر، واجتهدت في ذلك فستشعر أن مرض القلب سوف يشفى بإذن الله تبارك وتعالى.
(والذين اهتدوا زادهم هدى) قال الفراء: زادهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هدىً، وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى، وفي الهدى الذي زادهم الله أربعة أقاويل: قال الربيع بن أنس: زادهم علماً، وقال الضحاك: (أنهم علموا ما سمعوا، ثم عملوا بما علموا، أي: أنهم أعقبوا العلم الذي سمعوه بالعمل، وفي العمل بعد العلم زيادة هدى، وقد أعطى القرآن الكريم هذه المسألة اهتماماً عظيماً، فتردد في مواضع من القرآن الكريم أهمية ربط العلم بالعمل، كما في قوله تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وكما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، وفي قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وفي قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68]، أي: أنه كان يعمل بما علم، وجاء في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91]، أي: علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، فقد أثبت ونفى، فالمراد: علمتم شيئاً لم تعملوا به، فكأنكم لم تعلموه؛ لأنكم اشتركتم مع من يجهل هذا الأمر في عدم العمل، وقيل في قوله تبارك وتعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27]: إنهم قطعوا كل ما أمر الله به أن يوصل، فمما أمر الله به أن يوصل: أن يوصل العلم بالعمل، فالتفريط في ما أمر الله به أن يوصل يدخل فيه: أن يتخلف العلم عن العمل، ويدخل فيما أمر الله به أن يوصل: وصل الإيمان بالأنبياء السابقين وبالنبي الذي أرسل إليه، ويدخل فيها أيضاً صلة الرحم، وغير ذلك مما أمر الله به أن يوصل.
إذاً: (والذين اهتدوا زادهم هدىً) قيل: علماً، وقيل: العمل بهذا العلم بعد أن سمعوه، وقيل: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقيل: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) أي: ألهمهم إياها.
وقيل: فيه خمسة أوجه: الأول: (وآتاهم تقواهم) أي: آتاهم الخشية.
والثاني: (وآتاهم تقواهم) أي: أتاهم ثواب تقواهم في الآخرة.
والثالث: (وآتاهم تقواهم) أي: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم.
الرابع: (وآتاهم تقواهم) أي: بين لهم ما ينبغي عليهم أن يتقوه ويتجنبوه مما نهى الله عنه.
الخامس: (وآتاهم تقواهم) قيل: هو ترك المنسوخ بالناسخ.
وقال الماوردي: ويحتمل أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم، وقرئ: (وأعطاهم تقواهم)، بدلاً من (وآتاهم).
قال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).(115/5)
تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)
قال الله تبارك وتعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18]، هذا كقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:56 - 57] و (الآزفة) اسم من أسماء يوم القيامة، وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
إذاً: فالمقصود من قوله تبارك وتعالى: (فقد جاء أشراطها) بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهذه -كما ذكرنا في أول تفسيرها- أنها مدنية، فبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ونزول الوحي عليه أحد أشراط الساعة الكبرى، فمنذ ذلك الوقت وإلى أن يشاء الله والأشراط والآيات تتوالى،: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، فكثير من الناس ينتظرون بهذا الكلام قرب قيام الساعة، وقد حصل أكثر من مرة بعض الحوادث، وكلما حصلت حادثة حاول الناس أن يلصقوها بقرب وشيك لقيام الساعة، فهناك أحداث مرتبة لها ترتيب زمني معين، فلا تأتي الساعة إلا بعد أن تحصل هذه الأشياء وخاصة العلامات الكبرى، وبعض الناس يستعجلون في تفسير بعض الحوادث فيحصل نوع من الكلام بالهوى وبدون علم، فلما وقعت حرب الخليج مثلاً يقول بعضهم: هذه هي الملحمة المذكورة، فكيف تكون ملحمة ولم يحصل قبلها شيء؟! ويقولون: نحن الآن أصبحنا في القرن الخامس عشر، وقد مرت سنوات من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وقت اقتراب الساعة! وقد كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً والشمس في الأفق على عشش المدينة، ولم يبق إلا الشيء اليسير في الأفق، فقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)، فانظر هذه الدقائق المعدودات قبل غروب الشمس، فالنسبة فيه ما بقي من الدنيا إلى ما مضى منها كالنسبة بين هذه الدقائق في آخر اليوم إلى ما مضى من هذا اليوم القريب.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً؟! فقال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء) رواه البخاري.
إذاً: فاقتراب الساعة أمر نسبي، والإنسان لا ينشغل كثيراً بموضوع اقتراب الساعة كما حصل من قبل؛ ومن طبيعة الإنسان أنه دائماً شغوف لمحاولة استطلاع المجهول، فهذه فطرة الإنسان، وقد أشبع الإسلام هذه الفطرة والغريزة في الإنسان، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه أوحى إلى نبيه كثيراً جداً من أخبار الغيب، فهم يسمونه المغيب، ونحن نسميه الغيب، وأشبعت هذه الغريزة عن طريق الأخبار التي أتت في القرآن والسنة تخبرنا عن كثير جداً من المغيبات، سواء فيما مضى من أحداث هذا الكون والخلق، أو فيما سيأتي في أواخر الزمان، فيحصل بعد ذلك ما يحصل من تفاصيل يوم القيامة مما يكون في الجنة، ومما يكون في النار، وصفة أحوال أهلها إلى غير ذلك، فقد استجاب القرآن الكريم لهذه الفطرة في الإنسان -وهي غريزة حب الاستطلاع والتطلع إلى الغيب- وذلك بما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يستطيل الوقت فمن ثم يحاولون أن يصدقوا بعض الأخبار الضعيفة.
وبعضهم لا يستحي عندما يكتب من أن يقول: أعرف كذا وكذا في الكتب المقدسة!! ويقصد بالكتب المقدسة التوراة والإنجيل! فهل يجوز لمسلم أن يصف كتاب اليهود والنصارى بأنه كتاب مقدس كما يسمونه هم؟! إن كان ولابد فتقول: كتاب مقدس عندهم، وأما عندنا فليس مقدساً، ونحن نؤمن بالإنجيل والتوارة وجميع الكتب التي أوحاها الله، لكنها تلك الكتب التي لم تحرف ولم تبدل ولم تغير، وأما وضع المصداقية لهذه الكتب المحرفة، والتي فيها الكذب على الله وعلى أنبياء الله عز وجل، وفيها التحريف، وأنها مصادر علمية معتمدة وموثقة فهذا غير صحيح، فلا يوجد سند على الإطلاق بيننا وبين أهل الكتاب، إن الله تعالى قد آتانا هذا القرآن، فكيف نعرض عنه في غمرة العواطف واستعجال يوم القيامة؟! بأننا لو قلنا: إن فلاناً هو المقصود ففيه شرك؛ لأنك تخبر بالأخبار قبل أن تقع، فعندنا مئات من النبوءات الصادقة الثابتة قطعاً وقد حصل منها كثير وسيحصل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى.
إذاً: فالانسياق وراء هذه الغريزة -غريزة التطلع لأحداث اليوم الآخر واقتراب قيام الساعة- يتعب النفس، فهذه أمور كونية قدرية سوف تقع لا محالة كما أخبر الله عز وجل، وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فأنت مسئول إذا حصلت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن تجزم بذلك، وأما قبل حصولها فلا تجزم، لكن يكفيك أن تعرف قطعاً وبلا شك أن ساعتك الخاصة بك قد اقترب، فهناك ساعتان للمرء: الساعة الأولى: وهي ساعة انتهاء عمر الدنيا، ثم يكون القيام من القبور، فالقيامة عبارة عن انتهاء الدنيا، والانتقال إلى الآخرة، فهذا في حق الدنيا، فتنتهي الدنيا بقيام القيامة، فهذا حد فاصل بين الدنيا والآخرة.
والساعة الثانية: هي الموت، والموت قريب في كل شخص منا، وهو عبارة عن قيامة وساعة؛ لأنك تنتقل من الدنيا إلى مقدمات الآخرة في الحياة البرزخية، وهناك ينقطع عملك، وتواجه حسابك.
إذاً: فلكل إنسان قيامة، وقد قال بعض السلف: من مات فقد قامت قيامته، فعليك أن تنشغل بيوم القيامة الخاصة بك؛ لأنك قطعاً ستسأل عنه، لذا فإنه يجب عليك أن تستعد له، وأما أن نستسلم لما ذكرناه سابقاً كما حصل مراراً أن بعض الناس يعمل سيناريو وحواراً وإخراجاً لهذه القضية، وقضية خروج المهدي فهذا لا ينفع، وقد أشيع أن في مستهل القرن الخامس عشر ستقوم القيامة، فكان الناس خائفين من ذلك، وحاول أصحاب هذه الشائعات أن يخترعوا سيناريو معيناً من أجل أن يصدق أن هذا هو المهدي، وأننا لابد أن ننصره.
واسمع إلى هذه الكلمة من بعض الأئمة أظنه سفيان الثوري، فقد سئل عن المهدي فقال: إذا خرج فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه.
أي: حتى لو أن المهدي الحقيقي خرج فلا تكن منه في شيء، ولا علاقة لك به حتى يجتمع الناس عليه، فإذا اجتمع الناس من علماء وغيرهم عليه، واستقر الأمر أن هذا فعلاً هو المهدي الذي أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة يمكنك أن تنضم إليه.
فإذا سمعت بأحد يدعي أنه المهدي فتذكر هذه النصيحة من هذا الإمام الجليل: إذا خرج -أي: المهدي- فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه، فهذه إشارة عابرة عن آخر صيحة في عالم المؤلفات، فبعد أن ذقنا سنين من مئات الكتب التي اتصلت بالجن والعفاريت، ورأينا هذا التهريج والإسهال التأليفي في موضوع الجن، ونحن الآن في أحدث الصيحات الموجودة وهي موضوع قيام الساعة، ولعلنا عما قريب سنتكلم فيه بشيء من التفصيل.
فقوله تعالى: ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) فيه إشارة إلى قرب قيام الساعة بغتة فجأة، فالساعة قريبة لا شك فيها، قال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:56 - 57] فهي قريبة، لكن اقترابها نسبي، وليس المراد أنها ستقوم الآن، فلا زال هناك كثير من أشراط الساعة الكبرى لم يأت كخروج المهدي، ونزول المسيح عليه السلام، ثم خروج المسيح الدجال إلى آخر تلك الأمارات العظمى، فليس هناك حرج على الإطلاق أن تقول: لن تقوم الساعة الآن، وقد رأينا كثيراً من الدجالين الذين يخرجون في هذا الزمان، فتسمع بعضهم يقول: يوم القيامة سيكون في يوم السبت القادم، فالإنسان روحه ليست في يده وإنما هي في يد غيره وهو الله سبحانه وتعالى، يأخذها متى شاء، فكل واحد له يوم قيامة وهي ساعة موته.
فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام بأنه هناك ترتيباً معيناً أوحي إليه، فلن تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا وكذا من الأمور المرتبة ترتيباً زمنياً.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة -يعني: من علامات الساعة الكبرى- لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على العالمين، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وكذا قال الضحاك، قال القاسمي: وهو كما قال، ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمسيح عليه السلام إذا نزل فإنه لم ينزل بشريعة جديدة، وإنما يحكم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وينزل المسيح -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- وقد أقام المسلمون صلاة الفجر، فيخرج المهدي إلى المسيح ليؤمهم في صلاة الفجر، فيأبى المسيح عليه السلام ويقول: إن بعضكم لبعض أئمة؛ تكرمة الله لهذه الأمة، فالمسيح عليه السلام يتجنب الشبهة؛ لأنه ربما إذ(115/6)
تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)
قال الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
قوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالم بالله، فما المقصود إذاً من قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)؟ قال الماوردي: فيه ثلاثة أوجه: الأول: اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله.
الثاني: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي: ما علمتَه تبياناً فاعلمه خبراً يقيناً.
الثالث: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) يعني: فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم؛ لأن الذكر يحدث عن العلم.
وجاء عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك).
فالاستغفار عمل، والأولى علم، فبدأ بالعلم قبل العمل.
وقال أيضاً: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20] إلى قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] فدل على أن العلم يكون أولاً، ثم العمل.
وقال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] وقال قبلها: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فالحذر عمل، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] إلى آخره، ثم أمر بالعمل بعده.
وقوله: (واستغفر لذنبك) يحتمل وجهين، أحدهما: استغفر الله أن يقع منك ذنب، الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب، وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي: اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص، والحذر، مما تحتاج معه إلى الاستغفار.
وقيل: الخطاب في قوله: (واستغفر لذنبك) للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، وهذا كثير ما يأتي في القرآن أن يكون الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد أمته كقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فالأمر هنا للنبي، والمقصود أمته عليه الصلاة والسلام.
وعلى هذا القول: فإن هذه الآيات توجب على المسلم أن يستغفر لجميع المسلمين؛ لقوله: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))، ولا شك أن تكرار اللام إشارة إلى أن ما يضاف إلى النبي عليه السلام من الذنب ليس كما يكون من المؤمنين، وقد كررنا ذلك مراراً، فهي بالنسبة إلى مقامه الشريف تكون كبيرة، وكما قال الجنيد: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فبالنسبة لمقامه سميت ذنوباً، مع أنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أنها من باب ترك الأولى، فلذلك أرشد به، وإما أنها اجتهاد اجتهده النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أن فيه رضا الله، فعمله ابتغاء مرضاة الله، ثم بان له بعد ذلك أنه لا يوافق رضا الله، فعاتبه الله عليه، فهو لم يقصد ولم يتعمد المخالفة، والأمثلة كثيرة نتعرض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفتح بإذن الله تعالى.
جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استغفر للمسلمين والمسلمات كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ففيه الترغيب وفضيلة أن يعم الإنسان في دعائه عامة المؤمنين، فلا يزهد الإنسان في هذا الثواب، وقد يقول قائل: كيف تصل هذه الدعوة إلى كل المؤمنين والمؤمنات؟ فنقول: نعم، فهذا من أكثر الأدعية بركة أن تدعو لنفسك، وتضم معك في الدعاء عامة المؤمنين والمسلمين، (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كان له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة).
فالمؤمنون كثر -ولله الحمد- في كل زمان، فإذا استغفرت لهم نلت حسنة عن كل نفس مؤمنة، فهذا مما لا ينبغي أن يُزهد فيه.
قيل: كان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت هذه الآية: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي: فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه.
وقيل: أُمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة، (فاستغفر لذنبك) حتى تقتدي به الأمة في ذلك، (وللمؤمنين والمؤمنات) أي: ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وهذا أمر بالشفاعة.
روى مسلم: عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه، فقلت: يا رسول الله! غفر الله لك، فقال لي صاحبي: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))، ثم تحولتُ فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه جمعاً، عليه خيلان كأنه الثآليل).
فـ عبد الله بن سرجس رضي الله عنه يعرف أدب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا واجهه بهذه العبارة: (يا رسول الله! غفر الله لك) يعلم أنه سيجزيه ويثيبه عليها بأن يقول له: ولك، فيدخل تحت من استغفر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (ثم تلا هذه الآية: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)، يقول عبد الله بن سرجس: (ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه)، وهذه من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان خاتم النبوة بين كتفيه، وكان مكتوب فيه: محمد رسول الله.
وقوله: (جمعاً) أي: مثل جمع الكتف، يعني: كما تجمع الأصابع وتضمها هكذا جمعاً، (عليه خيلان كأنه الثآليل)، الخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد، والثآليل: جمع ثؤلول: وهي حبيبات تعلو الجسد، وهي التي كانت تكتب جملة: محمد رسول الله بالشامة أو هذه الحبيبات.
إن خاتم النبوة هذا أمر ثابت بلا شك، والعجيب أنه موجود حتى الآن إشارة إلى ذلك في كتب اليهود والنصارى، فالذي يدّعونه مقدساً موجود فيه هذا النص في وصف خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلمون أن هذا كان أحد العلامات التي استدل بها سلمان الفارسي رضي الله عنه على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فـ سلمان له رحلة طويلة جداً في البحث عن الحق، وقد استغرقت هذه الرحلة عمراً طويلاً، فظل يتنقل بين علماء النصارى إلى أن قال له آخر واحد منهم: إنه قد حضر زمان هذا النبي، أو: إنه كاد أن يظهر في بلاد العرب في يثرب -وهي المدينة- فظل يتنقل إلى أن وصل إلى المدينة، وعلم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى مكة، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام كان هذا الحبر أو العالم النصراني قد قال له: إن من صفته أنه يقبل الهدية -أي: يأكل الهدية- ولا يأكل الصدقة، ومن صفته أن هناك خاتم النبوة بين كتفيه، فذهب سلمان إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: لقد وجدت أنت وأصحابك في حالة من الضعف والفقر فأتيتك بهذه الصدقة، فأتى بإناء فيه تمر قد جمعه، فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام ودفعه إلى أصحابه وقال: كلوا، ولم يأكل هو، فقال سلمان: هذه واحدة.
ثم أتاه في اليوم الثاني وقال له: رأيتك لم تأكل من التمر الذي أتيتك به بالأمس فهذه هدية، فقربها إلى أصحابه وأكل معهم، فقال سلمان: وهذه الثانية.
ثم تحول سلمان رضي الله تعالى عنه إلى خلف النبي عليه الصلاة وجعل ينظر، فتفطن النبي عليه السلام أن هذا الرجل يريد أن يرى خاتم النبوة بين كتفيه، فألقى الرداء فرآه، ثم أسلم، إلى آخر هذه القصة الجميلة المليئة بالعبر، وهي قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه.
قال حسان: على كتفيه للنبوة خاتم من الله يلوح ويشهد (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، وتعلمون أن من شروط لا إله إلا الله: العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، فلابد أن يتعلم الإنسان معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، فإنها تنفي استحقاق غير الله للعبادة، وتثبت استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة وحده لا شريك له، فلابد أن يتعلم الإنسان معنى لا إله إلا الله.
قوله: (والله يعلم متقلبكم ومثوابكم) أي: يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم.
وقيل: (متقلبكم) أي: في أعمالكم نهاراً، (ومثواكم): في ليلكم نياماً، أي: أنه يعلم كل أحوالكم سواء في تقلبكم في النهار في حاجاتكم أو مثواكم في أثناء الليل حينما تنامون.
وقيل: (متقلبكم) في الدنيا، (ومثواكم) في الدنيا والآخرة.
وقيل: (متقلبكم) في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، (ومثواكم) أي: مقامكم في الأرض.
وقال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن إلى الدنيا، ومثواكم في القبور، والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه، فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلاً في الأولى والأخرى سبحانه لا إله إلا هو.(115/7)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)
قال الله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:20 - 23].
قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) قرأ الجمهور: (فإذا أنزلت) وذكر على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن عمير: (فإذا نزلت)، وذكر على بناء الفعلين للفاعل، ونصب القتال.
وهذه السورة محكمة، يعني: هذه الآية آية محكمة، فليس فيها نسخ، قال ابن جرير: وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) معنى قوله: (سورة محكمة) يعني: محدثة النزول، وهذه القراءات تفسر المعنى، وليس المقصود بكونها محدثة أنها مخلوقة، وإنما المراد أنها محدثة من حيث النزول، فالقرآن محدث بالنسبة لنزوله، وأما من حيث هو فهو كلام الله.
(طاعة وقول معروف) قال القرطبي: قراءة أبي: (يقولون طاعة).
(فهل عسيتم) قال الطبري: أجمعت القراء غير نافع على فتح السين من قوله: (فهل عسيتم)، وكان نافع يكسرها ويقول: (فهل عسِيتم)، قال ابن جرير: والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين بإجماع الحجة من القراء عليها، وأنه لم يسمع في الكلام -أي: كلام العرب- عسي أخوك يقوم، بكسر السين وفتح الياء، ولو كان صواباً كسرها إذا اتصل بها مكني جاءت بالكسر مع غير المكني، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكني، وإن التي تلي (عسيتم) مكسورة، وهي حرف جزاء، و (أن) التي مع (تفسدوا) في موضع نصب بعسيتم.
(فهل عسيتم إن توليتم)، قرأ الجمهور (إن توليتم) مبنياً للفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب: بضم التاء وكسر اللام مبني للمفعول (فهل عسيتم إن توليتم)، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب.
وقال القرطبي: قراءة علي بن أبي طالب (إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) بضم التاء والواو وكسر اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، فرواها رويس عن يعقوب: (فهل عسيتم إن تُولِّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، قال القرطبي: قراءة يعقوب وسلام وعيسى وأبي حاتم: (وتقطعوا أرحامكم)، بفتح التاء وتشديد القاف، من القطع اعتباراً بقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27].
وروى هذه القراءة هارون عن أبي عمرو وقرأ الحسن: (وتقطعوا أرحامكم) مفتوحة الحروف مشددة؛ اعتباراً بقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93]، وأما الباقون فقد قرءوها: (وتُقَطِّعوا) بضم التاء المشددة والطاء، من التقطيع على التفسير، وهو اختيار أبي عبيد.
قوله: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) أي: نظراً مثل نظر المغشي عليه، (فأولى لهم) هذا مبتدأ وخبر، وقيل: خبر ((أولى)): (طاعة)، (فأولى لهم طاعة)، وقيل: طاعة صفة لسورة، أي: ذات طاعة.
قال في فتح البيان: وفيه بُعد لكثرة الفواصل، وقيل: طاعة مبتدأ، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل من غيره، وقيل: التقدير: أمرنا طاعة.
قوله: (إن توليتم) جملة معترضة بين (عسيتم) و (أن تفسدوا)، خبر عسى، و (أولئك) إشارة إلى المفسدين، قال في (فتح البيان) من هنا إلى آخر السورة لا يظهر إلا كونه مدنياً صحيح؛ لأن القتال لم يشرع إلا في المدينة، وكذلك النفاق لم يظهر إلا في المدينة.
فيحمل القول فيما تقدم بأنها مكية على أغلبها أو أكثرها، ويحمل القول بأنها مدنية على البعض منها.
يقول الله تعالى مخبراً عن المؤمنين الذين صدقوا الله ورسوله في تمنيهم شرعية الجهاد، قالوا: ((لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ))، فهذا شأن المؤمنين، أنهم يتشوقون إلى تشريع الجهاد؛ ليحصلوا ما يترتب عليه من الفوائد، وأعظم ذلك الشهادة في سبيل الله.
((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ))، أي: أنهم متشوقون إلى نزول سورة تشرع لهم الجهاد والقتال.
((لَوْلا)) أي: هلّا نزلت سورة؛ اشتياقاً للوحي، وحرصاً على الجهاد وثوابه.
فلما فرضه الله عز وجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].
وهاهنا يقول عز وجل: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)) أي: مشتملة على حكم القتال؛ ولهذا قال هنا: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ))، أي: في معنى الجهاد، (مُحْكَمَةٌ)، أي: غير منسوخة.
((وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين؛ لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة.
وهذا الموضوع بالذات يحتاج إلى بعض الإيضاح، وقد سبق أن أخذناه بالتفصيل في محاضرة، وجعلناها موضوعية إلى التيارات الجهادية، فلا نطيل الآن في ذكره.
((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، أي: ذكر فيها الأمر بقتال المشركين.
((رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: شك، وهم المنافقون، أو ضعْف في الدين، وأصل المرض: الفتور، فمرض القلوب: فتورها عن قبول الحق، والأول أظهر؛ لموافقته سياق النص الكريم، أي: أنهم المنافقون.
قوله: ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ)) -أي: يا محمد! عليه الصلاة والسلام- شزراً وكراهية منهم، وينظرون نظر مغموصين ومغتاظين بتحديث وتحديد، يحدثون بأعينهم، ويحدون النظر من الشزر والكراهية، والغيظ الذي يملأ قلوبهم.
وقوله: ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)) أي: من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء خوفاً من أن تؤذيهم فتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، وهم في السر يميلون إلى الكفار، فأنت ستأمرهم إذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال، فهم يخافون أن تأمرهم بالخروج لجهاد الكفار الذين يحبونهم، ويوالونهم في السر، ويظهرون أنهم معك، فيظهر ذلك في عيونهم وفي نظراتهم.
((مِنَ الْمَوْتِ))، أي: من خوف الموت.
وقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم فلا يفقهون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وشبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يصرف بصره.
((فَأَوْلَى لَهُمْ))، اتفق المفسرون على أن المراد بقوله تعالى هنا: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) التهديد والوعيد، لكن اختلفوا بعد ذلك في المراد به هنا هل هو تهديد، أو تهديد ووعيد؟ فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماضي، أي: أنه بمعنى قارب، وقيل: قرب، فمعنى: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) أي: قارب هلاكهم.
والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي، بمعنى: القرب، ((فَأَوْلَى لَهُمْ))، أي: قرب أجلهم.
وقال أبو علي: (أَوْلَى لَهُمْ) اسم تفضيل من الويل، أصلها: (أويل لهم)، فحمل وزنه أفلع، وورد بأن الويل غير متصرف، وأن القلب خلاف الأصل، وفيه نظر.
وقيل: إنه أولى: فعل من: آل، يأول.
وقال الرضي: إنه علم للوعيد، وهو مبتدأ، و (لَهُمْ) خبره، وقد سمع فيه قولان: بتاء التأنيث.
وقال القرطبي: قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهديد ووعيد.
أي: اعتاد العرب أن يستعملوا هذه الصيغة: (أولى لك) للتهديد والوعيد، كما قال الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مردّ وهذا كما في الآية في سورة القيامة: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34 - 35].
وقال الأصمعي: معناه: قاربه ما يدركه، أي: نزل به.
فأولى ثم أولى ثم أولى، أي: اقترب، أو قاربه ما يدركه، وهو نازل به لا محالة، ولن يُردّ هذا الوعيد المهلِك عنه.
فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد أي: هل يمكن للبن بعد حلبه من الضرع أن يرجع مرة ثانية؟! فكذلك الوعيد سوف يأتيك قطعاً ولن يرد عنك، ولن يزول.
وقال الأصمعي: (فَأَوْلَى) معناه: قاربه ما يهلكه، أي: نزل به، وأنشد: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي: وقارب أن يزيد على الثلاث.
وقال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي.
إذاً: فأفضل ما قيل في تفسير (أولى) أنه بمعنى قاربه ما يهلكه.
وقال المبرد: يقال لمن(115/8)
شرح قوله تعالى: (طاعة وقول معروف)
قال الله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
قوله: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة، وأن يستعدوا للقتال؛ لأنهم سوف يباشرونه.
قوله: ((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) أي: جد الحال وحضر القتال، ((فَلَوْ صَدَقُوا)) أي: أخلصوا له النية، {َلكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}.
قال ابن جرير: قوله ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة ويذكر فيها القتال، وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد قالوا: سمعاً وطاعة، فقال الله عز وجل لهم: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ))، وفرض القتال شق ذلك عليهم وكرهوه، فقال لهم: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ))، قبل وجوب الفرض عليكم، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشق عليكم.
((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أي: نأخذ منكم شيئين فقط قبل أن يفرض عليكم الجهاد بالكلام.
((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) كرهتموه وشق عليكم، ونظرتم إليه: ((نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ))، إذاً: ففي هذه الحالة يوقف على (فَأَوْلَى)، ثم ابدأ من: (لَهُمْ) {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
وقال القاسمي: في قوله: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أوجه: الأول: أنه خبر (أولى) على ما تقدم.
الثاني: أنها صفة السورة، أي: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)) (طَاعَةٌ)، أي: ذات طاعة، أو للطاعة، وفيه بُعد؛ لكثرة الفواصل.
الثالث: أنه مبتدأ، و (قول): عطف عليه، والخبر محذوف تقديره: أمثَل بكم من غيرهما، أي: طاعة وقول معروف أمثل بكم وأريح من غيرهما.
الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: أمرنا طاعة.
الخامس: أن (لَهُمْ) خبر مقدم، و (طَاعَةٌ) مبتدأ مؤخر، والوقف والابتداء يعرفان مما تقدم.
((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)): أي: جد الحال، وحضر القتال، قال أبو السعود: أسند العزم وهو الجد إلى الأمر، وهو لأصحابه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
وعامل الظرف الذي هو جواب الشرط محذوف ((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) ف
الجواب
خالفوا أو تخلفوا، وقيل: ناقضوا، وقيل: كرهوا، وقيل: جواب الشرط هو: فلو صدقوا الله تعالى فيما قالوه من الكلام المنبه عن الحرص على الجهاد (لكان) أي: الصدق (خيراً لهم)، أي: في عاجل دنياهم، وآجل أخراهم، وذلك بأن عفر لهم المعصية والمخالفة.
وقيل: فلو تركوه في الإيمان، ووافقت قلوبهم ألسنتهم في ذلك، وأياً ما كان فالمراد بهم: الذين في قلوبهم مرض، وهم المخاطبون بقوله تبارك وتعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، أي: أيها المنافقون! الذين في قلوبهم مرض، (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).(115/9)
تفسير سورة محمد [22 - 27](116/1)
تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقعطوا أرحامكم)
قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22].
قوله تعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) أي: إن أعرضتم عن تنزيل الله تعالى، وفارقتم أحكام كتابه، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوليتم عن الجهاد، ونكلتم عنه.
قوله: ((أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) أي: أن تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، فتسفكوا الدماء، وتقطعوا الأرحام؛ ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
إذاً: فهذا نهي عن الفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام، وهو: الإحسان إلى الأقارب في المقال، والفعال، وبذل الأموال.
قوله: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت أن أفعل كذا بالكسر، والكسر لغتان ذكره الجوهري وهما سبعيتان، أي: قراءتان من القراءات السبع في القرآن.
قوله تعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لتأكيد التوبيخ، وتشديد التقريع، والمعنى: هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟! قوله: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) قيل: هو من الولاية، أي: ولاية الأمور أو الحكم بين الناس.
قال أبو العالية: المعنى: فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن نفسدوا في الأرض بأخذ الرّشا؟! وقال الكلبي: فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم؟! وقال ابن جريج: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام؟! وقال كعب: فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضاً؟! وقيل: (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)، هي من التولي والإعراض عن الشيء.
قال قتادة: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) عن كتاب الله، ((أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) بسفك الدماء الحرام، ((وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)).
وقيل: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) أي: فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن، وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض، وتعودوا إلى جاهليتكم.
وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية الخوارج وفيه بُعد؛ لأن الخوارج لم يكونوا قد ظهروا بعدُ، والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون كما سيأتي بيان هذه الجملة من الآيات.
وقال ابن حيان: المقصود بها: قريش.
وقال المسيب بن شريك والفراء: نزلت في بني أمية وبني هاشم، وبنو أمية وبنو هاشم هما من قريش، أي: كأن فيها إشارة إلى ما وقع من القتل، وتقطيع الأرحام، والفساد في صراع بين العباسيين والأمويين، ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ))، ثم قال: هذا الحي من قريش، أخذ الله عليهم إن ولّوا الناس ألا يفسدوا في الأرض، ولا يقطعوا أرحامهم).
هناك قراءة أخرى: (فهل عسيتم إن تُولِّيتم)، فيكون المعنى على هذه القراءة: إن وَليتْكم ولاةٌ جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم!! أي: إن حكمكم حكام جائرون ظالمون، خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم.(116/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) أي: طردهم وأبعدهم من رحمته، ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) أي: فأصمهم عن استماع الحق، ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، أي: قلوبهم عن الخير، أو أعمى أبصارهم عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد، والبعث، وحقيقة سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتبع الإخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه اللعنة، وسُلب الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل.
قيل: إن الله سبحانه وتعالى بعد ما قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، قال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) يعني: من فعلوا ذلك، (فَأَصَمَّهُمَْ) أي: عاقبهم، ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)).
وقال: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ))، فرجع من الخطاب إلى الغيبة، فهذا أيضاً التفات على عادة العرب في ذلك، وهذا فيه التفات للإيذان؛ لأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم.
أي: أنه كان في الأول: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) بتوجيه الخطاب إليهم، ((إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ))، ثم أعرض في الخطاب عنهم؛ لأنهم إذا فعلوا هذين الفعلين فلا يستحقون أن يخاطبهم الله مباشرة، فمن ثم انتقل إلى الغيبة فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك للإيذان بأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم.
قال عز وجل في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: فأصم آذانهم وأعماهم، وإنما قال: ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، والحكمة في ذلك أنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب الاستماع، ويلزم من ذهاب الأعين ذهاب الإبصار، فلو أن إنساناً قطعت أذنه فإنه لا يفقد حاسة السمع تماماً، لكن لا شك أنه سيتأثر؛ لأن الأذن لها فائدة عظيمة، لكن يبقى له السمع؛ فلذلك قال: ((فَأَصَمَّهُمْ))، فلو قال: فقطع آذانهم، أو ذهب بآذانهم لما دل ذلك على انتفاء السمع؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب السمع، ثم قال: ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، ولم يقل: (وأعماهم) لأن الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبصار.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى العينين مقدمتين، وجعل الأذنين في الجانبين، والحكمة في ذلك: أن العينين بمنزلة الكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم، وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه، أما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العقل من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه، فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور، فسبحان من بهرت حكمته العقول! وكذلك جعل للعينين غطاء؛ لأن الأذن تجلب الأصوات، والأصوات عبارة عن طاقة لا بقاء لها، فلو جعل على الأذنين غطاء لذهب الصوت قبل ارتفاع الغطاء.
فتزول المنفعة المقصودة، وأما نظرة العين فأمر فائت، فالعين محتاجة إلى غطاء يقيها، وحصول الغطاء لا يؤثر في الرؤية قال بعض أهل العلم: عينا الإنسان هاديان، وأذناه رسولان إلى قلبه، ولسانه ترجمانه، ويداه جناحان، ورجلاه بريدان، والقلب ملك، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطاً ونفوذاً يقوم به بعضها مقام بعض؛ ولهذا يقرن بينهما سبحانه كثيراً في كتابه، فقال عز وجل: {ِإنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]، وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وقال أيضاً: {َفإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، إذاً: فالعبرة ببصيرة القلب لا بالعين الباصرة؛ ولذلك جاء في حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (انطلقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى، ونجد العلماء يقولون عند وصف العالم الضرير: الشيخ فلان بن فلان البصير بقلبه، وهذه إشارة إلى أنه لا يرى بعينه، لكنه بصير بقلبه، كيف لا وقد آتاه الله كتابه! فهذا تأدُّبٌ بأدب النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (انطقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار، وقال قتادة وغيره: معنى الآية: يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء.
وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى؟! ألم يسفكوا الدماء الحرام، ويقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله أخوة.
فإذاً: إذا كان المقصود بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]: أن تقطعوا رحم الإسلام والإيمان بالقتل الذي يكون بين المسلمين، فالرحم على هذا هو عام وليس الرحم الخاص، فالمقصود به رحم الأخوة الإيمانية التي سماها الله أخوة بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وعلى قول الفراء: أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية فالمراد: من أضمر منهم نفاقاً، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة؛ لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره.(116/3)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وهذه آية جامعة عظيمة، والكلام فيها يطول جداً، وإذا أفردنا الكلام الذي ينبغي أن نقوله حتى نستوفي جزءاً من فوائد هذه الآية الكريمة فسوف يكون الكلام كثيراً جداً، ويكفي أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر هذه الآية في مائة وخمسة وخمسين صفحة في كتابه الرائع: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، ففسر فيها هذه الآية العظيمة، واستنبط منها العبر، وربط ما دلت عليه بواقع المسلمين في العلم والعمل.
قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، قرأ الجمهور: ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، وقرئ: (أم على قلوب إِقفالها) بكسر الهمزة، على أنها مصدر.
قال ابن القيم رحمة الله عليه: يريد على قلوب هؤلاء أقفال.
((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، قد بدت على قلوب أقفالها يعني: على قلوب هؤلاء المذكورين في الآية.
وقال مقاتل: يعني: أن هذه الأقفال قد طبعت على القلوب.
عن عروة بن الزبير قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به)، أي: لأنه فقه معنى هذه الآية.
وأصل القفل: اليبس والصلابة، يقول القرطبي: فالأقفال هنا إشارة إلى إرتياج القلب وخلوه عن الإيمان، أي: فلا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأن الله طبع على قلوبهم، وقال: ((عَلَى قُلُوبٍ))؛ لأنه لو قال: على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة، والمراد: أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها؟! وهذا الاستفهام قيل: إنه للإنكار، وقيل أيضاً: ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، أم: هي المنقطعة، ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، بل: ((عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، فهم لا يفهمون ولا يعقلون، والمراد قلوب هؤلاء المخاطبين.
قوله: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، يقول: أصل التدبر: التفكر في عاقبة الشيء، وما سيئول إليه أمره.
وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الذهن، ويشترط فيه تقليل الغذاء والكلام، وإخلاص النية، والآيات بعمومها تشمل كل من لا يتدبر القرآن ولا يتأثر به، ويدخل فيه من نزلت فيه الآية أولاً، والمقلدة الشاردة عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم الذين: ((عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)).
وإن كان في هذا الحصر نظر.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الهمزة في قوله: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ)) للإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة على أصح القولين، والتقدير: أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن؟! وقال رحمه الله: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68]، وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف:57].
وقال الشنقيطي أيضاً: وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
وكما ذمت النصوص من لا يتدبر القرآن ففي الجانب الآخر مدحت وأثنت على من تدبر القرآن وتعلمه وعمل به، فجعلهم صلى الله عليه وسلم خير الناس، فكما أن خير الكلام كلام الله فكذلك خير طلبة العلم من طلب علم القرآن، فالقرآن أفضل وأكمل وأعظم ما يشتغل به، وقد وردت خيرية هذا في حديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فخير العلماء من علم القرآن، وخير المتعلمين من تعلم القرآن، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل القرآن فقال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
وقال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
قال البغوي في تفسيرها: قال ابن عباس: ((كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)) أي: كونوا فقهاء معلمين.
وقيل: سمى العلماء ربانيين لأنهم يربون العلم، أي: يقومون به، يقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رباً له، وقيل: سمو ربانيين لأنهم يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، وزيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، وقيل: (الربانيون): هم العلماء بالحلال والحرام.(116/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25].
أما القراءات في هذه الآية الكريمة فقرئ قوله عز وجل: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)).
في قراءة أخرى: (وأُملِيَ لهم)، والقراءة الثالثة: (وأُمليْ لهم).
فعلى القراءة الأولى: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) إما أن يكون الذي أملى لهم هو الشيطان، وإما أن الله سبحانه تعالى هو الذي أملى لهم.
والقراءة الثانية: (الشيطان سول لهم وأُملِيَ لهم) فيها نفس الاحتمالين.
والقراءة الثالثة: (الشيطان سول لهم وأُمليْ لهم) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملي لهم.
وقال ابن جرير: وأولى هذه القراءات بالصواب التي عليها عامة قراء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك؛ لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار.
يعني قراءة: ((أَمْلَى لَهُمْ)).
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) فجملة المبتدأ والخبر: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ))، وهذه الجملة في محل نصب خبر إنّ.
والظاهر في قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)) أنهم قوم كفروا بعد إيمانهم.
وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بُعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به.
إذاً: فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)) لو قلنا: إن المقصود بها اليهود لعنهم الله، فإن ارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوه وتيقنوه، وهذا هو سبب استعمال كلمة: ((ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ))، أي: رجعوا عما كانوا عليه من التصديق والإيمان بنبي يبعث صفته كذا وكذا، فلما عرفوه وتيقنوه كذبوه، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
فكلمة: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ) تشير إلى معنى قوله تعالى: ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى))، فهم قد عرفوه كما في قوله: ((فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا)) [البقرة:89].
وقوله تعالى: (كَفَرُوا بِهِ) يشير إليه قوله تعالى: ((ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)).
وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن.
قال بعض العلماء: وهذا أولى؛ لأن السياق في المنافقين، وهذا القول في التفسير نصره شيخ المسلمين وإمامهم بلا منافس ولا منازع الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فقد قال: هم أهل النفاق، وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا أشبه منها بصفة أهل الكتاب وذلك أن الله عز وجل أخبر أن ردتهم كانت لقيلهم للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، ولو كانت من صفة أهل الكتاب، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم أنهم إنما ارتدوا من أجل قيلهم ما قالوا، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى هو إغواء الشيطان لهم، كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) أي: زين لهم الكفر والارتداد عن الدين.
قوله: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) أي: مد لهم في الأمل، ووعدهم طول العمر، وطول الأمل من أعظم أسباب الكفر وارتكاب المعاصي.
ويشهد لهذا المعنى أي أن يكون الإملاء من الشيطان قوله تبارك وتعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]، وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64].
ويشهد: لكون هذا الإملاء والإمهال من الله عز وجل قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه الكفار، فهم في قبضته، وتحت سلطانه، لكنه يستدرجهم ويملي لهم، فيزدادون بذلك اغتراراً، ويتمادون في الكفر والصد عن سبيل الله، فلذلك يستحقون المزيد من العقوبة كما قال هنا: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56] أي: إنما هو استدراج، وقد صح في هذا المعنى حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44]).
فهذا استدراج وليست هذه علامة اختيار واصطفاء كما يزعم بعض الناس، فإنهم يقولون: إن الله يحبنا؛ فقد أعطانا كذا وكذا، وهذه المقاييس تدل على على الاغترار بالله، قال تعالى: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] فهذا اغترار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]، وبعض الناس يتمادى في المعاصي ثم يقول: ربنا كريم، وربنا غفور رحيم، وغير ذلك من التعلق بنصوص الرجاء مع قطعها عن نصوص الوعيد، فتجد المرأة متمادية في التبرج والسفور ثم تقول: هذا بيني وبين ربنا، والمهم القلب، فالقلب أبيض، والقلب صافٍ، فهذا نوع من الاغترار، بل هو استدراج كما يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)، فهو يتمادى في المعاصي والله يعطيه ويزيده وهذا استدراج له، فليتفطن الإنسان لذلك، (ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) [الأنعام:44])، من الرزق والمال والصحة والبركات والخيرات، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44]، أي: فرحوا فرحاً لا يحبه الله، وهذا كما قال فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].
قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، فهذا فيه زيادة حسرة عليهم، أي: إذا أخذوا بغتة وهم في هذا الرغد.(116/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}.
قوله: (ذَلِكَ) أي: ما تقدم من التمهيل والإملاء، أو أن المراد ارتدادهم على أعقابهم.
قوله: ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا)) يعني: هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، ((قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ))، قيل: هم المشركون.
قوله: ((سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ))، هذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما جاء به.
وفي قول آخر في: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ)) أن القائلين هم اليهود، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا))، أي: اليهود ((قالوا للذين كرهوا ما نزل الله)) وهم المنافقون، وقيل المعنى: إن المنافقين قالوا لليهود: ((سنطيعكم في بعض الأمر)) كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم إذا خرجوا، والتظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11]، فقال الشنقيطي: التحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله، يعني: سواء كانوا من المنافقين أو اليهود أو المشركين، فهي عامة في كل من كره ما أنزل الله سبحانه وتعالى.
قوله: {والله يَعْلَم إِسْرَارَهُمْ} قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم: (والله يعلم أسرارهم)، هذه قراءة عامة القراء (والله يعلم أسرارهم) بفتح الهمزة، جمع سر.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (إسرارهم) بكسر الهمزة على أنها مصدر أسر كقوله: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:9] وقد قالوا لهم ذلك سراً، فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون.
قال شيخ المفسرين رحمه الله: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمفيدة.
قال ابن كثير رحمه الله: والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله، بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:27 - 28].(116/6)
الشرك في الحكم كالشرك في العبادة
هناك بعض التوضيحات التي تتعلق بهذه الآية الكريمة وهي مستقاة من (أضواء البيان)، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى مبيناً بعض المسائل منها: أن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة، قال الله سبحانه وتعالى في حكمه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] وهذا على أساس أن (لا) هنا نافية، أي: أن الله لا يشرك في حكمه أحد، تأمل استعمال الإشراك في الحكم، ذلك لعلم الله أن هناك شركاً في الحكم كالشرك في العبادة.
وفي قراءة ابن عامر من السبعة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) يعني: لا تشرك يا نبي الله في حكمه أحداً، أو لا تشرك أيها المخاطب! في حكم الله أحداً.
وقال سبحانه في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالأمران سواء، وكلاهما شرك بالله العظيم، فالحلال حلال الله، والحرام حرام الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه.
أي: إذا حكم إنسان بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى معتقداً أن شرع المخلوق مثل شرع الله فهو كافر، أو أن شرع المخلوق أفضل من شرع الله فهو -من باب أولى- كافر مشرك، وكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]، أي: لما أطاعوهم في قتل الألاد.
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فسمى هؤلاء الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء.
وذكر تعالى أن الشيطان يقول للذين كانوا يشركون به في الدنيا: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22].
إذاً: فهذه هي المسألة الأولى، وهي: أن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة.(116/7)
ورود الأدلة على أنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى
المسألة الثانية: الأدلة على أنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى: يقول الله عز وجل: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [يوسف:67]، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقال عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقال أيضاً: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، أنه لا يشك في كفرهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.(116/8)
بيان صفات من يستحق أن يكون الحكم له وحده
المسألة الثالثة: بيان صفات من يستحق أن يكون الحكم له وحده، فنقول: إنه لا حكم إلا لله، وهذا ناشئ عن صفات اختص الله سبحانه وتعالى بها توجب توحيده في الحكم، كما توجب توحيده في العبادة، فعلى كل عاقل أن يتأمل صفات من يستحق أن يكون له الحكم وحده، ويقارنها ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع؟! سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن تكون- فحينئذ فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
يقول تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:10 - 12].
فلنتأمل هذه الصفات، فمن اتصف بها فإنه يستحق أن يكون الحكم له وحده، فمن هو المتصف بهذه الصفات من هؤلاء الذين يشرعون من دون الله، ويحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله عز وجل ويضادون الله في خلقه، أين هم من هذه الصفات، هل هم أربابنا الذين خلقونا ورزقونا؟ هل يستحقون أن نتوكل عليهم، وأن ننيب إليهم؟ هل منهم أحد يتصف بأنه فاطر السماوات والأرض؟ أو أنه هو الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً؟ هل واحد منهم ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير؟ هل فيهم من يدعي أنه له مقاليد السماوات والأرض، وأنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأنه بكل شيء عليم؟ كذلك قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
هل فيهم أحد ينطبق عليه أنه لا إله إلا هو، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وأن له الحكم وإليه نرجع؟ كل هذا لا ينطبق إلا على الله سبحانه وتعالى.
كذلك قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].
هل فيهم أحد يستحق أن يوصف بأنه هو العلي الكبير؟! وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70].
ثم ذكر عز وجل أيضاً من صفاته التي يستحق بها أن يكون له الحكم وحده والعبادة له وحده: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71 - 73]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
كل هذه الصفات الجليلة لا يوصف بها أي من الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، ولا يدعيها أي منهم، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.(116/9)
الكفر بالشيطان شرط في صحة الإيمان
ومن هذه المسائل أيضاً: أن الشيطان إله باطني يُعبد من دون الله عز وجل، وأن طاعة الشيطان شرك بالله العظيم، وأن الكفر به شرط في صحة الإيمان، ولما كان التشريع وجميع الأحكام -شرعية كانت أو كونية قدرية- من خصائص الربوبية كما بينا كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً، وأشركه مع الله.
ومما يدل على ذلك: المناظرة التي جرت بين حزب الرحمن حزب الشيطان، فقد أوحى الشيطان إلى أوليائه المشركين فقال لهم: سلوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من الذي قتلها؟ فأجابهم بأن الله هو الذي قتلها، إذاً ذبيحة الله، فكيف تقولون: إن ما ذبحه الله حرام مع أنكم تقولون: إن ما ذبحتموه بأيديكم حلال؟! فأنتم إذاً أحسن من الله وأحل ذبيحة!! فأنزل الله -بإجماع من يعتد به من أهل العلم- قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) يعني: الميتة، حتى لو زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب في زعمهم.
والضمير في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] عائد إلى الأكل المفهوم من قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُو))، فإنه -أي: الأكل منها- (لَفِسْقٌ)، أي: خروج عن طاعة الله، واتباع لتشريع الشيطان.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فصارت هذه فتوى سماوية لمن خالف الله جل وعلا واتبع تشريع الشيطان بأنه مشرك بالله.
وقال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100]، يعني: فيما يأمر به من الكفر والمعاصي.
وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] * {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61].
وقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]، يدعون هنا بمعنى: يعبدون.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41] أي: أنهم كانوا يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي، على أصح التفسيرَيْن.
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:31] كيف اتخذوهم أرباباً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: بأنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً.
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئاً يعلمون أن الله حرمه، أو حرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم بذلك يزدادون كفراً جديداً مع كفرهم الأول، قال تعالى: ((ِإنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا)) إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37]، فهذا يدل على الكفر في الأصل، ثم ما يأتون به من النسيء، وهو تحليل المحرم وتحريم صفر مكانه، فهذا مضاد لشريعة الله، وهو زيادة كفر على كفرهم الأول.
ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الكفر بالطاغوت شرط في صحة الإيمان، فلا يصح الإيمان بالله سبحانه وتعالى إلا بالكفر بالطاغوت.
فلا يصح الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فلا يقل أحد: أنا أعبد ربنا، ثم تراه يشرك مع الله غيره، ويظن أن عبادته تلك تصح! لا، فإن معنى (يعبدوني) أي: وحدي، وهكذا كل فعل أمر في القرآن، فقوله: (اعبدوا الله) معناها الدائم: اعبدوا الله وحده، ولذلك نقول دائماً في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
إذاً: فلا بد من الاثنين معاً، فتجريد التوحيد لله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وحده؛ ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهذه أحد أسماء كلمة التوحيد، ومعناها: لا إله حق إلا الله.
فيفهم من هذه الآية الكريمة أن من لم يكفر بالطاغوت فإنه لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يتمسك بها فهو هالك مع الهالكين.
ومعنى لا إله إلا الله أُشير إليه في كثير من المواضع في القرآن، كما في سورة الزخرف قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28].
فعبر هنا عن كلمة التوحيد بالمعنى، ولذلك قال: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)) يعني: كلمة لا إله إلا الله.
فقوله: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)) هذا معنى: لا إله وهو كفر بالطاغوت.
وقوله: ((إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) هو بمعنى: إلا الله، وهو الإثبات.
وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] إلى قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى حال الذين يكرهون ما أنزل الله، وبين أيضاً واجب المسلمين نحوهم في قوله عز وجل: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13] أي: شق عليهم وعظم على أنفسهم.
وهذا التكبر والاستكبار والاستنكاف عن الانقياد لشرع الله نجده أوضح ما يكون في هذا الزمان، وفي العالم الجديد، وهو عند أولئك وهم الملاحدة الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وأما إذا ذكرت لهم القوانين الدولية، وحقوق الإنسان، والقوانين الوضعية، فإنهم يستبشرون بذلك وتتهلل أساريرهم، فينطبق هذا الوصف تماماً على الملاحدة العلمانيين الزنادقة في هذا الوقت، فإنهم يكرهون ما أنزل الله، ويزهدون في أن يحرفوا الناس عن شرع الله، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13].
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس:71].
وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، فهذا يدل على شدة بغضهم لما يدعوهم إليه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72]، وفي يوم من الأيام هاجمت أمينة سعيد العلماء الذين يطالبون بالعودة إلى شرع الله فقالت: كيف نخضع لفقهاء أربعة، ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وقال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، فهذا حالهم، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6].
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:7 - 8]، وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُ(116/10)
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)
قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} هذه الفاء لترتيب مع بعدها على ما قبلها، و (كيف) في محل رفع خبر مقدم، والتقدير: فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟! أو هي في محل نصب لفعل محذوف، والتقدير: فكيف يصنعون إذا توفتهم الملائكة؟! أو أن (كيف) خبر لكان مقدرة، أي: فكيف يكونون إذا توفتهم الملائكة؟! والظرف معلوم للمقدر إذا.
وأما جملة (يضربون) فهي في محل نصب حال.
وأما القراءات في هذه الآية: فقرأ الجمهور: ((فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ))، وقرأ الأعمش: (فكيف إذا توفاهم الملائكة).
قوله: ((يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ)) أي: يضربون وجوههم التي ولوها عن الله إلى أعداء الله؛ لأنهم كانوا يوالون أعداء الله، وكانوا يقولون: ((لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ)).
ولوا وجوههم إلى أعداء الله وصرفوها عن الله، فلذلك تأتي الملائكة عند خروج أرواحهم يضربون وجوههم وأدبارهم التي ولوها عن الأعداء إلى الله، وفي الكلام تخويف وتهديد، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه.
وقيل: لا يتوفى أحد على معصية إلا وتضرب الملائكة في وجهه ودبره، وقيل: ذلك عند القتال؛ نصرة من الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضربون وجوههم عند الطلب، وأدبارهم عند الهرب، فإذا كانت الملائكة تطاردهم وجهاً لوجه فيضربون وجوههم، أما إذا أدركتهم الملائكة وهم يفرون فإنهم يضربون أدبارهم عند الهرب.
وقيل: ذلك يوم القيامة عند سوقهم إلى النار، والأول أولى، أي: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فعما قريب سيأتيهم الأجل شاءوا أم أبوا، ويشهد لهذا -يعني: يشهد لهذا القول أنه عند الاحتضار- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93] ((بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ)) أي: بالضرب، {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ)) أي: ذلك التوفي المذكور على الصفة المذكورة، ((بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)) من الكفر والمعاصي، وقيل: كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وسلم، والأول أولى؛ لما في الصيغة من العموم، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ))، وهذه صيغة عموم تعم كل ما يسخط الله، ولا تقتصر على التكذيب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ)) أي: كرهوا ما يرضاه من الإيمان والتوحيد والطاعة، والإسخاط: هو استجلاب السخط، وهو الغضب هنا، ((وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ))؛ لأن من أطاع من كره ما أنزل الله فقد كره رضوان الله؛ لأن رضوان الله تعالى ليس إلا في العمل بما نزل، فاستلزم كراهة ما نزل كراهة رضوانه؛ لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه فهو ككارهه، ((فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة، وإلا فلا عمل للكافر، أو أحبط ما عملوه قبل الردة من أعمال الخير.(116/11)
تفسير سورة محمد [28](117/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28].
قوله: (فأحبط أعمالهم) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة.
فنلاحظ هنا في الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن للكافرين أعمالاً، وهذه الأعمال في الظاهر هي أعمال صالحة، وقد تكون أعمالاً صالحة عملها قبل الردة، فإنه يحبطها.
وهنا نقف وقفة مهمة جداً تتعلق بعمل الكافر.(117/2)
شروط العمل الصالح المقبول
لقد دل القرآن العظيم على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة شروط: الشرط الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه ولا يقبل.
الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [البينة:5]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
الشرط الثالث: أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة، وهو المتابعة والاقتداء بالنبي عليه السلام، لابد أن يكون موافقاً للسنة.
أما الشرط الثالث فهو: أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إلى آخر الآية، فلا ينال هذا الثواب إلا إذا توفرت صفة الإيمان: ((وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) فقيد ذلك بالإيمان، فمفهوم المخالفة أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.(117/3)
الآيات الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة ويجازى به في الدنيا
قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124].
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40]، ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بالإخلاص فإن ذلك لا ينفعه؛ لفقد شرط القبول وهو الإيمان بالله جل وعلا، فينبغي الالتفات إلى هذا الأمر، وذلك أن اتصاف الإيمان يكون سبباً في حدوث عمل الآخرة، ولذلك شاع عند العلماء عبارة تلخص هذا القضية وهي قولهم: سيئة الموحد خير من حسنة المشرك، فالشخص الموحد يشهد أن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى ويؤدي لوازم ذلك، فمع التوحيد يعمل السيئة، فهذه المعصية أفضل من الحسنة التي يعملها المشرك، فإذا قصر الموحد في شيء معين أو ارتكب سيئة معينة، فهذه السيئة بالنسبة لحسنة المشرك هي أفضل منها، مع أن هذه سيئة وهذه حسنة، لكن هذه صادرة من موحد، فإنه غاية ما في الأمر أنها تنقص إيمانه، أو أنه يعذب من أجلها إن لم يعف الله عنها، أو تكفرها أعمال صالحة أخرى، وأما حسنة المشرك فلا تنفعه مع الشرك؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، والكلام عن هذه المسألة نسبي، فلا نقول: إن السيئة أمر طيب، ولا نقول: يا أيها الموحدون! تمادوا في السيئات، لا، لكننا نذكر موازنة الأعمال السيئة، فمع كونها قبيحة من الموحد لكنها أفضل من حسنة المشرك.
وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذا المفهوم في آيات أخر، فقال في هذه الآيات التي ذكرناها: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:124] فالاستدلال هنا على حرية الناس استدلال بالمفهوم على أن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، ومثل قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ} [غافر:40] إلى آخره، فالاستدلال هنا بالمفهوم لا المنطوق، فالمفهوم: أن غير المؤمن إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك؛ لأنه فقد شرط القبول وهو الإيمان، وهذا المفهوم وضحته آيات أخرى، بل صرحت به بدلالة المنطوق آيات أخرى منها: قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فهذا منطوق، وهو أقوى بلا شك.
وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18].
وقوله تعالى في سورة النور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، وكذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19].
وقد بين الله سبحانه وتعالى في مواضع أخر أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولا حظ له منه في الآخرة.
إذاً: فعمل الكافر في الآخرة يحبط ويبطل، أما في الدنيا فإنه ينفعه إذا شاء الله ذلك، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].(117/4)
الأحاديث الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة وأنه يجازى به في الدنيا
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم العباد شيئاً، فالمؤمن تنفعه الحسنة في الدنيا وفي الآخرة: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته) يعني: أن الأعمال الحسنة والصالحة التي عملها الكافر ابتغاء وجه الله في الدنيا كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الحديث، والوفاء بالمواعيد وغير ذلك، فقد توجد في الكافر بعض الأعمال الصالحة وهو يعملها لله، لكنه غير مؤمن، ولم يشهد بشهادتي التوحيد، فهذا يطعم بحسناته التي عملها لله في الدنيا، فيثاب بسعة الرزق، أو بالصحة، أو بالمال، أو بالجميل، بالجاه وهكذا؛ فالدنيا هي جنة الكافر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، فهذه الحياة الدنيا هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يثاب فيها على أعماله، وأما الآخرة فلا يمكن لغير مؤمن وغير الموحد أن ينفعه أي عمل فيها.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).
وفي مسلم أيضاً عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته).
وهذا الذي أشرنا إليه من دلالة القرآن والسنة على أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك كله مقيد بمشيئة الله تعالى، كما نص على ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فهذه الآية تقيد ما ورد من الآيات المطلقة، فهي مقيدة بأن يشاء الله سبحانه وتعالى ذلك، وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق لاسيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار)، فهذا صريح في أن من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أرسل به، وبلغه ذلك على الوجه الذي أنزله الله عليه ثم لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام أن مصيره إلى النار، ولا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مجوسي أو لا ديني.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أسلفها)، فهذه نصوص أخرى تضيف قيداً جديداً وهو: أن أعمال الكافر في حياته تظل موقوفة، أي: ينتظر به، فإذا أسلم أثيب على أعماله الصالحة التي عملها حال كفره، فتنفعه إذا أسلم، وإذا لم يسلم أخذ بالأول والآخر كما ستبين هذه الأحاديث.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها -يعني: حتى قبل إسلامه-، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك الكتاب: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)، فهذه حال الكافر إذا أسلم، فأول ما يسلم فإنه يمحى عنه ما أمضى من السيئات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما كان قبله ويمحوه.
إذاً: فهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة، فإن أسلم قبلت وإلا ردت، وعلى هذا فقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19]، ونحوها من الآيات يجب أن تحمل على من مات على الكفر، ولا دليل على خلاف ذلك، وفضل الله سبحانه وتعالى أوسع من هذا وأكثر، فلا استبعاد له.
عليه الصلاة والسلام: (الإيمان يجب ما قبله) هل المراد به السيئات فقط، وأما الحسنات فدلت هذه الأحاديث على أن الإيمان لا يحبط الحسنات السابقة.
ويترتب على هذا مسألة فقهية، وهي: إذا حج المسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام فهل يحبط حجه أم لا يحبط؟ اختلف الفقهاء في هذا، لكن الكلام الذي ذكرناه يرجح أنه لا يحبط، ولا يجب عليه إعادته، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد قولي الليث بن سعد، واختاره ابن حزم وانتصر له بكلام جيد نفيس.
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية -أتعبد بها في الجاهلية- من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير)، رواه الشيخان وغيرهما، فهذا يدل على أن الإسلام يجب السيئات فقط، وأما الحسنات فتبقى ويثاب عليها رحمة من الله سبحانه وتعالى.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ فقال: لا يا عائشة! إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، رواه مسلم.
قوله: (إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) يعني: أنه لم يكن موحداً، بل كان مشركاً.
إذاً: هذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على أن الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية، بخلاف ما إذا مات على كفره فإنه لا ينفعه، بل يحبط بكفره، وفيه دليل على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو كانوا كذلك لم يستحق ابن جدعان العذاب، ولما حبط عمله الصالح.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فقال فيما قال: من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا)، رواه الروياني، وسنده حسن.
وهذا فيه إبطال لحديث شائع على ألسنة الخطباء والوعاظ، وكثير من الناس، وهو: أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الذمة: (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا).
وهذا الكلام لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحيح هو هذا الحديث في أنه إنما قال ذلك فيمن أسلم من أهل الكتاب والمشركين.(117/5)
شبهة مدح اليهود والنصارى بما عندهم من صفات حميدة
وهنا شبهة قد يذكرها بعض الناس، فيقول مثلاً: على المؤمنين من المسلمين والنصارى واليهود أن يجتمعوا ويتكتلوا؛ لمواجهة الملحدين مثلاً، وهذا يشيع للأسف الشديد على ألسنة عمائم كبيرة جداً ضخمة، فيقولون مثل هذا الكلام، وخاصة في مؤتمرات التقارب بين الأديان، فيستعملون مثل هذه العبارة الفظيعة، فيدخلون هؤلاء في وصف الإيمان، وبعضهم مثلاً يصف الكافر الفلاني بأنه مؤمن، ويعني: بأنه يؤمن بأن هناك إلهاً -الإيمان بتوحيد الربوبية-، فبعض الناس الجهلة يسمى هذا إيماناً، على هذا فـ أبو جهل كان مؤمناً، وأبو لهب كان مؤمناً، وكفار قريش كانوا مؤمنين، لأنهم كانوا مؤمنين بتوحيد الربوبية بنص القرآن قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فهؤلاء يجعلون أن الكافر هو الذي ينكر وجود الله، وهذا ليس بصحيح، بل عامة الكفرة حتى فرعون كانوا يؤمنون بأن هناك إلهاً، والدليل على هذا صريح في القرآن كما ذكرنا مراراً، بل لم يحك في القرآن عن طائفة أنها أنكرت وجود الله، بل حتى الدهرية لم ينكروا وجود الله، وإنما أنكروا البعث والنشور.
فوصف اليهود أو النصارى بأنهم مؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالله يعتبر هدماً للإسلام من أساسه؛ لأن هذا يضيع الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، فالدلالة واضحة من الآيات في القرآن الكريم والسنة على ذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]، وكذلك تكفير القرآن الكريم لليهود وأمثالهم.
وقد يشتبه هذا الأمر على بعض الناس خاصة إذا فتنوا بما عليه الكفار من بعض السلوكيات التي ضيعها بعض المسلمين للأسف، وهذا يحصل لكثير من الناس الذين يخالطونهم ويعاشرونهم، فيطلق بعضهم لسانه في ذم المسلمين، ويطلق لسانه أيضاً في مدح الكفار قائلاً: وهؤلاء عندهم عدل! هؤلاء عندهم إنصاف!! حتى أن بعض الملوثين الذين ذهبوا إلى عصابة اليهود في فلسطين المغتصبة يرجع ويتكلم بهذا الكلام كما نشر في بعض الجرائد، ويقول: إن اليهود لم يمسوا حقي، ولم يتعرضوا لي إلى آخر هذا الكلام.
وبغض النظر عن السر وراء هذه السلوكيات الموجودة عند الكفار خاصة في أوروبا أو أمريكا أو البلاد الغربية، وأنها سلوكيات تجارية في الحقيقة ليست مبنية على مراقبة الله, وفي نفس الوقت يريدون أن يتعاونوا ويريح كل واحد الآخر؛ حتى يستطيع أن يتمتع بالحياة بصورة مستوفاة جيدة، لكن انظر إلى أخلاقهم حينما يأتون إلى بلادنا فكم عذبوا، وكم أحرقوا، وكم قتلوا، وكم نهبوا! وإلى اليوم ونحن نراهم في البوسنة والهرسك على نفس الأخلاق، وتراهم الآن في العراق وفي غيرها وحوشاً كاسرة يدمون قلوب الشعوب، ويستذلونهم استذلالاً لا مثيل له، وليست هذه الآن قضيتنا، لكن كيف نزن الأمور؟ فبعض الناس يقول لك: أنا أشتري من الكافر هذا؛ لأنه أمين، ولأنه كذا وكذا، ويفتن بالكافر ويطلق لسانه في ذم المسلم، فهذا خلل شديد جداً في فهم مثل هذا الإنسان؛ فالمشركون قد يتلبسون ببعض شعب الإيمان، والمسلم قد يأتي ببعض شعب الكفر، أي: أنه من الممكن أن نجد مثلاً بعض الكفار أميناً، وصادقاً، يحترم مواعيده إلى آخره، ومن الممكن أن نجد مسلماً يفعل عكس ذلك، فقد يتلبس المسلم ببعض شعب الكفر لكنه يبقى مسلماً، وقد يتلبس الكافر ببعض شعب الإيمان لكنه يبقى كافراً، فالكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، والإيمان أصل له شعب متعددة، وأعلى شعبة من شعب الإيمان هي: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ثم بينهما شعب متفاوتة في أهميتها وخطورتها، وهناك بعض الشعب إذا زالت زال الإيمان بالكلية، فمن شعب الإيمان ما يزول بزوالها الإيمان بالكلية، كشعبة لا إله إلا الله، فمثلاً شخص عنده شعب كثيرة من شعب الإيمان، لكن شعبة: لا إله إلا الله ليست موجودة عنده، فكل الذي يعمله حابط في الآخرة ولا ينفعه؛ لأن هذه الشعب بينها علاقة الشرط بالمشروط، فتكون شرطاً في صحة باقي الشعب، ومن شعب الإيمان ما لا يزول الإيمان بزوالها، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب.
وكذلك الكفر أصل له شعب، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفراً، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً، ولا من معرفة بعض مسائل الفقه أو الطب أن يسمى فقيهاً وطبيباً، إذ لا يلزم الاسم إلا بغلبة ذلك عليه، وإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من شعب الإيمان فهذا الإيمان ينفعه في عدم الخلود في النار، لكن هل ينفعه في عدم دخول النار؟! لا، فقد يسلم، وقد يدخل النار لكن لا يخلد فيها، إذاً: فالتوحيد ينجي من الخلود في النار لا من دخول النار، وأوضح ذلك حديث الشفاعة، فالشفاعة تكون في أهل الكبائر من أمة النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من الإيمان فذلك الإيمان ينفقه، لكن لا نقول ينفعه في عدم دخول النار، ولكن في عدم الخلود في النار، إلا إذا كان الفعل المتروك شرطاً في صحة شعب الإيمان الأخرى، فإذا كان المتروك شرطاً في اعتبار الباقي لم ينفعه، ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه قد قال: لا إله إلا الله، لكن لم يشهد أن محمداً رسول الله، فلا ينفعه ذلك.
لذلك إذا قلنا: إن أعلاها لا إله إلا الله فنضيف معها: وأن محمداً رسول الله، ولا تنفع الصلاة من صلاها عمداً بغير وضوء؛ لأن هناك شعبة قبل شعبة الصلاة هي شرط في صحة الصلاة، وهي شعبة الطهارة والوضوء، فشعبة الطهارة شرط في شعبة الصلاة، فمن صلى دون أن يأتي بهذا الشرط بطل يبطل هذا المشروط.
إذاً: شعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق الشرط بمشروطه.
وكذلك كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله شرط في صحة باقي شعب الإيمان، فمن الجور والجهل والعدوان أن يفضل الكافر الذي افتقد شعبة لا إله إلا الله على المؤمن العاصي الذي معه لا إله إلا الله، فمن جهل الشخص أن يمدح النصراني؛ لأن كل همه هي الدنيا، فما دام أنه يُعطيه الفلوس ويُريحه في البيع والشراء فإنه يمدحه، ويطلق لسانه بالقصائد في مدح الكفار وذم المسلمين، فقد ترك حق الله ونظر في حق نفسه، فيقول: هؤلاء الكفار عندما أذهب إليهم يعاملوني معاملة فيها عدل، وإنما الظلم موجود عند المسلمين إلى آخره، فيقال له: فهم ليس عندهم أحياناً الظلم الموجود عند المسلمين؟! بل عندهم أكبر وأفظع ظلم في الوجود وهو الشرك، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فقد نسي حق الله وبحث عن حق دنياه، فهذا مما نحتاج فيه إلى أن نستعيد الوعي بهويتنا وعقيدتنا وبما أعزنا الله به وشرفنا على العالمين قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فبعض الناس يتعامل مع هؤلاء الكفار على أنهم أناس فوق العالم، فيعظمهم ويبجلهم ويحترمهم أشد الاحترام.(117/6)
الأشياء التي تحبط أعمال العبد
نعود إلى تفسير قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، لنبين بعض ما يحبط أعمال المؤمن، حتى نكون على حذر من هذا الخطر العظيم.
صح عن أبي عامر الألهاني رضي الله تعالى عنه واسمه عبد الله بن غابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
فعلى الإنسان أن يحذر أن يأتي بهذا الفعل، وهو عدم مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب) كما في بعض الروايات.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهراًً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره -يعني: تكفير السيئات-، ولا مبطل يحبطه من عُجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يمنّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه من يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحفظ، وليس الشأن في العمل، وإنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فقد يعمل الإنسان العمل الصالح ثم يحبطه بعد ذلك، فليس الشأن فقط في أن تعمل العمل الصالح، لكن المهم جداً أن تحفظ هذا العمل مما أحبطه.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصى، يقول الله تعالى: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264].
وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض، وهذه ليست ردة، وإنما هي معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فالآية تنهى الإنسان إذا خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرفع صوته فوق صوت النبي؛ أن رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام يحبط العمل، فقد يغضب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فيغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحبط عمل من أغضبه.
فما الظن بمن قدّم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لـ زيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعينة، قالت: (إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) وليس التبايع بالعينة ردة، فغايته أن يكون معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذر.
وهنا نقف وقفة هنا يسيرة مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، فهذا الحديث استدل به من يقول بتكفير المسلم بالمعصية كالخوارج الوعيدية، وقالوا: هو نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، فقال ابن عبد البر: مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله.
إذاً: فهناك تعارض بين مفهوم الآية وبين منطوق الحديث، فمفهومها الآية: أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، أي: أن المؤمن لا يحبط عمله، في حين أن الحديث يقول: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) إذاً: فالتعارض هنا بين مفهوم الآية ومنطوق الحديث، فلابد من تأويل الحديث في هذا الحالة؛ لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح، وتمسك بظاهر الحديث الحنابلة ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر، ويرد على ذلك: بأنه لو كان الأمر على ما ذهبوا عليه لما اختصت العصر بذلك، فأما الجمهور فتأولوا الحديث على عدة تأولات: فمنهم من أول الترك في قوله: (من ترك صلاة العصر)، ومنهم من أول الإحباط في قوله: (فقط حبط عمله)، ومنهم من أول العمل، فالذين أولوا ترك صلاة العصر قالوا: من تركها جاحداً، أي: من ترك صلاة العصر جاحداً فقد حبط عمله، فإذا قال رجل: أنا لا أوافق على أن صلاة العصر فريضة، فالفرائض أربع صلوات فيكون قد جحد وجوبها، فهذا لاشك أنه يخرج من الملة فيحبط عمله؛ لأنه داخل فيمن كفر بالإيمان قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5].
إذاً: من أول سبب الترك قال: المراد به من تركها جاحداً لوجوبها، أو معترفاً أنها واجبة لكنه مستخف مستهزئ بمن أقامها.
وقيل المراد: من تركها متكاسلاً، لكن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهذا القول رجحه ابن حجر رحمه الله تعالى؛ لأن الترك يطلق أحياناً على الجحود، فقوله: (من ترك صلاة العصر) يعني: من جحد.
ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37] أي: إني جحدت.
ومن العلماء من أول معنى قوله عليه السلام: (فقد حبط عمله)، فقال: إنه من مجاز التشبيه، أي: من ترك صلاة العصر فقد أشبه من حبط عمله، وقيل: معناه كاد أن يحبط عمله، وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي: لا يحصل على أجر من صلى العصر، ولا يرتفع له عملها حينئذ.
ومنهم من أول العمل: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) أي: عمل الدنيا الذي بسببه اشتغل وترك صلاة العصر.
وقال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إن الحبط في الآية غير الحبط في الحديث، فالآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وإحباط عمل الكافر غير إحباط عمل المسلم، فيقول القاضي أبو بكر بن العربي: إن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث.
قال في شرح الترمذي: الحبط على قسمين: حبط إسقاط وحبط موازنة، فحبط الإسقاط: هو إحباط الكفر بالإيمان وجميع الحسنات، فهذا المقصود بالآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] فيحبط كل عمل ويضيع.
وأما حبط الموازنة: فهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة، فيرجع إليه جزاء حسناته، بمعنى: أن المعصية التي فعلها وهي ترك صلاة العصر تحبط انتفاعه بها لو كان فعلها في وقت هو أشد ما يكون حاجة إلى أجرها؛ وذلك عند ميزان الحسنات والسيئات، فحينئذ سيتعطل ثواب صلاة العصر التي ضيعها في وقت هو أشد حاجة إليها عند ميزان الأعمال، فهذا هو حبط الموازنة.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: قوله خوف المؤمن من أن يحبط عمله يعني: أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، وبهذا التقدير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات، فهناك فرقة ضالة تسمى الإحباطية، يقولون: إن السيئات تبطل الحسنات! فبعض الناس قالوا: إن الإمام البخاري يؤيد هذا المذهب، فقال الإمام الحافظ: لا، فكلامه إذا فهمناه على حقيقته لا يفيد ولا يؤيد مذهب الإحباطية؛ لأن المقصود خوفه من أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص لله سبحانه وتعالى فيه.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في الرد على الإحباطية: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان: أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين فيكون إذهاباً حقيقياً.
أي: كالكافر إذا أسلم، فإن إسلامه وإيمانه يُحبط الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما قبله)، ولو كان مسلماً ثم كفر -والعياذ بالله- وارتد فإن الكفر يحبط إيمانه أيضاً، وهذا الإحباط إذهاب حقيقي في الجهتين.
النوع الثاني من الإحباط: إحباط الموازنة، فإذا جُعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة، فإما أن يُغفر له، وإما أن يعذب، فالتوقف إلى أن يحكم فيه هذا توقيف وإحباط من نوع معين؛ لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي(117/7)
الأحوال التي تحبط فيها الأعمال الصالحة
نختم الكلام ببعض العبارات من كتاب الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه المحجة في (سير الدلحة) فلها تعلق بموضوعنا.
قال في سبحانه وتعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] هذه الآية كانت تشتد على الخائفين من العارفين، فإنها تقتضي أن من العباد من يبدو له عند لقاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه، معرضاً عنه، غير ملتفت إليه ولا يحتسب له، فإذا كشف الغطاء عاين تلك الأهوال الفظيعة، فبدا له ما لم يكن في حسابه، كما قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: لو أن لي ملك الأرض لافتديت به من هول المطلع، والمطلع: هو مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مُطّلع هذا الجبل في مكان كذا، أي مكانه ومقعده، وفي حديث: (لا تمنوا الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة)، رواه أبو نعيم في الحلية.
وقال بعض حكماء السلف: كم من موقف خزي يوم القيامة لم يخطر على بالك قط، ونظير هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] ومعنى حديد: حاد.
ثم يبين الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى ما يصير هباءً منثوراً من الأعمال، فيقول: النوع الأول: ويشتمل على ما هو أعم من ذلك، وهو أن يكون لهم أعمال يرجون بها الخير فتصير هباءً منثوراً، وتبدل سيئات، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وقال الفضيل في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
النوع الثاني: أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره ويستهزئ به، فيكون هو سبب هلاكه، كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، وقال بعض الصحابة: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، رواه البخاري.
النوع الثالث: يقول: وأصعب من هذا من زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104].
قال ابن عيينة: لما حضرت محمد بن المنكدر الوفاة جزع فدعو له أبا حازم فجاء، فقال له ابن المنكدر: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، فجعلا يبكيان جميعاً.
وفي بعض الروايات فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته! فأخبرهم بما قال.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل له: أنت أنت ومن مثلك؟ فقال: مه! لا تقول هذا لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
النوع الرابع: يقول: وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويل لأهل الرياء من هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ويل لأهل الرياء من هذه الآية! وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: العالم، والمتصدق، والمجاهد.
النوع الخامس: من عمل أعمالاً صالحة وكانت عليه مظالم وعنده حقوق للناس من أموال، أو غيبة ونميمة وغير هذه الأشياء، فهو يظن أن أعماله تنجيه، فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله حتى تنتهي أعماله ولم يأخذوا كل حقوقهم، فيطرح من سيئاتهم عليه ثم يطرح في النار.
النوع السادس: وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم، ففي الحديث: (من نوقش الحساب عذب)، ولو أن الله سبحانه وتعالى عرض على العبد يوم القيامة أعماله فقط فهذا يرجى له أن يستره الله، كما ستره في الدنيا، وأما إذا حصل النقاش فهذه علامة على أنه سوف يعذب، يقول: وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم، وهي: فيقال له: كيف شكرت نعمة الله؟! فتقوم أصغر النعم التي أنعم الله بها عليه فتستوعب أعماله كلها، وتبقى بقية النعم فيطالب بشكرها فيعذب.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من نوقش الحساب عذب أو هلك).
النوع السابع: وقد يكون له سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد، فيدخل النار، ونص الحديث: (فإن من أمتي من يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً) وفيه: (هم قوم من جلدتكم، ويتكلمون بألسنتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
وعن سالم مولى أبي حذيفة مرفوعاً: (يجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة)، وتهامة: هي كل ما نزل من نجد في بلاد الحجاز، فمكة كلها من تهامة.
(يجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة، حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباء ثم أكبهم في النار)، قال سالم: خشيت أن أكون منهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم كانوا يصومون ويصلون، ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كانوا إذا عرض لهم شيء سراً حراماً أخذوه فأدحض الله أعمالهم).
وقد يحبط العمل بآفة من رياء خفي، أو عجب به ونحو ذلك ولا يشعر به صاحبه.
قال ضيغم العابد رحمه الله تعالى: إن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليهم أمران: هم الدنيا، وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: كيف بالقبول، وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله فيجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه، ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وقال ابن عون: لا تثق بكثرة العمل، فإنك لا تدري يقبل منك أم لا؟ ولا تأمن الذنوب، فإنك لا تدري هل كفرت عنك أم لا؟ وبكى النخعي عند الموت وقال: أنتظر رسول ربي ما أدري أيبشرني بالجنة أو بالنار.
وجزع غيره عند الموت قيل له تجزع؟ قال: إنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي.
وجزع بعض الصحابة عند موته فسئل عن حاله؟ فقال: إن الله قبض خلقه قبضتين: قبضة للجنة وقبضة للنار ولست أدري في أي القبضتين أنا! ومن تأمل هذا حق التأمل أوجب له القلق، فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة، من الموت والقبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، كالصراط والميزان، وأعظم من ذلك الوقوف بين يدي الله عز وجل، ودخول النار، ويخشى على نفسه الخلود فيها بأن يسلب إيمانه عند الموت، ولم يأمن المؤمن شيئاً من هذه الأمور قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فتحقق هذه الأمور يمنع ابن آدم القرار.
رأى بعضهم في النوم قائلاً يقول له: وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل وسئل بعض الموتى وكان عابداً مجتهداً عن حاله فأنشد يقول: وليس يعلم ما في القبر داخله إلا الإله وساكنوا الأجداث وفي هذا يقول بعضهم: أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهو وهاموا ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا نهينا أو أمرنا كأهل الكهف أيقاظ نيام وعن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء رضي الله عنه منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء! ما أنت والنفاق، وما شأنك وشأن النفاق؟ فقال: اللهم! غفراً ثلاثاً، لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله! إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة وينقلب عن دينه.
وقال أبو الدرداء: والذي نفسي بيده! ما آمن عبد على إيمانه إلا سلبه أو انتزع منه فيفقده، والذي نفسي بيده! ما الإيمان إلا كالقميص يتقمصه مرة، ويضعه أخرى.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق، وإنه ليأتي عليه أحايين وما في قلبه موضع إبرة من إيمان.
وكان عمرو بن الأسود العنسي إذا خرج إلى المسجد قبض بيمينه على شماله فسئل عن ذلك فقال: مخافة أن تنافق يدي.
وقال معاوية بن قرة: ألا يكون فيّ نفاق أحب إلي من الدنيا وما فيها، كان عمر رضي الله عنه يخشاه وآمنه أنا؟! يشير إلى جزع عمر، فقد كان حذيفة رضي الله عنه قد أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين، فكان عم(117/8)
تفسير سورة محمد [29 - 32](118/1)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29].
يعني: المنافقين المذكورين سابقاً، و (أم) هنا منقطعة فقدره ببل والهمزة، أي: بل أحسب المنافقون الذين في قلوبهم مرض.
((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)): وهو مرض نفاق والشك.
((أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ)) أي: إن لن يظهر، و (الأضغان) هي: ما يضمر من المكروه، وهي جمع ضغن، واختلف في معنى أضغانهم: فقال السدي: رجسهم.
وقال ابن عباس: حسدهم.
وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد: قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصدَيق وشيّد الأضغانا وقيل: أضغانهم: أحقادهم، وقال عمرو بن كلثوم: وإن الضغن بعد الضغن يفشو عليك ويخرج الداء الدفينا وقال الجوهري: الضغن والضغينة الحقد، وقد ضغن عليه ضغناً، وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا على الأحقاد، واضطغنت الصبي: إذا أخذته تحت حجرك.
وأنشد الأحمر: كأنه مضطغن صبياً.
أي: حامله في حجره.
وفرس ضاغن: لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب، والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام، أي أن ذلك مما لا يكاد أن يدخل تحت الاحتمال، بل لابد أن يكشفهم الله سبحانه وتعالى.(118/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)
قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
قوله: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ))، أي: ولو نشاء يا محمد! لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين؛ ستراً منه على خلقه، وحملاً للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، وهو رأي ابن كثير فلو نشاء لأريناكهم جميعاً، فالتعامل في الدنيا بين الناس إنما يكون على ما يظهرون، ولا سبيل إلى الوصول إلى ما يبطنونه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس، ولا أن أشق صدورهم)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فأحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعاملهم على بواطنهم، فينبغي الاكتفاء بستر الله سبحانه وتعالى على خلقه، وعدم التنقيب والتفتيش خاصة فيما يتعلق بالكفر والإيمان، فهؤلاء المنافقون حالهم ما ذكر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك عوملوا في دولة الإسلام بما يظهرون، بمعنى: أنه لو أظهر الزندقة حكم عليه بالزندقة، ولو أظهر الردة حكم عليه بالردة، ولو أظهر الإسلام حكم عليه بما يظهر من الإسلام، وهذا بغض النظر عما يبطنه، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أن ترك الأمور في الدنيا تسير بهذه الطريقة.
وكذلك في التعامل بين الناس ينبغي أن يؤخذ على يد النمام؛ لأن النمام -كما وصفه الله تعالى- يحمل الحطب ليحرق الناس، ويثير الفتن، وقد جرى في أمور الدنيا على أن الناس يأخذون من بعض، ويقبلون بعض الظاهر، وأما النمام فإنه يحاول أن ينقل الكلام من طرف إلى طرف؛ ليفسد بين الناس، فيكشف ما خفي من أمرهم وما ستُر.
وهذا الكلام الذي نقله النمام يترتب عليه فتن وأحقاد وضغائن، فالنمام يحوِّل ما يبطنه الشخص إلى شيء مشاهد، فهو يكشف ويهتك هذا الستر فيصيره مكشوفاً معايناً، فتشتغل القلوب، وتشتعل الأحقاد في الصدور، فالناس لم يتعايشوا في الدنيا إلا بالستر، وأما لو ظهرت مواقفهم وأمورهم لكانت الحياة عذاباً وجحيماً.
فينبغي أن يكتفي الإنسان بما أمره الله به؛ وهو الظاهر، وألا يحرص على التنقيب عما في بواطن الناس، فلو تعامل الناس بما في البواطن لصارت الحياة هماً دائماً وكرباًَ، ولما سعد الناس، ولا أطاق بعضهم بعضاً.
فالله سبحانه وتعالى -رحمة منه بنا في هذه الدنيا- أمرنا بالاكتفاء بالظاهر، فالإنسان لا يولع ولا يغرم بالتفتيش عما في قلوب الناس، ولا أن يصغي إذنه للنمام الفاسق الذي يسعى للإفساد بين الناس عن طريق نقل الكلام، ويظن أنه يخبر بالذي وقع، لكن الشرع -حتى لو كان قد حصل بالفعل- سماه نماماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام، ولا يدخل الجنة قتات).
قال القرطبي: (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) أي: لعرفناكهم.
وقال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي: سأعلمك؛ لأن الرؤية: رؤية علمية، ورؤية بصرية، فهذه رؤية علمية، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]، أي: ألم تعلم؟ بدليل أنه ولد في عام الفيل، فحصل حادث الفيل قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)) أي: بما أعلمك الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، وقوله: ((وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) نهي عن مساعدة أهل التهم، ونهي عن الدفاع عن الإنسان المريب الظالم بما يقوله خصمهم من الحجة.
وفي هذا -كما يقول القرطبي - دليل على أن النيابة عن المبطل والمستحق للخصومة لا تجوز، فمثلاً يأتي المحامي ليدافع عن قاتل، أو تاجر مخدرات أو نحو هؤلاء، وهو ظالم ومجرم وفاسق ومخرب، ومع ذلك تجد المحامي مستعداً ليدافع عنه، فمثل هذا -شرعاً- لا يجوز أبداً الدفاع عنه وأنت تعرف أنه ظالم ومعتدٍ؛ لتخلصه من هذا، وأظن أن هذا من أقبح ما يتدنس به بعض المحامين الذين لا يبالون بضياع حقوق الناس، فالمهم أن يحظى هو بحظه من الدنيا في النهاية.
فالنيابة عن المخطئ والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عما قريب.
قول ابن عباس رضي الله عنهما: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، فسورة براءة تسمى: سورة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في سورة التوبة: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحداً.
وتسمى: سورة البحوث؛ لأنها تبحث عن أفراد المنافقين، وتسمى: المبعثرة، قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64]، أي: إن الله مظهر ما تحذرون ظهوراً.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلاً، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين، والناس يعيِّر بعضهم بعضاً، فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهار ذلك، إذ قال: ((إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ))، فكشف أسمائهم، ثم ستر ذلك مراعاة لأبنائهم المسلمين كي لا يعيَّروا بهم.
وقيل: إن قوله: ((إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)) أنه عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوالهم وأسماءهم، لا أنها نزلت أسماؤهم في القرآن، ولقد قال الله تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)).
قال شيخ المفسرين ابن جرير: عن ابن عباس في هذه الآية: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ))، قال: هم أهل النفاق، وقد عرفه إياهم في براءة، فشيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى يرى أن الله عرفه بالفعل هؤلاء المنافقين في سورة براءة، فقال عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، وقال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:83].
قوله: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ))، أي: بعلامتهم الخاصة التي يتميزون بها.
قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما، فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ)) أي: ولو أريناكهم لعرفتهم بسيماهم.
وقال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم، وتكرير اللام للمبالغة أو للتأكيد.
ثم قال تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)) أي: في فحواه ومعناه، ومنه قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحياناً وخير الكلام ما كان لحناً أي: أحسنه ما كان تعريضاً يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره؛ لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض، وهو مأخوذ من اللحن في الإعراض، وهو الذهاب عن الصواب.
وعن مالك بن دينار قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله.
وعن بعض الزهاد قال: لم نؤت من جهل ولكننا نستر وجه العلم بالجهلِ نكره أن نلحن في قولنا ولا نبالي اللحن في الفعلِ وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، قال هذا لرجلين أتيا يختصمان في شيء معين، فقال النبي عليه السلام: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر) يعني: لا أعلم الغيب ولا أعلم ما في قلوبكم، ولكوني بشراً لن أحكم إلا بما يظهر لي، (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي: أنه يستطيع أن يحور الكلام بالفصاحة وغير ذلك، فيظهر حجته أقوى من حجة الآخر، في حين أنه ظالم والآخر هو المظلوم والحق له، لكن من علم صناعة الكلام وقدرته على اللحن في الكلام فإنه يستطيع أن يدلي بحجة، والآخر لأنه عيي لا يفصح ولا يستطيع أن يعبر، فيضيع حقه بسبب ذلك، فيحذِّر النبي عليه الصلاة والسلام من مثل هذا فيقول: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم) أي: أني أنا آخذ بالظاهر، وهي الحجة التي يدلي بها هذا الشخص، ومع ذلك وإن كان الذي حكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحكم في الحقيقة باطلاً، أي: أنه حكم للظالم على المظلوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام ليس مسئولاً عن ذلك؛ لأنه يحكم بالظاهر الذي ظهر له، فهذا تحذير للشخص الظالم، وإذا كان هذا في حكم الرسول الله عليه الصلاة والسلام فما بالك بشخص ينال شيئاً ليس من حقه بحكم قانون وضعي! إذا كان حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغير الواقع في نفس الأمر شيئاً مع أنه حكم وهو يحكم بما يظهر له، فكيف بحال هؤلاء!! فإذا كنت تعرف أنك ظالم، وأنه ليس من حقك فلا يصح أن تقول: قد حكم لي؛ لأن هذا ليس من حقك، وهذا ليس من شرعنا ولا موافقاً له، قال صلى الله عليه وسلم: (من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فيرد هذا الحكم.
فحكم الحاكم أو القاضي لا يغير من الحقيقة شيئاً، وستصبح مسئولاً أمام الله عن أن تؤدي الحق إلى صاحبه: (فمن قضيت له من حق أخيه(118/3)
تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)
قال الله تبارك وتعالى مخاطباً المؤمنين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون: (ولنبلونكم حتى نعلم ونبلو أخباركم).
وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها، أي هكذا: (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلو أخباركم).
قال الشوكاني: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ)) أي: لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد، وصبر على دينه، وعلى مشاق ما كلف به.
وقال القرطبي: أي: نتعبدكم بالشرائع وإن علمنا عواقب الأمور، وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين.
قوله: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)) أي: عليه.
قال ابن عباس: ((حَتَّى نَعْلَمَ)) أي: حتى نميز.
وقال علي رضي الله عنه: ((حَتَّى نَعْلَمَ)) أي: حتى نرى.
قوله: ((وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) أي: نظهرها ونكشفها امتحاناً لكم؛ ليظهر للناس من أطاع الله فيما أمره، ومن عصى ولم يمتثل، وهذا التفسير في غاية الدقة، وقد تتصورا أنه كلام عادي، لكن هذا الكلام مبني على الأدلة والاستنباط منها.
إذاً: فيلون على هذا التفسير ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ))، أي: وحتى يعلم أوليائي وأهل طاعتي من هو من حزب الله، ومن هو من حزب المنافقين.
وروى رويس عن يعقوب: إسكان الواو من نبلو، أي: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوْ أَخْبَارَكُمْ} على القطع مما قبله، ونصب الباقون رداً على قوله: ((حَتَّى نَعْلَمَ)).
قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
فالإنسان لا يتمنى البلاء، وإنما يسأل الله سبحانه وتعالى العافية التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم لعمه حين سأله، فعلمه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالعافية، فهذه أعظم نعم الله عز وجل: العافية واليقين.
وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاثبتوا)، فالإنسان لا يتمنى الشر، وإذا قدر عليه ذلك فليثبت.
وقد حكي عن بعض العبّاد: أنه كان يسأل الله سبحانه وتعالى أن يبتليه، فابتلاه فلم يصبر، وكان البلاء شديداً جداً، فكان يمر على الصبية ويقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.
يعني: أنا زعمت أنني إذا ابتليت فسأصبر، فيقول: ادعوا لعمكم الكذاب، لأنه لم يستطع أن يفي بما كان يتمناه.
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل كأنه جلد على عظم من شدة الضعف والوهن، فقال له: (هل كنت تدعوه أو تسأله شيئاً؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! إن كنت معاقبي في الآخرة فعجله لي في الدنيا -وهذا عدم فقه لآداب الدعاء- فقال: سبحان الله! لا تطيق)، فدعا له النبي عليه السلام فعافاه الله سبحانه وتعالى، فالشاهد: أن الإنسان ينبغي أن يكون فقيهاً في دعائه، فنفس اللسان الذي تخرج منه كلمة: اللهم! إن كنت ستعاقبني في الآخرة فعجله لي في الدنيا هو نفسه يمكن أن يقول: اللهم! عافني في الدنيا والآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ونفس الرب سبحانه وتعالى الذي ستسأله هذه ويجيبك، سوف يجيبك أيضاً إن سألته العافية، فالله سبحانه وتعالى ودود غفور رحيم، فاسأل الله العفو والمغفرة، وسله العافية، فإن رحمته واسعة، بل قد حرضنا على أن نطمع في رحمته، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، ووسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن عدم الفقه أن يدعو الإنسان بمثل هذه الدعوات، ونحن نعرف وجاء في حديث حذيفة حينما قال له رجل من التابعين: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم وتركتموه يمشي على الأرض؟ لو أدركناه لحملناه فوق رءوسنا؛ فقال له حذيفة مشيراً إلى نفس هذا المعنى، وذكر ما لاقوه من الشدة والبلاء في غزوة الخندق، ثم قال: قد أدركه قوم ودخلوا النار كـ أبي جهل وأبي لهب، فهؤلاء أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام ولكنهم كفروا به وعادوه، فهم أشد الناس عذاباً لعداوتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكفرهم به.
وحكى ما حصل لهم يوم الخندق، وأن البرد كان شديداً جداً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة أن يخرج رجلاً منهم فيأتيه بخبر الأعداء، فقال: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة).
فالشاهد أنه كل مرة لا يجيبه أحد، في المرة الأولى، والمرة الثانية، والمرة الثالثة، فبعد ذلك أمر حذيفة أن يخرج ويذهب هو، فلم يجد بداً، وقد عينه النبي عليه السلام بالاسم إلا أن يمتثل لأمره صلى الله عليه وآله وسلم، فامتثل وخرج، يقول: فكان خروجي ورجوعي وكأني كنت في الحمام، وهو عند العرب المكان الدافئ جداً من شدة البخار الساخن.
فالشاهد من هذا الكلام: أن الإنسان لا يعرف صبره وثباته، ما يدريك لو أنك كنت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من أي قسم ستكون: من المؤمنين، أم من المنافقين، أم من الكافرين المشركين؟ فالمهم أن ترضى بما قسم الله لك، ولا تتمنى شيئاً ربما لو أدركته لكنت من الهالكين؛ لأن الله هو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهذا غيب وأنت لا تدري كيف يكون، فالله وحده هو الذي يعلم كيف يكون هذا الغيب.(118/4)
أقسام علم الله سبحانه وتعالى
قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ))، علم الله سبحانه وتعالى بعباده وخلقه علمان: علم غيب.
وعلم شهادة.
فعلم الغيب: هو علم الفطرة الأزلية، أي فطرة الله سبحانه وتعالى القديمة الأزلية التي لا بداية لها، فهذه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهذا هو علم الغيب، وهو موجود قبل التكليف.
وعلم الشهادة: وهو الذي يكون بعد التكليف، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والجزاء، فإذا راعينا هذا التقسيم، وعلمنا الجواب على الشبهة التي يقولها بعض الناس: إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم مسبقاً، وقدر مسبقاً ما يصدر ويجري مني، ومن أي الفريقين أنا، فلماذا يحاسبني بعد ذلك؟ ف
الجواب
لو كان الله سبحانه وتعالى يحاسبك على علمه فيك فقط لكان لسؤالك وجه، لكنه لا يحاسبك على علمه فيك حتى تعمل به، فعملك هذا هو الذي تحاسب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار) إلى آخر الحديث كما تعلمون.
إذاً: فالعلم في قوله تعالى هنا في هذه الآية: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ))، وقوله أيضاً في قوله تعالى، مثلاً: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، هو شهادة؛ لأنه بعد التكليف، فيريد أن يعلم أولياءه الذين سيطيعونه.
وقد يتوهم الجاهل من ظاهر قوله هنا: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ))، أن الله سبحانه وتعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل الله عز وجل عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، فلا يحدث له علم؛ لأن الله لو حدث له علم فهذا العلم كمال، فالله سبحانه وتعالى لا يتصور أبداً خلوه عن هذا الكمال، فإذا كان العلم الذي هو الكمال حصل له -والعياذ بالله- فيما بعد وطرأ عليه، فمعنى ذلك أنه من قبل ناقصاً؛ لأنه كان خالياً من هذا العلم، فهذا لا يجوز في الله سبحانه وتعالى، والله فنزه عن ذلك! إذاً: فالله سبحانه وتعالى يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32]، وقال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] أي: أنهم إلى الآن لم يعملوها لكن الله يعلمها، وقال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3].
وقد بيَّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه، فقال عز وجل: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154]، وتأملوا نهاية الآية: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] فيه صفة مستمرة بعد قوله: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ))، وهذا دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار، قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ:3].
فقوله: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)) حتى لا يذهب ذاهب ويتخيل أن الابتلاء يفيد الله سبحانه وتعالى علماً جديداً، فختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، فيبتلي ما في صدوركم ليصير علم شهادة، وأما الله فإنه يعلم مسبقاً.
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله سبحانه وتعالى فيها اختباره لخلقه كما سنبينها إن شاء الله تعالى، ومعنى قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ)) أي: نعلم علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، ولا يباهي أنه كان عالماً به قبل ذلك؛ لأن العلم الذي كان عالماً به قبل ذلك علم غيب، وهذا العلم -علم الشهادة- يكون موافقاً لما سبق به قلم القضاء.
وفائدة الاختبار ظهور القضاء والقدر، أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى.
ولذلك قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء؛ لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم.
فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، وإن كان الله تعالى يعلمهم علم غيب؛ لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي: نختبرها ونظهرها.
انتهى كلام القرطبي.
وقال الإمام شيخ المفسرين جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ولنبلونكم أيها المؤمنون! بالقتل وجهاد أعداء الله؛ ((حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)) أي: حتى نعلم علم شهادة إذا امتثلتم أو عصيتم، فيعلم أوليائي وحزبي أهل الجهاد في سبيل الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه؛ فيظهر ذلك لهم، ويعرف ذوي البصائر من أهل الشك والحيرة، وأهل الإيمان من أهل النفاق.
قوله: ((وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) أي: فنعرف الصادق منكم من الكاذب.
انتهى كلام شيخ المفسرين.
وما ذكره شيخ المفسرين من أن المراد بقوله: ((حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ))، حتى يعلم حزبنا وأولياؤنا المجاهدون، فهذا له وجه، وقد يشهد له قوله تعالى: ((وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) أي: نظهرها ونبرزها للناس.
ومما يوضح هذا المعنى أن علماء التفسير عندما يضعون هذه العبارات الدقيقة فإنها لا تأتي خالية من الدليل، لكن الاستنباط دقيق من معاني الآيات، وفهم آيات القرآن بعضها مع بعض، ومما يوضح هذا قول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]، فالشاهد هنا في هذه الآية قول الله تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))، فيتميز الخبيث من الطيب يكون بظهور ذلك للناس.
إذاً: فمعرفة المؤمنين للخبيث من الطيب، والتميز بين الفريقين يمكن أن نعرفه بأكثر من طريقة: إما أن نعرفه بأن يأمر الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً بالجهاد مثلاً، فمن استجاب فهو من المؤمنين، ومن نكث فهو من المنافقين مثلاً، فيظهر ذلك للناس.
وهناك وسيلة أخرى وهي الاطلاع على الغيب، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))، بمعنى: أنهما طريقان لا ثالث لهما لكي تعرفوا الناس وتميزوا بينهم، والاطلاع على الغيب ليس إلينا، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))، فالله تعالى هو عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، فلا سبيل إلى اطلاعكم على الغيب، إذاً فيتعين الطريق الآخر وهو: أن يقع الاختلاف بين الناس، فيمتاز أهل الإيمان من أهل النفاق؛ لذلك قال تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: من اختلاط الأمور، واختفاء المنافقين في وسطكم، ((حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)).
قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) أي: فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب، ولكن الله عرفكم ذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خُبْث وطِيْب، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] وقال تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وأكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان الأمر كما قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10].
وقيل: نزلت تسليةً للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق.
ومن الآيات في معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]، فكل هذه الآيات في معنى قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
وهذه الآية: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]، يقول فيها(118/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32].
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)): المقصود بهم هنا المنافقون، وقيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المشركون يوم بدر، ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) الراجح في تفسير الصد هنا أنه منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: ((وَشَاقُّوا الرَّسُولَ))، أي: عادوه وخالفوه مخالفة شديدة.
قوله: ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى))، أي: علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله سبحانه وتعالى بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة.
قوله: ((لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ))، أي: ورسوله صلى الله عليه وسلم، (شَيْئًا) أي: بصرفهم عن الإيمان، وإصرارهم على الكفر، ولن يضروا إلا أنفسهم كما في الحديث: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً).
قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: ثواب ما عملوه، والمقصود أنه يفسدها، والمراد بذلك أعمال الخير: كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن الكفر مانع من قبولها ومن الانتفاع بها في الآخرة.
وقيل: المراد بالأعمال في قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: مكائدهم.
إذاً: تحمل الأعمال على أحد معنيين: إما الأعمال التي ظاهرها الخير، مع أنها لا تنفعهم في الآخرة؛ لأنها خلت عن شرط الإيمان.
وإما أن المراد بالأعمال: مكرهم وكيدهم ومؤامراتهم.
قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: المكائد التي نصبوها لإطفاء دين الله، والغوائل التي كانوا يبغونها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ذكرنا من قبل: أن الراجح في كلمة (صد) هنا أنها متعدية، فهم كفروا في أنفسهم، ومنعوا غيرهم أيضاً من الإيمان والإسلام، وهذا الأمر ما زال مستمراً إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وآية ذلك ما يحصل الآن ومنذ زمن بعيد من الحرب على الدين التنفير منه، وتحريض الناس على الصد عن سبيل الله، وهذا له أنواع وأساليب كثيرة جداً في زماننا، فقد حاولوا تخليص كثير من الناس من التدين، ومعاقبتهم على التدين، وامتحانهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووصف المتدينين بأنهم متطرفون وعنصريون وإرهابيون وغير ذلك مما يرجف به أعداء الله سبحانه وتعالى.
وقلنا من قبل مراراً: إن أعظم حق من حقوق الإنسان هو حق الدين فنحن في عصر يتشبث فيه هؤلاء الكفار بحقوق الإنسان على طريقتهم، فإما أنهم يعتبرون المسلمين ليس لهم حقوق وبالتالي لا يستحقون هذه الحقوق، وإما أنهم يكيلون لا أقول بمكيالين، بل هو كيل واحد للمسلمين لم يتغير، وهو كيل الظلم والجور، ونقض العهود والمواثيق.
وأكبر جريمة ترتكب في حق الإنسان أن يحال بينه وبين سعادة الدنيا والآخرة، فتخيل شخصاً يتسبب في حرمان الناس من الخلود في الجنة وما فيها من النعيم، ويوردهم موارد الهلكة، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها).
إن أكبر جرم يرتكب في حق الإنسانية هو منع الناس من الدخول في الإسلام، فأعظم حق في الإسلام للإنسان، هو أن يصله نور التوحيد، ومن أجل ذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفتحون البلاد بالسيف، وبعض الناس يقول: هذا إكراه، ولا إكراه في الدين، فتقول: إن غاية ما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يريدونه هو أن يزيحوا الجيوش التي تقف على حدود هذه البلاد بعد دعوتهم للإسلام، فيصرون على مقاتلة المسلمين، ويريدون أن يبلغوا هذه الدعوة ويوصلوها إلى الناس مباشرة، فتقف هذه الجيوش على حدود هذه البلاد ليمنعوا نور الله سبحانه وتعالى من أن ينتشر في الآفاق، ويمنعوا أن تعلوا كلمة الله، وبالتالي يكون ذلك سبباً في حرمان الناس من دخول الجنة، فهم هجروا أوطانهم وديارهم وأبناءهم، وضحوا بالنفس والنفيس في سبيل أن يحملوا هذا النور إلى العالمين كما كلفهم الله مالك هذا الكون كله بذلك.
فكل ما كان يفعله الصحابة هو مجاهدة الجيوش التي تحول بينهم وبين ما أمرهم الله به فقط، فكانوا يقاتلون من امتنع، أما من لم يمتنع فيتركونه يدخل في دين الإسلام، ويمضون إلى شأنهم في فتح البلاد، فيزيحون القوى التي تقف أمامهم فقط، وأما عند معاملتهم مع الشعوب فإنهم لم يقهروا أحداً على الدخول في الإسلام، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] إلى آخر الآية، فكان الصحابة رضي الله عنهم لا يُكرهون أحداً على الدخول في هذا الدين، وإنما كان همهم أن يوصلوا هذا النور إلى العالمين، فكل من يقف ليمنع هذا النور سواءً بالتخويف والإرهاب والبطش أو بالفتك والقتل، فإن الإسلام له بالمرصاد، وقد سلط الغرب الكافر سلمان رشدي وأمثاله من الكفرة الملاحدة ليطعنوا في الرسول عليه السلام وفي الإسلام كما هو شأنهم، وكما حذرنا الله سبحانه وتعالى من ذلك من قبل، فوقف لهم أهل الحق بالمرصاد.
فأكبر حقوق الإنسان -إذا كانوا فعلاً صادقين- أن يتركوا نور الله يصل إلى هؤلاء الناس، لكننا نرى هؤلاء الناس غارقين في الوحل من الشرك والوثنية في كل أنحاء المعمورة، وسبب حرمانهم من هذا النور هو هذا الصد عن سبيل الله، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، فالصد عن سبيل الله صار وظيفة، فيوجد أناس متفرغون للصد عن سبيل الله.
وأنواع الصد كثيرة جداً، والصادون عن سبيل الله كثيرون، وقد حذرنا منهم الله سبحانه وتعالى، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك يقول بعض السلف: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، إن أقامك في خدمة دينه والدعوة إليه فهذا أشرف المقامات؛ لأنها وظيفة الرسل، وإن أقامك في الصد عن سبيل الله، والتنفير من دين الله، ومعاقبة الناس على التدين، وتنفير الناس من دينهم بالأوصاف المنفرة فأنت في مقام سيء، وهذا أسلوب قديم أن يوصف أهل الدين وأهل الطاعة بالأوصاف المنفرة، فيأتي أهل الباطل إلى الحق ويغلفوه بأغلفة منفرة كما يقول الشاعر مشيراً إلى هذا التلاعب بالألفاظ، وما يكون له من أثر نفسي في تنفير الناس من الحق، يقول: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت: ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فمن الممكن أن تأتي إلى عسل النحل وتقول فيه إن أردت أن تمدحه: هذا جنى النحل، هذا محصول النحل، ومن الممكن أن تقول عنه تنفيراً منه: هذا قيء الزنابير، أي: ما تتقيؤه هذه الزنابير التي تلسع مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنور الله ودين الله يوصف بالتطرف والإرهاب والأصولية، إلى غير ذلك من هذه المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فويل لمن يجمع بين الكفر في نفسه والصد عن سبيل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}، سواء قلنا: أعمالهم التي أتوا بها وهي على صورة القيء، فإنها تحبط ولا تنفعهم الآخرة، أو ((َسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ))، يعني: كيدهم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16].
ولو أن أي دعوة واجهت من الحروب والتكفير والتشنيع والإبادة ما واجهه الإسلام والمسلمون لما بقي لها ذكر في التاريخ على الإطلاق، فليس من سبب في حماية وصيانة هذا الدين إلا أنه دين الله وحجته على خلقه.
وما من دعوة أو مذهب أو فرقة في خلال مئات قليلة من السنوات إلا وقد حرفت تماماً عن أصلها ما عدا الإسلام، فالأمم كلها من العقلاء والباحثين والعلماء الغربيين وغيرهم فضلاً عن جميع المسلمين تجمع على أن القرآن لم يحرف منه حرف واحد، ولم ينقص منه ولم يزد فيه حرف واحد، فمن الذي حفظه؟ إنه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، حتى تبقى المعجزة، والحجة قائمة على كل من ينتمي إلى أمة الدعوة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كل من على ظهر الأرض، فكل البشرية هي أمة محمد بعد بعثته، فـ كلينتون من أمة محمد، ونتنياهو وكل الكفار منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم من أمته، أي: من أمة الدعوة التي بعث إليها محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان صلى الله عليه وسلم قد لحق بالرفيق الأعلى لكن أمته نائبة عنه في تبليغ شرعه، وإقامة حجته، ومعجزته باقية خالدة على مر الزمان.
قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: الظاهر أن (صَدُّوا) في الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي: لو كان المفعول ظاهراً لم يبق خلاف في أن الفعل متعدٍ، فلو كانت الآية: (إن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله)، أو: (وصدوا الناس)، لكانت متعدية، لكن لما لم يذكر المفعول اختلفوا، فقال بعضهم: هي للتوكيد.
فلكلمة: (صدوا) تأتي لازمة وتأتي متعدية، فاللازمة لا تحتاج إلى مفعول به، مثل كلمة: خرج، ونزل، كأن تقول: فصد عني، وتعني: أعرض عني، أو أشاح بوجهه عني، وكقوله تعالى: {رَأ(118/6)
تفسير سورة محمد [33 - 35](119/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم)
قوله الله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، فهذا الجزء من هذه الآية من آيات الأحكام، حيث يشيع عند علماء التفسير -خاصة المصنفين في أحكام القرآن- الاستدلال بهذه الآية الكريمة في مسألة فقهية، وهي: هل يجوز لمن دخل في قربة نافلة أن يخرج منها قبل إتمامها؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: قول الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى، قالا: له -إذا شرع في نافلة- أن يخرج منها قبل أن يتمها إلا في نافلة الحج والعمرة، فإنه يجب عليه إتمامهما، ويستدلون على ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فمن شرع في نافلة حج أو عمرة وجب عليه إتمامها.
وأما الصلاة والصوم فإنه يستحب له إتمامهما ولا يجب عليه، وقالوا: إن المتطوع أمير نفسه، كما سيأتي في الأحاديث، فإلزامه إياه بالإتمام مخرج عن وقت التطوع، فالله تبارك وتعالى يقول: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، فهذا محسن أي: متطوع قطع ما لا يجب عليه أصلاً، فلا حرج عليه في ذلك.
وقالوا: إن لفظ هذه الآية: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، وإن كان عاماً يعم كل الأعمال، سواء كانت نافلة أو فريضة، وسواء كان حجاً أو عمرة أوغير ذلك، إلا أن هذا العموم مخصَّص؛ لأن التطوع يقتضي تخييراً، فهو مخصَّص بالأدلة التي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى.
ومن الأدلة التي استدل بها الشافعي وأحمد على جواز ذلك: أنه قد ثبتت بعض الأحاديث التي فيها أن الإنسان إذا دعي إلى وليمة نكاح وكان صائماً فينبغي له أن يجيب فإجابة الدعوة أن يذهب إلى مكان الدعوة تقديراً لأخيه، وإدخال السرور عليه، فيجب عليه أن يجيب حتى لو كان صائماً، لكن لا يجب عليه أن يأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع.
القول الثاني: قول الإمامين أبي حنيفة ومالك، فقد قالا: ليس له ذلك، فإذا شرع في نافلة فإنه يجب عليه الإتمام، فإذا أبطلها وجب عليه قضاؤها، ودليلهم عموم قوله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما.
وأجاب الإمامان أبو حنيفة ومالك عن أدلة الشافعي وأحمد في قولهما: إن المتطوع أمير نفسه، فقالا: إن المتطوع أمير نفسه لكن ذلك مالم يشرع، فهو: أمير نفسه في أن يبتدئ بالفعل أو لا يبتدئ، وأما إذا شرع فيه فليس أمير نفسه، بل قد ألزم نفسه بالإتمام؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، ولعموم قوله عز وجل هنا: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)).
وإذا كان متطوعاً في صيامه فله أن يفطر، خاصة إذا ألحّ عليه الداعي، أو كان قد تكلف له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا، قال: فإني صائم، ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حَيْس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله! إنه أهدي لنا حَيْس، فخبأت لك منه، قال: أدنيه، -أي: قربيه - أما إني أصبحت وأنا صائم، فأكل منه، ثم قال: إنما مثَل المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها)، ولم يذكر هنا قضاءً؛ بناء على أنه لا يجب قضاء النفل.
وهذا هو الراجح، أي: ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال له: أفطر، وصم مكانه يوماً إن شئت) وفي هذا مراعاة للأدب، وهو أنه إذا كان يشق على صاحب الدعوة ألا تأكل من طعامه، وكنت في صيام نافلة، ففي هذه الحالة الأفضل لك أن تفطر؛ إدخالاً للسرور على أخيك المسلم، وهذا في صيام النافلة فقط.
وقوله: (إن شئت) يدل على التخيير، وأنه لا يجب عليه قضاء ذلك اليوم.
وكذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال: فجاء سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة - أي: لابسة ثياب المهنة، وتاركة لملابس الزينة -، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟! قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء فرحب به، وقرب إليه طعامه، فقال له سلمان: اطعم -أي: كُل- قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه - وهذا هو الشاهد، أنه أكل معه -، ثم بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال له: يا أبا الدرداء! إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وأْتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان في وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت، قال: فقاما فتوضأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أمره سلمان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء! إن لجسدك عليك حقاً، مثلما قال سلمان، وفي رواية: قال له النبي صلى الله عيله وسلم: صدق سلمان) , فأقر ما قاله سلمان لـ أبي الدرداء.
إذاً: فهذا هو الراجح في هذه المسألة، وهو: أن من دخل في قربة فإنه يجوز له بعد الشروع فيها الخروج منها قبل إتمامها، ولا يجب عليه القضاء إلا في نافلة الحج والعمرة؛ للنص على ذلك.(119/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم)(119/3)
العبرة بالخواتيم والأدلة على ذلك
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34].
هذه الآية الكريمة سبق أن تعرضنا لصدرها ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، وذكرنا أن الراجح في الصدّ أنه متعدٍّ، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: في أنفسهم، ((وَصَدُّوا)) أي: غيرهم ((عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، وهذا يرجح على قول من قال: إن ((وَصَدُّوا)) بمعنى: أعرضوا اللازمة؛ لأنا إذا قلنا: إن صدوا هنا بمعنى: أعرضوا عن سبيل الله، فسيكون هذا توكيداً، وأما إذا قلنا: إن المعنى: أنهم صدوا غيرهم ((عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، فسيكون تأسيساً، ولا شك أن التأسيس مقدَّم على التوكيد؛ لأنه يبني معنىً جديداً.
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)) فيه بيان لافتراض الخاتمة، وأن الأعمال بالخواتيم، فالعبرة بالحال التي يموت عليها الإنسان، كما قال صلى الله عيه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام رجل يوماً طويلاً شديداً حره، ثم أفطر قبيل غروب الشمس بثوانٍ معدودات فقد حبط صيام هذا اليوم كله، وإذا صلى صلاة طويلة ثم أحدث قبل السلام، فصلاته باطلة كلها.
وكذلك العمر، فإذا وفِّق الإنسان إلى خاتمة حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعفو عن كل ما مضى، والعكس أيضاً.
إذاً: فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، فمجرد أن يكون الإنسان كافراً لا يكفي للحكم عليه بعينه أنه من أهل النار، وإنما لا بد من أن يثبت أنه قد مات على الكفر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، وهذا يشير إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، فانظر إلى رحمه الله تعالى، فحتى هؤلاء الذين كفروا في أنفسهم، وفتنوا وعذبوا المؤمنين بالنيران في قصة الأخدود الشهيرة، اشترط الله في استحقاقهم هذا الوعيد أن يثبتوا على ذلك حتى الممات، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا))، فمفهومها أنهم إن تابوا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم، فهذا من رحمة الله الواسعة.
وقد قيل: إن المراد بالآية أصحاب قليب بدر، وظاهر الآية العموم في كل من مات على الكفر وإن كان سببها خاصاً.
وقد وضح هذه الآية آيات أخرى من كتاب الله تعالى، ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91]، فانظر إلى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)) ففيها إشارة إلى الخاتمة.
وروى الشيخان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)، كلفتك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً وهذا لفظ البخاري.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:161 - 162].
قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ))، الواو في قوله: ((وَهُمْ كُفَّارٌ))، هي واو الحال، أي: ماتوا على حال الكفر.
وقال الله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].(119/4)
حكم لعن الكافر المعين
يقول القاضي ابن العربي رحمه الله تعالى: قال لي كثير من أشياخي: إن الكافر المعين لا يجوز لعنه؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الوفاة على الكفر.
فاستنبط بعض العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز لعن الكافر المعين؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، فهو لا يستحق اللعنة حقاً إلا إذا مات على الكفر، كما في الآيات السابقة كلها: ((وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)).
فخاتمة الإنسان لا تعلم إلا بنص من الوحي، فلا نقطع بالجنة لأحد إلا لمن قطع له الوحي بذلك، وكذلك لا نقطع بالنار لأحد إلا لمن حكم له الوحي بذلك، كـ أبي جهل وفرعون وأبي لهب وغيرهم من الكافرين الذين قطع الوحي سواء في القرآن أو السنة بكفرهم ولعنهم، لأنهم ماتوا على كفرهم، فهؤلاء يقطع لهم بالنار.
وأما من عدا ذلك فيجوز لعن النوع لا العين، كما تقول: لعنة الله على الظالمين! ولعنة الله على الكافرين! أما أن تلقن فلان بن فلان باسمه، فينبغي ألا تتهور في ذلك؛ لأنك لا تعلم خاتمة هذا الإنسان كيف تكون، أو كيف كانت.(119/5)
حكم لعن الكفار جملة من غير تعيين
لا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين؛ لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان.
وهذا أمر ثابت، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا انتصف رمضان يلعنون الكفرة، وكانت الصيغة التي يدعون بها: اللهم! العن كفرة أهل الكتاب إلى آخر الدعاء المعروف، ثم أقر العلماء بعد ذلك أن الصحابة كان عامة من يقاتلونهم أهل الكتاب، وأما بعد ذلك فقد تنوع الأعداء الذين يقاتلونهم ولم يقتصروا على أهل الكتاب، فلذلك استحسن بعض العلماء أن يدعى بـ: اللهم! العن الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون أنبياءك، ويقاتلون أولياءك إلى آخر الدعاء.
قال القرطبي: قال علماؤنا: فالدعاء باللعن على الكافرين عموماً، سواء كان لهم ذمة أم ليس لهم ذمة، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله.
وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كَشُرَّاب الخمر، وأكَلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال، ومن الرجال بالنساء إلى غير ذلك مما ورد لعنه في الأحاديث، فتلعن النوع فتقول: لعن الله المتبرجة، لعن الله المغيرات خلق الله!، لعن الله النامصة! لعن الله شارب الخمر! فهذا حكمه الجواز لا الاستحباب؛ فضلاً عن الوجوب، وهذا بخلاف بعض الفرق الضالة الذين يتعبدون باللعن، ويا ليتهم يلعنون من يستحق اللعن! ولكنهم يلعنون خيرة خلق الله بعد الأنبياء وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنرى الرافضة -قبحهم الله- يعدون لعن أبي بكر وعمر -والعياذ بالله- أفضل وأرجى ثواباً من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وفضائحهم في ذلك فظيعة ومستبشعة.
فلا ينبغي أبداً أن تلين قلوبنا، أو أن يرى الله سبحانه وتعالى في قلوبنا هوادة في بغض هؤلاء المجرمين أعداء الله وأعداء رسوله، وأعداء أصحابه.
وقد أظهر بعضهم أشياء قد تفتن بعض القاصرين، فنجد بعض الناس يقولون: كان الخميني يفعل كذا وكذا من المواقف الفذة في نظرهم، ويتعامون ويتناسون جرائمه الكبرى في مجال التوحيد، وفي تكفير الصحابة ولعنهم وغير ذلك من عدوانه وتطاوله، فهذا لا تغفره هذه المواقف، والشيطان لابد أن يلبس على الإنسان الباطل بشيء من الحق؛ حتى يروّج عليه هذا الضلال، فيشعر أنه هو الذي يعز الإسلام، وأنه هو الذي يدافع عنه، وهو متلبس بطامات كبرى.
آخر تلك المواقف موقف يذكرنا بقول عمر رضي الله تعالى عنه: أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة.
وقد كان الرجل الرافضي الخبيث المدعو محمد خاتمي سيذهب زيارة أول أمس إلى فرنسا، ثم إنه أُعلن عن إلغاء هذه الزيارة، واتضح أن السبب أنه أثناء ترتيبات الزيارة طلب ألا تقدم خمور على المائدة التي يجلس عليها، فالصليبيون الحاقدون في فرنسا رفضوا ذلك، وقالوا: لا، على الضيف أن يحترم أعراف أصحاب الدعوة، ولا يعترض على شيء مما هو من تقاليدهم أو عادتهم، فكان هذا سبب إلغاء الزيارة.
ولا شك أن هذا موقف كنا نود أن يصدر من غيره، ولكن نقل ما حجم هذا الموقف -وإن كان موقفاً حسناً- بجانب الطامات الكبرى، والمصائب التي لا يجبرها شيء، حتى لو فعل أضعاف أضعاف ذلك من المواقف الجيدة؟! فلا بد أن نعطي الأشياء موازينها، فهؤلاء قوم يتعبدون بلعن الصحابة وتكفيرهم، إلا خمسة منهم أو ثلاثة، فضلالهم بيَّن، فينبغي ألا نبهر بمثل هذه المواقف الجزئية، وهي لا تكفي لتغفر لهم جرائمهم في حق الصحابة، فقبحهم الله سبحانه وتعالى، ونكّس راياتهم.
فخلاصة الكلام في اللعن: أن اللعن ليس عبادة، وإنما هو جائز ومباح بهذه الشروط التي ذكرناها، فهو ليس بواجب، وإنما مباح لمن فعله، فيجوز أن يُلعن جنس الكفار عموماً؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كما ذكرنا.
وذكر القاضي ابن العربي: أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقاً، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (أتي بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضره: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)، فأبقى له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة، والحديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم.(119/6)
حكم لعن العاصي المعين
وقد ذكر بعض العلماء خلافاً في لعن العاصي المعين، أي أن يلعن باسمه فيقال: لعن الله فلاناً مثلاً، إن كان عاصياً كشارب الخمر أو غير ذلك.
ذكرنا قول القاضي ابن العربي: أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقاً، واستدل على هذا بحديث: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)، وهذا قاله في حق نعيمان الذي كان يجلد مراراً في شرب الخمر.
وأجيب: بأنه قال هذا بعد أن أقيم عليه الحد، ومن أقيم عليه حد الله سبحانه وتعالى فلا ينبغي لعنه؛ لأن الحد يطهره، فلا يجوز أن يعيَّر بالذنب، أو أن يؤاخذ به.
وأما من لم يقم عليه الحد فلعنه جائز سواء سمي أو عيِّن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا تتوجه إليه اللعنة، وبيَّن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب).
قال بعض العلماء: ما دام أنه قد أقام عليها الحد فلا ينبغي أن يوبخها، ولا يلومها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب؛ لأن الأمر قد انتهى، فما دامت أنها قد أقيم عليها الحد فهو تطهير، وفي نفس الوقت لا يجوز بعد ذلك تقريعها وتوبيخها بسبب هذه الفاحشة.
وبعض العلماء فسروا الحديث: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب) أنه: لا يقنع ولا يكتفي في عقوبتها بالتثريب - وهو التوبيخ - بل لا بد أن يضربها الحد.
وعلى كل الأحوال: فهذا الحديث يدل على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل إقامة الحد وقبل التوبة، والله تعالى أعلم.
قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقاً فيجوز إجماعاً، وذلك مثل أن يقول: لعن الله شارب الخمر، ولعن الله السارق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده).
ولعن النامصة والمتنمصة وغير ذلك من أنواع الكبائر والمعاصي من غير تعيين شخص بعينه، وهذا لعن مطلق لا يقصد به شخص معين.(119/7)
تعريف اللعن والتحذير من التخلق به
واللعن: هو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها).
وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.
فالإنسان إذا لعن أحداً فإن اللعنة تصعد إلى السماء، ثم تغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن كان الشخص الذي لعن يستحق هذه اللعنة أصابته، وإن لم يكن يستحقها فإنها ترجع إلى نفس الشخص الذي دعا باللعنة.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المسلم كقتله)، رواه البخاري؛ لأنه إذا لعن أخاه المسلم فكأنه دعا عليه بالهلاك.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبّاباً ولا فاحشاً ولا لعّاناً، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ماله ترب جبينه!) رواه البخاري.
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة أي: فضجرت -ضجرت من الناقة- فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس لا يعرض لها أحد)، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعّاناً).
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، رواه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجليلة؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله عز وجل، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى- فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يوده المسلم للكافر ويدعو عليه، يعني: أن الدعاء باللعن أمر في غاية الخطورة، وهو عنوان نهاية وأقصى التدابر والنفور والمقاطعة، فلهذا جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)؛ لأن القاتل إذا قتله فإنه يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، أي: أن اللعن لو استجيب فإنه يكون سبباً للقطع عن نعيم الآخرة، ويبعد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
وقيل: إن معنى: (لعن المؤمن كقتله) أي: في الإثم، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فمعناه: أنهم لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم اللذين استوجبوا النار.
وأما قوله: (ولا شهداء) ففيه ثلاثة أقوال، أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات.
الثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا، أي: لا تقبل شهادتهم؛ لفسقهم.
الثالث: لا يرزقون الشهادة، وهي القتل في سبيل الله تعالى.
وحتى لا يتوهم بعضكم التعارض بين أجزاء الكلام الذي ذكرناه في هذا الموضوع، فنلاحظ أن النبي عليه السلام استعمل صيغة المبالغة فقال: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعّاناً)، وهذه صيغة مبالغة، وقال أيضاً: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، وهذه صيغة تكثير، فلم يقل: لا ينبغي لصديق أن يكون لاعناً، ولم يقل: إن اللاعنين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة؛ لأن هذا الذم في الحديث إنما هو لمن كثر منه اللعن، وكان اللعن عادته، وأما من سُمع منه ذلك مرة أو نحوها فإنه ليس داخلاً في هذه النصوص.
وكذلك يخرج من هذه الأحاديث اللعنُ المباح، وهو الذي ورد الشرع به كقول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقول النبي عليه السلام: (لعن الله اليهود والنصارى)، أو كلعن النبي عليه الصلاة والسلام للواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعنه للمصورين، ومن انتمى إلى غير أبيه، أو تولى غيّر مواليه، ومن غير منار الأرض، وغير هؤلاء ممن هو مذكور في الأحاديث الصحيحة.(119/8)
الأسباب المكفرة للذنوب
من المعلوم أن باب التوبة مفتوح، والتوبة لها أجلان، أجل في حق عمر كل إنسان، وأجل في حق عمر الدنيا كلها، ففيما يتعلق بحق كل عبد تقبل توبته ما لم يغرغر؛ لقول النبي عليه الصلاة السلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، يعني: مالم يحضره الموت.
وأما بالنسبة لعمر الدنيا فباب التوبة مفتوح مالم تطلع الشمس من مغربها.
فهذا الإنسان الذي ارتكب الكفر، أو المعاصي التي تستوجب اللعن هو يستحق بنص هذه الآيات والأحاديث الوعيد المذكور فيها، لكن لا يعيَّن هذا الشخص كما قلنا، فالشخص المعين -وكلامنا الآن في حق المسلم العاصي الذي فعل شيئاً من الكبائر التي تستوجب اللعنة- لا يلعن باسمه، فلا تقل للمرأة التي تنمصت: لعن الله فلانة بنت فلانة باسمها، أو هذه ملعونة؛ لأنها متنمصة مثلاً، لكننا في مقام الزجر وفي مقام الدعوة والخطابة نستعمل النصوص بعمومها فنقول: لعن الله تارك الصلاة، ولعن الله النامصة، ولعن الله المتبرجة، وأما نفس الشخص فلا يحكم عليه باللعن؛ لأنه لا بد له من توفر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع، فالشخص المعين الذي ارتكب شيئاً مما توعد عليه باللعن يمكن أن يكون مجتهداً في هذا، فهو قد فعل هذا لكنه غير متعمِّد، فقد اجتهد فأخطأ مثلاً، فيغفر له اجتهاده، وقد يكون ممن لم تبلغه الأدلة أو النصوص التي تحرم هذا الفعل، فيعذر بجهله، وقد يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله سبحانه وتعالى مع قبح الفعل الذي فعل، كما غفر الله سبحانه وتعالى للرجل الذي قال: (إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، فغفر الله له)؛ لخشيته منه، فقد كان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، ومع ذلك غفر الله له مع شناعة هذا الاعتقاد الكفري.
إذاً: فالنسبة لما يتعلق بالآخرة ينبغي أن نتوقف في حق المعين، فأمر الآخرة موكول إلى الله سبحانه وتعالى، لكن هل يمنعنا ذلك من إجراء الأحكام الظاهرة عليه في الدنيا؟ لا، فحتى الكافر إذا قلنا: إننا لا نقطع له بجنة ولا بنار مثلاً فهل معنى ذلك أننا لا نجري عليه أحكام الدنيا؟ لا، فهذا فقط في الآخرة، وأما في الدنيا فيعامل الناس بما يظهرونه، فيعامل معاملة الكافر.
وكذلك الرجل المبتدع، فإننا لا ندري حاله مع الله سبحانه وتعالى: هل له حسنات ستكفر عنه إثم هذه البدعة؟ وهل هو جاهل؟ وهل هو مجتهد مخطئ مثلاً؟ فالتوقف في أمر الآخرة لا ينبغي أن يمنعنا من أن نعاقبه في الدنيا؛ لنمنع بدعته وأن نستتيبه، وقد يكون القول في نفسه كفراً، لكن الشخص الذي قاله لا يقطع بتكفيره كما قلنا مراراً، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً.
وقد صنف الله سبحانه وتعالى الخلق في كتابه ثلاثة أصناف: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادة، وصنف هم المؤمنون باطناً وظاهراً، وصنف أقروا ظاهراً لا باطناً، وهم المنافقون والزنادقة.
فهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين، فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.
فقد يظهر الشخص الشهادتين ومع ذلك يكون كافراً؛ لأنه يظهر الإسلام في الظاهر وهو يبطن الكفر، فهذا صنف من أصناف الكفار.
وقد يقترف الشخص كبيرة تستوجب اللعن، لكن قد يقترن بهذه الكبيرة من الحياء من الله سبحانه وتعالى والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، فهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، فالفعل واحد لكن هناك أحوال قلبية تقترن به هي التي إما أن تصعد به إلى مقام الكبيرة، وإما أن تنزل بالكبيرة إلى مقام الصغيرة، وهذا أيضاً مما لا سبيل إلى الإطلاع إليه.
وكذلك قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فالشخص الذي عمل أعمالاً حسنة كثيرة جداً قد يعفى عنه إذا أخطأ أو ارتكب إثماً ما لا يعفى لغيره، ففاعل السيئات قد تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة؛ لذلك نقول: لا تقل: أنتِ ملعونة لأنك متبرجة، لكن يجوز أن يقال لها: لعن الله المتبرجة، بصيغة عامة هكذا؛ لأنك لا تعلم عاقبتها وخاتمتها، ولا تدري حالها مع الله سبحانه وتعالى، ولا تدري ما في قلبها مما يقترن بهذه المعصية من الأحوال القلبية التي أشرنا إليها.
فإن الإنسان حتى لو ارتكب السيئة فإنه ظاهراً يستحق عذاب جهنم، لكن لا يشترط في ثبوت الوعيد لمن فعل كذا أن يتحقق هذا الوعيد لذلك الشخص، بل قد توجد أسباب تسقط عنه عقوبة جهنم منها مثلاً: التوبة، فالتوبة قد تكون بينه وبين الله ولا يحس بها الخلق، وكذلك الاستغفار، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
فربما كان يستغفر من هذا الذنب.
وكذلك من هذه الأسباب الماحية: الحسنات، أي: أن يعمل أعمالاً صالحة بعد ارتكابه للمعصية، فمجرد الاستقامة تمحو السيئات الماضية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
وكذلك المصائب الدنيوية، كأن يبتلى هذا الشخص بمصائب تكفر عنه وتحط عنه وزر المعصية التي ارتكبها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه).
إذاً: فالمصائب الدنيوية من كفارات الخطايا، إذا صبر عليها.
ومن هذه الأسباب أيضاً: أن يعذب الإنسان في القبر بقدر يستوفي ما عليه من هذه المعصية، فلا يعاقب عليها في نار جهنم في الآخرة.
ومن هذه الأسباب التي تسقط العقوبة عن العبد حتى وإن استحق جهنم بسبب الذنب: دعاء المؤمنين واستغفارهم له في الحياة وبعد الممات، فقد يستغفر له إخوانه في الله، أو أولاده، أو أقرباؤه، أو الناس الصالحون ويدعون له فيستجاب دعاؤهم، يسقط عنه استحقاق العقوبة، مع أنه داخل تحت هذا الوعيد، لكن عفا الله عنه بسبب استغفار المؤمنين له.
وكذلك من هذه الأسباب: ما يُهدى إليه بعد الموت من أعمال صالحة، كأن يتصدق عنه، أو يحج عنه ويعتمر، فهذا يصله ثوابه في القبر، وربما كان سبباً في تكفير ما استحق من العذاب في جهنم.
ومن المكفرات أيضاً: معاناة أهوال يوم القيامة وشدائده، فالأهوال التي تكون يوم القيامة هي في حد ذاتها مكفِّرة، فربما أيضاً تسقط عنه العقوبة في جهنم بسبب معاناة مشاق يوم القيامة وشدائده.
ومن أسباب سقوط عقوبة جهنم أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم يبنهم في الدنيا لم تستوف، ففي هذه الحالة بعدما يجوزون على الصراط لا يمكن أن يدخل الجنة أبداً مؤمنان وبينهما ضغينة، فالجنة لا يدخلها أحد أبداً وفي قلبه ضغينة كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، وليس هناك غلّ على الإطلاق، ولذلك جاء في الحديث في وصف أهل الجنة: (قلوبهم على قلب رجل واحد)، فهم إخوة متحابون فلا هناك ضغائن ولا تحاسد ولا أحقاد على الإطلاق، وما كان بينهم من مظالم في الدنيا فإنهم يحبسون بسببها بعد المرور على الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، (فإذا هذبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة)، وذلك مصداق قول الله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] فـ (طبتم) من التطييب والتطهير، فيقتص منهم أولاً قبل الدخول إلى الجنة؛ حتى يدخلوا مهذبين منقين من كل ما لا يُرتضى.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)، فهذا الوقوف على هذه القنطرة سبب من أسباب سقوط العقوبة.
ومن أسباب سقوط عقوبة جهنم عن العاصي: شفاعة الشافعين من الأنبياء وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو شفاعة الصالحين من المؤمنين، أو شفاعة الملائكة.
وكذلك من أعظم أسباب سقوط عذاب جهنم عن العاصي: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، فرحمة الله سبحانه وتعالى هي أعظم أمل للعصاة والمذنبين، فيرحم الله سبحانه وتعالى العبد بمشيئته وفضله تكرماً منه بغير شفاعة ولا سبب من هذه الأسباب التي ذكرنا.
إذاً: فهذه جملة من الأشياء تدل على أنه قد يسقط عن فاعل السيئات عقوبة جهنم، وقد عُرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة.(119/9)
تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)
قال الله تبارك وتعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قال الله لعباده المؤمنين: ((فَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا عن الأعداء، ((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) أي: المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم، وكثرة عددكم وعددكم.
إذاًً: فـ ابن كثير رحمه الله تعالى يذهب إلى أن موضع هذه الآية هو حال القوة، ومفهوم هذا أنه يجوز ذلك إذا كنتم في حال تسوغ لكم ذلك، والواو في قوله: ((وأنتم)) حالية، أي: في حال علوكم على عدوكم.
يقول ابن كثير: فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك.
انتهى كلام الحافظ ابن كثير.
وقال الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم: (إلى السَلم) بفتح السين، وأما حمزة وشعبة فقد قرأها: (إلى السِّلم) بكسر السين.
وقوله تعالى: ((فَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:146]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18] أي: مضعف كيدهم.
وقول زهير بن أبي سلمى: وأخلفْتك ابنة البكري ما وعدتْ فأصبح الحبل منها واهناً خَلِقا أي: ضعيفاً.
وقوله تعالى: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) جملة حالية، أي: فلا تضعفوا عن قتال الكفار حال كونكم عالين عليهم.
قوله: ((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) أي: لا تبدءوا بطلب السلم، وهو الصلح والمهادنة، ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) أي: والحال أنكم أنتم الأعلون، أي: الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، فإنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون.
وهذا التفسير في قوله: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) هو الصواب، وتدل عليه آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى بعده: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ))، فمن كان الله معه وهو الأعلى الغالب والقاهر والمنصور والموعود بالثواب، فهو جدير بألا يضعف عن مقاومة الكفار، ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة.
وكقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173]، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] * {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15].
ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى: ((وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ))، فقد فسر: الشنقيطي رحمه الله تعالى قوله تعالى: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) بقوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وقوله عز وجل: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) أي: من النصر الذي وعدكم الله به، والغلبة، وجزيل الثواب؛ لأنكم مؤمنون.
وذلك كقوله هنا: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ))، وقوله: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ)) أي: بالنصر والإعانة والثواب.
ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى.
أي: أن بعض العلماء ذهب إلى أن هناك تعارضاً بين هذه الآية: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ))، وقوله في سورة الأنفال: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)).
فيقول الشنقيطي: ليس هناك تعارض بينهما، حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان.
فكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليها الأخرى، فالنهي في آية القتال -أي: هنا في سورة محمد صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) هو نهي عن الابتداء بطلب السلم.
وأما الأمر بالجنوح إلى السلم في قوله: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)) فمحله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها كما هو صريح في قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61].
يقول: وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن المعنى: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون، أي: في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد.
أي: وأما إذا كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم -أي: الصلح والمهادنة-، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي: السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرَعُ قوله تعالى: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))، ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ)) أي: فلن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من ثوابها شيئاً، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وقوله هنا: ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))، أصله من الوتر: وهو الفرد، فأصل قوله: ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ)) أي: لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم، بل يوفيكم ثوابها كاملاً.(119/10)
بعض الآيات التي ذكرت فيها كلمة: (السلم)
وهنا سنلقي الضوء على بعض الآيات المناسبة التي ذكرت فيها كلمة: (السلم) كقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:208 - 209].
قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))، السلم هنا معناه: الإسلام، فالله سبحانه وتعالى لما بيَّن وميَّز الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق قال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام، واثبتوا عليه.
فالسلم هنا بمعنى الإسلام، كما قاله مجاهد ورواه أبو مالك عن ابن عباس، ومنه قول الشاعر الكندي: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهمُ تولوا مدبرينَ أي: دعوت عشيرتي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسعد بن قيس الكندي.
فلم يؤمر المؤمنون قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدئ بها فلا، وهذا كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى.
وقيل: المقصود بالآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) بأفواههم ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: ادخلوا في الإسلام بقلوبكم.
وقال طاوس ومجاهد: ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: في أمر الدين.
وقال سفيان الثوري: في أنواع البر كلها.
وقال ابن كثير: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا إلى ذلك.
فيكون معنى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: في جميع أحكام الإسلام الظاهرة والباطنة.
وأما الآية الأخرى فهي قوله في سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، وقد سبق أن بيّنّا أن الجمع بينها وبين الآية في سورة القتال: بأن آية الأنفال تحمل في حالة ما إذا بدأ الكافرون بالجنوح إلى السلم، لكن لا شك أن المسلمين إذا كان لهم مصلحة في الرجوع إلى السلم لنفع يجتنبونه، أو ضر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ به المسلمون إذا احتاجوا إليه، وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وصالح الضمريَّ وأكيدر دومة الجندل وأهل نجران، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زال الخلفاء والصحابة على هذا السبيل سالكون، وبهذا الهدي عاملون.
قال القشيري: إذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة، وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا سبيل لمهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
وقال ابن حبيب عن مالك: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة.
وقال المهلب: ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، وهذا مأخوذ من موادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشاً، ويرجعا بقومهما عنهم.
وكانت هذه مراوغة ومخادعة ولم تكن عقداً، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلا ذلك قبل أن يعقد عقداً استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: (يا رسول الله! هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أم شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: بل أمر أصنعه لكم؛ فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! والله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قِرىً، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله! لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم وذاك، وقال لـ عيينة والحارث: انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف، وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها).(119/11)
معنى المعية المذكورة في قوله تعالى: (والله معكم)
قوله: تبارك وتعالى: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ)).
والمعية هنا معية خاصة؛ لأن الخطاب هنا للمؤمنين.
وقد جاءت النصوص في القرآن الكريم تثبت أن معية الله سبحانه وتعالى لعباده نوعان: النوع الأول: معية الله الخاصة بالمتقين المحسنين، قال عز وجل هنا في هذه الآية: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
وقال تعالى: ((لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)).
وقال تعالى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) [الأنفال:12].
وقوله عز وجل: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
النوع الثاني: المعية العامة لجميع الخلق، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
وقال عز وجل: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وقال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، أي: بل نحن معهم.
وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61].
إذاً: فهناك آيات فيها إثبات المعية الخاصة، وهناك آيات فيها إثبات المعية العامة، ووجه الجمع بينهما: أن المعية الخاصة تكون بالنصر والتأييد والإعانة، وهذه خاصة بالمتقين المحسنين، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وما سبق من الآيات المذكورة.
وأما المعية العامة فهي لجميع الخلق بالإحاطة والعلم، فهو تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ولله المثل الأعلى، وهذه المعية عامة لكل الخلائق، كما دلت عليه الآيات المتقدمة.
وقال الله تبارك وتعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، وهذا يدل على أنه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على جميع خلقه.
وقال أيضاً: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وليس بين هاتين الآيتين اختلاف ولا تضاد، فالله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً لائقاً بكماله وجلاله بلا تكييف ولا تشبيه، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو محيط بجميع الخلائق بالعلم التام، ونفوذ القدرة.
إذاً: لا منافاة بين علوه على عرشه، ومعيته لجميع الخلائق، ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل -وهي أصغر الحبوب على الإطلاق- فإنه لا يكون داخلاً في شيء من أجزاء هذه الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها، فالسماوات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى، سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستوٍ على عرشه، ولا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.(119/12)
شبه المنحرفين في تأويل آيات إثبات المعية والرد عليهم
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى راداً على من يئولون هذا: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، يعني: نحن متبعون لا مبتدعون، فلا تسموا هذا تأويلاً، إنما نحن تَبَع للسلف، فما قال السلف قلنا به.
فورد عن علماء الصحابة والتابعين أنهم قالوا في مثل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، أما ما يقوله بعض الناس: إن الله موجود في كل الوجود! فهذا حلول، وبعضهم يقول: إن الله موجود في كل مكان، فهو في كل مكان بعلمه، فلا يغيب عنه شيء من خلقه.
وأما اعتقاد أهل السنة فهو أن الله سبحانه وتعالى مباين لخلقه، منفصل عنهم لا يمتزج بهم، ولا يحل في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن الآيات التي استدل بها المنحرفون عن عقيدة السلف في هذا: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
فقالوا: هذه تدل على ذلك.
ف
الجواب
أن هذه الآية فيها قولان للناس: أحدهما: أنه قربه بعلمه، ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان، والدليل على هذا التفسير قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] إذاً: فهو أقرب إليه بالعلم والمراقبة والمشاهدة.
وحبل الوريد هو حبل العنق، وهو: عرق بين الحلقوم والودجين -اللذين متى قطعا مات صاحبه- وأجزاء القلب، وهذا الحبل يحجب بعضه بعضاً، وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء.
والقول الثاني: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، أي: قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه، فيكون بذلك أقرب إليه من ذلك العرق.
وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول ابن القيم: وسمعته يقول: هذا مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] مع أن الذي كان يقص على النبي عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله، فنسب تعليمه إليه؛ لأنه بأمر الله، والناس الآن يقولون مثلاً: محافظ الإسكندرية بنى (الكورنيش) مع أنه لم ينبه بنفسه، ولكنه هو الذي أمر.
ويقال: فعل الأمير كذا، أو أسس كذا، وليس معناه أنه هو الذي يقوم بذلك لكن هناك أسباباً تلي ذلك، وإنما ينسب ذلك إليه لأنه تم بأمره، ولله المثل الأعلى، فكذلك هنا: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، أي: إذا قرأه رسولنا جبريل عليه السلام فأنصت إلى قراءته، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولنا فأنصت إلى قراءته حتى يقضيها.
وإن كان أول الآية كما يقول ابن القيم يأبى ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)).
قال: وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة، كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة، يقول: (فيقول الملك الذي يخلقه: يا رب! ذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك).
إذاً: فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، ولا ينافي ذلك استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق، فإن أفعالهم وتخليقهم هو خلق لله سبحانه وتعالى، فما ثَم خالق على الحقيقة غيره سبحانه وتعالى.
كما نلاحظ أن عامة الآيات التي فيها إثبات الاستواء على العرش يقترن بها إثبات صفة العلم، وهذا يدل على إحاطة الله سبحانه وتعالى؛ لعلمه بكل شيء، وهذه إشارة إلى أنه مع الخلق بعلمه وإن كان مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، فيقول الله تبارك وتعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: بعلمه، لأن التي قبلها: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2]، ثم قال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: بعلمه تبارك وتعالى.(119/13)
كلام ابن تيمية رحمه الله في المعية الواردة في الآيات
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه.
وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره: أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه.
وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية).
ولفظ المعية جاء في كتاب الله عاماً كما في هاتين الآيتين -يعني: آية الحديد وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، وآية المجادلة التي قوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ))، إلى آخر الآية-، وجاء خاصاً كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)).
فلو كان المراد: بذاته مع كل شيء إذاً لم يبق له مزية، يعني: إذا كانت المعية بالذات مع كل المخلوقات فلا تكون فيه مواساة كما في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فسيرد عليه أبو بكر بقوله: وهو أيضاً مع غيرنا كما هو معنا!! فلا يستقيم معنى ذلك إلا بحمل الآية على المعية الخاصة، أي: بالنصر والتأييد.
يقول ابن تيمية: فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فخصهم بذلك دون الظالمين والفجار، وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب، ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى.
وكلمة (المعية) في لغة العرب وفي القرآن الكريم لا تقتضي الامتزاج، فإنك تقول: سرت مع القمر، مع أنك لم تمتزج بالقمر، وإنما تمشي مسايراً، وترسل لابنك في أطراف الأرض رسالة وتقول له: أنا معك، مع أن ذلك لا يدل على الامتزاج.
فلا يراد بالمعية اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، فلا يفهم من ذلك أنهم امتزجوا معه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:75]، ومثل هذا كثير.
فامتنع أن يكون قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ)) يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم.
إذاً: فلفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فالمعية العامة تعني إن الله مع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، والمعية الخاصة خُصَّ بعض الخلق بها، ففي هذه الحالة نفهم المعية على أنها معية بالإعانة والنصر والتأييد والتثبيت.
وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل): فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً.
أي: أن الأشاعرة وغيرهم يهاجمون أهل السنة والسلفيين ويقولون لهم: أنتم تحرمون علينا التأويل وتبيحونه لأنفسكم، فها أنتم الآن تئولون هذه الآيات ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) وتقولون يعني: معكم بعلمه.
فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ)) أي: بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما يلزمنا.
قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه الأخبار على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأذهان منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه.
فالمتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني: بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال لموسى: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له، فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه ولم يكن تأويلاً، وإنما هو المعنى الراجح من ظاهر الألفاظ، فيحمل في كل موطن على ما يليق به.
ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت ثوابهم، ووجب اتباعهم هم الذين تأولوا، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ)): أي: علمه، ثم قد ثبت في كتاب الله والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه.
وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7]، ثم قال في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فبدأها بالعلم وختمها به، وسياقها هو لتخويفهم بعلم الله سبحانه وتعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليها، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفقت فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟! وحكى ابن عبد البر كما ذكرنا الاتفاق عليه، ودلت الأخبار أيضاً والقرائن في الآيات على هذا المعنى، فكيف تلحقون بما هذا شأنه ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى.
ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يحرَّج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.(119/14)
تفسير سورة محمد [36 - 38](120/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:36 - 37].
قوله تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) وقال تعالى أيضاً: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، أي: لقصر مدتها، كما قال الشاعر: ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم وقيل: معناه: أن متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، فالذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللعب واللهو، فمثلاً: ترى الأطفال يجتمعون على اللعب بالرمل أو الدمى أو غيرها، ثم ينفض هذا اللعب وينصرفون عنه كأنه لم يكن، فكذلك الدنيا.
وقيل: معنى: (لعب ولهو) أي: باطل وغرور، واللعب ما لا ينتفع به، واللهو ما يلتهى به، وكل ما شغلك فقد ألهاك.
وقيل: اللعب: ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها.
إلا أنه ينبغي أن يفهم من قوله تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) أي: ما كان منها متمحضاً للدنيا، فليس من اللعب ولا من اللهو ما كان من أمور الآخرة؛ لأن حقيقة اللعب هو ما لا ينتفع به، ولا يترتب عليه نفع، واللهو هو: ما يلتهى به.
أما ما كان مراداً للآخرة فهو خارج عن اللعب واللهو، ولذلك قال الشاعر: لا تتبع الدنيا وأيامها ذماً وإن دارت بك الدائرة من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة فالدنيا هي المزرعة التي يزرع المؤمن فيها ليحصد في الآخرة، فليس كل أمر الدنيا مذموماً، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً)، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيهم.
وروي أيضاً: (من هوان الدنيا على الله: ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
ويقول الشاعر: تسمع من الأيام إن كنت حازماً فإنك منها بين ناهٍ وآمر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر فما رضي الدنيا ثواباً لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاءً لكافر وقال ابن عباس في قوله: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) هذه حياة الكافر؛ لأنه يكون فيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهواً ولا لعباً.
يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] أي: تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء، وهي فانية.
والمتاع: هو ما يتنفع به كالفأس والقدر والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه.
قال الحسن في قوله: (إلا متاع الغرور) أي: كخضرة النبات، ولعب البنات، لا حاصل له.
أي: أن النبات يزدهر فيصير أخضر، ثم يصير في النهاية حطاماً، أو كلعب البنات فإنه لا حاصل له.
وقال قتادة: هي متاع توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع.
قوله: ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))، الغرور هو الشيطان، فهو يغر الناس بالأماني والمواعيد الكاذبة.
وقال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول، يقال: هذا من بيع الغرر، وهو: ما كان له ظاهر بيع يغر، وباطن مجهول.
وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، فوصف متاع الدنيا بأنه قليل؛ لأنه لا بقاء له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها).
وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، وهذا الاستفهام (ما لكم) استفهام توبيخ، وقوله: (من الآخرة) أي: أرضيتم بنعم الدنيا بدلاً من نعيم الآخرة؟!! فـ (من) هنا تتضمن معنى البدل، ((أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ)) أي: بدل الآخرة، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: (لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون).
فعاتبهم الله سبحانه وتعالى على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله تعالى عنها وقد فاقت راشدة: (أجرك على قد نصبك)، أي: رواه البخاري على قدر المشقة التي تعانينها.(120/2)
الآيات الدالة على ذم الدنيا وحقارتها(120/3)
قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض)
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]، وقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:24 - 25].
((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها، (كماء) أي: كمثل ماء، ((أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)) أي: اختلط بالماء نبات الأرض، فأخرجت ألواناً من النبات، أو اختلط النبات بالمطر، أي: شرب منه، فتندى وحسن واخضر، والاختلاط هو تداخل الشيء بعضه في بعض.
((فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)) أي: مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، ومما تأكله الأنعام من الكلأ والتبن والشعير.
(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: حسنها وزينتها، فالزخرف هو كمال حسن الشيء، ومنه قيل للذهب زخرف.
(وظن أهلها) أي: أيقن أهلها (أنهم قادرون عليها)، أي: على حصادها والانتفاع بها.
(أتاها أمرنا) أي: عذابنا، أو أمرنا بإهلاكها.
(ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً) أي: محصودة مقطوعة لا شيء فيها.
(كأن لم تغن بالأمس) أي: كأن لم تكن عامرة، والمغاني في اللغة هي المنازل التي يعمرها الناس.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى وصف هذه الدار -وهي دار الدنيا- وصف الدار الآخرة فقال: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي أنه لا يرضى لكم الدنيا التي هذه صفتها وطناً، وإنما يدعوكم إلى دار السلام، فهو سبحانه لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة؛ لتصيروا إلى دار السلام، وهي الجنة.
((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: بالدعوة، إظهاراً للحجة وعدلاً منه تبارك وتعالى، فتأملوا هذا، فبعدما ذم الدنيا وبين حقارتها قال سبحانه وتعالى: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعوا كل الخلق، بدليل أنه أغفل ذكر المفعول به، لم يقل: (والله يدعوكم)، وإنما قال: (والله يدعو)، أي: جميع الناس إلى دار السلام، للدخول في الإسلام وطاعة الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، فخصّ هنا في الهداية من يشاء هدايته، وعم أولاً بالدعوة؛ إظهاراً للحجة، وعدلاً منه سبحانه وتعالى أن الجميع مدعوون إلى الدخول في الإسلام والعمل الصالح؛ لأجل أن يستحقوا دخول الجنة، ثم خص بالهداية؛ استغناءً عن خلقه، ورحمة منه وتفضلاً، وهذه الآية حجة على القدرية الذين قالوا: لقد هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، أما الله سبحانه وتعالى فيقول: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]).
وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69 - 70]، أي: أن هذا أقصى ما ينالونه في الدنيا، فإنهم يتمتعون فيها متاعاً مؤقتاً، ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)).
وقال عز وجل أيضاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26] أي: في جانب الآخرة (إلا متاع) أي: متاع من الأمتعة، والمتاع هو الشيء القليل الذاهب، وهو مأخوذ من قولك: متَع النهار، أي: ارتفع، وإذا ارتفع النهار فلابد له من زوال ونهاية.
وقال ابن عباس في تفسير: قوله (إلا متاع) أي: زاد كزاد الراعي، وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح.
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، والزينة هي كل ما على وجه الأرض، فهو عموم من جهة خلقه وصنعه وإحكامه، فهذه الآية بسط في التسلية في مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لا تهتم يا محمد! للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ويوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنّ عليك كفرهم، فإنا سنجازيهم.
ومعنى هذه الآية: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض) أخرجه مسلم، والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها كالثمر المستحلى، المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً، أي: من يكون أزهد فيها، وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغض ما زينه الله إلا أن يعينهم الله على ذلك، ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم! إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه.
فهذا هو المهم، أن يغنيك الله على إنفاق هذا المال في حقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع)، أي: أن المكثر من الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر، فكلما شرب ازداد عطشاً، أما القانع الذي يقنع بما قسم الله سبحانه وتعالى له فإنه يبارك له في ذلك.
فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها؛ لأنه لم يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفتنة حاصلة معها، وعدم السلامة غالبةعليها، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه.
وقال ابن عطية: كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]: أحسن العمل: أخْذ بحق، وإنفاق في حق، مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.
قال القرطبي: وهذا قول حسن وجيز في ألفاظه، بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد، وهو قوله لـ سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم.
وقال سفيان الثوري: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: أيكم أزهد فيها.
وقال العسقلاني: (أحسن عملاً) أي: أترك لها.(120/4)
قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: قس لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين، ((مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ))، فشبه الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا لا تبقى على حال واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، وكذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى بل يذهب، وكذلك الدنيا تذهب، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، وكذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، كذلك الدنيا، فالفكاك منها ينفع، وقبولها يضر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه).
وقال تبارك وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، وذلك أن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوة ودفعاً، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة الدنيا المحتقرة، فلا تتبعوها نفوسكم.
إذاً: فهذه الآية في الحقيقة هي رد على من افتخر بالغَناء والترف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فإنه يمر ولا يبقى، كالهشيم حين تذروه الرياح، وإنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة، ولذلك قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] أي: التي عرفتم صفتها، فلا ينبغي لأحد أن يتفاخر بهما.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46] أي: والباقيات الصالحات أفضل عند ربك ثواباً وخير أملاً، أي: أفضل أملاً من الافتخار بالمال والبنين دون عمل صالح.
وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132].
وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وقد جاء اللعب مقدماً على اللهو في أربعة مواضع من القرآن الكريم، وقد نظمت في بيتين وهما: إذا أتى لعب ولهو وكم من موضع هو في القرآن فحرف في الحديث وفي القتال وفي الأنعام منها موضعان(120/5)
الأحاديث الواردة عن النبي في ذم الدنيا
وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذم الدنيا، ودعا إلى الاعتبار بسرعة زوالها، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أُحبّ المساكين؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم أحيني مسكيناً! وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، والمساكين هم: أهل السكينة والتواضع، وذلك لأن الفقير أرق قلباً، وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والمسكنة مأخوذة من السكون، فهو إذا لم يستطع كسباً، أو لم يجد مالاً فإنه يسكن ويقعد.
فقوله: (اللهم! أحيني مسكيناً) ليس فيه دعاء بالفقر؛ لأن الفقر إذا وقع فإنه بلاء، وقد قرنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكفر في أذكار الصباح والمساء فقال: (اللهم! إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، إذاً: فليس هذا الدعاء دعاءً بالفقر وهو بلاء، وإنما هو دعاء بأخلاق المساكين من الخشوع والسكينة والتواضع، (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين).
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزحه وملحه قد علم إلى ما يصير)، فهذا مثل من أمثلة الدنيا، فالطعام الذي يخرج من ابن آدم بعدما يمتص ويهضم يصير فضلات لها شكل قبيح، ورائحة نتنة، فانظر إلى عاقبتها، ولا تغتر بمظهرها، وإن قزحها وملحها ووضع عليها التوابل والمشهيات.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
فمن كانت الآخرة همه، وجعل الهموم هماً واحداً فإن هذا يترتب عليه هذا الكسب العظيم، فيجمع الله شمله، وتلتئم أموره، وجعل غناه في قلبه، وهذا هو أعلى درجات الغنى: غنى القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس).
ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إن الغنى العالي عن الشيء لا به فكل من استغنى بمال فهو فقير إلى هذا المال، وأما أعلى درجات الغنى فهي أن تستغني عن الشيء ولا يستعبدك؛ ولذلك جعل عاقبة من كانت الآخرة همه أن جعل غناه في قلبه؛ لأنه إذا اغتنى قلبه طمع ولم يتطلع إلى الدنيا، ومع ذلك من إيقاع القناعة في قلبه لا يحرم عليه الدنيا، بل تأتيه الدنيا وهي راغمة ذليلة، فهي التي تأتيه وليس هو الذي يجري وراءها، (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)، فهذه هي السعادة التي يبحث عنها الناس، ويضلون الطريق إليها حينما يعرضون عن الذكر والقرآن، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
(ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، ولم يأته من الدنيا التي يوغل في الجري واللهف وراءها إلا ما كتب له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله! لو اتخذت فراشاً ألين من هذا، فقال: مالي وللدنيا! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إذا أزاغه إلا هي، وايم والله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء).
وعن محمود بن لبيد مرفوعاً: (اثنان يكرههما ابن آدم، يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلاً ميسر لما خلق له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخلت عليّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت إليَّ بفراش حشوه صوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: يا عائشة! رديه والله! لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة).
وقد عرضت عليه صلى الله عليه وسلم مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها، وقال: (بل أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).
وقال أبو هريرة: (والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام شبعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً، ولا شاة سميطاً حتى لحق بربه).
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ تباعاً حتى قبض).
وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم لا يجد دقلاً يملأ بطنه).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (والذي بعث محمداً بالحق! ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه، قال عروة: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار ونعجن الباقي).
وفي مسند الحارث عن أبي أسامة عن أنس: (أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟! قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاثة أيام).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من الجوع)، قال ابن القيم: وقد أسرف أبو حاتم ابن حبان في تقاسيمه في رد هذا الحديث وبالغ في إنكاره، وقال: إن المصطفى أكرم على ربه من ذلك، أي: أنه رفض الحديث من جهة المعنى، وقال: إن فرد عليه ابن القيم قائلاً: وهذا من وهمه، وليس في هذا ما ينقص مرتبته عند ربه، فذلك رفعة له، وزيادة في كرامته صلى الله عليه وسلم، وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم، وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الأحاديث في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه، فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه إنه طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك، وسيرته سيرتهم، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه بلاد العرب، وجبيت إليه الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً، ولا ديناراً ولا شاة، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة، صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة! -هذا عروة - فعلى أي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين، التمر والماء).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد)، فقد كان المؤمن الوحيد من هذه الأمة صلى الله عليه وسلم فقط حين بعث، فكان هو فرداً واحداً، قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال).
وعن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً) يعني: جاء الصحابة يشكون إلى الرسول عليه السلام الجوع، فأتى كل واحد ووقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ورفع ثيابه فإذا به قد شد عن بطنه بحجر، وفائدة شد الحجر على البطن، وكذلك شد الأحزمة على البطون أن ذلك يقاوم الجوع؛ لأن الضغط على المعدة بالحجر يقلل من حجمها، ويقلل من الشعور بالجوع، فكان الصحابة من شدة الجوع يربطون على بطونهم حجراً، وهذه إحدى وسائل إيقاف الوزن الآن، فيضحكون على الناس ويجعلون لهم كتلة تضغط على مكان المعدة بحيث يقل حجم المعدة فلا يشعر الإنسان بالجوع، أو تقلل الإحساس بالجوع، فالمهم أن الصحابة شكوا بلسان الحال لا بلسان المقال، فيقول أبو طلحة: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين).
فهذه جملة من الأحاديث التي فيها(120/6)
الأمثلة المضروبة في ذم الدنيا وحقارتها
ومن الأمثلة التي تنبه الإنسان إلى حقيقة الدنيا ما قاله بعضهم، قال: للعبد ثلاثة أحوال: حالة لم يكن فيها شيئاً، وهي ما كان قبل أن يولد، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1].
وحالة أخرى: وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي في القبر، ثم البعث، ثم الخلود في إحدى الدارين، وكل واحد منا له تاريخ ميلاد وله تاريخ وفاة، فقبل أن يوجد في هذه الدنيا يحسب ما بقي من حين أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، أو من حين أن الكون وإلى الآن كم مضى؟ فهذه أول حالة، وقد كنت فيها عدماً، ثم هناك حالة أخرى عند الطرف الآخر من الرحلة وهي: من خروج روحه إلى الحياة البرزخية في القبر، إلى البعث والنشور، ثم الخلود في إحدى الدارين.
وهناك حالة متوسطة ما بين هاتين الحالتين وهي: أيام حياته، فانظر إلى مقدار زمانها ونسبتها إلى الحالتين، ولنفرض أن العمر مائة سنة مثلاً فلننظر إلى نسبة زمانها بالنسبة للحالتين، فإنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا، فتمر عليه ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، وفي شدة وضيق أو في سعة ورفاهية، فالدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها.
مثال آخر: وهو أن شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت غايتها.
كان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم، ودجاجهم، وعسلهم، وسمنهم.
يعني: هذه هي النهاية.
مثال ثالث: روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة -الصحراء المهلكة- لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءهم هذا إلا من قريب، قال: فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء! على ما أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء، ورياض خضر ما تجعلون لي؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله -أي: أعطوني العهود والمواثيق أنكم لا تعصوني إذا دللتكم على مكان فيه رياض خضراء وماء عذب وكذا وكذا-، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً ورياضاً خضراً، قال: فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء! الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم -يعني: هي أجمل وأبهى وأحلى-، قال: فقال جُلُّ القوم -وهم أكثرهم-: والله! ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا، قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئاً، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره! فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم، فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل).
فهذا أيضاً مثال من أمثلة الدنيا، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من نصيحة أمته.
المثال الرابع: ما رواه المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: (كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: ومِن هوانها ألقوها يا رسول الله! قال: فوالذي نفس محمد بيده! للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها).
المثال الخامس: مثل الدنيا مثل إناء مملوء عسلاً، فرآه الذباب فأقبل نحوه، فبعض الذباب صعد على حافة الإناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعض الذباب الآخر حمله الترف على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه فلم يدعه الانغماس فيه أن يتهنأ به إلا قليلاً حتى هلك في وسطه.
فكذلك الدنيا: إن وقف الإنسان على الحافة وأخذ المقدار الذي يحتاجه في حياته نجا، وأما إذا انغمس فيها فإنه يغرق، ولذلك يكثر إخواننا في جماعة التبليغ من ضرب الأمثلة الطيبة كقولهم: إن السفينة تمشي في الماء، فما دام أن الماء خارجاً عنها فإنها تستطيع أن تمشي وتسلم، وأما إذا دخل الماء فيها فإنها تغرق، فكذلك الدنيا.
ومن الأمثلة أيضاً: ما رواه بعضهم أن رجلاً كان يمشي في صحراء، فوجد بئراً على طرفيه حبلان مثبتان، حبل من اليمين وحبل من الشمال، فتعلق بالحبلين ونزل ليشرب من هذا البئر، فلما توسط البئر وجد أمامه كوه أو فجوة في جدار البئر فيها عسل، وإذا به يمكث ليتناول هذا العسل، فإذا بفأرين من أعلى: فأر أبيض وفأر أسود، فأتى كل واحد منهما ليأكل طرف هذا الحبل وكل منهما في جهة، وإذا به ينظر في القاع فيرى وحوشاً وثعابين ونحوها، فهو في هذه الحالة يرى عمره، ويرى الحبل ينقرض في أعلى، ويرى العاقبة وأنه سيقع فريسة هذا التنين أو الوحش، ومع ذلك أخذ يتمادى في تناول هذا العسل، ويتلاهى عن المصير الذي ينتظره عما قريب.
فهذا مثل الدنيا، قالوا: فالفأر الأسود هو الليل، والفأر الأبيض هو النهار، فهما يأكلان عمره، وهذا الحبل هو عمره، فالحبل الأيام، والليل والنهار يقربان عمره، فالإنسان في الحقيقة ينقص عمره بمرور السنوات، فقد سبق في المقادير أن هذا الإنسان يعيش فترة مسماه كتبها له، فكلما مر يوم اقترب من القبر أكثر، فالعد في الحقيقة هو تنازلي وليس تصاعدياً، فهو يفقد من عمره كل يوم يمر خلافاً للجهلة الذين يقولون: عقبى مائة سنة، ويهنوا الإنسان، وأنا إلى الآن أعجب: كيف أن الإنسان يحتفل بما يسمى عيد الميلاد؟ فهل هذا عيد يقتضي الفرحة أم يقتضي الحزن والخوف من الله سبحانه وتعالى؟! لقد صرت الآن أقرب إلى القبر، وعمرك محدود لا محالة لا يزيد وإنما ينقص.
فكلما مرت سنة صرت أقرب إلى لقاء الله، فهذا اليوم المفروض أن يكون وقت عزاء وحزن وغم وهم إن لم تكن تستدرك هذه الأيام الماضية.
فالإنسان يتلهى في الدنيا، وينهمك في تعاطي هذه الشهوات، والعمر يقرض من فوق وينتظره المصير تحت في العذاب، فهذا مثال من الأمثلة.
مثال آخر: عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والجنادب يتقاحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها).
فالرسول عليه الصلاة والسلام مهمته إنقاذكم من النار، فأنتم كمثل هذا الفراش الذي يجذب ناحية الضوء ولا يدرك أن فيه إحراقاً وهلاكاً، فهو يذب الفراش كي ينجو، والفراش -لقلة عقله- يندفع ويصر على أن يرمي نفسه في النار.
فكذلك الناس يتهافتون ويلقون أنفسهم في النار بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن ينقذهم لكنهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم.
فهذه هي صفة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فما جاء الشرع ليعكر على الناس حياتهم، ولا ليعقد لهم حياتهم، ولا ليثقل كاهلهم، وإنما أتى رحمة بهم بكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلا يريد الشرع إلا مصلحتنا، ولا يريد إلا نجاتنا وسعادتنا، ومن هلك فإنه هو الذي يصر على هذه الهلكة، ويرفض أن يستجيب لداعي الله عز وجل.
فانظر إلى قول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها)، أي: أنكم أنتم الذين تصرون على أن ترموا أنفسكم في النار، أما أنا فأحاول إنقاذكم وأنتم تتقاحمون، فتخيل منظراً كهذا: شخص يريد أن يرمي نفسه بالنار، وآخر يمنعه وهو يقاومه يقول: لا، اتركني أرمي نفسي، إلى أن يغلبه فعلاً ويقع رغماً عنه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يحاول انجاء شخص واحد، وإنما يحاول إنجاء ملايين البشر حين يدعوهم إلى التوحيد، وإلى الإسلام، وإلى النجاة من النار، وهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم.
مثال آخر وهو المثال السابع: مثل الإنسان ومثل ماله وعمله وعشيرته، مثل رجل له ثلاثة إخوة، فقضي له سفر بعيد طويل لابد له منه، فدعا إخوته الثلاثة فقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل، وأحوج ما كنت إليكم الآن، يعني: أن السفر طويل وبعيد وشاق فأريد أن تصحبوني في هذا السفر، فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا.
فقال له: لن تغني عني شيئاً.
فقال الأخ للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب.
فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري.
فقال: لا سبيل لك إلى ذلك.
فقال: لن تغني عني شيئاً.
فقال للثالث: ما عندك أنت؟ قال: كنت صاحبك في صحتك ومرضك، وأنا صاحبك الآن، وصاحبك إذا ركبت راحلتك، وصاحبك في مسيرك، فإن سرت سرت معك، وإن نزلت نزلت معك، وإذا وصلت إلى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك أبداً.
فقال: إن كنت لأهون الأصحاب إليّ، يعني: أنك كنت عندي أرخص من هؤلاء الأصحاب أو الإخوة، إن كنت لأهون الأصحاب إلي، وكنت أوثر عليك صاحبيك، فليتني عرفت حقك وآثرتك عليهما.
فالأول: ماله.
والثاني: أقاربه وعشيرته وأصحابه.
والثالث: عمله.
فالأول: ماله، الذي قال له: كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست لك بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا؛ لأن المال بمجرد خروج الروح لم يصبح ملكه، وإنما هو مال الورثة، فانقطعت الصلة.
وأما الأخ الثاني الذي قال له: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب، وهذا ما يفعله الأهل والعشيرة عند خروج روح الإنسان وموته، فهم لا يتركونه، لكن يبقون معه فترة مؤقتة كي يسرعوا في التخلص منه، ويبقى أعز الناس عليه وأحبهم إليه يقول: إكرام(120/7)
زهد السلف في الدنيا وتحذيرهم منها
قال علي رضي الله تعالى عنه في وصف الدنيا: أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن ساعاها -يعني: سابقها- فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها -أي: اعتبر- بصرته.
وقال وهب بن منبه: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
وقال بعضهم: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.
ودخل أبو حازم على بشر بن مروان فقال: يا أبا حازم! ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه، قال: ومن يطيق هذا يا أبا حازم؟ قال: فمن أجل ذلك ملئت جهنم من الجنة والناس أجمعين.
ودخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه، فقال: لو كانت الدنيا دار مقام لاتخذنا لها أثاثاً.
وقيل لبعض الزهاد: ألا توصي؟ قال: بماذا أوصي؟! والله مالنا شيء، ولا لنا عند الله شيء، ولا لأحد عندنا شيء.
وقال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالاً يلوي بيده ثوباً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكتسبه يوماً بيوم، فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه.
وحفر الربيع بن خثيم في داره قبراً فكان إذا وجد في قلبه قسوة جاء فاضطجع في القبر فمكث فيه ما شاء الله، ثم يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، ثم يرد على نفسه فيقول: قد أرجعتك فجدي.
وقال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم: هل ترون إلا خرقاً تبلى، أو لحماً يأكله الدود غداً.
وقال الحسن: إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لب فيها فرحاً.
وعن الحسن أيضاً قال: يا ابن آدم! طأ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليل قبرك، وإنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.
لكن ينبغي أن نعرف أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها، أي: أنه ذم للدنيا لا ذم لليل والنهار المتعاقبين إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكوراً.
وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى أجزائها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن؛ لأن هذه من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، لما فيها من المنافع، والاعتبار، والاستدلال على وحدانية الصانع عز وجل، وإنما يقع ذم الدنيا على أفعال بني آدم في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، كما قال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20].
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).
إذاً: فهذا هو رأس مال الإنسان: الوقت، والزمن، والعمر، فلا يذم الدهر أو الزمن لذاته، وإنما يذم لأنه يشغل عن طلب الآخرة، فيمكن أن يستعمل في الخير، وأن يستعمل في الشر.
إذاً: فينبغي أن نعرف ما هو الشيء الذي يتوجه إليه الذم.
وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع غرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.
وقال يحيى بن معاذ: كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت، أكتسب بها حياة، وأدرك بها طاعة، وأنال بها الجنة؟! يعني: هل يمكن أن يصل أحد إلى الجنة إلا بالعمل الصالح في الدنيا، وإذاً: فالدنيا مزرعة لا تذم لذاتها وإنما تذم فيها أعمال بني آدم.
وسئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد الآخرة فليس منها.
أي: ليس من الدنيا المذمومة.
وقال الحسن: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار.
وقد قص الله سبحانه وتعالى لنا على لسان أهل العلم والإيمان في قصة قارون حينما نصحوه فقالوا له: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا).
فقيل: هو العمل الصالح الذي تخرج به من الدنيا، فهو الذي ينفعك، فنصيب الإنسان من الدنيا في الحقيقة هو عمره وعمله الصالح، كما قال بعض السلف: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وهذه العبارة المنسوبة إلى الحسن البصري رحمه الله، فقوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، أي: أن يتهالك في خدمة الدنيا وكأنه سوف يعيش إلى الأبد فيستمتع بالدنيا، وليس الأمر كما يفهمه بعض الناس، فلو كان أمامك عملان أحدهما إن فاتك غداً تستدركه بعد غد، أو بعد شهر، أو بعد سنة، أو بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، فهو عندك إلى الأبد ويمكن أن تعوضه، وفي نفس الوقت هناك عمل آخر إن فاتتك مادته فإنها تنتهي، فإنك تقدم العاجل، فأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً فسوّف في الدنيا، وأما في الآخرة فبادر.
قوله: واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، يعني: قدم عمل الآخرة على عمل الدنيا، وهذا هو الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا))، أي: الذي ينفعك وهو العمل الصالح.
والقول الآخر: إن قوله: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) نوع من الرفق مع الشخص الذي تدعوه؛ حتى تبين له أن الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والدخول في الدين لن يحرمه من الدنيا التي يحبها ما دام في المباح والحلال، فكأنه يقول: لن تحرم من متاع الدنيا ومن الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى، فلا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك.
والتفسير الثالث: أن قوله: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) وعظ مستقل، فلا تنس أن هذه الدنيا التي أنت غارق فيها أن الذي ستخرج به منها هو الكفن، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن، كما قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن يقول تبارك وتعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ))، قال شيخ المفسرين رحمه الله تبارك وتعالى: يقول تعالى ذكره حاضاً عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به، قاتلوا أيها المؤمنون! أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعوكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه، فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو يضمحل فيذهب، ويندرج فيمر، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه.
قوله: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ))، أي: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها فلعب ولهو، فتؤمنوا به، وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل بطول اللهو واللعب، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ)) هذا هو جواب الشرط، (يؤتكم أجوركم) أي: فهذا ليس من اللهو واللعب، بل يترتب عليه الأجر والثواب، فيعوضكم منه ما هو خير لكم منه يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم.
قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يسألكم ربكم أموالكم، ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد الألوهية والطاعة له.(120/8)
تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)
قال الله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37].
قوله: (إن يسألكموها) أي: إن يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) يعني: يذهبكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، (تبخلوا) أي: تمنعوها إياه ضناً منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها.
قوله: (ويخرج أضغانكم) أي: ويخرج جل ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم.
قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان، أي: أن المال أكثر شيء يكشف ما في داخل الإنسان، والمال هو مادة مهمة جداً من مواد الامتحان، فأي شخصية تريد أن تحكم عليها فلاشك أن موقع المال في قلبه هو من الموازين الحساسة والدقيقة التي تصلح أن يكشف بها على أخلاق الإنسان، ولذلك قالوا: سميت الدنيا دنيا لأنها دنيئة، وسمي المال مالاً لأنه يميل بصاحبه.
فهذا بيان لشدة تعلق الإنسان بالمال، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: أنه هو الذي يعطيكم ولا يطلب منكم شيئاً.
{إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، أي: سيخرج هذا المال أو هذا السؤال أضغانكم وأحقادكم.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بناءً على أن الإضافة هنا تفيد العموم.
قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) فالإضافة من صيغ العموم، ومن صيغ العموم أيضاً أسماء الشرط وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والجموع المضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفرد المحلى باللام، ولفظ كل، وجميع، ونحوها مثل: معشر، ومعاشر، وعامة، وكافة، وقاطبة.
فالإضافة من صيغ العموم من غير فرق بين كون المضاف جمعاً كما تقول: عبيد زيد، أي: كل عبيد زيد، أو اسم جمع كما تقول: جاءني ركب المدينة، أو اسم جنس كما في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فهذه اسم جنس لكل النعم، أو كما في الحديث: (منعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها وصاعها)، إلى آخر الحديث، فهي جاءت بصيغة المفرد؛ لكنها اسم جنس.
الشاهد: أن من صيغ العموم الإضافة، فقوله هنا: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، هذا هو المنطوق، والمفهوم: وإنما يسألكم بعض أموالكم، ولكن لا يسألكم جميع أموالكم، وهذا البعض هو الزكاة، وعلى هذا الأساس فسر القرطبي قوله تعالى: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض وهو القليل منها فهو غيض من فيض.
قول آخر: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، يعني: لا يسألكم أموالكم لنفسه، أو لحاجة منه سبحانه وتعالى إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم، فهو راجع إليكم في الحقيقة.
وقيل: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، وإنما يسألكم أمواله؛ لأن هذا المال الذي في أيديكم هو مال الله، وهو الذي خولكم هذا المال، فحينما يكلفكم إنفاق هذا المال فهو ليس مالكم أنتم، وإنما هو مال الله الذي آتاكم، فلا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله؛ لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها.
وقيل: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أجراً على تبليغ الرسالة كما في قوله تعالى: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) [الفرقان:57].
وقال صديق حسن خان: وإن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي (يؤتكم أجوركم) أي: جزاء ذلك في الآخرة، والأجر هو الثواب على الطاعة.
وقال القاسمي: قال بعض المفسرين: أي: لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير كربع العشر، وعُشره، إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم، وهو معطوف على الجزاء، والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم، ولا يخفى حسن مقابلته لقوله: (يؤتكم أجوركم)، فهناك نوع من حسن المقابلة بين: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) أي: يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال.
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ))، هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها كما ذكرنا أن المعنى: ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:47]، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40].
وعقد العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في (أضواء البيان) في موضعين (2/ 17 - 220) و (7/ 189 إلى 192) بحثاً مفصلاً حول بيان أن جميع الرسل لا يأخذون أجراً على التبليغ، وناقش فيه مسألة أخذ الأجر على تعليم القرآن وبين عدم جواز ذلك، والبحث مفصل لكن نكتفي بهذا الذي ذكرنا.
قوله: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ)) يعني: يلح عليكم، يقال: أحفى في المسألة، وألحف، وألح بمعنى واحد، والحفي المستقصي بسؤاله، كذلك الإحفاء الاستقصاء بالكلام والمنازعة، ومنه: أحفى شاربه، أي: استقصى في أخذه.
قوله: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ)) أي: يضيق عليكم ويلح عليكم فالنتيجة: ((تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) أي: يخرج البخل أضغانكم، أو: يخرج الله سبحانه وتعالى أضغانكم.
قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا وتخرج أضغانكم).
وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ونخرج أضغانكم).
وفي قراءة: (ويخرج أضغانكم)، يعني: على الاستئناف، وليست معطوفة على ما قبلها.
والمشهور عن أبي عمرو: (ويخرج) كسائر القراء عطف على ما تقدم.
قال صديق حسن خان رحمه الله: أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا عن الامتثال، (ويخرج أضغانكم) يعني: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك، فالمال أكثر ما يكشف خبايا النفس، ولذلك فمن الأمور المهمة التي تستطيع أن تحكم بها على الإنسان أن تعامله معاملة مالية، فالمال هو الذي يكشف حقيقة الأخلاق والطباع، ويظهر شح النفس.
قال قتادة: علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان، وهذا من حيث محبة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يخفيها.
أي: أن المال محبوب للإنسان جداً، فإذا نوزع فيه طولب بإخراجه بصورة أو بأخرى فحينئذٍ يظهر هذا التعلق الذي كان مطوياً في قلبه للعيان.
قال ابن كثير: وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.
فلا يجود الإنسان ببذل المال إلا إذا كان متأكداً أن هذا الذي يصرف إليه المال أعز عليه من المال سواءً كان أخاً في الله، أو غير ذلك، أو كان ينفقه لوجه الله وهو موقن أن الثواب الذي عند الله أضعاف هذا المال الذي يخرجه.(120/9)
تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله)
قال الله تبارك وتعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] أي: هاأنتم يا هؤلاء المخاطبون الموصوفون (تدعون)، وهذه جملة مستأنفة مقررة ومؤكدة لما قبلها؛ لاتحاد محصل معناهما، (لتنفقوا في سبيل الله) أي: في الجهاد وفي طرق الخير، (فمنكم من يبخل) أي: بما يطلب منه، ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال فكيف لا يبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟! فإن كان يبخل بالقليل من المال وهو الزكاة مثلاً، أو حقوق الله عز وجل وهي قليلة، فكيف لا يبخل بالكثير؟ ومقابله: ومنكم من يجود، فتأملوا هذا: (فمنكم من يبخل) و (منكم) هنا تبعيضية، ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ))، ومقابله: (ومنكم من يجود)، وهذا المقابل حذف من الكلام؛ لأن المراد في الآية هو الاستدلال على البخل؛ لأنه في الآية التي قبلها قال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}، فأتت الآية التي تليها لتبين حقيقة هذا: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ))، ومفهوم (منكم) أي: بعضكم.
ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال: ((وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ))، فهو في الحقيقة إنما يبخل على نفسه؛ لأنه يمنعها الأجر والثواب، ويحرمها ما هو أعظم من المال وهو الأجر والثواب.
و (بَخلَ) و (ضَنَّ) يتعديان تارة بـ (على) وبـ (عن) أخرى، فتقول: بخل على نفسه، أو بخل عن نفسه، وهذا الذي استعمل هنا: ((وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ))؛ لأن (عن) تتضمن معنى الإمساك، أي: كأنه أمسك عن نفسه الأجر والثواب.
وقيل: المعنى: يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه، (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي: أن (عن) هنا تشير إلى مصدر البخل، أي: أن البخل ينشأ عن داعي نفسه هو، وأما الله تعالى فلا يدعو أبداً إلى البخل ولا يحب البخل.
قوله: ((وَاللَّهُ الْغَنِيُّ)) أي: المطلق والمنزه عن الحاجة إلى أموالكم.
قوله: ((وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)) أي: إلى ما عنده من الخير والرحمة، وهذا كما قال عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7]، وقال موسى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]، وقال عز وجل: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]، وقال تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، قوله: (وإن تتولوا) معطوف على الحملة الشرطية المتقدمة وهي قوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا) إلى أن قال: (وإن تتولوا) أي: إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى.
(يستبدل قوماً غيركم) أي: يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم، هم أطوع لله منكم.
قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية قالوا: من هؤلاء الذين يستبدلهم الله بنا؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الفرس، هذا وقومه)، وفي إسناده مسلم الزنجي، وقد تفرد به، وفيه مقال معروف، ولهذا الحديث طرق في الصحيح.
وهذا الدرس في الحقيقة عندما درسته كان الدرس رقم (12) من دروس التفسير، بتاريخ الخميس سبعة جماد الأولى، سنة 1399هـ، أي: أنه قبل حوالي (20) سنة تقريباً، وكان في بداية ثورة الخميني عليه من الله ما يستحقه، وقد عانينا كثيراً بسبب سوء فهم أو سوء تطبيق كثير من الناس أيامها، فقد كان الكلام على أشده، وكان الناس يرموننا بالجنون كيف أننا ننتقد الخميني؟! فهذه ذكريات مما عانيناه بسبب سوء فهم تفسير هذه الآية، ولها نضاير أيضاً في القرآن الكريم، فكان بعض الناس الذين اندفعوا بدافع الحماس العاطفي بدون بصيرة، يقحمون أنفسهم في تأييد الخميني بصورة تدل على جهلهم بأصول الإسلام، وهي العقيدة الصحيحة، وكيف نحكم على الآخرين.
فكان كثير من الناس يقولون: إن هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى راض عن الخميني، وعن ثورته، وعما عليه الرافضة في إيران، فكانوا دائماً يستدلون بهذا الحديث، وهو حديث ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية قالوا: من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الفرس، هذا وقومه).
فنقول: صحيح هم الفرس، وهناك أدلة أخرى تبين ذلك، لكن من هم الفرس المعنيون؟ إنهم: أهل السنة والجماعة وليسوا أهل البدعة والضلالة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان رضي الله عنه ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس)، وهذه إشارة إلى خروج علماء عظام من فارس.
وفارس كانت إيران والعراق، فلاشك أن فارس خرج منها أئمة كبار في الحديث وفي الفتوى وغيره، وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله تعالى، فهو من فارس.
فالحديث ينطبق على أهل السنة من هؤلاء الأئمة، وأما أئمة الضلالة مثل الخميني فهو عدو لدود للإسلام وللسنة ولأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعقيدته الفاسدة في تحريف القرآن الكريم وغير ذلك من الألفاظ البشعة التي قالها، فلا يمكن أبداً أن يقصد بهذه النصوص على الإطلاق.
والحديث في هذا الأمر ذو شجون، وأنا مع مرور الأيام التفت إلى أمر مهم جداً وهو: أن الأجيال تتغير، فدائماً أكرر مسائل قد تكلمت فيها قبل وبالتفصيل المريح، لكن أضطر أحياناً من خلال أسئلة الإخوة، ومن خلال بعض الأمور العابرة أن أذكر أموراً أساسية جداً وهي غير معروفة للإخوة، ومن ضمنها الموقف الصحيح من الشيعة؟ وكيف تحكم عليهم؟ وقد تكلمنا من قبل في هذا الموضوع بعنوان: شيعة اليوم أخطر من شيعة الأمس.
فالحقيقة أن الشخص يحتاج إلى أن يذكر نفسه بين وقت وآخر أننا لابد أن نعيد الكلام في هذه الأمور الأساسية؛ لأن الأجيال الجديدة للأسف مقصرون في القراءة، وفي نفس الوقت نحن نقصِّر في المادة التي نقدمها وإن كنا أحياناً نكون معذورين، فنحن إن شاء الله نجتهد في أن نستمر، وبعض الناس يسخرون لإطفاء هذا النور، فالله حسيبهم! وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس)، وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي تفرد به.
وقال عكرمة: هم فارس والروم، وفي سورة الجمعة إشارة إليه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]، فهناك أمم أخرى سوف تدخل في الإسلام غير العرب الذين هم أمة أمية، ولم يكن نزل فيهم كتاب.
قال عكرمة: هم فارس والروم.
وقال الحسن: هم العجم.
وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل: الأنصار، وقيل: الملائكة، وقيل: التابعون.
وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس.
وقال الكلبي: هم كندة والنخع والنقعة من عرب اليمن.
وقال المحاسبي: فلا أحد يعد بعد العرب من جميع أجناس الأعاجم أحسن ديناً ولا كانت منهم العلماء إلا الفرس.
وحكي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هي أحب إلي من الدنيا)، والله أعلم بحاله، فلينظر في سنده.
قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، في التولي عن الإيمان والتقوى، بل يكونون مطيعين له عز وجل.
قال ابن جرير: في البخل بالإنفاق في سبيل الله، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: في الضن والبخل بالإنفاق في سبيل الله عز وجل.
وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية الكريمة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] دل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ(120/10)
ارتباط سورة محمد بما قبلها وما بعدها من السور
أخيراً: فيما يتعلق بأسرار ارتباط هذه السورة الكريمة سورة القتال مع السورة التي قبلها وهي سورة الأحقاف، والسورة التي بعدها وهي سورة الفتح، فلا يخفى ارتباط أولها بآخر الأحقاف؛ لأن آخر آية في الأحقاف هي: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، ثم بدأ في سورة القتال بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فهنا اتصال وتلاحم واضح بين آخر الأحقاف وأول سورة محمد بحيث إنك لو تعمدت إسقاط البسملة لكان ذلك متصلاً اتصالاً واحداً لا تنافر فيه، وكانت كالآية الواحدة يأخذ بعضها بعنق بعض.
وأيضاً سورة القتال متممة لموضوع سورة الأحقاف، فالأحقاف فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، وقد استنفذت سورة الأحقاف وسائل الإقناع بالوسائل العقلية، قال تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، إلى آخر السورة، فأثبتت عتو أهل الكفر وجحودهم، فكانت سورة القتال بما فيها من جهاد وقواعد الحرب وتشريعاته متفقة تماماً مع نسخ وسائل الدعوة السلمية بآية السيف.
أما مناسبة سورة القتال لما بعدها وهي سورة الفتح: فلا يخفى حسن وضعها؛ لأن الفتح بمعنى النصر قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، والفتح بمعنى النصر إنما يترتب على القتال، وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بسورة الفتح فرحاً شديداً؛ لأنها بينت ما يفعل به وبالمؤمنين، في حين أن سورة الأحقاف جاء فيها قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، والمراد بهذا في الدنيا فقط، ثم بين الله سبحانه وتعالى هنا في سورة الفتح ما سوف يفعله بالنبي عليه الصلاة والسلام وبالمؤمنين، كما هو واضح في السورة.
إذاً فسورة الفتح متصلة بصورة الأحقاف من هذه الحيثية أيضاً.
وهذا قول ابن عباس، وقد ورواه عنه علي بن أبي طلحة، ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إن آية الأحقاف: ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))، منسوخة بآية الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(120/11)
مقدمة في تفسير سورة الفتح(121/1)
فوائد ومعلومات عن سورة الفتح(121/2)
معاني كلمة (الفتح)
سورة الفتح سميت بهذا لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق، وهذا كله من معاني الفتح، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية، والنصر العزيز، وكل هذه أمور جليلة.
وآيها تسع وعشرون آية، وهي سورة مدنية، أي أنها نزلت بعد الهجرة بغض النظر عن المكان الذي نزلت فيه.
فهذه السورة مدنية، فإنها نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة عدة له بالفتح، قال أنس: لما رجعنا من الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، نزلت يعني: هذه السورة.
واختلف في المكان الذي نزلت فيه، فوقع عند محمد بن سعد أنها نزلت في مكان اسمه ضجنان، وعند الحاكم في الإكليل بكراع الغميم، وعن أبي معشر: أنها نزلت بالجحفة، والأماكن الثلاثة متقاربة.
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره لـ عمر: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، يعني: سورة الفتح)، وهذا الحديث يدل على أن هذه السورة نزلت في الليل.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح فرجّع فيها).
و (الفتح) يأتي بمعنى: أن يفتح المغلق، وهذا مشهور كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73].
والفتح يأتي بمعنى: النصر، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء:141]، وقال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]؛ لأن النصر يفتح الله به أمراً مغلقاً.
والفتح يأتي بمعنى: القضاء؛ لأن القضاء فصل للأمور، وفتح لما أشكل منها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة:28 - 29]، يوم الفتح هو يوم القيامة، يعني: يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانهم، فسمي يوم القيامة بيوم الفتح؛ لأنه يقضى فيه بين العباد، ويفصل فيه بينهم، وبعض المفسرين قالوا: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة:29]، أراد به فتح مكة؛ لأنه يوم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم؛ لأنهم في هذه الحالة إذا آمنوا بعدما تغلب المسلمون عليهم سيكون إيمانهم خوفاً من السيف، وليس إيماناً نابعاً من قلوبهم.
وقال الله عز وجل: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ:26] يعني: يقضي بيننا بالحق {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: خير القضاة.
قال أعرابي لآخر ينازعه: بيني وبينك الفتاح يعني: بيني وبينك الحاكم؛ لأنه يقضي ويفصل في الأمور.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] قال: كنت أقرؤها ولا أدري ما هي حتى تزوجت بنت مشرح فقالت: فتح الله بيني وبينك يعني: حكم الله بيني وبينك.(121/3)
وقت نزول سورة الفتح
هذه السورة من القرآن الليلي؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا في غاية الدقة في وصف أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامة، وما يتعلق بالوحي بصفة خاصة، فمن أنواع علوم القرآن معرفة القرآن المدني والمكي، ومعرفة القرآن الليلي والنهاري، فهذه السورة من القرآن الليلي.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: نزلت -أي: سورة الفتح- ليلاً بين مكة والمدينة في شأن الحديبية.
وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر نذرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك؟!) (ثكلت أم عمر) يعني: دعاء بالفقد، فهو يخاطب نفسه ويقول: (نذرت) يعني: ألححت على النبي عليه السلام، وبالغت في السؤال ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك؟! قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن)، خاف أن يكون الرسول قد غضب منه فينزل فيه القرآن يدينه بذلك؛ لأنه لم يعرف لماذا لم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: يقول: (فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] إلى آخر السورة) وهذا لفظ البخاري، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.(121/4)
مكان نزول سورة الفتح
اختلف في مكان نزول هذه السورة، فبعض العلماء قالوا: بضجنان، وبعضهم قال: بكراع الغميم، وبعضهم قال: بالجحفة، وجمع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بين ذلك بقوله: وهذه الأماكن متقاربة، فلذلك عبر بعض الصحابة بمكان والبعض بمكان آخر؛ لأنها في منطقة متقاربة فلا يضر ذلك.
قال القرطبي: إن هذه السورة المباركة سورة مدنية بإجماع المفسرين، ومعنى مدنية: أنها نزلت بعد الهجرة، وإن كان نزولها في غير المدينة.
إذاً: تقسيم سور القرآن الكريم إلى مكية ومدنية ليس تقسيماً على أساس المكان، بل على أساس زمن النزول، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني؛ وإن نزل خارج المدينة كهذه السورة الكريمة.(121/5)
منزلة سورة الفتح في قلوب الصحابة
هذه السورة حافلة بالمواقف الرائعة التي فيها مناقب وفضائل وخصائص للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولصحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فهذه السورة لها وضع خاص؛ لأنها من أكثر السور التي وردت فيها آيات تدل على رفعة مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل، وهذا ما فقهه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن -أي: الصحابة- نعد الفتح صلح الحديبية.
لأن صلح الحديبية كان من أعظم الفتوح التي جاءت ببركة عظيمة جداً بالنسبة للمسلمين كما سيأتي، وكان خطاً فاصلاً -كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى- بين ما قبله وما بعده.
وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
وجاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس).
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله! لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح:5] حتى بلغ قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]) وهذا الحديث متفق عليه.
وقول الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (هنيئاً مريئاً يا نبي الله! لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟).
يشيرون إلى ما سبق الكلام عليه في سورة الأحقاف في قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، يعني في الدنيا، أما في الآخرة فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة ما يفعل بنبيه صلى الله عليه وسلم وما يفعل بهم، فلما بينت السورة أولاً ما يفعل الله بالنبي عليه السلام قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (هنيئاً مريئاً يا نبي الله! لقد بين الله عز وجل ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟)، فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح:5]، إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5].
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع قال: حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل -اسم (مغفل) أو (حمار) هذه أسماء آباء وأجداد المسلمين في الجاهلية، فلا يمكن تغييرها، فلذلك بقيت، أما الصحابي إذا كان له اسم يكرهه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه كان يغير الاسم القبيح، وموضوع الأسماء له أهمية كبيرة في الحقيقة؛ فإن الإنسان غالباً يكون له حظ من اسمه، واسمه ينعكس على نفسيته جداً؛ لهذا نتألم جداً حين نجد بعض الناس في الأرياف ضاقت عليهم الدنيا، واختاروا بعض الأسماء العجيبة بسبب بعض العقائد منها: من أجل أن الولد لا يحسد، فيطلقوا أسماء تنفر، فالشخص الذي يسمع الاسم ينقبض فيتلهى وينشغل عن الحسد بهذه الأشياء، وهذا تفسير رديء، فلا بد من التنبه لمثل هذا، وإن كان ليس له علاقة بموضوعنا، فلذلك ينبغي الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الأسماء الحسنة، ومن حقوق الطفل على أبيه أن يسميه بأسماء حسنة ليست غريبة -رضي الله تعالى عنه يقول: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجّع فيها) قيل: إن هذا الترجيع هو للتنبيه وهو في المدود بالذات، وقيل: إن هذا لأنه كان راكباً على الناقة، فالإنسان عندما يقرأ المد وهو راكب على شيء يهتز ويتحرك؛ يحصل منه هذا الترجيع.
قال الراوي: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحديث متفق عليه.(121/6)
الأمارات التي يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
هناك علامات وأمارات يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أمهات الأدلة على صدق بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
أول شيء منها: الصفات الخَلقية والخلقية لصاحب الرسالة.
الثاني: آثاره في العالم والوجود.
الثالث: المعجزات.
الرابع: النبوءات.
الخامس: البشارات.
فهذه أمهات الأدلة التي يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والموضوع كبير، لكن باختصار شديد: أولاً: الصفات الخلقية، فالأنبياء يصطفيهم الله سبحانه وتعالى من أشرف وأكرم وأعلى أنواع البشر في جميع الصفات من الحسب والنسب، وجمال الصورة، وسلامة الأعضاء، والخلو من العاهات أو النقص أو أي شيء منفر، والأخلاق، ففي كل شيء من الصفات البشرية يكون الأنبياء مختصين من بين سائر البشر بصفات لا يشركهم فيها غيرهم، ربما نجد شخصاً يختص بصفة الكرم، أو آخر يختص بالحلم، أو أو أو كذا من الصفات، لكن أن تجتمع الصفات كلها كاملة في شخص غير الأنبياء فلا كما قال الشاعر: فغاية العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم فالرسول عليه الصلاة والسلام اجتمعت فيه الفضائل والكمالات البشرية بصورة لا توجد في غيره من البشر عليه الصلاة والسلام.
إذاً: أول دليل هو أن الأنبياء لهم خصائص وصفات لا توجد مجتمعة في أكمل صورة إلا في الأنبياء، فمتى وجدت في شخص فهو نبي من أنبياء الله.
الأمر الثاني: موضوع الآثار، فالله سبحانه وتعالى يجعل للأنبياء آثاراً وبصمات يتركونها على البشرية لا يمكن أن تتولد لغيرهم من البشر، فآثار النبي الصادق الحق الذي يبعثه الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تلتبس بآثار رجل من المصلحين أو أهل الخير أو كذا أو كذا وإنما يكون لهم آثار واضحة، ولرسولنا صلى الله عليه وآله وسلم الحظ الأوفر على الإطلاق من هذه الآثار، كيف لا وهو قد بعث رحمة للعالمين، وأرسل للناس كافة صلى الله عليه وسلم؟! فهذا شيء بدهي يقر به حتى الكفار، فهم يقرون أنه لا يوجد أحد في تاريخ البشرية كله ترك بصمات وآثاراً على البشرية مثلما أكرم الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآثار.
وهذه الآثار لا تقتصر على نزول الوحي، وتعليم الشريعة للأمة، وتربية الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس.
فهذه أوضح الآثار المباشرة التي كانت في حياته صلى الله عليه وسلم، ولكن كل ما يوجد من بعد النبي عليه الصلاة السلام من الخير الذي اقتدي به فيه فهو في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: أنت كل ما تفعله من أعمال صالحة فسوف ينال نفس الثواب مثلك تماماً الرسول عليه السلام؛ لأنه هو الذي علمك هذا الخير، أي مؤمن إلى أن تقوم الساعة يفعل من الخير اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين هو في ميزان حسناته صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما وجد من الخير حتى بعد بعثته فهو من آثار بعثته الشريفة، ولذلك المسيح عليه السلام أخبر أصحابه بأن هناك أنبياء كذبة يدعون النبوة، سوف يأتون من بعده فقال له الحواريون: (كيف نعرفهم يا روح الله؟! قال: من ثمارهم تعرفونهم) يعني: من الآثار التي يتركونها تعرفونهم، والعقل وحده يقطع أنه لا يمكن أن يكون نبياً كاذباً يدعي النبوة ثم يتركه الله سبحانه وتعالى يطبع آثاره على البشرية بهذه الصورة، ويفتح عليه الفتح تلو الفتح، ويؤيده بالمعجزات تلو المعجزات، فلابد أن يكون صادقاً من عند الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد: أننا نعلم صدق نبوة محمد صلى عليه وسلم بآثاره في كل العباد والمجاهدين والبلاد التي فتحت حتى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فكل الخير الذي يوجد بسبب اتباع سنته والاهتداء بهديه هو من آثار بعثته، فعدل القضاة المسلمين في كل التاريخ كعدل عمر بن عبد العزيز أو عدل غيره من الأئمة والخلفاء الراشدين كـ محمود زنكي أو جهاد صلاح الدين وجهاد العلماء والأئمة كـ قطز وبيبرس هو في ميزان رسول الله عليه السلام، وهو أثر من آثار بعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: الفتح أعم من أن يكون الفتح المتعلق بفتح مكة أو بغيره، وإنما يدخل فيه كل ما كان من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الأمر الثالث: البشارات، وهي: النصوص التي توجد في الكتب السابقة من قبلنا التي تبشر ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وتخبر بصفته، وهذا ما ستأتي الإشارة إليه في آخر السورة إن شاء الله تعالى في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] يعني: هكذا بالضبط وصفوا في التوراة قبل أن يخلقوا: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] إلى آخره، فهذا من البشارات.
الأمر الرابع: المعجزات: وهي خوارق العادات التي تقترن بادعاء النبوة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الحظ الأعظم على الإطلاق بين جميع الرسل من هذه المعجزات، وأعظمها على الإطلاق معجزته الخالدة الباقية وهي القرآن الكريم، الذي ما زال حتى الآن ينبض بالحياة وبالأدلة والبراهين على حقائق هذا الدين القويم، ويوم بعد يوم ينضم إلى قافلة الإيمان أناس من الكفار بسبب هداية القرآن الكريم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (إنه ما من نبي أرسله الله إلا أوتي ما على مثله آمن البشر -معجزة يراها قومه المعاصرون له- وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) لأن الرسول عليه السلام معجزته لم تكن معجزة حدثت ثم انقضت كعصا موسى، أو إحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله، وإنما معجزته هي هذا القرآن الكريم، فهي معجزة باقية.
وأقص عليكم قصة عابرة عن إحدى الشخصيات المرموقة التي فتح الله سبحانه وتعالى عليها منذ سنوات بالإسلام، فهذا دكتور جراحة مشهور في فرنسا يدعى مورسي بكاري هذا الجراح الكبير الفرنسي نشأ في عائلة متدينة بالتدين النصراني، وشديدة التمسك به، فلما بدأ يقرأ في الكتب المقدسة عند النصارى -وهي العهد القديم والعهد الجديد- بدأ -بحكم خلفيته العلمية الحديثة- يلاحظ وجود تناقض بين بعض القضايا العلمية أو الجغرافية المذكورة في ثنايا كتابهم المقدس عندهم، فلفت ذلك نظره، وضايقه الأمر كثيراً، فقرر أن يجمع جميع الكتب التي أصلها سماوي ويعمل دراسة مفصلة، ويقارن بين القرآن والتوراة والإنجيل الموجودان الآن المحرفان، فالذي فعله أنه قام بجمع النصوص التي تتعلق بالقضايا العلمية الحديثة مثل كروية الأرض تشريح النبات وغيرها من الأمور التي تتعلق بالعلوم الحديثة، فخرجت له مجموعة بيانات كبيرة جداً جداً من آيات القرآن الكريم، عشرات الآيات استخرجها تنبئ بأنها تتعامل مع حقائق علمية كثيرة جداً، ثم استخرج من العهد القديم والعهد الجديد أشياء كانت قليلة للغاية بالنسبة للقرآن الكريم، ولا تكاد من حيث العدد تذكر، ثم إن الذي فيها أشياء غير مطابقة للواقع على طول الخط، بل متعارضة تماماً مع الحقائق العلمية الحسية! فاستمرت الدراسة في عدد كبير من الآيات ولم يجد أي تعارض على الإطلاق في نص واحد من القرآن الكريم مع أي حقيقة علمية، بل فوجئ بأن القرآن يحوي حقائق علمية مما هو متفق عليه حديثاً.
فانتهى إلى نتيجة ومحصلة معينة ولكن قال: إما أن هذا القرآن هو كلام الله حقاً، وإما أن المؤلف -يقصد الرسول عليه السلام- عندما كتبه كان محيطاً إحاطة كاملة وفي غاية الدقة لأحدث ما وصل إليه العلم في العصر الحديث! وهذا التضاد هراء، ولا يمكن أن يقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعلم بشري يأتي بهذه الأخبار، فهذا مستحيل، فلم يبق إلا احتمال واحد وهو أن الذي أوحى إلى النبي عليه السلام هذا الكتاب إنما هو خالق هذا الكون، وخالق هذه البرية؛ لأن قوانين الطبيعة وهذه السنن وجدت منذ أن خلق الله هذا الكون، وبقيت بلايين السنين غير مكتتبة، واكتشف الآن جزء يسير منها، لكن قوانين الله تعمل منذ أن خلق الله هذا الكون، فهم يكتشفون ويفرحون جداً باكتشافهم وبما عندهم من العلم.
الشاهد أنه انتهى من عملية المقارنة بإعلان إسلامه، وعائلته النصرانية المتعصبة صدمت صدمة شديدة بإسلامه، وكانت المصيبة الأشد أنه سوف يقوم بدعاية كبيرة جداً للإسلام في كل العالم الغربي؛ لأن مثل هذه الشخصية المرموقة عندهم يكتب هذا الكتاب وهو من عائلة متدينة جداً ومتمسكة بالنصرانية أمر خطير، فانزعجوا جداً من هذا الكتاب الذي كاد أن يفرغ من تأليفه، فماذا فعلوا؟ فعلوا شيئاً عادياً عندهم في الغرب وليس بمشكلة -لا تستغربوا-، كتبوا إعلاناً في إحدى الجرائد عندهم في فرنسا: مطلوب لص محترف لمهمة خاصة، وهذا شيء عادي عندهم، ولا توجد أي مشكلة فيه أبداً: مطلوب لص محترف لمهمة خاصة، بحيث يتصل بهم بطريقة لا يكتشفها ابنهم مورسي بكاري، وهم الذين طلبوا هذا، فالمهم وصلهم لص محترف وقالوا له: إن المطلوب أن هذا الشخص -ابنهم- تذهب إلى أمام بيته في مكان معين وترصد مواعيده وقت خروجه ودخوله، فمتى ما يكون غير موجود في البيت تستطيع أن تدخل من المكان الفلاني، وتكسر الباب الفلاني، وهناك درج معين يترك فيه أشياء، فخذ كل محتويات هذا الدرج، ولم يبينوا له أنهم بالذات يقصدون الكتاب الذي ألفه لكن قالوا: أحضر لنا كل المحتويات في درجه.
المهم أفلح اللص في أن يصل إلى الدرج، وأخذ الأشياء ثم قدم لهم كل شيء ما عدا مخطوطة الكتاب، وظن أنه ليس معقولاً أن يكون الكتاب مهماً بالنسبة لهم، وعكف اللص الظريف على قراءة المخطوطة حتى فرغ منها تماماً، ومن شدة إعجابه وانبهاره لما فيها من الحقائق أشهر اللص نفسه إسلامه وأعلنه، وذهب إلى مورسي بكاري نفسه وسلمه المخطوطة، وكان هو قد حزن حزناً ش(121/7)
تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)
قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فيها أقوال: الأول: فتح مكة.
الثاني: فتح الروم وغيرها.
الثالث: فتح الحديبية، وهذا أصح الأقوال، فقوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا))، المقصود به فتح الحديبية.
الرابع: فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
الخامس: أن المراد منه الحكم كما قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:89]، وقال تعالى: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ:26]، ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها مما يصدق عليها الفتح الرباني، فكلها داخلة في معنى الفتح الرباني، وجميعها مما تحقق مصداقه، إلا أن سبب نزول الآية يبين المراد من الفتح بياناً لا خلاف معه، وهو الوجه الثالث المذكور، وهو صلح الحديبية.
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام؛ ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلما نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه الآيات.
وتأملوا هذا الموقف، وسوف يأتي -إن شاء الله- ذكر الحديث بالتفصيل، فالصحابة كانوا في غم وهم، كيف يحصل هذا الصلح الذي رأى بعضهم أن فيه نوعاً من الظلم للمسلمين، وأن فيه إلزامية بالنسبة للمسلمين؟! ومع ذلك في هذه اللحظات الشديدة على نفوس الصحابة ينزل القرآن الكريم مبيناً أن هذا فتح من الله: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)).
وأنزل الله عز وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
لأن فتح مكة نفسه هو أثر وثمرة من ثمار صلح الحديبية.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن، قال: (شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر)، وفي بعض الروايات: (إذا الناس يوجفون الأباعر -يعني: يزجرون الإبل ويدفعونها- فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟! قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نرجف -أي: يخافون أن ينزل القرآن يدينهم لما حصل من بعض الصحابة أثناء المفاوضة في موضوع الفتح- فخرجنا مع الناس نرجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته على كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فقال: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله! أوفتح هو؟! قال صلى الله عليه وسلم: إي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح) رواه أبو داود في الجهاد.
ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: فالمراد بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] أي: بيناً ظاهراً، وهو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتصر العلم النافع والإيمان.
ولما وقفت لغة الفيء والحرب المسلمين والمشركين حصل نوع من هبوط الحمية عند المشركين، ونتيجة الهدنة التي بين المسلمين والمشركين تكلم المؤمن مع الكافر يعني: وصلت رسالة الحق، وبدأ إعلان الدعوة، فمن ثم كانت هذه الفترة فترة في غاية الخطورة بالنسبة للدعوة الإسلامية، ويكفي دليلاً على ذلك عدد الجيش الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، والعدد الذي كان معه يوم فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة، فصلح الحديبية كان سنة ست، وفتح مكة كان سنة ثمان، فما الذي حصل؟ في الحديبية كان عدد الصحابة الذين مع الرسول عليه السلام ألفاً وأربعمائة صحابي، وفي فتح مكة كانوا عشرة آلاف، فهذه من ثمرات وبركات فتح الحديبية.(121/8)
ديدن الكفار في تشويه الإسلام
لنتأمل هنا قوله: فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر وانتصر العلم النافع والإيمان.
يعني: يستحيل أن الحق الذي هو الإسلام أن يهزم في معركة شريفة مع الباطل، لكن دائماً الذي يحصل هو أن أعداء الإسلام لا يعرفون الشرف، ولا يعرفون احترام مبدأ ولا عهود ولا مواثيق، أما إذا حصلت مواجهة شريفة ليس مهماً تكاثر الباطل، فإن الباطل لا يعد شيئاً، ودائماً الله سبحانه وتعالى يذكر الباطل والظلمات في القرآن الكريم بصيغة الجمع، أما النور والإسلام والحق فهو دائماً يأتي بصيغة المفرد: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]، فالنور مفرد، أما الباطل فإنه لا ينتهي عدده، ولا حصر له، فلو أنه ترك للحق أن يتكلم بدون شغب ولا تشويش أو تشويه، وبدون صد عن سبيل الله ولا إرهاب -وهم الإرهابيون في الحقيقة- واستطاع الناس أن يلتقطوا هذه الرسالة الربانية بدون تشويش على هذا الإرسال فإن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوب الناس فيدخلون في دين الله أفواجاً كما حصل من قبل، ولكن لأن أعداء الإسلام يعرفون جيداً أنه لو ترك الناس يستمعون إلي صوت الحق والإسلام وهو غير مشوش ولا مشوه؛ لدخل الناس في دين الله أفواجاً، ورغم كل الحرب القائمة الآن على الإسلام فهو المنتصر، فنحن في حرب عالمية حقيقية، وليست حرباً عالمية مجازية، ولكن الأسلحة الآن حديثة وذكية تتعامل بأسلوب غير الأساليب الماضية للاستعمار القديم عن طريق الاحتلال والقوى العسكرية، فالآن يستخدم الإذلال والهيمنة لتأخذ صورة حديثة -وللأسف الشديد- هي أشد فعالية وأقوى؛ لأنها تعتمد على تسخير التكنولوجيا الحديثة، والعلم، والأساليب المدروسة؛ فلذلك هي حرب قذرة غير شريفة؛ لأن كل الهدف هو الصد عن سبيل الله، فيصدون عن سبيل الله بالمذابح والقتل والإرهاب.
وأنتم ترون ما يحصل الآن في كوسوفا أو ما حصل بالأمس القريب في البوسنة والهرسك، ولنأت إلى التاريخ من أجل أن يعرف الناس وحشية الغرب ووحشية الكفار من التاريخ القديم سواء في الحروب الصليبية أو غيرها، أما الآن فنحن في صفحة في الواقع تكشف لنا مصداق قول الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، لا يمكن أن يحترموا عهداً أو ذمة، وإنما كما ترون المذابح والتشريد والوحشية التي يمارسها هؤلاء الصرب، ولا أدري كيف يقبلون أنهم ينتمون إلى المسيح عليه السلام! كيف يصدقون أنفسهم بهذه الوحشية وهذه الهمجية وهذه الجرائم التي يرتكبونها ضد المسلمين على مرأى ومسمع، والمسرحية مفهومة، وكل الناس يتكلمون والجرائد تتحدث، وأنتم ترون هذه الأشياء ولا نكثر من ذكرها، ولكن هذا الذي يحصل من القتل والتدمير والتصفية وما يسمى بالتطهير العرقي هو أحد أساليب الصد عن سبيل الله، ويشوهون الإسلام بأنه دين الإرهاب ودين القتل وسفك الدماء ودين كذا!! ومع ذلك ما زال الناس ومن أعماق ديارهم يدخلون في دين الله أفواجاً يوماً بعد يوم، والقصص لا تنتهي ممن يهديهم الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام! فتخيل لو أن الإسلام في دولة على وجه الأرض تتبناه، كما يوجد للنصرانية دولة تتبناها وهي الفاتيكان، فدولة واحدة للإسلام غير موجودة، أو ينفق عليه من أموال المسلمين بحيث تدعم وتقوى الدعوة للإسلام، وتخيل لو أن الإسلام لم يشوه ولم يحارب بهذه الصورة.
فهم يصورون الإسلام في الحقيقة بصورة في غاية الخطورة، فيصورون للناس أننا نعبد الحجر الأسود والكعبة وأنها إلهنا، أو أننا نعبد محمداً عليه السلام كما يعبدون هم عيسى، وأننا نعتقد أنه يوجد ثالوث، وغير ذلك من التشويش الذي يحصل، وكذا أيضاً يستغلون ما يحصل للأسف الشديد من سلوكيات بعض الحمقى من بعض التيارات الإسلامية كما فعل -والله المستعان- المدعو أبو حمزة المصري لما أتى بالتصرفات التي يفعلها على مرأى ومسمع من العالم، فهم يفتحون له الإعلام تماماً؛ ليتحدث في كل قضية تمثل الدين بكلام لا يقوله المجانين، وهو يشوه الإسلام، وينفر الكفار من دين الإسلام؛ لذلك يفتحون له الإعلام على مصراعيه؛ لأنه يتكلم كلاماً لا يقوله إنسان عاقل يقول: إننا سوف ندمر الغرب، ونخترع قنابل تنزل ببالونات تفجر بريطانيا كلها! ويوهمون الناس أن هذا ممثل الإسلام! فهذا الجاهل المعتدي الظالم الصاد عن سبيل الله يظهر على أنه يمثل الإسلام! الشاهد: أن الحرب لو كانت شريفة لا يمكن أبداً أن ينهزم الإسلام، فالمسلمون لا ينهزمون أبداً في مواجهة شريفة، وانظر إلى أي مناظرة جرت في نطاق التاريخ الإسلامي كله بين عالم إسلامي متأهل وبين أعظم فطاحلة علماء اليهود أو النصارى، النتيجة معروفة تماماً وهي الاندحار، وأنهم لا يمكن أن يقووا على الصمود على الإطلاق، والقصص كثيرة جداً في هذا المضمار.(121/9)
صلح الحديبية مقدمة للفتح ودخول الناس أفواجاً في دين الله
لنتأمل قوله: وتكلم المؤمن مع الكافر يعني: بدءوا يشغلون العقول، وهذه كانت أعظم ثمرة؛ لأن الإسلام يستفيد جداً من هذا الجو الذي فيه حرية، فالباطل يمارس الباطل بكل حريته، فليتركوا إذاً الحرية للحق أيضاً، ولا يمكن أن يصمد الباطل، وحتى لو تكتل كل أهل الباطل على وجه الكرة الأرضية أمام الإسلام لا يمكن أن يصمدوا فالنتيجة معروفة مسبقاً ومقطوع بها، فأنا كنت أريد تسليط الضوء على هذه العبارة: (وتكلم المؤمن مع الكافر) يعني: الرسالة الإعلامية كانت تصل صحيحة إلى الكافر، فتأمل هذا الكافر لو كان عنده بصيص من نور الفطرة، ثم يسمع عن الإسلام، فإنه ينجذب إليه انجذاباً شديداً جداً؛ كما قال الله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، نور الفطرة مع نور الوحي، نور الفطرة التي أودعها الله في قلبه وهو الله الذي خلقه، ونور الوحي الذي أنزله الله، الذي: {يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فتأملوا هذه العبارة الرائعة لـ ابن كثير رحمه الله تعالى؛ لأنها تكشف لنا سر وصف صلح الحديبية بأنه فتح، مع أن النظرة الأولية التي أهملت العواقب التي لا يعلمها إلا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت هي التي جعلت بعض الصحابة يعترضون، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقد اشتد جداً في الاستغراب، وقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟! في حين أن كان الأمر عند الله وعند رسوله فتحاً مبيناً، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، ويلخص الحافظ ابن كثير صفة هذا الفتح وسببه، فيقول: فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ما مثاله: كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، ولهذا سماه الله فتحاً في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، نزلت في الحديبية، فقال عمر: (يا رسول الله! أوفتح هو؟! قال: نعم) وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً بقوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وهذا شأنه سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها.
وهي التي نسميها الإرهاصات فهي مقدمات توضح وتمهد لحدوث أمر عظيم وجليل.
فصلح الحديبية: عبارة عن إرهاص بين يدي صلح بين يدي الفتح الأعظم الذي هو فتح مكة، ولذلك جاء في أثناء السورة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي: سوف يحصل وهو فتح مكة.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، وخلق الولد له مع كونه كبيراً لا يولد لمثله، فتأمل في سورة آل عمران، وحتى في سورة مريم قدم الله سبحانه وتعالى أولاً قصة زكريا، وكيف أنه دعا ربه، وقبلها أنه كان يدخل على مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، كرامة لمريم عليها السلام، أن يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، فهذه كانت كرامة لـ مريم الصديقة عليها السلام، فـ {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38]، لما رأى خرق العادة لـ مريم علم أن ربه قادر على أن يخرق له العادة أيضاً مع كونه شاب شعر رأسه، وبلغ من الكبر عتياً، وكون امرأته عاقراً لا يولد لها، وقد طعنت أيضاً في السن، وهو حريص على الولد: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5 - 6]، ويستحيل أن يظن من زكريا أنه كان قلقاً على مستقبل أولاده وذريته من أجل المال والعقارات، لا، ((يَرِثُنِي)) يعني: في النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورث عنهم مال، وإنما يرثه في العلم والدعوة، فهو كان قلقاً على الإسلام، ولم يكن قلقاً على المال والدنيا ((يَرِثُنِي)) أي: في العلم والنبوة: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6].
ثم رزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام كما قص علينا في القرآن، فهذا كله كان مقدمة وتوطئة لما هو أعظم وأخطر آية، وهي خلق المسيح عليه السلام من غير أب، فتجد أن هذا التدرج للتمهيد بين يدي أمر عظيم، وهو خلق المسيح عليه السلام ليجعله آية للناس.
وكما قدم بين يدي تحويل القبلة في سورة البقرة مقدمات، فهي أولاً: بدأت بقصة البيت (الكعبة)، وبنائه وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] إلى قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127] إلى آخر الآيات.
فكل هذا التمهيد لأن الهدف النهائي -وهو أمر عظيم جداً- سيحصل، وهو تحويل القبلة، فقبل أن يخبر أن القبلة ستتحول من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بدأت الآيات بذكر قصة بناء البيت الحرام، وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه -وهو إبراهيم عليه السلام- وتعظيمه ومدحه.
وقبل ذلك قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} [البقرة:106] فهذه مقدمة أيضاً؛ وإرهاص وتمهيد قبل حصول هذا الأمر، فبدأ بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقدرة الله الشاملة عز وجل على نسخه، فهذه كلها كانت توطئة وتمهيداً بين يدي حدث خطير جداً، وهو تحويل القبلة، ثم قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144].
وهكذا أيضاً ما قدمه بين يدي نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف حدث في تاريخ الإنسان كله، ولادة النبي وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فماذا حصل في عام ولادته؟ حصلت أولاً قصة الفيل.
أيضاً تكاثرت بشارات الكهان والجن قبل بعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه كلها عبارة عن إرهاصات ومقدمات لهذا الحدث الجليل.
كذلك قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، فهذه عبارة عن تمهيد من الله سبحانه وتعالى لبدء الوحي، فهذه عمليات التمهيد بين يدي الحدث الأعظم، وهو نزول الوحي عليه في اليقظة، فأتاه الوحي أولاً في المنام عن طريق الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك الهجرة هي المقدمة بين يدي الأمر بالجهاد، ومن تأمل أسرار الشرع والقدر رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب.
انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.(121/10)
كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]: التحقيق الذي عليه الجمهور أن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية؛ لأنه فتح عظيم، وإيضاح ذلك أن الصلح المذكور هو السبب الذي تهيأ به للمسلمين أن يجتمعوا بالكفار فيدعوهم إلى الإسلام، وبينوا لهم محاسنه؛ فدخل كثير من قبائل العرب بسبب ذلك في الإسلام، ومما يوضح ذلك أن الذين شهدوا صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عام ست كانوا ألفاً وأربعمائة، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو مكة حين نقض الكفار العهد كان خروجه إلى مكة في رمضان عام ثمان، وكان معه عشرة آلاف مقاتل؛ وذلك يوضح أن الصلح المذكور من أعظم الفتوح في كونه سبباً لقوة المسلمين وكثرة عددهم، وليس المراد بالفتح المذكور فتح مكة، وإن قال بذلك جماعة من أهل العلم؛ وإنما قلنا ذلك لأن أكثر أهل العلم على ما قلنا، ولأن ظاهر القرآن يدل عليه؛ ولأن سورة الفتح هذه نزلت بعد صلح الحديبية في طريقه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة، ولفظ الماضي في قوله: ((إِنَّا فَتَحْنَا)) يدل على أن ذلك الفتح قد مضى، فهذا هو الظاهر، فقوله ((فَتَحْنَا)) يعني: فرغنا من هذا الفتح، وهو عقد صلح الحديبية، فدعوى أنه فتح مكة، ولم يقع إلا بعد سنتين؛ خلاف الظاهر، والآية التي في فتح مكة دلت على الاستقبال لا على المضي، وهي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، انتهى كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.(121/11)
أقوال العلماء في معنى الفتح المبين
مما قيل في معنى الفتح: أنه جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح.
وقيل: هو ما فتح له أو ما فتح له من النبوة والدعوة إلى الإسلام.
وقيل: فتح الروم.
ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله.
قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، وهذا الأمر في غاية الأهمية، وهو اختلاط المشركين بالمسلمين، فإنه يكون بركة على المشركين فضلاً عن المسلمين، ولذلك أنت إذا قارنت بين أحوال الكفار الذين يعيشون مع المسلمين في بلاد المسلمين وبين الكفار في البلاد التي ليس فيها مسلمون، تجد الفرق الكبير؛ لأن بركة المسلمين تشمل هؤلاء، فتجد أن عندهم الحياء والعفة وغير ذلك من الأخلاق الحميدة من بركة معايشة المسلمين، بخلاف الذين يتمحض فيهم الكفر، فموضوع اختلاط المسلمين الصادقين الذين يطبقون الإسلام بالفعل مع الكفار من أعظم أسلحة الدعوة.
وتعرفون قصة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه، كان ثمامة ممن يحارب الرسول عليه السلام، وأسر في قتال بينه ويبن المسلمين، فماذا فعل به النبي عليه الصلاة والسلام؟ أسره وربطه في سارية المسجد، ثم تركه في المسجد ثلاثة أيام، وهذه حكمة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام تشير وتنبئ إلى هذا المعنى الذي نذكره الآن من قول بعض العلماء؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم؛ فتمكن الإسلام في قلوبهم، فهذا درس عملي ينبغي أن نقتدي بالرسول عليه السلام فيه، فقد ربطه في المسجد، فما الذي سوف يراه خلال ثلاثة أيام؟ حياة إسلامية مائة بالمائة أخلاق إسلامية عبادة لله توحيد سيسمع أي درس أي حديث فيه توحيد وفيه ذكر لله عز وجل، وبيان مقاصد ومحاسن الإسلام، يرى كيف يتعامل المسلمون بعضهم مع بعض يرى حسن الخلق يرى الأمانة يرى التعبد يرى البكاء من خشية الله يرى الركوع السجود ويرى بعض خيرات وبركات الإسلام.
فالذي حصل أنه كان كلما طالت إقامته مع المسلمين يبدأ يلين، فالرسول عليه السلام بعدما قيده في اليوم الأول أتاه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! -بدأ بالعدوانية- قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر) يعني: دمي لن يذهب هدراً، دمي له قيمة، ثم في اليوم التالي سأله نفس
السؤال
( ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم)، والعرب كانوا في غاية الدقة في اختيار الألفاظ ومراعاة الأولوية، فهذه المرة الثانية تجد أن اللين بدأ يتسرب إلى قلبه، فمفعول الدواء بدأ ينفع من معاشرة المسلمين في يوم واحد، ففي اليوم الثاني بدأت اللهجة تخف، قال: (إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم) فتركه مقيداً، وفي اليوم الثالث سأله نفس السؤال وأجاب بنفس الجواب؛ فأطلقه النبي عليه الصلاة والسلام حراً طليقاً، فماذا فعل ثمامة؟ كان قد وصل إلى القرار النهائي، فعمد إلى مكان قريب من المسجد واغتسل فيه، ثم أتى وشهد شهادة التوحيد، ودخل في الإسلام! فالشاهد: أن موضوع اختلاط المسلمين بالمشركين -أعني المسلمين الذين يطبقون الإسلام واقعاً وحقيقة- هو من أعظم ما يغزو قلوب هؤلاء المشركين.
وكما ترون أن العلماء يكادون أن يتفقوا على أن المقصود به صلح الحديبية! قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام.
وقال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة: غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس؛ ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال الزجاج: كان في فتح الحديبية آية عظيمة؛ وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر؛ فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس، لم يذكر الزجاج هذا مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان من المتأخرين، لكن أياً كان فهذه المعجزة وردت في أحاديث متواترة، كحديث نبع الماء من بين أصابع يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والملاحظ أنه في كل مرة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو لهم بالبركة في الطعام يكثر الطعام تحت يده، ويكفي جيشاً بأكمله بعدما كانوا يشكون في أنه يكفي مجموعة قليلة من الناس! فهو كان يقول: ائتوني بإناء فيه شيء من الماء، ثم يضع أصابعه الشريفة، فينبع الماء، وهذا متواتر، وثابت بنفس الطريقة التي ثبت بها القرآن الكريم ثبوتاً قطعياً لا مجال للطعن فيه، فأحاديث كثيرة جداً فيها تكرر هذه المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يضع يده الشريفة في الإناء فيفور الماء من بين أصابعه.
والحكمة من الإتيان بماء في الأصل ألا يتوهم الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يوجده من العدم، وإنما هي البركة التي تنزل من عند الله في ماء خلقه الله أصلاً، فالطعام موجود لكنه يبارك فيه بإذن الله سبحانه وتعالى.
والعلماء مختلفون فيما يتعلق بفتح مكة هل فتحت عنوة أم أنها فتحت صلحاً؟ وهذه القضية قد نتعرض لها بعد ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.(121/12)
تفسير سورة الفتح [1](122/1)
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
يقول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8 - 9].
إن إثبات المزايا والخصائص التي ميز الله عز وجل بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، والأخلاق التي زينه بها صلى الله عليه وسلم، واعتقاد اختصاصه بهذه الكمالات؛ واجب شرعاً تتوقف عليه صحة عقيدة المسلمين، كما صرح بذلك العلماء؛ لأن الله تبارك وتعالى تولى بيان هذه المرتبة العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صراحة ووضوح وجلاء، كما بينته سنة النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة، وكذا إجماع العلماء.
إن تبيان أسرار هذه الخصائص العظمى كان أحد المهام التي كلف الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وخليله محمداً عليه الصلاة والسلام ببيانها، فقال عز وجل مخاطباً إياه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يحدث أمته بما أنعم الله عليه؛ ليعرفوا قدره ويعتقدوه، ويزدادوا حباً له وتعظيماً، فالتحدث بهذه النعم في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجب؛ لأن الله أمره بذلك، وفي حق غيره من الأمة جائز إذا أمن العجب والرياء.
ولا شك أن تتبع ما صح من فضائله وخصائصه صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب تعمير القلوب بمحبته، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي يود أحدهم لو أعطى أهله وماله وأنه رآني) رواه الإمام أحمد وغيره.
(أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي) يعني: بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، يبلغ شدة حب أحدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لو كانت رؤيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تنال بالتضحية بالأهل والأولاد والأموال لسمحت نفسه ببذل أهله وماله وكل ما هو عزيز لديه في سبيل أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! ليس هذا فحسب، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادل هؤلاء المؤمنين الذين يخرجون بعده أو يكونون بعد وفاته إلى قيام الساعة نفس هذه المحبة، ونفس هذا الشعور كما صرح بذلك قوله عليه الصلاة والسلام في شأن الذين يحبونه بالغيب، يقول عليه الصلاة والسلام: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعد، وأنا فرطهم على الحوض) رواه الإمام مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم، المعنى: وأنا أسبقهم إلى الحوض أنتظرهم لأستقبلهم على الحوض.
إذاً: من الواجبات التي كلف الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: أن يحدث بنعمة الله عليه، ومن الواجب علينا أن نعتقد بكل ما جاء في الكتاب والسنة وأجمعت الأمة عليه من خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أفرد بعض العلماء هذا الموضوع بالتفصيل كالإمام السيوطي رحمه الله تعالى في (الخصائص الكبرى)، ومن كتب المتأخرين كتاب (دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين)، تتبع فيه صاحبه جميع هذه المواضع في القرآن الكريم وبين ذلك.
من المواضع التي يناسب أن نتحدث فيها عن هذه المزايا وهذه الخصائص الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه السورة العظيمة وهي سورة الفتح؛ لأنها اشتملت على الإشارة إلى هذه النعم من أولها إلى آخرها، يقول تعالى في صدرها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3] إلى أن قال تبارك وتعالى أيضاً في هذه السورة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:8 - 9].
فمن أسباب إرساله صلى الله عليه وسلم إلى البشرية أن يعرفوا قدره الشريف عليه الصلاة والسلام، ويعزروه ويوقروه، ويسبحوا الله سبحانه وتعالى بكرة وأصيلاً، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله: ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)) عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: من مقاصد الرسالة والبعث أن تعرف البشرية قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ربه له، ليوفوه قدره حق قدره.(122/2)
من أعظم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إيتاؤه القرآن العظيم
من أعظم خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق هي إيتاؤه القرآن العظيم، حيث شرفه بأن أنزل عليه أشرف كتبه بأشرف سفارة وهي سفارة جبريل عليه السلام في أشرف البقاع وهي مكة المكرمة في أشرف شهور السنة وهو رمضان في أشرف لياليه وهي ليلة القدر بأشرف لغة وهي اللغة العربية على أشرف رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة وهي أمة الإسلام.
فالله سبحانه وتعالى خص النبي عليه الصلاة والسلام بالقرآن العظيم، وجعله المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل وبما أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وبه ختم النبوة، وسوف تأتي أجيال وأجيال وأجيال بعد وفاته عليه الصلاة والسلام تنتسب إلى ملته وأمته، وتفتقر إلى هديه؛ إذا اقتضت الحجة على البشرية أن جعل الله سبحانه العلماء -الذين هم ورثة الأنبياء- يقومون ببيان الاستدلال بهذا القرآن الذي هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، ولذلك كان من أعظم فضائله إيتاؤه القرآن، فإنه كتاب معجز ومحفوظ من التبديل والتغيير والتحريف على مر الدهور قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والقرآن جامع لكل شيء، ومستغن عن غيره، ومشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب السابقة والديانات، وهو ميسر للحفظ، ونزل منجماً، ونزل على سبعة أحرف، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42]، وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وقال عز وجل: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء:106] أي: جزأناه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً) يعني: المعجزات الحسية التي يؤمن البشر إذا رأوها، تقوم مقام كلام الله سبحانه وتعالى المباشر بأن هذا الرسول حق وصدق فآمنوا به واتبعوه، فبدل أن يخاطب الله الناس مباشرة بمثل هذه العبارة أرسل الرسل وأيدهم بما يقوم مقام هذه الشهادة بصدق الرسل، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، كتاب علم كما قال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] يعني: وحياً؛ لأن العلم هنا هو الوحي، وطريق العلم هو الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) معناه: أن معجزة الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، ومن ذلك خرقه العادة في أسلوبه وبلاغته، وإخباره بالمعنيات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر عنه أنه سيكون دليلاً على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل أيضاً في معنى هذا الحديث: إن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار: كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصائر، فلا تنقرض بانقراض مشاهدها، بل تبقى ويشاهدها كل من جاء بعد الأول باستمرار، فيكون من يتبعه لأجلها مؤمناً، ولذلك قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً) لماذا؟ لأن معجزتي باقية ودائمة وخالدة.
إذاً: تخصيص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإيتائه القرآن العظيم تشريف يفوق ما أوتي النبيون من كتب ومعجزات، إذ كان ما أوتوه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعدو أن يكون خارقاً من الخوارق ينتهي بانتهاء زمنه أو تشريعات ووصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، أما القرآن فهو معجزة الدهر، وكتاب الزمن، ودستور الحياة في شتى نواحيها، يعلم الإنسانية ويأخذ بيدها إلى حيث رقيها وسعادتها، يصحح ما أخطأ فيه كبار الفلاسفة والمفكرين من الحقائق الكونية، ويقوم ما انحرف عنه زعماء المتدينين من العقائد الدينية، يساير التقدم العلمي ويدعو إلى تحرير الفكر والعقل من أغلال التقليد وأوهام الجمود، أثبت من النظم والقوانين ما لم يصل إليه فقهاء التشريع في القديم والحديث، وثم مناهج للأخلاق وآداب السلوك قصرت عنها أنظار علماء الاجتماع في أرقى الأمم حضارة في شرق الأرض وغربها.
يضاف إلى هذا فصاحة أسلوبه، وسلاسة ألفاظه وترتيله، وروعة تصويره، وأخذه بمجامع القلوب، وامتلاكه للنواصي والألباب.
وإنك لتجد البون شاسعاً بينه وبين سائر الكتب المنزلة الخفي منها والجلي، والكتب الأخرى غير القرآن الكريم كالتوراة والإنجيل كتب غير معجزة كما صرح بذلك شيخ إعجاز القرآن الأول من علماء التفسير وهو الزمخشري بلا منازع على بدعته وضلاله، واتباعه لمنهج المعتزلة، لكن مع ذلك فهذا مما لا يتكلم فيه عن جهل، حيث إن الزمخشري من أوفى الناس حظاً من ناحية بيان إعجاز القرآن الكريم البلاغية، فـ الزمخشري صرح أن الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل غير معجزة، إذ الإعجاز خاص بالقرآن من بين سائر الكتب السماوية، على أن الإنجيل عبارة عن مواعظ ووصايا ألقاها عيسى عليه السلام على أتباعه عقب نزولها عليهم من غير أن تدون في كتاب، والأناجيل الموجودة عند النصارى هي من تأليف بعض الحواريين، كتبوا فيها سيرة عيسى بعد رفعه بمدة طويلة، وهذا هو السبب فيما يوجد بين النسخ المختلفة من تناقض واختلاف وغير ذلك من التحريفات.
إذاً: اختص القرآن الكريم بكونه الكتاب المعجز دون سائر الكتب التي أنزلت على النبيين، فإذا وازنت التوراة المسماة: بالعهد القديم بأسلوبها وأحكامها وتعاليمها ووصاياها وما فيها من قصص وتواريخ بسورة من سور القرآن أدركت الفارق الكبير بين الكتابين، وكأنك بهذه الموازنة تحيك نور الشهاب من تلك الشهب التي تعترض في الأفق لامعة، ثم تنطفئ لا يكاد يقرأ بها أحد، إلا من كان يرقب حركاتها لغرض من الأغراض، كأنك تقرأ في نور هذا الشهاب بدون الشمس الذي يضيء الدنيا، ويبعث الحرارة في الكون، ويسري مع شعاعه الحياة والنور، ويذهب ظلام الليل وما حواه من ظلمات وأوهام.
ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87].
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ) أي: لقد خصصناك بهذا الكتاب وشرفناك به، وذخرناه لك، ولم ننزله على إبراهيم وموسى وعيسى؛ لأنهم -وإن كانوا رسلاً مكرمين- لم يصلوا إلى رتبتك، ولا حاموا حول منزلتك، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].
قال الزمخشري: أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين؛ لأن هذه الآيات من سورة العنكبوت هي أن المشركين اقترحوا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50] فأتى
الجواب
(( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ))، لو كانوا فعلاً طالبين للحق فقد جاءتهم الآيات، بل جاءتهم أعظم آيات على الإطلاق: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ)) آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين، هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان؟! إن في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر لرحمة يعني: لنعمة عظيمة، وتذكرة لقوم يؤمنون.
وخص الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين، وآخرهم بعثاً، وبأن شرعه مؤيد إلى يوم القيامة، وناسخ لجميع الشرائع قبله، وأنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
(خاتم النبيين) يعني: آخر الأنبياء ختمت به النبوة، ولم يقل: وخاتم المرسلين؛ لأنه يحتمل لو قال: خاتم المرسلين أن يقول قائل: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فيمكن أن يبعث بعده نبي، لكن عندما يسد الباب بختم النبوة التي هي قنطرة إلى الرسالة؛ فلا شك أن ذلك يتضمن أيضاً ختم الرسالة.
وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] فالقرآن مهيمن وحاكم على ما عداه من الكتب، ولذلك استدل بهاتين الآيتين -وهما قوله: ((وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ))، وقو(122/3)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أعطي خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أعطي خواتم البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن أحد قبله.(122/4)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل إلى الناس كافة
ومنها عموم دعوته للناس كافة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].
فهو رسول الله إلى البشر كافة، وهو أكثر الأنبياء تبعاً من حيث كثرة عدد الأتباع، وهو مرسل إلى الإنس والجن بالإجماع، وإلى الملائكة في قول.
وأنه أوتي الكتاب وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله عليه وسلم.(122/5)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب مسيرة شهر
عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا الحديث فيه تبيان لبعض خصائصه التي لم يشركه فيها نبي آخر: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر) يعني: العدو الذي يكون بعيداً عنه لمسافة تقطع في شهر فإنه إذا وصل إليه خبره -على بعد هذه المسافة- يقذف الله في قلبه الرعب والخوف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر بعض العلماء أن هذا أيضاً متحقق لأمته، وإذا صح هذا القول فلعله يفسِّر كيف أن قوى الكفر والشرك والوثنية من كل أجناس العالم الآن تتكالب وتتوحد ضد المسلمين، مع ما عليه المسلمون وما عليه من الضعف والهوان والانحراف عن دينهم، ومع ذلك ليس لهم حديث إلا عن الإسلام، والتخويف من الإسلام، حتى جعلوا كلمة الإرهاب مرادفة للإسلام، جعل أعداء الله الصادون عن سبيل الله كلمة الإرهاب بديلاً لكلمة الإسلام، فالإرهابيون هم المسلمون، والإسلام هو الإرهاب، وصدقوا فإن الله سبحانه قال: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، وصدقوا فإن الذي ألقى في صدروهم هذه الرهبة وهذا الخوف هو الله الذي نصر رسوله ونصر أمته بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، فهم يخافون أن ينهض المسلمون من كبوتهم، وحينئذ لا تقوم لهم قائمة، فهذا يعرفونه جيداً لأمر مهم جداً، وهم يهتمون كثيراً بدراسة التاريخ، ويعرفون خصائص هذه الأمة أكثر مما يعرفها أكثر المسلمين ممن يجهلون حقيقة هذه الهوية الكبيرة، وهذا الشرف الذي شرفهم الله به حين جعلهم مسلمين، وجعلهم من أمة خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام.
فنحن نرى أقوى دول العالم سواء كانت أمريكا أو غيرها من حيث القوى المادية كيف أن خوفهم من الإسلام جعلهم يخططون بخطط كلها توضع من أجل الإسلام، ويصرحون في كل حين ووقت أن عدوهم الأول هو الإسلام، مع ما فيه المسلمون من الضعف، فما بالك لو توحد المسلمون؟! وما بالك لو اعتز المسلمون بدينهم ورجعوا إلى سابق مجدهم وسابق عهدهم؟! وفي الحقيقة إن هؤلاء القوم يورثون للأجيال الحقد على الإسلام والمسلمين، فالإنسان إذا تتبع جذور هذه الأساليب الوحشية التي يسلكها الكفار مع المسلمين سواء ما حصل من الصرب، أو ما حصل من قبل في الحروب الصليبية من المذابح، وفي الأندلس وغيرها من البلاد إلى يومنا الحاضر؛ يعرف هذا، فلو أدركتم ما كان عليه المسلمون من العزة وما كان عليه الكفار من الذلة والهوان خاصة في العقود الأخيرة أو الفترات المتأخرة كالخلافة العثمانية لوجدتم تحقيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(122/6)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً
قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) يعني: لا يشترط أن تكون الصلاة في مسجد كالأمم السابقة، من أنه لابد أن يتعبد في المكان المعين، بل حتى الماء إن فقده فيتيمم في المكان الذي يصلي فيه، والأرض كلها طهور، وعند العجز عن الماء أو فقدان الماء فيوجد التراب في كل مكان، فهي شريعة سهلة حنيفية.(122/7)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم
قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) لقد كان المجاهدون من قبل في الأمم السابقة إذا حصلوا على غنائم في القتال يجمعونها في مكان واحد، ثم تنزل نار من السماء فتحرقها، أما هذه الأمة فأحلت لها الغنائم.(122/8)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم إعطاؤه الشفاعة
قوله: (وأعطيت الشفاعة).
والمقصود هنا: الشفاعة العامة، أي: وأعطيت الشفاعة العامة لإراحة الخلائق من الموقف، ومن أهوال يوم القيامة، أما غيرها من الشفاعات فقد شاركه فيها غيره من الأنبياء، بل والملائكة والصالحون، فهناك شفاعات بعض منها فيه نوع من خصائص الرسول عليه السلام، فيوم القيامة يجتمع الخلق كلهم والبشر أجمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما يمرون على عامة الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا، وتأملوا يوماً طوله خمسون ألف سنة، والشمس تدنو بمقدار ميل، حتى يغرق الناس في عرقهم، والميل هو الميل الذي يوضع به الكحل في العين، أو هو المسافة المعروفة التي هي حوالى كيلو ونصف أو أكثر، وهذا من أجل أن نتخيل كيف تكون شدة هذا الموقف! فالشمس تبعد عن الأرض بمقدار ثلاثة وتسعين مليون ميلاً، فتخيلوا الثلاثة والتسعين ألف ألف ميل، عندما تصير ميلاً واحداً، كيف يكون الحال؟! على أي الأحوال هذه الشفاعة المذكورة هنا: (أعطيت الشفاعة) المقصود بها الشفاعة العامة في الخلائق كلها، كي يبدأ الحساب، وتوضع نهاية لهذا الوقوف الذي يمتد خمسين ألف سنة، أما غيرها من أنواع الشفاعات فهي ثابتة للنبي عليه السلام، ويشاركه فيها غيره من الأنبياء، وهناك شفاعة للملائكة وهناك شفاعة للصالحين وهكذا.(122/9)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الناس عامة
قوله: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة).
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)، فالنبي عليه الصلاة والسلام معجزته باقية، وكل بشر يستطيع أن يطلع عليها، وبالتالي يلزم من كونه أكثر الأنبياء تبعاً أن يكون أكثر الأنبياء قدراً وثباتاً؛ لأن كل حسنة يفعلها من اتبعه عليه الصلاة والسلام ومن انتفع بهديه تكون مثلها في ميزان حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وأنا أو من يقرع باب الجنة) أول من يقرع باب الجنة؛ لأن هناك أوامر من الله سبحانه وتعالى للملائكة على أبوب الجنة، أنها لا يمكن أن تفتح لأحد أبداً قبل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقال: من؟! فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد)، رجل واحد فقط آمن ببعض الأنبياء!(122/10)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم كونه رحمة للعالمين
من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه رحمة للعالمين، وكلمة (عالمين) تشمل جميع العالمين بما في ذلك الكفار أنفسهم، وتشمل الطيور في الهواء، والأسماك في الماء، والحشرات والحيوانات، وكل شيء تشمله هذه الرحمة، فمن مظاهر كونه رحمة للعالمين حتى الكفار تأخير العذاب، حيث لم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! ادع الله على المشركين، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة)، فهو هدية من الله سبحانه وتعالى إلى البشرية.(122/11)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم إقسام الله تعالى بحياته
من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم إقسام الله تعالى بحياته، فالله سبحانه وتعالى حلف وأقسم بحياة وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ)) أي: الكفار في سكرتهم يعمهون.(122/12)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم إسلام قرينه من الجن
من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم إسلام قرينه من الجن؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)، (فأسلم) يعني: من شره، أو (فأسلم) أي: دخل في دين الإسلام، وهذا هو الواقع الذي عليه يبنى هذا المعنى، وهو إسلام قرينه، وأنه دخل في الإسلام، ولكن الله أعانه عليه فأسلم أي: دخل في الإسلام أو (فأسلم) أي: من شره فلا يأمرني إلا بخير.(122/13)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم ندائه باسمه على الأمة
قال أبو نعيم: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم ندائه باسمه على الأمة، بخلاف سائر الأنبياء فإن أممهم كانت تخاطبهم بأسمائهم، ويحرم على كل مسلم أن ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، يعني: لا يحل لأحد أن يقول له: يا محمد!، وإنما لابد أن يقول له: يا رسول الله! قال الله تعالى حكاية عن قوم موسى: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وقال تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:112]، وقال تعالى لهذه الأمة: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].(122/14)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسأل عنه في قبره
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسأل عنه في قبره؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في أثناء الحديث: (فأما فتنة القبر فبي تفتنون، وعني تسألون، فإن كان الرجل صالحاً غير مبتدع وسع له في قبره، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام، فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات من عند الله عز وجل، ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله) إلى آخر الحديث.(122/15)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم نكاح أزواجه من بعده
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم نكاح أزواجه من بعده، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، فلذلك حرم الله سبحانه وتعالى على أزواجه صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده؛ لأنهن أزواجه في الجنة.
ومما قيل في تعليل ذلك: إنهن أمهات المؤمنين، وإن في ذلك غضاضة ينزه عنها عرضة الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما جاء في الحديث أن رجلاً اشترط على امرأته بأنه إن مات فإنها لا تتزوج بعده، قال النبي عليه الصلاة والسلام ما معناه: (إن ذلك لا ينبغي) يعني: لا ينبغي مثل هذا الاشتراط، فإن تحريم نكاح الأزواج بعد موت أزواجهن إنما هو خاص بأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، ولعل الحكمة هي ما ذكرت من أن هذا فيه غضاضة وأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، بجانب أن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، فلو قدر أنها تتزوج بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فسيكون آخر أزواجها غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.(122/16)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم مدافعة الله عنه أعداءه
قال أبو نعيم: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم بأنفسهم، كقول نوح: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61]، وقال هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67] إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن الأنبياء هم الذين يتولون الرد والدفاع عن أنفسهم، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد تولى الله تبرئته عما ينسبه إليه أعداؤه، ورد عليهم بنفسه عز وجل، ولذلك في كثير من المواضع يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، لكن لما عير عدو الله النبي عليه السلام بأنه أبتر لا يعيش له ولد، وليس في ذريته ولد، لم يقل (قل إنا أعطيناك الكوثر)، وإنما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، بدون واسطة، فهذا يدل على أن الله هو الذي يتولى بنفسه الدفاع عن خليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فحينما نتأمل آيات القرآن نجد هذا المعنى، وهو أن الله هو الذي يدافع عنه عليه الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، ويقول أيضاً: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:2 - 3]، وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] إلى غير ذلك.(122/17)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم إيتاؤه جوامع الكلم ومفاتيح خزائن الأرض
من خصائصه صلى الله عليه وسلم النصر بالرعب مسيرة شهر أمامه، وشهر خلفه، وإيتاؤه جوامع الكلم، ومفاتيح خزائن الأرض، وعلم كل شيء إلا الغيب واللوح، وبين له من أمر الدجال ما لم يبين لنبي قبله.
ومنها تسميته أحمد، وهبوط إسرافيل عليه، فعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض -يعني: ملك الأرض-، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم).
وقال ابن كثير في تفسيره في آية الفتح: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1].
وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي)، وهي من قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة).
وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الزبور المئين) إلى آخر الحديث.(122/18)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم اقتران اسمه الشريف باسم الله تبارك وتعالى
من ذلك أيضاًَ: اقتران اسمه الشريف باسم الله تبارك وتعالى في كثير من المواضع، ومن أشهر هذه المواضع الأذان كما قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد يقول تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24]، ويقول: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14]، ويقول: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، ويقول تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، وقال: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقال: {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، وقال: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، وقال: {أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:74]، وقال: {كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:90]، وقال: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37].(122/19)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله ذكر بعض أعضائه في القرآن
من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى ذكره في كتابه الكريم عضواً عضواً، ومدحه بذلك، قال تعالى في وجهه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، وقال في عينه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه:131]، وقال في لسانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم:97]، وقال في يده وعنقه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]، وفي صدره وظهره: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3]، وفي قلبه: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97]، وفي خلقه قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وهذا ما لم يحصل لنبي قبله صلى الله عليه وسلم.(122/20)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم التكني بكنيته
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم التكني بكنيته، ولم يثبت ذلك لأحد من الأنبياء؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين اسمه وكنيته، ويسمى محمداً أبا القاسم) يعني: من كانت كنيته أبا القاسم فلا يكون اسمه محمداً، ومن كان اسمه محمدًا فلا يكنى أبا القاسم، فلا يجوز للرجل أن يكون اسمه أو أبا القاسم محمداً، لكن له واحد من الاثنين، لكن أن يجمع بينهما فهذا من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشركه فيه أحد.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي).(122/21)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل بناته وزوجاته على سائر نساء العالمين
من ذلك اختصاصه صلى الله عليه وسلم بتفضيل بناته وزوجاته على سائر نساء العالمين، وأن ثواب زوجاته وعقابهن مضاعف لخطر منزلتهن رضي الله تعالى عنهن، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]، وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] إلى آخره.(122/22)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل أصحابه على جميع العالمين سوى الأنبياء
من ذلك أيضاً: اختصاصه صلى الله عليه وسلم بتفضيل أصحابه على جميع العالمين سوى النبيين، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الأمم على الإطلاق، لم يبعث نبي في أمة هي أشرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، بل زكى الله سبحانه وتعالى ما كان عليه الصحابة، زكى إيمانهم وعقيدتهم ومنهاجهم بقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، فعلق هدايتهم على الإيمان بمثل ما آمن به الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يكتف بقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، وإنما أراد الله أن يبين شرف أمة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بقوله: ((فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا))، وهذا أمر معلوم لثناء الله سبحانه وتعالى عليهم في القرآن، وورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة في فضائلهم.(122/23)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد
من خصائصه صلى الله عليه وسلم: تفضيل بلديه على سائر البلاد، والدجال والطاعون لا يدخلانهما، وتفضيل مسجده على سائر المساجد ما عدا المسجد الحرام، والبقعة التي دفن فيها أفضل من سائر البقاع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) أي: أنها تضاعف.
وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بمكة يقول: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت).
بعض الناس يحاولون دائماً أن يوظفوا نصوص القرآن والسنة لإشهار باطلهم وضلالهم، يريدون تثبيت المفهوم القومي الوثني الذي ليس مفهوماً إسلامياً، وإنما هو مفهوم غربي وافد إلى بلاد المسلمين، كموضوع الأرض والتراب والوطن وتقديس الوطن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول مخاطباً وطنه: أدير إليك قبل البيت وجهي إذا هبت رياحك بالتراب يعني: أدير إلى وطني وأستقبلك قبلة قبل أن أستقبل الكعبة! فبعض الناس يحاولون أن يلغوا دلالات الأحاديث الشامخة على لسان المعصوم عليه السلام لتبرير ضلالهم، من أمثلة ذلك: كثرة الاستدلال بهذا الحديث على قضية حب الوطن بالطريقة التي يقصدونها، وهي تصادم العقائد الإسلامية والنصوص الإسلامية، فيقولون: إن الإنسان يحب الوطن، ويعطيه أولوية على سائر الأوطان، بمجرد أنه ولد فيه مثلاً، فهذه الصورة المعروفة التي يقصدونها، وحب الوطن معروف فطرة، وحديث: (حب الوطن من الإيمان) موضوع، لكن على الأقل هو فطرة، فالإنسان يحب المكان الذي نشأ فيه، ويحب أهل بلده ووطنه الذي ولد فيهم، لكن ليس أن الوطن يتحول إلى صنم كبير يعبد في مقام صغير، فهذا بلا شك يتنافى مع أبسط مبادئ ومفاهيم الإسلام، فهؤلاء الناس الضالون الذين هم أخذوا من أوروبا وغيرها مفهوم الوطنية الوثني، والولاء للوطن، وأن الوطنية هذه حاجز بينك وبين إخوانك في العقيدة وكل بلدة تعتز بصنم وطنها؛ حتى يمزقوا المسلمين، فيستدلون بهذا الحديث ويقولون: إن الرسول عليه الصلاة السلام دلل على حب الوطن بقوله: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله)، فهل هذا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد فيها وهي بلده أم لأنها أحب الأرض إلى الله؟ لأنها أحب البقاع إلى الله، وحتى لو كان يحبها رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنها بلده ووطنه فيجب على كل مسلم أن يكون البلد الذي يحبه رسول الله أحب إليه من كل بقعة على ظهر الأرض، فالمسألة ليست متروكة للاختيار، فكل مؤمن لابد أن يستحضر في القلب أن أحب الأوطان إليه هي مكة والمدينة وبيت المقدس، فهذه أحب الأوطان إليك، حتى تكون أحب إليك من أي مكان حتى البلد الذي نشأت فيه، ولا شك في ذلك، كما يقول الشاعر: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني فموضوع الوطنية هذه كانت مؤامرة، فالحدود السياسية صنعها أعداء الله من اليهود والنصارى، وضعها الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون وغيرهم من أعداء الإسلام، فهم الذين قسموها هذا التقسيم؛ كي يحولوا بين وحدة المسلمين، وكي يسهل عليهم اقتناص أمة المسلمين واحداً بعد الواحد، وهذا حديث يطول، لكن هذه إشارة عابرة.
فتنبهوا فإن هذا الحديث يساء فهمه لتأييد الوطنية بمفهوم الوثنية، والحديث إنما يثبت فضل مكة على سائر البقاع؛ لأن مكة حرم، فهي حرم إبراهيم عليه السلام حرمها إبراهيم، يقول عليه الصلاة والسلام: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله)، وهذه حكمة جعلها الله في مكة، مع أنه ليس فيها جنات مثل جنات أوروبا، أو بلاد الشام مثلاً، وليس فيها الخضرة، ولا الجو اللطيف، وإنما هو الحر والصحراء، وأضف إلى ذلك خشونة سلوك أهل مكة أحياناً، فبعض الناس منهم في معاملته خشونة شديدة، حتى العوام من الجهلة يقولون لك: نحن أخرجنا النبي عليه الصلاة والسلام من هنا والعياذ بالله ثم أدخلناه، وهذا كلام لا يقوله إلا الكفار الذين فعلوا ذلك، وهؤلاء العوام لا يقصدون ذلك.
الشاهد: الذين يذهبون إلى أوروبا أو غيرها هي لأجل أنها طيبة وكذا وكذا، فتكون عوامل الجذب: حسن المعاملة، والطبيعة الجميلة، والجو الجميل، والنسيم العليل، فكل هذه تكون عوامل جذب، لكن مكة ليس فيها ما يجذب إلا كونها حرم الله سبحانه وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ} [إبراهيم:37]، حتى الشخص الذي يذهب إلى هناك ليس من دافع في قلبه إلى أن يبذل المال ويفارق الأهل والأولاد ويتكلف كل هذا إلا التعظيماً لبيت الله الحرام، لا من أجل الخضرة والمناظر الطبيعية؛ ولا من أجل الجو العليل؛ لأن الجو حار وشديد، ومع ذلك هي أحب بلاد الله إلى قلب كل مؤمن، وكل مؤمن أعز شيء عليه أن يشرفه الله سبحانه وتعالى بالحج أو الاعتمار إلى بيته الحرام، حتى تكون النية خالصة لوجه الله عز وجل.
أذكر أن بعض المنصرين كانوا في إندونيسيا، وكما تعلمون أن التبشير ليس له سلاح أبداً، لا علم ولا حجة، ولا أي شيء سوى المتاجرة بمعاناة الناس، واستغلال ظروفهم، في إندونيسيا وفي كل بلاد العالم، وهؤلاء يسمونهم زوراً بالمبشرين، وإذا قلنا: مبشرين، فنعني مبشرين بالنار لمن آمن بهم، فهؤلاء اجتهدوا في التنصير مستغلين الثالوث المعروف: الفقر والجهل والمرض، وهذا هو أسلوبهم في دعوة الناس، وكما تعرفون إندونيسيا في غزو شديد من أيام الاستعمار الهولندي إلى اليوم، وهم في محاولة تنصير إندونيسيا وهي ما زالت قائمة على قدم وساق، إلى حد أنه بدأ الآن قتال طائفي في إندونيسيا، بين الإندونيسيين الذين كانوا مسلمين ثم ارتدوا، وبين المسلمين الباقين على الإسلام، في الوقت نفسه نسمع في نشرات الأخبار القتال الذي يحدث في إندونيسيا بين المسلمين والنصارى، المهم أفلحوا نتيجة الحرب والفقر الشديد أن استجاب لهم مجموعة من المسلمين تحت ضغط المرض والفقر المدقع، فدخلوا في ديانة النصرانية ظاهراً، ووافقوا القديس موافقة ظاهرية، فلما أراد القديس أن يكمل معهم طقوس الدخول في الديانة النصرانية وهيأهم للتعميد، قال لهم: لكل واحد منكم أمنية تحقق له، فما هي الأمنية التي تتمنونها وسوف نعملها لكم؟ فكلهم قالوا بصوت واحد: نحج إلى مكة! فكل مسلم يجد في قلبه حب مكة، والذي لا يجد في قلبه حب مكة ليس بمنتمٍ للإسلام، الذي يرى أنه يوجد مكان أعز عليه من مكة أو المدينة وبيت المقدس فهذا ليس منا، من لم تكن هذه الأماكن المشرفة أو البقاع المشرفة ليس لها هذه الأولوية في قلبه فليس هذا من المسلمين، فليبحث عن انتماء آخر، لكن كل مسلم يجد في قلبه مصداق دعوة الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة) وكما هو معلوم فإن على أنقابها وأبوابها حراسة من الملائكة، لا يستطيع أبداً المسيح الدجال أن يدخل مكة والمدينة، فالمدينة سيكون فيها منافقون غير صادقين في إسلامهم، فما الذي يحصل؟ تتزلزل الأرض، وتطرد المنافقين إلى الدجال في الخارج، لكن هو لا يدخل أبداً إلى مكة والمدينة.(122/24)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله جعل أمته آخر الأمم وخيرها
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله جعل أمته خير الأمم، وآخر الأمم، ويسر لهم حفظ كتابه في صدورهم، واشتق لهم اسمين من أسمائه تبارك وتعالى وهما: المسلمون والمؤمنون، (المسلمون) لأن الله هو السلام، (والمؤمنون) لأن الله من أسمائه المؤمن، وسمى دينهم الإسلام، ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء دون أممهم، قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وهذه الخيرية ليست قائمة على أساس العنصرية كما هو الحال في كل المناهج المخالفة للإسلام، حيث تجد دائماً تفرقة عنصرية على أساس اللون البشرة على الأساس القبلي على أساس كذا أو كذا لكن هذه الخيرية بابها مفتوح لكل من شاء أن يلج إليها فيستطيع كل إنسان أن يتشرف بالانتماء إليها بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وقال سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78].
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]: (إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى).(122/25)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله وضع عن أمته الإصر وأحل لهم كثيراً مما حرم على من قبلهم
من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تعالى وضع عن أمته الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، وأحل لهم كثيراً مما حرم على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، ورفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، ومن هم منهم بسيئة لم تكتب عليه سيئة بل تكتب له حسنة، يعني: من هم بالسيئة فلم يعملها فهذا الترك يثاب عليه حسنة، ومن هم بحسنة كتبت حسنة بمجرد الهم، فإن عملها كتبت عشراً، ثم يضاعف الله بعد ذلك لمن يشاء.
ووضع عنها قتل النفس في التوبة؛ لأنه كما نعلم من القرآن الكريم كانت توبة بني إسرائيل أن يقتل بعضهم بعضاً {اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54].
كذلك رفع عنا قرض موضع النجاسة، فقد كان من الأمم السابقة إذا أصاب ثوب أحدهم نجاسة فلا يطهر، وإنما يقرض -يقطع- المكان أو الموضع الذي أصابته النجاسة! ومن التيسير على هذه الأمة أخذ ربع عشر المال في الزكاة، وما دعوا به استجيب لهم، وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية، ونكاح الأربع، ورخص لهم في نكاح غير ملتهم من أهل الكتابين، وفي مخالطة الحائض سوى الوطء، بخلاف اليهود فقد كانت المرأة عندهم تعزل تماماً في حال الحيض، وفي إتيان المرأة على أي شق كان، وحرم عليهم كشف العورة، وشرب المسكر، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وكلمة (من حرج) نكرة في سياق النفي، فهي تعم، ولو قال: (حرجاً) فإنها تعم، لكن قوله: (اخرج) أقوى؛ لأنها نفت أي درجة من درجات الحرج، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال عز وجل معلماً إيانا أن ندعوه ثم استجاب لنا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286]، وقال تعالى في ظل وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وبركاته على العالمين وعلى هذه الأمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] يعني: كانت على الأمم من قبلنا، قيل: من هذه الآصار والأغلال أن الشخص لو أكره على الكفر فكفر أنه يكفر بذلك، وليس له رخصة في التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره على قولها، بل إما أن يكفر إذا قالها، وإما أن يصبر حتى يقتل، واستدلوا على ذلك بقول فتية الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، فنفوا الفلاح الأبدي الذي ترتب على خيار من خيارين ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ))، فوسع عذر الإكراه لأمة محمد عليه السلام، فالخيار ليس محصوراً في القتل أو الرجوع إلى ملة الكفر، فممكن أن يبقى حياً مع التلفظ بلسانه فقط وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] يعني: هذا هو الذي يكفر حقيقة، ولكن ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، ولا سلطان لأحد عليه، فيمكن أن توجد رخصة، فهذا أيضاً من وضع الآصار، واستدلوا في هذا المقام بحديث طارق بن شهاب الذي رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد: (دخل رجل النار في ذبابة، ودخل رجل الجنة في ذبابة، مرَ رجلان على أناس يعبدون الوثن، فقالوا للرجل الأول: قرب ولو ذباباًَ -يعني: لابد أن تقرب شيئاً لهذا الوثن- فأبى؛ فقتلوه فدخل الجنة -بسبب ترك التقرب بذبابة-، أما الآخر فقيل له: قرب وإلا نقتلك، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فكفر بذلك فدخل النار) أي: بسبب الذبابة، والحديث ضعيف، وإن صح فإنه يصلح شاهداً لهذا المعنى، وهو: أن العذر بالإكراه من خصائص أمتنا المحمدية.
وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وهذه الآية منقبة عظيمة جداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نلاحظ كثيراً من الفتاوى في القرآن الكريم كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، أما هنا فلم يقل (يسألونك عني)، لكنه سبحانه وتعالى هو الذي يضفي هذا الترغيب في الرحمة فيقول مبادراً ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي))، يعني: كأنه لم ينتظر حتى يسأل أحد، ولكن بادر سبحانه وتعالى بأن تقرب إلى عباده بقوله: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي))، ولم يقل: فقل: إني قريب، وإنما قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، فسبحان الله ما أعظم رحمة الله بعبادة المؤمنين!! وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (لما أنزلت هذه الآية: {إنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] دخل في قلوبهم منه شيء لم يدخل من قبل، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية شقت عليهم، فلما قالوا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة الكريمة).
وفي بعض الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى قال: (قد فعلت) يعني: قد استجبت هذا الدعاء وقد غفرت لكم.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرني أنه عذاب كان يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، كان له مثل أجر شهيد)، وهذا الحديث يعتبر سبق علمي في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة، خاصة عند الأخصائيين بالصحة العامة الذين يهتمون جداً بالوقاية، فلا شك أن هذا الحديث يدل على أعظم درجات الوقاية من مثل هذه الأوبئة؛ لأنه لو سمح للناس الذين يقع الطاعون فيهم بالخروج لنقل هذا الوباء، أو سمح لمن لم يوجد فيه بالدخول فهذا فيه تعرض لهذا البلاء، وكله من قدر الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما حصل الطاعون في الهند قبل حوالى خمس سنوات، فالذي حصل أن بعض مرافق الحكومة سمحوا لبعضهم بالفرار إلى أماكن أخرى؛ لأن الإجراءات كانت كلها سليمة؛ فانتشر الطاعون في عامة أرجاء الهند، بسبب أنهم تركوا الناس يفرون خارج المدينة، فانتشر الطاعون جداً، وإلى أيامنا هذه بعض دول الخليج تمنع الطائرات القادمة من الهند؛ خشية أن يأتي هؤلاء الناس معهم، وهذا كله بإذن الله سبحانه وتعالى، ولما حصل زلزال في جبال محيطة بهذه المنطقة في إيران، وكانت هناك أسر تعيش في جحور الجبال؛ فلما فتحت هذه الصدوع انتشر الطاعون عن طريق تأثير الزلزال، وامتد هذا المرض إلى هذه القرى، فكان هذا فعلاً من أقوى الإجراءات الوقائية، أي بلد يدخل فيه الطاعون فالمشروع لمن فيه أن يصبر ويحتسب ولا يخرج، والذي خارجها لا يدخلها، كما قال عمر: أفر من قضاء الله إلى قضاء الله.
لما امتنع من الدخول إلى الأرض التي فيها الطاعون.(122/26)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سيصلي خلف رجل من أمته
من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن من أمته من يصلي بعيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟!) قال العلماء: إن إمامهم هو المهدي بناءً على بعض الأحاديث الصحيحة التي فيها أن عيسى عليه السلام حينما ينزل وقد أقيمت صلاة الفجر وإمامهم المهدي يقول له المهدي: تقدم يا روح الله! فصل، فيمتنع المسيح عليه السلام من الصلاة ويقول: إن بعضكم أئمة بعض تكرمة الله هذه الأمة.
وأيهما أفضل المهدي أم عيسى عليه السلام؟ عيسى بن مريم بلا شك، فعيسى نبي، ومن اللطائف أنه أيضاً صحابي، لأنه ينطبق عليه تعريف الصحابي في علم الحديث: من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وآمن به ولو وقتاً يسيراً من الزمن، فعيسى لقي النبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء، وهو مؤمن به عليه الصلاة والسلام، وعيسى لم يمت؛ لأنه رفع إلى السماء وسينزل إلى الأرض في آخر الزمان.
وفي بداية الأمر سوف يمتنع المسيح عليه السلام عن الصلاة إماماً؛ لأنه إذا صلى إماماً حسبما يقتضيه مقامه الشريف لوقع الناس في تخبط، هل عيسى جاء مشرعاً جديداً؟ وكيف وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فحتى يزيل هذه الشبهة من البداية يمتنع أولا ًمن الصلاة إماماً؛ كي يصلي مأموماً خلف إمام من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وهو المهدي من أبناء النبي عليه السلام، ومن نسل الحسن رضي الله تعالى عنه، ومن ذرية فاطمة، لكن بعد ذلك الظاهر أن المسيح هو الذي يصلي بالناس، لكن الامتناع فقط عند بداية ظهوره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذكر ابن آدم بين يدي الدجال فقالوا: أي المال خير يومئذ؟! فقال: غلام شديد يسقي أهله الماء، قالوا: فما طعام المؤمنين يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: التسبيح والتكبير والتهليل)، يعني: أنهم في ذلك الوقت يشبهون الملائكة، قالت عائشة: (فأين العرب يومئذ؟ قال: العرب يومئذ قليل) يعني: قليل بالنسبة إلى غيرهم، والعرب الآن قليل بالنسبة للمسلمين أم لا؟ العرب الآن لا يساوون تسع باقي المسلمين؛ لأن المسلمين دائرة أوسع، ثم يأتي أعداء الله ويفرقون المسلمين بهذه الطريقة، وبالقوميات والوطنيات والوثنيات؛ لأن توحدهم يعتبرونه خطراً شديداً على العالم كافة، لو أن المسلمين العرب توحدوا، ثم انضمت إليهم بعض الدول مثل موريتانيا ودول شرق آسيا، يأتون من هذه المناطق مدداً إلى البلاد العربية، ثم توحدت كل بلاد المسلمين؛ فتخيل كم ستكون القوة والموارد البشرية، والعدد الضخم، والقوى العسكرية، والقنوات، والعلوم، والعقول النابغة وغير ذلك؟! لا شك أن هذا يقضي تماماً على قوة أعداء الإسلام؛ لأن تخلف المسلمين في كثير من المجالات ليس ناشئاً عن قصور، ولكنه ناشئ عن قلة الإمكانات، وتحريم العلوم والتكنولوجيا مع فتح الباب على مصراعيه للأمور الإفسادية، لكن الأمور الحساسة التي تعطي المسلمين قوة حقيقة هم يحولون دون المسلمين ودون ذلك بعقل الاستكبار الذي يسمونه العولمة.
فالعرب قليل بالفعل بالنسبة لباقي المسلمين، فما بالك بالعرب إذاًَ بالنسبة للكفار في القتال الذي سيحصل مع الدجال؟!(122/27)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أمته أقل أعمالاً وأكثر أجراً
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أمته أقل أعمالاً من الأمم السابقة وأكثر أجراً؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سبق قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطاً -الأجر الذي يستحقونه-، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن كنا أكثر عملاً، قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
فلا شك أن الحديث واضح في الدلالة جداً على تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.(122/28)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض، وهو أول من يفيق من الصعقة عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع) صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى الحلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري).(122/29)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله أعطاه المقام المحمود وجعل بيده لواء الحمد
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى أعطاه المقام المحمود، وجعل بيده لواء الحمد، وأن آدم فمن سواه تحت لوائه، وأنه إمام النبيين يومئذ، وأنه أول شافع وأول مشفع، وأول من ينظر إلى الله تعالى، وأول من يؤمر بالسجود، وأول من يرفع رأسه، ولا يطلب منه شهيد على التبليغ ويطلب من سائر الأنبياء.
وأعطاه الشفاعة العظمى في فصل القضاء، وأعطاه الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، والشفاعة فيمن استحق النار من الموحدين ألا يدخلها، والشفاعة في رفع درجات أناس في الجنة، والشفاعة فيمن خلد من الكفار في النار أن يخفف عنهم العذاب، والمقصود بذلك: أبو طالب، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].(122/30)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن كل سبب ونسب منقطع إلا سببه ونسبه
من خصائصه صلى الله عليه وسلم قوله: (ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب إلا سببي ونسبي).
ومن ذلك قوله: (يضرب جسر جهنم فأكون أول من يجيز).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك).
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه عليه الصلاة والسلام وقال: أمتي! أمتي! ثم بكى -يعني: رحمة لأمته وشفقة عليها- فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) (سنرضيك) أي: سنعطيك في شأن أمتك من أنواع الشفاعات وغيرها حتى ترضى؛ كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، وفي هذا الحديث أعظم عناية من النبي صلى الله عليه وسلم بأمته.(122/31)
شبهات لابد من الرد عليها(122/32)
شبهة أن ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم من التفريق بين الأنبياء
هذا غيض من فيض فيما يتعلق بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي شيء يسير سنذكره فيما بعد، لكن نشير في نهاية الكلام هذه الليلة حول وجود بعض الأشياء التي قد تشتبه على بعض الناس فيما يتعلق بأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم على إخوانه الأنبياء، فقد كان بعض الضالين يكذب بهذه الفضائل أو ببعض هذه الأحاديث ويقول: إن هذا من التفريق بين الرسل، والله تعالى يقول: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، ومن هؤلاء الضالين صالح أبو بكر، فكان يكذب بعض الأحاديث في الصحيحين، وفيها إثبات هذه الفضائل، كقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، فيقول: إن هذا من التفريق بين الأنبياء، وهذا يعارض القرآن، فنحن نرد ذلك للقرآن لقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]،
و
الجواب
أن هذا في الإيمان والتصديق، أما أن يخبر الله سبحانه وتعالى بتفضيل النبي عليه السلام وخصائصه الشريفة فهذا ليس تفريقاً بينهم، الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ذمهم الله بقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150]، فالتفريق هو في الإيمان، أما أن يصدق بالأخبار النبوية في جانب الآيات القرآنية التي فيها هذه الخصائص؛ فهذا ليس من التفريق في شيء، وإنما هذا من شبه هؤلاء القوم.(122/33)
شبهة أن الصلاة الإبراهيمية فيها تفضيل إبراهيم على محمد صلى الله عليهما وسلم
بعض الناس اشتبه عليه أننا في التشهد نقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلى آخره)، قالوا: إن قاعدة أهل المعاني أن المشبه به أعلى في الرتبة من المشبه، كما يقول: كما صليت على إبراهيم, فالمعنى أن الصلاة على إبراهيم أفضل وأعلى من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم!
و
الجواب
أولاً: الحديث فيه: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)، وآل إبراهيم يدخل فيهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا في الحقيقة تشريف لإبراهيم عليه السلام، حيث إن من ذريته محمد عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أن المقرر في علم المعاني أن الغرض من التشريف إلحاق الأدنى بالأعلى، كما تقول: زيد كالبدر، أو إلحاق متأخر بسابق في معنى من المعاني من غير ملاحظة تفاوت بينهم، فهو إما لغرض إلحاق الأدنى بالأعلى، أو إلحاق متأخر في الرتبة بالسابق في معنى من المعاني دون اعتبار موضوع التفاوت بينهما في هذا المعنى، والصلاة الإبراهيمية من هذه القبيل؛ لأن معناها: اللهم صل على محمد كما حصلت منك الصلاة على إبراهيم, وليس هنا أخفض ولا أعلى؛ لأن الصلاة على إبراهيم منشؤها نبوته وليست أفضليته، نظير ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فشبه استخلاف الأمة المحمدية باستخلاف اليهود قبلهم من غير نظر إلى التفاوت بين الاستخلافين، مع أن استخلاف الأمة المحمدية -وهي المشبه- أعم وأكمل من استخلاف اليهود المشبه بهم، فهي من نفس الباب.
أيضاًَ: التفضيل بين الأنبياء منوط بأمرين: أولاً: خصال الكمال التي يتحلى بها النبي.
ثانياً: المزايا التي يهبها الله تبارك وتعالى لهم.
فلا شك أن رسولنا عليه السلام اجتمع له الأمران في أعلى صورة من الكمال البشري، فيكفي أن الله سبحانه وتعالى مدحه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وكان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، ولم يثن بهذا على نبي ولا رسول.
أيضاً: مما يدل على هذه الأفضلية المزايا الكثيرة التي وهب الله نبيه صلى الله عليه وسلم والتي أشرنا إلى أشياء منها.(122/34)
شبهة أحاديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء
هناك حديث: (أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، وجاء في حديث آخر: (لا تفضلوني على يونس بن متى، ولا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى)؛ فهذه الأحاديث تنهى عن التفضيل بين الأنبياء.
الجواب
أن بعض العلماء سلك مسلك الترجيح بأن هذه الأحاديث آحاد، وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع، فتكون راجحة بلا نزاع، هذا مسلك.
المسلك الآخر: الجمع، وهو من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الأحاديث خرجت مخرج التواضع، مع الإشارة إلى حفظ مقام يونس عليه السلام.
الوجه الثاني: أنه قالها قبل أن يُعلمه الله بأفضليته عنده، فحين قالها لم يكن أوحي إليه هذه النعم العظمى التي أمره فيما بعد أن يخبر بها، كما في الحديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) يعني: ولا أقصد بذلك الفخر، لكن هذا من الوحي الذي لا ينبغي أن أكتمه؛ لأن من مقاصد الرسالة تعظيم النبي عليه السلام التعظيم اللائق به كما قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9].
إذاً: الوجه الثاني: أنه قالها قبل أن يعلمه الله بأفضليته عنده، وبيان ذلك أن الله تعالى والى إفضاله على نبيه وقتاً بعد وقت، ولحظة بعد لحظة، فكان أول ما قال في الإنذار: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ثم: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92]، ثم بعد ذلك قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، ثم صرف إليه الجن وبعثه إليهم أيضاً، ثم عمم بعثته فقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].
ثم أسرى به وأراه من آياته ما زاده رفعة وعلواً، ثم لما أمره بالجهاد، أمر الملائكة أن يجاهدوا معه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، أمر الملائكة أن يقاتلوا معه، وأن يكونوا من جنده صلى الله عليه وسلم، وهكذا كلما مرت على النبي صلى الله عليه وسلم لحظة زاد في نفسه فضلاً، ونال من مولاه موهبة، فكلما نزلت عليه آية أو سورة ازداد بها علماً وقربى، فكان علمه بأفضليته متأخراً عن صدور تلك الأحاديث منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعدها: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فكل فضل آتاه الله نبياً من الأنبياء اجتمع هذا الفضل كله في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الله أثنى على إدريس بقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، فلا يمكن أن يبلغ علو إدريس عليه السلام ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال تبارك وتعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، هل هناك ما هو أعظم من ذلك؟ إذا كان هود عليه السلام نصر بالريح فقد نصر محمد صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الخندق في غزوة الأحزاب.
إذا كان يوسف عليه السلام قد أوتي شطر الحسن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جميع الحسن عليه الصلاة والسلام، حتى كان من جمال صورته الشريفة عليه السلام ما حكاه بعض الصحابة: أنه رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي في حلة حمراء، وكان القمر مكتملاً، فجعل الصحابي ينظر مرة إلى القمر ومرة إلى وجه رسول صلى الله عليه وسلم، فرآه أجمل من القمر؛ من شدة الحسن الذي آتاه الله سبحانه وتعالى.
إذا كان موسى عليه السلام من معجزاته أنه نبع الماء من الحجر فإن الماء نبع من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وهذا بلا شك أقوى وأعظم.
إذا كان موسى عليه السلام من معجزاته انقلاب العصا إلى حية، فأيضاً حصلت معجزة حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم، فنفس الجذع كان يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أمر بأن يتخذ له منبراً، وكان هناك جذع في المسجد يعتمد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة، ففي أول يوم أتى الرسول عليه الصلاة والسلام ليصعد إلى المنبر، ومر على الجذع ولم يستند إليه كالعادة -وهذا الحديث ثابت قطعاً، وهو متفق عليه-، فعلى مرأى من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن حن الجذع وبكى وارتفع صوته! وهذه آية من آيات الله عز وجل، يحن حنيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبكي بكاءً لفراقه، حتى نزل من على المنبر وأخذ يضمه إليه حتى سكت وله حنين كالطفل الذي يبكي ثم يهدأ ويظل يأتي ببعض الأصوات من شدة البكاء، فهكذا حن الجذع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم!! إذا كان موسى عليه السلام قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، فإن الله هو الذي قال لخليله محمد عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144]، عليه الصلاة والسلام.
وتلاحظون أنني دائماً أستعمل كلمة (خليله) بدل (حبيبه) كما يجري على ألسنة الناس أنهم يصفونه بالمحبة، وهو لا شك حبيب الله عز وجل، لكن الأفضل أن تقول: خليل؛ لأن الخلة أعلى درجات المحبة، فقولك: حبيب الله فيه تقصير؛ لأن الله اتخذ محمداً خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، كما صح بذلك الحديث.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، فإنه قد قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، يعني: اتباعه صلى الله عليه وسلم يجلب للإنسان فضيلة ونعمة ما بعدها نعمة: {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه ُ}، وهذه بلا شك أعظم.
وإذا كان داود عليه السلام قد كانت الجبال تسبح معه، فقد سبح الحصى والطعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان سليمان عليه السلام قد أوتي ملكاً عظيماً، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيح خزائن الأرض، وامتد ملك أمته حتى شمل معظم الكرة الأرضية.
وإذا كانت الريح سخرت لسليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن البراق سخر له إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى من المنازل العالية.
على كل الأحوال: هذه إلمامة عابرة، وبقي كلام يسير متعلق بهذه المسألة، وهي خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نكملها بإذن الله في الدرس القادم.(122/35)
تفسير سورة الفتح [2](123/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3].
يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يعني بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، إنا حكمنا لك -يا محمد- حكماً لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر؛ لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك لفعالك ذلك ربك ما تقدم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخر بعد فتحه لك ذلك ما ذكرته واستغفرته.
وبهذا يتبين ما قد يستشكل بعض الناس من العلاقة بين قوله تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، وبين قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، فما وجه الارتباط بينهما يقول الإمام ابن جرير: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يعني: لتحمد الله سبحانه وتعالى على هذا الفتح، ولتسبحه وتستغفره، فبكل هذا يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك: قبل الفتح، وما تأخر أي: بعد الفتح.
يقول الإمام شيخ المفسرين: وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، يعني: بعد الفتح أمره بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، يغفر لك بعد الفتح، ولذلك قال في سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ)) يعني: فتحنا لك فتحاً مبيناً، حتى إذا ما جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره؛ يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
إذاً: لابد أن نفهم هذه الآية في ضوء آية سورة النصر، فهذه السورة تدل على صحة هذا التفسير.
يقول الحافظ الإمام ابن جرير: إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه تواب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تبارك وتعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) إنما هو خبر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم على توحيده وشكره له على النعمة التي أنعم بها عليه، وإظهاره إياها؛ والله تعالى لا يجازي عباده إلا على أعمالهم دون غيرها؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ))، وهذا كله جزاء، والجزاء والثواب دائماً يكون مبنياً على فعل العبد نفسه وليس على فعل الله، يعني: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ))، فمغفرة الله وإتمام النعمة على النبي عليه الصلاة والسلام تكون جزاء لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، أنه يسبح الله ويحمده، ويستغفره فيغفر له، وقد صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقوم حتى تتورم قدماه، فقيل له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً)، ففي ذلك دلالة واضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى إنما وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة على شكره له على نعمه التي أنعمها عليه، وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة)، ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى لنبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا؛ لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ولا لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلم ربه جل وعلا من ذنوبه بعدها معنى يعقل؛ لأن الاستغفار معناه: أن العبد يطلب من الله غفران ذنوبه، فإذا لم يكن له ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى؛ لأنه من المحال أن يقال: اللهم اغفر لي ذنباًَ لم أعمله، وقد تأول ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال فيه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)).
وأما الفتح الذي وعد الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليها فإنه فيما ذكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية.(123/2)
كلام السرخسي في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قال العلامة السرخسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها؛ لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له! والجواب عن هذا من وجهين: الأول: وهو اختيار ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه، أن المعنى: إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح.
الدلالة الوضعية للألفاظ إما أن تكون دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام، ودلالة المطابقة هي أن اللفظ يدل على المعنى الذي وضع له، مثل: لفظة (الإنسان) فيها دلالة مطابقة على الحيوان الناطق، فتنطبق تماماً عليه، أما دلالة التضمن فهي تدل على جزء المعنى، أي: دلالة اللفظ على جزء معناه، كما إذا قلت مثلاً: (الإنسان)، فتدل على جزء معنى الإنسان، أما دلالة الالتزام فهي دلالة تدل على لازم المعنى العقلي، يعني: إذا قلنا: أربعة فنفهم من هذا أن ذلك يلزم منه أن الأربعة عبارة عن عدد زوجي، فهذه دلالة الالتزام.
فقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يدل بدلالة الالتزام أنه يلزم من ذلك شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح، فإذا شكر الله على نعمة الفتح كافأه الله بأن يغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة بسبب شكره؛ لأنه يشكر الله بأنواع من العبادات يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والجزاء إنما يكون على فعل العبد، لا على فعل الرب سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وهذا الفتح في حد ذاته لا يترتب عليه مغفرة الذنوب؛ لأن الذي فتح هو الله، وإنما الذي فعله النبي عليه السلام هو أنه بعدما فتح الله عليه قال بشكر نعمة الفتح، وامتثل ما أمره الله تعالى في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، حينئذ فكان بعد الفتح يكثر من التسبيح والاستغفار، فغفر الله له طبقاً لذلك ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكراً على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه؛ لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، ثم قال: {فَسَبِّحْ} فهذا فيه ترتيب المعلول على علته، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
فهذا من حيث الدلالة من القرآن بتفسير الآية بسورة النصر، وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أزواجه: (أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) يعني: قد غفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فيترتب على ذلك أن أشكر الله سبحانه وتعالى، فبين عليه الصلاة والسلام أن اجتهاده في العمل هو لشكر تلك النعمة، وترقب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به، فـ: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) هذه عاقبة وثمرة اجتهاده في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتسبيح والعبادة.
الوجه الثاني في تفسير الآية: أن قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله، بمعنى: بما أنك -يا نبي الله- قد جاهدت في الله حق الجهاد، وترتب على هذا الجهاد الفتح من الله سبحانه وتعالى، فإن جهادك يكون سبباً لغفران ذنوبك المتقدمة والمتأخرة، فيكون المعنى هنا: ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح؛ لأن فتح الله له سبب، والسبب هو الجهاد في سبيل الله، فالمعنى: أنه ترتب على جهادك في سبيل الله سبحانه وتعالى حق الجهاد أن فتح الله عليك، فبسبب جهادك يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، هذا حاصل ما قاله المفسرون في هذه الآية، كذلك قال القاسمي كلاماً قريباً من هذا، وقال: أبو السعود: قوله: (ليغفر لك الله) غاية للفتح من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب.
قوله: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي: جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل صلى الله عليه وسلم.(123/3)
كلام ابن كثير في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قال الحافظ ابن كثير القرشي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: لم تثبت هذه الفضيلة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً في عاشوراء يكفر السنة الماضية، ويوم عرفه صيامه يكفر سنة ماضية وسنة مقبلة، أما أن يقال لعبد من عباد الله: إنه قد غفر الله له على سبيل التحقيق ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذه من تشريف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم، ولما كان أطوع خلق الله لله وأكثرهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: (حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) وقوله: (حبسها حابس الفيل) أي: الذي حبس الفيل عن أن يدمر الكعبة المشرفة، ففيه إشارة إلى أن هذا أمر إلهي من عند الله سبحانه وتعالى، فحينما بركت الناقة -كما سيأتي إن شاء الله في القصة المطولة لصلح الحديبية- فمعنى ذلك أن هذا من عند الله، ثم قال لهم: (والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها)، فهو أطاع الله سبحانه وتعالى في هذا الفعل، وأجاب إلى الصلح الذي حصل مع المشركين، فلما أطاع الله هذه الطاعة، وانقاد لأمره قال الله له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) أي: في الدنيا والآخرة ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم، والدين القويم، ثم قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3] أي: بسبب خضوعك لأمر الله، يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.(123/4)
المراد من قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قوله تبارك وتعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، هو كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، وبعض المفسرين قالوا: معناه ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعدها.
وقال بعضهم: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) يعني: من ذنب أبويك آدم وحواء، (وَمَا تَأَخَّرَ) أي: من ذنوب أمته، وما أبعد هذا التفسير عن معنى القرآن كما قال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى! فهذا تأويل بعيد جداً عن قواعد علم التفسير.
وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا أيضاًً بعيد كالذي قبله.
وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين السابقين في البعد عن المدلول، وقوله: ما تقدم من ذنب يوم بدر، هو إشارة إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً)، فقال: هذا هو الذنب المتقدم! لكن هذا يحمل على الوجه الصحيح، حيث لم يكن على الأرض مسلمون غير تلك الفئة؛ فليس فيها أي معنى محذور، وقوله: (وَمَا تَأَخَّرَ) أي: يوم حنين، هو إشارة لما روى أنه لما رمى المشركين بالحصباء قال: (لو لم أرمهم لم ينهزموا؛ فأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17])، وهذا هو المتأخر، وهذا قول بعيد.
وقيل: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) أي: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأول أولى، فيكون المراد بالذنب الأول هو ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعد الرسالة، والمراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن ذنباًً في حق غيره، فهو من باب: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3]، الوضع يكون للحط والتخفيف، ويكون للحمل والتثقيل، فإن عدي بـ (عن) كان للحط كقوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}، وإن عدي بـ (على) كان المعنى الحمل، فوضعت عنك، غير وضعت عليك.
والوزر لغة: الثقل قال تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] أي: ثقلها من سلاح ونحوه، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل ثقل أميره وشغله.
والوزر شرعاً: هو الذنب، كما في الحديث: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وقد يترادفان في التعبير، كقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} [النحل:25]، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق، ولم يبين ما هو وما نوعه، فلذلك اختلف المفسرون فيه اختلافاً كبيراً كقوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}، قيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية، وحفظه من مشاركته معهم، فلم يلحقه شيء منه، مع أنك كنت بعيداً عن أهل الجاهلية، لكن وضعنا عنك وزرك، أي: حفظناك من أن تفعل ما كان يفعله الجاهليون، وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه أمر الناس ولم يستطع تغييره، وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني: أن هذه الآية: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) كقوله تعالى -على هذا التفسير-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، يعني: أسفاً عليهم.
وقال أبو حيان: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب، وتطهيره من الأوزار.
ومهما يكن من شيء فإن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها؛ لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ولوجوب التأسي به، وامتناع أن يكون في شيء من ذلك خطأ، فحكمة الله أن جعل الأنبياء معصومين؛ لأننا مأمورون بالاقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة معصوم من الصغائر والكبائر، أما قبل البعثة فلا شك في العصمة من الكبائر أيضاً؛ لأنه كان في مقام التهيؤ للنبوة منذ صغره، وقد شق صدره الشريف في سن الرضاع، وأخرج منه حظ الشيطان، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته، ولم يذكر من ذلك شيء، فلم يبق إلا القول في الصغائر، فهي دائرة بين الجواز والمنع، فإن كانت بعد البعثة فهو معصوم من الصغائر والكبائر، وقبل البعثة فقطعاً هو معصوم من الكبائر، أما الصغائر فالأمر يدور فيها بين جواز وقوع ذلك أو منعه، وإن كانت جائزة الوقوع فوقعت فإنها لا تمس بمقامه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها وقعت قبل البعثة وقبل التكليف، وقد غفرت وحط عنه ثقلها، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه فهذا هو المطلوب.
وقد ساق الألوسي رحمه الله تعالى خبر أن عمه أبا طالب قال لأخيه العباس يوماً: لقد ضممته إلي وما فارقته ليلاً ولا نهاراً، ولا ائتمنت عليه أحداً، وذكر قصة مبيته ومنامه في وسط أولاده أول الليل، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظاً عليه، ثم قال: ولم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون.
ومما جاء في كتب التفسير: أنه عليه الصلاة والسلام أراد مرة في شبابه أن يذهب إلى مكان عرس ليرى ما فيه، فلما دنا منه أخذه النوم، ولم يستيقظ إلا على حر الشمس، فصانه الله من رؤية أو سماع شيء من ذلك، ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة، حين سقط منه الرداء ومنع منه وفي الحال استتر، فهذه أدلة أصحاب المذهب الذي يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم حتى من الصغائر قبل البعثة.
فما هو الجواب عن قول الله تبارك وتعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]؟ ما هو هذا الوزر؟ ولماذا قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]؟ قيل في
الجواب
إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم، فكلمة: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا تكريم له، وكما جاء في أهل بدر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أنهم لم يفعلوا محرماً، ولكنه تكرم منه لهم، ورفع لمنزلتهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب ويستغفر، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان كل ذلك منه شكراً لله تعالى ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال في أحد أصحابه -وهو صهيب رضي الله عنه-: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)، وصهيب حسنة من حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)، فبالنسبة لمقامه الشريف هو يرى أنه توقف لسانه عن الذكر، وبلا شك أنه كان يذكر الله بقلبه حتى في حال التخلي، لكن كان يضطر إيقاف لسانه عن ذكر الله في هذه الفترة التي لا يليق فيها ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان، ويقتصر على ذكر الله بالقلب، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا منه ذنب وتقصير، حيث حرم من ذكر الله باللسان، فكان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك)، يعني: لإمساك لساني عن ذكرك في هذه الحال، فهو سأل الله المغفرة مع أنه لم يأت في الحقيقة بموجب للاستغفار، وإنما شعوره بترك الذكر في تلك الحالة هو الذي استوجب منه الاستغفار، وقد استحسن العلماء قول الجنيد: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، فالمسألة نسبية بالنسبة لمقام العبد عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا في حق أمهات المؤمنين: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، إلى آخر الآية، وقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:30 - 31]، وهذا لعظم مقامهن، فإذا صدر من أي أم من أمهات المؤمنين ذنب فإنه يضاعف لها العذاب؛ لشرف وعلو مقامها عند الله سبحانه وتعالى في الجهتين، فما بالك بالنبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو أن المراد بمثل هذه الآيات: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، هو ما جاء في القرآن الكريم من بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة، فما ظن أنه ذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو وصفه ربه على أنه ذنب فهو في الحقيقة واحد من اثنين: إما أنه من باب ترك الأولى، وهو ذنب بالنسبة لمقامه الشريف، أو أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد وظن أن في هذا الأمر الذي فعله رضوان الله، فبعد ما فعله أعلم أن رضاء الله كان في الاجتهاد الآخر؛ فعد ذنباً في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، أما أن يتعمد معصية فلا وألف لا، ومثال(123/5)
عصمة الأنبياء
قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، واجتهاده في إيمان عمه، فقد كان حريصاً جداً أشد الحرص على إيمان عمه حتى قال الله له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} [القصص:56] ونحو ذلك، فتحمل الآية: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) على معنى الوزر اللغوي، {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] يعني: الثقل الذي كنت تتحمله من أعباء الدعوة، وتبليغ الرسالة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت وعرفت أن الناس مكذبي)، يعني الناس سوف يكذبوني، وكيف يصدقون خبر الإسراء؟! قال: (فقعدت معتزلاً حزيناً فمر بي أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وقص عليه الإسراء) ففيه التصريح بأنه فظع، والفظاعة هنا: ثقل وحزن، فلا شك أن الحزن ثقل، ولا شك أن توقع تكذيب قومه إياه أثقل على نفسه من كل شيء، فهذا الثقل هو المقصود من قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] أي: رفعنا عنك هذا العبء وهذا الثقل.
ومن ضمن الآيات التي فيها ذكر الاستغفار أو الإشارة إلى ذنب قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، قال البعض: إن الاستغفار إنما يكون عن ذنب فما هو هذا الذنب؟ وتقدمت الإشارة بإيجاز عن عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن التوبة دعوة الرسل، ولو بدأنا من قصة آدم عليه السلام قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ومعلوم موجب تلك التوبة، وهو ما وقع من آدم عليه السلام، ثم نوح عليه السلام قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]، وإبراهيم عليه السلام قال: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وقال أيضاً: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] فبناء على هذا قال بعض العلماء: إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح، يعني: التوبة هي دعوة الأنبياء، فحتى الاستغفار نفسه هو عبادة في حد ذاته كالتسبيح، ولا يلزم من الاستغفار وجود ذنب.
وقيل: ((وَاسْتَغْفِرْهُ)) هذا تعليم لأمته صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل: ((وَاسْتَغْفِرْهُ)) هذا تكريم له ورفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، فيكون الاستغفار والتوبة عبارة عن الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
وحاصل كلام الأصوليين في مسألة عصمة الأنبياء أو ما قاله العلماء في هذه المسألة هو: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة من الكفر، وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة أو تطفيف حبة، فهذه أشياء متفق عليها بين الأصوليين، ولا شك أن كل الأنبياء معصومون من الكفر، وليس في هذا جدال، والحوار الذي قصه الله علينا في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] إلى آخر الآيات، إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً ولم يكن ناظراً، وناظراً معناه: مفكراً لنفسه، يبحث عن الحق والتوحيد، فلما رأى الشمس قال: هذا ربي، وقال: هذا القمر أو هذا الكوكب ربي لا، هذا لا يمكن أبداً، فإبراهيم عليه السلام نبي، وإبراهيم معصوم مما هو أدنى من هذا بكثير، فكيف يوصف إبراهيم -والعياذ بالله- بالشرك والحيرة في أمر الله؟! هذا مستحيل! وإنما كان يناظر قومه ويستدرجهم حتى يصل بهم في النهاية إلى الإقرار بالتوحيد، كنوع من الإلزام في أسلوب الحوار، لكن لا يمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام ناظراً لنفسه، فإن الأنبياء قطعاً معصومون من الشرك.
إذاًَ: الأصوليون يتفقون على عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام من الكفر، وعن كل ما يتعلق بالتبليغ، فكل ما يتعلق بتبليغ الرسالة هم معصومون فيه، ومعصومون من الكبائر، ومعصومون من صغائر الخسة، وصغائر الخسة هي التي تدل على دناءة النفس وخستها، كسرقة لقمة أو تطفيف حبة عند الميزان مثلاً، فالحرص على هذه من صغائر الخسة، وتدل على دناءة النفس، فلا شك أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من ذلك، وأكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر -غير صغائر الخسة- منهم، ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك -وإن جاز عقلاً- لم يقع فعلاً، وقالوا: ما جاء في الكتاب والسنة من ذلك إنما فعلوه بتأويل أو نسيان أو سهو أو نحو ذلك.(123/6)
كلام الشنقيطي في مسألة عصمة الأنبياء
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراكزهم العلية، ومناصبهم السامية، ولا يستوجب خطأً منهم، ولا نقصاً فيهم صلوات الله وسلامه عليهم، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب، فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات.
حتى ما وقع منهم من هذه الأشياء اليسيرة لو فرض أنها وقعت فالأنبياء لا يقرون على ذلك ولا يصرون عليه، وإنما لابد أن ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه توبة ترفع درجاتهم، بحيث إن النبي لم يكن يصل إلى الدرجة العليا لولا هذه التوبة.
إذاً: يقول الشنقيطي: ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب؛ فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات، فتكون بذلك درجاتهم أعلى درجة ممن لم يرتكب شيئاً من ذلك، ومما يوضح هذا قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122]، فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه واجتبائه -أي: اصطفائه- إياه وهدايته له! ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
وقد قال بعض العلماء: رب معصية أوجبت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.
ولذلك قال النبي عليه السلام: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب العجب!) وقيل أيضاً: لأن يبيت الرجل نائماً ويصبح نادماً، خير له من أن يبيت قائماً ويصبح معجباً مغتراً بعمله.(123/7)
كلام ابن حزم في عصمة الأنبياء
ما زلنا في بيان معنى قوله تبارك وتعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، الحقيقة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الفصل سرد تقريباً كل ما يظن البعض أنه ذنوب وقعت للأنبياء نص عليها في القرآن الكريم، ثم ظل يبين أن هذه الآيات لا تخرج عما ذكرناه، فالذنب إما أن يكون من باب ترك الأولى، أو أنه ذنب بالنسبة لمناصبهم الجليلة أو الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى، أو أنه اجتهاد أرادوا فيه إرضاء الله، فبان بعد ذلك أنه خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، ولكنه لا يقر إذا أخطأ في اجتهاده، بل يأتي الوحي مصححاً له هذا الأمر، فتكلم في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، ولوط، وإخوة يوسف، وموسى وأمه، ويونس، وداود، وسليمان، وهذا في كتاب الفصل، وهو فصل كبير في هذه المسألة، وهو من أوسع الأبواب في ذلك.
لكن سنقتصر على ما ذكره هو وغيره متعلقاً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار أننا نفسر هذه الآية: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، قالوا: فإن لم يكن له ذنب عليه الصلاة والسلام فماذا غفر له وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك؟! يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: قد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان لا بتعمد نسيان أو بقصد ما يظنونه خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم.
فهذان هما الوجهان اللذان غفرهما الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما حصل منه على سبيل النسيان، أو ما فعله يقصد فيه الخير فلا يوافق رضوان الله سبحانه وتعالى، من ذلك مثلاً قول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، ما هو الذي أخذوه؟ الفداء من الأسارى، قال ابن حزم: إنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية لا يفهم منها أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ارتكب هذا الذنب، وإنما الخطاب للمؤمنين: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ)) يعني أيها المسلمون ((عَذَابٌ عَظِيمٌ))، وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين، يبين ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، وقال تعالى في نفس هذه السورة النازلة في هذا المعنى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، وقال تعالى أيضاً قبل ذلك الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فهذا نص القرآن، وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المذكورة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، فيه أنه لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ)) يعني: حكم سبق في قضاء الله أنه لا يمكن أن يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، أي: حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية أولاً.
واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال كما في قوله تعالى: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ))، وأصح هذه الأقوال أنه ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا، فلما كان يوم بدر أسرع الناس إلى الغنائم، فأنزل الله عز وجل: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ)) أي: بتحليل الغنائم، ((لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغنائم لا تحل لأحد سود الرءوس غيركم، وكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها) رواه أبو داود الطيالسي والترمذي وقال: حسن صحيح.
فكان فيما مضى النبي إذا جاهد مع قومه يجمعون الغنائم في مكان واحد، ثم تنزل النار من السماء فتلتهم هذه الغنائم، ولم تكن تحل لهم الغنائم، ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ولأمته، فأنزل الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:68 - 69].
وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم.
وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معيناً، والعموم أصح؛ لقول الرسول السلام لـ عمر في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أخرجه مسلم، هل معنى ذلك أنهم يصبحون معصومين؟ لا، بل معناه: أن أهل بدر إذا عاشوا بعد نزول هذه الآية، فمن يرتكب منهم معصية فإنه يأخذ لإزالة هذه المعصية بالتوبة، كلما ارتكب خطأً أو ذنباً فإنه يوفق إلى التوبة.
وقيل: الكتاب السابق: هو ألا يعذب أحداً بذنب أتاه جاهلاً حتى يتقدم إليه.
وقالت فرقة: الكتاب السابق هو ما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.(123/8)
عدم دلالة أول سورة عبس على وقوع المعاصي من الأنبياء
أما قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] إلى آخره، فبعض الناس يستدل بهذا على وقوع المعصية من الأنبياء، حتى إن الله عاتب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال ابن حزم رحمه الله: فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فرأى أن جواب هذا الأعمى ابن أم مكتوم لا يفوت، فهو موجود معه، فممكن أن يؤجل الإجابة قليلاً حتى يستدرك بعد ذلك، بخلاف ما لو فاته دعوة هذا الرجل وإسلامه، فاشتغل عنه صلى الله عليه وسلم لِما خاف فوته من عظيم الخير مما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فلو واحد منا في هذا العصر فعل ذلك الفعل لحمد على ذلك حمداً عظيماً، لكن في هذه المسألة بالذات اجتهاد النبي عليه السلام ونظره لمصلحة الدعوة رغم ما فيه من المعاني العظيمة لم توافق رضا الله سبحانه وتعالى، يقول: وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فعاتبه الله عز وجل على ذلك، إذ كان الأولى عند الله أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه.
وكما سها صلى الله عليه وسلم من اثنتين ومن ثلاث، وقام من اثنتين، ولا سبيل إلى أنه يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم سها من اثنتين ومن ثلاث في الصلاة، فهذا يعني من نفس الباب.
قال القرطبي: قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب، ولكنه لم يكن عالماً بأن النبي عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره.
يحتمل أن ابن أم مكتوم لم يحس بذلك؛ لأنه لم يكن يرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلام هؤلاء، ولكن الله تبارك وتعالى عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وهو أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً نوع من المصلحة، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67].
وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال في الحديث: (إني لأصل الرجل -يعني: أعطيه- وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه)، كذلك أنزل الله سبحانه وتعالى في حق ابن أم مكتوم على نبيه صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، وتأملوا أيضاً غاية الرق والحب والتعظيم من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل له: عبست وتوليت، بصيغة الخطاب، لكن ترفقاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وشفقة عليه، قال تبارك وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] بلفظ الخبر عن الغائب تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: عبست وتوليت، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأليفاً له؛ لأن الاستمرار بخطابه بصيغة الغائب فيها إعراض، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، ثم التفت إليه تأليفاً له حتى لا يستوحش من صيغة الغائب، قال له: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يدريك: يعني: ما يعلمك لعله يزكى؟ يعني: بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين؛ بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه.
وقيل: الضمير في (لعل) للكافر يعني: إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن؟ هذا تفسير آخر، يعني: وما أعلمك أن هناك أملاً في هذا الكافر أنه سوف يتزكى إذا التفت إليه وانصرفت عن الأعمال.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه بلقب يكرهه الناس، مع أنه تعالى قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] والجواب ما نبه عليه بعض العلماء من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه.
فهذا هو السر الذي وصفه الله تعالى لأجله؛ لأنه متى ما كان هناك مندوحة وسعة في أن تعبر عن أخيك المسلم إذا أردت تعريفه بصفة لا ذم فيها تعين عليك ذلك، ولا يجوز أن تذكره بصفة يكرهها كالأعرج أو الأعمى أو كذا أو كذا من الصفات، إلا إذا لم تجد وسيلة لتعريفه إلا هذه الوسيلة، ويجب ألا تقصد بذلك التنقص أو السخرية أو الازدراء.
والله سبحانه وتعالى -مع أنه قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]- استعمل هنا لفظ الأعمى، فقال: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}، حتى يفهم قارئ القرآن أو مستمع القرآن أن هذا الرجل الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه لم يكن سيئ الأدب، بحيث إنه أقدم على قطع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يراه يخاطب غيره، وإنما كان معذوراً بسبب هذا العمى؛ لأنه لم يبصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب غيره، فمن ثم أقدم على المقاطعة في قطع كلامه وسؤاله عما سأل من أمر الدين.
وقال الفخر الرازي: إنه وإن كان أعمى لا يرى فإنه يسمع، وبسماعه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكباً معصية، فكيف يعاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه إنما عاتبه لعدم رفقه به، ومراعاة حال عماه، فعليه يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، يعني: أنه وصف بكونه (الأعمى)، والمقصود أنه في الحقيقة ليس أعمى؛ لأنه مبصر بقلبه بنور الإيمان، أما الأعمى الحقيقي فهو أنتم أيها الكفار كما قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فعليه: يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، فهذا كفيف البصر، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن، وجاء مع عماه يسعى طلباً للمزيد، وأنتم تغلقت قلوبكم، وعميت بصائركم، فلم تدركوا الحقيقة، ولم تبصروا نور الإيمان، كما في الآية الكريمة: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وسورة عبس فيها كثير من آداب طالب العلم كما تلاحظون قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] يعني: أن طالب العلم هو الذي سعى إلى الشيخ وإلى من يتعلم منه؛ لأن الآية بعدها: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى} [عبس:8 - 9] هذا من شدة حرصه على طلب العلم.
وقد حث الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام على الصبر مع المؤمنين فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] إلى آخر الآية، فمن ثم عاتبه لما أعرض عن الأعمى.
وقال عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] من رزقهم من شيء، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، ثم قال بعد ذلك: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] إلى آخر الآية.
وقال نوح عليه السلام لما قال له قومه: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، يعيرون نوحاً عليه السلام بأن أتباعه هم الضعفاء والفقراء، يعني: من ضمن الأشياء التي نفرتهم من الحق أن قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}، الفقراء والمساكين {بَادِيَ الرَّأْيِ} يعني: مجرد أن دعوتهم اتبعوك، وهذا ليس عيباً في الإنسان أبداً، بل الإنسان يمدح للانقياد إلى الحق بمجرد ظهوره، فإذا ظهر الحق فالإنسان لا عذر له في التأخير للانقياد له، بل يمدح الإنسان بانقياد له كما مدح سحرة فرعون، حيث آمنوا في لحظات! قال فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] فمدحوا في القرآن الكريم بسبب أنهم عندما ظهر لهم الحق انقادوا في الحال، ولم يؤخروا الانقياد، فيا عجباً ممن يتضح له حكم الشرع في كثير من القضايا فلا ينقاد! كالمرأة المتبرجة(123/9)
دحض ما نسبه المستشرقون إلى النبي من الكذب
توجد أشياء تنسب زوراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثل ما يذكره بعضهم في تفسير سورة النجم من أن الرسول عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- ألقى الشيطان على لسانه وهو يقرأ الآية: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فهذا بلا شك كذب موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد، وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54]، وقد ناقشنا بالتفصيل الشديد الكلام في هذا الآية، والرد على هذه الضلالة، وهناك رسالة للعلامة الألباني اسمها: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق.
وهذا ليس ذنباً فقط، بل هذا شرك، والرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أدنى من هذا، فكيف يظن أنه سجد وسجد المشركون معه؟! هذا شيء صعب، وقد صح أنه سجد وسجد المشركون معه في نهاية سورة النجم، لكن هذا الكلام لم يصح على الإطلاق.(123/10)
عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) على وقوع المعاصي من الأنبياء
بعض من جوز الصغائر على الأنبياء احتجوا بقول: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24]، قال العلماء: عاتب الله نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: (غداً أخبركم بجواب أسئلتكم) ولم يستثن في ذاك يعني لم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك عليه، وأرجف الكفار؛ فنزلت عليه هذه السورة مفرجة.
فكيف نرد على الذين يستدلون بهذه الآية على أن النبي عليه الصلاة والسلام ارتكب معصية؟ نرد عليهم بكلمة واحدة موجودة في الآية: ((نَسِيتَ))، وبهذا يعلم نسيانه، فلم يكن عمداً، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24]، فقد كفى الله سبحانه وتعالى الكلام في ذلك، لبيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسياناً فعوتب عليه السلام في ذلك.(123/11)
عدم دلالة قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) على وقوع المعاصي من الأنبياء
واحتجوا كذلك بقوله تعالى في حق النبي عليه السلام: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول، ومن أمثلة ذلك هذه الآية: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ))، (ما) مجملة يعني: الذي أبداه الله، فأبهم الله سبحانه وتعالى هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة رضي الله عنه؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)).
هذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم، أما ما تزخر به كتب الجهلة والمستشرقين من الطعن في النبي عليه الصلاة والسلام بكلام سخيف لا يصدر إلا من الكذابين، أنه ذهب -أستغفر الله- الرسول يزور زيد بن حارثة فتحرك الستر من على الباب فرأى بنت عمته زينب بنت جحش، فرآها جميلة، فقال: سبحان مقلب القلوب ثم عشقها، وأمر زيد بن حارثة أن يطلقها ليتزوجها! فهذا من كذبهم وافترائهم وعدوانهم على مقام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم يستدلون بقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى تكفل بأن يبدي هذا الشيء الذي أخفاه الرسول عليه السلام في نفسه، فهل فيما أبداه الله وفيما أوحاه الله للنبي عليه السلام أنه عشق بنت عمته؟ وكيف وهو لم يرها من قبل؟ وأنه أول ما رآها قال: سبحان مقلب القلوب إلى آخر هذا الكلام الظالم المعتدي المفترى؛ فلما تأملنا الذي أبداه الله رأينا التفاصيل التي نذكرها، ولم نجد فيه أنه عشقها وكتم ذلك في نفسه، فدل على كذب هذا؛ لأنه لو كان مما أخفاه في نفسه لكان الله سبحانه وتعالى قد أبداه.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: فإنه قد أبهم هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة، فزواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، فمن الذي تولى عقد زواج زينب بنت جحش؟ الله سبحانه وتعالى! ولذلك كانت زينب بنت جحش تفاخر سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سماوات؛ لأن نون الضمير هنا في (زوجناكها) نون العظمة.
فهذا هو اللائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعليه فاعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله وقوع محبة زينب في قلبه، ومحبته لها وهي تحت زيد، وأنها سمعته يقول: سبحان مقلب القلوب إلى آخر القصة؛ فهذا كله لا صحة له، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئاً مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة بن دعامة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره: إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان زينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، إلى أن قال: وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، يعني في قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]؛ لأنها كانت تترفع عليه، ويحصل منها خصومات، فكان يذهب يشتكي للرسول عليه الصلاة والسلام فيقول له: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، ولا شك أن هذا القول غير صحيح، وأنه غير لائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقل القرطبي أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زينب، وأن الله يزوجها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن علم هذا بالوحي قال لـ زيد: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ))، مع أنه كان يعلم بالوحي أنه سيطلقها، وأن الرسول هو الذي سوف يتزوجها لحكمة عظيمة كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فبعد أن علم هذا بالوحي قال لـ زيد: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) فالعتاب على كلمة: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، وأن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها.
ثم قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كـ الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم إلى أن قال: فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المجان لفظ العشق، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا أو مستخف بحرمته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها إلى آخر كلامه.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة هو ما ذكرنا أن القرآن دل عليه؛ وهو أن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأن زيداً يطلق زينب، وأن الله يزوجها إياه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)) فعاتبه الله على قوله: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) بعد علمه أنها ستصير زوجته صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أن يقولوا: يريد تزوج زوجة ابنه -بالتبني- في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.
يقول تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]، كلما كان يأتي يشتكي له يقول: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، مع أنه قد نزل عليه الوحي يخبره أنه سيطلقها، وأن الله سيجوز الرسول عليه الصلاة والسلام من زينب رضي الله تعالى عنها، فهذا هو الذي عاتبه الله تعالى عليه، أنه كان يقول: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) مع أنه يعلم أنه سيطلقها وأنه سيتزوجها عليها الصلاة والسلام.
((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) خشي مقالة الناس لو قال لهم ما أوحاه الله إليه من أنه سوف يطلقها وسوف يزوجها إياه، فالناس سيقولون: إنه يريد التزوج من زوجة ابنه في الوقت الذي هي مازالت في عصمة زيد، والدليل على هذا أمران: الأول: ما قدمنا أن الله عز وجل قال: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ))، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا هو زواجه إياها في قوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، ولم يبد جل وعلا شيئاً مما زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى.
الأمر الثاني: أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها: ((زَوَّجْنَاكَهَا))، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء، في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}، فقوله تعالى: ((لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)) تعليل صريح لتزويجه إياها فيما ذكرنا، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد كما زعموا، ويوضح هذا قوله تعالى: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا))؛ لأن الآية تدل على أن زيداً قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فمعناه أنه طلقها باختياره المحض، ولم يبق له عندها حاجة فطلقها، فإنما طلقها باختياره، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وهو أنه أخفى ذلك في نفسه.(123/12)
عدم دلالة قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) الآية على وقوع المعاصي من الأنبياء
كذلك من الآيات التي قد يظن منها صدور المعصية عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وأخبره الله بالعفو قبل الذنب؛ لئلا يطير قلبه فرقاً صلى الله عليه وسلم.
قال بعض العلماء: هذا افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك حصل كذا وكذا.
وقيل: المعنى: عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أنك أذنت لهم، ما هو هذا الإذن؟ قيل: هو الإذن لهم في الخروج معه، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة.
وقيل: المعنى: لم أذنت لهم في القعود لما اعتلوا بالأعذار؟(123/13)
عدم دلالة قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) على وقوع المعاصي من الأنبياء
كذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]، ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير) والمغافير: صمغ متغير الرائحة، يكون فيه حلاوة، واحدها مغفور، وطعمه مثل العسل، فتواطأت حفصة وعائشة أنه كلما أتى إليهما النبي عليه السلام ذكرتا له ذلك؛ لأنه أكل عند زينب عسلاً، كان يأتيها فيمكث ويشرب عندها عسلاً، تقول: (فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ))، إلى قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] أي: عائشة وحفصة {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]).
قال القرطبي: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) يعني: هو العسل المحرم بقوله: (لن أعود له)، ((تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ)) أي: تفعل ذلك طلباً لرضاهن: ((وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور مما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة، وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه عليه الصلاة والسلام لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.(123/14)
عدم دلالة قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) على وقوع المعاصي من الأنبياء
كذلك قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، ثبت في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج رأسه؛ فجعل يمسح الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟! فأنزل الله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128])، يعني: لا تقل: كيف يفلحون، {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.
قال القرطبي: قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم)، فيه استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به، فيستبعد كيف يفلح أمثال هؤلاء الذين عاملوا نبيهم هذه المعاملة، وقوله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ))، تقريب لما استبعده، وإقناع في إسلامهم، ولما أقنع في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وقد آمن منهم فعلاً كثير مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وها نحن نترضى عنهم إلى آخر الزمان، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر ورفع رأسه من الركوع: اللهم ربنا ولك الحمد في الركعة الأخيرة ثم قال: اللهم العن فلاناً وفلاناً،، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}).(123/15)
عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره) على وقوع المعاصي من الأنبياء
كذلك قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، هذه الآية نزلت في صلاته عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي، وقد صلى عليه بناءً على الظاهر من تلفظه بالإسلام وإظهاره له، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه، وإنما أراد الإحسان إلى ابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي، وفي نفس الوقت اكتفى بظاهر انتساب أبيه إلى الإسلام.(123/16)
الرد على من يطعن في النبي عليه الصلاة والسلام من الملاحدة والحذر من مكرهم
كذلك فيما يتعلق بحادثة السحر هل هي تنال من العصمة؟ موضوع السحر للنبي عليه الصلاة والسلام قطعاً لم يمس قضية تبليغ الرسالة من قريب ولا من بعيد على الإطلاق، وسنبين إن شاء الله تعالى أن هناك أشياء لا يعصم منها الأنبياء، فالأنبياء يمكن أن يشكوا من مرض، بل إن النبي عليه السلام كان يمرض مرضاً شديداً وقال: (إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم)، وقال (إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر).
فعلى أي الأحول: كما ترون هذه الآيات التي استدل بها بعض الذين ينفون عصمة الأنبياء أو ينسبون الذنوب حقيقة إلى الأنبياء، وكلها أجاب عنها العلماء بما ترون، فموضوع التجرؤ على مثل هذا فيه اعتداء على جناب النبي عليه السلام، وهو من هو عند الله سبحانه وتعالى، وعند ملائكته، وعند المؤمنين كما فصلنا ذلك، فعملية القدح في الأنبياء عن طريق القدح في صفاتهم هذا من قبل الكائدين لهذا الدين.
وبعض الناس يندفعون في الحكم على أشياء توصف بأنها إسلامية، كما حصل منذ أسبوعين في جريدة الشعب، ففيها عنوان لمكان معين في الإنترنت، هذا الموقع يمدح بأنه موقع إسلامي، وفيه كثير من الموضوعات يتكلم عن النبوة، وعن وعن موقع لا يوجد مثله، ويمدح الكاتب فيه مدحاً عظيماً جداً جداً بنحو هذا الكلام، واكتفى فقط بذكر العناوين: النبوات، القرآن، الملائكة، الشهادة، الصلاة، الزكاة، صلاة الجماعة، الأسرة، هذه عناوين كلها عن مكتبة إسلامية رائعة، وذكر أنها بشتى اللغات بما فيها الصينية والماليزية وغيرها، فما بالك باللغات الأكثر شيوعاً، مع أن صاحب هذا الموقع هو رشاد خليفة مسيلمة مدينة توكسان في ولاية أرزونا في أمريكا قرب المكسيك، وهذا الرجل رشاد خليفة مصري خريج كلية الزراعة من القاهرة، وقد ادعى النبوة! وقد سلك مسلك التدرج في هذا الأمر، ففي أول الأمر ظهر على المسلمين بحكاية معجزة الرقم: (19)، وكالعادة نحن نغفل عن أصول هذه الأشياء، فمثلاً يوم (21) مارس هذه عيد من أعياد البهائية، فيعملون فيه عيد الأم ليشاركوا احتفال البهائيين بعيد مقدس عندهم! فرقم (19) الذي دوى في الدنيا كلها، هو قام بنوع من الدجل، فقد شغل الكمبيوتر ليعطيه بيانات، ويعمل عمليات معينة، فلو أعطيت مثلاً رقم (13) فسيخرج لك علاقات مبنية على رقم (13)، ورقم (19) مقدس جداً عند البهائيين، ودينهم يدور عليه، فالشاهد أن هذا الرجل يهدم دعوة الإسلام هدماً لا يستطيعه اليهود ولا النصارى لو اجتمعوا، وعدوانه على مقام النبي عليه الصلاة والسلام عدوان صارخ، فيقول: إنه اكتشف كتاباً مذهلاً ومدهشاً والأمة بقيت غافلة عنه من ساعة وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، أمر خطير جداً! المسلمون أجمعوا على هذا الأمر منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهو اكتشف حقيقة مذهلة على حد تعبيره، وهي: أن السنة النبوية بكل أقسامها الفعلية والقولية والتقريرية هي من عمل الشيطان، ويصف جميع علماء الحديث بالمجرمين، ويستدل بقوله تبارك وتعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، يصف بهذا المحدثين! ويزعم أن الإمام البخاري هو المقصود بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31].
إلحاد ما بعده إلحاد! ومع ذلك نجد أننا نتساهل في تقبل مثل هذه الأشياء التي ينبغي الحذر الشديد منها، فالمصائب كثيرة، وأنا كنت في مدينة توكسان مرة، ثم مريت على مسجد هذا الملحد، وكان هناك إخوة يريدونني أن أدخل هذا المكان الملعون الذي هو أشد خطراً من مسجد الضرار.
الشاهد أنه لا ينبغي أن نتعامل بسذاجة وبساطة في تزكية أمثال هذه الأشياء دون أن نأخذ منها الحذر الكافي.
فعلى الإخوة التنبيه والتحذير من الانخداع بمثل هذه الأشياء، ولابد أن نرجع إلى العلماء، ونفحص هذه الأشياء قبل أن نزكيها أو أن ندل الناس عليها.
ومن العجائب التي سمعتها من الإخوة الذين كانوا يعيشون معه في نفس المدينة أن عنده صلاة الجماعة تكون بين الرجال والنساء جميعاً، ومع هذا نجد من يجازف ويتهور ويقول: هو موقع إسلامي ليس له مثيل، وهو متميز! فهذا هو رشاد خليفة مسيلمة الكذاب في مدينة توكسان، ودجال هذا العصر، ورغم أن الله سبحانه وتعالى أهلكه منذ سنوات، لكن ما زال هناك من يصفون خلفه، ويبثون دعوته بكل اللغات في شتى أنحاء الأرض! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفي المسلمين شرهم أجمعين.(123/17)
تابع تفسير سورة الفتح [2](124/1)
تفسير قوله تعالى: (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)
قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2].
وصف الله سبحانه وتعالى نعمته على نبيه التي أسبغها عليه صلى الله عليه وسلم بالتمام، إيذاناً منه بدوام هذه النعمة واتصالها، فقوله: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) يدل على أن نعمة الله سبحانه وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم هي نعمة دائمة متصلة لا يمكن أن يسلبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه الله إياها، بل يتمها له صلى الله عليه وسلم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار.
وما أحسن اقتران التمام بالنعمة، وإضافة النعم إليه، فقال سبحانه: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ))، في حين أنه سبحانه وتعالى قال في الذنب: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، فالنعمة وصفها بالتمام، وأضاف نعمته إلى نفسه عز وجل، أما الذنب فأضافه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينسب إليه الشر، فليس في أفعاله شر على الإطلاق، وإنما أفعاله عز وجل خير كلها، وهذا المعنى أوضحناه في مناسبات عدة، ومنها هذا الموضع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العارف يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
يعني: هذان ركنا العبودية، مشاهدة منة الله سبحانه وتعالى على العبد، ومطالعة عيب النفس والعمل، فإن مشاهدة منة الله سبحانه وتعالى على العبد توجب له عز وجل المحبة والحمد، والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار والتوبة في كل وقت، وأنه لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله سبحانه وتعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباًً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، فالعباد لم يدخلوا على الله تعالى إلا من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وملكته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه عز وجل، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته، ولا طريق إلى الله تبارك وتعالى أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوة، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام، هذا معنى العبودية، فلابد في العبودية من هذين الركنين، حب كامل وذل تام، فإذا وجد الحب بدون ذل وطاعة وانقياد فليست هذه العبودية، وإذا وجد انقياد بدون الحب فهذه أيضاً ليست عبودية، فربما انقاد الإنسان إلى من هو أعلى منه رتبة كالجندي مثلاً مع قائده وهو لا يحبه، لكن في الظاهر هناك انقياد، لكن لما لم يقترن به الحب والحمد له لا تسمى هذه عبودية.
أما العبودية الصحيحة فلها جناحان هما: غاية الحب مع غاية الذل، غاية الحب الذي ينشأ عن أمرين: الأول: التفكر في نعم الله سبحانه وتعالى على هذا العبد وإحسانه إليه؛ لأن ذلك لا شك مما يوجب المحبة، فإن الفطرة توجب على القلب حب من أحسن إلى الإنسان.
الثاني: التفكر في صفات الله سبحانه وتعالى، صفات الجلال والجمال والكمال التي توجب له المدح والحمد والثناء الحسن، وإن لم يصل منه إلى العبد شيء، فإنك لا شك إذا سمعت -ولله المثل الأعلى- عن أوصاف شخص كريم وسخي وصادق ووفي وكذا وكذا من الصفات الجميلة فإنك تحبه، حتى ولو لم يكن أحسن إليك أو لم تتعد هذه النعم إليك، لكنك تجد قلبك منجذباً إليه محباً له.
فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- أنعم على عباده غاية الإنعام والإحسان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ثم إنه سبحانه وتعالى متصف بأعظم وأجمل وأجل صفات الكمال والجمال والجلال، فهذان أمران يوجبان محبة الله سبحانه وتعالى والحمد له.
الجناح الثاني للعبودية: الذل التام، فالعبودية هي غاية الحب وغاية الذل، فالحب ينشأ عن التفكر في نعم الله، والتفكر في صفات الله التي تستوجب له المدح والحب، والذل التام ينشأ عن معرفة العبد نفسه وما فيها من الآفات والتقصير.
فمنشأ الحب الكامل والذل التام عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة كما في قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6]، ومطالعة عيب النفس والعمل المأخوذ من قوله: ((مِنْ ذَنْبِكَ))، وهي التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله سبحانه وتعالى على هذين الأصلين لم يظفر به عدوه إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله سبحانه وتعالى ويجبره ويتداركه برحمته، وتأمل إتمام النعمة، بحرف (على) في قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6]، فحرف (على) يؤذن بالاستعلاء والاكتمال والإحاطة.
قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: ((وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) لإظهاره إياك على عدوك، ورفعه ذكرك في الدنيا، وغفرانه ذنوبك في الآخرة.
وقال القرطبي: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6] قال ابن عباس: في الجنة، وقيل: بالنبوة والحكمة، وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر، وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر.
وقال الشوكاني: لإظهار دينك على الدين كله، وقيل: بالجنة، وقيل: بالنبوة والحكمة، وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر، والأولى أن يكون المعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام.
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى نعمته على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الضحى حين قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحدث أمته بما أنعم عليه ليعرفوه ويعتقدوه، ويزدادوا حباً له وتعظيماً، فالتحدث بالنعمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم واجب، وفي حق غيره من أفراد الأمة جائز إذا أمن العجب والرياء، فأوجب الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته بعظم مقامه عند الله، وتمام نعمة الله عليه ويفصل لهم ذلك، لماذا؟ لما سيأتي في نفس هذه السورة: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] يعني: كي تعرفوا قدر هذا النبي العظيم عند الله سبحانه وتعالى؛ فتعزروه وتوقروه وتؤدوا حقه عليكم.(124/2)
مظاهر نعمة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم
من مظاهر نعمة الله على نبيه ما جاء في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وقد روي في السيرة ما يشهد لهذا المعنى، ويثبت دوام موالاة الله سبحانه وتعالى لحبيبه، وعنايته به صلى الله عليه وسلم، وحفظه له، فقد كان يكلؤه عمه، وقال له في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فسخر له عمه مع عدم موافقته له على الإيمان والإسلام، لكن بما في قلبه من المحبة الطبيعية وليست المحبة الشرعية التي اقتضت مناصرته والدفاع عنه.
ومن ذلك أيضاً ما نصره به من أصحابه خاصة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كما فعل الهجرة وهما في طريقهما، حيث كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه تارة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يلبث أن يمشي خلفه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أذكر الرصد -العدو الذي يأتي من الأمام- فأكون أمامك، وأذكر الطلب -العدو حين يأتي من خلف- فأكون وراءك).
ومن هذه النعم قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن عصمة الله لرسوله حفظه له من أهل مكة، وصناديدها وحسادها، ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغض، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، لما يخلقه الله سبحانه وتعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً كبيراً مطاعاً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبين كفار قريش -بين أبي طالب وبين كفار قريش- قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذىً يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم (المدينة) فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، فلما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء، ولما سم اليهود ذراع تلك الشاه بخيبر أعلمه الله به وحماه منه، ولهذا أسباب كثيرة جداً يطول ذكرها.(124/3)
النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الضحى
من هذا قول الله سبحانه وتعالى مشيراً إلى تمام النعمة على نبيه عليه الصلاة والسلام ودوامها واتصالها، وأنه لا يسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4]، نعمة الله عليه في الآخرة أفضل وأعظم وخير من نعمته عليه في الدنيا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:5 - 6] يعني: منذ ولادته ونشأته تعهده الله سبحانه وتعالى من صغره فصانه صلى الله عليه وسلم عن دنس الشرك، وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه.
أما قوله تبارك وتعالى: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) قال بعض العلماء: يعطيه في الدنيا من إتمام الدين، وإعلاء كلمة الله، والنصر على الأعداء، والجمهور على أنه في الآخرة: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ)) يعني: في الآخرة، وفصلته مواضع أخر منها هذا العطاء وهذه النعمة التي سوف يعطيه الله إياها في الآخرة، وهو الذي وعده الله بقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وجاءت السنة ببيان أن هذا المقام المحمود -وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون- هو الشفاعة العظمى حين يتخلى ويعتزل كل نبي، ويقول كل نبي: نفسي نفسي! حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها! أنا لها!)، وقد قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
ومن النعم التي سوف يعطيه الله إياها الحوض المورود، وما خصت به أمته من مجيئهم غراً محجلين يردون عليه الحوض.
ومنها الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما جاء في الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو).
ومنها الشفاعة في دخول الجنة، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، كما جاء في الحديث: (آتي باب الجنة فأستفتح؛ فيقال لي: من؟ فأقول: محمد، فيقول خازن الجنة: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الحديث الذي فيه: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ما دعا إبراهيم لقومه حين قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقال المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: تذكر إحسان هؤلاء الأنبياء إلى قومهم، فبكى متأثراً، كأنه يقول لله عز وجل: فماذا لي؟ وماذا لأمتي؟ (فبكى ثم قال الله سبحانه وتعالى: ما يبكيك يا محمد؟ -عن طريق جبريل عليه السلام- فقال: يا رب! أمتي أمتي! أمتي أمتي! فأمر الله سبحانه وتعالى جبريل أن يقول له: يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فربط بعض المفسرين بين هذا الحديث الصحيح وبين قوله هنا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فقال: أي: سنظل نعطيك ونحسن إلى أمتك إلى أن ترضى، ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) ولذلك بالغ بعض الناس في تأويل هذه الآية حتى خرجوا عن حد الاعتدال فقال شاعر منهم: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، ومما يرضي ربه عز وجل ظهور آثار صفات رحمته وصفات عدله أيضاً، فكما أن الله يحب أن يغفر الذنوب للعاصين، كذلك من صفات الجلال والكمال والجبروت أن يعذب من تمرد وعصاه فقول الشاعر هنا: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب وقول الآخر: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء فهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الأمر لو كان بمجرد التعطف لما ذبح عصفور، ولا تألم طفل، وإنما هي سنن الله الماضية التي تظهر وتجلي آثار صفاته وأسمائه جل وعز.
من هذه النعم شهادته على الرسل وشهادة أمته على الأمم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على الرسل أنهم قد أبلغوا رسالة ربهم، كذلك أمته تشهد على الأمم كما قال الله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]، أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى من يشهد له، وأما قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فقيل: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع يعني: قبل نزول الوحي عليك، وفيه أسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما بالتلقين عن طريق الوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك، فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب عن العلم، ويدل لهذا قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ} [يوسف:3] أي: من قبل القرآن: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86].
وقيل: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) وجد رهطك ضالين فهداهم بك، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] يعني: واسأل أهل القرية.
وقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] أي: فقيراً فأغناك بمال عمك، ثم ببذل خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم بمواساة الأنصار رضي الله عنهم، ثم جاءت غنائم حنين فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في أصوع من شعير.
وكان غناه قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأغناه الله سبحانه وتعالى بما لا غنى بعده، أغناه أعظم غنى على الإطلاق كما أشار بذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] الفاتحة، {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، وهذه إشارة إلى أنه قد أغناه أعظم وأشرف وأكبر غنى في الوجود، وذلك بالقرآن الكريم، هذا هو الغنى العالي الذي لا يصل إلى رتبته غنى، ثم قال: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، إشارة إلى الاستغناء بالقرآن عن النظر إلى ما متع الآخرون من متاع الدنيا؛ لأن القرآن يغني صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، وهذه الحديث له تفسيرات عدة، والذي يناسب المقام هنا أنه من لم يستغن بالقرآن عن النظر إلى الدنيا، والسعي الحثيث وراء الدنيا؛ فليس منا، هذا معنى: (من لم يتغن بالقرآن)، وشاهد ذلك من الشعر قول الشاعر: كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا يعني: استغناء.
وقال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] قيل: المراد بها المذكورات، والتحدث بها شكرها عملياً من إيواء اليتيم كما آواه الله قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، فهذا هو الشكر العملي لهذه النعم، فكما أنعم الله عليك تنعم أنت على غيرك تأسياً بفعل الله معك، وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية أو حديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، وأعظم النعم وأولاها وأظهرها نعمة الوحي، ولذلك سورة النحل تسمى سورة النعم، وقد ابتدأت بأعظم نعمة وهي نعمة الوحي، كما قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ففي هذه الآية قال: (نعمتي)، وفي هذه الآية في سورة الضحى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الضحى:11]، ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة ناقة في حجة الوداع لما أنزل الله عليه هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فنحر في حجة الوداع لما نزلت هذه الآية مائة ناقة شكراً لله على إتمام النعمة وإكمال الدين.(124/4)
النعم التي امتن الله بها على نبيه في سورة الشرح
عدد الله على نبيه نعمه العظمى في سورة الشرح، فقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] قيل: هو شق صدره الشريف وغسله وملئه حكمة وإيماناً، وقيل: هو توسيعه للمعرفة والإيمان، وجعل قلبه وعاء للحكمة، وفي البخاري عن ابن عباس قال: شرح الله صدره للإسلام، وقال ابن كثير في تفسير قوله: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)): نورناه وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً، كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22]، وقال جل وعلا: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
ثم قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] اختلف في تفسير هذه الآية، فمن قائل: إنه رفع حسي، أي: إن ذكرك واسمك الشريف يذكر في الأماكن العالية على المنابر في الخطب، وفي الأذان، وفي الإقامة، وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة، واستدلوا لذلك بالواقع فعلاً حيث إن الله سبحانه وتعالى رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رفعاً حسياً، واستشهدوا على ذلك بقول حسان رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ومن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم ذكر صفته واسمه في كتب الأنبياء قبله، حتى عرف للأمم الماضية قبل مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك جعله تعالى الوحي ذكراً له، قال الله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44]، فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم إنما هو عن طريق الوحي، فقوله: ((وَإِنَّهُ)) أي: القرآن ((لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) يعني: رفعة ومجد، وعلو شأن لك ولقومك إن اتبعوا هذا القرآن، فبين الله سبحانه وتعالى أن الله يرفع ذكر النبي عليه السلام بالقرآن، لذا تأملوا الآية: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، ((وَإِنَّهُ)) أي: هذا الوحي الذي هو القرآن ((لَذِكْرٌ لَكَ)) لرفعة شأن لك ((وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ))، فهذا بيان أن الله رفع ذكره صلى الله عليه وسلم بالوحي سواء كان الوحي نصوصاً توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، ففي الوحي توجد أنواع من المخاطبة للرسول صلى الله عليه وسلم كلها تدل على رفع ذكره وشأنه عند الله بالوحي؛ كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، ولم يخاطبه باسمه قط، فلا توجد آية واحدة في القرآن فيها خطاب من الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام باسمه، وإنما يخاطبه بأوصافه، بخلاف الخطاب مع جميع الأنبياء قبله كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.
فأما في مقام إثبات الرسالة والشهادة له بأنه رسول فقد صرح باسمه بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] يعني: الله هو الذي يخبر بصدقه في هذه الرسالة، أو رفع ذكره في الوحي عن طريق الوحي، والوحي يعم القرآن والسنة، فكلاهما وحي، ورفع ذكره في فروع الشريعة -كما ذكرنا- في الأذان وفي الإقامة، وفي التشهد، وفي الخطب، وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، والكافر إذا أتى بكل شعب الإيمان، ولكنه لم يشهد أن محمداً رسول الله، فهو باق على كفره، وهو من أهل جهنم الخالدين فيها؛ لأنه لم يشهد له صلى الله عليه وسلم بالرسالة.(124/5)
النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الكوثر
قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] قيل: الكوثر علم اسم على شيء معين، وقيل: الكوثر صفة على وزن فوعل على العلمية، قالوا: إن الكوثر علم على نهر في الجنة، وعلى الوصفية فقالوا: هو الخير الكثير، ومما استدل به على العلمية وأن الكوثر اسم أو علم على نهر في الجنة ما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء قال: أتيت نهراً حافتاه قباب لؤلؤ مجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر) يعني: نهر الكوثر الذي أعطاه الله إياه.
وبسنده أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: (سئلت عن قوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) فقالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليهما در مجوف، آنيته كعدد النجوم).
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل) رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حسن صحيح.
وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، ولما سئل سعيد بن جبير أن الناس يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
إذاً: الكوثر هو الخير الكثير أو الحوض، والحوض والنهر هو من جملة الكوثر الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.(124/6)
وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
من النعم التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما أوجده الله عز وجل لنبينا على القلب واللسان والجوارح من حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوته، فليس حق النبي علينا يقتصر على الاعتراف بنبوته، وإنما هناك حقوق زائدة على هذا، كما أوجب الله سبحانه وتعالى على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وتعالى، وحرم الله سبحانه وتعالى لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أشياء مما يباح أن تفعل مع غيره، غير مجرد التكذيب بنبوته، يعني: يحرم تكذيب نبوته، وإلى جانب ذلك حرمت أشياء زائدة على مجرد التكذيب على أمته، مع أن هذه الأشياء تباح أن تفعل مع غيره، فمن ذلك أنه أمر بالصلاة عليه والتسليم صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر أن الله وملائكته يصلون عليه صلى الله عليه وسلم، وجعل الصلاة والسلام عليه قربة وعبادة، وهذا أمر لم ينله غيره من الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وجمعت صيغة الصلاة والسلام عليه جميع الخيرات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً حضاً للناس على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ذكرت عنده فلم يصل علي خطئ طريق الجنة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)، ولا شك أن في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] التشريف الذي شرف الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية، وهو أجمع وأتم من تشريف آدم عليه السلام بسجود الملائكة له؛ لأن تشريف آدم بسجود الملائكة تشريف بفعل الملائكة، أما هنا فالتشريف هو بفعل الله سبحانه وتعالى، فتشريف يصدر عن الله عز وجل أبلغ من تشريف تختص به الملائكة من غير أن يكون الله تعالى معهم في هذا التشريف، فهنا جمع له تشريفاً تقوم به الملائكة كما حصل لآدم، لكن زاد عليه أن الله مع الملائكة، فالفارق كبير جداً كالفارق بين الخالق والمخلوق، قال هنا: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)) فبدأ بنفسه عز وجل، ثم ثنى بملائكته، وإذا استحضرنا أن الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى لعرفنا مدى تعظيم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام والصلاة عليه على لسان الملائكة! ثم إن هذا مستمر، أما السجود فكان حادثة مؤقتة ثم انقضت، والصيغة هنا أتت بصيغة المضارعة؛ لتدل على الاستمرار إلى هذه اللحظة، فالملائكة مازالت تصلي -إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى- على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الله؛ لأن الآية: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ))، ولم يقل: صلوا على النبي، لا، وإنما: ((يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)) لتفيد الاستمرار في هذا التشريف.(124/7)
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته(124/8)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم
من حقوق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كل مسلم ومؤمن أن يعتقد أن الرسول عليه السلام أولى بروحه وبنفسه وبحياته منه، بمعنى: أنك تقدم كل شيء أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تكون جازماً قاطعاً بأنك لن تتردد في أن تبذل له كل غال، فلو قدر أنه يوجد ماء لا يكفي إلا لك أو للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب عليك أن تقدمه له فيشربه هو ولو مت أنت، فتفديه بنفسك بناءً على اعتقاد حتمي أوجبه الله علينا، وهو أن نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بأرواحنا وأنفسنا منا، وهذا الأمر طبقه الصحابة في مواقف كثيرة وعظيمة، قال تعالى: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]، وقال تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] يعني: أولى بحياتك وبروحك منك أنت بهذه النفس، فهذا هو حقه عند الله سبحانه وتعالى كأي تعظيم وأي تشريف.
ومن حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحب وأن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال كما قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]، فرغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب النبي صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام، ولذلك قال حسان رضي الله تعالى عنه: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء والنماذج كثيرة جداً في الصحابة رضي الله تعالى عنهم من التطبيق العملي لهذه الآية: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ))، وخاصة في الغزوات كغزوة أحد وغيرها، فقد كانوا يفدونه صلى الله عليه وسلم بالغالي والنفيس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(124/9)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده
ومن حقه أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وقد جاء بيان ذلك في الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.
فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك.
قال: فأنت والله الآن يا رسول الله! أحب إلي من نفسي.
قال: الآن يا عمر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشد أمتي لي حباً قوماً يأتون من بعدي؛ يود أحدهم لو رآني بنفسه وماله).
فالمسلمون الذين يأتون من بعد النبي عليه السلام، ولم يروه، يتمنى كل مؤمن منهم أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه حتى ولو بذل في سبيل ذلك ماله ونفسه وأولاده، يضحي بأهله وماله في سبيل أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(124/10)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم تعزيره وتوقيره
كذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أمر في هذا القرآن بتعزيره وتوقيره، فقال عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] والضمير -على الراجح- يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والتعزير: اسم جامع لكل ما فيه نصره وتأييده، ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.(124/11)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم مناداته باسمه
ومن ذلك أنه خصه في المخاطبة بما يليق به، فقال عز وجل: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] فنهى الله المسلمين أن يقول أحدهم: يا محمد! أو يا أحمد! أو يا أبا القاسم! ولكن يقولون: يا رسول الله يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى قد أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء قبله؟! فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:28]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب:45]، {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] خاطبه باسمه، وقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، وقال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، وقال: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76]، وقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، وقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص:26]، وقال: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] فدعا الأنبياء بأسمائهم في هذه الآيات.(124/12)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم رفع الصوت والتقدم بين يديه
كذلك من حقوقه أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، لا يبدأ أحد بالكلام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأذن له، فاعتبر التقدم بين يديه تقدماً بين يدي الله ورسوله.
ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم رفع الصوت فوق صوته، وحرم أن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب لحبوط العمل؛ فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر؛ لأن العمل لا يحبط إلا بالكفر قال تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
كذلك رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي؛ كما قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وكما قال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، ثم قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: الوحي، فهذا تفضيل لكون الوحي ذكراً ورفعة لشأن النبي صلى الله عليه وسلم.(124/13)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم إيذائه
من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح لهم أن يعامل به بعضهم بعضاً؛ تمييزاً له مثل نكاح أزواجه من بعده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].
وأوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه، وجعلهن أمهاتهم في التحريم والاحترام، فقال عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].
ومن كرامته المتعلقة بالقول أن الله سبحانه وتعالى فرق بين أذاه وأذى المؤمنين، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، فجعل أذاه أعظم من أذية المؤمنين، وهي بلا شك دون ذلك.(124/14)
من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أوجب ذكره في الأذان والتشهد والخطبة
ومن ذلك أن الله رفع له ذكره، فلا يذكر الله سبحانه وتعالى حتى يذكر معه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله.
وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، ولو أن رجلاً أتى بكل شعب الإيمان، وقال: لا إله إلا الله، لكنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ ما نفعه ذلك، ولبقي على الكفر.
فأي تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لذكره فوق هذا التعظيم؟! وقرنه باسمه أيضاً في الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع.
ومن نعمه تعالى عليه مدحه له وثناؤه عليه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45].
ومن لطفه تعالى به قوله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] علم الله سبحانه وتعالى أنه لو بدأ بالمعاتبة لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم؛ من الهيبة أن يكون قد أغضب الله، فطمأنه أولاً ثم عاتبه، طمأنه أولاً: لا تجزع من هذا العتاب فقد غفرت لك، فقال الله تعالى: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ)) ثم قال: ((لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ))، فقدم العفو على هذا العتاب، وهذا في غاية الإكرام والبر، فقد عاتب الله سبحانه وتعالى الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد الأفعال، وعاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، فقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وهذا كله من إتمام نعمته عليه، ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)).
وقال تبارك وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] وهذا غاية البر والحب والإكرام للنبي عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) يعني: نعلم أنك في غاية الحزن بسبب أنهم يصفونك بالكذب، وأنك تدعي الوحي، وتدعي أنك رسول، وهذا الوصف شاق على الصادق الأمين مثلك، ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) يشق عليك أن توصف بالكذب -خاصة الكذب على الله سبحانه وتعالى الذي هو أكبر الضلال- فقال: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)) الله سبحانه وتعالى يقول له: أنا خالقهم ومطلع على ما في قلوبهم، فهم يزعمون أنك تكذب بألسنتهم، أما في قلوبهم فهم يعتقدون صدقك، (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الحقيقة، وإنما هم يكذبون بإظهار اتهامك بالكذب، وهذا الإخبار يهون الله سبحانه وتعالى به على نبيه صلى الله عليه وسلم العناء الذي كان يلقاه، بسبب أن المشركين يصفونه بالكذب على الله بادعاء الوحي وادعاء النبوة، فطمأنه الله حتى يخفف من جزعه حين يوصف بالكذب.
قال تعالى: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) فاطمئن فهم غير صادقين في هذا، ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) فهذا فيه غاية التسلية في أن يرفع الله حزنه باتهامهم له بالكذب، وقد كانوا يسمونه الصادق الأمين، فرفع ذلك الحزن بإخباره أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، وأنهم معترفون بصدقه، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين، فقال: ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)).
إذاً: الجحد: هو الإنكار بعد العلم، ثم واساه وعزاه وآنسه فقال له: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34].(124/15)
تشريف الله لمقام النبي صلى الله عليه وسلم(124/16)
إقسام الله بمدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم
من عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تبارك وتعالى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بمدة حياته، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنها آيات من آياته عز وجل، أما نحن فيحرم علينا القسم بغير الله، وفي الحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فخطأ أن يقول شخص لآخر: وحياتك اعمل لي كذا، وحياتك الأمر الفلاني كذا، لكن الله سبحانه وتعالى أقسم بحياة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] (لعمرك) هي بمعنى قولنا: وحياتك، فالله سبحانه وتعالى يقول له: أنا أحلف بحياتك يا محمد! وبعمرك الشريف، وهذا لم يحصل لأحد قط، فالله سبحانه وتعالى أقسم بحياته فقال: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)) أي: وبقائك أو وعيشك أو وحياتك، وهذه نهاية التعظيم والبر والتكريم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما خلق الله تعالى، وما ذرأ، وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره.(124/17)
إقسام الله بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم
وأقسم الله سبحانه وتعالى بكلام نبيه عليه السلام وقوله في سورة الزخرف فقال تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88] (وَقِيلِهِ) أي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم بإضمار حرف القسم، فيكون قوله: ((يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)) جواب القسم، فهو أقسم بقيله: يا رب أو وقيله: يا رب قسمي، {إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:88 - 89].(124/18)
إقسام الله على تزكية نفس نبيه صلى الله عليه وسلم
وأقسم سبحانه وتعالى على تزكية نفسه صلى الله عليه وسلم وعصمتها من الآثام لمقامه الشريف، فالله سبحانه وتعالى زكى فؤاده ولسانه وجوارحه صلى الله عليه وسلم.
فزكى قلبه بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وزكى لسانه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وزكى بصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] أقسم جل وعلا بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بما غمصته الكفرة به.
وآنسه بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، وهذه نهاية المبرة في الخطاب.
ثم أعلمه بما له عنده من نعيم دائم، وثواب غير منقطع لا يمن به عليه فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3].
ثم أثنى عليه صلوات الله وسلامه عليه بما منحه من هبات وهداه إليه، وأكد ذلك تسليماً للتمجيد بحرفي التأكيد فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وآله وسلم، و (إنك) توكيد بـ (إن)، وتوكيد باللام، فهو لعلى خلق عظيم، وهذا المديح لم يحصل لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: إن خلقك عظيم، وإنما قال: ((وَإِنَّكَ لَعَلى))، فهي تدل على نسبة التمكن والرسوخ في حسن وعظمة هذا الخلق.(124/19)
شفقة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم
ومن شفقته عليه صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، ويقول جل وعلا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
فالله سبحانه وتعالى يقول له هنا: هون عليك! هل أنت مهلك نفسك حسرة وحزناً على هؤلاء الكافرين الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله؟! فالله سبحانه وتعالى يواسيه ويعزيه بأن الهداية هي هداية الله عز وجل، ويقول له: لا تهلك نفسك، أنا ما أنزلت عليك القرآن لتشقى وتتعذب هذا العذاب؛ حسرة على هؤلاء المعرضين عن الحق، وشفقة وخوفاً عليهم من عذاب جهنم، فكان عليه السلام يتألم أشد الألم لإعراض قومه عنه؛ خوفاً عليهم أن يعذبوا ويهلكوا، وهذا صرح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، فأخذ يذبهن عن النار، يقول صلى الله عليه وسلم: وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنت تفلتون من يدي، تقحمون فيها)، وفي بعض الروايات: (فتغلبوني تتقحمون فيها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام تصور كيف هو رحمة للعالمين! وكيف هو رحمة لجميع أمته عليه الصلاة والسلام! فيقول: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً) في ظلمة، فمعلوم أن الفراش لعدم وجود عقل له ينجذب إلى هذا الضوء ولا يدرك أن في انجذابه للضوء إحراقه وهلاكه، وجعل هذا الرجل الذي أضاء هذه النيران يذب الفراش: يطرده حتى لا يحترق، فالفراش يهرب منه ويصر على أن يلقي بنفسه في النار، فيكون هذا نفس مثلي ومثلكم، يقول: أنا واقف على النار وأنتم تنجذبون إليها بالشهوات والشبهات، وأنا أذبكم وأدفعكم وأطردكم حتى لا تهلكوا، وهذا يقصد به أمة الدعوة كلها مسلمين وكفاراً جميعاً، فيقول: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، يحاول أن يمسك هذا من ذيله، وهذا من كمه، وهذا من وسطه، وهم أناس كثير وهو واقف يريد أن يذب الذي يريد أن يلقي بنفسه في النار، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي) أي: تغلبوني وتدفعوني، وتلقون بأنفسكم في النار إصراراً على الهلاك، وهذا هو حال النبي عليه السلام مع الكفار والمعرضين عن هديه صلى الله عليه وآله وسلم، فكان شديد الحسرة على عدم إيمانهم، وشديد الحزن عليهم؛ لأنهم سوف يكونون من أهل النار، ولذلك لما دخل على ذلك الشاب اليهودي الذي كان يحتضر، أمر النبي عليه السلام هذا الشاب اليهودي أن يشهد شهادة الحق، ويدخل في الإسلام، فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم -عليه الصلاة والسلام- ففعل ذلك الشاب ودخل في الإسلام، ثم مات؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مبتهجاً وفرحاً مسروراً وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) فهذا هو شعور النبي عليه السلام بأمته، رحمة لأمته عليه والسلام، فكان يحزن حزناً شديداً، ويتحسر ويتألم لإعراض الكفار عنه لما يعلمه من العذاب الذي سوف يصيبهم، فقال الله سبحانه وتعالى مخففاً عليه: ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) هل نحن أنزلنا عليك القرآن كي تتعذب وتتألم وتهلك نفسك من الخوف على الكافرين والحسرة عليهم؟ لا، {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:2 - 3] تذكرة لمن يخشى ويتقي الله سبحانه وتعالى.
وقال تبارك وتعالى: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)) هل ستموَّت نفسك أم ماذا؟ هذا المعنى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) أي: هل ستهلك نفسك (عَلَى آثَارِهِمْ)؟ تخيلوا أن شخصاً يودع أحبابه الراكبين في القطار، وهو متحسر لفراق هؤلاء الأحباب، وحزين عليهم، فحتى والقطار يمشي، فهو يجري حتى يعجز عن القطار ويسبقه، وهذا نفس التصوير تقريباً في هذه الآية الكريمة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) يمشون وهم معرضون عنه، وهو يتبعهم بأقصى استطاعته (عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فهل ستهلك نفسك أسفاً وحسرة عليهم وهم مصرون على الكفر؟ فبلا شك أن هذا غاية المحبة والإكرام من الله سبحانه وتعالى لنبيه وحبيبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(124/20)
أخذ الله الميثاق على الأنبياء قبله أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم
من تشريفه له على الأنبياء قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، يقول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه، والنبي نفسه يأخذ عهده على قومه: لئن بعث محمد وأنتم أحياء لابد أن تؤمنوا به وتنصروه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، لم تكن له أي رخصة في الاستقلال، بل لابد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه ينزل تابعاً لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يستأنف شرعاً جديداً.
وفي تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] موسى عليه السلام {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] قيل: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذلك أيضاً: قوله تبارك وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، لا شك أن هذه الآية تفيد فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الرسل الذين هم أولو العزم وأصحاب الصلاح، من وجهين: إحداهما: أن الله سبحانه وتعالى عبر في جانبهم بكلمة (وصى) فقال: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا)) وقال: ((وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) إشارة إلى أن ما أوتيه النبيون قبله عليه الصلاة والسلام لم يعد أن يكون وصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، أما في جانبه صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال: ((وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)) فعبر في جانبه بـ (أوحينا) تعظيماً لشأنه، كأنه هو المخصوص بالوحي، إشارة إلى أن تخصيصه صلى الله عليه وسلم بإتيانه القرآن العظيم تشريف يفوق ما أوتي النبيون من معجزات خارقة تنتهي بانتهاء زمنها، وكتب فيها تشريعات ووصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) وسبق أن شرحنا معنى هذا الحديث.(124/21)
رفع العذاب عن أهل مكة لوجود النبي صلى الله عليه وسلم
ومن كرامته على ربه صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))؛ لأن المشركين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] لم يقولوا: فاهدنا إليه، لكن لجهلهم وجرأتهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، يقول الله سبحانه وتعالى: كيف أستجيب لهم وأنزل عليهم العذاب وأنت موجود معهم في مكة؟! لا يمكن أن أنزل العذاب وأنت فيهم؛ إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن وجوده فيهم أمان لهم من الهلكة، فمعنى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)) أي: ما دمت بمكة، فلما خرج النبي صلى الله علية وسلم من مكة وبقي فيها من بقي من المؤمنين نزل قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) يعني: وفيهم مؤمنون يخفون إيمانهم ويستغفرون الله، فوجود المؤمنين الذين يستغفرون الله حائل ومانع من نزول العذاب عليهم، وهذا مثل قوله تعالى كما سيأتي في سورة الفتح: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25]، فلما هاجر المؤمنون نزلت: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال:34].
ومما يبين شرف مقام النبي صلى الله عليه آله وسلم قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
إذاً: لابد أن من تأمل القرآن العظيم يدرك كيف رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] بالوحي سواء في القرآن أو في السنة من النصوص التي تدل على رفعة مقامه، كما قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] ثم قال بعدها: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني: هذا الوحي فيه بيان ورفع ذكرك وتشريفك وبيان مقامك العظيم.(124/22)
تمام نعمة الله على عبده المصطفى عليه الصلاة والسلام
قال جعفر بن محمد وهو يتكلم شارحاً معنى قوله تعالى: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) صلى الله عليه وآله وسلم: من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ به شرائع غيره، وعرج به إلى المحل الأعلى، وحفظه في المعراج حتى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وبعثه إلى الأحمر والأسود، وأحل له ولأمته الغنائم، وجعله شفيعاً مشفعاً، وسيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره، ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10].
ومن نعمه عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما امتن عليه به في سورة النجم والإسراء والفتح، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] إلى آخر الآية، ومنها قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، وما كان من أمر الغار، وسراقة بن مالك.
ومن مقام كماله صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من كمال خلقته، وجمال صورته، وقوة عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وقوة حواسه وأعضائه، واعتدال حركاته، وشرف نسبه، وعزة قومه، وكرم بيته صلى الله عليه آله وسلم.
وأما خصاله المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، والآداب الشرعية، من الدين والعلم، والحلم والصبر، والشكر والعدل، والزهد والتواضع، والعفو والعفة، والجود والشجاعة، والحياء والمروءة، والصمت والتؤدة والوقار، والرحمة، وحسن الأدب والمعاشرة وأخواتها التي جماعها حسن الخلق.
وإذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه، ورأينا الواحد منا يتشرف بواحدة منها أو اثنتين، إن اتفقت له في كل عصر، إما من نسب، أو جمال، أو قوة، أو علم، أو حلم، أو شجاعة، أو سماحة، حتى يعظم قدره، ويضرب باسمه الأمثال، ويتقرر له بالوصف بذلك في القلوب أثرة وعظمة، وهو منذ عصور خوال رمم بوال، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا يعد ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب ولا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال من فضيلة النبوة والرسالة، والخلة والشفاعة، والوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والأمانة والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضا والسؤل والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة والعفو عما تقدم وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزة النصر، ونزول السكينة، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله تعالى والملائكة، والحكم بين الناس بما أراه الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم، والقسم باسمه، وإجابة دعوته، وتكليم الجمادات والعجم، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل، وانشقاق القمر، ورد الشمس، وقلب الأعيان، والنصر بالرعب، وظل الغمام، وتسبيح الحصى، وإبراء الآلام، والعصمة من الناس إلى ما لا يحويه محتفل، ولا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك سبحانه، ومفضله به لا إله غيره، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة، ودرجات الخلد، ومراتب السعادة، والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول، ويحار دون إدراكها الوهم.(124/23)
الشر لا ينسب إلى الله
قال الله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2] فأضاف الذنب إليه، وقال في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] الخطاب لله تعالى، فأضاف الإنعام إلى الله لأنه خير، أما الغضب والضلال فأتى منسوباً إلى من قام به، أو أتي به مبنياً لاسم المفعول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
ومن ذلك أيضاً قوله عليه السلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك)، وقالت الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] يعني نقدسك وننزهك عما لا يليق بك.
كذلك الله سبحانه وتعالى من أسمائه (السلام)، يعني: الذي سلم من العيوب والنقائص، وأيضاً الذي يسلم خلقه من ظلمه لهم؛ لأنه منزه عن الظلم، وأيضاً سلامته سبحانه من إرادة الظلم والشر، ومن التسمية به، ومن فعله، ومن نسبته إليه، فالله عز وجل سالم من كل ذلك، لذلك من أسمائه السلام عز وجل.
وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] فأضاف الشر إلى المخلوقات، يعني: شر الذي خلق أو من شر المخلوقات، فالشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى.
وقالت الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] ذكروا الشر مبنياً للمجهول: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فالرشد والخير نسب إلى الله.
وقال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي} [الشعراء:77 - 78] انظروا نسبته إلى الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78 - 79]، ثم قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] فالمرض لأنه شر أضافه إلى نفسه فقال: ((وإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) عز وجل، ثم قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]، ثم قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] فنسب الخطيئة والشر إلى نفسه.
وقال الخضر: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]؛ لأن كونه يخلع لوحاً من السفينة هذا فيه نوع من الشر والإفساد، لذلك أدباً مع الله سبحانه وتعالى نسبها إلى نفسه مع أنه قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، فقد كان بوحي، لكن انظر إلى الدقة في العبارة! قال في السفينة: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، كذلك في الغلام الذي قتله قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]، أما في الجدار الذي أراد أن يميل فقام في إصلاحه لميل الجدار حتى يظل الكنز مدفوناً ومحفوظاً للغلامين اليتيمين فقال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، ثم قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82]؛ لأن فيه إصلاحاً وخيراً: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82].
من ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] لكن في الشيء غير المحبوب قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14].
ونستطيع أن نستنبط من هذا قاعدة وهي: أن إيتاء الكتاب أو إيراث الكتاب إذا أتى منسوباً إلى الله فهو سياق مدح لمن آتاهم الله الكتاب، وإذا أتى بصيغة اسم المفعول أو المبني للمجهول فهو في سياق ذم، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121] هذا مدح لمن آتاهم الله الكتاب، والآية غالباً تتكلم عن أناس صالحين {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121]، لكن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101]، أو {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]؛ نسبت إلى المجهول فهي سياق ذم.
إذاً: لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، هذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6].(124/24)
الأسئلة(124/25)
حكم إنكار أحاديث الشفاعة
السؤال
جاء في بعض الجرائد أن الدكتور مصطفى محمود أنكر أحاديث الشفاعة، وقال: إن أحاديث الشفاعة غير صحيحة! فما قولكم؟
الجواب
الجواب عن مثل هذا إذا صح أنه فعلاً قال هذا، أن نتذكر حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه سلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، وهذا هو الشاهد الذي أتمثل به، وإن كان المقصود به طاعة أولي الأمر، لكن سأتمثل هذا وأجتزئ بهذا الشاهد: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)، هل هناك أحد يعجز عن الدعوى؟ هل أحد يعجز بلسانه أن يتكلم ويقول أي كلام يريد أن يقوله؟ لكن العبرة هل الذي يتكلم هو من أهل العلم أم ليس من أهل العلم؟ فما دام إنساناً ليس من أهل العلم لا ينبغي له أن يتطفل على مائدة العلماء، وهل كل من يتكلم يستحق أن يرد عليه؟ يقول بعض العلماء: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف، فالمفروض أن نقول كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان.
فبنفس المعنى نستطيع أن نعمم ونقول: ما ابتدع عالم قط، ولكن استفتي غير عالم فأضل الناس.
فالضلال والانحراف لا يأتي أبداً من عالم متحقق بعلمه الذي يجمع بين العلم والخوف من الله سبحانه وتعالى، ولا يوجد أحد أبداً إذا كان ابنه الطفل الصغير مريضاً أنه يذهب به عند السمكري، لا يوجد أحد أبداً يريد أن يصلح مثلاً جهازاً كهربائياً ويأتي به للدكتور الجراح، لا، فنحن نحترم الثقافة جداً، ولو أحد أحب أن يأتي لابنه بمدرس خصوصي فإنه ينتقي أحسن مدرس، ويتحرى ويسأل عن كذا وكذا لكن لماذا الدين بالذات هان علينا، وكل واحد منا يعتبر نفسه شيخ الإسلام؟! إذا فتحت قضية الدين أمام أستاذ في كلية الهندسة أو في كذا من التخصصات، أو شخص يبيع خضاراً وبطاطس وطماطم، أو شخص قاعد على شرب القهوة أو كذا أو كذا ممن لا حظ لهم على الإطلاق في العلم؛ فإنه يعطي نفسه الحق في أن يتكلم ويفتي ويجادل ويناقش ويخطئ العلماء أيضاً ويسفههم! هذه مسألة مبدأ: هل هذا من أهل العلم؟ هذا ليس من أهل العلم على الإطلاق، فنحن لا نريد أن نخوض في الكلام على هؤلاء الناس، لكن نقول: من أنت؟ كما قال الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائزٍ فمن أنتم حتى يكون لكم عند يقول لك: أنا عندي وفي رأيي وأنا أرى كذا وكذا فمن أنتم حتى يكون لكم عند؟! فيأتي رجل في هذا الزمان المتأخر وينكر أحاديث الشفاعة، من أنت أصلاً حتى تنكر أحاديث الشفاعة؟! أحاديث الشفاعة متواترة يعني: ثابتة بنفس الطريقة التي ثبت بها القرآن الكريم، فأحاديث الشفاعة متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسواء تكلم فلان أو علان فنحن لا نأبه بمثل هذا، ولا نتكلف الرد عليه؛ لأننا لابد أن نرسي هذا المبدأ، من الذي يتكلم؟ هل هو إنسان مشهود له بالعلم؟ والعبرة بأن يكون مشهوداً له بالعلم بين العلماء، وليس بين عوام الناس الذين لا يحسنون ميزان الأشخاص، فلا نبالي سواء أنكر الأحاديث الواردة في الشفاعة أو غيرها، وإنكارها من صفات الخوارج والمعتزلة، فهم الذين أنكروا أحاديث الشفاعة، وهكذا شخص آخر ينكر رؤية الله في الآخرة وآخر ينكر أحاديث المعراج وآخر ينكر انشقاق القمر!! هذه فوضى، ولا يحسم هذه الفوضى إلا أن يكون هناك عالم وجاهل، هناك صغير وكبير، وأنا استمعت اليوم في نشرة الأخبار إلى شيء لفت نظري جداً، وفيه علاقة ضعيفة بما نتكلم فيه، يقولون: إن آخر أسلوب لجأ إليه الوحوش الصرب في كوسوفو أنهم يدخلون القرية أو المدينة فيلاقون وجهاء الناس الكبراء من أعمدة الاقتصاد أعمدة الطب مدراء المستشفيات الأطباء المثقفين وكذا وكذا، فيأخذونهم ويرحلونهم إلى الحدود، فيصيرون لاجئين، فإذا أراد قوم تشتيت قوم وإذهاب شوكتهم يفعلون هكذا، قال الشاعر الجاهلي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا لأنه إذا غاب هؤلاء الكبار سيصبح الناس في فوضى، وهذا أسلوب من أساليب القتل المعنوي، إضافة إلى المذابح الدموية التي يفعلونها.
فتغييب العقول الواعية من أهل العلم والتخصص يجعل الأمر نهباً لكل من أراد أن يفتي في الدين، وينكر ما ينكر، ويكذب بما شاء أن يكذب، فتتحول الأمور فوضى، فهذه صورة من صور القتل المعنوي، أننا نستفتي أناساً ليسوا من أهل العلم، لنا أن ندخلهم تحت مصطلح: المثقفين طلبة علم سمهم بما شئت، لكن أن يصدر هؤلاء على أنهم علماء فهذا لا ينبغي أبداً.(124/26)
تفسير سورة الفتح [3 - 6](125/1)
تفسير قوله تعالى: (وينصرك الله نصراً عزيزاً)
قال تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3].
قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: وينصرك على سائر أعدائك ومن ناوأك نصراً لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، بالبأس الذي يؤيدك الله به وبالظفر الذي يؤيدك به؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينصرك، وهو الذي يعلي بك.
وقال القرطبي: ((نَصْرًا عَزِيزًا)) أي: غالباً منيعاً لا يتبعه ذل، وعن ابن جريج في قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يريد بذلك فتح مكة وخيبر والطائف.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) يعني: لأن النبي عليه السلام خضع لأمر الله، وحقق أعلى مراتب العبودية التي لم يصل إليها بشر قبله صلى الله عليه وسلم، فكافأه الله سبحانه وتعالى بأن رفعه على العالمين.(125/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين)
قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4].
قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا يدل على أن المقصود بالسكينة في هذه الآية الكريمة السكينة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، أما مكانها فهو في قلوب المؤمنين، يقول ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي: جعل الطمأنينة، وهذا قاله ابن عباس، وعنه: السكنية: الرحمة، وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم.
وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، يعني: بقوله تعالى: ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ))، فهذه الآية من أدلة القرآن الكريم على أن الإيمان يزيد، وبالتالي ينقص؛ لأن ما كان قابلاً للزيادة يكون قابلاً للنقصان، وهذه عقيدة أهل السنة، ومسألة من أمهات المسائل في الإيمان، فعند أهل السنة: أن الإيمان تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: السكينة: السكون والطمأنينة، وقال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة.
يشير بذلك إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248]، فما عدا هذا الموضع في سورة البقرة فإن السكنية تعني السكون والطمأنينة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فذلك قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) يعني: بما يصدقون به من شعب الإيمان المتجددة باستمرار، والتي كانت تضاف إلى الدين بين وقت وآخر عن طريق الوحي، فهم بذلك يزدادون إيماناً مع السابق، فإيماناً يعني: تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان، وقال الربيع بن أنس: (ليزدادوا إيماناً) خشية مع خشيتهم، وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقال الخشني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن، وهو من مبادئ عين اليقين، يعني: أن مرتبة السكينة أعلى من مرتبة علم اليقين، ومن أوائل درجات مرتبة عين اليقين بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور.
وقال الشوكاني: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم.
(لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) (ليزدادوا) هذا ضمير يعود إلى أهل الحديبية رضي الله تعالى عنهم أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل.
قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم يعني: كما أن المؤمن كلما آمن وتعلم شيئاً جديداً أو عمل بشيء جديد يزداد إيماناً مع إيمانه الأصلي السابق، كذلك الكافر أيضاً على الجهة الأخرى كلما كذب بشيء من الحق فإنه يزداد كفراً؛ لذلك قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37].
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، فأكمل لهم دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]).
وعنه أيضاً قال: فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.(125/3)
كلام ابن القيم حول السكينة وأنواعها وآثارها وأسبابها
تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً موسعاً عن معاني السكينة في مصنفين: الأول مدارج السالكين، والثاني: إعلام الموقعين عن رب العالمين، فتكلم في إعلام الموقعين أثناء شرحه لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما يشترط في المسلم، وهو أن يكون له حلم ووقار وسكينة، يقول: فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالجبل العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس هاهنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم -والحلم هي السكينة والوقار-، وشرارهم من عدمهما لا حلم ولا علم، الثالث: من أوتي علماً بلا حلم، والرابع: عكسه، يعني: من يؤتى حلماً، لكن لا علم له، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لا يستفزه البداوات أي: بداءات الأمور، لا يستفزه المبتدأ بل ينظر إلى الخبر كما قال الشاعر: مبتدأ حلو لمن ذاقه ولكن انظر خبر المبتدأ فالحليم دائماً ينظر فيما بعد ولا ينظر إلى بداءات الأمور: فلا تخدع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فلابد أن يتحلم الإنسان ويتصبر، يقول: فالحليم لا يستفزه البداوات، ولا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة، يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه، ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير، فيؤثره ويصبر عليه، وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده، والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيراً بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً على المشاق لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيراً صابراً لم تكد، وإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى فاستمسك بغرزه، والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته.
يقول: ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان، والناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكل زمان دولة ورجال.
فالسكينة فعِيْلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرها على الجوارح، وهي عامة وخاصة، فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها يعني: أعلى درجات السكينة حازها الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
يقول: فالسكينة حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى الله لما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكنية التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وتعبير السفر هنا هو تعبير مجازي؛ لأن السفر معروف معناه في اللغة، وهنا إبراهيم عليه السلام ما أدخلوه من الباب، لا، بل بنوا له بنياناً مغلقاً عالياً، وأضرموا فيه النيران، ثم وضعوه على المنجنيق -وهو شيء مثل المدفع-، ثم رموه في الهواء حتى يسقط في هذه النار، بحيث لا يستطيع الفرار من مثل هذا البناء المحكم فإبراهيم عليه السلام في أشد لحظات الابتلاء وهو في هذه المرحلة العصيبة التي قطعها من ساعة انطلاقه بالمنجنيق إلى أن دخل في هذه النيران يطلق عليه الإمام ابن القيم اسم المسافر، أي: السفر من المنجنيق إلى النار، فإبراهيم عليه السلام في هذه اللحظات كان في أعلى درجات السكينة والطمأنينة والوقار والثقة بالله عز وجل، فما كان له من قول إلا أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ففوض أمره إلى الله، وتوكل على الله، وتحمل في سبيل الله هذا العمل وهذا العذاب، وقد صح في الحديث أن هذه الكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها المؤمنون حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
ويروى في بعض الآثار عند تفسير قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] أن إبراهيم عليه السلام في تلك اللحظة وهو في هذا السفر الذي استغرق ثواني معدودات عرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا -يعني: لأنك مخلوق-، وإنما حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: حسبي الله -يعني وحده- ونعم الوكيل.
والتوكل لا يكون إلا على الله وحده، فإن بعض الناس يخطئون حيث يظنون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أن معناها: حسبك وكافيك الله والمؤمنون معه يكفونك، لا، هذا التفسير غير مقبول على الإطلاق، وإنما: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه) الله كافيك وكافي المؤمنين، فهو حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، وليس المعنى: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك؛ لأن الحسب -الذي هو بمعنى التوكل والتفويض إلى الله- عبادة كالسجود والركوع، ولا يجوز أن تقول لشخص: توكلت على الله ثم عليك، حتى لو قلت (ثم)؛ لأنها بالضبط كأنك تقول: سجدت لله ثم لك! فالتوكل لا يكون إلا على الله وحده سبحانه وتعالى، فتقول: توكلت على الله وحده، أما توكلت على الله ثم عليك حتى لو استعملت (ثم) فليس هذا موضعها؛ لأن التوكل عبادة مثل السجود والركوع، والتعبد إنما يكون لوجه الله سبحانه وتعالى.
الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام أنزل الله في قلبه في هذا الوقت العصيب أعلى درجات السكنية، يقول: فالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى ما أضرم له أعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد أدركه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد ناداه بنو إسرائيل: يا موسى! أين تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا! قال الله: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فأجاب موسى بكل ثقة وبكل طمأنينة ووقار وسكينة: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]؛ لأنه واثق بوعد الله سبحانه وتعالى أن يجعل له مخرجاً، وأن ينصره ويمكنه وينجيه من فرعون وجنوده، فتأملوا هذا الموقف! فرعون بجنوده وعساكره يطاردهم، ثم هم يجرون حتى انتهى بهم الأمر عند البحر: فـ ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)) وإن هنا للتوكيد، وأيضاً التوكيد باللام: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))، والجواب من موسى عليه السلام: ((قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))، فهذا بلا شك غاية الطمأنينة والوقار.
والثقة بالله سبحانه وتعالى.
وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكريم الله له نداء ونجاءً، كلاماً سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعباناً مبيناً.
وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه:67]، وهذا الخوف ليس بخوف مذموم، فهو الخوف الجبلي الموجود في البشر، كما يخاف الإنسان من الأسد إذا رآه أو من النار أن تحرقه، وغير ذلك من الخوف الفطري الجبلي الذي لا يخلو منه بشر، وقيل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] خاف أن يفتن الناس قبل أن يلقي هو عصاه، وقيل: ألقى: ((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)) خاف حين أبطأ عليه الوحي كإبطاء العصا أن يفترق الناس قبل المعجزة.
وكذلك السكينة التي حصلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما! وللمناسبة فإن قصة العنكبوت والحمامة والبيض ونحو هذا الكلام لم يثبت وهذا يصدم عواطف كثير من الناس، ويعز عليهم جداً أن يعرفوا أن هذه القصة غير صحيحة وضعيفة السند، ولكن لا شك أن عدم وجودها هو أقوى لوجود هذه السكينة؛ لأن عدم وجود هذه الأشياء يكون أدعى أنهم دخلوا يستخفون، ولكن مع ذلك صدقهم الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس تصطدم عواطفهم إذا علموا بذلك، لكن نقول: ليس بأمانيكم ولا أماني الوضاعين، وإنما الحكم هنا لأهل الحديث وعلماء الحديث.
يقول: كما قال تبارك وتعالى: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)) قال بعض السلف: هذه الآية فيها عتاب لكل الأمة إلا أبي بكر رضي الله عنه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] قال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] إلى آخر الآية.
وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم عند أرباب البصائر، فإن الكذاب ولاسيما الذي يكذب على الله سبحانه وتعالى أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطراباً في مثل هذه المواقف، فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم.
فالرسل لهم أعلى مراتب السكينة وأخصها على الإطلاق، وهي مرتبة سكينة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما الخاصة التي هي دونها فهي تكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سفينة الإيمان، فهي(125/4)
معنى قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض)
قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] يقول شيخ المفسرين رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.
وجنود السماوات والأرض موضوع مستقل لوحده، ولا نريد أن نخرج مع كل كلمة عن سياق التفسير، ولكن جنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] فجنود الله تتنوع مثل الرياح الأمطار الأمواج كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله.
ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جداً جداً من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الألكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته! وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جداً، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه.
يقول: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا))، أي: أن الله تعالى لم يزل عالماً بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره.
وقال ابن عباس: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس.
وقال الشوكاني: يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوك بعضهم ببعض، ((وكان الله عليماً)) كثير العلم ((حكيماً)) في أفعله وأقواله.
وقال القاسمي: أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.
وقال ابن كثير: ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، يعني: هذه إشارة إلى نفس الحكمة التي سبق الكلام عنها في سورة القتال في قوله تبارك وتعالى {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] يعني: لابد أن نستخضر هذا الأمر: ((وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ)) يعني: هذا الذي يعادي الله ورسوله، ويحارب دين الله من كفار والمنافقين وغيرهم، وهذا الذي يشكوه المؤمنون من الضعف والاستضعاف والإذلال وغير ذلك من هذا العناء، ينبغي أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالته، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالله سبحانه وتعالى قادر على أنه بكلمة مكونة من حرفين (كن) يصبح جميع من على الأرض على أتقى قلب رجل واحد منهم، وهو قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أليس الله بقادر على ذلك؟ بلى، لو أن الله قال لجميع البشر: كونوا مثل محمد عليه السلام لكانوا، أو لو قال لجميع البشر: كونوا مثل إبليس لعنه الله على أفجر قلب رجل واحد منهم؛ لحصل ذلك، ولا يضر الله شيئاً، لكن هذا ينافي حكمة الخلق والابتلاء، فالناس الذين يقهرون المسلمين ويحاربون دين الله سبحانه وتعالى لو نزل ملك واحد ينفخ فيهم على شكل صيحة -كما صاح جبريل على قوم لوط- لأبادهم جميعاً من صيحة واحدة، فالله تعالى قادر على ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل؛ لأن هناك أجلاً قد كتبه الله، ولأن الإيمان هنا في هذه الحالة سيكون إيماناً اضطرارياً بالإكراه، ولا إكراه في الدين، فالعبرة بالخضوع والانقياد الناتج عن تفكر وتدبر وإيمان كسبي، أما الاضطرار للإيمان فهذا معناه أنك تتبع ديناً مكرهاً كيوم القيامة؛ بدليل أن جميع الناس يوم القيامة يؤمنون، وجميعهم يكونون على يقين، لكنه يقين غير مكتسب، بسبب أنهم بعثوا ورأوا آيات الله سبحانه وتعالى، قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] لكنه يقين لا ينفع؛ لأن العبرة باليقين في الدنيا حتى يكون هناك إيمان بالغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، أما أن يصير الغيب عياناً، فنرى الملائكة تنزل على الذين يحاربون الدين، فتقصم ظهورهم، أو تمزقهم إرباً، وكل هذا الله قادر عليه، لكنه ينافي حكمة خلق الدنيا للابتلاء؛ لأنه هذا لو حصل فسينتهي التكليف؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الخوارق عياناً فكلهم سوف يؤمنون، وتنتهي الحكمة من خلق الدنيا، فإذاً لابد أن نستحضر هذا قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) [محمد:4] حتى يستمر الابتلاء والامتحان، كذلك أشار تعالى هنا بعدما قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}، وبعد قوله: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لانتصر من الكافرين؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال؛ لما في ذلك من الحكمة البالغة، والبراهين الدامغة، ولهذا قال: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)) مع أن له جنود السماوات والأرض، وهو قادر على إهلاك جميع الكافرين في لحظة واحدة، لكنه مع ذلك عليم حكيم لحكمة يعلمها، وهي استمرار الابتلاء في هذه الدار التي هي دار البلاء في الدنيا.(125/5)
تفسير قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال تبارك وتعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5].
يقول شيخ المفسرين وإمامهم رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) لتذكر ربك وتحمده على ذلك؛ فيغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وليحمد المؤمنون ربهم، فيذكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين لإظهاره عليهم، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها إلى غير نهاية، ويكفر عنهم سيئ أعمالهم بالحسنات التي يعملونها؛ شكراً منهم لربهم على ما قضى وأنعم عليهم به.
قوله: ((وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) يقول تعالى ذكره: وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة -وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم- ((فوزاً عظيماً)) أي: ظفراً منهم بما كانوا يأملوه ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله.
وهذه الآية نزلت لما تلا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام قول الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] قالوا: هذا لك يا رسول الله فماذا لنا؟ تبييناً من الله لهم ما هو فاعل بهم، فنزل قوله تعالى: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الفتح:5].
قوله: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: يسترها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير؛ لأن الآية: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ)) ثم قال بعد ذلك: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ))، والأصل أنه يكفر السيئات أولاً ثم بعد ذلك يدخلهم الجنات، لكن هنا ذكر أولاً إدخال الجنات، ثم ذكر بعدها التفكير عن السيئات، فقال: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: يسترها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس، للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى والمقصد الأسمى، فبدأ بذكر الأهم وهو دخول الجنة؛ لأن هذه هي الغاية العظمى.
((وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) أي: كان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله وفي حكمه فوزاً عظيماً أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غم، وجلباً لكل نفع، ودفعاً لكل ضر.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ)) متعلقة بقوله: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)) لماذا؟ ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)) وكذا وكذا ثم قال: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)).
وقال الألوسي في تفسير هذه الآية: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) يعني: يغطيها ولا يظهرها، والمراد: يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها.
يقول: ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة، على أن المعنى يدخلهم الجنة، ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم، فلا تمر لهم ببال، ولا يذكرونها أصلاً؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم؛ لأن ذكرها في حال الصفاء جفا، فيسترها عنهم، فلا تمر لهم ببال، ولا يذكرونها أصلاً، فينسيهم سيئاتهم ولا يذكرونها أصلاً؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم في الجنة.(125/6)
تفسير قوله تعالى: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات)
قال تبارك وتعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
يقول الألوسي: تقديم المنافقين على المشركين؛ لأنهم أكثر ضرراً على المسلمين، فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة؛ لأن المراد إدخال السرور على المؤمنين بما يبشرهم الله به من إدخال الجنات، وتكفير السيئات، والفوز العظيم، ثم يقول: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ)) يعني: تعجيلاً للخبر بالمسرة، وتبشير المؤمنين بأن المنافقين أشد ضرراً وحرباً على الإسلام من المشركين؛ ولذلك فهم في الدرك الأسفل من النار.
يقول شيخ المفسرين: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ))، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار، ويعذب المنافقين والمنافقات لفتح الله لك يا محمد ما فتح لك، من نصرك على مشركي قريش؛ فيكبتوا بذلك؛ ويحزنوا ويخيب رجاؤهم الذي كانوا يرجونه من رؤيتهم في أهل الإيمان بك من الضعف والوهن، والتولي عنك في عاجل الدنيا.
قوله: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) يعني: وليعذب كذلك أيضاً المشركين والمشركات.
وقال القرطبي: قوله تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) أي: بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قتلاً وأسراً واسترقاقاً.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) وهو معطوف على (يدخل) أي: يعذبهم في الدنيا لما يصل إليهم من الهموم والغموم.
وهذا شيء طبيعي جداً أن نتوقعه من أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، أنهم يسوءهم عزة الإسلام، ونصرة المسلمين، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، وقال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] إذاً: قوله: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ)) يعذبهم في الدنيا بأن يدخل عليهم الهموم والغموم؛ بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم، ولذلك قال: ((وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ)).
وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشد منهم عذاباً، وأحق منهم بما وعدهم الله به: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].(125/7)
معنى ظن السوء في الآية
قوله تعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) هذه الصفة للفريقين: للمنافقين والمنافقات، وللمشركين والمشركات، فمن صفات أهل النفاق وأهل الشرك أنهم يظنون بالله ظن السوء، وإذا كانت هذه الصفة من خصائص المنافقين والمشركين فالواجب على أهل الإيمان أن يتنزهوا عن هذا الخلق وعن هذا الوصف.
يقول شيخ المفسرين رحمه الله: ((الظانين بالله)) أن لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين بك؛ وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع.
فظن السوء: أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، ولن ترتفع كلمة الله سبحانه وتعالى على كلمة الكفر، يقول الله تبارك وتعالى أيضاً في نفس هذا المعنى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] في سورة الحج (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ) الضمير هنا يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يسبق له ذكر في السياق، لكن هذا مفهوم، من كان يظن بالله أنه لن ينصر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ماذا يعمل؟ يموت نفسه؛ لأنه لن يضر إلا نفسه، فالله معز دينه، وناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فالذي يظن فعلاً هذا الظن السيئ بالله ليس له إلا أن يكيد نفسه، فإن هذا الظن لن يضر الله ورسوله شيئاً، فإن كلمة الله غالبة، فمعنى الآية: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء، يدله على طريقة من طرق الانتحار، يربط حبلاً في سقف البيت أو الحجرة، ويقف على شيء مرتفع، ويربط الحبل على رقبته، ومن ثم يزيحه برجليه ويخنق نفسه، هذا هو معنى الآية، ((ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)) هل هذا الكيد يذهب عنه الذي يغيظه من نصرة الله لنبيه عليه السلام؟! لن يكيد إلا نفسه، فهذا معنى الآية.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال: ((عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) قوله: ((وَلَعَنَهُمْ)) يعني: أبعدهم من رحمته.
وقال القاسمي: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) أي: ظن الأمر السوء، وهو أن لن ينصر الله تعالى رسوله والمؤمنين.
وقال القرطبي: يعني: ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم كما قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12].
وقال الشوكاني: ثم وصف الفريقين أي: المنافقين والمشركين، فقال: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)).(125/8)
كلام ابن القيم في بيان أن الظن السيء من أخلاق المنافقين والمشركين
قوله تبارك وتعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) هذا مما يبين لنا أن هذا الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى من أخلاق المنافقين والمشركين، وقد وضح الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى في أثناء كلامه في كتابه الرائع: (زاد المعاد) هذا المعنى حينما كان يذكر الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد، فيقول: وأنهم -أي: بعض المنافقين- يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ولم يهمهم أمر دين الله، ولا نبيه، ولا أصحابه، فهؤلاء أهمتهم أنفسهم لا أمر الدين، ولا أمر النبي عليه السلام، ولا أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كان من شأنهم أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يصيبهم القتل، فهذا هو معنى ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ))، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة والقدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]، وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظنهم غير الحق، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران:154] يعني: غير ظن الحق ظن الجاهلية؛ لأنهم ظنوا غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء؛ لأن هذا سوء الظن بالله، كأن يظن أحد أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، وأن المسلمين سيستأصلون تماماً ويقضى على دينهم ودعوتهم، فهذا سوء ظن بالله عز وجل، وفيه نسبة ما لا يليق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمه، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، ولكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء! تأملوا الكلام هنا على من يظن هذا الظن، ظن أن الإسلام يقضى عليه تماماً إلى الأبد، ولا ترتفع له كلمة؛ هذا من ظن السوء بالله، وهو الظن اللائق بالمنافقين والمشركين وأعداء الدين، أما المؤمنون فلا يمكن أن ينسبوا إلى الله ما لا يليق به، لكن لا يعكر على هذا أن الأيام دول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، يوم لك ويوم عليك، الصراع بين الحق والباطل من سنن الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، أما أن يظن أن الباطل يتمكن ويقهر الإسلام إلى الأبد، بحيث يضمحل الإسلام، ويقضى على الدعوة تماماً؛ فهذا سوء ظن بالله عز وجل، ونسبة ما لا يليق به إليه.
يقول: وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة مستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله.
وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته.
وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدر من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص به، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء.
فهذه بعض من صور الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى، والقنوط واليأس من روح الله عز وجل كما سنبين ذلك تفصيلاً.
يقول: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أن يترك خلقه سدىً معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لن يجمع عبده بعد موته للثواب والعقاب، في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، من لم يعتقد بذلك كله فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه يحصل منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحكم سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقدر قبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء.
وهذا رد على الأشاعرة وغيرهم في موضوع التحسين والتقبيح العقلي.
قال: ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشارات خفية لم يصرح بها، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير مراده، ويتطلبون له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز.
وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم ما يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمه ورحمته ظن السوء، وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بطريقة دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يقصد من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال -هذا كله رد على من يلحدون في الأسماء والصفات- وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا من أسوأ الظن بالله.
فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.
ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه؛ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ولا عدد السماوات والأرض ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر، ولا علم له ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن به أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة والمقربين وأوليائه المصلحين؛ فقد ظن به ظن السوء.
الإمام ابن القيم استعرض كل الفرق المنحرفة في باب العقائد في هذا الفصل الرائع من كتابه المبارك: (زاد المعاد)، ونكتفي بهذا الاقتباس من الكتاب، ونختم بقوله: فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله، ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بسوء الظن من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل(125/9)
حاجة المؤمن إلى الأمل وانتظار الفرج
نريد أن نلفت النظر إلى حاجتنا الماسة -خاصة في الظروف التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام- إلى الأمل، وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى، وأن يتعلق الإنسان بالرجاء؛ لأن مقتضى الإيمان حسن الظن بالله، وتنزيه الله عن سوء الظن به عز وجل، كما يقول الشاعر: أعلل النفس بالآمال أرشدها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وبدلاً من أن نقول: قال الشاعر، نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فنحن أمرنا بالتبشير، وأن نوقظ في قلوب الناس الأمل وحسن الظن بالله عز وجل، وانتظار الخير والتفاؤل بالمستقبل.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي -وهو حديث حسن- يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا) (أنا أول الناس خروجاً) يعني: من القبور (إذا بعثوا).
(وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مذكرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه من خصائص رسولنا عليه السلام: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا)، فهو فعلاً مبشر الأمة إذا أيسوا، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا)، فكان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائماً بعث الأمل في النفوس؛ لأن هذا أقوى سلاح تهزم به عدوك حتى لو كنت في أقصى درجات الاستضعاف، ولن نذهب بعيداً، لكننا سنأتي بالدليل من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنهتدي بهدي من هديه في هذه المحنة.
يقول خباب بن الأَرَت رضي الله تعالى عنه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار على رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) وفي حديث آخر لـ خباب قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يفتنا) وهذا الحديث له تفسيران: التفسير الأول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: صلاة الظهر في الحر الشديد (فلم يفتنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يأذن لنا في أن نؤخر صلاة الظهر إلى أن تبرد الأرض ويتكون الظل، وهذا كان أولاً، ثم نسخ بعد ذلك بجواز الإبراد في صلاة الظهر وتأخيرها إلى أن يكون ظل، فهذا الحديث منسوخ على هذا التفسير.
التفسير الثاني: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: تعذيب المشركين إيانا بحر الرمضاء، (فلم يشكنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يدع لنا، وإنما فعل كما بينته الرواية الأخرى: عزاهم وواساهم بأن هذه سنة الله في الذين خلوا من قبل، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فهذه سنة الله في الابتلاء، ولابد أنها ماضية، قبل أن يمكن الله هذا الدين لابد أن يدفع لهذا التمكين هذا الثمن، ولذلك قال: (لقد كان من قبلكم) لأنهم يقولون: (ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟) لا نجد في الحديث دعاء ولا استنصاراً، وإنما هو تعزية وتسلية بسنة الله التي لا تتبدل من ابتلاء المؤمنين، (لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل) إلى آخر الحديث، ثم قال مذكراً إياهم في أحلك اللحظات -وهذا هو الشاهد من كلامنا: أن المؤمن حتى في أشد اللحظات لا يسيء الظن بالله، بل لابد أن يؤمل رحمة الله عز وجل-: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر) وهذا قاله وهم في أشد حالات الاستضعاف، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) وهذا هو الخوف الواجب من الله سبحانه وتعالى، (والذئب على غنمه) وهذا هو الخوف الفطري فقط، لكن لن يخاف من أي شيء سوف يلاقيه، وهذا بشارة تمكين المسلمين، وقد حصل هذا، بل أضعاف هذا كما هو معلوم.
إذاً: في لحظات الشدة والمعاناة ينبغي أن يتسلح المسلمون والمؤمنون بالأمل في الله عز وجل، فالمستقبل للإسلام، وليس هذا كذباً على الناس، وإنما هو تذكير لهم لما بشرهم به الصادق المصدوق الذي وصف نفسه بقوله: (وأنا مذكرهم إذا أيسوا) يعني: هو الذي يزيل ظلمة اليأس والقنوط بالبشارة والإخبار بأن المستقبل لهذا الدين.
فالأمل والتفاؤل وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى من خصائص المؤمنين، بخلاف الكافرين كما ذكرنا، وقد روى الترمذي بسند فيه موسى بن محمد وهو منكر الحديث، لكن إذا صح الحديث فإنه يفيدنا الاستشهاد به في هذا الموضع، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً، ويطيب نفسه) (إذا دخلتم على المريض) يعني: لعيادته (فنفسوا له في أجله) يعني: أذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله، يعني: قد يكون المريض مشرفاً مشفقاً أن يموت، ففي هذه الحال الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر أن من آداب عيادة المريض -إذا صح الحديث- تشجيع العليل بلطيف المقال، وحسن الحال، فأنت قل له: لا بأس طهور إن شاء الله، أو تدعو له بطول العمر أو البركة في العمر، وأن الله سيشفيه ويعافيه، أو تقول له: لا تخف سوف يشفيك الله عز وجل إلى آخره، فتنفس له في أجله يعني: أنك تمنيه وتعطيه الأمل أنه سوف يحيا ويعيش، ولا يجزع من الموت، إلا إذا كان المرض فعلاً خطيراً، وهو على وشك الموت بالفعل، فمن الغش والخيانة أن تخبئ عنه أنه على وشك الموت، كما يذهب بعض الناس إلى إخفاء حقيقة المرض عن المريض، وإخباره به فيه مصلحة له في أن يعرف أنه مقبل على الموت، فلو أن عنده أمانات للناس يردها أو وصية يوصي بها ويستعد بالتوبة وغير ذلك من الخيرات الكثيرة، والشاهد إذا صح الحديث: (ونفسوا له في أجله) إما بهذا المعنى تعطيه أملاً في أنه سوف يشفى ويعافى، أو نفسوا له يعني: وسعوا له في أجله، فيتنفس عنه الكرب؛ لأن التنفيس هو التفريج.
فالمقصود: أننا نذكر له كلاماً نبعث له فيه الأمل في طول عمره.
يقول: (فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً) (فإن ذلك) يعني: ذلك التنفيس كلمة طيبة، ولن ترد شيئاً من قدر الله، إن قدر الله أنه يموت فسوف يموت، سواء بهذا المرض أو بغيره، فهذا التنفيس لن يضر شيئاً من الموت المقدر، ولن يطول عمره، ولكنه يطيب نفسه، ويفرج عنه، وينعشه، ويبعث فيه الأمل، (فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه).
فلذلك نجد الأطباء يلجئون لشيء من هذا مع المرضى، لكن أحياناً بطريقة فيها كذب، فبعض الأمراض المستعصية جداً ممكن الدكتور يقول للمريض: هذا دواء يجرب في هذا الوقت فيعالج هذه الحالة، ويكون الدكاترة ما اكتشفوا الدواء بالفعل؛ لأن كل داء له دواء، وهذا من أعظم آداب الإسلام، ومهما حاول الطب لم يستطع أن يصل إلى هذه القمة التي عبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء) فما نقول أبداً كما يقول الأطباء الغربيون مثلاً: السرطان ليس له دواء، السكر ليس له دواء يستأصله، لكن نقول: له دواء لكننا لم نكتشفه ولا نعرفه، فيوجد له دواء؛ لأن الصادق المصدوق أخبر أن الله الذي ينزل الداء ينزل معه الدواء: (علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داء واحداً هو الهرم) أي: الشيخوخة والموت.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يراعي هذا الأدب، وتأملوا الحديث الآخر حينما كان عليه الصلاة والسلام يعود مريضاً ماذا كان يقول: (اللهم أذهب الباس، رب الناس) تأملوا كم مرة تكررت مادة (شفا) ومشتقاتها في هذا الدعاء، فهذا فيه بعث التفاؤل في طول الأجل، وأنه سوف يشفى، فالأمل مهم جداً أن يتسلح به الإنسان، والدعاء هو: (أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) يعني: الشفاء من المرض الذي لا يكون بعده نكسة؛ لأن كثيراً من الأمراض حتى لو شفي الإنسان بعدما يتعاطى الدواء فممكن من بعد أن الإنسان تحصل له نكسة ويرجع المرض من جديد، لكن انظر إلى حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يدعو له بالشفاء، (لا يغادر سقماً) بحيث لا يعود له المرض أبداً، ولا يحصل له نكسة وانتكاس، فنحن نريد أن نقتبس من هذه الآداب النبوية أن الأمة أيضاً إذا مرضت ننفس لها في الأجل، لا أقول: نكذب كما يكذب بعض الأطباء يريد أن يحسن الحالة النفسية للمريض؛ لأن لها تأثيراً كبيراً على الحالة العضوية، فلا نريد أن نسلك هذا المسلك، لكننا سوف نأتي بكلام من لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن النصر والتمكين والمستقبل لهذا الدين، فينبغي أن نلتزم قول النبي عليه السلام ففي الحديث: (خير الهدي هدي محمد) صلى الله عليه وسلم، فمن هديه وصفاته ما ذكره في هذا الحديث: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا) فعلينا أن نبشر الناس إذا أيسوا وإذا ادلهمت الخطوب.
وهذا من باب الأمل، وقد فتح الله باب الأمل لأكفر الخلق إجراماً وهم المنافقون، دعاهم الله سبحانه إلى التوبة، ودعا أهل الكتاب من النصارى الذين سبوه وشتموه إلى التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، ودعا الكافرين وفتح لهم باب الأمل في الجنة فقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، ودعا العصاة المسرفين على أنفسهم بالمعاصي فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَ(125/10)
تفسير سورة الفتح [8](126/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)
قال الله تبارك تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8].
قوله: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا)) الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، ومن غايات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شاهداً، وقد جاءت آيات كثيرة تبين بعض ما يتعلق بمنصب الشهادة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، منها: قول الله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فهذه الآية الكريمة من سورة النساء تبين أن كل أمة يأتي شاهد ليشهد عليها، ألا وهو رسولها، روى البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي؟ -يعني: قرآناً- قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم وليس فيه قوله: (حسبك)، وفيه أنه قال: (فرفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جانبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه صلى الله عليه وسلم تسيل) وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لتعظيم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيداً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} فهذا تعظيم لهذا الموقف العظيم المهول، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون في منصب الشاهد، فإذا كان الشاهد يشفق من هول هذا المطلع، وفظاعة وعظم هذا الموقف، فكيف بالمشهود عليه؟ وإذا كان الشاهد نفسه يبكي تعظيماً لهذا الموقف فلا شك أن غيره أولى أن يتفتت كبده.
وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ} يعني: كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خصهم بالذكر؛ لأن العذاب أشد عليهم من غيرهم؛ لأن هؤلاء رأوا المعجزات، ومع ذلك عاندوا، والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة (إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)؟! أمعذبون أم منعمون؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ، وقيل: الإشارة إلى جميع أمته: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ) يعني: على جميع أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أمة الدعوة أو أمة الإجابة.
(شَهِيدًا) قال الألوسي: يعني: شهيداً تشهد على صدقهم؛ لعلمك بما أرسلوه، واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا: ((وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا))؛ لأن بعض الأدلة تدل أيضاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون شاهداً على الأنبياء أنهم بلغوا أممهم حين تنكر الأمم الكافرة ذلك، فيشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومهم قد أبلغوهم.
ومن الآيات التي لها تعلق بالشهداء قوله تبارك وتعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:71 - 70] واختلف العلماء في المراد بهؤلاء الشهداء: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) فقال بعض العلماء: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمال الناس في الدنيا، واستدل من قال هذا بقول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] أي: شهيد من الملائكة، والجمع شهداء، فقوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) يعني: الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم.
وقال بعض العلماء: الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وقيل الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الشهداء: هم الرسل من البشر ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) يعني: بالنبيين والمرسلين الذين أرسلوا إلى الأمم؛ فالمعلوم أنه لا يقضى بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما قال تبارك وتعالى في سورة يونس: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس:47]، فلا يقضى بين الأمة حتى يجاء برسولها، وكما قال تعالى أيضاً: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].
فأيضاً يشير إلى نفس هذا المعنى قول الله عز وجل: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ))، وهو رسولها الذي أرسل إليها، فإذاً: شهيد كل أمة هو رسولها.
وقوله: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)) هذا يبين أن الشهيد يكون من نفس هذه الأمة، وهو ليس من الملائكة، فهذا القول يترجح على قول من قال: إن الشهداء في قوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) هم الملائكة، بدليل قوله: ((وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ))، والآية الأخرى بينت أنه لا يكون قضاء حتى يجاء بالنبي شاهداً على أمته.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [النحل:89] ولا شك أن الرسل من أنفس أممهم، كما قال عز وجل في نبينا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164].(126/2)
أمة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على كل الأمم
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب:45]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: خياراً عدولاً، وسطاً: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط الخيار العدول قوله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم أي: خيار عدول.
وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} لم يبين هل هذه الشهادة تكون عليهم في الدنيا أم في الآخرة؟! لكنه بين في موضع آخر أن هذه شهادة على الأمة تكون في الآخرة في قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42].
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا): وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، والقرطبي رحمه الله تعالى أطلق هذه الكلمة أن الكعبة وسط الأرض، وربما لم يخطر بباله ما تنتهي إليه البحوث العلمية مؤخراً من أن مكة بالفعل هي مركز اليابسة وهي أم القرى فعلاً، فمركز اليابسة على سطح الأرض هو مكة المكرمة، فكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، وسطاً في الرتبة ففوقكم الأنبياء، وتحتكم الأمم الأخرى، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143] قال: عدلاً) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال تبارك وتعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم.
وقال زهير: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن بالأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو في حق المسيح عليه السلام، حتى عبدوه من دون الله، واليهود جفوا في حق الأنبياء وقصروا حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ونسبوا إليهم أقبح الكبائر، وأخس الخصال، كما في كتبهم التي افتروا فيها الكذب على الله سبحانه وتعالى، وجاء في بعض الآثار: (خير الأمور أوسطها).
(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يعني: في المحشر تكونون شهداء للأنبياء على أممهم، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك، فيقال له: هل بلغت؟! فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير)؛ لأن الكفار يوم القيامة يحاولون أي حيلة لعل وعسى أو ليت بتعبير أدق، فيلجئون إلى الكذب حتى إنهم يلجئون إلى اليمين المغلظة، قال تعالى حاكياً عنهم: ((وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) يقولون: الملائكة ظلمتنا، الملائكة تفتري علينا وتدعي علينا أننا كنا نشرك بالله، ويظنون أن هذا اليمين تنفعهم وقد عاينوا يوم القيامة، فلذلك يتذرعون بأي حيلة كالحلف باليمين الغموس الكاذبة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، كذلك الأمم حينما يسأل الله سبحانه وتعالى نوحاً: (هل بلغت؟ -يعني: قومك- فيقول: نعم، فيقال لأمة نوح: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟) يخاطب الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام يقول: (من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيداً) فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وعند ابن المبارك نفس هذا الحديث بزيادة: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟!) يعني: كيف يقبل الله سبحانه وتعالى شهادة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وهم لم يعاينوا نوحاً حينما بعث إلى قومه؟! (فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا) أي: لأن القرآن الذي أنزلته إلينا، وهو كلامك الصدق والحق؛ هو الذي أخبرنا أن نوحاً أبلغ أمته الرسالة: (فيقول الرب عز وجل: صدقوا).(126/3)
أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط
قوله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) الوسط: العدول، ((لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) هكذا أثنى الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالخيرية والوسطية وبالعدالة، فمن مفاخر الإسلام ومحاسنه هذا التوسط في كل باب من الأبواب، فهناك طرفان: طرف قابل للغلو، وطرف آخر قابل للتقصير والجفاء والتفريط، فهذه الأمة في كل الأمور هي أوسط الأمم وخيارها وأعدلها؛ فلذلك يقول شاعر: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الأحداث حتى أصبحت طرفا دائماً في أي شيء يوجد وسط وطرفان، طرف لأقصى اليمين، وطرف لأقصى الشمال فمن حاد عن هذه الوسطية التي هي شريعة الإسلام وأحكام الإسلام إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار فهذا هو الذي أخذ بأطراف الأمور، فهذا هو الذي يطلق عليه المتطرف، فالمتطرف هو الذي يأخذ بأطراف الأمور إما بالغلو وإما بالجفاء، إما بالإفراط وإما بالتفريط، فهذا هو المتطرف، فكل من انحرف عن هدي الإسلام فهو متطرف، وكل من تمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هديه خير الهدي- فهو الوسط والعدل، وهو الخيِّر بشهادة القرآن الكريم وبشهادة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن اللعب بالألفاظ إطلاق كلمة المتطرف أو المتزمت أو غير ذلك من الألقاب التي يطلقونها بألسنتهم وأقلامهم على أهل الحق والإسلام، وأهل السنة والجماعة، وهذا تجن على الحقائق؛ لأن الخلاف بيننا وبينهم في تحديد الوسط، فممكن يأتي شخص ويعتبر أحد الطرفين هو الوسط، فإذا اعتبر ما هو عليه وسطاً فبلا شك بالنسبة إليه سيكون هو الوسط أو العدل، فالمتطرف: هو الذي يأخذ بأطراف الأمور، فكل من حاد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو المتطرف بشهادة القرآن؛ لأن القرآن يصف الأمة بهذه الصفة، فنحن الذين في الوسط، وكل من يخالفنا فهو المتطرف سواء كان على مستوى الأديان أو على مستوى الفرق داخل دائرة الإسلام، سواء أهل الشهوات أو أهل الشبهات، فبالنسبة لمن عدا أهل الإسلام فكل من ليس مسلماً فهو متطرف، وهم الآن يحاولون غسل أدمغة بعض الناس، يقولون: قام مجموعة من اليهود المتطرفين بفعل كذا وكذا، أو يقول لك: الأحزاب الدينية المتطرفة عند عصابة اليهود، لا، هذا تلفيق وجهل فاحش؛ لأنه لا يوجد شيء اسمه وسط والثاني متطرف، كل يهودي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل وثني بوذي مثلاً أو مجوسي متطرف، وهكذا كل من ليس مسلماً فهو خارج عن دائرة الاعتدال أصلاً، فهذا أحق الناس بوصف التطرف، فكل من يخرج من ملة ودائرة الإسلام فهو متطرف، وداخل دائرة الإسلام كل فرقة متطرفة ما عدا أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
جميع الفرق إما في غلو وإما في جفاء، أخذوا بالأطراف، فالخوارج -مثلاً- على أحد الطرفين من الغلو والجور والإفراط، فيكفرون أهل المعاصي، ويعتقدون بخلودهم في النار، وعلى الجهة المقابلة المرجئة، يقولون: الإيمان هو المعرفة ولا يزيد ولا ينقص ولا نفاق ولا يضر مع الإيمان شيء.
كذلك في مسألة القدر القدرية والجبرية على طرفي نقيض، وهكذا في عامة مسائل الدين مثل مسألة الموقف من الصحابة، نجد المبطلة الذين يعبدون الصحابة، ونجد الطرف الآخر الشيعة الذين يسبونهم وهكذا، فكل باب من الأبواب هو قابل للغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، ما عدا أهل السنة والجماعة، فهم أهل الاعتدال والتوسط والاتزان والخيرية.
ونخلص من ذلك أن أولى الناس بوصف التطرف هو الكافر، فأي كافر متطرف، ولا يوجد شيء اسمه: يهودي معتدل، ويهودي متطرف، ماذا يعني يهودي معتدل؟ كيف نقول: يهودي معتدل وهو يؤمن بأن محمداً عليه السلام افترى على الله الكذب، وأنه ادعى أن الله أوحى إليه؟ هل هذا ممكن أن يكون معتدلاً؟! هذا لا يمكن أن يوصف بالاعتدال، فكل كافر متطرف وخارج عن دائرة الإسلام والنجاة.
كذلك كل مسلم مبتدع متطرف؛ لأنه خارج عن دائرة أهل السنة والجماعة.
إذاً: كل من ليس مسلماً من أهل السنة والجماعة فهو متطرف، وما عدا ذلك فهو تلاعب بالألفاظ، فالمتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها حادت عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر المرأة بالحجاب، فهي انحرفت وخرقت أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت هدي بناته ونسائه والمؤمنات، فلذلك هي متطرفة لأنها متبرجة، وليس التي تستر نفسها تسمى متطرفة.
الذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأن هدي محمد عليه السلام خير الهدي، فهذي حيدة وانحراف عن هدية، ومخالفة لأمره.
وهكذا كل مخالف للشريعة فهو الأحق بوصف التطرف، وليس أهل الحق أهل السنة والجماعة، وأسلوب التلاعب بالألفاظ، وإلباس المعاني الصحيحة ثياباً منفرة من الألفاظ المبتدعة؛ أسلوب قديم قدم تاريخ البشرية، وإلى الآن أهل الباطل يحاولون أن يأتوا بالباطل، ويلبسونه ثياباً زاهية جميلة، ويأتون بالحق، ويحاولون أن يكسونه بالألفاظ المنفرة التي تنفر من هذا الحق، كما أشار إلى هذا التلاعب بالألفاظ أحد الشعراء بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تُعب قلت ذا قيء الزنابيرِ مدحاً وذماً وما فارقت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنفس العسل الشهي ممكن أن ينفر الناس منه فيقال: هذا القيء الذي تتقيؤه الزنابير! ويأتي آخر فيقول: لا، هذا جنى النحل الشهي الذي فيه دواء للناس وشفاء، والحقيقة واحدة، لكن يمكن أن ينفر عنها باستعمال هذه الألفاظ، وبلا شك أن أعداء الإسلام وأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بمصطلحاتهم المنفرة هذه، وقد نجحوا إلى حد كبير في إقامة الحواجز النفسية، وصد كثير من الناس عن دين الله وعن سبيل الله بسبب هذا الأسلوب الرخيص، وهذه الخصومة التي لا تعرف رائحة الشرف، فقد دأبوا على طعن المسلمين، والتنفير من الدين والمتدينين بوصف التطرف، وما فطن القوم أنهم إنما يريدون أن ينتهوا بهم إلى أن الإسلام نفسه هو التطرف كما صرحوا بذلك في آخر المراحل بعدما فات الأوان، وانطبع في قلوب الناس أن الإسلام هو التطرف، وأن الإسلام هو دين الإرهاب وفيه بذور الإرهاب إلى آخر هذه الأراجيف.(126/4)
ثناء هذه الأمة على الميت
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب ثناء الناس على الميت.
حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً -يعني: الصحابة- فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت، (وجبت) يعني: ثبتت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، يعني: لا يفهمن أحد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجبت) أنكم أنتم أوجبتم على الله هذا، فهذا لا يليق ولا يكون أبداً.
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فلا يجب على الله شيء، وإنما معنى (وجبت) أي: ثبتت له الجنة، فالأصل أنه لا يجب على الله شيء بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل.
وقال أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي: المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكي أن ذلك مخصوص بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف من بعدهم، والصواب أن ذلك خاص بالثقات والمتقين، فالعبرة بشهادة الثقات والمتقين سواء من الصحابة أو من أتى بعدهم ممن يتحلى بهذه الصفات.
ولـ أبي داود في هذه القصة: (إن بعضكم على بعض لشهيد) قال النووي: والظاهر أن الذي أثنوا عليه شراً كان من المنافقين؛ لما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم: (لم يصل على الذي أثنوا عليه شراً، وصلى على الآخر) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة قال: وثلاثة.
قلنا: واثنان، قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد).
يقول الداودي: والمعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، يعني: المعتبر شهادة أهل العلم والفضل والصدق لا الفسقة؛ لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ومن كان بينه وبين الميت عداوة؛ فإنه يثني عليه شراً، وشهادة العدو لا تقبل.
وفي هذا الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر.
وبعض الناس يتصور أنك لو جازفت بمدح الميت بأشياء لم تكن فيه فإن هذا ينفعه! ويستدلون بهذه الأحاديث، لا، العبرة بأن يكون الثناء على الميت موافقاً لما كان عليه في الواقع، وعلى الأقل في الظاهر، لا بشيء يجازف به الناس في مدح الميت كذباً وزوراً.
وعن أنس مرفوعاً: (ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون).
ومن الآيات التي لها تعلق بمنصب الشهادة على الناس قول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89] فبين عز وجل أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا صلى الله عليه وسلم شاهداً علينا، قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].(126/5)
هل النبي صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته بعد موته؟!
النبي صلى الله عليه وسلم يكون شاهداً على أمته يوم القيامة، وهل النبي صلى الله عليه وسلم الآن حي في قبره أم لا؟ هذه قضية مختلفة تماماً عن هذه، وقد روي حديث نصه: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم) وهذا الحديث يقول فيه الشيخ حامد الفقي رحمه الله تعالى: هذا حديث باطل سنداً ومتناً؛ إذ لم يروه إلا الديلمي عن أنس وابن سعد في الطبقات مرسلاً عن بكر بن عبد الله.
وروى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم) فهذا أيضاً ضعيف، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)، فهو صحيح، ولكن الكلام في تضعيف قوله: حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، والمحدثون لهم كثير من الكلام في تضعيف هذا الحديث وإثبات بطلانه، فإن الهيثمي قال في المجمع: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وهذا خطأ منه رحمه الله تعالى، فالحديث ضعيف بجميع طرقه.
وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه -كما في صحيح البخاري - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حديث: (فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب -وفي بعض الروايات: مثل الربابة- فقيل لي: ذاك منزلك، قلت: فدعاني أدخل منزلي، فقالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك).
وهذا الحديث مما يبين بطلان الحديث السابق؛ لأن النبي صلى عليه السلام إذا استكمل عمره فإنه ينتقل إلى منزله الذي أريه في هذا الحديث.
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيا الآن حياة برزخية، ينعم فيها أيما نعيم، وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة حق التبليغ، وجاهد بنفسه وماله حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والنبي صلى الله عليه وسلم لو أنه يطلع على ما عليه الأمة الآن من الإذلال والبدع والضلالات والشركيات والإعراض عن شرع الله عز وجل، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا شك أنه لو اطلع على ذلك لتنغص وتألم أشد التنغيص والألم، ولغلب عليه بمقتضى هذا الخبر الضعيف الحزن والأسف؛ نظراً لكثرة المعاصي والشرور، وقلة الطاعات والخيرات في أمته صلى الله عليه وسلم، خاصة في زمننا هذا، فلا شك أن هذا يتنافى مع وجوده في هذا النعيم؛ لأن الحزن والحسرة والنصب يتنافى مع النعيم والثواب.
والصحابة رضي الله عنهم قد حزنوا حزناً شديداً لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقف الموقف الذي تعرفونه، فكيف يكون موته خيراً لهم؟ ولو كان مماته خيراً لهم لما حزنوا على ذلك، فكيف يكون موته خيراً لهم وقد كان في حياته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، ويحسم أمرهم، ويقطع الله به أسباب الخلاف.
أيضاً قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، فهذه الآية تدل على أن المغفرة منوطة بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الذين حادوا الله ورسوله، وانحرفوا عن هديه، والله تعالى يقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] يعني: في الدنيا، وإن كان يعلم أنه هو نفسه عليه الصلاة والسلام في الجنة?! وقال صلى الله عليه وسلم لابنته ولذوي رحمه: (اعملوا فلن أغني عنكم من الله شيئاً)، والحديث السابق من شأنه أن يقوي ويدعم روح التواكل والتواني عند الغافلين المفرطين، الذين يحسبون أنهم قد ضمنوا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إن أشد الناس انغماساً في البدع والضلالات يستعملون عبارة شائعة خاصة عند الصوفية الذين يقولون: (يا بختنا بالنبي) ويقولون: نحن نغبط أنفسنا على أننا منتمون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهم مغترون؛ لأنهم على بدع وضلالات وانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمثال هؤلاء المبتدعة أو المنحرفين إذا أتوا يوم القيامة بأوزارهم يقولون: يا رسول الله! اشفع لنا.
فيقول لهم جميعاً: (قد بلغت لا أملك لكم من الله شيئاً)، وهذا لا يتعارض مع ما ذكرناه بالنسبة للشفاعة؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن ارتضاه الله، ولا تكون أيضاً إلا بإذن من الله سبحانه وتعالى، فالأمر في الحقيقة كله لله.
ومن أقوى الوجوه الذي يبطل بها هذا الحديث ما رواه الشيخان بسنديهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) يعني: أنا الذي أتقدمكم وأسبقكم إلى الحوض، قال: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم)، أي: من الحوض؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يتصدر الحوض ويسقي ويعطي المسلمين المتبعين له، يقول: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني) (اختلجوا دوني) يعني: أبعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أي رب! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!) لا شك أن هذا نص واضح جداً يبطل الحديث الأول؛ لأنه إذا صح قوله: (تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت) إلى آخره؛ فإنه يكون كان عالماً بما حصل من بعده، لكن هذا الحديث المتفق عليه دليل واضح وصريح بأنه لا يدري ما أحدثوا بعده، ففيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:117 - 118] قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم).
وهذا الحديث واضح الدلالة جداً على هذه المسألة؛ لأن فيه: (وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي -يعني: يقول ذلك على حسب علمه بهم- فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فيستشهد النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقول المسيح عليه السلام: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] أي: حاضراً معهم ومشاهداً لأفعالهم ما دمت فيهم، فقوله: (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) (ما) معناها وقت دوامه فيهم، ((وكنت عليهم شهيداً)) وقت دوامي وبقائي فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فخصص الرقابة والشهادة بعد وفاته لله سبحانه وتعالى ((وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقباهم).
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال) يعني: إلى جهة النار.
وفي البخاري: (فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم -يعني: تعالوا- فقلت: إلى أين؟! قال: إلى النار).
وفي حديث سهل: (ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم يوم القيامة).
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصيحابي) بالتصغير هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره: أي: هؤلاء أصيحابي.
ولـ أحمد والطبراني من حديث أبي بكرة مرفوعاً: (ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني) وهذا سنده حسن كما قال الحافظ.
وقال الحافظ أيضاً: قال الفربري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر.
فالمقصودون بهذا الحديث هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقاتلهم أبو بكر فقتلوا أو ماتوا على الكفر، قال الخطابي رحمه الله تعالى: لم يرتد من الصحابة أحد، يعني: الذين ارتدوا ليسوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين؛ وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (أصيحابي) بالتصغير؛ لأن التصغير هنا يد(126/6)
التحذير من الغلو في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه تحذيراً شديداً، وكثير من الناس الذين يسلمون برسالته مع بشريته، تبقى عندهم نقطة ضعف يريدون دائماً أن يرفعوا صفة البشرية عنه، فيقولون: هو خلق من نور، إلى آخره.
ويقولون: أنتم تقولون: حدثنا فلان عن فلان عن فلان.
فأين فلان؟ قلتم: مات، فكلامكم كله ميت عن ميت، أما كلامنا نحن فنأخذه مباشرة عن الحي الذي لا يموت! فعندهم الكثير من الضلالات والانحرافات لأنهم يزدرون العلماء.
الله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يعني: الموت، فلم يجعل الله لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، أما هم فقد خالفوا الآية وجعلوا لها أجلاً وهو الوصول إلى بعض هذه المقامات! وهم يزعمون أنهم بغلوهم في الرسول صلى الله عليه وسلم وبمدحه أنه أول خلق الله، وأنه نور عرش الله! وأنه كذا وكذا من هذه الفضائل المزعومة التي يخترعونها؛ أنهم بذلك يرفعون قدر النبي صلى الله عليه وسلم! من أراد أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فليمدحه بما مدحه به ربه، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي علمنا بقوله: (من تواضع لله رفعه الله) فإذا أردت أن تمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فامدحه في دعوته واجتهاده إلى أقصى مدى في العبودية لله سبحانه وتعالى، التي معناها: غاية الحب مع غاية الذل والانقياد والقبول، فيمدح الرسول عليه السلام بالعبودية لله عز وجل، ولا يصح أن ننفي عنه صفة العبودية، ونرفعه إلى رتبة الألوهية كي نمدحه أو نشرفه، فالذي يشرفه هو أن تمدحه بالعبودية، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تواضع لله رفعه الله) هذا منطوق الحديث، ومفهوم الحديث دلت عليه آية في سورة الأعراف: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:13] اهبط لأنك تكبرت، فالذي يتكبر يضعه ويذله الله، ويهينه الله، أما الذي يتواضع فإن الله يرفعه، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد رفع على جميع العالمين فما رفع إلا لأنه بلغ أعلى مقامات الذل والحب لله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يمدحه بالعبودية في أشرف المقامات: ففي مقام الدعوة يقول: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، وفي مقام الإسراء يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] إلى آخره، وفي مقام التحدي يقول تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].
إذاً: عبودية الرسول عليه الصلاة والسلام شرف ورفعة له، فسبب هذا المقام العظيم الذي تبوءه عند الله أنه وصل إلى مقام لا يبلغه غيره في الخضوع والتذلل والانقياد لشرع الله سبحانه وتعالى.
وما هذا الذي يمارسه الصوفية وأشياعهم من الغلو في شخص رسول الله عليه السلام والمبالغة في تصور محاسنه: يا أحمر الخدين! يا أكحل العينين! إلا حيدة ومحاولة للتعويض عن التقصير في الانقياد والاتباع، والحب الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى لما رأى الناس كلهم يدعون محبة رسوله صلى الله عليه وسلم امتحنهم امتحاناً فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]؛ لأنه ليس الشأن في أن تحب أنت الله سبحانه وتعالى؛ لأنه شيء لازم أن تحب الله لاتصافه بصفات الكمال والجمال والجلال، ولما أسدى إليك من النعم، فبالضرورة أنك تحبه، لكن الشأن في أن يحبك الله ويكافئك على اتباع رسوله، فهذا هو الشأن، وهذا هو الشيء العظيم أن يحبك الله، لكن هناك علامة على هذه المحبة قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فالاتباع هو علامة المحبة الحقيقية، وليس بالتغزل في صورة النبي عليه السلام كما يفعل هؤلاء الناس، ليس الموضوع مجرد عاطفة غير رشيدة، وإنما بالاتزان والوسطية والاعتدال، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فحينما تصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية ليس هذا انتقاصاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما أشرف ما يمدح به رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تصفه بالعبودية لله، لا تشرك به مع الله، وكما نجد للأسف اليمين المصرية الشائعة في كل البلاد المصرية (والنبي)! فكلمة (والنبي) هذه قد نهانا عنها النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، أما أنك تحلف بالنبي، وبعض الناس يبلغ في الغلو أنه إذا أراد أن يقوم يقول: يا رسول الله! يطلب المدد من الرسول عليه السلام! هل يفرح بك رسول الله إذا علم أنك تستغيث به من دون الله، وتطلب منه المدد دون الله سبحانه وتعالى؟! فبعضهم يقوم وجسمه ضعيف مثلاً أو ثقيل فيقول: يا رسول الله! ويظن أنه هكذا يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام! الرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من هذا الفعل؛ لأن هذا شرك، فلا يطلب الإنسان المدد من غير الله سبحانه وتعالى، كذلك الحلف شرك كأن يقول: ورسول الله كذا وكذا ويظن أنه معظم لرسول الله، كل هذه السلوكيات انحراف عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فرسول الله عليه الصلاة والسلام لما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت.
غضب، هذا ليس احتراماً للرسول، بل هذا خدش للرسالة التي جاء بها في التوحيد، لما قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، والأحاديث في ذلك كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يرد الناس إلى الصواب، فيجب مدحه بالعبودية لله، ومن أراد أن يعبر عن حب النبي عليه السلام فليتبعه في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين أن يختار الحاج إذا أراد رمي الجمرات الحصيات الكبيرة، وأمر أن تكون الحصى مثل حصى الخذف يعني: ما بين حبة الحمص وحبة الفول، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: هات! القط لي -يعني الجمرات- قال: فلقطت له نحو حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: مثل هؤلاء! (ثلاث مرات) وإياكم والغلو في الدين! فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) وهذا الذي حذرنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم نحن نشاهده الآن في منى، فبعض الناس يأتي بالأحذية ويضرب بها الشيطان! ونرى الحجارة الكبيرة وغيرها من الأشياء ملقاة في الجمرات، وتسمع الشتائم التي تلقى، فتأتي المرأة وتشتم الشيطان وتقول له: أنت الذي تحرض علي زوجي، وأنت الذي تفعل كذا وكأنها ترى الشيطان، ونفس هؤلاء الناس هم الذين يرجعون إلى التلفاز والفيديو، وقد تعود النساء متبرجات كما كن في سيرتهن الأولى ولم يغير الحج من أخلاقهن شيئاً! والرسول عليه الصلاة والسلام جعل رمي الجمار مسألة رمزية، الغرض منها نبذ الشيطان ومحاربته، وليست حقيقة يراد بها قتله وإماتته، فعلى المسلم تحقيق الأمر، ومنابذة الشيطان عدو الإنسان اللدود بالعداء ليس غير.(126/7)
صاحب البردة وغلوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم
الغلو في الدين والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم أمر وقع المسلمون فيه مع الأسف، واتبعوا سنن أهل الكتاب، فقال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم هذا كلام البوصيري في قصيدته المشهورة المشحونة ببعض الشركيات الشنيعة، فهو يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فهل يرضى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجل من أمته ويقول له: مالي من ألوذ به سواك؟! هل أنت تقرأ: قل أعوذ برسول الله! من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، أم تتعوذ بالله وحده؟! فهذا يتعوذ بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: لا يوجد أحد غيره أعوذ به.
فالرسول عليه الصلاة السلام لا يرضى بأقل من هذا، فكيف بهذا الضلال المبين؟! ويقول أيضاً: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم يعني: لولا الرسول عليه الصلاة والسلام لم تخلق الدنيا، فكأن الآية عندهم: وما خلقت الجن والإنس إلا من أجل محمد عليه الصلاة والسلام! ما هذا الغلو؟! {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أيضاً يقول البوصيري: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم يعني: من جود الرسول عليه الصلاة والسلام الدنيا وضرتها التي هي الآخرة، فهما من كرمه وجوده! وعلم اللوح والقلم من علومه! وأيضاً يقول البوصيري معتمداً على فهم مغلوط لهذا الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله): دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم ففهم أن الحديث ينهى عن أن نقول: محمد ابن الله أو ثالث ثلاثة، فيقول: دع هذه، وقل بعد ذلك ما شئت، وامدحه بأي شيء، ففهم الحديث فهماً عجيباً جداً، فكان المفهوم عنده: اطروني بما شئتم ما عدا قولكم: محمد ثالث ثلاثة أو محمد ابن الله ونحو ذلك، وهذا الشاعر يعظمه كثير من المسلمين، وقصيدة البردة للأسف الشديد أعرف من يحفظها ولا يحفظ شيئاً من القرآن، وهذه لها وضع مميز عند الصوفية، وكأنها شيء من الوحي، فهم يحفظونها ويهتمون بها اهتماماً شديداً جداً، ويتبركون بها، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم، ويعدون ذلك قربة إلى الله عز وجل، ودليلاً على محبتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث منصباً على الادعاء بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ابن الله، فنهى عن هذه المقولة، ودعا إلى قول أي شيء آخر مهما كان، ولا شك أن هذا غلط بالغ، وضلال مبين؛ ذلك لأن الإطراء المنهي عنه في الحديث له معنيان اثنان: الأول: (لا تطروني) هذا نهي عن مطلق المدح، يعني: لا تمدحوني أبداً؛ لأنكم لن تقووا على مدحي بأعظم مما مدحني به الله عز وجل، من أني رسول الله، وأني على خلق عظيم وغير ذلك مما امتدحه الله سبحانه وتعالى به.
الاحتمال الثاني: النهي عن مجاوزة الحق في المدح، والمراد المدح بالصور الموجودة الآن، فهي صناعة لم تكن معروفة عند السلف؛ لأن السلف رحمهم الله كانوا مشغولين بالاجتهاد في اتباع رسول الله عليه السلام، وإحياء سنته، وتجديد دينه، ولم يشتغلوا كما اشتغل هؤلاء بهذه المدائح.
إذاً: يمكن أن يكون المراد من الحديث النهي عن مدحه صلى الله عليه وسلم مطلقاً من باب سد الذريعة، واكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبياً ورسولاً وحبيباً وخليلاً، وبما أثنى سبحانه وتعالى عليه في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا؟! وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه؟! وإن أعظم مدح له صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، فهذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم.
والصوفية يغضبون جداً إلا لم تقل: (سيدنا رسول الله)، ويعتقدون أنك مقصر، والمفروض عندهم أن تقول: سيدنا محمد! فنقول: هل قول القائل: (سيدنا محمد) مثل قوله: (محمد رسول الله أو نبي الله؟ فـ (سيد) تطلق على أناس من البشر، لكن رسول الله لا تطلق إلا على من اصطفاه الله لذلك؛ لكن بعضهم يتشبث بها، ويرى أن من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولها حتى داخل الصلاة، ونسمع بعض العوام في الصلاة يقول: اللهم صل على سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم إلى آخره، فنقول لهذا: هل ينفع أن تقرأ القرآن وتقول مثلاً: (وآمنوا بما نزل على سيدنا محمد)؟ الله يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، فهل يجعلها: (وما سيدنا محمد إلا رسول)؟ بلا شك الرسول صلى الله عليه وسلم له هذه السيادة على البشر أجمعين؛ لأنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لا شك في ذلك، فنحن لا نتشدد كثيراً في ذلك، لكن الأذكار المأثورة ينبغي أن نحافظ عليها، ولكنهم يعتبرون التنازل عن هذا تنازل عن تشريف كبير جداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما التشريف للرسول عليه الصلاة والسلام أن تمدحه بالرسالة فتقول: (رسول الله) عليه الصلاة والسلام، و (نبي الله)، فأعظم مدح للرسول عليه السلام أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، هذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم، وليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى وهو في أعلى درجات وأرفع تكريم من الله تعالى له بصفة العبودية، فقال في المعراج والإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] وأيضاً قال ذلك في مقام التحدي ومقام الدعوة كما سبق ذكره.
ويمكن أن يكون المراد من الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، وعلى هذا يفتح الباب في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا تبالغوا في مدحي فتصفوني بأكثر مما أستحقه من بعض خصائص الله تبارك وتعالى، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، وهو أن هذا نهي عن مطلق المدح الخارج عما مدحه الله سبحانه وتعالى، بدليل تمام الحديث: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، يعني: اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من جعلي عبداً له ورسولاً صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام الترمذي ذكر هذا الحديث تحت ترجمة باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق، وهذا هو الذي ينسجم مع معنى التواضع، وعن أنس قال: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم) رواه مسلم، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآخر: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)؛ لأنه بلا شك حتى في هذه الجزئيات قد قطع الوحي، وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء على الإطلاق، وأنه خير الأنبياء وسيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(126/8)
تفسير سورة الفتح [8 - 10](127/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8].
قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) التبشير: هو الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، والبشرة هي ظاهر الجلد؛ لأنها تتغير بأول خبر يرد عليها، والغالب أنه يستعمل في السرور مقيداً للخير المبشر به، وغير مقيد أيضاً، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيداً منصوصاً على الشر المبشر به، ففي الخير إما أن يأتي مقيداً وإما أن يأتي بدون قيد، لكن التبشير بالغم والشر لا يأتي إلا مقيداً بالشر المنصوص عليه، كما قال سبحانه وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] َ.
يقال: بشرته، وبشرته بشارة، وبشر يبشر إذا فرح.
والبَشارة بفتح الباء، والبُشرى: ما يعطاه المبشر، وتباشير الشيء أوله، قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، والبشارة هي: الخبر بما يسر، وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء كما ذكرنا قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7]، ومنه قول الشاعر: وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر وقال الآخر: يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير إذاً: البِشارة، أو البَشارة قد تطلق على الإخبار بما يسوء، وهذا الأسلوب من أساليب اللغة العربية.
قوله: ((وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) الإنذار: هو الإبلاغ والإعلان، ولا يكاد يستعمل إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز والاحتياط عن هذا الشيء الذي يأتيك الإنذار به، فإن لم يتسع زمنه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً، قال الشاعر: أنذرت عمراً وهو في مهل قبل الصباح فقد عصى أمر ويقال: تناذر بنو فلان هذا الأمر، إذا خوف بعضهم بعضاً.
قال الله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، يعني: بعد هذا الإنذار، ولم يبين هنا هذه الحجة التي كادت تكون للناس عليه، وبين هذه الحجة في قوله سبحانه وتعالى في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، وقال عز وجل: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2].
فالمقصود: أن من وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار، وقوله في هذه الآية: ((لِتُنذِرَ بِهِ))، هذا الفعل يتعدى إلى مفعولين اثنين، وإن كان المفعولان لم يذكرا، والتقدير: لتنذر به الكافرين عذاباً أليماً.
وهذا الإنذار بينه الله في قوله عز وجل: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وقال أيضاً: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6]، وهذا بيان للمفعول الأول المحذوف.
أما المفعول الثاني فبينه قوله تعالى: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14] وقوله: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ:40]، ونحوها من الآيات.
وقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى فقال: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2] فيفهم من هذا أن الإنذار هنا للكفار: ((لِتُنذِرَ بِهِ)) يعني: الكفار، فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وهنا في آية الفتح قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فهذا أيضاً يشير إلى قوله: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2].
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]؛ لكن جاءت آيات فيها قصر الإنذار على المؤمنين والكافرين، وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه، يعني: إن كانت الآيات السابقة استعملت لفظ الذكرى أو التذكير في حق المؤمنين والإنذار للكافرين؛ لكن لا ينافي أن يكون الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في آيات أخرى كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه كالعدم، يعني: الكافر إذا أنذر ولم ينتفع بالإنذار فكأنه لم ينذر.
إذاً: خلاصة الكلام أن الإنذار يطلق في القرآن على إطلاقين: الأول: إنذار عام لجميع الناس، كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، وقال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، للعالمين مؤمنين وكافرين، فهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: ((إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ))؛ لأن المؤمنين هم المنتفعون بهذا الإنذار دون غيرهم.
الثاني: إنذار خاص بالكافرين؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله تعالى: ((لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا))، وقال في آية الأعراف: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]، والإنذار في لغة العرب: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.(127/2)
تفسير قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه)
قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9]، بعض القراء قرأ: (ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقره ويسبحوه بكرة وأصيلاً).
قال الألوسي رحمه الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، كقوله سبحانه: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، كذلك هذه الآية الخطاب بدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) فالخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم دخل فيه المؤمنون بقوله: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إلى آخره، تماماً كقوله عز وجل: ((يا أيها النَّبِيُّ))، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فهذا من باب التغليب، غلب فيه المخاطب على الغيب، ونظيره قوله سبحانه وتعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، ثم قال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22]، وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22].
إذاً: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، والمعنى: له وللمؤمنين، قال القرطبي: وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: ((يا أيها النَّبِيُّ))، فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له، قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فاللفظ والمعنى هنا يقصد به النبي وحده، فلذلك ينص على لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا أراد الخطاب بالمؤمنين قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى آخره.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بلا شك بالإيمان بالرسالة كقوله تعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)) يعني: يا أيها النبي! أو يا أيها الرسول! ((شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) (لِتُؤْمِنُوا) أي: أنت -أيها النبي- مكلف بهذا الإيمان، وكذلك المؤمنون مكلفون به، فهو مخاطب بالإيمان بالرسالة كالأمة.
وقيل: الخطاب في (أَرْسَلْنَاكَ) للنبي عليه الصلاة والسلام، وفي (لِتُؤْمِنُوا) لأمته صلى الله عليه وآله وسلم.(127/3)
معنى التعزير في قوله: (وتعزروه)
قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) التعزير هو: النصرة مع التعظيم، قال تبارك وتعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة:12].
والتعزير: ضرب دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما، لكن الأول نصره بقمع ما يضره عنه، والثاني: نصره بقمعه عما يبغضه، والتأديب الذي هو النصرة مع التعظيم هو المطلوب في حق النبي وكل الأنبياء، فهي نصره بقمع ما يضره عنه، أما التعزير الذي هو دون الحد فهو: نصره بقمعه عما يضره من المعاصي التي يرتكبها وسيعزر من أجلها، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته، وفي الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم)، فهذه نصرة المؤمن.
قال ابن كثير: (وَتُعَزِّرُوهُ)، قال ابن عباس وغير واحد: تعظموه.
وقال القرطبي: (وَتُعَزِّرُوهُ) أي: تعظموه وتفخموه.
والتعزير: التعظيم والتوقير، وقال قتادة: تنصروه وتمنعوه ومنه التعزير في الحد؛ لأنه مانع.
قال القطامي: ألا بترت ميٌ بغير سفاهة تعاتب والمولود ينفعه العذر وقال ابن عباس وعكرمة: (وَتُعَزِّرُوهُ) تقاتلون معه بالسيف، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه، وقال الألوسي: وتعزروه أي: تنصروه، كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعاً، وأخرجه جماعة عن قتادة.
والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ)، إما أن المقصود تعزروا الله سبحانه وتعالى، أو تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تنصروه مع تعظيمه، وهذا هو الأقرب.(127/4)
معنى التوقير في قوله: (وتوقروه)
قوله تعالى: (وَتُوَقِّرُوهُ)، هذا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فلا جدال أنها في حق الله سبحانه وتعالى.
والوقار: هو السكون والحلم، قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، الرجاء هنا بمعنى: الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم للعقوبة؟ وعن مجاهد والضحاك قالا: ما لكم لا تبالون لله عظمة؟ وقيل: الوقار، الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي: اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؟! وقال ابن كثير: (ويوقروه) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام.
وقال القرطبي: (وتوقروه) أي تتوجوه، وقيل: تعظموه، والتوقير التعظيم، ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ))، الهاء هنا عائدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: تسبحوا الله بكرة وأصيلاً أي: عشياً.
قول آخر: إن الضمائر كلها لله تبارك وتعالى، فيكون معنى: ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)) أي: تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك، واختار هذا القول القشيري.
وبعض المفسرين قال: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) يعني: تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية.
وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في (تعزروه) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى، كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ) لله عز وجل.
فعلى أي الأحوال هناك خلاف بين المفسرين في هذه الضمائر إلى من تعود، وفي هذين الفعلين بالذات: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) فمن قائل: إنها للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن قائل: إنها لله عز وجل.(127/5)
معنى التسبيح في قوله: (وتسبحوه)
قوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) السبح: هو المرور السريع في الماء، يقال: سبح سبحاً وسباحة، وأطلق على مر النجوم في الفلك، نحو قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، وأطلق أيضاً على جري الفرس، فجري الفرس يطلق عليه سباحة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:3]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7].
والتسبيح: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله: المر السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير، كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله، وجعل التسبيح عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143]، والمقصود بالتسبيح هنا: الصلاة، يعني: أنه كان من المصلين، ويستعمل التسبيح بمعنى التنفل، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعلكم ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها الذي تعرفون، ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة)، وهذا حديث صحيح.
(فصلوا معهم) يعني: صلوا الفرائض أولاً لوقتها، ثم إذا خرج هؤلاء الأمراء الذين يؤخرون الصلاة فصلوها معهم سبحة يعني: انووا بها النافلة، فصلاة النافلة يطلق عليها تسبيح، وكما في حديث رواه مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه في الحج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) والحديث رواه مسلم عن حفص بن عاصم قال: (صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في طريق مكة فصلى بنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى - أي: نحو جهة المكان الذي صلى فيه- فرأى ناساً قياماً صلوا معه، فقال: ما يصنع هؤلاء؟! قلت: يسبحون، قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) أي: لو أني كنت أزيد فسأزيد في الفريضة، فهو أفضل، ثم قال: (يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]).
إذاً: الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المسافر يصلي الفريضة فقط، وله أنه يصلي ركعتي الفجر والوتر، ويمكن أن يصلي صلاة الضحى إلى ثمان ركعات.
ومن الأجوبة الحسنة للعلامة ابن عثيمين حفظه الله تعالى أنه أتاه في من -وكنت في هذا المجلس- رجل كأنه بدوي ثائراً هائجاً مائجاً يصيح ويهاجم الإخوة، فأخذ الشيخ يتلطف معه وقال له: ما لك؟ أو ما الذي أغضبك؟ فقال: تنفلت في السفر وإذا بهم ينهونني عن الصلاة وعن التنفل؟! فقال له: من قال لك: لا تتنفل؟ لك أن تصلي الوتر من ركعة إلى إحدى عشرة ركعة، فالوتر أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، كلها تكون وتراً، وقال له: لك أن تصلي الضحى من ركعتين إلى ثمان، وتصلي ركعتي الفجر.
والحقيقة أن الشيخ ما خالف المذهب الراجح، وهو أنه لا يتنفل في السفر إلا ما ذكرنا؛ لكنه أقنعه بالعدد الكبير الذي هو أقصى ما يمكن أن يتنفل به، وهذا الجواب من محاسن الأجوبة.
وروى مسلم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة -يسبح يعني: يتنفل- قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)، فيمكن للإنسان في السفر أن يتنفل وهو راكب الراحلة، سواء كانت جملاً أو سيارة أو طائرة أو قطاراً، فيمكن أن يتنفل، إذ الأمر في النافلة أسهل من الفريضة.
إذاً: قلنا: السبح في اللغة: المر السريع في الماء، مثل السباحة، ويطلق على مر النجوم في السماء، كما قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، ويطلق على جري الفرس: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:3]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7]، ويطلق على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، ويكون في هذه الحالة كأنه المر السريع أيضاً في عبادة الله تعالى، المر السريع يفهم منه: المسارعة إلى الطاعات والمنافسة فيها، والاجتهاد فيها، وليس المقصود بالمر السريع أن يدرك الصلاة بسرعة ويصلي صلاة ليس فيها خشوع، لا، المقصود: الإسراع إلى عبادة الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133].
وقلنا: إنه يطلق على العبادات قولاً أو فعلاً أو نية: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143] يعني: المصلين، وأشرنا على أنها تطلق على النوافل كذلك.
ويقول تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44]، ولا شك أن هذا -والله تعالى أعلم- تسبيح على الحقيقة، من غير أن نفقهه، خلافاً لمن زعم أن التسبيح يراد به أن من رآه قال: سبحان الله، لا، بل هو تسبيح على الحقيقة؛ لكننا لا نفهم هذا التسبيح، ودليله قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]، فلو كان معنى (التسبيح) أنه من رآها قال: سبحان من خلقك مثلاً؛ لما كان بالعشي والإشراق، لكن المعنى أن الجبال كانت تحافظ مع داود على أذكار الصباح والمساء ((بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)) وكانت تنطق وترفع صوتها بذكر الله سبحانه وتعالى، فهذه آية من آيات الله عز وجل لداود عليه السلام.
وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44]، و (سبحان) مصدر، مثل غفران، قال الله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17]، وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32].
قال القرطبي: في قوله تعالى: (وتسبحوه) وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح، فمعنى قوله: (سبحان الله) يعني: أنزه الله عن كل قبيح، وأنفي عنه كل نقص، وكثيراً ما يقترن التسبيح بالتحميد؛ لأنه إذا كان التسبيح تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقص، فإن الحمد هو إثبات كل كمال له، فهو المستحق للمدح والثناء جل جلاله؛ فلذلك كثيراً ما يقترن التسبيح بالحمد كقولك: سبحان الله وبحمده.
الوجه الثاني في قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ) هو فعل الصلاة التي فيها تسبيح، (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأجلس في أفيائه للأصائل جمع أصيل.
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42] أي: أشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير.
قال مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب، كل هؤلاء يجوز لهم أن يسبحوا الله سبحانه وتعالى، ويذكروه بهذه الأذكار: لا إله إلا الله، الحمد لله، والله أكبر، سبحان الله وهكذا.
وقيل: (وسبحوه) يعني: ادعوه، قال جرير: فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفاً دعا ربه فاختاره حين سبحا يعني: حين دعاه.
وقيل المراد: صلوا لله بكرة وأصيلاً، والصلاة: تسمى تسبيحاً، (وَالآصَالِ) العشايا كما ذكرنا، قال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، والآصال: هي العشيات.
قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، والمراد: ظاهرهما، يعني: الأمر بالتسبيح في هذين الوقتين بالذات لما لهما من الفضيلة؛ لأنهما أشرف أوقات الذكر في النهار كله، وقت الغدو والعشي.
قول آخر: المراد بقوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) جميع النهار؛ لأنه يكنى عن جميع الشيء بطرفيه، كما تقول: جزت المدينة شرقاً وغرباً، لا تقصد أنك فقط أتيت إلى الطرف الشرقي والطرف الغربي؛ لكن أردت أن تقول كلها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر.
وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، فالأمر بذكر الله سبحانه وتعالى بين كيفيته في آيات أخر، كما في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمر(127/6)
العبادة التي أمر الله بها في كل الأوقات
كل عبادة ربطت بوقت، فالصلاة كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، حتى النافلة نمنع عنها في أوقات الكراهة، والحج له وقت، والصيام له وقت، حتى الصيام توجد أيام يحرم علينا أن نصومها، وهكذا كل عبادة لها وقت محدود، أما الذكر فهو العبادة الوحيدة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في كل الأوقات والأحوال والأحيان قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، فمعناها: فاذكروا الله في كل أحوالكم؛ لأن الإنسان إما قائم، وإما قاعد، وإما مضطجع، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً).
فاذكر هذا يعم جميع أحوال الإنسان، وقد أمر الله بالإكثار من الذكر بقدر المستطاع كما قال الله: ((اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا))، قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] وهكذا.
فالذكر والفكر ينبغي أن يكونا في جميع الأوقات أو أكثرها؛ لأن النفس إذا تركت إلى طبعها فإنها بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا، فإن صرف العبد شطر أوقاته في تدبير الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً، والشطر الآخر إلى العبادات، فإن الطبع يرجح جانب الميل إلى الدنيا؛ لأن هذا يوافق الطبع والهوى، فإذا كان الوقت متساوياً، للدنيا نصف الوقت، وللدين أو ذكر الله النصف الآخر، فيأتي الهوى ويرجح خدمة الدنيا، فإذا كان الوقت متساوياً فأنى يتقاومان والطبع يرجح أحدهما؟! إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا، ويصفو في طلبها القلب ويتجرد، فهذه كلها ترجح جانب الميل، ونحن قلنا: إن الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر، فالنصف الذي للدنيا هو الذي سيغلب؛ لأن الطبع يميل للدنيا، وظاهر الإنسان وباطنه يتعاونان معاً في تحصيل أمور الدنيا، والقلب إذا طلب أمور الدنيا يصفو بطلبها ويتجرد لها، أما رد النفس إلى العبادات والذكر فلا يكون إلا بتكلف ومجاهدة، ولا يسلم إخلاص القلب فيه وحضوره إلا في بعض الأوقات، حتى الصلاة نفسها التي هي من النصف الآخر الديني، فكم من الناس من يدخل في الصلاة الدنيا، ويسبح في أودية الدنيا داخل الصلاة! حتى إن بعض الناس -وهذا من تلبيس إبليس- تتراكم عليه كل مشاكل الدنيا إذا دخل في الصلاة، من بداية تكبيرة الإحرام ولا تنتهي إلا مع التسليم، فهذا مما يدل على أن هذه وظيفة متخصصة للشيطان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوجد شيطان متخصص للوسوسة في الصلاة، فإذا دخلت في الصلاة يظل يذكرك بكل شيء نسيته، حتى تنصرف عن التفكر والتدبر في ذكر الله سبحانه وتعالى، والخشوع في الصلاة، فهذا واضح جداً أن هذا من الشيطان؛ أولاً: لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: لأنه مجرد ما تسلم تنتهي المشاكل كلها، فلماذا الوسوسة في الصلاة بالذات؟! إذاً: هذا من كيد الشيطان للإنسان، فحتى العبادات لا تخلو من الوسوسة.
بالمناسبة أذكر أحد الإخوة من الأطباء الكبار في الأمراض النفسية يعمل في المدينة، فكان يتكلم على أن من ضمن أساليب العلاج الخاص بالناس الذين يعانون الوسوسة: أن يربط كل ركعة بشيء معين، فمثلاً نقول له: الركعة الأولى تربطها بحاجة، الركعة الثانية تربطها بشيء، بحيث تذكر الجلسة فلا تسهو في الصلاة، فالمهم يقول: كنت في أحد المساجد في المدينة النبوية الطيبة، فالناس صلوا العشاء أو غيرها من الصلوات الرباعية فاختلفوا مع الإمام، هل صلى أربعاً أو صلى خمساً، بعدما انصرفوا من الصلاة اختلفوا، فأحد المصلين حلف أنهم صلوا أربعاً، قالوا له: كيف عرفت؟ قال: لأن عندي أربعة دكاكين، وأراجع حساب كل دكان في ركعة، فأنا راجعت حساب الدكاكين الأربعة في الصلاة! فهو مخصص كل ركعة في محل من أجل أن يراجع الحسابات، والله المستعان! فالشاهد: أن الإنسان عندما يطلب الدنيا قلبه يصفو لها تماماً، وعندما يطلب الآخرة تعتدي الدنيا عليه حتى في الوقت المخصص للآخرة، هذا إذا سلمت من الآفات كالرياء والبدعة وغير ذلك من الشوارد، فإذا قسمنا الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر فإنه سيتغلب جانب الدنيا؛ لأن الهوى والطبع وشح الأنفس يجلب الإنسان دائماً إلى الدنيا، فالكفة ستأتي من ناحية الدنيا.
أما العبادات فالإنسان لا يستقيم عليها إلا بتكلف ومجاهدة، وحتى إخلاص القلب لا يسلم إلا في بعض الأوقات دون البعض، فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته، فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته.
نحن لا نقول: يضيع واجباته الدنيوية؛ لكن نقول: الذكر عبادة يمكن أن تستصحب في كل الأحوال، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) أي: في كل الأحوال، فالمؤمن يذكر الله حتى وهو يشتغل شغلاً ميكانيكياً بآلة أو بيده، فما أسهل أن يشتغل لسانه بذكر الله، حتى إن عجز عن لسانه كما يكون مثلاً في حالة الخلاء فإنه يشتغل بالذكر بقلبه، كان جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا دخل الخلاء جعل الكتاب في يد أحد أبنائه، ويقول له: قف عند الباب واقرأ بصوت عال، حتى يغتنم الوقت الذي يقضيه في الخلاء في الاستفادة، فهو يمتنع من القراءة؛ لكن حفيده يقف عند الباب ويقرأ عليه بصوت عال! إذاً: لا بد أن يترجح وقت الذكر على أوقات الدنيا، حتى الإنسان إن كان مشتغلاً في الدنيا فهو يستطيع أن يشغل لسانه دائماً بذكر الله سبحانه وتعالى، وهو يمشي في الطريق، وهو يركب المواصلات؛ حتى يترجح جانب الدين على الدنيا.
والدنيا هي سعي في طلب الرزق، والرزق مضمون؛ لكن الآخرة غير مضمونة، الجنة غير مضمونة، أما الزرق فالله سبحانه وتعالى قال فيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه، لأدركه رزقه كما يدركه أجله) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالرزق مضمون تماماً، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها).
فالرزق مكتوب ومضمون، ولا يمكن أبداً أن ينقص رزقك شيئاً، فنحن نشتغل بالمضمون عن غير المضمون، فالله قال في الآخرة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41]، فنحن نجتهد بما هو مضمون عما ليس بمضمون، فمن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته؛ فليستوعب في طاعة الله أكثر أوقاته، فإن لم تكن من أهل البصيرة فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، واقتبسه بنور الإيمان، فقد قال تعالى لأقرب عباده إليه، وأرفعهم درجة لديه: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:7 - 8]، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26].
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40].
وقال عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49].
وقال تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130].
وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
ثم انظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفائزين من عباده، وبماذا وصفهم؟! قال عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، وقال عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
وقال سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] يعني: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون.
وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52].
إذاً: الطريق إلى الله سبحانه وتعالى هو مراقبة الأوقات، وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام، فالذكر المقصود منه تغيير الصفات وترقيق القلب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل)، وهذا التأثير لا يتأتى بأن يأتي الإنسان بذكر ثم ينقطع، ولا يحدث تأثيراً في القلب إلا بالمدوامة ولو بالقليل؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى أدومه وإن قل)، فالذكر القليل مع الدوام يؤثر، وعند الان(127/7)
من فضائل الذكر
القلب لا يحصل التأثير فيه إلا بالمداومة على الذكر، فعمل قليل تداوم عليه أفضل من عمل كثير لا تداوم عليه؛ لأن هذا هو الذي يعالج أمراض القلوب، وقد ثبت للتسبيح فضائل جمة، منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) فهذا يدل على أنه يستحب أن تقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحان الله العظيم وبحمده- في الرواية الأخرى- مائة مرة، في أذكار الصباح وأذكار المساء.
ويستحب أنك تزيد على المائة مرة، فالزيادة هنا مرغب فيها، بدليل قوله: (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، ولا شك أن هذا فضل عظيم جداً، لكننا لانهماكنا في الدنيا نغفل عن هذه الفضائل العظيمة التي سوف ننفصل عنها بالموت، ولو أن رجلاً بشر بقصر في الدنيا، أو شقة أو حتى غرفة، كم تكون سعادته وحرصه على ذلك! لكن انظر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة)، فكم نغفل عن هذا! لا شك أن السكوت فقط هو نوع من الخسران؛ لأنه لا يوجد فيه طاعة؛ ولذلك الخسارة عند التاجر درجات، فلو أنه اتجر في المال وربح مثلاً 30% فهذا مكسب؛ لكن لو كان ينفق 50% فإنه يعتبر خسر 20%، ولو أنه قصر وبسبب تقصيره وصل الربح مثلاً إلى 20% فهذه يعتبرها خسارة مع أنه ربح، وأعمال الخير نفسها تتفاضل، فالإنسان المفروض أنه لا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وينظر دائماً إلى الأعلى ثواباً.
وهناك أشياء ثوابها عظيم جداً، والجهد الذي يبذل فيها قليل جداً، ومنها: ترك السلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأبخل الناس من بخل بالسلام)، فالسلام فيه الثواب العظيم، لكنه ثقيل على بعض الناس، فهذا بخيل جداً على نفسه بالسلام، وعلى إخوانه بالإحسان إليهم بالسلام.
كذلك العاجز الذي يعجز عن الدعاء، مهما كانت مطالبك وطموحاتك فإنك تحصل عليها بالدعاء، المهم أن يكون في الدعاء صدق وإخلاص لله عز وجل.
الإنسان رأس ماله هو الوقت، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
(وَالْعَصْرِ) هذا قسم بالعصر الذي هو الدهر أو الزمن أو الوقت، يحلف الله به لأنه من آياته العظمى، فالدهر لا يذم لذاته أبداً؛ لأن الدهر والزمن مجرد ظرف، فمن الناس من يستثمره بالأعمال الصالحة، ومنهم من يكون بعكس ذلك، فالعصر أو الدهر أو الزمن ليس له ذنب إنما هو ظرف لأفعال العباد، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا فأقسم الله بالعصر ليلفت نظر الناس إلى شرف الزمن والوقت.
قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ) يعني: كل الإنسان، (لَفِي خُسْرٍ)، ثم استثنى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
قال بعض السلف: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج، لم يكن في الزمن الماضي ثلاجات يوضع فيها الثلج، لكن كانت تصنع قوالب للثلج، فالناس في يوم من الأيام لم يشتروا منه الثلج، وهذا الثلج إذا لم يبعه سينصهر ويصير ماء كأي ماء، فقارب وقت العصر بعدما انفض السوق أو كاد وما أحد اشترى منه، فظل يجول في الطرقات وهو يحمل الثلج ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله! يعني: اشتروا مني الثلج قبل أن يذوب، فهذا رأس مالي، وهذه أعظم الخسارة، فالخسارة في المال هي خسارة الربح، فلو أن تاجراً باع بالجهد العظيم الذي بذله في التجارة، وعاد إليه فقط رأس المال، فهذا نوع من الخسارة؛ لأنه كان يمكن أن يكسب ربحاً؛ لكن هذا لا له ولا عليه، لأنه بتعبير آخر: خسر جهده.
فلو أن شخصاً خسر فوصلت خسارته إلى رأس المال، فهذه خسارة، وأعظم منها: شخص خسر كل رأس ماله، فرأس مال الإنسان هو الوقت والزمن والعمر، فهذا هو رأس المال.
فهذا الوقت يمر ويجري، فهو دوماً في نقصان؛ لأن كل لحظة لا يمكن أن تسترجعها ولو فعلت ما فعلت لا تستطيع أن تعيد مثلاً ساعة من الآن، هل تستطيع أن تأتي بالشمس من جديد وتعيد اليوم الذي مضى؟! لا يمكن أن يعود أبداً مستحيل! كذلك العمر يمضي، فأنت عمرك يمضي، والساعة تمر.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فالدقات هي عبارة عن إنذار ينذرك: احترز وانتبه واستكمل هذا الوقت، وقد عبر العلامة الشيخ محمد القاضي حسين رحمه الله تعالى عن هذا المعنى في بيتين من الشعر، حينما أتاه صبي صغير بالساعة القديمة (البندول)، وهي غير الساعة الرقمية، فلما أعطاه إياها، قال له: ما فيها؟ وصوت البندول معروف، فأنشد شيئاً من الشعر قال: وغلام قرب الساعة من أذنيه يسمع منها الصرخات قال ما بداخلها قلت كوزة تقرض أيام حياتي العالم الذي قال: تعلمت تفسير هذه السورة من بائع ثلج، كان يحمل الثلج على كتفه ويجري في الأسواق والشوارع ويقول: ارحموا من يذوب رأسه ماله، فكم تكون الشفقة على شخص كل رأس ماله هو هذا الثلج، وإذا ذاب الثلج ذهب كل رأس ماله وتبخر؟! فيريد هذا العالم أن يقول: إن السورة تشير إلى أن رأس مال الإنسان هو الوقت، والوقت دوماً في نقصان مثل الثلج الذي ينصهر رويداً رويداً.
فالوقت في نقصان وذهاب، فحتى تجبر هذا النقصان لا بد أن تستدرك بأن تستثمر الوقت في طاعة الله سبحانه وتعالى، فما بالك بمن يستثمره في المباح؟! ثم ما بالك بمن يستثمره في المعاصي؟! فلا شك أنه يكون حاله أو خسارته أعظم! والذكر من الأمور السهلة جداً جداً على الإنسان، وإذا أراد الله له به الخير يسره عليه، فالذكر يحتاج أولاً إلى المجاهدة، ثم بعد ذلك يحاول أن يغلب عليه ذكر الله سبحانه وتعالى، فكم يندم الإنسان بعد ذلك إذا مات ولم يستثمر هذه الأوقات، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فإن قالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه، وإن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).(127/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] خبر (إن) قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)).
قال الألوسي: إن الذين يبايعونك يوم الحديبية على الموت في نصرتك، كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره، أو على ألا يفروا من قريش، كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله عنه، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، والمبايعة مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له لما ربط له، وكثيراً ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم، وإن لم يكن ربط.
(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) يعني: يبذلون لك ما بذلوه من التضحيات بالغالي والنفيس في سبيل نصرتك، مقابل أن الله سبحانه وتعالى يشتري منهم أنفسهم بأن لهم الجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، هذه هي المبايعة، وهذا هو العقد: (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)، وقد يأتي ملحد إلى هذه الآية ويستنبط منها أن هذا معناه حلول الله في شخص الرسول عليه الصلاة والسلام والعياذ بالله! فهذا كفر مبين؛ لكن المقصود من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الرسول وطاعة الله عز وجل وامتثال أوامره؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ومن بايع الرسول فقد بايع الله؛ لأن المقصود هو التقرب إلى الله بهذه المبايعة، فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه وتعالى، وهذا يطلق عليه علماء البلاغة: المشاكلة، فتشابه لفظة المبايعة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} مشاكلة، والمشاكلة: هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً.
قولهم: تحقيقاً كما في قوله سبحانه وتعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وكقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54]، وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] واستدلال البلاغيين بقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] فيه نظر؛ لأننا نثبت صفة النفس لله سبحانه وتعالى كسائر الصفات، وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] هذه مشاكلة؛ لأن معاقبة الظالم حسنة، وهي عدل من الله سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ)) يعني: من أساء إليك فقابله وجازيه بالمثل، وهذا عدل، لكن أطلق عليها لفظ سيئة لأجل المشاكلة، وذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته؛ لأنه مجرد المجاورة والصحبة جعل أطلق على الاثنين سيئة، فهذه هي المشاكلة، لكن في الحقيقة هي ليست سيئة، بل هي عدل ومجازاة بالمثل.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، هل مقابلة العدوان يسمى عدواناً؟ لا، إنما أطلق عليه لفظ العدوان للمشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً.
ومثل ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، قال تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] وهكذا.
وقولهم: تقديراً مثاله: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، يعني: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النفوس، والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة، والكلام في إبطال ما هم عليه من الصبغة، ويظنون أنه يطهر هؤلاء الأولاد، فكانوا يفعلون ذلك بالطفل مكان الختان؛ لأن الختان تطهير، فرد الله عليهم بقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، فسمى الدين صبغة من حيث أنه تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
قال بعض شعراء ملوك همدان: وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أبناءنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ وقيل: إن قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، بدل من قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135]، فصبغة بدل من ملة.
وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ) المقصود به: غسل الإسلام للمشرك أو الكافر الذي يدخل في الإسلام، (صبغة الله) يعني: هذا الغسل الذي يغتسل به، ويودع به أدران الجاهلية والكفر السابق.
إذاً: بعض المفسرين قالوا: إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، من المشاكلة وهي: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً، فهناك مجرد ذكر البيعة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأيضاً جاءت البيعة لله سبحانه وتعالى بنفس هذا السياق.(127/9)
تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)
يقول ابن كثير: ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى) من الذي اشترى؟ الله؛ لكن بواسطة رسوله عليه الصلاة والسلام في هذه المبايعة أو في أمثالها؛ لأن من بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنما بايع الله سبحانه وتعالى، ثم استدل ابن كثير بحديث نصه: (من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله)؛ لكن هذا الحديث ضعيف.
أيضاً: ذكر ابن كثير حديثاً آخر فيه هذه المناسبة، وهو حديث: (إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، من استلمه فقد صافح الله عز وجل)، وهذا الحديث ضعيف، قال ابن الجوزي: لا يصح، وقال ابن العربي: هذا حديث باطل لا يلتفت إليه، ونحوه حديث: (الحجر يمين الله، فمن مسحه فقد بايع الله ألا يعصيه)، وهذا الحديث موضوع.
وقد ثبت أنه لا يوجد شيء على وجه الأرض من الجنة غير الحجر الأسود، وهذا حديث صحيح: (إن هذا الحجر كان أبيض من الثلج، ثم سودته خطايا أهل الشرك)، كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله: (إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بخير).
وبعض الناس ليس عندهم خبرة في التعامل مع كتب التفسير، بالذات التفسير السلفي الرائع تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير، فيقول: انظر ابن كثير أتى بأحاديث ضعيفة! فينبغي أن نترك هذا التفسير! هذه النغمة يرددها بعض الجهلة الظالمين بين وقت وآخر، نحن نلاحظ أن ابن كثير يسوق هذه الأحاديث مقرونة بالأسانيد، فمتى ما ساق العالم أو الإمام الحديث بإسناده فقد برئت عهدته منه؛ لأنه قرن الحديث بالوسيلة التي تعين قارئ الكتاب على الوصول إلى درجته من الصحة أو الضعف، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل عن سبب تدوين العلماء لكتب الحديث دون تحقيق إلا من محض كتبه بالصحيح، لكن عامة المحدثين دونوها بأسانيدها لأسباب تكلمنا عليها بالتفصيل من قبل.
إذاً: الذي ينزعج من هذا هو الجاهل أو القاصر الذي لا يعرف كيف يصل إلى درجة الحديث، لكن العالم لا يتهم ابن كثير بالتقصير لأنه أورد أحاديث ضعيفة.
أمر آخر وهو أن ابن كثير بين في مقدمة تفسيره منهجه في التفسير، فهو يقول: أنا أسرد جميع ما أمكن وما جاء في تفسير الآية؛ لأبطل الباطل وأحق الحق، وبدأ منهجه على أساس المنهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الكهف، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]، فحكى القولين الباطلين، وبين أن هذا عبارة عن رجم بالغيب، وادعاء بدون علم وبينة، وهذان القولان غير صحيحين، وفي هذا فائدة، وهي أن الإنسان يتعلم الأشياء الضعيفة حتى يتقيها، أما القول الصحيح في عددهم فهو الأخير، قال عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ولم يبطل هذا القول الأخير، فبنى ابن كثير منهجه في التفسير على هذا، فهو يأتي بالأقوال التي رويت ووردت في تفسير الآية، ثم يبطل الباطل صراحة أو ضمناً، فصراحة: بأن يبين أن هذا موضوع أو ضعيف، أو ضمناً: بأن يأتي بالحديث بأسانيده ومعه الوسيلة التي توصل المحقق إلى درجة هذا الحديث، فما قصر رحمه الله تعالى.
ملاحظة أخرى: نلاحظ أن ابن كثير في تفسير قوله تبارك وتعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال: أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم.
فبعض الناس يقول: إذاً ابن كثير مؤول؛ لأنه لم يثبت هنا صفة اليد! نقول: لا، حتى لو جدلاً قلنا: إن ابن كثير هنا أول هذه الآية بهذا المعنى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يعني: الله حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، فلا يعني هذا نسبة الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى إلى التأويل مطلقاً؛ لأن الإمام إذا أخذ أو فهم منه التأويل في موضع فننظر في أقواله في المواضع الأخرى، ومعروف أن ابن كثير سلفي قوي السلفية رحمه الله تعالى، فهو ما كان يحيد أبداً عن منهج السلف الصالح، وهو تلميذ من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وشعاع من نور ابن تيمية، ويكفي أنه كان قد أوصى أن يدفن مع شيخ الإسلام ابن تيمية ودفن معه، فهو شيخه وإمامه، وهو أحد الأشعة التي انطلقت من نور شيخ الإسلام، فكيف يكون تلميذاً لـ ابن تيمية ثم ينسب إليه التأويل؟! لكن بعض المواضع من حيث اللغة قد تحتمل بعض هذه التأويلات، كما في قصة بلقيس في سورة النمل، في قوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44]، فبعض المفسرين يقول: هذه عبارة عن نزول الشدة، فيؤولون بها قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بأنه كناية عن الشدة، فربما يقع بعض المفسرين السلفيين في تأويل آية سورة القلم التي هي قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]؛ لأن له سنداً من اللغة وشواهد لغوية تدل على أن هذا التعبير يستعمل فعلاً في الشدة، لكن لا يعني ذلك أنه يؤول الحديث الذي أتى في تفسير هذه الآية من أحاديث الصفات، كذلك كلام ابن كثير هنا إن كان يفهم منه التأويل هنا، وإن لم يكن صريحاً في ذلك، لكن في المواضع الأخرى لا شك أن ابن كثير سلفي يثبت الصفات ولا يؤول.(127/10)
الإنصاف في الرد على المخالف
بعض الإخوة أتاني الليلة بكتاب كنا قد تكلمنا عنه بصورة عابرة في درس الوداع في مسجد البكري، واسمه: البحث عن الصواب في شرعية النقاب، وقد كنت رددت رداً سريعاً عابراً على الكتاب، ثم أتاني أحد الإخوة وقال: إنه يوزع بالمجان، وأنا كنت حريصاً على أن أعرف من مؤلف هذا الكتاب؟ وسألت أحد الإخوة: صف لي أين يصلي هذا المؤلف، فذكر لي بعض علاماته، وقال أخ آخر في المسجد: إن مؤلف الكتاب توفي رحمه الله منذ شهر، وبعدما انصرفت عن الإخوة قعدت أحاول أتذكر أنه قبل شهر جاء خبر وفاة رجل فاضل جداً اسمه الأستاذ: فهمي رحمه الله تعالى.
فمكثت أتحرى وأتذكر، فكل القرائن كانت تدل على أنه هو، فكنت أتمنى ألا يكون هو، حتى اتصلت بأحد الإخوة القريبين جداً من الأستاذ فهمي، ففعلاً أخبرني أنه هو الذي توفي منذ شهر، وهو فعلاً مؤلف هذا الكتاب! فالحقيقة استصعبت جداً عليه أن يؤلف هذا الكتاب، خاصة أن النبرة حادة وشديدة في الكتاب، ومستوى الكتاب ضعيف جداً من الناحية العلمية، لكن في الحقيقة كما نصحت الإخوة من قبل مراراً: أن الإنسان قبل أن ينتقد أحداً ينبغي أن يعرف قدر هذا الشخص أولاً، فإذا كان الأصل فيه الخير والصلاح، ثم زل زلة فالإنسان لا يأتي يقيمه بالزلة هذه فقط، وعليه أن يزن الأمور، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).
ويقول الشاعر: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع وهذا الرجل أنا أعرفه منذ سنة (1978م)، وهو من الناس الذين من عرفهم أحبهم في الله تبارك وتعالى، وله ارتباط كامل بالدعوة منذ عهد بعيد من أيام نشاط الإخوان المسلمين، وقد كان عابداً ناسكاً، وكان في سنة 1970م يندر جداً أن يعتكف أحد في المسجد، لأن ظاهرة الاعتكاف انتشرت من آخر السبعينات، لكن أنا أعرفه منذ سنة سبعين إلى آخر عمره وهو لا يضيع الاعتكاف على الإطلاق، وأخبرني الأخ القريب منه أنه داوم عليه حتى آخر سنة، فطول عمره ما قصر في سنة الاعتكاف أبداً، وكان الأستاذ فهمي رحمه الله تعالى من أشد الناس محافظة على صلاة الجماعة، لا يكاد يعلم له نظير في ذلك، وكان يحافظ على صلاة الفجر والعشاء وجماعة مع شدة مرضه رحمه الله تعالى، وأخ يحكي لي أنه رآه قبل أن يموت وهو يمشي في الطريق يترنح من الإعياء والمرض الذي كان فيه، بل إنه أخبرني أن أهله أشاروا عليه -وقد نزل لصلاة المغرب- فقالوا له: أنت معذور، فصل في البيت؛ من شدة المرض الذي ألم به، فأبى أن يضيع صلاة الجماعة في المسجد مع شدة المرض، فنزل وصلى بالناس صلاة المغرب، ثم شرع في صلاة السنة البعدية للمغرب ففاضت روحه وهو ساجد رحمه الله تعالى! فهو في الحقيقة كان رجلاً عاقلاً حكيماً، وتكفي هذه العلامة من علامات حسن الخاتمة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله في الصالحين.
أما بالنسبة لكتابه فأعتقد أنها قد تكون زلة والله أعلم، وهو كان يريد الخير بلا شك، فهو إن شاء الله رجل من الصالحين وعابد وناسك، وأنا لا أعرف عنه زلة على الإطلاق إلا ما فوجئت به في هذا الكتيب، ولا يعني هذا أن أسكت عن الرد عليه؛ لكن أقول: الرد كله كامل موجود في كتاب تعرفونه جميعاً في مسألة النقاب، فهو رد كامل، والمشكلة: أن عامة من ينتقدون لا يقرءون الكتب التي ينتقدونها، والمفروض أن الإنسان قبل أن ينتقد كتاباً يقرؤه أولاً، فيعطي المؤلف حقه وقدره مع شيء من الرد إذا وجد خطأ، فإذا لم يقرأ الكتاب أولاً فهذا تقصير.
وجميع الشبهات التي أوردها المؤلف رحمه الله الرد عليها موجود، فأنا أحيل الإخوة الذين ألحوا علي بالرد عليها، وأقول: إذا كنا سنرد على كل شيء فسنضيع الوقت في الردود، ولكننا نضطر للرد عندما يكون الأمر شائعاً كالذي حصل من مصطفى محمود، وكأنه -سامحه الله- لا يريد أن ينتهي، فهو ما بين الفترة والأخرى يورد مقالة تولد مقالة ثانية، والظاهر أنه يتشبث بـ الطهطاوي وبالشيخ محمد عبده، ولا أحد يكفر مصطفى محمود ولكنا اضطررنا للرد عليه، لأن مثل هذا لا يسكت عليه، ومستواه العلمي ضعيف جداً جداً.
والحقيقة أن الكتاب المذكور فيه أشياء تصدم بها صدمة شديدة، ويعز علي أن أنتقد الأستاذ فهمي؛ لأنه أستاذي وقدوتي، ورجل أنا أعرف عنه كل خير، وقد صدمت لما عرفت أنه هو المؤلف وتأكدت من ذلك، ولكن هي زلة، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ويعفو عنه، وأحسبه كان يريد وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأنه في عامة أعماله رجل صالح جداً، فلعله بذل جهده في هذه المسألة حسبما يستطيع، فالأمل في رحمة الله خاصة مع هذه القرينة الطيبة جداً، فإن شاء الله أن الله توفاه وهو تائب، ونتمنى أن يرزقنا الله سبحانه وتعالى هذه الخاتمة بالأعمال الصالحة.
معظم الشبهات التي كتبها المؤلف مردود عليها، أما ما عدا ذلك من الكلام الشديد الصعب فالحقيقة أنا سأتجاوز عنه، ولن أرد عليه؛ لأنه أفضى إلى ما قدم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، فندعو الإخوة جميعاً إلى أن يجتهدوا في الدعاء أن يغفر الله سبحانه وتعالى له، ويرحمه ويجزيه خيراً على نيته، وإن شاء الله أن يكون قد أراد الخير، ونيته حسنة.
أما من الناحية العملية فالرد موجود وسنكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته.
ومن أراد أن يحسن إلى المؤلف فعليه أن يكف عن طباعة هذا الكتاب، فمن أراد بالفعل أن يحسن إلى الأستاذ فهمي رحمه الله تعالى فليكف عن طبع هذا الكتاب، وإلا فسنضطر إلى الرد عليه لو انتشر الكتاب وذاع بطريقة أكثر، فمن أراد أن يحسن إليه فليكف عن طباعة هذا الكتاب؛ لأنه ضعيف في الحقيقة من الناحية العلمية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الأستاذ فهمي رحمه الله تعالى بواسع رحمته، وأن يتجاوز عنه، وأن يتقبله في الصالحين.(127/11)
تفسير سورة الفتح [10](128/1)
فوائد وعبر من حديث صلح الحديبية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فلما كان صلح الحديبية فتح الفتوح، وكان خطاً فاصلاً بين مرحلتين مصيريتين من مراحل الدعوة الإسلامية، كان لا بد لنا من هذه الوقفة مع قصة صلح الحديبية؛ لشدة ارتباطها بتفسير سورة الفتح.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين؛ فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه)].(128/2)
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى
نشرح هذا الحديث في قصة الحديبية.
قوله: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية).
إما أن نقول: الحديبيَّة أو الحديْبِية: وهي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت، وسمي المكان بها، وقال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، وفي بعض الروايات: (في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة).
يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين).
هذا الموضع اختصره الإمام البخاري وفي كتاب المغازي ذكره بشيء من التفصيل عن الزهري قال: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط -جمع شط- وهو جانب الوادي- أتاه عينه - يعني: الجاسوس الذي يتحسس الأخبار- فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك! فقال: أشيروا عليّ أيها الناس! أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟! فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله).
وقال الزهري: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذلك كان امتثالاً منه لأمر الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وامتدح المؤمنين فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فمع أنه كان مؤيداً بالوحي، ومع أنه هو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، لكن مع ذلك أراد أن يسن فيهم سنة الشورى.
إن الشورى لها كثير جداً من الفوائد حيث فيها ضم عقل إلى عقل، وتجربة إلى تجربة، فتكون المحصلة غالباً خيراً للمسلمين، أما إذا استبد أحد بالأمر، خاصة في الأمور الجامعة العظيمة، وأمضى رأيه دون مشاورة الباقين، وحصلت أي مصيبة أو أية أضرار فإنه هو الملوم وحده، أما إذا شاور فإنه لا يتعرض لنفس القدر من اللوم، بل يكون هذا من تقدير الله عز وجل والمشاورة سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، وينبغي مشاورة العقلاء والحكماء والعلماء.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟!) هؤلاء الذين تحالفوا مع قريش وعاونوهم وأتوا ليصدوا المسلمين عن البيت، فشاورهم فقال: (هل نميل إلى هؤلاء ونقتل ذراريهم ونصيبهم في أهليهم؛ لأنهم غدروا وأعانوا قريشاً، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن يجيئوا تكن عنقاً قطعها الله سبحانه وتعالى؟!) المراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشاً إلى مواضعهم، ويتجه إلى بيوتهم وخيامهم، فيسبي أهلهم، فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش، هذا هو المراد بقوله: (تكن عنقاً قطعها الله) فأشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة، حتى يكون بدء القتال منهم، فرجع إلى رأي أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أحمد: (فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين) إلى آخر ما ذكرناه.(128/3)
جواز الاستتار عن المشركين ومفاجأتهم غرة
قال الزهري: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش) واحدها أحبوش، وهم بنو الهول بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا قد تحالفوا مع قريش، وكان التحالف بين هذه القبائل وبين قريش تحت جبل يقال له: الحبشي أسفل مكة؛ فسموا الأحباش؛ نسبة إلى هذا المكان الذي تحالفوا عنده.
وقيل: سموا بذلك لأنهم تجمعوا؛ فمعنى التحبش: التجمع، فسموا بذلك لتحبشهم أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع، والحباشة: الجماعة.
وعن عبد العزيز بن أبي ثابت: أن ابتداء حلفهم مع قريش كان على يد قصي بن كلاب.
ووقع عند ابن سعد: وبلغ المشركين خروجهم -يعني: إلى العمرة- فأجمع رأيهم على صده عن مكة، وعسكروا ببلدح، وبلدح: موضع خارج مكة.
قوله: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة)، وفي رواية: (فقال له عينه هذا خالد بن الوليد بالغميم)، ويقال: الغُميم، يقول المحب الطبري: يظهر أن المراد كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، وقال ابن حبيب: الغميم قريب من مكة بين غابر والجحفة.
وبين ابن سعد أن خالداً كان في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل، والطليعة: مقدمة الجيش.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فخذوا ذات اليمين) أي: خذوا الطريق التي فيها خالد وأصحابه.
قوله: (حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً).
قترة: المقصود بها الغبار الأسود.
يقول: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش)، لما رآهم خالد انطلق يركض مسرعاً ينذر قريشاً بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته).
الثنية: هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية.
قوله: (حتى إذا كان بالثنية التي كان يهبط عليهم منها بركت به راحلته: فقال الناس: حل حل) وهي كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير، فإنهم ينادونها بهذه العبارة: حل حل، حثاً لها لمواصلة السير والحركة، فقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما بركت: (حل حل).
قال الخطابي: إن قلت: (حلْ) واحدة بالسكون، وإن أعدتها (حلٍ حلْ) تنون في الأولى وتسكن في الثانية كـ (بخٍ بخ)، وحكى غيره السكون فيهما، يقال: حلحلت فلاناً إذا أزعجته عن موضعه، حتى تحركه من موضعه.
(فقال الناس: حل حل، فألحت) يعني: تمادت وأصرت على عدم القيام، وهو من الإلحاح، رغم قولهم لها: (حل حل) (فقالوا: خلأت القصواء).
الخلأ للإبل كالحران للخيل، ولا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة.
والقصواء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان طرف أذنها مقطوعاً، والقصو: قطع طرف الأذن، يقال: بعير أقصى وناقة قصواء، وزعم الداودي أن هذه الناقة كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء؛ لأنها بلغت من السبق أقصاه.
قوله: (فلما قال الناس: خلأت القصواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل).
(وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس هذا من عادتها أن تتمرد وتمتنع عن المشي؛ ولكن حبسها حابس الفيل، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى.
نلاحظ هنا: كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -تجاوزاً- رد غيبة هذه الناقة، استصحاباً للأصل، فإذا كان الشخص معروفاً بالخير والاستقامة ثم بدر منه شيء، فالأصل أن تذب عنه، وتحسن الظن به، وتحمل أحواله على أحسن ما يكون، ففي حق دابة قال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق)، فهذه إشارة إلى أهمية استصحاب الخلق الأصلي، والطباع الأصلية للشخص، وينظر إلى ما بدر على أنه زلة ليست صفة راسخة فيه، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، فالأناس ذوي الهيئة والاستقامة، والمعروفون بالعلم والورع والتقوى، إذا وقع أحدهم في عثرة أو خطأ فلا ينبغي أن تشهر وتضخم، وإنما يعفى عنه فيها إلا إذا أصاب حداً من حدود الله تبارك وتعالى.
قال ابن بطال وغيره: في هذا الفصل جواز الاستتار عن أعين المشركين، ومفاجأتهم بالجيش طلباً لغرتهم -يعني: إشارة إلى المفاجأة في القتال-، وجواز السفر وحده للحاجة، وجواز التنكب عن الطريق السهلة إلى الوعرة للمصلحة.
لأن الدين يسر، ونحن لا ينبغي أن نتعذب بتكلف المشقة إذا كان هناك طريقان -مثلاً- إلى المسجد: طريق ممهد وسهل، وطريق آخر وعر فيه الهوام وأشياء ضارة مما يؤذي ويشق على الناس، فلا تسلك الطريق الوعرة طلباً للمشقة، والإسلام لا يرضى أن الإنسان يتكلف المشقة، بل متى ما خير بين أمرين يختار أيسرهما، فنحن لا نتعبد بتحري المشقة، وإنما نختار الأيسر والأسهل، إلا إذا كان لمصلحة كما في هذا الحديث، حيث اختار الطريق الوعرة لأجل المصلحة الراجحة التي استدعت ذلك.
وفي هذا الفصل أيضاً جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، يعني: إذا نسبه إليها من لم يعرف الأصل في هذا الشخص، فإنه يعذر؛ لأنه لا يعرفه بالحقيقة، أما الذي يعرفه ويعرف أن الأصل أن يستصحب استقامته وأحواله؛ ففي هذه الحالة يحكم عليه بما عرف من عادته؛ لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة -وهو أنه حبسها حابس الفيل- لكان ما ظنه الصحابة بها صحيحاً من كونها خلأت، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم.
وفيه جواز التصرف في ملك الغير للمصلحة بغير إذنه الصريح، إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك؛ لأنهم قالوا: (حل حل)، فزجروها بغير إذنه، ولم يعاتبهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) وزاد ابن إسحاق (عن مكة) فقال: (حبسها حابس الفيل عن مكة) إشارة إلى ما وقع في قصة الفيل حينما أتى أبرهة بجيشه يقصد هدم الكعبة، فلما أراد أن يقترب من مكة حبس الفيل دون ذلك، وأرسلت عليه الطير الأبابيل، فمعنى (حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها: أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدتهم قريش عن ذلك؛ لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين -في حادثة الفيل، وفي الحديبية- أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم أناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في زمن الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يعني: كانوا يستترون بإيمانهم، أو يظهرون إيمانهم ويعذبون ويستضعفون، فلو ترك الصحابة ليدخلوا مكة لما أمن أن يصاب أناس منهم بغير عمد، يعني: إذا دخلوا مكة وحصل قتال وهم لا يعرفون إخوانهم الذين يستترون بإيمانهم ولا يجهرون به، فربما قتلوا إخوانهم دون أن يشعروا، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا في سورة الفتح بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] لو تميزوا لنزل العذاب على الكفار، لكن منعهم الله عن دخولها، وحبسها حابس الفيل حتى لا يحصل قتال، فتقتلوا إخوانكم المؤمنين في مكة الذين هم مستضعفون وأنتم لا تشعرون؛ فتصيبكم منهم معرة بغير علم، لكن لو كانوا متميزين عنهم: ((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))، لكن بوجود هؤلاء المستضعفين حبس الله الناقة عن الاستمرار في السير والدخول إلى مكة؛ حتى لا يقع هذا القتال.
ووقع للمهلب تحرج في جواز إطلاق (حابس الفيل) على الله سبحانه وتعالى، فقال: المراد حبسها أمر الله عز وجل، فهو استبعد جواز هذه الكلمة، والراجح جواز إطلاق ذلك في حق الله، فيقال: (حبسها الله حابس الفيل)، وإنما يمنع تسميته سبحانه وتعالى (حابس الفيل) ونحوه، وكذا أجاب ابن المنير، وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء الحسنى توقيفية، بمعنى: أن أمر الإخبار عن الله سبحانه وتعالى وعن أفعاله أوسع من إطلاق الأسماء الحسنى على الله، فالأسماء الحسنى توقيفية، لكن عند الإخبار عن أفعال الله فيمكن أن يحصل توسع بأن يقال: حابس الفيل وغير ذلك من الأفعال أو الصفات، فمثلاً قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ليس من أسماء الله الحسنى الباني، فعند الإخبار عن أفعال الله الأمر فيه سعة، كما في هذه الآية ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ))، ومن أجاز الاشتقاق في الأسماء الحسنى اشترط فيه ألا يشعر بالنقص كالوافي مثلاً.(128/4)
تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى
في هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاز التشبيه من جهة إرادة الله تعالى منع الحرم مطلقاً، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره، وهو كيلا يحصل قتال يؤدي إلى قتل المؤمنين المستخفين بإيمانهم.
وفيه ضرب المثل، واعتبار من بقي بمن مضى، قال الخطابي: معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم؛ لأن الرسول عليه السلام أقسم وقال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فتعظيم حرمات الله يعني: ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة، والكف عن إراقة الدماء.
واستدل بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية: علامة الإذن التيسير وعكسه، وفيه نظر، يعني: علامة إذن الله في الشيء أن ييسره لك، وعلامة عدم إذن الله فيه ألا ييسره لك، يقول الحافظ: وفيه نظر؛ لأن الإنسان يأخذ بأقصى طاقته عند الشروع في الأعمال، فإذا سد باب حول إلى باب آخر، ولا يستسلم ويقول: علامة الإذن التيسير وعكسه.(128/5)
استعمال النبي صلى الله عليه وسلم الحلف لتأكيد القول
قوله: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت).
قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده) فيه استعمال اليمين لتأكيد القول، فيكون أدعى إلى القبول، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً، بعدة صيغ منها هذه الصيغة: (والذي نفسي بيده)، والحلف يكون بالله سبحانه وتعالى، أو بأفعال الله عز وجل، أو أسمائه وصفاته، فالحلف عبادة من العبادات القولية، فلا ينبغي أن يحلف إلا بالله؛ لأن الحلف عبادة، والحلف بالله عز وجل يتضمن إخباراً لأمور عدة، يتضمن إخباراً بأن الله سبحانه وتعالى الذي تحلف باسمه هو المطلع على ما في قلبك، والعالم بصدقك، وهو الذي يثيبك إن كنت صادقاً، ويعاقبك إن كنت كاذباً في هذا اليمين، فهذه الصفات كلها ليست من شأن البشر، وإنما هي لله سبحانه وتعالى، فلذلك لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من قال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله)، فكفارة اليمين بغير الله أن يقول الإنسان مباشرة بعدها: لا إله إلا الله، فلا يجوز الحلف بغير الله حتى ولو كان من الملائكة أو من الرسل أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمين المصريين المشهورة: (والنبي)، وهذا لا يجوز ولا يرضاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحلف بغير الله شرك، فضلاً عمن يحلف بتربة أمه وتربة أبيه، وشرفه وأولاده وحياته إلى آخر هذه الأيمان، كل هذا مما لا يجوز.
قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) فالحلف لا ينبغي أن يكون إلا في الأمور العظيمة التي تليق باسم الله عز وجل، وليس في كل شيء يحلف فيه الإنسان، فإنما الحلف في الأمور العظيمة الجليلة؛ لأن بعض الناس يتمادون في الحلف بطريقة شديدة جداً، وبعض الناس كما هو حال النصارى بالعكس تماماً يتحرجون جداً من الحلف، ويقول لك: صدقني! صدقني! لأنهم ينظرون إلى أن الحلف شيء غير رجولي! لا، الحلف عبادة، ففيها تعظيم لله عز وجل مادامت في موضعها، ومادامت في الأمور الجليلة والعظيمة، فلا حرج على الإطلاق من الحلف إذا كان في موضعه، وفيه تعظيم لله، ولا تحلف في الأمور التافهة أو الحقيرة، فهذا من تعظيم اسم الله عز وجل ألا يحلف به إلا في الأمور الجليلة.
ويعفى عما كان لغواً وهو الذي لا يقصده ولم يعقد عليه القلب، كقولك للرجل: لا والله، تعال والله، نعم والله إلى آخره.
(والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) أي: خصلة (يعظمون بها حرمات الله) أي: من ترك القتال في الحرم، وفي رواية ابن إسحاق: (لا يسألونني بها صلة الرحم) ولا شك أن الرحم من جملة حرمات الله، وقيل: المراد بالحرمات حرمة الحرم؛ لأنهم كانوا داخل حدود الحرم، وفي حرمة الشهر الحرام؛ فهم خرجوا في ذي القعدة، وكانوا في حالة إحرام، وفي الشهر الحرام، وفي البلد الحرام.
وهذا القول الأخير فيه نظر، وهو: أن المقصود بالحرمات حرمة الحرم، وحرمة الشهر، وحرمة الإحرام؛ لأن المشركين لو عظموا الإحرام لما صدوه عن دخول البيت، فهو قال (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالضمير يعود على المشركين، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن أي خطة يعرضوها عليه فيها تعظيم لحرمات الله أجابهم إليها، فلو كان هذا القول راجحاً، فما الذي يعظمه المشركون؟! فدل هذا على أنه ليس هذا هو المقصود.(128/6)
من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية
قوله: (إلا أعطيتهم إياها) يعني: إلا أجبتهم إليها.
(ثم زجرها فوثبت) يعني: زجر الرسول عليه الصلاة والسلام الناقة (فوثبت) يعني: قامت، (فعدل عنهم) وفي رواية ابن سعد (فولى راجعاً) وفي رواية ابن إسحاق (فقال للناس: انزلوا، قالوا: يا رسول الله! ما بالوادي من ماء ننزل عليه)؛ لأن المشركين كانوا قد سبقوا إلى المياه دون المسلمين.
قوله: (فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً) (على ثمد) أي: حفيرة فيها ماء مثمود أي: ماء قليل، وقد قيل: إن الثمد في لغة بعض العرب: الماء الكثير، فأضاف قوله: على (ثمد قليل الماء) ليدفع توهم لغة من يقول: إن الثمد هو الماء الكثير.
(يتبرضه الناس تبرضاً) التبرض: الأخذ قليلاً قليلاً، والبرض اليسير من العطاء، وقيل: هو جمع الماء بالكفين، يعني: من قلة الماء يجمعونه بالكفين.
وذكر أبو الأسود عن عروة قال: (وسبقت قريش إلى الماء، فنزلوا عليه، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية في حر كبير وليس بها إلا بئر واحدة).
يقول: (فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه) يعني: لم يتركوه يلبث أي: يقيم، فانتهى هذا الماء بسرعة؛ لأن العدد كبير والماء قليل فنزحوه.
(وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته) يعني: أخرج سهماً من جعبته.
(ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوه فيه) أي: يضعوه في هذه البئر.
(فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه) فسال الماء في هذا البئر، وعظم جداً، وظل يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: في قصة الحديبية في حديث البراء بن عازب في البخاري أيضاً: (أنه عليه السلام جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض، ودعا الله، ثم صبه فيها، ثم قال: دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا بعد ذلك)، فيمكن أن يكون الأمران وقعا معاً، وروى الواقدي من طريق أوس: (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ في الدلو، ثم أفرغه فيها، وانتزع السهم ووضعه فيها)، وفي رواية أخرى: (أنه تمضمض في دلو وصبه في البئر، ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا الله)، وفي حديث جابر: (عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة، فتوضأ منها فوضع يده فيها، فجعل الماء يفور من بين أصابعه)، وكأن ذلك كان قبل قصة البئر.
والله تعالى أعلم.
وفي هذا اللفظ معجزات ظاهرة، وهذه بلا شك من آيات النبوة، وقد تواتر فوران الماء من أصابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أكثر من مناسبة.
أيضاً في هذا الحديث بركة سلاحه وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم.
قوله (يجيش) أي: يفور، (بالرِي أو بالرَي حتى صدروا عنه) أي: رجعوا رواء بعد وردهم يعنى: لما وردوا الماء رجعوا عنه بعدما ارتووا وذهب عطشهم، وزاد ابن كعب: (حتى غرفوا بآنيتهم جلوساً على شفير البئر) أي: كانوا يجلسون على شفير البئر، واغترفوا بالآنية من شدة ارتفاع الماء، ولم يكن الماء في قاع البئر كما كان في الأول، وإنما ارتفع الماء جداً، فجلسوا على شفير البئر بالآنية يأخذون المياه من سطحها.(128/7)
جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة
قوله: (فبينما هم كذلك) هذا فصل آخر من قصه الحديبية.
(فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول).
قول الراوي: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل) (فبينا هم) وفي رواية أخرى: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل) وبديل هذا صحابي مشهور، (في نفر من قومه، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) العيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها.
والمقصود: أنهم كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنهم كانوا موضع النصح له والأمانة على سره، وكأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب؛ لأن موضع إيداع الأسرار هو الصدر، فشبه موضع استيداع السر الذي هو الصدور من الإنسان بالعيبة التي هي موضع حفظ الثياب، فهذا معنى: (وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: يأتمنهم على أسراره، وكانوا ينصحون له، وهم من أهل تهامة.
وزاد ابن إسحاق في رواية: (وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة).
إذاً: كان هناك حلف مع خزاعة بمؤمنيها وكافريها، كلاهما كان ناصحاً لرسول الله عليه السلام، فمعنى هذا الكلام أن خزاعة المؤمنون منهم كانوا عيبة نصحه، وأيضاً المشركون كانوا في حالة حلف مع النبي عليه السلام، وكانوا موالين له مع كونهم مشركين.
ووقع عند الواقدي: أن بديلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال له بديل: أنا لا أتهم ولاء قومي)، وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني هاشم في الجاهلية تحالفوا مع خزاعة، فاستمر هذا الحلف حتى بعد الإسلام؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام من بني هاشم، وهذا يؤخذ منه حكم شرعي، وهو جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة، فيمكن أن يستنصح المعاهد أو الذمي إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة إيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم.
ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا مودة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق، فالاستعانة هنا بالرأي فقط والمشورة والاستنصاح، بشرط أن تدل القرائن على نصحهم، وأن تشهد التجارب بأنهم يميلون ويفضلون أهل الإسلام على غيرهم من الكفار حتى ولو كانوا من أهل ملتهم.
يقول: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) اقتصر على ذكر هذين (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي) لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إلى هذين الشخصين، فيقول: (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) الأعداد: جمع عد، وهو الماء الذي لا انقطاع له، فهم سبقوا إلى الأماكن التي فيها الآبار والمياه الجوفية التي لا تنقطع، فهذا يشعر بأن الحديبية كان فيها مياه كثيرة، وأن قريشاً سبقوا إلى النزول عليها، فلهذا عطش المسلمون حين نزلوا على الثمد المذكور.
قوله: (ومعهم العوذ المطافيل) وفي بعض الروايات: (وجمعوا لك الأحابيش) قلنا: التحبيش هو: التجمع، والعوذ: جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، والإنسان يسر جداً إذا قرأ الأحاديث الطويلة، فهذه الأحاديث الطويلة تجد فيها متعة الفصاحة، وحلاوة اللغة العربية، ومن هذه الأحاديث الطويلة حديث الإفك، وحديث سمرة بن جندب في عذاب القبر، وحديث أم زرع وهكذا، فتجد فيها طعم اللغة العربية التي نحن محرومون منها الآن في وسط هذا الركام الهائل من الركاكة والعجز والجهل في العربية والعدوان عليها، ففعلاً نحن نحب تذوق اللغة العربية عندما تطول هذه النصوص الرائعة، ونحس أننا نكاد نكون أعاجم حينما نضطر كثيراً لشرح الغريب لتقصيرنا في حق لغة القرآن! فقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) العوذ كما قلنا: هي النوق ذوات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، فمعنى: (معهم العوذ المطافيل) أنهم أتوا إلى الحديبية ومعهم النوق ذوات اللبن، حتى يشربوا من ألبانها إذا طالت مدة الإقامة هناك، وهذا فيه كناية على إصرارهم، وعلى عدم السماح له الصلاة والسلام بالدخول إلى مكة، وأنهم لن يرجعوا حتى يمنعوه، أو أن المقصود بقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) أنه كنى بذلك على النساء ومعهن الأطفال، والمراد: أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقامة، وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم، ويؤيده أن في بعض الروايات: (معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان).(128/8)
قوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول) انظروا إلى حلاوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته، فيقول: (إن قريشاً قد نهكتهم الحرب) أي: أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، إما أضعفت قوتهم أو أضعفت أموالهم، (فإن شاءوا ماددتهم) يعني: جعلت بيني وبينهم مدة، فيترك الحرب بيننا وبينهم خلال هذه المدة، هذا معنى (فإن شاءوا ماددتهم) أي: اتفقت معهم على مدة تتوقف فيها الحرب (ويخلوا بيني وبين الناس) أي: من كفار العرب وغيرهم، وهذا هو سر تسمية صلح الحديبية فتحاً كما سنبين إن شاء الله تعالى، وقد كان فتحاً عظيماً جداً بكل معنى الكلمة، والسر هو في هذه الجملة بالذات، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: لما توقفت الحروب بدأت الحمية تهدأ عند أهل الشرك، وبدأ الكافر يستمع إلى المؤمن، ويعرض عليه الإسلام ومحاسنه، فكان هذا سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً.
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أعظم فتح للإسلام أن يخلى بين المسلمين الدعاة وبين الناس، ولا تكون هناك حواجز وموانع، وتشويش وتشنيع، إذا حصل ذلك فإن الناس سيدخلون في دين الله أفواجاً، فهذا نصر بكل معنى الكلمة، والإسلام في أي مكان وفي أي زمان إذا سمح بأن يتكلم أهله بحرية حقيقية، ولم تشن عليهم الحملات الشيطانية من وصفهم بإرهابيين ومتطرفين، ونحو هذه الاصطلاحات الغريبة التي تصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وكان المتكلمون باسم الإسلام أناساً على وعي وعلم وبصيرة؛ فالغالب أن العمي المقلدين الجهلة من الناس ينقادون -وأيضاً علماؤهم وعقلاؤهم- ويدخلون في دين الله أفواجاً، لكن الذي يحصل -وهو أقوى سلاح من أسلحة الباطل- التشويه الظالم، وعدم معرفة شرف الخصومة، وإلا فلا يمكن للإسلام أن ينهزم أبداً في معركة شريفة، سواء كانت معركة قتالية أو معركة فكرية، ففي المعركة القتالية المسلم في كل حال لا يهزم، ولا تنسب له هزيمة أبداً إذا قتل في سبيل الله، وهذا هو الذي دلنا عليه القرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] لم يقل: ويهزم أو يُغلب، بل قال: (فيقتل أو يغلب) هذان الخياران هما اللذان سماهما الله سبحانه وتعالى إحدى الحسنيين في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ َ} [التوبة:52] الحسنى مؤنث أحسن وليس مؤنث حسن، يعني: أن كلاً منهما أحسن من الآخر، فهي نصر أو شهادة، فالشهيد في الحقيقة لا يسقط وإنما يرتفع، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]؛ ولهذا يرتعد أعداء الإسلام دائماً من كلمة الجهاد، وإذا ذكر فإنهم يرتعشون ويرتعدون؛ لأنهم عرفوا خلال قرون طويلة ما معنى هذا الكلمة وتأثيرها عند المسلمين الذين يحبون الموت والقتل في سبيل الله كما يحبون هم الحياة ويعبدونها، فالمؤمن لا تنسب إليه هزيمة: (فيقتل أو يغلب) يقتل في سبيل الله أو يغلب وهي عزة الدنيا، أما الهزيمة فلا يهزم أبداً.
كذلك أيضاً في المناظرات العلمية والفكرية إذا تصدر للنقاش والمناظرة من هو من أهل العلم والحق والبصيرة فلا يمكن أن ينهزم لضعف حجة أبداً، ولا يمكن أن يقف الباطل على الإطلاق أمام عالم مسلم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويحاج الناس بالأدلة، والشيء الوحيد الذي يحصل فيه غير ذلك هو التشويه المتعمد، وتنفير الناس وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالحيل الشيطانية أو بالقهر أو غيره من الأساليب الغير الشريفة كما قلنا.
فلذلك هذه العبارة في الحقيقة هي في غاية الأهمية فلا تمرن عليكم مرور الكرام، (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أي: يستمعون دعوتي بدون تشويه وبدون حمية جاهلية تصد عن سبيل الله، هذا هو جوهر الفتح في صلح الحديبية.
قال: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا) يا للفصاحة! يا لفصاحة خير من نطق بالضاد صلى الله عليه وآله وسلم! يقول لهم: (فإن أظهر فإن شاءوا) هذا شرط بعد شرط، (فإن أظهر) شرط (وإن شاءوا) شرط يعني: جاء بعد أداة الشرط الأولى جواب مقدر، والتقدير: فإن ظهر غيرهم علي كفاهم المؤنة، فإن أحد من المشركين غير هؤلاء القرشيين الذين يعاهدونني في هذا الصلح أتى وغلبني وقضى علي، فقد كفاهم المؤنة وأراحهم مني، (وإن أظهر) أنا على غيرهم فإن شاءوا أطاعوني، وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا يعني: قد استراحوا، وفي رواية ابن إسحاق: (وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة) سيكونون واستراحوا في هذه المدة، وتلاحظون هنا اللباقة والكياسة، انظر كيفية إقناعهم بأن يقبلوا الصلح، وغرض النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك هو كما صدر في بداية الكلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) الهدف: هو تعظيم حرمات الله، وعدم حصول قتال في الحرم، وفي حالة الإحرام، وفي الشهر الحرام.(128/9)
مسألة التنزل مع الخصم وضابطها
قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا) يلاحظ هنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام ردد الأمر، وجعل فيه احتمالين: إذا حصل صلح إما أن يغلبه غيرهم، وإما أن يظهر هو فيكونون قد استفادوا من هذه الهدنة بأن يقووا ويستريحوا من القتال، خاصة بعد قوله: (قد نهكتهم الحرب)، وإنما ردد -الأمر مع أنه صلى الله عليه وسلم جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره؛ لوعد الله تعالى له بذلك- على طريق التنزل مع الخصم، وترك الأمر على ما زعم الخصم، فهذا نوع من التنزل في النقاش ولا يضر صاحب الحق، فيجوز للإنسان في أثناء المناظرة أو المناقشة أن يفعل هذا النوع من التلطف والتنزل؛ لأن هدفك ليس إفحام الخصم، وإنما هدفك أن تهديه إلى الحق، فيجوز للإنسان في أثناء النقاش أن يفعل نوعاً من التنزل وتحويل العبارة بحيث يحصل به جذب لهذا الشخص إلى الحق.
قوله عليه السلام: (فإن أظهر فإن شاءوا) قلنا: هذا ردده الرسول عليه الصلاة والسلام -مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره بوعده تعالى له- على طريق التنزل مع الخصم وجعل الأمر على ما زعم الخصم، وبهذه النكتة حدث القسم الأول، وهو التصريح بظهور غيره عليه، يعني: فإن ظهر غيري علي فقد استراحوا مني، وإن أظهر أنا فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس، وإن وقد وقع التصريح بهذا في رواية ابن إسحاق ولفظه: (فإن أصابني كان الذي أرادوا)، وفي رواية أخرى: (فإن ظهر الناس علي فذلك الذي يبتغون)، فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدباً، فيقول الحافظ: الظاهر أن بعض الرواة حذف منها هذه الجملة التي فيها: إن يغلب النبي عليه الصلاة والسلام أو يظهر عليه أحد؛ تأدباً، فإن بعض الروايات ذكرت هذا، فحذفها تأدباً، واقتصر على قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس).
وذكرنا أنه قد يحتاج الإنسان إلى هذا الأسلوب من التنزل في المحاورة والمناقشة، وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم من هذا النوع، كما في سورة سبأ قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، ركز الأمر على سبيل الاحتمال إما أننا نحن على الحق أو أنتم على الحق: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وذكر السورة لهذه الطريقة المحتملة هل يضر الحق شيئاً؟ لا يضر، لكن هي فيها استدراج للخصم لكي يكون أقرب إلى الانقياد للحق.
كذلك الشاهد في قصة يوسف بدأ بالشيء الذي هو أقرب إلى هواهم، لكن هل يضر هذا يوسف شيئاً؟ لا يضره شيئاً، ما دام أنه مع الحق، قال الله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27]، فهذا نوع آخر من التنزل لإثبات النزاهة لمن يدافع عنه، مع أنك تجادل في الحق على صورة محتملة فيها نوع من الاستدراج واستنزال الخصم، حتى يعي ما تقول وينقاد إلى الحق.
كذلك قول مؤمن آل فرعون كما قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] فهذه دعوة إلى التدبر في أمر موسى عليه السلام، والتعامل مع دعوته بالعقل والمنطق: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا) فالكذب لا يضر أحداً إلا هو (فعليه كذبه)، يعني: افترضوا أنه صادق فيما يهددكم به من عذاب الله، فخذوا الأمر بجدية (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، فهذا من التنزل مع أن موسى عليه السلام حاشاه الكذب.
أيضاً قول المؤمن: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا} [غافر:29] يعني: كلنا {مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
أيضاً في قصة يوسف قال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيِه} [يوسف:76] دفعاً للتهمة عن نفسه.(128/10)
قوة جزم النبي صلى الله عليه وسلم في نصرة الله لدينه
قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا) أي: إن شاءوا أن يدخلوا في الإسلام فعلوا (وإلا فقد جموا) أي: إن أصروا على قتالي يكونون قد استراحوا واستردوا قوتهم، ويستطيعون القتال بعد ذلك، (وإن هم أبوا) أي: فإن هم أبوا هذه العروض كلها، (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) قوله: (حتى تنفرد سالفتي) هي صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه، وقال الداودي: المراد بقوله: (حتى تنفرد سالفتي) الموت أي: لأقاتلنهم حتى أموت وأبقى منفرداً في قبري، ويحتمل أن يكون أراد أن يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم، يعني: أقاتلهم حتى لو لم يبق أحد يقاتلهم غيري، فسوف أقاتلهم ولو كنت وحيداً، وقال ابن المنير: لعله صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى أي: أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت وكنت وحيداً منفرداً ليس معي أصحاب ولا أنصار، فكيف لا أقاتل في سبيل إعزاز الدين مع وجود المسلمين، وكثرتهم، ونفاذ بصائرهم في نصرة دين الله تعالى؟ يعني: لو كنت وحدي فإني سأقاتلهم فما بالكم لو لم أكن وحدي ومعي أتباع وأنصار سوف يبذلون أرواحهم في سبيل الله عز وجل.
(وليمكنن الله أمره) أي: ليمضين الله أمره في نصرة دينه، نلاحظ هنا الجزم بعد التردد في العبارة الأولى، (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس) إلى آخره، فذكره بصورة التردد للحكمة التي أشرنا إليها، أما في هذه الحالة فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده) انظروا إلى الجزم والقطع (لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) يعني: لينصرن الله دينه يقول الحافظ: وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض يعني: أن التردد الذي وقع أولاً ما كان إلا على سبيل الفرض، أما اعتقاده الحقيقي فهو جازم بأن الله سوف ينفذ أمره، وينصر دينه عز وجل.
أضف إلى هذا أن النبي عليه السلام في أثناء هذه المفاوضات أرسل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة برسالة إلى المستضعفين من المؤمنين داخل مكة، فأرسله يبشرهم بفتح الله وبنصر الإسلام، فهذا معناه أن الله أخبره أنه سوف يعز الإسلام وينصره ويفتح عليه، فهذا ينضم إلى قوله: (ولينفذن الله أمره) يعني: أنه كان جازماً من تحقق وعد الله بنصره، وأن هذا التردد كان على سبيل التنزل ومجرد الافتراض فقط في أول الأمر.
وفي هذا الفصل الندب إلى صلة الرحم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نوى وعزم على أن يجيبهم إلى أي خطة فيها تعظيم لحرمات الله التي منها صلة الرحم، والإبقاء على من كان من أهلها، وبذل النصيحة للقرابة.
وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله وتبليغ أمره، ولا شك أن هذا التعبير يستحق أن يكون درساً مستقلاً تستخرج منه العبر، وهو قول النبي عليه السلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) وهذه الجملة أقوى بكثير -والله تعالى أعلم- مما يروى أنه قال في الحديث الضعيف: (يا عم! والله! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) فالتعبير هنا أقوى، وهذا الحديث في صحيح البخاري، وهو قوله: (والذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول) يعني: أذن له في الذهاب ليبلغهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.(128/11)
إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان سفيراً إلى قريش
قال: (فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا)، (فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء) بادر بالجواب سفهاؤهم الذين لا عقل لهم، وما يحسنوا إلا الحمية الجاهلية، يعني: لا نريد أن نسمع، (لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى.
قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه قالوا: ائته فأتاه).
قوله: (فقال سفهاؤهم) سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل والحكم بن أبي العاص فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول: كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد ابن إسحاق: (فقال لهم بديل: إنكم تعجلون على محمد) أي: تستعجلون في الحكم، (إنكم تعجلون على محمد! إنه لم يأت لقتال، إنما جاء معتمراً؛ فاتهموه) يعني: اتهموا بديلاً؛ لأنهم كانوا يعرفون ميله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (فقالوا: إن كان كما تقول فلا يدخلها علينا عنوة)، يعني: إن كان الأمر كما تقول في هذه الرسالة التي حملك إياها، فلا يدخلها علينا عنوة.
قوله: (فقام عروة بن مسعود) وفي بعض الروايات قالوا: (لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أحب أن يبعث رجلاً من أصحابه إلى قريش يعلمهم بأنه إنما قدم معتمراً، فدعا عمر فاعتذر؛ لأنه لا عشيرة له بمكة، فدعا عثمان فأرسله بذلك، وأمره أن يعلم من بمكة من المؤمنين بأن الفرج قريب).
إذاً: بعث عثمان بهذه الرسالة؛ ليبلغ قريشاً أنه ما أتى لقتال، وإنما أتى للعمرة، وفي نفس الوقت ليعلم المستضعفين من المؤمنين في مكة بأن الفرج قريب، فهذا يعني أنه كان جازماً بنصر الله سبحانه وتعالى.
(فأعلمهم عثمان بذلك، فحمله أبان بن سعيد بن العاص على فرسه إلى أن قال: فقال: المسلمون هنيئاً لـ عثمان) لما ذهب عثمان إلى مكة المسلمون (هنيئاً لـ عثمان! خلص إلى البيت فطاف به دوننا)، أي: استطاع أن يدخل إلى مكة كرسول أو مبعوث، فسيذهب ويستمتع بالطواف حول الكعبة، أما نحن فقد حرمنا من ذلك، فقالوا: (هنيئاً لـ عثمان خلص إلى البيت فطاف به دوننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ظني به ألا يطوف حتى نطوف معه)، استبعد النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان أن يفعل هذا، وقال: ظني به أنه لا يمكن أن يطوف قبل أن أطوف أنا، (فكان كذلك، ثم جاء عروة بن مسعود).(128/12)
إرسال قريش لعروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم) وهذا الأمر كان لما رآهم سمعوا رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام مع بديل بن ورقاء، (فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى)، وفي بعض الروايات: (ألستم بالولد وألست بالوالد؟ قالوا: بلى)، وبعض الروايات بالعكس: (ألستم بالوالد وألست بالولد؟) وهذا هو الصواب، والمقصود من هذا: أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، فأراد بقوله: (ألستم بالوالد) يعني: أنكم حي قد ولدوني في الجملة؛ لكون أمي منكم، وعلى رواية: (ألستم بالولد) يعني: أأنتم عندي في الشفقة والنصح بمنزلة الولد؟! ولعله كان يخاطب بذلك قوماً هو أسن منهم، يعني: يشير إلى أنه مخلص لهم، سواء على أنه ابن أو والد، ففي كلا الحالتين يكون ناصحاً ومخلصاً لمن ينصحه ويجتهد في نصحه، فهو يريد أن يستنزلهم ويقنعهم -قبل أن ينصح- بأنه جدير بأن يثقوا في نصيحته ولا يتهموه، فإذا كانوا اتهموا بديلاً فهو أراد أن يقول: أنا غير متهم، وأراد أن يقررهم أولاً بذلك كما حصل ذلك من النبي عليه السلام في مواضع معينه معروفة.
فقال: (فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ) يعني: دعوتهم إلى نصركم، (فلما بلحوا علي) يعني: فلما امتنعوا من الإجابة؛ لأن التبلح هو التمنع، وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه، وزاد ابن إسحاق: (فقالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ كي يجيئوا وينصروكم، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ -يعني: لأنصركم- قالوا؟ بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته)، (قد عرض عليكم خطة رشداً) يعني: خصلة خير وصلاح وإنصاف، وبين ابن إسحاق أن سبب تقديم عروة لهذا الكلام عند قريش ما رآه من ردهم العنيف على من يجيء من عند المسلمين، فقد كانوا يردون بعنف وشدة؛ فلذلك احتاج أن يستدرجهم في الكلام بهذه الطريقة، قوله: (ودعوني آته) يعني: أجيء إليه، (قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة)، وفي رواية ابن إسحاق: (وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً).(128/13)