تفسير قوله تعالى: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم)
ثم بين تبارك وتعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدين فقط من يحب، ويعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب؛ لهوانها على الله عز وجل، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85].
(لا تعجبك أموالهم وأولادهم)؛ لأن الله لم يرد الإنعام عليهم بها ليدل على رضاه عنهم، بل يريد الانتقام منهم.
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا) بالمشقة في تحصيلها، وبالمشقة في حفظها، وبالمشقة التي تلحقهم في الحزن عليها عند فراقها.
(وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) أي: فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب، وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها.
قال الزمخشري: أعيد قوله: (ولا تعجبك) بأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم، يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.(77/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة فهم لا يفقهون)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86].
(وإذا أنزلت سورة): اختلفوا هل هذا عام في كل سورة أم المقصود به سورة خاصة؟ قال مقاتل: هي سورة براءة بالذات؛ لأنها التي ورد فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
(وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) يفهم من هذا أن المؤمنين أسرعوا إلى الإجابة إلى ذلك، فالمؤمنون يسارعون إلى الإجابة، أما المنافقون فإنهم يتعللون ويفتشون عن المعاذير.
(وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) هذا الأمر: (آمنوا) يحتمل أن يكون موجهاً للمؤمنين والمنافقين، فهناك احتمالان: الاحتمال الأول: أن يكون هذا الأمر موجهاً للمؤمنين، وليس معنى الأمر بالإيمان مع كونهم مؤمنين أنه تحصيل حاصل، وإنما هو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136]، فالمقصود استدامة الإيمان والثبات عليه، وكقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الاحتمال الثاني: أن يكون هذا الأمر موجهاً للمنافقين، وعليه فإن المقصود ابتداء الإيمان، آمنوا بالله واتركوا النفاق الذي أنتم فيه، فهنا ابتداء، وفي حق المؤمنين استدامة، أو أن الخطاب للمنافقين: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا) أيها المنافقون، وكأنه يقول لهم: افعلوا فعل من آمن، أو آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم.
وقيل: قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد؛ لأن الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً.
قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك) يعني: في التخلف (أولوا الطول) أولوا الغنى منهم (وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) مع العاجزين عن الخروج.(77/7)
تفسير قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)
قوله: ((رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ)): دلالة على دنائة همتهم وخفتها.
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]، وهذا إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع وجود الطول -الذي هو الفضل والسعة- وإخبار بسوء طمعهم، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف لحفظ البيوت، والخوالف: هن النساء، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله، وأنه بسبب ذلك (طبع على قلوبهم) أي: ختم عليها (فهم لا يفقهون) أي: ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والهلاك.
قال الزمخشري: يجوز أن يراد السورة بتمامها (وإذا أنزلت سورة) أو أن يراد بعضها في قوله: (وإذا أنزلت سورة) كما يقع القرآن والكتاب على كله أو بعضه.
وقيل: هي براءة؛ لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
وقيل: المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد، وهذا أولى وأفيد كما قال الشهاب؛ لأن استئذانهم عند نزول آية براءة عُلِمَ مما مر، وخص ذوي الطول بأنهم المذمومون وهم من لهم قدرة مالية ويعلم منهم القدرة البدنية أيضاً بالقياس.
(رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) جمع خالفة وهي: المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء، كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وقال الآخر: إن لم أقاتل فألبسوني برقعاً وفَتَخاتٍ في اليدين أربعاً والخالفة: تكون بمعنى: من لا خير فيه، والتاء فيه للنقل للاسمية، والمقصود: من لا فائدة فيه للجهاد.(77/8)
تفسير قوله تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه)
ثم بين تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن والمثوبة الحسنى ضد أولئك، فقال عز وجل: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة:88] يعني: إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد وعن الغزو، فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً، (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) إلى آخره، وهذا من باب قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، أو من باب قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] إلى آخره.
((لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)) يعني: في سبيل الله؛ لغلبة حب الله عليهم على حب الأموال والأنفس.
((وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ))، اختلف في قوله تعالى: (وأولئك لهم الخيرات) فمن نظر إلى قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] قال: إن الخيرات هنا جمع خيرة، وهن الحور العين يعني: النساء الحسان، ويقال: هي خَيْرة النساء، أصلها خيَّرة، فخفف مثل: هيِّنة وهَيْنة، أو هن الفاضلات من كل شيء، أو يكون معنى: (لهم الخيرات) هي غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، وبعض المفسرين رجحوا أن قوله تعالى: (وأولئك لهم الخيرات) يعني: منافع الدارين جمع خير؛ قالوا: لأن اللفظ مطلق، فلا ينبغي تقييده بشيء واحد فقط، مثل الحور العين أو كذا، بل المقصود: الخيرات سواء في الدنيا أو الآخرة، فلهم جميع منافع الدارين من النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في العقبى.
(وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي: الفائزون بالمطلوب، وقد حكي عن ابن عباس أنه قال: إن الخير لا يعلم معناه إلا الله، فلا ينبغي تقييد الخير هنا، بل يطلق ولا يعلم معناه في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل قال في حق أهل الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ثم قال الله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:89] يعني: الذي لا فوز وراءه.
ثم بين تعالى أحوال منافقي الأعراب إثر بيان منافقي أهل المدينة، فالآيات الماضية في حق منافقي المدينة، والآن يبدأ الكلام على منافقي الأعراب، فقال عز وجل: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:90].(77/9)
تفسير سورة التوبة [101 - 106](78/1)
تفسير قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)
قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101].
قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) يعني: حول المدينة.
قال ابن عباس: مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كان فيهم -بعد إسلامهم- منافقون.
وقال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة؛ ولذلك قال تعالى: (وممن حولكم) أي: حول بلدتكم وهي المدينة، (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) يعني: ومن أهل المدينة أيضاً يوجد فيها المنافقون، الذين مرنوا على النفاق، ومهروا فيه.
وقوله تعالى: (ممن حولكم من الأعراب منافقون) هذه جملة اسمية، والمبتدأ قوله تعالى: (منافقون)، فقوله تعالى: (مردوا على النفاق) أي: مرنوا ومهروا فيه.
ويقول القرطبي في معنى (مردوا): أي: أقاموا ولم يتوبوا، بل ثبتوا على النفاق.
وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره، والمعنى متقارب، وأصل كلمة (مرد) من اللين والملامسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء يعني: لا نبت فيها، وغصن أمرد يعني: لا ورق عليه، وفرس أمرد أي: لا شعر على ثنته وهي مؤخر الرسغ، وغلام أمرد بين المرد، يعني: لا لحية في وجهه، ولا يقال: جارية مرداء، وتمريد البناء تمليسه كي يكون مجرداً من أي نتوأت بل أملس، ومنه قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44] أي: أملس من قوارير، وتقول: مردت الغصن يعني: جردته من الورق، يقال: مرد يمرد مروداً ومرادة، فهذا أصل كلمة: (مردوا) مأخوذة من اللين والملامسة والتجرد، فكأن هؤلاء المنافقين تجردوا للنفاق.
وقوله تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) يعني: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم، وفي قوله تعالى: (لا تعلمهم) دليل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه.
والمعنى أن هؤلاء المنافقين يخفون عليك، مع علو كعبك في الفطنة وصدق الفراسة؛ لفرض تألقهم وتطلعهم في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم، وكأن قوله تعالى: (مردوا على النفاق) توطئة وتمهيد لقوله تعالى: (لا تعلمهم)؛ لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به، وفي إظهار التقية، حتى إنك مع كياستك وفطنتك وصدق فراستك لا تستطيع أن تعلمهم حتى نوحي إليك بأخبارهم.
وقوله: (نحن نعلمهم) تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص.
وهناك تفسير آخر لقوله: (لا تعلمهم) أي: لا تعلم عواقبهم، والأظهر ما قدمنا ذكره.(78/2)
عذاب المنافقين مرتين
قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]: اختلفت أقوال المفسرين في تفسير هاتين المرتين: القول الأول: عذبهم عز وجل مرتين: مرة بالآيات التي فضحتهم في هذه السورة، وكشفت نفاقهم، وهذا هو العذاب الأول، والمرة الثانية: إحراق مسجد الضرار، وهذا هو العذاب الثاني.
القول الثاني: المرة الأولى: فضح نفاقهم في الدنيا، والمرة الثانية: عذاب القبر؛ لقوله تعالى: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) فالعذاب العظيم في الآخرة، فدل على وقوع العذاب مرتين قبل الآخرة.
القول الثالث: العذاب الأول: بأخذ الزكاة التي لا ينظرون إليها على أنها تطهرهم وتزكيهم، بل ينظرون إلى الزكاة على أنها مغرم، والعذاب الثاني: تعذيب أبدانهم بالطاعات وبالعبادات الفارغة عن الثواب، فهم يتعبون أجسادهم دون أن يثابوا كما يثاب المؤمنون.
وقال محمد بن إسحاق -وهو القول الرابع: هو فيما بلغني عنهم- ما هم فيه من أمر الإسلام، -أي: من عزة الإسلام-، وما يدخل عليهم من غير ذلك على غير حسبة، هذا هو العذاب الأول، والعذاب الثاني: عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه.
قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق؛ لأنهم في بواطنهم كفار، وضموا إلى الكفر بالباطن إظهار الإسلام في الظاهر، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه؛ لأنهم المنافقون، ثم إنهم مردوا على النفاق وخبروه.
ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، وليست على الحقيقة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4]، فليس المقصود بالكرتين هنا العدد، ولكن المقصود تكرار البصر، يعني: كرة بعد أخرى، فكذلك (سنعذبهم مرتين) أي: نعذبهم مرة بعد أخرى، إشارة إلى التكرار، وكما في قوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:126].
ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا ينافي قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}، قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]؛ لأن الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بين أنه لو شاء لأرى ولأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء المنافقين، وكيف يعرفهم؟ قال: (فلعرفتهم بسيماهم) أي: تعرفهم بسيما وعلامات وأعراض تظهر عليهم، ومن ذلك أنك تعرفهم في لحن القول، القول الذي فيه لحن، وفيه تعريض، وتطاول على شرع الله سبحانه وتعالى.
والمنفي في قوله تعالى: (لا تعلمهم) أي: لا تعلمهم على سبيل التعيين، حتى نعلمك نحن بهم، فأنت لا تعلمهم من تلقاء نفسك؛ لأنهم مرنوا ومردوا على النفاق، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، ويراه صباحاً ومساءً، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر ببكة، فقال: لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب، وأصغى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه، فقال: إن في أصحابي منافقين) أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له، وهذا لا ينطبق على أصحاب الرسول عليه السلام، ولكن يقصد به أولئك المندسين في الصحابة الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان.
وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل له لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير، فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على دينه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد ستراً) ورواه الحاكم أيضاً.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس: فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك! ويقصد رحمه الله: أن على الإنسان ألا يشتغل بمحاكمة الناس بقوله: فلان في الجنة وفلان في النار، وهذا الشخص الذي يحاكم الناس ويحكم لهم بمصائرهم في الآخرة، إذا سألته عن نفسه، قال: لا أدري، مع أنه أعلم بحاله من أحوال الناس، ولقد تكلف هذا الشخص شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبله، قال نبي الله نوح عليه السلام: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:112]، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:86]، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)).
وقوله تبارك وتعالى: ((وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ)) عطف على قوله تعالى: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ)) فهو عطف مفرد على مفرد.(78/3)
تفسير قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم)
ولما بين الله تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الجهاد، رغبة عنه وتكذيباً وشكاً، بين حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة، فقال عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102].
قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) أي: أقروا بها وهي تخلفهم عن الغزو، وإيثار الدعة عليه، والرضا بجوار المنافقين، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، فهذه ميزة هذا الفريق، أما المنافقون فقد استجنوا بالأيمان الكاذبة، وأتوا بالأعذار الواهية.
ثم قال: ((خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)) خلطوا عملاً صالحاً: كالندم، وقيل: ما سبق قبل معصية التخلف من الأعمال الصالحة التي عملوها، (وآخر سيئاً) وهو التخلف عن الجهاد.
((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) أي: يقبل توبتهم (إن الله غفور رحيم) أي: يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
وفي قوله تعالى: (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء، يعني: أصلها (خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً)، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت الماء باللبن.
ففي هذه الآية الكريمة تنبيه على نفي القول بالمحابطة، فتعبير (خلطوا) معناه: أن العمل الصالح باقٍ كما هو، وأنه لم يحبَط بالعمل السيئ، وهذه بشارة للمؤمنين، وهي أن المؤمن إذا ارتكب معصية فإنها لا تحبط العمل الصالح الذي كان قبل، وهناك موضع آخر في القرآن له نفس هذه الدلالة وهو قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، ومعلوم أن مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك كان من المهاجرين، فدلت الآية على أن ما تلبس به من الإفك -نتيجة خوضه في حادثة الإفك- لم يمح عنه صفة الهجرة، ولم يحبط ثواب هجرته، وهذا يدل على أن الكبائر لا تحبط الأعمال الصالحة المتقدمة.
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا على أنهم تخلفوا وأيقنوا بالهلاك، فقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، فربطوا أنفسهم في سواري المسجد -وكان هذا منهم تعبيراً عن التوبة والاعتذار- وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فرآهم في المسجد موثقين بالسواري، فقال: (من هؤلاء الموثقون بالسواري؟!) فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم، فقال: (لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم)، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم من بعد: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]، فجعل أناس يقولون: هلكوا لما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وفريق آخر كانوا يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، انتظروا وتريثوا عسى الله أن يتوب عليهم، حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى آخره.
وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً)، فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين، وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، يعني: أن هذه الآية نزلت في أبي لبابة في موقف آخر، وهو حينما أشار إلى بني قريظة بالذبح لما شاوروه: هل ينزل على حكم سعد؟ فقال لهم: هكذا، وأشار إلى عنقه، يعني: لو نزلتم على حكم سعد فسيكون الذبح، فهذا أيضاً مما قيل في هذه الآية.
وروى البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال، شطر من خلفهم كأحسن ما أن ترى، وشطر كأقبح ما أن ترى، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وذاك منزلك، ثم قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم).
وفي هذه الآية الكريمة نوع من البديع يسمى الاحتباك، وهو مشهور؛ لأن المعنى: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ، وآخر سيئاً بصالح.
قال الرازي: هاهنا
السؤال
وهو أن كلمة (عسى) شك، وهو في حق الله تعالى محال، وجوابه من وجوه، قال المفسرون: كلمة (عسى) من الله واجبة؛ لأن (عسى) من أفعال الترجي، فالله سبحانه وتعالى لا يصح هذا المعنى في حقه عز وجل، وهو الذي يحتمل الشك في الوقوع؛ ولذلك (عسى) من الله واجبة، فأي كلمة (عسى) في القرآن الكريم فهي من الله واجبة، والدليل عليه قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، وقد فعل ذلك، وتحقيق القول فيه: أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، وصاحب السلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً، فإن صاحب السلطان لا يجيبه إلا على سبيل الترجي، بكلمة (عسى) أو (لعل)، لماذا؟ تنبيهاً لعظمة سلطانه، فليس لأحد من خدمه أو حشمه أن يلزمه شيئاً، فإذا فعل ما طلب منه فإنما يفعله على سبيل التفضل والإحسان، وهذا هو فائدة ذكر (عسى)، وهذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن المقصود ما يجب أن يكون المكلف عليه من الطمع والإشفاق؛ بعيداً عن الاتكال والإهمال، وقال القاشاني: الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد، ولين الشكيمة، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه؛ لأنه ملك الرجوع والتوبة، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة من كلمة: (اعترفوا بذنوبهم)، أي: أن كلمة (اعترفوا) تدل على أن أحدهم نظر إلى ذنبه باعتباره فعلاً قبيحاً، واستقباح ما يفعله الإنسان لا يكون إلا بنور البصيرة، وانفتاح عين القلب، إذ لو ارتكمت الظلمة على قلبه ورسخت الرذيلة ما استقبحه، فكون الإنسان يستقبح المعصية فهذا يدل على بقاء نور البصيرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)، بخلاف من يزين له سوء العمل فيراه حسناً، فهل هذا يتوب؟! وهذا شأن المبتدع، المبتدع يزين له سوء عمله ويرى القبيح حسناً، وفي الحديث: (إن الله احتجز التوبة على كل صاحب بدعة).
فمتى ما اعترف الإنسان أن هذا الفعل الذي فعله ذنب، واستقبحه وندم عليه، فهذا يدل على أن في هذا الإنسان خيراً.(78/4)
تفسير قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم)
ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا بها إليه أن يتصدق بها عنهم؛ كفارة لذنوبهم، أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103].
(خذ من أموالهم) من هنا تبعيضية، يعني: خذ بعض أموالهم، وليس كل الأموال، قال المهايمي: لتصدق توبته، أي: هذا دليل على صدق التوبة، حينما تصدقوا بهذا المال، فهذه الصدقة تطهرهم، أي: عما تلطخوا به من أوضار التخلف، ومن أوضار حب المال الذي كان التخلف بسببه، فالذين تخلفوا كان سبب تخلفهم حب الدنيا وحب المال، فيكون التكفير عن هذا الذنب بإخراج شيء من هذا المال كفارة.
(وتزكيهم بها) أي: تصلحهم عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت بسبب المال.
قال الزمخشري: التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه.
فإما أن تكون التزكية بمعنى: أنها مبالغة في التطهير، وإما أن تكون بمعنى: أن الله يبارك لهم في أموالهم.
(وصل عليهم) أي: اعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، (إن صلاتك سكن لهم) أي: تسكن نفوسهم إليها، وتطمئن قلوبهم بها، ويثقون بأن الله سبحانه وتعالى قبل توبتهم.
وقال قتادة: السكن: هو الوقار، (إن صلاتك سكن لهم) يعني: وقار لهم.
القول الثاني: قال ابن عباس: رحمة لهم.
القول الثالث: (إن صلاتك سكن لهم) أي: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، فيطمئنون أنك ما صليت عليهم ودعوت لهم الله سبحانه وتعالى إلا وقد قبل منهم توبتهم وما أنفقوه.
وقيل: قربة لهم.
وقيل: تزكية لهم.
وقد روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل -أي: دعوة صالحة- أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده.
وفي رواية: (إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل، وولده، وولد ولده) يعني: تمتد بركتها إلى الأجيال الثلاثة، والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم، يعني جملة: (إن صلاتك سكن لهم) هي علة للأمر بالصلاة، يعني: صل عليهم؛ لأن صلاتك سكن لهم، (والله سميع) أي: يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، (عليم) أي: بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم.
وإعراب (تطهرهم) على قراءة الرفع في قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) يمكن أن تكون جملة (تطهرهم) صفة لصدقة، ويمكن أن تكون حالاً من الضمير الموجود في قوله: (خذ).
وهناك قراءة أخرى بالجزم (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) على اعتبار أنها واقعة في جواب الأمر، الذي هو (خذ)، والمعنى فيه شرط، أي: إن تأخذْ من أموالهم صدقة تطهرْهم كما في قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل نبك: بدون الياء.
وتاء الخطاب في قوله: (تطهرهم) إما أن تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: أنت تطهرهم، وإما أن تعود على الصدقة، فيكون المعنى: صدقة تطهرهم.
قوله: (وتزكيهم بها) لم تقرأ إلا بإثبات الياء، وهي مرفوعة لأنها معطوفة على تطهرهم، أما على القراءة الأخرى (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) قراءة الجزم، فتكون (وتزكيهم بها) خبر لمحذوف تقديره: وأنت تزكيهم بها، ولا يجوز أن تقرأ إلا بالرفع؛ اتباعاً للمصحف الشريف، وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف على تطهرهم: حالاً أو صفة.
(إن صلاتك سكن لهم) قرئ بالتوحيد: صلاتك، وقرئ أيضاً بالجمع: (إن صلواتك سكن لهم) وهي قراءة أخرى، مراعاة لتعدد المدعو لهم؛ لأنه كان يدعو لأناس كثيرين عليه الصلاة والسلام.
وقال الشهاب: صلواتك جمع صلاة؛ لأنها اسم جنس، والتوحيد لذلك، يعني: إذا قلناها بالتوحيد: (إن صلاتك) فلأنها اسم جنس، أما إذا قلنا: (إن صلواتك) فجمع صلاة.
قيل: المأمور به في آية: (خذ من أموالهم صدقة) الزكاة، و (من) تبعيضية، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم، فأمره الله أن يأخذ بعض مالهم لتوبتهم؛ بخلاف المنافقين، فإن زكاتهم وصدقتهم لم تقبل منهم.
وقيل: هذه الصدقة المذكورة ليست هي الزكاة المفروضة، بل هم لما تابوا بذلوا جميع مالهم تطوعاً؛ كفارة للذنب الصادر منهم، فأمره الله تعالى بأخذ بعض أموالهم وهو الثلث، ولذلك تمسك الإمام مالك رحمه الله تعالى بحديث أبي لبابة وقال: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث.
ونقل الرازي: أن أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ، قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء، يعني: هذه الآية لم تنزل -في رأي الرازي نقلاً عن أكثر الفقهاء- في قصة أبي لبابة وصاحبيه، وإنما نزلت لتستأنف الحكم بإيجاب الزكاة على الأغنياء، إذ هي حجة أكثر الفقهاء على فرضية الزكاة.
والجواب عن ذلك: أن خصوص سبب الآية لا يمنع عموم لفظها، يعني لو قلنا: إنها نزلت في أبي لبابة وصاحبيه حينما أرادوا التكفير بالتصدق، فهذا لا يمنع عموم الحكم في غيرهم، وتشمل بالعموم إيجاب الزكاة.(78/5)
الرد على مانعي الزكاة فيما استدلوا به من هذه الآية
رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية: أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنه المأمور بالأخذ، وبالصلاة على المتصدقين، فغيره لا يقوم مقامه، وأمر بقتالهم، فاهماً من هذه الآية العموم، وهو أن الزكاة ينبغي أن تؤدى لرسول الله أو من يخلفه بعد موته، فوافقه الصحابة وقاتلوهم، حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء المتأولون المرتدون، غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سداً لحاجة المعدم، وتفريجاً لكربة الغارم، وتحريراً لرقاب المستعبدين، وتيسيراً لأبناء السبيل، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة على من فضلوا عليهم في الرزق، حتى لا يحصل حقد طبقي في المجتمع، ويحتد الفقراء على الأغنياء، فأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وأفاض الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فالإمام وولي الأمر لا خصوصية لذاته فيها؛ لأن وظيفته أن يجمع هذا المال من الأغنياء ثم يرده إلى الفقراء، فسواء فعل ذلك الرسول عليه السلام في حياته أو نائبه بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقصود قد حصل.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وعلى القول الأول -يعني: أنها زكاة الفريضة- فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعوا الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضاً منها: التطهير، والتزكية، والصلاة علينا، وقد عدمناه من غيره، وهل دعاء غير الرسول عليه السلام يكون كدعائه هو؟! فمن ثم نحن لا نعطي هذه الصدقات، ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم كالتمر أو أحلى لديهم من التمر فنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
وقال ابن العربي: أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن، غافل عن مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم يرد باباً واحداً، ولكن اختلفت موارده على وجوه -يعني: خطاب القرآن على عدة أنواع، وليس على نوع واحد- فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].
ومنها خطاب خص به، أي: خص به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبداً أن يباح -في حال- لأي إنسان من المسلمين، كأن تهب امرأة نفسها لرجل فتصير زوجة له، وهذا لا يجوز إلا للنبي عليه السلام بنص القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، يعني: هذا حكم خاص بك، لا يشركك فيه أحد من المؤمنين.
ومنها خطاب خص به لفظاً وشركه جميع الأمة معنىً وفعلاً، يعني: إن اللفظ نفسه يخاطب الرسول عليه السلام، لكن من حيث المعنى يشاركه فيه جميع الأمة، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فهنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه خطاب له وللأمة معه.
كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]، هل هذا خاص بالرسول عليه السلام؟ هذا الخطاب من حيث اللفظ هو للرسول، لكن من حيث المعنى تشاركه الأمة في حكمه.
ومنها قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] إلى آخره، في صلاة الخوف، خطاب له عليه الصلاة والسلام، ولكنه يعم كل من أراد أن يقيم صلاة الخوف، فيقيمها على تلك الصفة المذكورة.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فلفظ الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحكم والمعنى يسري على أمته.
وعلى هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1].
إذاً: هذا هو الرد على استدلال مانعي الزكاة الذين قالوا: نحن لا نبذل الزكاة لغير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأخذوا بظاهر هذه الآية الكريمة! قوله تبارك وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة): مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا فيه تبيين مقدار المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع، وهذه من مواضع الإجمال في القرآن الكريم، ثم فسرتها السنة، كما هو حال كثير من الأحكام الشرعية: كالطهارة والصلاة والحج وغير ذلك، فهنا أتى الأمر مجملاً ثم فصلته السنة وبينت أنواع الزكاة، ومن الذي تؤخذ منه الزكاة؟ وما مصارف الزكاة؟ وغير ذلك مما هو معلوم.(78/6)
حكم الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً
قوله تعالى: ((وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)) استدل بها على ندب الدعاء للمتصدق، وأن الإمام يستحب له أن يدعو للشخص المتصدق، قال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت، وقال آخرون: يقول: (اللهم صلِّ على فلان)، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه -وكان من أصحاب الشجرة- أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) متفق عليه.
قال ابن كثير: وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت: (يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك)، وبهذين الحديثين رد على من زعم أن المراد بصل عليهم: أي: إذا ماتوا، بل هذا الحديث يدل على أن موضع هذه الصلاة عند بذل الصدقات، ولذلك قال الفقهاء: يسن للإمام إذا أُعطي الصدقات أن يدعو لمن بذلها.
ودلت الآية -كالحديثين- على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وهذه من المسائل المختلف فيها، فهل يجوز أن يقال في حق غير الأنبياء: فلان صلى الله عليه؟ يؤخذ من الآية: أنه يجوز ذلك، أما إذا جاءت على سبيل التبعية، فلا شيء فيها ولا خلاف، كما تقول: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهنا صليت على الآل وعلى الصحب وعلى التابعين بإحسان، لكن ليس استقلالاً، بل على سبيل التبعية، تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن
السؤال
هل يجوز استقلالاً أن تقول: اللهم صلِّ على فلان وهو من غير الأنبياء؟ قال الرازي: روى الكعبي في تفسيره أن علياً رضي الله تعالى عنه قال لـ عمر رضي الله عنه وهو مسجى: عليك الصلاة والسلام، ومن الناس من أنكر ذلك.
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الرازي: إن أصحابنا يمنعون من ذكر: صلوات الله عليه، وعليه الصلاة والسلام، إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
والشيعة يذكرونه في علي وأولاده، واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة، فكيف يمنع في حق علي والحسن والحسين عليهم رضوان الله؟! قال: ورأيت بعضهم قال: أليس الرجل إذا قال: سلام عليكم يقال له: وعليكم السلام؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فالأولى بذلك آل البيت.
انتهى ما نقله الرازي.
ثم يعلق القاسمي -رحمه الله تعالى- قائلاً: إن المنع من ذلك -يعني: من الصلاة استقلالاً على غير الأنبياء- أدبي لا شرعي، وباب الآداب أوسع من باب المسائل الشرعية التي تنسب إلى الشرع، فباب الأدب يرجع إلى الكمالات النفسية، وأحياناً يرجع إلى الأعراف، ولا يطالب الإنسان في كل أدب أن يقيم الدليل الشرعي عليه، فباب الآداب يرجع فيه كثيراً إلى الأعراف.
ومثاله: إذا أتيت شخصاً وأنكرت عليه مضغ اللبان في الشارع وهو يمشي في الطريق، وكان ذلك مستهجناً في العرف، فلا يصح أن يطالبك بالدليل الشرعي؛ لأن هذه الآداب ترجع إلى أعراف الناس، ونحن ينبغي علينا أن نحترم العرف إلا إذا صادم دليلاً شرعياً.
فيقول القاسمي رحمه الله تعالى: إن المنع من ذلك، أدبي لا شرعي؛ لأنه صار في العرف دعاءً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وشعاراً له كالعلم للغلبة، فغيره لا يطلق عليه إلا تبعية له، ويقصد بالعرف هنا عرف العلماء، حيث صار هذا اللفظ لا يطلق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً، وعلى غيره بالتبعية، فهذا من الأعراف ومن الآداب اللفظية.
قال الرازي في سر كون صلاته صلى الله عليه وسلم سكناً لهم: إن روح محمد عليه الصلاة والسلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم؛ فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم.(78/7)
تفسير قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده)
قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104] ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة: أي: أن التوبة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، والله وحده هو الذي يقبل التوبة، فلا يصل إلى ذلك ملك ولا نبي.
قوله: (عن عباده) يعني: من عبيده، تقول: أخذته منك وأخذته عنك، (ويأخذ الصدقات) يأخذ هنا بمعنى: يقبل، ومثله قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] أي: اقبله.
((وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))، يقول القاسمي: هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها، وإخبار بأن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق تقبل منه.
والمقصود من الاستفهام في قوله: (ألم يعلموا): التقرير.
نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر عن حوشب قال: غزا الناس في زمن معاوية وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد رضي الله عنه، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية، قبل أن تقسم الغنيمة، فلما قفل الجيش -رجع- ندم وأتى الأمير، يريد أن يبرأ ذمته ويتوب ويعيد المائة دينار، فأبى الأمير أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس، فلن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة! فجعل الرجل يأتي الصحابة فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبى، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بـ عبد الله بن الشاعر فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال له: أومطيعي أنت؟ قال: نعم، قال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فدفع إليه عشرين ديناراً، وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم؛ وذلك لأن الخمس للإمام، وأما الباقي فللجيش، إلا أن الجيش قد تفرق، ولذلك قال: وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش؛ ففعل الرجل، فقال معاوية: لئن أكون أفتيت بهذا أحب إلي من كل شيء أملكه، لقد أحسن الرجل.(78/8)
تفسير قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
قال تبارك وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]، قوله: (وقل اعملوا) هذا الخطاب للذين تابوا، أو هو خطاب للجميع، لمن تاب ولمن لم يتب، لأن الجميع مأمور بالعمل.
(فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) يعني: باطلاعه إياهم على أعمالكم، فقل لأهل التوبة والتزكية والصلاح: لا تكتفوا بتلك التوبة وقبولها، بل اعملوا جميعاً ما تؤمرون به.
(فسيرى الله عملكم) يعني: فيزيدكم قرباً على قرب، وقوله: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) نص بليغ جامع للترغيب والترهيب؛ وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله؛ لأنه لن يجازيه، لعدم علمه بما عمله العبد، ولهذا استعمل إبراهيم هذا الدليل في دحض ما كان عليه أبوه، فقال له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: تتقرب للصنم وتعبده وتبذل له القرابين وتدعوه وتسأله وتستغيث به، وهو في غفلة عنك، حجر أصم لا يسمع ولا يعقل، (ولا يغني عنك شيئاً) لا يملك لك ضراً ولا نفعاً! فإذا كان لا يعرف عملك الذي عملته، فكيف يجازيك؟! وكيف يطلب من هذا المعبود الثواب؟! وكيف يرهب منه عقاب؟! فمن ثم نقول: إن هذا الجزء من الآية جامع للترغيب والترهيب، وجاءت صيغ أخرى تدل على استعمال هذه الصيغة للترهيب والتهديد، كقوله تبارك وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، ومنه: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به).
كذلك هنا: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ)) يعني: سيجازيكم الله عليه، وسيزيدكم قرباً على قرب، ويزيدكم رسوله صلوات، والمؤمنون يتبعونكم في الخير الذي فعلتموه، فيحصل لكم أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
وقال أبو مسلم: إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية، فالمؤمنون يشهدون بما رأوا من أعمال لهذا الإنسان أو لذاك.
فبما أن المؤمنين شهداء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كما قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية؛ ذكر تعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصود: التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين؛ لأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد.
ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره؛ لأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين، قال ابن كثير: وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]، وقال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10]، وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا، كما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعاً: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائناً من كان).
وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما في مسند أحمد والطيالسي.
قوله: ((وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) يعني: بالموت ((فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) يعني: بالمجازاة عليه.(78/9)
تفسير قوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله)
قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] الواو عطف على قوله تعالى: ((وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ))، فالمعنى: منهم منافقون ومنهم آخرون مرجون لأمر الله، {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كلمة (إما) تستعمل لوقوع أحد الشيئين، والله تبارك وتعالى عالم بما يصير إليه أمرهم لكنه خاطب العباد بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم، عندكم على الخوف والرجاء.
(وآخرون) يعني: من المتخلفين، (مرجون لأمر الله) يعني: أمرهم مؤخر انتظاراً لحكمه تعالى فيهم، لتردد حالهم بين أمرين: إما يعذبهم؛ لتخلفهم عن غزوة تبوك، وإما يتوب عليهم، أي: يتجاوز عنهم.
(والله عليم) أي: بأحوالهم، أو عليم بما يئول إليه حالهم.
(حكيم) أي: فيما يحكم عليهم.
وقرئ في السبع: (وآخرون مرجئون لأمر الله)، وقرئ: (مرجون)، كما قرئ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، أو (ترجئ من تشاء)، يقال: أرجأته وأرجيته كأعطيته.
وروي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين، وكذا قال الأصم: إنهم منافقون أرجأهم الله، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآناً، فقال: (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم).
وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أنهم الثلاثة الذين خلفوا، يعني: خلفوا عن التوبة، وهم: مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد؛ كسلاً وميلاً إلى الدعة وطيب الثمار والظلال، لا شكاً ونفاقاً، وسبق أن طائفة من المتخلفين عن الغزوة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة، ولم يبالغوا في الاعتذار، ولم يوثقوا أنفسهم، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم، حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118].
يقول القاسمي: فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء حتى نزلت الآية الآتية، وهي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:117]، إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118].
قال في العناية: وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم والجهاد فرض كفاية؛ لما قيل: إنه كان على الأنصار خاصة فرض عين؛ لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ألا ترى قول راجزهم في الخندق: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً فالأنصار كان الجهاد عليهم فرض عين إلى الأبد -على قولٍ-، وهؤلاء الثلاثة منهم، فكان تخلفهم كبيرة.(78/10)
تفسير سورة التوبة [107 - 110](79/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107].
(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) عطف جملة على جملة، يعني: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، (ضراراً) إعرابها: مفعول لأجله، وتفسير الآية يوضح إعرابها، فهم اتخذوا المسجد من أجل الضرار.
وقد ذكر الضرار في قوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار، (من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه).
قوله: (وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) أي: يفرقون به جماعتهم؛ ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب، واجتماع الكلمة على الطاعة، وعقد الزمام، والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد.
ولذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا في تفسيره: تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافاً لسائر العلماء.
يعني: العلماء الذين ذهبوا إلى منع تعدد الجماعة في المسجد الواحد الذي له إمام راتب فطنوا إلى هذا، وهو أن الجماعة شرعت من أجل ارتباط القلوب، والتحاب، والتعاطف بين المسلمين، وتكرر الجماعة يفتح الذريعة إلى الطعن في الإمام، وإلى تفرق القلوب، كما حصل من أهل البدع كأمثال أهل التكفير حينما كانوا يتعمدون التخلف عن الجماعة الأولى، ويقيمون جماعة ثانية؛ لأنهم يكفرون الإمام أو يفسقونه أو يطعنون فيه، فالعلماء سدوا هذا الباب، ومنعوا إقامة جماعة ثانية في المسجد الواحد، وهذا مذهب كثير من العلماء، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في هذه المسألة.
قال: وروي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتاً للكلمة وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر، فيقيم جماعته، ويقدم إمامه، فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك على بعض العلماء، قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدماً منهم في الحكمة، وأعلم بمقاصد الشريعة.
((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)) (من قبل) يعني: من قبل بناء مسجد الضرار.
((وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى)) يعني: إلا الفعلة الحسنى، فالحسنى هنا صفة لمحذوف تقديره: إلا الفعلة أو الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين ذوي العلة والحاجة، هذه هي الحسنى التي زعموها؛ لأن مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام بعيد، وهناك ناس مرضى وذوو حاجة وعندهم علل، وحتى لا يشق عليهم نبني لهم هذا المسجد ليصلوا فيه ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)).
قوله تعالى: (والذين) أي: ومن المنافقين الذين (اتخذوا) أي: بنوا مسجداً، (ضراراً) أي: مضارة لأهل مسجد قباء، لأن الضرار ليس بالمسجد: بالحجارة والطوب والأرض، إنما الإضرار بأهل المسجد، (وكفراً) يعني: بالله ورسوله، أو تقوية للكفر الذي يضمرونه.
(وتفريقاً بين المؤمنين) أي: الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً، يؤدون أجل الأعمال وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات، ورفع الاختلاف من بينهم.
(وإرصاداً): إعداداً وترقباً وانتظاراً، (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي: من كفر بالله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً، وسمي بـ أبي عامر الراهب؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم، فمات كافراً بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو عامر هذا الكافر خرج من ظهره مؤمن، وهو حنظلة الملقب بغسيل الملائكة، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31]، وكان حنظلة رضي الله تعالى عنه قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه الخائن، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، كما فعل عبد الله بن عبد الله بن أبي حينما استأذن النبي أن يقتل أباه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولكن بر أباك وأحسن صحبته)، وقد قتل عبد الله بن عبد الله بن أبي شهيداً في معركة اليمامة تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه.
وحنظلة بنى بزوجته ليلة أحد، فكانت غزوة أحد صبيحة زفافه، ولما سمع داعي الجهاد لحق به على عجل، ولم يغتسل من الجنابة، وقتل في المعركة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله ما شأنه؟ ما الخبر؟ لماذا هو بالذات تغسله الملائكة؟! وما كان أحد يعرف السر في ذلك، فسألوا زوجته وهي جميلة بنت أبي بن سلول وكانت عروساً عليه تلك الليلة، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتف، فقال صلى الله عليه وسلم: (كذلك غسلته الملائكة) رضي الله عنه.
وقد مر أبو عامر الخائن على ابنه حنظلة، وهو مضرج بدمائه بين الشهداء قتيلاً، فضربه برجله في صدره، وقال له: ذنبان أصبتهما، ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنت وصولاً للرحم.
وأبو عامر هو الذي حلف ألا تقع معركة مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا وشارك فيها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: فاسقاً.
قوله: (وليحلفن) يعني: بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة، وقلنا من قبل: إن من خصائص المنافقين: الاستجنان بالأيمان الكاذبة؛ ليصدوا عن سبيل الله، ويستروا عداءهم للدين، وقد جاء ذكر حلفهم في عدة مواضع، منها: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62].
فهم بعدما تفتضح نواياهم وتظهر مقاصدهم السيئة يلوذون بالحلف.
قولهم: (إن أردنا إلا الحسنى) أي: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإرادة الحسنى، وهي: الصلاة وذكر الله، والتوسعة على المصلين، وقال بعضهم: (الحسنى) طاعة الله، وقيل: (الحسنى) الجنة، وقيل: (الحسنى) فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة.
(والله يشهد إنهم لكاذبون) يعني: في حلفهم.(79/2)
تفسير قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى)
قال الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] أي: لا تصل في مسجد الشقاق أبداً، في أي وقت من الأوقات، لكونه موضع غضب الله، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه.
وأطلق هنا القائم على المصلي؛ لأن الصلاة أحياناً يعبر عنها ببعض أجزائها، كما تقول: صليت ركعة، وهل تقصد ركعة فقط، أم تقصد القيام والركوع والسجود والتشهد وغيره؟! (لا تقم فيه أبداً) يعني: لا تصل فيه أبداً، وفي الحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) يعني: من صلى.
قوله تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة:108] (لمسجد) اللام لام القسم، يعني: والله لمسجد، وقيل: هي لام الابتداء وهي تقتضي التأكيد، (لمسجد أسس على التقوى) أي: بنيت قواعده على طاعة الله وذكره، وقصد التحفظ من معاصي الله، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمسجد الذي بناه المتقون على هذا الأساس هو مسجد قباء.
(من أول يوم) يعني: من أول يوم من أيام وجوده، (أحق أن تقوم فيه) يعني: أن تصلي فيه، (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) المقصود بالمطهرين: المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، الطهارة الظاهرة: بالماء، والباطنة: بالتوبة من الذنوب، والله يحب المطهرين المتصفين بالطهارتين.
قوله تعالى: (من أول يوم) معناها: منذ أول يوم، قال الزجاج: (من) في الزمان والأصل منذ ومذ، يعني: أن (من) إذا استعملت في الزمان يكون أصلها منذ، (من أول يوم) أي: منذ أو مذ أول يوم، وهو الأكثر في الاستعمال.
وجائز دخول (من) لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير: لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر الحجر: منازل ثمود، ناحية الشام، في وادي القرى.
والقنة: أعلى الجبل، أو هي الجبل الذي ليس بمنتشر، أقوين يعني: خلون وأقفرن، من حجج، أي: من سنوات، وفي القرآن: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] يعني: ثمان سنوات، من شهر: أي: من شهور.
يقول القرطبي: أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية، ووظيفة شرعية.
وفي الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم، وقال: حديث صحيح.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء، فكان يستعمل الحجارة تخفيفاً، والماء تطهيراً.(79/3)
تفسير قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله)
ثم قال تبارك وتعالى إشارة إلى فضل مسجد التقوى -مسجد قباء- على مسجد الضرار: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: بفتح الألف في الحرفين جميعاً ((أَفَمَنْ أَسَّسَ)) إلى قوله: ((خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ))، وبالتالي يفتح النون في: (أفمن أسس بنيانَه)، وفي الثانية: (أمن أسس بنيانَه) على أنهما في الحالتين مفعول به.
وقرأ نافع وابن عامر: (أفمن أُسس بنيانُه على تقوى من الله ورضوان خير أممن أُسس بنيانُه) بضم الألف في أسس، ورفع النون في بنيانه على أنها نائب فاعل.
قوله: (على شفا جرف هار فانهار به) أي: انهار به الجرف، أو أن الضمير في (به) يعود على من.
قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه)، يعني: المبني، والتأسيس: إحكام أسس البناء وهو أصله، فأسس البناء يعني: أصله.
(على تقوى من الله) أي: على مخافة من الله.
(ورضوان) أي: طلب رضوان منه.
(خير أمن أسس بنيانه على شفا): شفا الشيء يعني: حرفه وطرفه.
(جرف هار) جرف: بضم الراء وسكونها، والضم هو الأصل والإسكان تخفيف، كما في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:55]، فـ (شغل) بالضم وهو الأصل وبالسكون تخفيفاً، كذلك الرسّل والرسْل.
(جرف) يعني: مهواة وهو ما يتجرف بالسيول من الأودية، (على شفا جرف هار) يعني: مشرف على السقوط، وقرأ ابن كثير وحمزة (هار) بالإمالة.
(فانهار به) أي: بالباني فسقط معه في نار جهنم، كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9]، ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).(79/4)
تفسير قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)
قال الله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110] (لا يزال بنيانهم) يعني: مسجد الضرار، (الذي بنوا ريبة في قلوبهم) يعني: لا يزول وشمه عن قلوبهم ولا يضمحل أثره، هذا قول.
وهناك قول آخر في معنى: (ريبة في قلوبهم) أي: حسرة وندامة، فهم نادمون على بنائه؛ لأنه تهدم وفضحوا.
وقول ثالث: (ريبة في قلوبهم) يعني: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم، فما يزال يشعل الغيظ والحقد والحزازة في قلوبهم.
(إلا أن تقطع قلوبهم) يعني: تقطع قلوبهم قطعاً وتتفرق أجزاءً حتى يموتوا، كما في قوله: {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:46]، والقصد: أنه ستبقى فيهم الحزازة والندم والحسرة والريبة والشك إلى أن تقطع قلوبهم قطعاً، وأما ما دامت قلوبهم سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيهم متمكنة أو تقطع قلوبهم بعذاب النار، وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم.
قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) أي: بنياتهم.
قوله: (حَكِيمٌ) أي: عندما أمر بهدم بنيانهم؛ حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة.
وفي قراءة يعقوب: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلى أن تقطع قلوبهم) فجعله حرف جر على الغاية، والمعنى: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا.(79/5)
سبب نزول الآيات المتعلقة بمسجد الضرار
كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف كبير في الخزرج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر؛ شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبرز بالعداوة، وخرج فاراً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان مما امتحنهم الله عز وجل به، وكانت العاقبة للمتقين، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وكان أبو عامر أرسل لهم: أعدوا لي مكاناً إذا أتيتكم؛ لنجتمع فيه، ويكون مأوىً وملجأً لنا، بحيث منه تنطلق المحاربة للرسول عليه الصلاة والسلام، وليكون هذا المكان معقلاً ومرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك، فأتوه فقالوا: (يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه) فلما نزل بذي أوان، موضع على ساعة من المدينة، أتاه خبر المسجد عن طريق الوحي، وأنه إنما بني للأغراض التي ذكرها الله في قوله عز وجل: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)) فدعا صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصماً، فقال: (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لـ معن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان، حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه) ونزل فيهم ما نزل.
وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فسألوه أن يأذن لـ مجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضرار؟ فقال مجمع: يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليّ، فوالله! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخاً لا يقرءون، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في نفوسهم، فعذره عمر، فأجازه بالصلاة في مسجد قباء.(79/6)
حكم المساجد المبنية لغرض الضرار والصلاة فيها
دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح الوقف عليه، وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة.
وقال الزمخشري: قيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب؛ فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة، فقيل له: مسجد بني عامر لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً.
وعن عطاء قال: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه.
فبناء المسجد للإضرار بالمسجد الآخر من الضرار؛ لأن الأمر يصير فوضى، والآن الفوضى ليس فقط في المساجد، بل فوضى في كل شيء، فوضى في طباعة المصاحف، فكثرة نزول المصاحف بهذه الطريقة غير صحيح، لابد أن تكون هناك ضوابط لتوزيع المصاحف، حتى إن بعض محلات النصارى يبيعون فيها المصاحف، فيمكّن النصراني من مس المصحف وبيعه والاتجار به، فوضى عارمة، فموضوع المساجد فيها فوضى، تجد الآن في الشارع الواحد مسجداً وأمامه مسجد، وبين كل مسجد ومسجد مسجد! فوضى تكاد تقضي تماماً على حكمة تشريع صلاة الجماعة، حيث يتناحر الناس وتحصل بينهم الفتن، فمنذ أسابيع قليلة قام الخطيب على المنبر ليخطب الجمعة، وهناك مسجد آخر على بعد خطوات قليلة، وأهل المسجد سلطوا الميكروفون على هذا المسجد، فالإمام على المنبر لا يستطيع أن ينطق بكلمة واحدة، فاختصر الخطبة في أقل من ثلاث دقائق؛ لأنه ما استطاع أن يخطب من شدة الأذية والإضرار الذي حصل من تسليط مكبر الصوت بطريقة سيئة جداً، حتى أن الخطيب اضطر إلى اختصار الخطبة إلى أقصى ما تتخيلوا، ونزل صلى وما عرف حتى يصلي، فهذا من أقبح صور الضرار! نقول: ما دام المنطقة الواحدة فيها مسجد جامع فالناس يجتمعون فيه، أما أن يكون بهذه الفوضى التي تحصل الآن، فهذا قضاء على الحكمة من تشريع الجماعة، وفيه معنى من معاني الضرار كما ذكرنا.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه؛ لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد، فيبنى حينئذ.
وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان أو ثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، فقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه.
وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر.
قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم، كالمسجد لنا فافترقا.
وقال علماؤنا رحمهم الله تعالى: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه بقوله: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يهدم ويُزال إذا كان فيه ضرر لغيره، فما ظنك بسواه، بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم، وذلك كمن بنى فرناً أو رحىً أو حفر بئراً أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على غيره.
وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضرر الداخل من الفعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول، مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه، وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم، وقد ورد النهي عنه، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح، مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر؛ لكنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما، وهذا الحكم في هذا الباب خلافاً للشافعي ومن قال بقوله، قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئراً وحفر آخر في ملكه بئراً يسرق منها ماء البئر الأول جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك.
أورد القرطبي هذا الكلام منتقداً للشافعية.
ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآن والسنة يردان هذا القول وبالله التوفيق.
والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار، فلا يحفر الشخص بئراً في أرضه بحيث يغور بئر جاره فيضر به، أو يجعل في أرضه مكاناً لقضاء الحاجة فتتسرب النجاسة إلى بئر جاره وتفسد عليه ماء بئره، هذا كله مما يرده القرآن والسنة.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه مثل: دخان الفرن، كأن يقوم شخص ببناء فرن تحت عمارة يخرج منه دخان يؤذي الساكنين، فهذا من الأذية، وكذلك غبار الأندر، وهو المكان الذي يداس فيه الحبوب.
ثم يقول: والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه، وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى للناس عنه، وليس مما يستحق به شيء، فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم، فأكبر الصبر على ذلك مقدار ساعة شيء يسير، وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر، كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
على أي الأحوال مراعاة الجار بالذات في موضوع الإضرار أمر مهم جداً يجب مراعاته، حتى القوانين الوضعية تحاول أن تحميه، لكن يبلغ الناس أحياناً في العناد مبلغاً عجيباً جداً، لقد سمعت عن حادثة وهي أن رجلاً بنى بيتاً عالياً بجوار فلة منخفضة، والسور مشترك بين الفلة وبين هذه العمارة، فصاحب العمارة قام وفتح نافذة تطل على هذه الفلة، فحصلت قضايا ومشاكل انتهت بأن قام صاحب الفلة بعمارة الدور الأخير ورد الجدار للخلف قليلاً، بحيث يعمل فيه (بلكونة) في هذا الجدار، وفتح فيها نافذة باتجاه صاحب العمارة، فصاحب العمارة عاند وقام ببناء سور للعمارة عالياً من الأرض إلى آخر دور؛ ليسد على جاره (البلكونة) الجديدة التي بناها، حتى يمنعه من أن ينتفع بهذه الفتحة!(79/7)
الفوائد المستخلصة من هدم مسجد الضرار
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائد غزوة تبوك: ومنها: تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه؛ لكن لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوىً للمنافقين أمر بهدمه وتحريقه، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله.
معنى ذلك: أن الهدم والحرق والقتل وغيرها كل هذه من اختصاص الإمام وليست إلى آحاد الرعية.
ثم يقول: فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له، وإذا كان شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بذلك وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية.
كذلك من قبل عمر همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجمعة والجماعة، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك.
ثم قال: ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة، كما لم يصح وقف هذا المسجد، وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً.
ثم قال ابن القيم: فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم وغربته بين الناس كما ترى.(79/8)
فوائد مستنبطة من آيات مسجد الضرار
يقول القاسمي: قال بعض المفسرين اليمانيين: في الآيات دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة يعني: المؤسس على التقوى.
وفيها: أن نية القربة في عمارة المسجد شرط؛ لأن النية هي التي تميز الأفعال.
وفيها: أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار؛ لأنه قال تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)) وأراد بالقيام الصلاة.
وقال ابن كثير: في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات.
وقد روى الإمام أحمد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فأوهم -يعني: اختلطت عليه القراءة-، فلما انصرف قال: إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء) فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.
وذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية: الطهارة من الذنوب والتوبة منها والتطهر من الشرك.
قال الرازي: وهذا القول متعين؛ لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى، واستحقاق ثوابه ومدحه؛ ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب أن يكون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي.
يقول القاسمي: لا تسلم دعوى التعين، فإن اللفظ يتناول الطهارتين: الباطنة والظاهرة، بل الأقرب هنا هي الثانية؛ وذلك لما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟ قالوا: نستنجي بالماء) وهذا يدل على أن الآية تشمل الطهارتين معاً.
ويقول القاسمي أيضاً: قال القاشاني: لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت مباركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله، بنيةٍ صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى، ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع والكدورة والتفرقة في بعضها، فما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)).
والعوام يعبرون عن هذا مثل هذه العبارات التي ذكرها القاشاني، يقول لك: المكان هذا ريحه طيب، أو له نفسٌ طيب.
وهذه تتفاوت من مكان إلى آخر، فإنك إذا دخلت مكاناً معيناً أو مسجداً معيناً تشعر فيه براحة وبخشوع وببركة، وقد تدخل مسجداً آخر قد لا تجد فيه نفس هذه الراحة، فما مرجع ذلك؟ مرجع ذلك إلى صفاء نية من أسس هذا المسجد، والقبول الذي يوضع لبعض هذه الأماكن هو ثمرة صفاء نيته، وأنه أراد به وجه الله سبحانه وتعالى، لذلك تجد هذه الراحة النفسية في المساجد التي أسست على السنة وعلى التوحيد، فتجد فيها من الخشوع ومن البركة ما لا تحس أبداً فيما عداها من مساجد أهل البدع.
ثم يقول: ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها، وما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)) لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنياً على التقوى وصفاء النفس، تأثرت النفس باجتماع الهمة وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان، وإذا كان مبنياً على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض، وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني وصدق نيته مؤثر في البناء، وأن تبرك المكان وكونه مبنياً على الخير يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حاله حال بانيه، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة؛ وذلك لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)).(79/9)
تفسير سورة التوبة [111 - 120](80/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان، والأنفس مفتونة بمحبة الأموال والأنفس، استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة الأموال والأنفس بالتجارة الرابحة المربحة والمعاملة المرغوبة، بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم، فعوض لهم خيراً مما أخذ منهم، فالآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، وهذا التعبير دقيق من القاسمي رحمه الله تعالى، فقوله: إن الآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، ولم يقل: إن الآية ترغيب في الاستشهاد؛ لأن الآية تضمن هذا الوعد العظيم من التضحية في سبيل الله بالروح وبالمال وكذلك بالمشاركة في الجهاد حتى ولو سلم المجاهد؛ لأنه قال: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) ولم يقل: فيقتلون فحسب، فدل على الترغيب في الجهاد بصفة عامة.
قال أبو السعود: ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تبارك وتعالى، وإثابته إياهم لمقابلتها بالجنة، عبر عن هذه المعاملة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يجعل الأمر على العكس.
يعني: لم يقل: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها، إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم، ثم إنه لم يقل تبارك وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة، وإنما قال: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)؛ مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم؛ لأنه لو قال: بالجنة وحسب يكون أضعف، لكن البلاغة كلها في قوله: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن -توكيد- لهم الجنة، يعني الجنة لهم، ففيها تقرير أو مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم، واختصاصه بهم أيضاً، كأنه قيل: الجنة الثابتة لهم المختصة بهم؛ وذلك لأن الإنسان مهما ضحى فكل تضحية سيوجد ما هو أعلى منها، فإذا ضحى الإنسان بمال وبأعراض الدنيا فإنه سيضحي في سبيل الله بما هو أعلى ألا وهي نفسه التي بين جنبيه، فليس هناك ما هو أعلى من التضحية بالنفس، ولذلك قال الشاعر: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود يعني: ليس بعد الجود بالنفس مرتبة، ولذلك كافأهم الله سبحانه وتعالى عليها بهذه الصفقة.
ويقول جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تشترى الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن أي: إذا أنفق الإنسان نفسه وروحه في سبيل الدنيا ستضيع الدنيا ويضيع الثمن عليه، لكن إذا خرج في سبيل الله وأذهب روحه في سبيل الله؛ سيبقى له هذا الثواب الجزيل العظيم.
ولا ترى ترغيباً في الجهاد بأحسن ولا أبلغ من هذه الآية؛ لأنه أبرزه في صورة عقد عقده وباشر العقد رب العزة سبحانه وتعالى، أما ثمنه فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم فقط شهداء، وإنما إذا كانوا قاتلين لإعلاء كلمته ونصر دينه، وجعل هذا العقد مسجلاً في الكتب السماوية، كما قال عز وجل: ((وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ)) وناهيك به من صك.
ووعد الله حق، ولا أحد أوفى من وعده، فنسيئته أقوى من نقد غيره في الحال؛ لأنه وعد الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد.
وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية، صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء بقوله تبارك وتعالى: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه إشارة إلى مكان التسليم، كل عقد له أركان: البائع، والمشتري، والمبيع (الصفقة)، وأيضاً المكان، فبعض العقود يشترط فيها تحديد المكان، مثل عقد السلم، فهو من العقود التي لا بد فيها من تحديد مكان التسليم، فالله سبحانه وتعالى في هذا العقد أشار إلى مكان التسليم وهو ساحة الجهاد في سبيل الله حينما قال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وإنفاذ هذه الصفقة في المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: (الجنة تحت ظلال السيوف).
ثم أمضاه عز وجل بقوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي هذا من البلاغة والنصائح المناسبة للمقام، فهم لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازاً عن الاستبدال، وإن ذكروه في غير هذا الموضع؛ لأن قوله تعالى: (إن الله اشترى) يقتضي أنه شراء وبيع، وقوله هنا: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) فهذا أيضاً يقتضي أنه شراء وبيع، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل.
قوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً، لكن هو لا بد من حصوله؛ لأنه وعد من الله سبحانه وتعالى، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها بقوله: (فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أيضاً تأكيد له، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار.
وفيها: أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين على تحريفهما ما يشير إلى الجهاد والحث عليه، نقله عنهما من رد على الكتابيين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك، ففي بعض نصوص التوراة وبعض نصوص الإنجيل -رغم التحريف الذي طرأ عليهما- إثبات شريعة الجهاد في رسالة موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويمكن أن يرجع إلى ذلك إلى الكتب المتداولة في دحض عقائد النصارى مثل كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، ففي هذا الكتاب فصل مستقل في أن الجهاد ليس من خصائص الإسلام.(80/2)
تفسير قوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون)
لقد وصف الله تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم فقال سبحانه وتعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] قوله: (التائبون) يعني: عن المعاصي، ورفعه على المدح، يعني: هم التائبون، كما دل عليه قراءة التائبين بالياء إلى قوله: (والحافظين) نصباً على المدح، أو جراً صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) فإذا جرت تكون صفة للمؤمنين، أو نصباً على المدح، لكن هنا مرفوعة، فيجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده (التائبون العابدون) إلى آخره.
قوله: (التائبون) أي: من المعاصي حقيقة، الجامعون لهذه الصفات.
قوله: (العابدون) أي: الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها.
قوله: (الحامدون) أي: الحامدون لله على نعمائه أو على ما نابهم من السراء والضراء.
قوله: (السائحون) يعني: الصائمون، أو الضاربون في الأرض تدبراً واعتباراً، وإن شاء الله سنذكر تفاصيل معنى كلمة السائحين.
قوله: (الراكعون الساجدون) يعني: المصلون؛ لأن الركوع والسجود من حالات الصلاة، أما ما عدا الركوع والسجود فقد تشتبه بأحوال غير الصلاة، فقد نرى إنساناً قائماً ولا نميز هل هو قائم يصلي أم قائم في غير صلاة، وكذلك القاعد، بخلاف الراكع والساجد فإنه لا يشتبه على من رآه أنه يصلي؛ لأن الركوع والسجود فيها أعلى درجات الخضوع والخشوع لله سبحانه وتعالى.
قوله: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) يعني: في تحليله وتحريمه.
قوله: (وبشر المؤمنين) الموصوفين بالنعوت المذكورة، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم، يعني: لم يقل: وبشرهم، وإنما قال: (وبشر المؤمنين) للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، ثم حذف المبشر به، فلم يقل: بشر المؤمنين بأن لهم كذا، وإنما قال: (وبشر المؤمنين)؛ لتعظيم المبشر به، أو لكونه معلوماً كما سيأتي في قوله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47].(80/3)
الأقوال في معنى قوله تعالى: (السائحون)
قوله تبارك وتعالى: (السائحون) فيها أقوال كثيرة، منها ما يلي: (السائحون) يعني: الصائمون، وقد سمي الصائم سائحاً تشبيهاً بالسائح؛ لأن السائح لا زاد معه، والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، ويقولون: خيل صائمة وخيل غير صائمة.
فالفرس الصائم هو الواقف القائم الذي ليس أمامه علف؛ وذلك لأن الفرس يأكل مرتين: مرة في الغدو، ومرة في العشي، فشبه به الآدمي لتسحره وصيامه، فقيل في الآدمي: صائم أو سائح؛ لأنه يأكل مرتين في حالة الصيام: مرة في الفطور ومرة في السحور، ومنه قوله تبارك وتعالى: {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5] يعني: صائمات.
وقال ابن عيينة: إنما قيل للصائم: سائح؛ لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح.
قال أبو طالب: وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل وقال الشاعر أيضاً: براً يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحاً يعني: صائماً، وأصل السياحة: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة فيما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح.
فهذا هو القول الأول في تفسير قوله تعالى: (السائحون) أي: بمعنى الصائمون.
وقيل: (السائحون) هم الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ويستدل له بالحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله).
القول الثالث: هم: طلاب العلم الذين يسافرون ويسيحون لطلب الحديث والعلم.
قول رابع: هم المهاجرون في سبيل الله.
القول الخامس: هم الجائلون بأفكارهم في ملكوته سبحانه وتعالى، ويجولون بعقولهم وقلوبهم فيما خلق الله من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه، وفي الحديث: (إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالشاهد هنا قوله: (إن لله ملائكة سياحين) يعني: يتحركون وينتشرون في الطرقات.
يقول القاسمي: ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين، قال الزجاج: هو قول أهل التفسير واللغة جميعاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة فهو الصيام.
وعن الحسن: (السائحون) الصائمون شهر رمضان.
وقال الشهاب: استعيرت السياحة للصوم؛ لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر.
ونقل الرازي عن أبي مسلم: أن السائحين هم السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح -أي: سيح الماء الجاري-، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً.
إذاً: المعنى اللغوي للسياحة: هو السير في الأرض، مأخوذ من قوله تعالى في أول هذه السورة: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أربعة أشهر، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآيات الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات.
وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون.
وعن عكرمة: أنهم المنتقلون لطلب العلم.
قال ابن كثير: جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهذا حديث حسن.
يقول القاسمي: لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية، لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها؛ لأن الجهاد في سبيل الله كما يطلق على قتال المشركين يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، فمجاهدة النفس تتم أساساً في الجهاد، لكن يطلق أيضاً بصفة أعم على الصوم والهجرة والجهاد.
جهاد للنفس في مفارقة الأوطان والأموال والأهلين، وكذلك الصيام فيه مجاهدة للنفس في ترك شهواتها، وكذلك السفر للتفقه في الدين فيه مجاهدة للنفس، وكذلك السفر للاعتبار والنظر في آثار الأمم المهلكة.
فهذا كله يتطلب مجاهدة للنفس، هذا إذا أردنا أن نوفق بين هذه الأقوال كلها، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، فإن أصل الحقيقة اللغوية للسياحة هي: الضرب في الأرض خاصة، وهذا الذي عبر عنه عكرمة بقوله: المنتقلون لطلب العلم.
وفي هذه الحالة يكون كافياً لو أخذنا بالأصل اللغوي.
إذاً: هناك مسلكان في تفسير (السائحون): الأول: تفسيرها في ضوء قوله: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) بحيث يشمل الجهاد في سبيل الله (القتال) ويشمل كل ما فيه جهاد للنفس، سواء في الصيام أو في طلب العلم، أو في الانتقال لطلب العلم أو في الهجرة، أو بالسير في الأرض للتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، هذا إذا أردنا التوفيق بين ما أثر عن السلف في تفسير (السائحون).
الثاني: تفسير كلمة السائحين بالأصل اللغوي لهذه الكلمة، كما تقول: ساح الماء أو السيل، يعني: انتشر ومشى على وجه الأرض، فيراد بها معنى خاصاً وهو السياحة، التي هي الضرب في الأرض، وهذا يشير إلى وصف عظيم وهو الحق في تأويل الآية الكريمة.
والقاسمي أورد هنا بحثاً لبعض المحققين كما وصفهم في تأييد هذا القول يقول: الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيراً بأن يضحي بقسم وجزءٍ من حياته في السياحة والتسيار؛ لأجل اكتشاف الآثار؛ والوقوف على أخبار الأمم البائدة؛ ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد.
وذلك في قوله تعالى: (السائحون) في هذه الآية، ولم يقع لفظ (السائحون) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع الفذ، فمع ذلك فقد اختلف في معناه أهل التفسير، فمنهم من قال: هم الصائمون، ومنهم من قال: هم السائرون، مأخوذ من السيح والانتشار وهو الجري على وجه الأرض والذهاب فيها، ويطلق السائح على معنىً يضاد الجامد، فالشيء السائح هو سائل مائع منتشر، بخلاف الجامد الذي لا يتحرك.
وألفاظ القرآن يجب حملها على ظواهرها وعلى معانيها الحقيقية ما لم يمنع مانع عقلي، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة، وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو: السائرون الذاهبون في الديار؛ لأجل الوقوف على الآثار، توصلاً للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ.
أما المعنى المجازي فإنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي، وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، وهذا أمر بالسياحة في الأرض للاعتبار.(80/4)
السياحة بين المفهوم الشرعي والمفهوم غير الشرعي
في مثل هذا البحث ينبغي أن ننسى تماماً القاذورات المرتبطة بكلمة السياحة؛ لأن هذه القاذورات المرتبطة بالسياحة طرأت نتيجة الفساد الذي عم وطم وظهر في البر والبحر والجو، لكن نحن الآن نتعامل مع معاني الوحي الشريف، ومعاني اللغة العربية الأصلية، بغض النظر عما صارت ترمز إليه كلمة السياحة الآن من الفساد والعفن.
نحن نتكلم عن السياحة التي هي عبادة، وهي الانطلاق في الأرض للتفكر في آيات الله، ومطالعة أيام الله سبحانه وتعالى، وآثار الأمم الغابرة، كما في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا} [الأنعام:11]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الروم:9]، وقوله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} [يوسف:109]، وقوله: {فَسِيرُوا} [آل عمران:137]، وقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20]، وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:100] فهذه الآيات قرائن نيرة تدل بأن السيح معناه: السير، فإنها وإن تكن من مادة أخرى إلا أن معناها يلاقي معنى السيح، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أو سيروا في الأرض، فكلمة: (سيحوا) هنا تفسر (السائحون) في الآية هذه.
أما من يقول: إن خير ما فسرت به الآية بالوارد فنقول: إن صرف هذا اللفظ عن ظاهره فيه تكسيل للأمة، وبه يحصل قصور همتها، وضعف نشاطها، ويحول بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عمران المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين.
إذاً: كلمة السياحة ومعانيها الآن تحتاج إلى كثير من الاحتراز؛ لأنها لا تطبق بالصورة التي يريدها الشرع؛ لأن هناك من يعتقد أن أنظف سياحة هي ما يسمونه بالسياحة الدينية، والسياحة الدينية لا تقتصر على الحج ولا العمرة، وإن كان بهذا المعنى يصح أن توصف بأنها سياحة؛ لأنها انتشار في الأرض لإقامة فريضة أو عبادة، لكن السياحة الدينية عند هؤلاء المنحرفين هي إلى المقابر أو إلى أضرحة الأولياء ونحو هذه الأشياء! ومن السياحة التي يظن أنها مباحة شد الرحال إلى الأماكن التي نزلت فيها لعنة الله سبحانه وتعالى على القوم المعذبين، فأمثال هذه الأماكن لا ينبغي للإنسان أن يذهب إليها، وإذا مر بها كعابر سبيل فإما أن يبكي وإما أن يسرع ويجري، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمروا بهؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين) فمن السنة أن الإنسان إذا مر في رحلته بشيء من هذه الأماكن كديار ثمود أو آثار الفراعنة المشركين الوثنيين فليسرع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علل ذلك بقوله: (لا تمروا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) فهو أمر بالإسراع خشية أن يصيبنا ما أصابهم؛ لأن هذه الأماكن نزلت فيها لعنة الله، ونزل فيها غضب الله على من ناوأه وحاربه وعصاه وكفر به.
ومن علامات موت القلب أن الإنسان يمر بهذه الأماكن دون أن يبكي ودون أن يعتبر، فإذا حصل ذلك ولم يستحضر هذه المعاني ولم يسرع بمغادرة هذه الأماكن ففي هذه الحالة يخشى أن يعاقب بأن تصيبه نفس اللعنة التي أصابت هؤلاء المعذبين، وقد يكون هذا هو السر فيما يسمونه الآن: لعنة الفراعنة، فهي ليست لعنة الفراعنة، وإنما هي لعنة الله سبحانه وتعالى تصيب من يأتي إلى هذه الأماكن المشئومة.
فإذاً: الأماكن التي يعرف أنه نزل عذاب الله فيها، ينبغي إذا مر بها الإنسان مجتازاً أن يسرع ويبكي، والأصل ألا يأتي إلى هذه الأماكن أصلاً خشية أن يصيبه ما أصابهم.
فهذا هو التفسير الصحيح لما يسمى الآن: لعنة الفراعنة؛ لأن الفراعنة الآن أموات، ولعنة الله تصيب من يجاورهم في مساكنهم وفي ديارهم بشؤمهم لقوله عليه الصلاة والسلام (أن يصيبكم ما أصابهم) والله تعالى أعلم، ولا يبعد أيضاً أن تكون بعض الأماكن التي فيها ظواهر غريبة هي أماكن نزول عذاب، فربما لأجل ذلك يهلك من اقترب منها، مثل مثلث برمودا وغيره، وهذا احتمال قائم والله تعالى أعلم.(80/5)
الآثار المترتبة على السياحة
قال الرازي: للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس، لما يلقاه من أنواع من الضر والبؤس.
يعني: الإنسان إذا سافر يتمرن وتزيد خبرته بالحياة، فيلقى ضرراً وبؤساً، فلا بد من الصبر عليها، وقد يتعرف على علماء في تخصصات مختلفة فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر، وقد يلقى الأكابر من الناس فيحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها، وقد يسهل اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم، فتقوى معرفته.
وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين، لكن يشترط أن تكون هذه السياحة بمعنى السير في الأرض للاعتبار وللعظة وللهجرة وللجهاد ولطلب العلم، وغير ذلك من أنواع الطاعات.(80/6)
وجه ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة
قال القاضي: إنما جعل الله ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة في قوله تعالى: (الراكعون الساجدون) ولم يقل: المصلين؛ لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبهما يتبين الفرق بين المصلي وغيره، ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى، والركوع وسطها، والسجود غايتها، فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية؛ تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.(80/7)
وجه ذكر العطف مرتين في الآية
ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف) وعطف بالواو حيث قال: (والناهون عن المنكر) ثم قال: (والحافظون لحدود الله) فما السر في وجود الواو في هذين الموضعين؟ أما قوله تعالى: (والناهون عن المنكر) فقالوا: سر العطف فيه: إما للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن بينهما تلازماً في الذهن والخارج، يعني: قوله عز وجل: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) فيه إشارة إلى أن هاتين الوظيفتين هما صفة واحدة أو فعل واحد، سواء كان في الذهن أو في الخارج؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم النهي عن المنكر، فإذا أمرت بالصلاة فأنت تنهى عن ترك الصلاة، وإذا نهيت عن ترك الصلاة فكأنك تأمر بالصلاة وهكذا، فلما كان بينهما من التلازم سواء كان في الذهن أو في الواقع الخارجي اعتبرا كأنهما خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن فعل الأوامر يتضمن ترك النواهي، فكان بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما.
أما الموضع الثاني وهو قوله تعالى: (والحافظون لحدود الله) فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبعة؛ لأن العرب إذا وصلت إلى العدد السابع يكون هذا عدداً تاماً عندهم، وحينئذ يبدءون العدد الجديد بالواو، يقولون مثلاً: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة، وثمانية تسعة عشرة وهكذا، فإذا فرغوا من السبعة يقولون: وثمانية، فهذه اسمها واو الثمانية، فهنا في نفس هذه الآية: ((التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ)) لأنها جاءت في الصفة الثامنة، ولذلك تسمى: واو الثمانية.
ونُظِرَ فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة، لاستعماله في التكثير لا معدودة، وهذا نفس ما قالوه في قوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] فقالوا: هذه واو الثمانية، وهذا المبحث فيه نقاش كثير، ومن العلماء من أبطل هذا الاستدلال، فيمكن مراجعته في كتاب ((مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)) لـ ابن هشام.
وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله في تفصيل الفضائل: التائبون، العابدون، السائحون إلى آخره، وهذا مجملها، أجمل كل ما مضى في قوله: (والحافظون لحدود الله)؛ لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه.
وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهرها يعني: إقامة الحدود كالقصاص على من استحقه، والصفات الأولى إلى قوله: (الآمرون بالمعروف) هي صفات محمودة لازمة للشخص في نفسه، لكن قوله: (والحافظون لحدود الله) هذه باعتبار غيره؛ لأن حفظ حدود الله: هي إقامتها على مستحقيها بالقصاص مثلاً، فلذا تغاير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به.(80/8)
تفسير قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا إن إبراهيم لأواه حليم)
قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114] لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد أن تبين شركهم وكفرهم؛ لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة حتى مع الأقرباء؛ لأن قرابتهم وإن أفادتهم الشفقة بهم والرحمة بهم، فلا تفيدهم قبول الاستغفار؛ لأن نور الاستغفار لا ينفذ في هذه القلوب المعتمة، فلا يصلح أن يستغفر المؤمنون لهم؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به.
فمن ثم لا ينبغي أبداً ولا يتصور أن يقع الاستغفار من (النبي والذين آمنوا للمشركين)؛ لأن الاستغفار هو طلب المغفرة، وكيف يطلب من الله سبحانه وتعالى مغفرة ذنب قد قطع وأخبر أنه لا يغفره أبداً وذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]؟! فإذا كان الشرك ذنباً عظمياً لا يغفر، فليس من الإيمان أن يستغفر المؤمن لقريبه المشرك؛ لأن طلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده، فالله سبحانه وتعالى توعد هؤلاء المشركين أنه لا يغفر لهم أبداً، فمن الأدب أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى لا يدعو بشيء قد فرغ منه القضاء.
مثلاً: إذا قلنا بالقول الصحيح في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ففي هذه الحالة ليس من الأدب في الدعاء أن تدعو بألا ترد على جهنم؛ لأن هذا سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، حيث قد فرغ القضاء وتمت كلمة الله في هذا القسم: (إن منكم إلا واردها) أي: ما منكم من أحد إلا وسيرد النار، كل البشر سيدخلون النار ثم يخرجون منها، يخرج منها المؤمنون كما قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] ولم يقل: ونلقي؛ لأنهم يكونون موجودين، بل قال: ((وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) [مريم:72] فليس من الأدب أن تدعو الله بشيء قد حكم هو بخلافه، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حكم وقضى أنه لا يغفر أن يشرك به، فلا يجوز أن تسأل الله المغفرة لمشرك؛ فلذلك قال هنا: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) [التوبة:113] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.(80/9)
وجه استغفار إبراهيم لأبيه وحكم الاقتداء به في ذلك
ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، ويكون المعنى: لا تتأسوا بإبراهيم حينما استغفر لأبيه كما في سورة مريم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:4]، وقال عز وجل في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، ثم قال: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] فالشاهد أن قول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك) بناء على وعد كان وعده أبوه، وهو أنه سيوحد وسيؤمن؛ فلذلك صدر الاستغفار من إبراهيم عليه السلام، لكن لما تبين له أنه عدو لله مصر على الشرك تبرأ منه، فلا ينبغي لكم أن تتخذوا من استغفار إبراهيم لأبيه المشرك أسوة وقدوة؛ لأن هذا ليس موضع اقتداء؛ لأن أباه كان وعده بالإيمان فمن ثم استغفر له، لا أنه كان يواليه ويدعو الله سبحانه وتعالى بالمغفرة لمن علم أنه مشرك.
إذاً: ذكر الله عز وجل أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه لأجل وعد تقدم منه له، لقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك.
قوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) يعني: أنه مستقر وراض بالشرك ومصر عليه.
قوله: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي: تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار لأبيه لما وعده بالإيمان أنه كان فرط ترحمه وصبره، ولذلك ختم الآية بقوله: (إِِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، فالسبب أنه كان حريصاً على أن يستغفر لأبيه لما وعده بالإيمان.
قوله: (إن إبراهيم لأواه) أي: كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب.
قوله: (حليم) أي صبور على ما يعترضه من الإيذاء؛ ولذلك حلم عن أبيه مع أن أباه توعده بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، واستغفر له بقوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وذلك قبل التبين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك.
وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب للاستغفار بعد التبين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ من أبيه بعد التبين، وذلك مع كمال رقة القلب والحلم عند إبراهيم، فلابد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً.
وقد ساق المفسرون هاهنا روايات عديدة في سبب نزول الآية، ولما رآها بعضهم متنافية حاول الجمع بينها بتعدد نزول الآيات، ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنه -كما نبهنا مراراً- إذا قيل في الآية: نزلت في كذا فقد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع في هذه الحادثة وغيرها، أو يكون حكم الآية لا يشمل إلا هذه الحادثة وحدها لا أنها تعدت سبب نزولها.(80/10)
حكم الدعاء والاستغفار للعصاة والفساق من المسلمين
قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، ثم قرأ الآية، وهذا فقه جيد.
فقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) يفهم منها: أنه يستغفر ويصلى على أي إنسان من أهل التوحيد، حتى لو كان فاسقاً عاصياً، لكن هناك تفصيل، فالشخص الذي يقتدى به ينبغي أن يمسك عن الصلاة على العاصي والفاسق في الظاهر، فمثلاً: لا يصلي على قاتل نفسه الذي انتحر أو تارك الصلاة؛ زجراً لغيره، وحتى يتسامع الناس أن الشيخ الفلاني رفض أن يصلي على تارك الصلاة وعلى قاتل نفسه، قال العلماء: ويدعو له بالسر، ففي نفس الوقت يجمع بين مصلحة الدعاء له وبين مصلحة تنفير الآخرين من هذه المعصية، لكن عموم الناس يصلون على الفاسق أو العاصي؛ لأن الله لم يحجب الدعاء والاستغفار إلا عن المشركين فقط.(80/11)
حكم الاستدلال بالآية على أن التأوه في الصلاة لا يبطلها
قال بعض المفسرين اليمانيين: استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل.
أي: من قال: آه في الصلاة لا تبطل الصلاة، وهذا يحكى عن أبي جعفر أنه قال: من قال: آه أو آهِ لم تبطل صلاته؛ لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك.
فهل هذا الاستدلال صحيح؟ أين الدليل في هذه الآية على أن ذلك كان يحصل منه أثناء ما كان يصلي؟ لا دليل، بل أئمة الإسلام يبطلون الصلاة بذلك؛ لأن كلمة (آه) مكونة من ثلاثة حروف، وهي كلمة أجنبية ليس فيها ذكر الله عز وجل، فلذلك تبطل الصلاة بأي شيء من كلام الناس، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة.(80/12)
المعنى اللغوي لكلمة (أواه)
وقيل: (أواه) فعال للمبالغة من التأوه، وقياس فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها من ثلاث، وهو: آه يأوه كقام يقوم، أوهاً، وأوَّهَ تأويهاً هذا اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر أو أتألم.
ولها لغات كثيرة أخرى أوصلها في التاج إلى اثنتين وعشرين لغة، منه: آه أو أواه أو أوه إلى غير ذلك، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن، مبنيات على ما لزم آخرها إلا آهاً فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر، كأنه قيل: أتأفف تأففاً.
وهي تكون عند شدة الحزن أو التوجع وعند الشكاية، فقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) هذه إشارة إلى رقة قلب إبراهيم عليه السلام.
ولا يصح للصوفية أن يستدلوا بالآية على صحة ما يزعمون من أن آهاً اسم من أسماء الله الحسنى، ويستدلون بهذه الآية: (إن إبراهيم لأواه).
فهم يزعمون إن إبراهيم عليه السلام كان يتأوه ويقول: آه آه، ولذلك تجدهم في حلقات الغفلة التي يسمونها حلقات الذكر يقولون هذه الكلمة ويكررونها، إلى آخر بدعهم وضلالاتهم، وإن كنت أظن الآن أن الصوفية ليست منتشرة ذلك الانتشار الكبير الذي كان فيما مضى، خاصة في المدن؛ بسبب التوجه العلماني والبعد عن الدين لأهل المدن، لكن لعل في القرى ما يزال هناك آثار للصوفية وبدعها.(80/13)
تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم)
قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين والبراءة منهم وترك الاستغفار لهم؛ وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ما يتقون، ودلالته إياهم على الصراط السوي، فضلوا عنه فأضلهم الله واستحقوا عقابه تبارك وتعالى.
قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا) يعني: هؤلاء القوم الذين حرمنا عليكم الاستغفار لهم ما كان الله سبحانه وتعالى ليضلهم إلا بعد أن أقام الحجة عليهم، حيث أتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغهم الحق وأقام عليهم الحجة ودعاهم إلى الهدى الذي يعصمهم من الضلال.
قوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) يعني: بعد أن بين لهم الحق.
قوله: (حتى يبين لهم ما يتقون) أي: من الشرك ومن الكبائر والمعاصي.
يقول عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فقد بين الله لهم ما يتقون عن طريق الرسول ومع ذلك أبوا واستكبروا واستنكفوا وأصروا على الكفر، فمن ثم أضلهم الله بعد أن هداهم هداية البيان وليست هداية الانقياد للحق.
وكذلك قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقوله في سورة الرعد: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وفي قصة الهجرة لما سأل الرجل أبا بكر عمن معه؟ قال: (هو هاد يهديني) يعني: ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهو رضي الله عنه أراد أن يفر حتى لا يذكر له اسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (هاد يهديني) يقصد يهديه إلى طريق الحق وإلى طريق الله سبحانه وتعالى.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما سبق أي: أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته، فبين لهم ذلك كما فعل هنا؛ لأن العقل لا يستقل بمعرفة القبائح والأمور التي يبغضها الله، فلا يعذب الله قوماً حتى تقام عليهم حجة الرسل، يقول عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]؛ لأن العقل لا يستقل ببيان الشرائع، فمن ثم لم يقل تبارك وتعالى: وما كنا معذبين حتى نرزقهم عقولاً أو حتى نفطرهم على التوحيد، وإنما قال: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) فلابد أن تبلغهم الحجة االرسالية، فهؤلاء بلغتهم هذه الحجة الرسالية ومع ذلك أضلهم الله؛ لأنهم لم يستجيبوا لها.(80/14)
تفسير قوله تعالى: (إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:116] هذا تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ولا يرهبوا من أولئك، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم، وتنبيه على لزوم امتثال أمره والانقياد لحكمه والتوجه إليه وحده، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تبارك وتعالى.(80/15)
تفسير قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار)
قال عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117].
اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق فيها طوعاً أو كرهاً، والمرغب فيها أو عنها، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً، وأنبأ عما لحق كلا الفريقين من الوعد والوعيد، وميز الصادقين من غيرهم، ختم بفرقة منهم كانوا قد تخلفوا للدعة والراحة، هذا الفريق بالذات مغاير لكل ما مضى؛ لأن هؤلاء تخلفوا بسبب حب الدعة والراحة ونفوراً من الحرب والمشقة، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية الكريمة، وصدرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، فقال عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ).
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار جميعهم مقطوع بأن الله سبحانه رضي عن رسوله ورضي عن المهاجرين ورضي عن الأنصار، وأراد أن يطمئن هؤلاء المتخلفين من المؤمنين الصادقين بأنهم أدرجوا ضمن من يقطع برضا الله عنهم، تطميناً لهم وتهدئة لنفوسهم، وما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين الأوابين، وهي من صفة الأنبياء، كما أن الله سبحانه وتعالى وصف بعض الأنبياء بأنهم من الصالحين، وهذا مدح لصفة الصلاح؛ حيث اتصف بها الأنبياء، كذلك هنا مدح لصفة التوبة حيث صدرت بتوبة النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ)).
والوصف كما يكون لمدح الموصوف يكون لمدح الصفة، وهذا من لطائف البلاغة، كما قال حسان رضي الله تعالى عنه: ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد عليه الصلاة والسلام.
يعني: أنا لم أمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتي، لكني مدحت مقالتي بمحمد عليه الصلاة والسلام.
ويقول شوقي: مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحاب قال الحاكم: ودلت الآية على فضل عثمان؛ لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه.
وقد جمع الله تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ووصفهم باتباعه، فوجب القطع بموالاتهم.
قوله: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) يعني: في وقت العسرة، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق كما تستعمل الغداة والعشية واليوم، وليس قدراً معيناً كما نقدره نحن الآن بواحد من أربعة وعشرين.
والعسرة هي حالهم في غزوة تبوك، ولذلك كانوا يسمونها: غزوة العسرة؛ لأنهم كانوا في عسرة، ولم يكن عندهم دواب تكفي للمجاهدين كي يركبوا عليها، بل كان يعتقب العشرة من الصحابة على بعير واحد؛ لقلة الظهر، وكانوا أيضاً في عسرة من الزاد، حتى إن التمرة الواحدة تشق نصفين لكل صحابي نصف تمرة، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر ثم يشرب عليها، وكانوا أيضاً في عسرة من الجدب والقحط والحر الشديد، وفي عسرة من الماء حتى بلغ العطش بأحدهم أن نحر بعيره فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده.
ونقل الرازي عن أبي مسلم: أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين.
يعني: ليست فقط غزوة العسرة التي هي غزوة تبوك، وإنما أيضاً جميع الساعات الشديدة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين فيدخل فيها غزوة الخندق وغيرها، وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، وقال أيضاً: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران:152]، إلى آخر الآية.
والمقصود هنا وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم.
يقول القاسمي: وهذا الاحتمال وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية وسباقها القاصران على غزوة تبوك.
بل السورة كلها في غزوة تبوك، فيكون مناسباً أن تقصر ساعة العسرة على غزوة العسرة التي هي غزوة تبوك، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج واتباعه عليه الصلاة والسلام، بل وقع أحياناً في مصاف القتال، وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها: غزوة العسرة، وعلى تسمية الجيش الذي خرج فيها بأنه جيش العسرة.
قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) يعني: عن الحق أو عن الثبات على الاتباع؛ لما نالهم من المشقة والشدة في سفرهم.
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنه بهم رءوف رحيم) تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إذا كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، أما إذا كان الضمير إلى الفريق الثاني فلا تكرار.
وقال بعضهم: ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب؛ تفضلاً منه وتطييباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى؛ تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم.(80/16)
تفسير قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا إن الله هو التواب الرحيم)
قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) يعني: وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا، أي: تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال، فهؤلاء الثلاثة بالذات أجل الفصل في شأنهم، وأجل الحكم بقبول توبتهم، (خلفوا) أي: تركوا وأجلوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم.
والثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم.
(حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي: مع أن الأرض واسعة لكنها صارت ضيقة جداً؛ من شدة الكرب والضيق على هؤلاء المخلفين، وهذا يمثل الحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه، كل هذه الأرض بما رحبت ضاقت عليهم، فكأنهم لا يجدون مكاناً واحداً يستقرون فيه ويطمئنون فيه، قلقاً وجزعاً مما هم فيه، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من مجالستهم ومحادثتهم، وقاطعهم جميع المسلمين.
(وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) يعني: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم يعني: قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور؛ وذلك لأنهم لازموا بيوتهم وهُجِروا نحواً من خمسين ليلة، وفيه ترقٍّ من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم، وهو في غاية البلاغة، ترقى من الأدنى إلى الأعلى، فجعل ضيق الأرض مرحلة أعلى منها ضيق أنفسهم، فهذا بلا شك من أقوى مراتب البلاغة وأعلاها.
(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (ظنوا) هنا بمعنى علموا، (أن لا ملجأ من الله) أي: لا مفر من غضب الله (إلا إليه) أي: إلى استغفاره.
(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي: ليستقيموا على توبتهم ويستمروا عليها، أو ليعدوا من جملة التائبين، أو المعنى: قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل فقوله: (ليتوبوا) يعني: إما ليتوبوا بمعنى: ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها، وإما (ليتوبوا) بمعنى: ليصيروا أو ليعدوا من جملة التائبين، وإما (ليتوبوا) بمعنى فيما يستقبل، إذا علموا أنهم إذا تابوا إلى الله تاب عليهم، فإنهم في المستقبل سيتوبون إذا صدرت منهم هفوة، ولا يقنطون من كرمه عز وجل: (إن الله هو التواب الرحيم).(80/17)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على الطاعة، فهي مأخوذة من قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] أو المقصود بالصادقين: الثلاثة المخلفين أي: كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم.
وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين): فقال بعضهم: إنهم النبي وأصحابه الذين ذكروا آنفاً في قوله: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)).
وقال بعضهم: المقصود بها: أبو بكر وعمر، وقد قرئت: (وكونوا مع الصادِقَين) يعني: أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وقول آخر أن المقصود بها: الثلاثة الذين خلفوا؛ لأنهم إنما نجوا بالصدق.
وقول آخر أن المقصود بها: المهاجرين بالذات؛ لأن الله سبحانه وتعالى مدحهم في سورة الحشر فقال عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، ولذلك قالوا: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه احتج بهذه الآية يوم السقيفة فقال: يا معشر الأنصار! إن الله يقول في كتابه: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) فقالت الأنصار: أنتم هم، يعني: المهاجرون، قال: فإن الله تعالى يقول: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء.
وهناك قول آخر وهو: أن هذه الآية المقصود بها: أهل الكتاب: (يا أيها الذين آمنوا) بموسى وعيسى (اتقوا الله) في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، (وكونوا من الصادقين).
وهناك قول بأنها خطاب عام: (وكونوا مع الصادقين): عموماً، وتكون (مع): بمعنى (من)، (وكونوا مع الصادقين) يعني: كونوا من الصادقين.(80/18)
حديث كعب بن مالك في توبة الله على الثلاثة المخلفين
كنت أود أن نتجاوز ذكر الحديث الطويل حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، لكن الإنسان يضنُّ بأن يفوت هذا الحديث العظيم الذي فيه كثير من العبر والفوائد، فنجتهد إن شاء الله تعالى في تلاوته بقدر المستطاع بدون تعليقات كثيرة.
روى الإمام أحمد والشيخان حديث قصة كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية، قال الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، وكان قائد كعب من بنيه -لأنه عمي فكان ابنه هذا هو قائده-، قال: سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك -وهذا الحديث قطعة أدبية في غاية من الروعة ومن البلاغة- يقول كعب رضي الله تعالى عنه: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزاة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يُعاتَب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ -يعني: لم يكن هناك ديوان- قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر -يعني: أميل- فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم، وليتني فعلت! ثم لم يقدر ذلك لي.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: (ما فعل كعب بن مالك؟)، فقال رجل من بني سلمة: حبسه -يا رسول الله- برداه والنظر في عطفيه -يعني: اغتابه، وقال: احتبس عن الجهاد بالتأنق في برديه والنظر في عطفيه في المرآة، يعني: للتزين -فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله! يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً- وهكذا الإنسان إذا حضر مجلس اللحامين آكلي لحوم البشر الغيابين، يبادر بقوله: بئسما قلت، ويدفع عن أخيه بظهر الغيب - فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً -راجعاً من تبوك- حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب -أي: حضر الحزن لما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام راجع إلى المدينة من تبوك، وطفق يتذكر ماذا سيكون المخرج؟ فكان المخرج أمامه هو أن يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام- وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه -أي: عزمت على أن أكون صادقاً- فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟) فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت، لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه -يعني: تحزن مني بسببه- إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك).
فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة، واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت -يعني: ما قدرت- ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ -المصيبة إذا عمت طابت، فتخف المصيبة إذا كانت على جماعة- قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف -نهى الصحابة أن يتكلم أحد مع هؤلاء الثلاثة دون الآخرين من المنافقين- فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم -يسلم عليه- وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي -فانظر إلى المحبة المتبادلة بينه وبين الرسول عليه السلام، ومع ذلك الرسول أمسك عن كلامه- فإذا التفت نحوه أعرض عني صلى الله عليه وسلم، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام- امتثالاً لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام- فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكت، قال: فعدت فناشدته -استحلفته- فسكت، فعدت له فناشدته فسكت، فقال: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام -الأنباط: هم الفلاحون والزارعون من العجم والروم- ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان -يعني: أن جواسيس في المدينة نشروا الخبر حتى وصل لملك غسان، فملك غسان أراد أن يغريه بأن يعمل له لجوء سياسي- فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً، فإذا فيه: أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأته: وهذه أيضاً من البلاء -هذه أيضاً فتنة وبلاء، فانظر كيف صدق مع هذه الفتنة- قال: فتيممت بها التنور فسجرته به -رماه في الفرن- حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ويقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها، قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، تكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر ما يشاء.
قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: (لا، ولكن لا يقربك)، قالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، فإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته، وأنا رجل شاب! قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر -أي: أعلن توبة الله عليهم- فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبش(80/19)
فوائد مستنبطة من قصة الثلاثة الذين خلفوا
قال بعض المفسرين: في الآيات دليل على جواز الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة.
يعني: هذه مسألة نسبية كما قال الحافظ ابن حجر.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن القوي في دينه يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف، فهؤلاء الثلاثة لقوة إيمانهم وشدة دينهم قوبلوا بهذه الشدة أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
قال القاشاني في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)) أي: في جميع الرذائل بالاجتناب عنها، خاصة رذيلة الكذب، وذلك معنى قوله: ((وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) اتقوا الله بتجنب الكذب، (وكونوا مع الصادقين) فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد قيل: لا مروءة لكذوب، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان: إخبار الغير عما لا يعلم، يعني: هذه حكمة الله سبحانه وتعالى حيث جعل الإنسان حيواناً ناطقاً بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تنطق، كي يستطيع الإنسان أن يخبر غيره عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق للواقع لم تحصل فائدة النطق، وحصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشيطنة، فالكاذب شيطان، وكما أن الكذب أقبح الرذائل فالصدق أحسن الفضائل، وأصل كل حسنة، ومادة كل خصلة محمودة، وملاك كل خير وسعادة، به يحصل كل كمال، فالصدق باب إلى كل أنواع الخير، وهو أساس الاستقامة.
وكل من أراد أن يصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترقى همته ويقتدي بـ كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، حينما ذكر أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الصدق، وأنه حمد الله عز وجل على أن وفقه للصدق، يقول: (يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت) فالمقصود أن المؤمن عالي الهمة إذا سمع مثل هذا يقول: وأنا منذ هذه اللحظة لن أحدث إلا صدقاً ما بقيت، هذا هو المقصود، فالإنسان كلما سمع بشيء من هذه الفضائل لا يستأسر لضعفه البشري الذي حصل فيما مضى، لكن ينشئ من اللحظة عزماً أن يفعل فعل أصحابها، فالإنسان ما دام فيه عرق ينبض ونفس يتردد ودم يسري وروح يجري في بدنه، فهناك أمل في أن يصبح من أعظم أولياء الله، فباب الولاية مفتوح، تستطيع أن تترقى إلى أعلى المقامات، ولن يمنعك مانع بإذن الله عز وجل.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك إذا طرقت باب الأخلاق الحسنة لن تجد حاجباً يحجبك عن الدخول، بل ستدخل، لكن المشكلة أن الشيطان يثبط الإنسان، فكلما أراد أن يقوم يختم على قلبه ويقول: أمامك ليل طويل فاقعد في وادي المعاصي ونم، لكن الإنسان ينبغي أن تتحرك همته إذا سمع مثل هذه المعاهدات، هذا عهد مع الله: (إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت)، إلى أن أموت، ومشكلة الكذب أن الإنسان ينظر إلى المصلحة التي ستترتب على الكذب، ويقول: لو لم أكذب ولو لم أعمل الشهادة المزورة سأحرم من العلاوة مثلاً، أو لا أمنح الإجازة! وهذا من باب الكذب، فتتصرف على أنها شيء عادي جداً، وبدون أدنى تحرج وبمنتهى البساطة يعمل الإنسان شهادات مزورة، ويزور بطاقات، ويزور وثائق، ويكذب في البيانات، فهو إذا صدق قد يخسر فعلاً بعض الأشياء، لكن ينبغي أن يحسن المقارنة بين مكاسب الصدق وأضرار الكذب، فأخبث أضرار الكذب -على الأقل- حتى على الإنسان الذي ليس عنده دين، أن الكاذب سيخسر نفسه، فيكون فاقداً لثقة النفس، فاقداً ثقة الناس به أيضاً، ثم إنه يكتب عند الله: كذاباً، يدعى عند الله الكذاب فلان بن فلان!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
فهل ترضى أن تكتب عند الله كذاباً في ديوان القائمة السوداء للكذابين، وإذا ذكرتك الملائكة تقول: الكذاب فلان؟! فينبغي للإنسان أن يتحرى الصدق حتى لو كلفه؛ لأنه قد يظن أنه يخسر، لكن بالصدق سوف يكسب، ومهما كانت الخسائر في الجانب الآخر، فيكفي أن من بركة الصدق أنه باب إلى كل أنواع الخير والطاعات، فالصدق يهدي إلى البر.
ولذلك كان بعض الشيوخ إذا أتاه شاب تائب وأراد أن يستقيم، ويسأله: ماذا أفعل كي أطيع الله؟ لا يكثر عليه من التكاليف، ولا يقول له: عليك بالصلاة والصيام وكذا وكذا، بل يقول له: عليك بالصدق فقط، أخذاً من هذا الحديث، (فإن الصدق يهدي إلى البر)، فإذا التزم بالصدق فكل حياته ستستقيم، ديناً ودنيا.
يقول: فأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] في عقد العزيمة ووعد الخليقة، كما قال في إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وإذا روعي في المواطن كلها، لو أن الإنسان في كل موقف حرص على الصدق حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل؛ صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذر ثمرة الأحوال.
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية، فلا يجوز تخلف الجميع، ولا يلزم النفر للناس كافة، فقال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120].(80/20)
تفسير سورة يونس [1 - 25](81/1)
تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم)
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة يونس، وسميت باسم يونس عليه السلام؛ لأنها تضمنت قوله تبارك وتعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98].
هذه السورة مكية واستثني منها قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس:94] إلى آخر الآيتين، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس:40] قيل: نزلت في اليهود.
وقيل: من أولها إلى رأس أربعين مكي، والباقي مدني، وآياتها مائة وتسع آيات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1].
الكلام على الحروف المقطعة كالكلام في سوابقها من فواتح السور، وقد تقدم اختلاف العلماء وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده من هذه الأحرف المقطعة.
أما الأقوال الأخرى فأقواها أنها جاءت على سبيل التحدي للعرب الفصحاء البلغاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن المؤلف من نفس الحروف التي ينطقون بها، ولذلك غالباً ما ترد الإشارة إلى القرآن الكريم عقب هذه الآيات مباشرة {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1] {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] هذا في الغالب.
وقوله: ((تلك)) في اسم الإشارة معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة.
والمراد بالكتاب: إما جميع القرآن العظيم، حتى لو لم يكن قد نزل كل القرآن العظيم حينئذ، باعتبار تعينه وتحققه في علم الله تعالى؛ لأن القرآن العظيم بصورته الكاملة الشاملة متحقق في علم الله سبحانه وتعالى، فالله يشير إلى هذا القرآن الذي يعلمه كله، وإن لم يكن البشر قد علموا كله حينئذ.
أو المقصود بالكتاب ما نزل منه حتى وقت مخاطبتهم بهذه الآية.
و ((الحكيم)) ذو الحكمة، وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ونطقه بها، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه، أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب بالحكيم الناطق بالحكمة.(81/2)
تفسير قوله تعالى: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم)
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2].
هذا تعجب من تعجبهم، ولذلك هذا الاستفهام تعجبي ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)).
((أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)) هل هذا شيء يستحق أن يتعجبوا منه، بل هذا منهم أعجب! ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) الهمزة لإنكار تعجبهم، وللتعجيب من هذا الإنكار، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جاريةً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، كما قال عز وجل في الآية الأخرى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أول رسول من البشر يرسل إليه من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هذه سنة الله سبحانه وتعالى، وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه.
((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (قدم صدق) أي: السبق باعتبار أن القدم هي آلة السبق.
فليس المقصود بالقدم هنا القدم الجارحة، وإنما المقصود السبق؛ لأن السبق لا يكون إلا عن طريق الأقدام، كما يطلقون اليد على النعمة، يقال: فلان له عندي أيادٍ كثيرة، أو: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لرددت عليك، كما قال المشرك لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية، وذلك لأن الإحسان غالباً ما يكون باليد، وكما تطلق العين على الجاسوس؛ لأنه يستعمل عينه للتجسس، كذلك الرأس تطلق على الرئيس.
ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، هذا هو الاحتمال الأول.
وقيل: القدم بمعنى المقام كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
بإطلاق الحال، وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة فقال: (قدم صدق).
وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ظاهراً وباطناً.
((قَالَ الْكَافِرُونَ)) أي: هؤلاء المتعجبون ((إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)) كما هي قراءة حفص عن عاصم، على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما إذا قرأناها (إن هذا لسحر مبين) أي: أن هذا القرآن سحر مبين.
وهذا دليل عجزهم وأنهم كانوا كاذبين في تسميته سحراً؛ وذلك لأن التعجب أولاً، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً حتى عند المعارض، هو دأب العاجز؛ لأنه ليس عنده أي حجة يواجه بها هذا الحق، فهو يتعجب!(81/3)
تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض)
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3] لقد بين تعالى بطلان تعجبهم السابق وما بنوا عليه، وحقق فيه أحقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليه من شئون الخلق والتقدير، ولذلك فإن سورة يونس من السور المشتملة على آيات عظيمة من آيات التوحيد، سواء توحيد الربوبية، أو توحيد الألوهية، أو توحيد الأسماء والصفات، ونحن نعلم كما درسنا من قبل في كتاب "دعوة التوحيد" أن من أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية الاستدلال بتوحيد الربوبية كمقدمة يبنى عليها توحيد الألوهية، فهذا يكثر في هذه السورة.
بعدما تعجب الله سبحانه وتعالى من عجبهم من إرسال الرسل من البشر بين عز وجل ونبه على بعض ما يدل على توحيده عز وجل من شئون الخلق والتقدير، وأرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3].
قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية: قال أبو العالية: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) أي: ارتفع وعلا على العرش.
وقال مجاهد: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) علا بلا تمثيل ولا تكييف، والعرش هو الجسم المحيط بجميع الكائنات وهو أعظم المخلوقات.
والأيام قيل: ستة أيام من أيام الدنيا.
وقيل: إن كل يوم من هذه الأيام كألف سنة؛ وذلك لقوله عز وجل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
((يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله.
((مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)) تقرير لعظمته وجلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله عز وجل.
((ذَلِكُمُ اللَّهُ)) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلكم العظيم الموصوف بما وصف به.
((رَبُّكُمْ)) أي: الذي رباكم ونماكم ونشأكم وخلقكم لتعبدوه.
((فَاعْبُدُوهُ)) أي: وحدوه بالعبادة ولا تشركوا في عبادته أحداً.
((أَفَلا تَذَكَّرُون)) أي: تتفكرون أدنى تفكر، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه.(81/4)
تفسير قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً)
قال تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:4 - 5].
تأتي آيات توحيد الربوبية للاستدلال بها على توحيد الألوهية، وللإلزام بتوحيد الألوهية، فقوله: ((إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا)) أي: بالموت والنشور وأنكم لا ترجعون في العاقبة إلا إليه، فاستعدوا للقائه.
((وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا)) أي: صدقاً.
ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ)) أي: من النطفة.
((ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: بعد الموت.
((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ)) أي: بعدله، أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأن الإيمان هو العدل القويم كما أن الشرك هو الظلم العظيم، فالمؤمن عادل لأنه وضع الإيمان في محله، والمشرك ظالم لأنه وضع الأشياء في غير محلها، وهذا القول هو الأوجه لمقابلة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} [يونس:4].
((شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ)) أي: من ماء حار قد تناهى حره.
((وَعَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم.
((بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)) أي: بسبب كفرهم.(81/5)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].
نبه تعالى للاستدلال على توحيده في ربوبيته بآثار صنعه في النيرين، وهما الشمس والقمر، والاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، فقال عز وجل: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً)) [يونس:5] (ضياءً) أي: للعاملين بالنهار.
((وَالْقَمَرَ نُورًا)) أي: بالليل، والضياء أقوى من النور.
((وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)) إما أن الضمير هنا يعود على الشمس والقمر بتأويل كل واحد منهما، أي: قدر الشمس منازل وقدر القمر منازل، أو أن الضمير يعود فقط على أقرب مذكور وهو القمر.
وخص القمر دون الشمس بأنه قدر منازل، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] لكون منازله معلومةً محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدةً في تواريخ العرب.
((لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)) أي: حساب الشهور والأيام مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات.
((مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة.
((يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) أي: يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية؛ لأن الآيات إما تكوينية مبثوثة في السماوات والأرض، وإما آيات تنزيلية مما يأتي في الوحي الشريف.
فهو يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك.
((لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدانية مبدعها.
قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب، ومنازل القمر والتاريخ.(81/6)
تفسير قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون)
لقد نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله عز وجل: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس:6].
((إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) أي: في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفةً للآخر.
((وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك.
((لَآيَاتٍ)) أي: لآيات عظيمةً دالةً على وحدانية مبدعها وكمال قدرته وحكمته.
ومعنى ((لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)) أي: يتقون الله ويخافون العاقبة.
وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعية إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة.
وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان، يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته؛ ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة.(81/7)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا بما كانوا يكسبون)
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
((إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)) أي: أنهم يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فهم لا يرجون لقاء الله ولا يعتقدون البعث والنشور؛ لأنهم لا يتوقعون الجزاء على أعمالهم ((وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)) أي: لا يتفكرون في آيات الله ((أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)).(81/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9].
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)) الباء سببية، أي: بسبب إيمانهم.
لم يذكر الشيء الذي يهديهم إليه، والمقصود أنه يهديهم إلى مأواهم في الآخرة وهو الجنة، وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة، ولذلك قال عز وجل: ((يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)) أي: إلى الجنة.
((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)) أي: من تحت منازلهم أو بين أيديهم.(81/9)
تفسير قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام)
قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
((دَعْوَاهُمْ فِيهَا)) أي: دعاؤهم ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)).
ومعنى قوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) أي: اللهم إنا نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد، يقال: دعا يدعو دعاءً ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكايةً وشكوى، فإذاً دعواهم هنا تساوي الدعاء، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] أي: وما تعبدون من دون الله.
((وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ)) أي: تحيتهم التي يحيي بها بعضهم بعضاً هي أنهم يسلم بعضهم على بعض.
أو أنها تحية الملائكة إياهم بالسلام، كما في قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23 - 24].
أو هي تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] والتحية التكرمة بالحالة الجلية، أصلها أحياك الله حياةً طيبة، والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه.
((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ)) أي: وخاتمة دعائهم هو التحميد بقولهم: ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) يعني: أن أول دعائهم (سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) وآخر دعائهم ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهم يختمون دعاءهم بحمد الله سبحانه وتعالى.
والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك كما في الحديث الصحيح، مع أنهم في دار ليست دار تكليف وليست بدار عبادة، لكنهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس، فالذي ينام ليس هو الذي يتولى تنظيم تنفسه، وضربات قلبه، وخلجات عضلاته، فكذلك أهل الجنة ليسوا في دار تكليف، فلذلك هذا التسبيح يخرج منهم إلهاماً من الله سبحانه وتعالى.
في كثير من النصوص يقرن التسبيح بالتحميد، فإن قلت: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فمعنى سبحانك: هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق أن ينسب إليه.
أما الحمد فهو إثبات ما يليق من صفات الكمال والجمال والجلال.
وفي القرآن الكريم يربط التسبيح بالتحميد كما في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] لكن الصيغة الغالبة هي سبحانك اللهم وبحمدك.
أي: أقول ذلك متلبساً بحمدك.
فهنا عدل عن هذه الصفة كما يقول القاسمي هنا.
والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، وإيثار التعبير عن (وبحمدك) بقوله: ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) رعايةً للفواصل، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة.
والآية تدل على سمو هذا الذكر؛ لأنه دعاء أهل الجنة، ولأنه ذكر الملائكة كما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] ولذلك يفضل الإمام أحمد أن يقال بعد تكبيرة الإحرام في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)؛ لأن فيه ثناءً محضاً، وفيه الاشتغال بالثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل من الاشتغال بالسؤال، وفي كل خير.
قال الرازي: لما استسعد أهل الجنات بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وتعالى وإفضاله وإنعامه، فلا جرم لم يشتغلوا إلا بالحمد والثناء، هذا هو دعاؤهم أوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) وآخره: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).(81/10)
الحكمة من تأخير العذاب إلى يوم القيامة
لما بين تبارك وتعالى وعيده الشديد كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8] أتبعه بما دل على أن هذا الوعيد من حقه أن يتأخر عن الدنيا؛ لأنه إذا حصل لهم في الدنيا وعاينوه في الدنيا، فإن هذه المعاينة تكون مانعاً من بقاء التكليف.
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكشف الحجب لجميع الخلق فيرون الجنة عياناً ويرون النار عياناً، ويرون الملائكة وغيرها من الغيبيات، ففي هذه الحالة ستنتقل الدنيا من كونها دار عمل إلى دار جزاء، ولم يبق للتكليف معنى؛ لأننا إذا عاينا هذه الآيات آمن الناس كلهم كما قص الله سبحانه وتعالى أن الكفار يوم القيامة يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] فهذا يقين اضطراري.
وكذلك إذا حصل أن كشفت الحجب ورأوا هذه الغيبيات فإنه لن يحصل تفاضل في الإيمان بين الناس؛ لأن الإيمان بالغيب هو أول صفة من صفات المتقين في القرآن الكريم.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3].
وهذا الإيمان الاضطراري لا ينجي، وإنما ينجي المرء الإيمان الاختياري، فهذا فرعون آمن إيماناً اضطرارياً حينما عاين الموت، وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فلم ينفعه ذلك؛ لأن العبرة بأن يؤمن الإنسان بالغيب في حالة الاختيار؛ لأنه يعمل عقله ويتفكر ويتدبر ويبذل جهداً، لكن إذا كشفت له الحجب فإنه سيؤمن إيماناً اضطرارياً.
ومن حكمته أنه حليم على هؤلاء الذين يحاربون دين الله سبحانه وتعالى ليل نهار في كل أطراف الأرض، فهم يعذبون المسلمين ويذبحونهم، ويبارزون الله بالمعاصي، ويعبدون الشيطان والأوثان والكواكب والبشر، فهؤلاء سوف يستوون جميعاً في الإيمان إذا كشفت لهم الحجب في الدنيا، وذلك يتنافى مع استمرار الابتلاء والامتحان بالتكليف في هذه الدار الدنيا.(81/11)
تفسير قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)
لقد بين سبحانه وتعالى أنه لن يكون في الدنيا هذا العذاب الأليم وإنما يكون في الآخرة؛ لأنه إذا ظهر في الدنيا سوف يزول معنى التكليف، ولذلك قال {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11].
((وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ)) أي: الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا)) فلو يعجل الله لهذا الفريق من الناس الشر الذي كانوا يستعجلونه كما حكى الله عنهم بقوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] لهلكوا.
((اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ)) أي: تعجيلاً لهم مثل استعجالهم الدعاء بالخير.
((لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)) أي: لو أن الله سبحانه وتعالى استجاب لهم لهلكوا وماتوا.
((فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)) أي: في ضلالهم وشركهم يترددون.
فهؤلاء بدل أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لا.
إنما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] فمن رحمته بهم أنه لا يستجيب لهذه الدعوة؛ لأنه لو استجاب لهذه الدعوة لقضي إليهم أجلهم ولأهلكوا ولحرموا من فرصة الإمهال والاستعتاب لعلهم إذا امتد أمرهم أن يتوبوا.
((وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ)) فالتقدير: لو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير، وإنما حذف إيجازاً للعلم به، ويوافقه قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11].
((وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ)) أي: يدعو بالشر ويستعجل حصول الشر تماماً كما يدعو بالخير ويستعجل حصول الخير، يذكر المفسرون في هذه الآية من سورة الإسراء أن الإنسان يدعو على ولده مثلاً ويستعجل حصول الكوارث والمصائب كأن يقول: ربنا يفعل بك كذا، ويقطع لسانك، ويقصم ظهرك إلى آخر هذه الدعوات المشئومة، حتى إن الأم تدعو على ولدها ألا يأتي عليه الصباح وهو حي، أو أنه إذا خرج لا يعود، فلو استجاب الله سبحانه وتعالى هذه الدعوة لفسدت أمور الناس، فمن رحمة الله أنه لا يستجيب، وقد يستجيب إذا وافقت ساعة إجابة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن دعاء الإنسان على أولاده أو على ماله، فقد توافق ساعة إجابة فيندم.(81/12)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه لننظر كيف تعملون)
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:12 - 14].
((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا)) أي: لكشفه وإزالته.
وإعراب قوله: ((لِجَنْبِهِ)) حال، أي حال كونه مضطجعاً على جنبه.
((أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)).
((فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ)) مضى على طريقته وسيرته الأولى، ((مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى)) كشف ((ضُرٍّ مَسَّهُ))، وفيقدر هنا المضاف وهو: كشف.
((كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) أي: من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.
والآية سيقت احتجاجاً على المشركين بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد، علماً بأنه لا يكشفها إلا هو، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفي هذا تذكير لهم، أي: كم مر بكم من أزمة ومن كارثة فضل ما تدعون من دونه، ونسيتم كل ما تعبدونه من دون الله، وأخلصتم العبادة لله عز وجل وحده، ثم إذا كشف الضر عنكم وتيقنتم أنه الإله الأحد الذي لا يعبد سواه، ولا يكشف الضر سواه، انقلبتم على أعقابكم.
وفيها نعي على سوء منقلبهم إثر كشف كرباتهم، وتحريم من مثل صنيعهم.
ولقد ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه وذلك بقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)) أي: ظلموا بالتكذيب والكفر ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: فقرر عليهم الحجة من وجوه كثيرة.
((وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)) أي: بتلك البينات ولا بغيرها، فجازاهم بالإهلاك المعروف فيهم ((كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)).
((ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) [يونس:14].
الخطاب هنا للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي: استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، ((لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) من خير أو شر، فنعاملكم حسب عملكم.(81/13)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15].
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش بحيث إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) أي: جئنا بغيره من نمط آخر ((أَوْ بَدِّلْهُ)) إلى وضع آخر، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)) أي: ليس ذلك إلي، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.
ويلاحظ أن الجواب انصب على التبديل فقط، أي: أما هذا الذي تطلبونه فشيء مستحيل وغير ممكن على الإطلاق، وبالتالي لا ننشغل بالرد عليه؛ لأن طلبهم ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) لا يستأهل أن يلتفت إليه فأهمل هذا الطلب.
وهم في الحقيقة لا يسألون استرشاداً وطلباً للهداية، وإنما يسألون تعنتاً، فما دامت الحجة قد قامت عليهم والبراهين موجودة، لا يجيبهم الله إلى كل ما طلبوه؛ لأن طلب المزيد من الآيات والمزيد من الاقتراحات على الله سبحانه وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزيدهم إلا عتواً ونفوراً، فاكتفى بالجواب عن التبديل، للإيذان باستحالة ما اقترحوه في قولهم: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) فبطلانه من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانه.
إن التصدي لذلك من قبيل المجاراة مع السفهاء، والقرآن الكريم لا يجاريهم في كل ما يطلبونه، فهذا من باب الإعراض عن السفهاء، وعدم مجاراتهم في سفاهتهم؛ لأن مثل ذلك الاقتراح: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) لا يمكن أن يصدر من إنسان عاقل، إنما يصدر من سفيه مغرق في السفاهة والضلال، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بطريق الأولى، فإذا كان التبديل غير ممكن للرسول عليه الصلاة والسلام من تلقاء نفسه، فالإتيان بغيره أولى ألا يمكن، فما بالكم تطلبون بأن يأتي بقرآن آخر غير هذا القرآن؟ فهذا نفي للاحتمال الأول بطريق القياس الجلي أو بقياس الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة.
((إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي)) أي: بالتبديل والنسخ من عند نفسي، ((عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)).
قال الزمخشري: فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك.
أي: هذا كلام خبيث يقصدون به: ما دام أنك فأنت الذي تأتي بقرآن ائت بقرآن، كما يقول المستشرقون والكفرة أعداء الإسلام: قال محمد في القرآن الكريم.
فهؤلاء يعتبرونها قضية تأليف.
ثم يقول الزمخشري: وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجوا منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.(81/14)
تفسير قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم)
لما بين بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته، أشار إلى تحقيق أحقية القرآن وكونه من عنده تعالى بقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس:16].
((قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ)) قال الزمخشري: يعني: أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم، ولم يستمع، ولم يشاهد العلماء ساعةً من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يقهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفى عليكم شيء من أسراره عليه الصلاة والسلام، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به.
((وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ)) أي: ولا أعلمكم به على لساني.
((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل نزول القرآن الكريم لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه.
((أَفَلا تَعْقِلُونَ)) أي: أفلا تتدبرون؟! ألا تعملون عقولكم وتتفكرون، فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي؟ ثم قال الزمخشري: وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) من إضافة الافتراء إليه.
وتعبير الزمخشري تعبير دقيق.
ورأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي؛ لأنه أجابهم بقوله: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) أي: أنا متبع ولست مبتدعاً.
وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هاهنا؛ لكون القرآن في نفسه أمراً خارجاً عن طوق البشر؛ لأن من وجوه الرد على هذا الطلب أن القرآن فوق طاقة البشر، ولم يتعرض أيضاً لكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الإتيان بمثله.
فالقرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذا الافتراء منهم، وذلك بدعوتهم إلى إعمال عقولهم في التدبر بجانب هذه الاعتبارات التي ذكرناها، ليتدبروا في حاله، هل أنتم لا تعرفونه قبل النبوة؟ أنتم تعرفونه جيداً.
فهو يستشهد هنا على المطلوب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة حضور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائناً من كان: ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) أي: عشت فيكم أربعين سنة أو أكثر من أربعين سنة، وما جربتم علي كذباً قط، حتى إنهم كانوا يسمونه: الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى قال لهم أيضا: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69] أي: فهو لم يظهر فيهم بين عشية وضحاها، بل هم يعرفون جيداً أنه أمي، وأنه في الفترة التي عاش بين ظهرانيهم لم يؤخذ عليه أبداً أي شائبة كذب أو افتراء في حق أي مخلوق من الناس كائناً من كان.
يقول تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17].
في هذه الآية تظليم الذي يفتري على الله الكذب، أو يقول: ((أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ))، أي: أن أقبح معصية في الوجود أن يكذب على الله، فإذا كان صلى الله عليه وسلم يتنزه عن الكذب على الناس وأنتم تشهدون بصدقه، فهل يتصور عاقل أن شخصاً يترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله ويدعي أنه رسول كذباً وافتراء؟! هذا لا يمكن أن يقع، ولذلك استدل هنا بسيرته السالفة فيهم: ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) تعرفون خلقي، وتعرفون نزاهتي عن الكذب، وقد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلاً عما فيه كذب أو افتراء، ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)) أن من هذا شأنه مستحيل أن يفتري على الله، فلا يعقل أن يفتري الرسول على الله شريعة يترتب عليها سلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك من عند نفسه، إنما الذي أتى به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين لا شك في ذلك.
وهذا هو المعنى الذي اقتصر عليه ابن كثير، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم لـ أبي سفيان، حيث أوقف خلفه من كان مع أبي سفيان من تجار المشركين فقال هرقل لهم: إذا جربتم عليه أي كذب فنبهوني بأنه يكذب، فقال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه.
فقال له هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال.
أي: من أنه رسول من عند الله؟ قال أبو سفيان فقلت: لا.
وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء.
فقال له هرقل بعد ذلك: أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم ليكذب على الله.
فـ هرقل كبير النصارى وعظيمهم، ومع ذلك شهد بالحق، وكذلك أبو سفيان نفى عنه الكذب فكلاهما نزهاه عن الكذب والافتراء.
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.
وعن ابن المسيب أنها كانت ثلاثاً وأربعين سنة، والصحيح المشهور الأول.
فمن أجل ذلك قال تبارك وتعالى: ((قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)).(81/15)
تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً)
قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17].
((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)) أي: كيف أفعل ذلك وهو أقبح الظلم؟ وهذا استفهام إنكاري معناه الجحد، أي: لا أحد أظلم ممن تقول على الله تعالى وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه.
((أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ)) أي: كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام.
((إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)) أي: لا ينجون من محذور ولا يظفرون بمطلوب.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93].
وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي وعد صادق بلا مرية، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال، فلا بد أن يفضحه الله وأن يهتك ستره ولا يروج كذبه على الناس، والأمثلة كثيرة جداً ابتداءً من مسيلمة الكذاب وسجاح وانتهاءً بمن ادعوا النبوة في العصر الحديث مثل أحمد القادياني.
ذكر أن عمرو بن العاص رضي الله عنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو، وكان صديقاً له في الجاهلية، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو وماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة -يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورةً عظيمةً قصيرة، فقال: وما هي؟ قال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال: وأنا قد أنزل علي مثله فقال: وما هو؟ قال: يا وبر يا وبر! إنما أنت أذنان وصدر! وسائرك حقر نقر! كيف ترى يا عمرو؟! فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب.
فانظر كيف يفضحه الله سبحانه وتعالى، كل من أراد أن يجاري القرآن الكريم، أو يأتي بمثل القرآن في زعمه لا بد أن يهتك ستره، ويأتي بالكلام المضحك كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، ذو ذنب قصير وخرطوم طويل، إلى آخر هذا الكلام.
وهكذا تجدهم لا يستطيعون أن يتخلصوا من أسر القرآن، فلا يستطيعون الابتكار، بل يحاولون أن يحاكوا القرآن، وفي نفس الوقت يأتون بكلام يضحك العقلاء منهم، فهذه آية في أنه لا يمكن أبداً أن يفلح هؤلاء المجرمون.
ثم إن من أعظم أدلة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى رفع من ذكره في الآفاق، ومكن لدينه في الأرض، واستخلف أمته على العالمين، وظهور الدين بهذه الصورة يعتبر عند العقلاء من أدلة صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، فهذا عبد الله بن سلام كان أكبر علماء اليهود في المدينة، يقول: عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً انجفل الناس -أي: أسرع الناس- إليه فكنت فيمن انجفل إليه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما سمعته يقول: أيها الناس! أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، وفي ذلك يقول حسان رضي الله عنه: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر يعني: لو لم يؤيده الله سبحانه وتعالى بالآيات وبالمعجزات عليه الصلاة والسلام، كانت بديهته وشكله ومظهره يأتيك بالخبر أنه صادق.(81/16)
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم)
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)) أي: الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر، والمقصود أن المعبود من شأنه أن يقدر على النفع والضر، وهؤلاء يعبدون ما لا ينفعهم وما لا يضرهم، إذاً لا يستحقون العبادة.
((وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) أي: أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده؟ وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، يعني: هل تخبرون الله بشيء هو لا يعلمه؟ إن هذا الشيء الذي تقولونه معدوم لا وجود له، فلذلك يقول تعالى هنا: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)).
الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، وهو عليم بكل شيء، وهو العالم المحيط بجميع المعلومات.
فإن قلت: كيف أنبئوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم؛ لأنهم لم يقولوا: نحن نخبر الله بأن هؤلاء شفعاؤنا عند الله، أو نعلم الله بما لا يعلمه، لكن الأسلوب تهكم، أي: أنكم تفترون على الله، فمن أين لكم أن هؤلاء يشفعون لكم عند الله؟ أهو أخبركم بذلك أم عندكم علم ليس عند الله؟! فهو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبئوا به باطل.
وقوله: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) تأكيد لنفي هذا الزعم الذي يزعمونه، وهو غير موجود لا في السماوات ولا في الأرض، فإذاً هو شيء منتفٍ معدوم لا وجود له.
((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) أي: عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم.(81/17)
تفسير قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19].
ثم يشير سبحانه وتعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع فطرةً وتشريعاً، وذلك في قوله عز وجل: ((وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: حنفاء متفقين على ملة واحدة، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد.
((فَاخْتَلَفُوا)) أي: باتباع الهوى وعبادة الأصنام، فالشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة؛ صرفاً للناس عن وجهة التوحيد، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
((وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)) أي: بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة، وهذا هو تفسير هذه الكلمة حيثما وردت في القرآن، ومن ذلك قوله: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] وقوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [يونس:96] أو {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6] {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت:45] أنها تكون يوم القيامة، وكذلك قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] كما حقق ذلك العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان.
((لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)) أي: عاجلاً.
((فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) بتمييز الحق من الباطل وبإبقاء المحق وإهلاك المبطل.(81/18)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:20].
((وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ))، إن الله سبحانه وتعالى لم يرسل رسولاً ولا نبياً إلا وجعل له معجزة وأدلة على صدق النبوة، وأيده بالبراهين على صدقه، لكنهم يقصدون: لولا أنزل عليه آية من الآيات التي نقترحها نحن تعنتاً وعناداً، وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آيةً باقيةً على وجه الدهر بديعةً غريبةً.
وقال: ((فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ)) أي: أنه المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، والله سبحانه وتعالى لا يستجيب لاقتراحاتهم في إنزال الآيات.
((فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) [يونس:20] أي: فيما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم، فإن العاقبة للمتقين، فانتظروا أنتم نزول عذاب الله بكم، وأنا أنتظر أن العاقبة للمتقين، وقد قال تعالى في آية أخرى {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59] هذا هو المانع من إنزال الآيات.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس:96 - 97] فلا تزيدهم الآية أي نفع.
وقال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] وقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15].
فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم لفرط عنادهم، ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم لإعجازه، كان طلب آيات أخرى سواه مما لا حاجة له في إثبات صحة نبوته وتقرير رسالته، فمثلها يكون مفوضاً إلى مشيئة الله تعالى فترد إلى غيبه، وسواء أنزلت أم لا، فقد ثبتت نبوته ووضحت رسالته صلوات الله وسلامه عليه.(81/19)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء منهم)
أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج، مشيراً إلى أنهم لا يذعنون ولو أجيبوا لمقترحهم، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشف الضر عنهم إلى الإشراك فقال عز وجل: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس:21].
فهذه عادتهم المضطربة أنهم يلجئون إليه سبحانه وتعالى عند الشدائد، ثم إذا كشف عنهم الضر عادوا لسيرتهم الأولى، فهذا أمر معتاد منهم.
وقوله: ((مَسَّتْهُمْ)) أي: خالطتهم حتى أحسوا بسوء آثارها فيهم.
((إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا)) أي: يتبين مكرهم ويظهر كامل شركهم، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن، ثم ينجلي أمره بعد، فيمكرون بآيات الله سبحانه وتعالى: ((قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) أي: أن عذابه أسرع وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق، وتسمية العقوبة بالمكر؛ لوقوعها في مقابلة مكرهم وجوداً أو ذكراً.
((إِنَّ رُسُلَنَا)) أي: الذين يحفظون أعمالكم.
((يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)) أي: مكركم، وهو تحقيق للانتقام، مع أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير الذي لا يغيب عنه شيء من ذلك.(81/20)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر)
ثم يبين تعالى نوعاً من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر، فقال عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22].
((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)) أي: السفن.
((وَجَرَيْنَ بِهِمْ)) أي: جرت السفن بالذين فيها.
((بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)) أي: لينة الهبوب.
((وَفَرِحُوا بِهَا)) لأمن الآفات.
((جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ)) أي: ذات شدة.
((وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ)) أي: أحاط بهم أسباب الهلاك، وهي شدة الموج والريح.
((دَعَوُا اللَّهَ)) للتخلص منها.
((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: الدعاء؛ لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره.
((لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) أي: العابدين لك شكراً على إنجائنا من هذه الهلكة.(81/21)
تفسير قوله تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23].
((فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) أي: يفسدون في الأرض بغير الحق، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه.
والحقيقة أن الإنسان يعجب ممن يواقعون الشرك في زماننا ممن ينتسبون للإسلام، كم نسمع قصصاً وأساطير وخرافات أنه لما غرق مركب شخص قال: يا سيدي عبد القادر لو أنجيتني سأعمل كذا وكذا، فلما دعا السيد عبد القادر هذا أنجاه! ثم ينشر مثل هذه الأكاذيب والأساطير وتروج في الناس.
وتمر مثل هذه الشركيات ولا كأن هؤلاء ناس موحدون يشهدون أن لا إله إلا الله، بينما المشركون الوثنيون يخلصون الدعاء لله عند الشدة، أما هؤلاء فهم يشركون بالله سبحانه وتعالى في الشدة، فهذا مما حذا ببعض العلماء إلى أن يقول: إن مشركي الزمان الأول كانوا أفضل من مشركي زماننا، أي لأن هؤلاء حينما يقعون في الشدة يدعون الدسوقي والبدوي والحسين وغير هؤلاء.
كل بلد لها قصة وأساطير يتداولونها ويزينها الشيطان لهم؛ حتى يضلهم عن التوحيد.
يوجد في مسجد قبر لشخص اسمه سيدي العوام، وهو بحار يوناني غرق في المركب فقذفت به الأمواج على الشاطئ، وهو الآن يعبد من دون الله في مدينة مطروح، ومسجد العوام أكبر مسجد.
بعض الناس كما حكى بعض العلماء في كتبهم: أنه في المحكمة يأتي الشخص ويحلف كذباً يميناً غموساً باسم الله سبحانه وتعالى وبمنتهى السهولة، وإذا قيل له: احلف بالولي الفلاني يتلعثم ويقول الحق وينفي ما قاله من قبل.
الحقيقة هناك مظاهر من الشرك في غاية الخطورة.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص، نسيتم نعمة النجاة التي حصلت لكم بسبب أنكم دعوتم الله وحده مخلصين له الدين، ونعمة استجابة الدعاء الذي زعمتموه.
((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) هذا الفساد الذي اقترفتموه وباله عليكم ((مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) فقط، ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: في الدنيا، وهو وعيد بأن الله سوف يجازيهم على هذا البغي.(81/22)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم)
قال القاشاني معلقاً على عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] البغي ضد العدل، فكأن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيئة وحدانية لها فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل، بحيث يستلزمها جميعاً، فصاحبها في غاية البعد عن الحق ونهاية الظلمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الظلم ظلمات يوم القيامة) فلهذا قال: ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أي: أن الجزاء من جنس العمل.
الإنسان إذا ظلم وبغى فهو في الحقيقة لا يظلم المظلوم، لكنه يظلم نفسه، ولذلك لما قال الحجاج لـ سعيد بن جبير: انظر يا سعيد! أي قتلةٍ تريد أن أقتلك بها! قال له: اختر لنفسك يا حجاج! فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها يوم القيامة.
وهذا في صحيح مسلم.
فهذا معنى ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) كما تدين تدان، كما تفعل بالناس يفعل بك.
إذاً: المقصود من قوله: ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أن بغيكم يعود عليكم، لا على المظلوم وحده، والمظلوم يسعد ثم يشقى الظالم غاية الشقاء، ولذلك لما سئلت أسماء ذات النطاقين رضي الله تعالى عنها، حيث سألها الحجاج عن مصير ابنها الذي قتله وصلبه قالت: (أراك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك) أي: أفسدت عليه دنياه بالقتل، لكن هو أفسد عليك آخرتك بالوبال وبالعذاب الذي ستلقاه يوم القيامة.
فالمظلوم يسعد ويثاب، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعوته، أما الظالم فإنه يشقى ببغيه وظلمه غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا، إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ولذات حيوانية تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال وقلة البقاء مثل تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات السريعة قبل الانتفاع بنباتها.
((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: سنجازيكم به مما يتبعه من الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم، وفي الحديث (أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة) لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى.
يقول القاسمي: وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، فالله يعاجلهم بالأخذ؛ وذلك لمبارزتهم الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهم إياه في حكمته وعدله.(81/23)
تفسير قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)
ثم يبين تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها، وقرب زمان الرجوع الموعود بقوله عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].
((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)) أي: امتزج به لسريانه فيه.
فهذه الباء للمصاحبة، أو هي للسببية بمعنى: اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضاً، والأول أظهر، أي أن الذي اختلط به نبات الأرض وامتزج به هو الماء؛ لأنه يسري في داخل النبات.
((مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)) من الزروع والثمار والكلأ والحشيش.
((حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا)) حسنها وبهجتها.
((وَازَّيَّنَتْ)) بأصناف النبات.
((وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا)) أي: متمكنون من تحصيل حبوبها وثمارها وحظها.
((أَتَاهَا أَمْرُنَا)) أي: عذابنا ((لَيْلًا أَوْ نَهَارًا)).
((فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا)) أي: كالمحصود من أصله الذي قطع من جذره ((كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ)) كأن لم تنبت قبيل ذلك الوقت القريب.
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ)) أي: بالأمثلة تقريباً.
((لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) أي: في معانيها.(81/24)
تفسير قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام، أي: دار السلامة من الآفات والنقائص، بينما الدنيا معرضة للآفات كما مر.
فإذاً وصف الله سبحانه الدنيا بدار الآفات لأن الجنة تقابلها، فالله وصفها بأنها سليمة من الآفات، وذلك بقوله: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: التي ليس فيها آفات ولا نقائص ولا تكدير ولا تنغيص ولا مرض، ولا نصب، ولا شيخوخة، ولا عناء، ولا أذى، إنما هي كمال في كمال، وسالمة من كل الآفات والنقائص، ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).(81/25)
تفسير سورة يونس [26 - 39](82/1)
تفسير قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:25 - 26].
ذكر الله سبحانه وتعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام، أي: من الآفات والنقائص، فقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25].
((اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته.
((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: إلى دين قيم يرضاه وهو الإسلام.
((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)).
أي: للذين أحسنوا النظر فعرفوا الدنيا وشهواتها فأعرضوا عنها، وتوجهوا إلى الله تعالى فعبدوه كأنهم يرونه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى قوله: ((للذين أحسنوا)) أي: عبدوا الله كأنهم يرونه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فكما أنهم أحسنوا جازاهم الله سبحانه وتعالى بالحسنى من جنس عملهم.
والمقصود بالحسنى المثوبة، وهي الجنة، ثم هناك فضل وزيادة على هذه المثوبة كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173] وأعظم أنواع هذا الفضل النظر إلى وجهه الكريم، ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين ورفعها ابن جرير إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي موسى وكعب بن عجرة وأبي رضي الله عنهم وكذا ابن أبي حاتم.
وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) وقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه عز وجل، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) وهكذا رواه مسلم أيضاً.
((وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ)) أي: ولا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات.
((وَلا ذِلَّةٌ)) أي: ولا يوجد على وجوههم أثر الذل والهوان، وكسوف البال من أثر الالتفات إلى ما دون الله تبارك وتعالى، وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة ((وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ)) مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة؛ لأن فيها تنبيهاً على إكرام وجوههم بالنظر إلى الله تعالى.
هذه الوجوه الذي كرمت وشرفت بالنظر إلى الله سبحانه وتعالى هي جديرة ألا ترهق بقتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين، فإن وجوههم مرهقة بقتر الحجاب وذلة البعد.
((أُوْلَئِكَ)) أي: الذين أحسنوا ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).(82/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها…)
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] الشرك والمعاصي.
((جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)) أي: واق يقيهم العذاب.
((كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ)) أي: كأنما ألبست وجوههم.
((قِطَعًا)) أي: أجزاءً.
((مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا)) لشدة السواد والظلمة التي على وجوههم والعياذ بالله؛ بسبب الشرك والمعاصي، فكأنهم لبسوا ثوباً أسود غطوا وجوههم به، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم.
((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).(82/3)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً إن كنا عن عبادتكم لغافلين)
لقد بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي فقال عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس:28].
((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)) أي: نحشر المشركين ومعبوداتهم، الضمير في قوله: (نحشرهم) عائد على المشركين ومعبوداتهم التي عبدوها من دون الله؛ للمقاولة بينهم.
((ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا)) أي: أشركوا معبوديهم بالله.
فهؤلاء في هذه الحالة وقد حشروا مع هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها، يتوقعون أن تشفع لهم هذه الآلهة كما كانوا يؤملون من قبل، فيجمع الله سبحانه وتعالى العابدين والمعبودين من دونه في نفس الموقف فيقول الله سبحانه وتعالى لهم: ((مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ)) أي: الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم.
قال القاشاني: معناه: قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب ذلك الوصل ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)) أي: مع أنهم مجموعون في موقف واحد وفي صعيدٍ واحد، لكن فرق الله سبحانه وتعالى بينهم وقطع الوصل الذي كان بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة ولا من المعبودين إفادتها، ولو أمكنتهم فرضاً.
((وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)) إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا، وإنما كنتم تعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمركم بهذه العبادة، فأنتم ما عبدتمونا نحن بل عبدتم الشيطان، كما يقول إبليس لهم في الخطبة التي يخطبها: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
فجميع الآلهة التي عبدت من دون الله كاللات والعزى وغيرهما يقولون: ((مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)) أي: يتبرءون منهم.
قال بعض المفسرين: إن هذه الأوثان جمادات وهي لا تنطق، فمن ثم ذهب بعضهم إلى أن هذا مجاز، وقال بعضهم: بل ينطقها الله سبحانه وتعالى الذي أنطق كل شيء، فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها، وتحملهم مسئولية هذا الشرك.
{فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس:29].
أي: الله يعلم أن ما أمرناكم بذلك، وما أردنا عبادتكم إيانا.(82/4)
تفسير قوله تعالى: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)
{هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30].
((هُنَالِكَ)) في ذلك المقام المدهش حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة لهم ممن عبدهم.
((تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ)) تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل فتعاين أثره من قبيح وحسن، ورد وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ليتعرف حاله، وهذا كقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13]، وقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9].
((وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)) الضمير يعود على الذين أشركوا، أي: هؤلاء المشركون ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط.
((وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة، فلم يبق له أثر فيهم.
وفي هذه الآية توبيخ شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة منه.
والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.(82/5)
تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض)
لقد احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده وذلك بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
ألزمهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على وجوب توحيد العبادة والألوهية.
((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) بالإمطار والإنبات، ولا يكون ذلك إلا ممن له التصرف العام فيهما، فلا يمكن أن يصدر هذا الرزق إلا ممن يملك ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى.
((أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ)) من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي هي عليه من الفطرة العجيبة؟! قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [الملك:23].
((وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) يخرج النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب.
((وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)) كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر.
وقيل: المراد أن يخرج الرجل المؤمن من ظهر أب كافر، ويخرج الرجل الكافر من الأب الصالح، فالحياة هنا والموت باعتبار الإيمان والكفر.
((وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: من يلي تدبير أمر العالم كله؟! وهذا تعميم بعد تخصيص أي: ما تقدم آنفاً وكل الأمور.
((فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)) إذ لا مجال للمكابرة لشدة وضوحه.
لم يقل تبارك وتعالى: (قالوا الله)، لكن قال: (فسيقولون الله) فألزمهم بهذا الجواب؛ لأنهم لا يملكون إلا هذا الجواب، لشدة الوضوح في هذه الحقيقة.
ولو قالوا بخلاف هذا الجواب فلن يكون هذا إلا عن مكابرة.
((فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: بعد اعترافكم أنه لا يملك هذا كله إلا الله سبحانه وتعالى؛ أفلا تتقون وتخافون من غضبه لعبادة غيره اتباعاً للهوى؟!(82/6)
تفسير قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فإنى تصرفون)
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32].
((فَذَلِكُمُ)) إشارة إلى من هذه قدرته وإلى من هذه أفعاله سبحانه وتعالى.
((فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ)) أي: الثابت الدائم في وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر.
((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)) أي: لا توجد مرتبة متوسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق وقع في الضلال.
فما بعد أحقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه وعبادة غيره انفراداً أو شركة.
((فَأَنَّى تُصْرَفُون)) عن الحق الذي هو التوحيد إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق لكل شيء؟!(82/7)
تفسير قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا)
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33].
((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)) أي: ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا وخرجوا إلى الحد الأقصى في هذا الكفر.
إعراب كلمة: ((أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) بدل من قوله تعالى: ((كَلِمَةُ رَبِّكَ)) يعني: حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله سبحانه وتعالى منهم ذلك.
أو أراد بقوله: ((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) أنهم سوف يعذبون.
وقد سبق من قبل أن ذكرنا: أن الأصل في تفسير مثل هذه المواضع: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] أو: ((حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) أنها إشارة إلى قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19].
قوله: ((عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)) لم يقل: عليهم، فقد مر ذكرهم فيما قبل، لكن أظهر موضع الإضمار للإشعار بالعلية لهذا الوعيد من كونهم فسقوا.
والفسق هنا هو التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم لتمردهم وكفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار.(82/8)
تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده)
لقد احتج أيضاً على أحقية التوحيد وبطلان الشرك، بما هو من خصائصه عز وجل من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس:34].
((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: هل يوجد أحد من هذه الآلهة التي تشركون بها مع الله سبحانه وتعالى من يبدأ الخلق من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ثم يحييه يوم القيامة ليجزيه بما أسلف في الأيام الخالية؟! وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها إيذاناً بظهور برهانها من الأدلة القائمة على الإعادة والبعث والنشور سمعاً وعقلاً، وأن إنكارها مكابرة وعناد لا يلتفت إليه.
يعني: كنتم تقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي بدأ الخلق، فليس لكم عذر في أن تجحدوا أنه يعيد الخلق؛ لأن الذي يقدر على الإبداء قادر بطريق الأولى على أن يعيده.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك بقوله: ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)) أي: كيف تصرفون إلى عبادة غيره ممن لا يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.(82/9)
تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق)
ثم احتج عليهم أيضاً إفحاماً إثر إفحام بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35].
((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) أي: يهدي إلى الحق بوجه من الوجوه كبعثة الرسل، وإيتاء العقل، وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر، فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الحق من وجوه عديدة، فهو الذي بعث الرسل ليهدوا ويوضحوا ويبينوا، وهو الذي أعطاهم العقل؛ كي يستعملوه في الاهتداء إلى التوحيد، وهو الذي بث لهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم؛ كي يعملوا عقولهم ويتفكروا في هذه الآيات، ويستدلوا بها على توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو الذي وفقهم وخلق فيهم القدرة؛ كي يتدبروا في هذه الآيات ويصلوا إلى توحيده عز وجل.
فهل من شركائكم من عنده القدرة على الهداية إلى الحق كما فعل الله سبحانه وتعالى بهذه الوجوه وغيرها؟! ((قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) وهو الله سبحانه وتعالى: ((أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ)) أي: يعبد ويطاع.
((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) أم من لا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى، نزل منزلة من يعقل لإفحامهم، بمعنى: هل الله سبحانه وتعالى أحق أن يعبد ويطاع، أم هذه الأوثان التي لا يمكن لها أن تهتدي إلا أن يهديها الله؟! فكيف يتصور أن مثل هذه الآلهة تعبد من دون الله، وهي عاجزة عن هداية نفسها فضلاً عن معبوديها؟! وهي أحجار لا تسمع ولا تملك نفعاً ولا ضراً.
وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل؛ لأنه لا يستطيع أن يتحرك حتى يأتي من يحركه وينقله، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه.
وإذا كان هذا شأن المخلوق الجماد الضعيف غير القادر، فالإنسان نفسه الذي أكمل من هذا الجماد.
أما هذا الإله الصنم من الخشب أو الحجر فهو يحتاج إلى أن يترقى أولاً إلى مستوى من يعبده، أي: يترقى من كونه خشباً أو حجراً إلى أن يصبح كائناً حياً تنفخ فيه الروح، ثم يكون مكلفاً عاقلاً كبني آدم، ثم يخلق الله سبحانه وتعالى فيه إرادة الهداية، فإنه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
بهذه الكيفية يتضح لنا أن العابدين أفضل من الأنداد والأوثان المعبودة؛ لأنهم أحياء لهم أرواح ولهم عقول ولا يهتدون إلا أن يهديهم الله سبحانه وتعالى.
وقد قرئ: ((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) وقرئ ((أمن لا يَهدِي إلا أن يهدى)) والعرب تقول: يهدِّي بمعنى: يهتدي، يقال: هديته فهدي أي: اهتدى.
(فما لكم) مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب.
أي: أي شيء لكم باتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم فضلاً عن هداية غيرهم شركاء؟! ((كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) مستأنف أي: كيف تحكمون بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد لله.(82/10)
تفسير قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً)
قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36].
((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ)) أي: في اعتقادهم ألوهية الأصنام.
((إِلَّا ظَنًّا)) اعتقاداً غير مستند إلى برهان، بل لخيالات فارغة وأقيسةٍ فاسدة.
والمراد بالأكثر هنا الجميع.
((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ)) أي: من العلم والاعتقاد الحق ((شيئاً)) أي: من الإقناع.
((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)) وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وإعراضهم عن البرهان.
يلفت الرازي رحمه الله النظر إلى وجود ارتباط وثيق في القرآن الكريم بين آية الخلق وآية الهداية.
يقول الرازي في هذه الآيات: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:34 - 36]: اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً عادة مطردة في القرآن، فحكى الله تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78].
وحكى عن موسى عليه السلام في سورة طه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3].
فذكر الخلق ثم الهداية، وهو في الحقيقة دليل شريف؛ لأن الإنسان له جسد وروح، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: (أمن يبدئ الخلق ثم يعيده) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
((أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)) أي: هذا الجسد، ثم بعد ذلك جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة تعلمون بها ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد وإنما أعطى الحواس؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم.
ثم يقول: فالأحوال الجسدية خفيفة متعلقة بالحواس، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونةٌ عن الفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية.
والمقصود أن الأشرف والأعلى هو حصول الهداية؛ ولكن لاضطراب العقول وتشعب الأفكار، كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده، والهداية إما أن تكون عبارةً عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كلٍ فقد بينا أنها أشرف المراتب وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تبارك وتعالى، وهذه أدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى أنه الذي خلق ثم هدى.
أما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضا وسفهاً.
فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.(82/11)
تفسير قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37].
ثم بين تعالى بعد ذلك أحقية هذا الوحي المنزل رجوعاً إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته بهداية بريته، فقال عز وجل: ((وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ)) إشارة إلى أن هذا شيء ممتنع لا يمكن أن يقع أبداً؛ لأنه كلام الله عز وجل، ولأنه معجزة تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكون من هو دون الله يقدر على هذه المعجزة ينفي كونها معجزة، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى كما سنرى عما قريب.
في الحقيقة نحن تعودنا أن نتلو أمثال هذه الآيات الكريمات في موضوع التحدي بإعجاز القرآن الكريم، وقل من يعطي قضية إعجاز القرآن الاهتمام الذي ينبغي له.
كلنا ولله الحمد نؤمن إيماناً عاماً بأن القرآن هو المعجزة الخالدة والعظمى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن قليل منا من يتفرغ ويعطي جهداً كما ينبغي لدراسة هذه القضية، فالمفروض أن كل واحد منا طلبة العلم يحفظ كل ما يدل على إعجاز القرآن كاسمه؛ حتى إذا كان أمام رجل كافر وطالبه بأن يقيم له الحجة على أن القرآن معجزة، استطاع ذلك، ورد على الشبهات بحيث لا يبقى أمام هذا الكافر إلا التسليم، أما إذا أصر على كفره فيكون مكابراً معانداً، لا عن شبهةٍ ولا عن قصور في إقامة الحجة عليه.
فقضية إعجاز القرآن من القضايا المهمة التي ينبغي أن تدرك خاصة في قضايا العقيدة؛ لأن هذه أجلى وأعظم آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ لأن المعجزة القرآنية معجزة علمية دائمة، وليست معجزة حسية ظهرت ثم لم يعاينها إلا من رآها، كشق البحر لموسى بالعصا، أو إحياء الموتى لعيسى عليه السلام، أو غير ذلك من المعجزات التي ظهرت في زمن معين ولم تدم، بل الحجة بالقرآن قائمة على كل مخلوق على ظهر الأرض إلى يوم القيامة، فهل من ينتسبون إلى العلم قد أتقنوا أدلة هذه المعجزة العظيمة؟ فيما طالب العلم! أنت مسئول عن أن تتقن كيف تدلل على إعجاز القرآن الكريم.
والنظر في إعجاز القرآن الكريم يفتح باباً عظيماً من أبواب التأمل في كلام الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا وقف أمامك عنيد، قسيس، حاخام، يهودي، مشرك، وثني، مادي، أو ملحد، وقلت له: القرآن معجزة، فهو لن يكتفي أن تقول له: القرآن معجزة، ولابد أن تأتي بالأدلة على هذا الإعجاز.
((وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: هذا القرآن أتى مصدقاً للتوراة والإنجيل والزبور في التوحيد، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها هذه الكتب.
منصوب على أنه خبر كان، وقرئ بالرفع خبراً لمحذوف أي: هو تصديق الذي بين يديه.
وبذلك يتعين كونه من الله تعالى؛ لأن القرآن الكريم إذا كان يصدق ما في الكتب السابقة فيتعين كونه نازلاً من عند الله سبحانه وتعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يقرأ هذه الكتب السابقة لأنه أمي، ولم يجالس أهلها، ومع ذلك فالكلام الذي جاء به خرج من نفس المشكاة التي خرج منها التوراة والإنجيل، فلذلك صدق بعض هذه الكتب بعضاً وهذا مطرد كما هو معلوم، فهذا ورقة بن نوفل لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم من سورة العلق قال: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى) انظر كيف ربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام.
كذلك النجاشي لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم قال: (إن هذا والذي جاء به موسى خرج من مشكاةٍ واحدة) أي: خرج من منبع واحد.
((وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ)) أي: وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع.
وهذا مثل قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي: حكم الله عليكم، وقد قال علي رضي الله عنه في القرآن الكريم: فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم.
((لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) أي: هذا الكتاب منتفٍ عنه الريب كائناً من رب العالمين.
قال أبو السعود: ومساق الآية بعد المنع من اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه.
وكما قلنا من قبل: من تأمل معاني التفسير لم يخطئ في حفظ الآيات، فانظر التسلسل الطبيعي للآيات السابقة مثل قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36]، فهذه الآية تمنع من اتباع الظن، ثم الآية التي بعدها تبين ما يجب اتباعه، فإذا كان الإنسان يذم باتباع الظن فإننا على الجهة الأخرى مأمورون باتباع الحق الذي لا ريب فيه، وهو القرآن الكريم، ولذلك جاء بعد قوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:36 - 37].(82/12)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] هم لا يكتفون بالكفر بالقرآن الكريم بل يضيفون إلى ذلك ما هو أعظم وأفظع، حيث زعموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام افتراه، ولذلك أضرب عنها بحرف الإضراب، فـ (أم) هنا كما يقول جمهور المفسرون: هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، ومعنى الإضراب: بل أيقولون افتراه؟! والهمزة للإنكار، أي: ما كان ينبغي أن يقولوا: إنه افتراه.
وقيل: أيقرون به بعد ما بينا حقيقته أم يقولون افتراه، ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)) أي إن كان الأمر كما تزعمون، فائتوا بسورةٍ مثله في البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى، ليس هذا فحسب، بل قال لهم: ((وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) أي: ادعوا من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله إن صدقتم في ادعائكم أني اختلقته، فإنه لا يقدر على ذلك أحد، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
قال أبو السعود: وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء للتنصيص على براءتهم منه تعالى؛ لأنهم ليسوا من الله في شيء وليس الله منهم في شيء؛ لأنهم في شق والإسلام والقرآن في شق آخر مباين، فالله سبحانه وتعالى بريء منهم كما أنهم بريئون منه سبحانه وتعالى، فهم في جهة معادية ومضادة ومشاقة ومحادة لله سبحانه وتعالى، بحيث ليس لهم أن يقولوا نحن سندعو الله، لذلك قال لهم: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).(82/13)
تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)
قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس:39].
((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم، وذلك ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، بحيث أبطل زعمهم أن القرآن العظيم مفترى من دون الله، وذلك بالتحدي: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) في أنه مفترى، وفيه إشارة إلى أن الإنسان عدو ما يجهله، فهم عادوا القرآن الكريم؛ لأنهم يجهلون حقيقته، فلذلك ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)).
وهذه الآية تحتاج إلى تأمل كثير جداً، فإنها في غاية الروعة، فقوله: ((بَلْ كَذَّبُوا)) أي: فهم فعلوا أفظع مما مضى من قولهم: إن القرآن مفترى، وذلك أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، أي: أنهم ربوا على العصبية وعلى العناد، فإنهم يتوارثون ذلك جيلاً عن جيل في شأن الإسلام وفي شأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] كأن كل جيل لا يندثر حتى يهمس في أذن الجيل القادم أن إذا دعيتم للإسلام فكذبوا به ولا تتبعوه.
فشأن الكافر التردد في مثل هذه الأضاليل والأباطيل، كما جاء في سؤال الملكين للكافر في القبر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيقولان له: (ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ها ها لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، ما حقق ولا تحرى ولا بحث عن الأدلة ولا ناقش، وإنما ردد ما يقوله غيره، في حين أنه كان في غاية الاهتمام بأمور الدنيا وشئونها وأحوالها، أما في هذا الأمر الخطير الجلل فإنه اكتفى بأنه يردد ما قيل له.
يقول الزمخشري: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)) أي: سارعوا إلى التكذيب به، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وما فيه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم.
والقصص في الحقيقة كثيرة جداً في مصداق هذه الآيات الكريمات، ولذلك ذكرنا في بداية الكلام أن أكثر الكفار يكذبون بالقرآن؛ لأنهم لا يعلمون ما في القرآن، وهناك أناس غلظت قلوبهم وتحجرت، وعميت أبصارهم وبصائرهم، حتى لو اطلعوا على ما في القرآن فإنهم يصرون على الكفر والعناد، لكن الغالب أن من تصفح القرآن الكريم وتأمله وأحاط به علماً، أو ببعضه، فإن القرآن يهديه إلى الإسلام، لأنه قد انتفى عنه الوصف المذكور في هذه الآية: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) فيشع من هذا القرآن أنوار تنير قلبه وتهديه إلى الإسلام، وأقرب قصة في ذلك قصة القسيس الكبير المعروف هنا في مصر إبراهيم خليل أحمد رحمه الله، فقد كان من أكبر القساوسة المنصرين، وكان له نشاط كبير جداً، وذات مرة في الصعيد كان ذاهباً إلى قاعة المؤتمر، وكان مكلفاً بأن يعد بحثاً ليطعن في القرآن الكريم، ويطعن في الإسلام من خلال القرآن الكريم، لكنه كلما اجتهد أن يهزم القرآن قهره القرآن وغلبه، إلى أن انتهى به الأمر أن يعلن إسلامه في النهاية، وقال الكلمة المشهورة: أردت أن أقهر القرآن فقهرني القرآن.
فهو تعامل مع القرآن مباشرة وتأمله لا من خلال الكتب المسمومة.
ثم يقول الزمخشري في معنى قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)): وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها في أول وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه، من غير فكر في صحة أو فساد؛ لأنه لم يشعر قلبه إلا بصحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب.
في هذا إشارة إلى أن من واجب الأمة الإسلامية أن تنشر إعجاز القرآن وأن تناظر وتدعو بحقائق القرآن وبدعوة القرآن خاصة إلى التوحيد؛ لأن كثيراً من الناس نتيجة الجهل بالمنهج النبوي في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقول لك: كيف أناقش الكفار بالقرآن وهم لا يؤمنون بالقرآن؟ وهذا من المزالق الخطيرة في الدعوة، فالقرآن من أوله إلى آخره يخاطب المؤمنين ويخاطب أيضاً الكافرين: (يا أيها الناس) (يا أيها الكافرون)، فمن أنجع وسائل الاستدلال في الدعوة أن يستدل بالقرآن الكريم، فالقرآن ما نزل إلا ليناظر به المشركون وتقام عليهم به الحجة.
والإعراض عن القرآن، والانشغال بالتوراة والإنجيل في المناظرة والاستدلال، مبدأ منحرف، فالذي ينبغي أن تكون إقامة الحجة على الكفار بالقرآن الكريم، فمن كان في قلبه شيء يسير من الفطرة فإنه يتأثر بسماع القرآن الكريم، وكم من كافر لا يفقه في اللغة العربية كلمة يهتز قلبه لسماع القرآن الكريم وهو يتلى ويرتل فيسلم؛ لأن القرآن له سلطان على القلوب غير مقصور على معانيه ولا بلاغته ولا أحكامه ولا جماله ولا أسلوبه الأخّاذ، ولذلك نجد إخواننا من الهند وبنجلاديش وباكستان تكثر منهم الرقة عند سماع القرآن، مع أنهم قد لا يفقهون كلمة واحدة من اللغة العربية، فيبكي الواحد منهم بكاءً شديداً إذا سمع القرآن الكريم؛ لأن القرآن له سلطان على القلوب، كيف وهو قد كان له أقوى سلطان على قلوب أعتى الكفرة وهم مشركو قريش، ومن ذلك ما ورد في سبب نزول أول سورة فصلت، أن النبي عليه السلام تلا من أول سورة فصلت حتى إذا بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] وكان عنده عتبة بن ربيعة فوضع يده على فم النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يكمل الآية من شدة تأثره وخوفه، والأدلة على هذا كثيرة جداً.(82/14)
تفسير سورة هود [13 - 35](83/1)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)
قال تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:13 - 14].
قوله تعالى: ((أم يقولون افتراه)) هذه الهاء تعود إلى ما أوحي إليك، يعني: أم يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام قد افترى هذا القرآن واختلقه.
وفي (أم) وجهان: الأول: أنها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والتقدير: بل أيقولون افتراه؟! وهذه الهمزة إنكارية.
الثاني: أنها متصلة وليست منقطعة، والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون افتراه؟! قل يا محمد في جواب هذا الزعم أنك افتريته: ((فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ))، أي: افعلوا أنتم هذا.
((وادعوا من استطعتم)) أي: ادعوا للاستعانة من استطعتم من الإنس والجن، وهذا في غاية التحدي.
((من دون الله)) أي: ادعوا كل من تستطيعون متجاوزين الله تبارك وتعالى.
((إن كنتم صادقين)) أي: إن كنتم صادقين في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب.
((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ)) هذا تحد صارخ وواضح، كما كرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تبارك وتعالى متحدياً لهؤلاء في أول سورة البقرة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24].
((فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)) أي: بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها، فأنتم تعلمون أنه ما أنزل إلا بعلم الله.
((وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، أي: واعلموا عند ذلك أن لا إله حق إلا الله، وأن توحيده واجب، وأن الإشراك به ظلم عظيم.
((فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) أي: هل أنتم مبايعون بالإسلام منقادون لتوحيد الله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحجة القاطعة، ولا شك ولا ريب أن هذه الحجة بالفعل قاطعة بصورة لا جدال ولا مراء فيها.(83/2)
من لطائف تحدي الكفار في الآيتين
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هاتين الآيتين لطائف: الأولى: قيل: تحدوا أولاً بعشر سور فقال هنا: ((قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)) فلما عجزوا تحدوا بسورة فقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وذهب المبرد إلى أنه تحداهم أولاً بسورة ثم تحداهم بعشر سور.
قوله في سورة البقرة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي: من مثله في البلاغة والإعجاز والبيان وما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وغيرها.
وهي تسعة أشياء يتضمنها القرآن الكريم نظمها بعضهم بقوله: ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك، فلما وقع تعنتهم واستهزاؤهم واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفترى، فيناسبه التكثير وهو التحدي بعشر سور، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله، ألستم تقولون: إنه مفترى؟ إذاً ائتوا بعشر سور مثله مفتريات، فمن ثم ناسب أن يكون التحدي بعشر سور.
اللطيفة الثانية: قوله عز وجل بعد ذلك: ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فإن ضمير (لكم) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع هنا للتعظيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم.
القول الثاني: يكون الضمير عائداً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدي.
وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم، بل يكونوا معه لمعارضة المعارضين.
إن التحاق المؤمنين والتصاقهم به صلى الله عليه وسلم لا يكون فقط بالنصرة بالسيف وبالجهاد، وإنما يكون في الانتصار لدينه ولمعجزته التي هي القرآن، وذلك بدوام تحدي المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم.
وفي هذا أيضاً إرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان بأن القرآن من عند الله، وأنه معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: ((فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا)) فدل على أن التحدي والصمود بهذا التحدي يفيد زيادة العلم وزيادة اليقين.
وقوله: ((فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)) هذا العلم ليس مستأنفاً، لكنه ترسيخ للعلم الموجود في قلوبهم.
القول الثالث: أن الخطاب هنا للمشركين بمعنى: فإن لم يستجب لكم من استعنتم به من دون الله، وهم المذكورون في قوله: ((وادعوا من استطعتم من دون الله))، من الجن والإنس، في افتراء قرآن مثل هذا القرآن أو عشر سور مثله.
((فإلم يستجيبوا)) أي: هؤلاء الذين دعوتموهم من الجن والإنس ((فاعلموا)) أي: فحقكم أن تعلموا حينئذ عجزكم وعجز هؤلاء الذين لم يستجيبوا لكم ولم يستطيعوا قبول التحدي، وحقكم أن تعلموا الآن أن القرآن أنزل فعلاً من عند الله، وأن الحجة قامت عليكم.(83/3)
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها)
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15].
لقد بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة وهم الكفار، فقال عز وجل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)).
أي: أننا نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حتى الكافر إذا أحسن وعمل عملاً صالحاً كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الوعد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره، بل يوفيه أجره في الحياة الدنيا، حتى يرد الآخرة وليس معه عمل ينفعه؛ لأنه لا ينتفع بعمل صالح في الآخرة عمله في الدنيا إلا إذا كان موحداً.
وهذا هو الجواب عما يستغربه بعض الناس، حينما يرون الكافر في عافية وفي سعة من الرزق، وفي وفور من أمر الدنيا؛ يقول البعض: كيف يبتلى المؤمن ويكون فقيراً ومريضاً، في حين نرى الكافر يتمتع في الدنيا؟! نقول: جاء في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالكافر لا يثاب على الأعمال الحسنة التي يعملها في الدنيا إلا في الدنيا، أما في الآخرة فلا خلاق له عند الله سبحانه وتعالى.
قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا فقط.
((وهم فيها)) أيضاً في الدنيا.
((لا يبخسون)) أي: جزاء أعمالهم في الدنيا، وهذا معلق بمشيئة الله كما قال عز وجل في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18].(83/4)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
قوله تعالى: ((وحبط ما صنعوا فيها)) أي: حبط في الآخرة ما صنعوه من الأعمال الصالحة، وعليه فالضمير (فيها) عائد على الآخرة.
وجوز تعلق الظرف بصنعوا، يعني: وحبط ما صنعوا في الدنيا من قبل الآخرة.
فإذاً تعود (الهاء) على التفسير الثاني على الدنيا كما عادت عليها في قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا.
((وباطل ما كانوا يعملون)) أي: كان عملهم في نفسه باطلاً؛ لأنه لم يعمل لغرض صحيح، ولم يستوف شروط العمل الصالح الذي ينفع صاحبه.(83/5)
شروط العمل الصالح المقبول
شروط العمل الصالح الذي يقبل من العبد: الشرط الأول: الإيمان فلابد أن يكون فاعله مؤمناً كي ينفعه عمله في الآخرة، قال عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، إذاً لابد من الإيمان.
الشرط الثاني: الإخلاص، ألا يريد بالعمل الصالح إلا وجه الله سبحانه وتعالى.
الشرط الثالث: الاقتداء ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
ونظير قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)) هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، لذلك احذر أيها المؤمن! إذا دعوت الله سبحانه وتعالى أن تطلب الدنيا فقط؛ لأنها إذا كانت ساعة إجابة وكان وقت قبول هذا الدعاء، فمن قصور النظر أن تطلب العاجلة وتغفل عن الآخرة التي فيها الفوز الحقيقي الدائم الذي لا ينقطع.
فالإنسان يدعو بصلاح الدنيا، لكن يردف ذلك دائماً بصلاح الدين كما علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكما في الدعاء الذي في سورة البقرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، أما الكافر فلا يطلب إلا الدنيا، فإياك أن تتشبه به؛ لأنك إذا اهتممت بصلاح الدنيا وغفلت عن صلاح الدين فقد تندم بعد ذلك.
فالإنسان يحضر قلبه في الدعاء، وكما يدعو بصلاح الدنيا فعليه أن يهتم بصلاح الآخرة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، وحرصك على الدنيا لن يخرج عما يريده الله بك سبحانه وتعالى.
{ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:18 - 20]، وتأمل قوله تعالى: (فأولئك كان سعيهم مشكوراً) إن الذي يشكر لهم هو الله سبحانه وتعالى، فأي شرف أعظم من أن الله هو الذي يشكر لك عملك.
ودائماً أتذكر معنى هذه الآية الكريمة وأمثالها كلما قرأت في صفحات الوفيات أو في إعلانات الجرائد، وذلك عندما يعزي رئيس الجمهورية فلاناً أو فلاناً؛ فكم يفخر أقارب الميت إذا كان رئيس الجمهورية هو المعزي لهم؟! فما ظنك بالذي يشكر له الله سبحانه وتعالى عمله، فأي شرف أعظم من ذلك؟! والله سبحانه وتعالى هو غني عنك وعن عملك، بل أنت خلقت بنعمة الله من العدم، ووفقت للعمل الصالح الذي يشكرك الله عليه بقوة الله وإنعامه عليك، فلله الحمد أولاً وآخراً.
ومن ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] لأنه ما أراد حرث الآخرة.(83/6)
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)
قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17].
لقد أشار تعالى في هذه الآية إلى صفة المؤمنين في مقابلة أولئك الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
((أفمن كان على بينة من ربه)) أي: برهان نير، عظيم الشأن، أي: هو مسلم وثابت على الإسلام؛ لأنه يملك البينات والبراهين التي تثبته على هذا الدين.
والبينة: هي العلم بالقرآن.
وفسرت البينة أيضاً بالإسلام، أي: أفمن كان على الإسلام، سماه بينة لقوة ظهوره ووضوحه، إذ هو دين الفطرة قبل تدنيسها برجس الوثنية.
قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) الضمير في قوله: (منه) يعود على الرب تبارك وتعالى، أي: ويتلوه شاهد من ربه، هذا التفسير الأول.
التفسير الثاني في قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) أي: يتبعه شاهد من القرآن نفسه، وهو إعجاز القرآن الكريم.(83/7)
علاقة ما مضى من الكتب السماوية بالقرآن
قوله: ((ومن قبله كتاب موسى)) أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى.
وقد فسر العلماء ما مضى قبل القرآن الكريم من الكتب على قولين: الأول: (ومن قبله كتاب موسى) هو التوراة، أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك.
الثاني: ومن قبله كتاب موسى يشهد للقرآن أيضاً؛ ذلك لأن كتاب موسى تضمن ذكر القرآن وذكر صدق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا معناه: أن التوراة شاهدة للقرآن الكريم، بجانب ما يشهد له الإعجاز الذي فيه.
((ومن قبله كتاب موسى إماماً)) أي: مقتدى به في الدين ورحمة ونعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع ((أولئك يؤمنون به)) أي: من كانوا على بينة يؤمنون بالقرآن، فلهم الجنة.
((ومن يكفر به من الأحزاب)) يعني: أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((فالنار موعده فلا تك في مرية منه)) أي: لا تكن في شك من القرآن، أو: ولا تكن في شك من أن النار موعده.
((إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) أي: لا يؤمنون به؛ إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.(83/8)
الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (أفمن كان على بينة)
نذكر بعض الفوائد هنا: الأولى: (مَنْ) في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً، وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبيّن مصيرهم ومآلهم.
وفي شرح الكشاف: أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، أي: لا يعقبونهم في المنزلة أو يقاربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم فضلاً عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
الثانية: قرئ ((ومن قبله كتابُ موسى)) بالرفع، وقرئ: ((ومن قبله كتابَ موسى)) بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في يتلوه، أي: يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ممن آمن من أهل الكتاب كـ عبد الله بن سلام، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى، لما يجدونه مكتوباً عندهم.
و ((يتلوه)) من التلاوة فتكون الآية كقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10].
الثالثة: قوله: ((ومن الأحزاب)) الأحزاب جمع حزب، والحزب جماعة الناس، ويطلق الأحزاب على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، فهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية؛ لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناول كل من شاكلهم من سائر الطوائف.
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، قال سعيد: كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)).
فهذا يفيدنا أن المقصود بالأحزاب في الآية الملل كلها، وبالذات اليهود والنصارى؛ كما في نص الحديث المذكور.
فإذاً كل من بلغته بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع بالإسلام وسمع بالقرآن فما عليه إلا أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
وقبل ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن الدين الحق، ليس هذا فحسب، بل يجب عليه أن يصيب الحق، فلا يعذر الشخص أن يقول: أنا اجتهدت وبذلت وسعي وتوصلت إلى أن الحق مثلاً في اليهودية أو النصرانية، فهذا لا يقبل منه وليس عذراً؛ لأن للحق أدلة وعلامات، فلا يمكن أبداً أن يلتبس الحق في أحقية دين الإسلام، وفي أن القرآن كلام الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا الإسلام ديناً، هذه حقيقة أوضح من الشمس.
فتوحيد الله سبحانه وتعالى، النبوات، الإيمان بالغيبيات، كل هذه الأشياء عليها من الأدلة ما لا يدع عذراً لكافر، لكنه الجهل أو العناد والجحود بعد المعرفة، فمن ثم يجب على كل كافر أن يجتهد في البحث عن الحق أولاً، وأن يصل إلى الحق ثانياً، فلا يعذر إذا قال: اجتهدت فوجدت الحق في غيره.(83/9)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)
قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
مثال افتراء الكذب على الله سبحانه وتعالى: قول المشركين للملائكة إنهم بنات الله، أو قولهم في الأصنام إنهم شفعاء عند الله.
ومعنى قوله: ((ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)) أي: لا أحد أظلم ممن يكذب على الله سبحانه وتعالى.
((أولئك يعرضون على ربهم)) أي: يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم في ذل وفي هوان.
((ويقول الأشهاد)): أي: الذين يشهدون بالحق يوم القيامة من الملائكة والنبيين والجوارح: ((هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)) هذا تهويل عظيم مما يحيط بهم حينئذ؛ لظلمهم بالكذب على الله.
قيل: ولا يبعد أن تكون الآيات للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه؟! يعني: إذا كان الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام هو الذي يتلو عليهم هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]: فلا يعقل إذاً أن يفتري هو على الله الكذب، ويدعي أن القرآن من عند الله وهو ليس من عند الله.
وقد أدرك هرقل هذه الدلالة، فلما سأل أبا سفيان كي يمتحن صدق النبي عليه الصلاة والسلام -والقصة في كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري - قال له: (هل يكذب؟ فقال: لا يكذب فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله)، هل يعقل أنه لا يكذب على الناس ثم يكذب على الله سبحانه وتعالى؟! ومما يستدل به على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اشتهار دينه وانتشاره في آفاق الأرض، ورفع ذكره بهذه الصورة التي لم تقع لأحد من البشر سواه عليه الصلاة والسلام في كل أقطار الدنيا، وفي كل الأزمان من بعد بعثته، بل ومن قبل بعثته عليه الصلاة والسلام.
فالله سبحانه وتعالى ما كان أبداً ليرفع شأن كاذب يكذب عليه بهذه الطريقة؛ لأن هذا فيه تلبيس للحق على الناس، فهذه من علامات صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.(83/10)
تفسير قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود:19].
((الذين يصدون عن سبيل الله)) أي: عن دينه القويم.
لم يذكر هنا المفعول به، والتقدير: الذين يصدون عن دين الله كلَّ من يقدرون على صده وعلى إبعاده عن طريق الله سبحانه وتعالى.
((ويبغونها عوجاً)) الهاء تعود على السبيل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]، فكلمة السبيل في هاتين الآيتين مؤنثة.
((ويبغونها عوجاً)) أي: يطلبونها معوجة بالكفر، يحرفون الناس عن الصراط المستقيم، ولا يرضون أن تكون مستقيمة.
أو ((يبغونها عوجاً)) أي: يصفونها لهم بالاعوجاج، وينفرون الناس عن الإسلام بوصفه أنه دين معوج، دين التصوف، دين الإرهاب، دين التعصب والتشدد والتزمت إلى آخره، فينفرون عن دين الله بوصفه بصفة لا تليق به كالاعوجاج.
((وهم بالآخرة هم كافرون)) أي: هم يصدون أنفسهم عن الحق؛ لأنهم كافرون بالآخرة، ويصدون غيرهم أيضاً عن طريق محاربة الإسلام وتشويهه، ويدعون الناس إلى طرق معوجة تقودهم إلى النار والعياذ بالله.(83/11)
تفسير قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20].
((أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض)) أي: لم يكونوا يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى إذا لم يعجل لهم العقوبة في الدنيا، فليس مرد ذلك إلى عجزه عنهم، وليس مرد ذلك إلى أنهم يفوتونه إن أراد معاقبتهم.
((وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ)) أي: ولم يحل دون عقابهم وجود أولياء يمنعونهم من عقاب الله، ويحمونهم من عذابه.
((يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ)) أي: هؤلاء يضاعف لهم العذاب.
((مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ)) أي: لتصاميهم عن الحق وبغضهم له.
((وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)) لتعاميهم عن آيات الله وإعراضهم عنها غاية الإعراض، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] هذا يدل على أن المقصود بالسمعِ السمعُ الذي ينتفع به في الوصول إلى الحق، كذلك البصر، أما مجرد حاسة السمع دون عقل ودون فهم، فهذه صفة العجماوات والبهائم، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، كالبقرة أو الجاموسة أو الحيوان إذا وقفت أمامه تتلو عليه قصيدة أو كتابة، فهو يسمع الحروف؛ لكن لا يفقه معنى الكلمات، فهذا هو حال الكافر.
ولذلك إذا استحضرنا هذا المعنى فلا نستغرب إذا وجدنا الكافر في غاية من العتو والعناد والجحود، مع وضوح آيات الله سبحانه وتعالى؛ لأن هناك حائلاً وضعه الله سبحانه وتعالى على قلبه، قال عز وجل: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فهذا القفل نحن لا ندري كيفيته، وليس شرطاً أن يكون مثل الذي نضعه على الأبواب، لكن هو نوع من القفل الله أعلم بكيفيته وبشكله، وهذا القفل يوضع على القلب فلا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر والعياذ بالله، فهذه الحقيقة هي التي تمنعهم من قبول الحق.
ومن أدلة قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته أن نجد من يكفر بالحق مع وضوحه، فهؤلاء يرون آيات الله لكن لا تنفذ إلى قلوبهم، فلذلك قال هنا: {أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20]، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88].(83/12)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود:21 - 23].
((أولئك الذين خسروا أنفسهم)) أي: خسروا سعادتها وراحتها.
أو خسروا أنفسهم؛ لأنهم سلموها لعبادة الأوثان، ومنعوها من فعل ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة، كما قيل: إذا كان رأس المال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب.
((وضل عنهم ما كانوا يفترون)) أي: غاب عنهم الآلهة وشفاعتها ولم تجزهم شيئاً.
((لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ)) أي: حقاً.
أو: لا محالة أنهم في الآخرة هم أخسر الناس صفقة.
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ)) أي: خشعوا له وحده، ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).(83/13)
تفسير قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)
قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود:24].
ورد في الآيات السابقة ذكر الفريقين: المؤمنين والكفار، وصفة كل فريق، ومآل كل فريق، ثم قال تبارك وتعالى: ((مثل الفريقين)) أي: الكفار والمؤمنين.
((كالأعمى والأصم)) هذا مثل للكافر.
((والبصير والسميع)) وهذا مثل للمؤمن.
((هل يستويان مثلاً)) أي: هل يستوي الأعمى والأصم مع البصير السميع حالاً وصفة.
((أفلا تذكرون)) يعني: بضرب الأمثال وبتدبر هذه الأمثال.
لقد قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل السابقين ما يثبت به فؤاده، فالآيات الكريمات التي ستأتي في سورة هود، هي تثبيت من الله سبحانه وتعالى لقلب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بذكر قصص الأنبياء السابقين وأحوالهم مع أممهم، وأن معاناة الرسل من أممهم مثل ما يعانيه عليه الصلاة والسلام، والإخبار بسنته سبحانه وتعالى فيمن مضى من الأمم.
إذاً هذا يدل على أن قصص الأنبياء وقصص الصالحين جند من جنود الله، ومن ثمرتها أنها تثبت قلوب المؤمنين، فمن أراد تثبيت الإيمان في قلبه، فليعمل عقله، وليتدبر في آيات الله سبحانه وتعالى، في هذه القصص الحقيقية الواقعية، وخاصة أن الله سبحانه وتعالى وصفها بأنها أحسن القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، وذلك كي يتسلى عليه الصلاة والسلام بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].(83/14)
في قصص الأنبياء والصالحين تثبيت للصالحين
قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود:25].
((ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)) كانت قد امتلأت الأرض من شرك قوم نوح وشرورهم.
((إني لكم نذير مبين)) قرئ بالكسر: ((إني لكم)) أي: فقال: إني لكم نذير مبين.
يعني: أرسلت إليكم لأبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه، ((مبين)) اسم فاعل من أبان فهو مبين.
إذاً ماذا أبان؟ أبان لهم ما يوجب حصول عذاب الله، وأبان لهم أيضاً كيف يتخلصون من هذا العذاب وينجون منه.(83/15)
تفسير قوله تعالى: (أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم)
قال تعالى: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26].
((أن لا تعبدوا)) الباء مقدرة هنا للتعدية، أي: بأن لا تعبدوا إلا الله.
((لا تعبدوا)) لا ناهية، أي: أرسلناه متلبساً بالنهي عن عبادة غير الله.
((إني أخاف عليكم)) أي: إن عبدتم غيره.
((عذاب يوم أليم)) أي: مؤلم في الدنيا والآخرة.(83/16)
تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه)
قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].
((فقال الملأ الذين كفروا من قومه)) الملأ المقصود بهم هنا السادة والكبراء والوجهاء.
((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) أي: لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا ونحن بشر مثلك؟! يستبعدون أن ينزل الوحي على من ليس بملك.(83/17)
نظرة الملأ للأنبياء وأتباعهم
قال القاسمي: ((قال الملأ)) أي: الأشراف المليئون بأمور الدنيا القادرون عليها.
وهذه هي المصيبة العظمى: أن بعض الناس يستمدون قوتهم لا من علمهم ولا من عقلهم ولا من بصيرتهم، بل يتوهم أحدهم أن قوته بالمنصب الذي هو فيه، أو بالمال الذي يملأ جيوبه، أو بمتاع الدنيا الذي يملكه، فهو يرى أن قيمته تتحدد على هذا الأساس، وعلى هذا الفهم المنحرف الضال القاصر، فإنه يعطي نفسه ما ليس من حقه، فهو مستعد أن يفتي في كل قضية، وإن يدلي بدلوه في أي مسألة، حتى لو كانت بعيدة عما يخصه ويعنيه.
فعلى الإنسان أن يستمد قوته من إيمانه بالله، أما أن يستمد قوته ويتعامل مع الآخرين على أساس أن معه مالاً أو غير ذلك من أعراض الدنيا، فهذا لا وزن له ولا قيمة.
يقول القاسمي: ((فقال الملأ)) الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: ((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) لأنهم كانوا ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، لا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طوراً بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، لم يدركوا أن نوحاً ميزه الله سبحانه وتعالى بمرتبة أعلى من هذه المثلية التي يزعمون.
صحيح هو مثلهم من أنه بشر من طين، أو خلق من ماء مهين كما خلق سائر البشر، لكن هناك شيء آخر فوق هذا الجسد البدني أو هذه الصورة الآدمية الظاهرة، فهناك مراتب كمالات في العقول والاستعدادات والمواهب التي يفيضها الله سبحانه على من يشاء من عباده، ويفضل بعضهم على بعض، هم لم يلتفتوا إلى ذلك، فمن ثم لم يشعروا بمقام النبوة ورفيع قدرها ومعناها.
((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) انظر إلى الغطرسة! يظنون أن ما هم عليه من أحوال الدنيا هي مؤهلاتهم، فالواحد منهم يرى أن له أن يكفر بالأنبياء، وأن يحتقر من دونه في الدنيا وإن ارتفع عليه في الإيمان وفي الدين.
وقولهم: ((أراذلنا)) أي: فقراؤنا الأدنون منا؛ إذ المرتبة الرفيعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، فبالتالي يحتقرون من لم يؤت هذه الأشياء، فلذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) أي: أحط الناس فقراً أو مالاً أو جاهاً في مجتمعنا.
((بادي الرأي)) كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
وبادي الرأي أي: بديهة الرأي، يريدون أن يصفوا أتباع نوح عليه السلام الذين آمنوا به أنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، أي: أما نحن أصحاب الفكر والنظر فلا نستسلم لك بسرعة، فهؤلاء انقادوا لك بادي الرأي، يعني: أول ما سمعوا دعوتك انقادوا إلى هذه الدعوة.
فهم يعيبونهم بانقيادهم لنوح عليه السلام، يقولون: أما نحن أهل الفلسفة وأهل الروية وأهل العقول الراجحة فمثل هذه الدعوة لا نقبلها بسهولة، ولابد أن يكون الذي يدعونا للحق عنده المال والجاه، ولا يصاحب الفقراء ولا المساكين ولا الضعفاء، هذه هي القيم وهذه هي الموازين عند هؤلاء.
وقولهم ((بادي الرأي)) هذا مما لا يذم، بل مما يمدح؛ لأنه انقياد الإنسان للحق إذا ظهر أنه حق واضح مثل الشمس، فما الذي يمنعهم أن ينقاد هؤلاء كما انقاد من بعدهم قوم موسى عليه السلام، فإن السحرة آمنوا بمجرد أن رأوا الآية.
ويؤخذ من هذا أن المرء ينقاد للحق إذا ظهر، أي فلا تؤخر ولا تسوف ولا تؤجل الانقياد للحق، فهذا الذي يعيبونهم به هو من أعظم وأشرف مناقبهم حيث بادروا إلى الانقياد للحق.
وعلى نفس طريقة الملأ القداماء سار الذين يحاربون الإسلام اليوم، ويحاربون الدعوة والدين فهم يجادلون بنفس المنطق ويفكرون بنفس الطريقة، تجدهم يقولون عن الملتزمين: هؤلاء جهلة! ويجتهدون في تصويرهم بنفس هذه الصورة، كما تعرفون وتلاحظون ذلك في التمثيليات والمسرحيات والأفلام التي خرجت في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يخترع هذا الكلام كذاب، فهو يؤلف القصة من خياله بصورة تخدم هدفاً هو يريده، فلذلك يفتري ما شاء، والله له بالمرصاد.
فهؤلاء يتصورون أن الإنسان العاقل الكيس الفطن هو الذي يستطيع أن يتجر ويكسب أموالاً كثيرة، ولا يفكرون إلا في الكمالات الدنيوية الحقيرة، وأما أتباع نوح عليه السلام فإنهم أصحاب همم بعيدة، لا تقف عند كسب المعاش والأموال، بل عقول حائمة حول الارتفاع والارتقاء والتزكية والطهارة غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه.
قرأ أبو عمرو بالهمزة: ((بادئ الرأي)) والباقون بالياء.
معنى (بادي الرأي) على القراءتين: أما الأول: (بادئ الرأي) فمعناه: أنه صدر من غير روية، وذلك أول وهلة.
وأما الثاني: (بادي الرأي) فيحتمل أن أصله ما تقدم؛ لكن قلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً، فيكون كالأول.
ويحتمل أن الياء أصلية من بدا يبدو كعلا يعلو، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول.
وعلى القولين هو منصوب على الظرفية: (بادي الرأي) والعامل فيه: (نراك)، أو: (اتبعك).(83/18)
بطلان حجج الملأ من قوم نوح وسخافتها
قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً ومن اتبعه، من وجهين، أي أنهم يريدون أن يبطلوا دعوة نوح بالاستدلال بأحوال متبعيه من وجهين: أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة فقالوا: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا، فليسوا قدوة وليسوا أسوة كهؤلاء الملأ.
الثاني: أنهم لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكر ولا روية.
وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة؛ لأن منهم من صدقه وآمن به.
وكلا الوجهين يبرهنان على أن هؤلاء الملأ من قوم نوح ضعفاء العقول جهلة.
إذاً الشريف هو الذي يتبع الحق، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فأولى الناس بصفة الشرف والعلو والرفعة هم الذين ينقادون للحق، ولا يجادلون في الحق ولا يمارون فيه.
أما عند هؤلاء فالشرف هو المنصب والمال والجاه، ولذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)).
أما الرد على الوجه الأول: فلا خفاء في أنه ليس بعار عن الحق رذالة من اتبعه، أي: كون الفقراء والضعفاء والمساكين ينقادون للحق، لا يحوله إلى باطل، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه -أي: الحق- هم الأدنون وهم الأراذل ولو كانوا أغنياء، وفي الغالب أنه لا يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفتهم؛ لأن غالب الأغنياء والوجهاء يتكبرون؛ فيحجبهم ذلك عن الانقياد للحق والانتفاع به إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.
يقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] أي: على ملة.
{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قال له فيما قال (أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل).
هذا فيما يتعلق بالرد عن الوجه الأول.
أما الجواب على الوجه الثاني: فإن المبادرة والإسراع لاعتناق الحق من أكمل الفضائل؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولابد لكل ذي فطنة من اتباعه، ولا يتردد في قبول الحق إلا غبي، ومن قدرته العقلية ضعيفة لا يستطيع أن يفهم الحق مع وضوحه، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام؛ فهم يأتون بلغة قومهم، ويأتون ببينة واضحة لا تلتبس على أحد، مهما كان مستواه العقلي أو الفكري.
((وما نرى لكم)) هذا الخطاب لنوح وأتباعه.
((من فضل)) أي: تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والجاه.
هذه هي طريقتهم في التفكير، فالله سبحانه وتعالى يبين لنا جهلهم وقصورهم من خلال كلامهم، ويبرز لنا الموانع التي حجبتهم عن الانقياد إلى الحق.
قال الزمخشري: كان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد ضل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله، وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة والتأهيل لها.
ثم يقول الزمخشري -وما أحسنه من كلام-: على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، مصغرين لشأن الدنيا وشأن من أخلد إليها.
أي: أما هؤلاء فبالعكس، فهم يعظمون الدنيا هذا التعظيم ويقولون: ((وما نرى لكم علينا من فضل)) أي: ليس عندكم أرصدة وأموال مثل التي عندنا، فلماذا نتبعكم؟ هذه هي المقاييس الوضعية الحقيرة لديهم.
بل هذه الدنيا التي يتباهون بها لا تبعد عن الله وتحط من شأن أهلها فحسب، بل من ضمن أهداف بعثة الرسل تصغير شأن هذه الدنيا وتحقيرها والتزهيد فيها، والترغيب في طلب الآخرة.
فإذاً هما طريقان لا يلتقيان: سارت مشرقةً وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب ثم قال: فما أبعد حال الأنبياء عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله والتشرف بما هو ضعة عند الله! ((بل نظنكم كاذبين)) أي: فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.(83/19)
تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28].
((قال يا قوم)) أي: قال نوح: يا قوم ((أرأيتم)) أرأيت: اسم فعل أمر بمعنى أخبرني، أي: أخبروني.
((إن كنت على بينة من ربي)) إن كنت على برهان.
((وآتاني رحمة)) أي: منَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بأمر اختصني به، وهو أن ((آتاني)) منه ((رحمة)) أي: هداية خاصة كشفية تكشف لي الحقائق.
((من عنده)) أي: أن هذه الرحمة من عند الله فوق طور العقل، بل هي من العلوم اللدنية ومقام النبوة، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلمًا} [الكهف:65] أي: علمناه من عندنا علماً وهو مقام النبوة؛ لأن النبوة لا تكتسب، بل هي هبة من الله لا يستطيع الإنسان أن يجتهد في العبادة والذكر حتى يصل إليها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فيصطفي الأنبياء ويختصهم دون من عاداهم بخاصية مقام النبوة وعلم النبوة.
((فعميت عليكم)) أي: لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخلقة عن الحقيقة.
((أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)) أي: أنكرهكم على قبولها ونقصركم على الاقتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، مع أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؟ فالاستفهام هنا للإنكار أي: لا نقدر على أن نكرهكم على الإيمان، والذي في وسعنا هو دعوتكم إلى الله سبحانه وتعالى، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم.
وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها ورد عن الإعراض عنها بأسلوب فائق في غاية الجدارة؛ لأن هذا الأسلوب الذي يتكلم به نوح عليه السلام فيه نوع من الاستفزاز الباطني؛ لأنه يصف ما آتاه الله سبحانه وتعالى بكونه بينة من ربه، تزكية للمنهج الذي هو عليه، فهو واثق من منهجه وعنده البرهان على صحته.
إذاً مع أنكم محجوبون عن تدبرها فلا نملك أن نقصركم على اتباع الحق، في هذا الذي يدعوهم إليه نوح عليه السلام إرشاد لهم إلى أن يزكوا أنفسهم، وأن يتخلوا عن المكابرة والإنكار والجحود والعناد، لينقادوا إلى هذا الحق.
وقريب من هذا أن بعض الناس كتب بعض الأوراق لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، يريد أن يضع شعاراً ليستفز غير المسلم لكي يبدأ في تدبر آيات الله سبحانه وتعالى ويعمل العقل، فكتب بالإنجليزية ما ترجمته: نحن بهذا الجهد فقط نبذر بذرة الهداية، ولعل الله سبحانه وتعالى القدير يجعلها تترعرع في قلب من يستحقها.
فهذا الأسلوب فيه نوع من الاستفزاز للمرء كي يعمل عقله في الوصول إلى هذا الحق.(83/20)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً)
قال الله حكاية عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29].
((ويا قوم لا أسألكم عليه)) أي: على تبليغ التوحيد ((مالاً إن أجري إلا على الله)).
قال القاسمي: قوله: ((ويا قوم لا يسألكم عليه مالاً)) أي: أنتم عندكم الغرض والغاية في كل أمر محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، أنا لا أنازعكم في أموالكم ولا أطلب منكم مقابلاً، فتنبهوا لغرضي أي: لست ممن يتستر وراء الدين للحصول على مكاسب دنيوية أو أموال.
ثم لما بين أن لا وجه لكراهة دعوته إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئاً؛ وذلك بعد أن قال في الآية السابقة: ((أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ))، أنكر عليهم في هذه الآية وكأنه يقول لهم: لماذا تكرهون الحق؟ ولماذا أنتم لهذه البينة كارهون؟ هل أنا أطلب في مقابل تبليغكم هذا الحق مالاً، فلذلك تكرهون دعوتي؟! أنتم تزعمون أنكم عقلاء فتدبروا، أنا لا أريد منكم منفعة أو مالاً، فما المسوغ لكراهة الحق أو الدعوة، وهي لا تنقصكم من دنياكم شيئاً؟ فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع -يعني: بزعمهم- إلا بطردهم، لكن رد عليهم نوح عليه السلام: ((وما أنا بطارد الذين آمنوا)) أي: لا أستطيع أن أطرد المؤمنين ولا أستجيب لهذا أبداً؛ لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] أي: من رزق.
{وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:52 - 53] بلى {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].
((وما أنا بطارد الذين آمنوا))؛ لأن طردهم قد يفتنهم عن الإيمان، ويفتن غيرهم من الفقراء والضعفاء عن أن يدخلوا في الدين، ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه.
((إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ))، فلا آمن أن يشتكوني إلى ربي إن أنا طردتهم، أو المعنى: إنهم يلاقون ربهم ويفوزون بقربه فكيف أطردهم؟! ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: فتخافون بسبب جهلكم لحوق خستهم بكم لمشاركتكم إياهم في الإيمان، وهذا من جهلكم؛ لأن خستهم ليست مانعة من الإيمان، وماذا يضركم -أيها الأغنياء- إن أسلمتم كما أسلموا؟! فلا يستلزم من إيمانكم أن تشاركوهم في صفة الخسة أو في صفة الضعف.
وقوله: ((تجهلون)) أي: لا تعرفون ما هي الموازين التي تقرب العبد من الله أو تبعده عنه؟! إنها موازين التقوى والعمل الصالح، وليس أعراض الدنيا؛ لكن بسبب أنكم تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه؛ لذهاب عقولكم في الدنيا، فأنتم تسفهون وتؤذون المؤمنين وتسمونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير وأحسن منكم عند الله، وأنهم أكرم منكم على الله، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]؟ بلى.
لقد أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه عز وجل فقال: ((ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم)) أي: فإن طردتهم فمن يمنعني من انتقامه سبحانه ومن يدفعه عني؟! وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعاً، وإنما لم يصرح به لأنه غني عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم لإيمانهم بالله واليوم الآخر.
((أفلا تذكرون)) أي: أفلا تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟! قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن.
أي أن المؤمن ليست قيمته لا بماله ولا بشكله، ولا في أعراض الدنيا التي لديه أو في منصبه، إنما قيمته أنه مؤمن شهد شهادتي الحق، وانضم لحزب الإيمان، فهذا يعظم حرمته ويرفع شأنه، ويحرم الاستخفاف به، وإن كان فقيراً عادماً للجاه والمال متعلقاً بالحرف الوضيعة؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح ووصفه للرؤساء لما طلبوا طرد من عدُّوه من الأراذل بالجهل.
وهذا نظير قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52].(83/21)
تفسير قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله)
قال الله عز وجل: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود:31].
أي: أنا بشر مثلكم فضلت عليكم بالوحي وبالرسالة، ولا أدعي ما ليس لي، ولذلك: ((لا أقول لكم عندي خزائن الله)) أي: رزق الله وأمواله عز وجل.
((ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك)) أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، إنما فضلت عليكم بالنبوة، فلا تستنكروا علي عدم تفوقي عليكم في المال ولا بالأملاك ولا في أعراض الدنيا.
((ولا أقول للذين تزدري أعينكم)) أي: تحتقرونهم وهم الفقراء والمؤمنون ((لن يؤتيهم الله خيراً))، أي: في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه كما تقولون أنتم، إذ الخير عندي هو ما عند الله لا المال.
((الله أعلم بما في أنفسهم)) أي: من الخير، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم وعظمه إلا الله سبحانه.
قال القاسمي: وحمل هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله، إرشاداً إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة.
يعني: على الإنسان أن يفوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة في التعامل مع الناس في الدنيا، والأحكام تجري على ما يظهرون، أما السرائر فتوكل إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يتقدم الإنسان بين يدي الله بتزكية من لا سبيل له إلى معرفة ما في قلبه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، إنما نأخذ بما ظهر)، ولذلك قال: (وحسابهم على الله) أي: أقبل منهم انقيادهم بالإسلام، ولكن حسابهم في الآخرة على الله سبحانه وتعالى.
((إني إذاً)) يعني: إني إذا قلت ذلك ((لمن الظالمين)) أي: لبخس حقهم وحط قدرهم، فإن الإيمان ظاهر منهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعدما آمنوا كان ظالماً.
وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم والمعنى: إن أنا قلت فيهم ذلك سأكون من الظالمين، لكني لست من الظالمين كهيئتكم؛ لأنكم تزدرونهم وتحتقرونهم، فلا أفعل فعل الظالمين.(83/22)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:32 - 34].
((قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)) أي: أطلت الجدال أو أتيته بأنواعه.
((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) هذا من غبائهم ومن جهلهم، بدل أن يطلبوا الهداية إذا بهم يستعجلون حصول العذاب، وكان الأولى أن يقولوا: اللهم اهدنا إلى هذا الحق إن كان نوح من الصادقين، لكنهم قالوا: ((فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)).
((قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)) أي: هذا ليس موكولاً إليَّ، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به.
((وما أنتم بمعجزين)) لا بالهرب ولا بدفع العذاب إذا نزل بكم.
((وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)) أي: أي شيء يجزيه إبلاغي ونصحي بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب، إن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم.
والإرادة هنا كونية قدرية.
((هُوَ رَبُّكُمْ)) أي: هو مالك أمركم.
((وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) أي: بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم.(83/23)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35].
(أم يقولون افتراه) أي: بل أيقولون افترى نوح النصح، وهو ما ذكره بقوله: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي} [هود:34] فهذا الكلام من تتمة نبأ نوح عليه السلام وقومه، أو هو التفات من الكلام على نوح وقومه إلى الكلام على كفار مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فضمير الجمع في قوله: (يقولون) إما لقوم نوح وإما لكفار مكة، ويعنون افتراء محمد صلى الله عليه وسلم نبأ نوح، وجيء به معترضاً في تضاعيف قصة نوح تحقيقاً له وتأكيداً لوقوعه، وتشويقاً للسامعين إلى استماعه، إذ بقي منه الأهم وهو نتيجته، (قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون).(83/24)
تفسير سورة هود [36 - 49](84/1)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:36 - 39].
ثم قال تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: حتى إذا جاء أمرنا بإهلاك قومه، وحتى هنا هي غاية لقوله تبارك وتعالى: ((وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ))، أي: أنه كان مستمراً في صناعة الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه، يعني: ويصنع الفلك وحاله أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه إلى آخره، (ويصنع الفلك) حتى إذا جاء أمرنا.
و ((سَخِرُوا مِنْهُ)) جواب ((َكُلَّمَا)).
((وَفَارَ التَّنُّورُ)) أي: وجه الأرض أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر، هذه أقوال حكاها اللغويون والمفسرون.
بعض المفسرين زادوا على ما ذكره اللغويون والمفسرون: أن هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: حمي الوطيس، والوطيس: هو التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه.
يقول القاسمي: وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده.
فـ القاسمي يختار أن قوله: (وفار التنور) كناية عن اشتداد الأمر؛ فكأنه قيل: واشتد الأمر وقوي انهمار الماء ونبوعه من الأرض.
وهذا الإيجاز في قوله: (وفار التنور) في مجازه الرهيب قد بينته آيات آخر، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فمن هذه الآيات قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فكل هذه المعاني التي فصلت في هاتين الآيتين في سورة القمر قد ركزت وأجملت في قوله تعالى: ((وَفَارَ التَّنُّورُ)).
ومما يؤيده شموله لشدة الأمر من السماء والأرض، فهذا الشمول يطابق هذه الآيات: ((فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ)) من السماء ومن الأرض ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)).
أما قول من قال: إن معنى قوله تعالى: (وفار التنور) أي: وجه الأرض، أو المكان الذي ينفجر منه الماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، كل هذه الأقوال إنما تشير فقط إلى الأرض ولا تعم السماء بخلاف قولنا إنه كناية عن شدة الأمر من السماء والأرض.
وجلي أن الأمر كان أعم، وأنه لم يقتصر على ما خرج من الأرض، وإنما التقى ماء السماء مع الماء الذي انفجر من الأرض.
((قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا)) أي: في السفينة.
((مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ)) أي: من كل صنف من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض ((زَوْجَيْنِ اثنين)) ذكراً وأنثى.
وقال أبو البقاء: (كل) فيها قراءتان: القراءة الأولى: ((قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين))، بالإضافة فيكون فيها وجهان: الأول: أن المفعول هو (اثنين) على أساس أن (من كل زوجين) حال.
الوجه الثاني: أن (من) زائدة، فالمفعول هو (كل)، فتكون كلمة (اثنين) توكيداً.
القراءة الثانية: ((قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين)) بالتنوين، فزوجين هنا مفعول للفعل (احمل) و (اثنين) توكيد له، و (من) متعلقة باحمل أو هي حال.
((وَأَهْلَكَ)) أي: من يتصل بك من أقاربك الذين هم موافقون لك في الدين والإيمان، وفي السيرة والهدي.
((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)) أي: إلا من وجب عليه القول، والمقصود بالقول هو الإغراق بسبب ظلمه، كما قال تعالى: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) فبين له أن ابنه كان من الذين ظلموا، فهو في الحقيقة ليس من أهله أي: ليس من أهل دينه.
((وَمَنْ آمَنَ)) أي: واحمل في السفينة من آمن معك، وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ: (من) للإيذان بقلة المؤمنين، بدليل قوله بعدها مباشرة: ((وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)).(84/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها)
قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41].
((وقال اركبوا فيها)) أي: قال نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين: اركبوا في السفينة.
((باسم الله مجراها ومرساها)) قال الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالاً من الواو بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين باسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها؛ إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاج، ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في باسم الله من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.
ثم يقول: والكلامان أن يكون: ((باسم الله مجراها ومرساها)) جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة أي: باسم الله إجراؤها وإرساؤها.
يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: باسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: باسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما، كما قال الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، أي: بقدرة الله وبأمره تبارك وتعالى.
فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضبة؟ قلت: معناه: أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته.
ويحتمل أن تكون غير مقتضبة بأن تكون في موضع الحال من ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله.
وأخذ بعض العلماء من الوجه الأول استحباب التسمية وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وعندنا ما يؤيد ذلك القول من القرآن الكريم في موضعين: في سورة المؤمنون، وفي سورة الزخرف.
في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29].
وفي سورة الزخرف: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:12 - 14].
وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه أيضاً، لكن هناك فرق بين اللفظ الذي ورد في القرآن واللفظ الذي ورد في السنة، ففي القرآن: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] أما في السنة فقد جاء بصيغة: (الحمد لله الذي سخر لنا هذا).
قوله عز وجل: ((إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)): جملة مستأنفة بياناً لموجب الإنجاء من الغرق، يعني: أن الذي يوجب الإنجاء هو محض رحمة الله عز وجل، فلولا مغفرة الله ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم.
وقيل: إن قوله: ((إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) تعليل لاركبوا؛ لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.(84/3)
تفسير قوله تعالى: (وهي تجري بهم في موج كالجبال)
قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42].
((وهي تجري بهم)) هذا متصل بكلام محذوف، يدل عليه قوله تعالى: ((اركبوا)) فيكون الكلام المقدر: فركبوا مسمين كما أمر نوح وهي تجري بهم.
((في موج كالجبال)): وذلك عندما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض، فتعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعاً، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من عظمة هذه الأمواج فإنك تراها في علوها مثل الجبال، يعني: انظر الأمواج حينما تغمر وجه الأرض وترتفع فوق أعالي رءوس الجبال الموجودة على ظاهر الأرض، ليس هذا فحسب بل الأمواج نفسها التي تكونت بعد ذلك كانت كالجبال في حد ذاتها! ((ونادى نوح ابنه وكان في معزل)) أي: في منحنىً عن أبيه: ((يا بني اركب معنا)) أي: ادخل في ديننا واصحبنا في السفينة الخاصة بالمؤمنين، وليس المقصود أن نوحاً عليه السلام ينادي ابنه أن يركب في السفينة وهو ليس من المؤمنين، وإنما المقصود أن ائت بالسبب الذي ينجيك من الهلاك، بأن تدخل أولاً في ديننا ثم تركب معنا في هذه السفينة.
((ولا تكن مع الكافرين)) أي: لا تكن مع الهالكين، فدين الكفر هالك، والانعزال والانزواء إلى معسكر الكافرين أيضاً نهايته الهلكة.
أو: ((ولا تكن مع الكافرين)) أي: في دينهم وفي عزلتهم.(84/4)
تفسير قوله تعالى: (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)
((قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ)) يعني: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وبالتالي لن أغرق.
((قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)) أي: لا مانع اليوم من أمر الله وبلاء الله، أي: الطوفان.
((إلا من رحم)) أي: إلا الذي يرحم، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن بدل أن يقول: إلا الله، ذكره بصفته وهي الرحمة.
والمعنى: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من رحمه الله فهو المعصوم.
قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم وهو الله.
أو: لا معصوم إلا مرحوم.
أو: لا عاصم إلا مرحوم.
أو: لا معصوم إلا راحم.
أو: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم وهو السفينة.
والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل؛ لأنه زعم أن الجبل يعصمه: ((قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ)) يعني: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمكان المرحوم هو السفينة.
((وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ)) أي: صار حائلاً بين نوح وابنه.
وقيل: بين ابنه والجبل لارتفاعه فوقه.
على القول الأول يكون المعنى: أنه بينما نوح يخاطب ابنه ويرد عليه ابنه، إذا بالموج يحسم هذه المناقشة وهذا الحوار، فصار الموج حائلاً بين نوح وابنه.
وعلى الثاني يكون المعنى: أنه حال الموج بين ابن نوح وبين الجبل الذي زعم أنه يعصمه من الماء؛ لأنه واقف على الجبل يرد على أبيه، فإذا بالموج الذي هو أعلى من الجبل يطيح به ويغرقه.
((فكان من المغرقين)) أي: مع كونه فوق الجبل فقد كان من الهالكين بالغرق.
وفي الآية دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان.
يعني: إذا كان هذا مصير ابن نوح الذي صعد إلى أعلى جبل وظن أنه يعصمه من الماء، فكيف بمن كان في مكان دونه من سائر الكفرة؟! لذلك لم يتعرض القرآن لإهلاك سائر الكفرة؛ لأنه يفهم من كون ابن نوح هلك وأغرق مع أنه كان في أعلى جبل، وكان واثقاً من أنه سيعصمه من الماء، فمن الأولى أن من كان دونه قد أهلك، فلا يفتقر إلى البيان.
ولا شك أن في إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم، فلم يقل الله تعالى: وحال بينهما الموج فصار من المغرقين، لكنه قال: ((فكان من المغرقين)).(84/5)
تفسير قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي)
قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44].
فيها إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض ولم يبق ممن كفر بالله ديار استجابة لدعاء نوح عليه السلام، {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] أمر الله تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك، ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئاً فشيئاً، وظهرت رءوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.
((وقيل بعداً)): مصدر منصوب بمقدر، أي: وبعدوا بعداً، والعرب يقولون ذلك إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحوه، ولذلك اختص بدعاء السوء.
وبعداً له مثل: سحقاً أو جدعاً.
((للقوم الظالمين)) فاللام متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بقيل، أي: قيل لأجلهم هذا القول: بعداً للقوم الظالمين! لم يقل تعالى: وقيل بعداً لهم، أو بعداً للمغرقين وإنما قال: ((وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) للإشعار بأن علة الإهلاك هي الظلم الذي تلبسوا به، ولتذكر ما سبق من قوله: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)).(84/6)
جهات الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)
كما أشرنا من قبل أن إعجاز القرآن الكريم علم مستقل من علوم القرآن الكريم، وهو من العلوم المهمة التي نحن في أشد الحاجة إلى تدارسها، ولاشك أن كل آية من القرآن الكريم فيها إعجاز، وهذه الآية من الآيات التي فيها من مظاهر الإعجاز ما حير ألباب فطاحل البلاغة والبيان والبديع وسائر علوم الإعجاز.
وقد ذكر القاسمي هنا فصلاً طويلاً نسبياً في هذا الموضوع، وسنمر عليه بدون تعليقات كثيرة.
يقول القاسمي: (هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها، وقد اهتم علماء البيان بإيضاح تحب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالاً في مضمار معارفها الإمام السكاكي فقد أطال وأطاب في كتابه المفتاح، وتلطف في البيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه، قال عليه الرحمة في بحث البلاغة والفصاحة، وتعريفها الأول: بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقديمه للفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد، وإلى اللفظ وهو كونه عربياً أصلياً، جارياً على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، وأكثر في الاستعمال.
يقول: وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها.
يعني: أن من تحدوا بها من جهابذة اللغة والبلاغة والبيان والأدب وهم فحول قريش، قد رأوا بما عندهم من مفاهم البلاغة ومعرفتها ما أعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فهذه المعاني أدركها هؤلاء لعلو شأوهم في الفصاحة وفي البلاغة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها.
يقول: وهي قوله علت كلمته: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]، والنظر في هذه الآية من أربعة جهات: من جهة علم البيان.
ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة.
ومن جهة الفصاحة المعنوية.
ومن جهة الفصاحة اللفظية.(84/7)
الجهة الأولى: علم البيان في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجازم النافذ في تكوين المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وعدماً، ولمشيئته تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته.
لا شك أنه لا ينبغي القول بأن القرآن فيه مجاز، لأنه لا مانع على الإطلاق أن الله سبحانه وتعالى يخلق في الأرض إدراكاً بحيث تخاطب، كما في هذا الموضع: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) ما المانع أن يخاطب الله الأرض فتمتثل حقيقة هذا الأمر؟! وكذلك قوله: ((ويا سماء أقلعي))، وقد قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، ما الذي يمنع أن يكون القول حقيقياً، وأن تكون الإجابة منهما أيضاً حقيقية.
يقول: كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصور مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته، كان المشار إليه مقدماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز المرسل عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض!) (ويا سماء!).
ثم قال كما ترى: (يا أرض!) (ويا سماء!) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لمرور الماء في الأرض البلع: (ابلعي ماءك) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء.
ثم قال: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، يعني: كأن الأرض تملك هذا الماء.
واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل فعله للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً: ((ويا سماء أقلعي)) بمثلما تقدم في ((ابلعي)) ثم قال: ((وغيض الماء)) فلم يصرح بمن غاض الماء.
((وقضي الأمر)): ولم يصرح أيضاً بمن قضي عليه الأمر، ومن سوى السفينة.
((وقيل بعداً)) كما لم يصرح بقائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) في صدر الآية.
سلك في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، بمعنى: أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائلاً: (يا أرض!) (ويا سماء!).
هذه حقيقة مقررة لا تحتاج لبيانها وتوضيحها؛ لأنه لا يتصور أن يقدر على هذه الأفعال إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44].
فهو قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم أن يكون غيره -جلت عظمته- هو قائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) ولا غائض مثلما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره، ثم ختم الكلام بالتعريض بالدعاء على قوم نوح بالهلاك: ((وقيل بعداً للقوم الظالمين)) تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم، وإظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.(84/8)
الجهة الثانية: علم المعاني في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)
قال: أما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة.
المقام هنا مقام إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، فيناسب أن تنادى الأرض والسماء بنداء البعيد: (يا أرض!) (ويا سماء!) فمقام العظمة يستدعي وجود البعد بين مرتبة الخالق الآمر والمخلوق الذي يؤمر هنا.
قال: وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرضي بالإضافة؛ لإبداء التهاون.
يعني: لو أنه قال: يا أرضي ابلعي ماءك، فمثل هذه الإضافة يكون فيها تكريم للأرض وتشريف، لكنه قال: (يا أرض ابلعي ماءك) لإبداء التهاون، فترك هذه النسبة.
ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام.
واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها؛ لكونها أخف وأدوم، دون سائر أسمائها.
أي: كالغبراء أو المقلة من أسماء الأرض؛ لكنه استعمل لفظة الأرض.
واختير لفظ السماء بمثلما تقدم في الأرض.
أي: لم يقل: الخضراء أو المظلة أو غير ذلك من أسماء السماء، مع قصد المطابقة؛ لأنها في مقابلة الأرض.
واختير لفظ: (ابلعي) على ابتلعي؛ لكونه أقصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي).
((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، وإنما لم يقل: ابلعي بدون المفعول؛ لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء؛ لأنه ممكن أن الأرض تبتلع الجبال وتبتلع التلال وتبتلع البحار، لكن قال: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)).
ثم بيَّن المراد واختصر الكلام مع أقلعي: ((ويا سماء أقلعي)) ولا يحتاج هنا إلى أن يذكر أقلعي عن الماء؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه.
وهو الوجه في أن ((قيل يا أرض ابلعي ماءك)) فبلعت ((ويا سماء أقلعي)) فأقلعت.
واختير غيض على غيّض المشدد لكونه أقصر.
وقيل: ((وغيض الماء)) ولم يقل: وغيض ماء طوفان السماء.
وقيل: ((وقضى الأمر)) دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاقتصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.
وقيل: ((واستوت على الجودي)) ولم يقل: سويت على الجودي؛ بمعنى: أقرت على الجودي.
وقيل: وغيض وقضي بالبناء للمفعول اعتباراً ببناء الفعل للفاعل مع السفينة، في قوله: ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ))، فلما جاء ذكر السفينة بني الفعل للمعلوم فناسب أن يقول هنا: ((واستوت)) ولم يقل: وسويت على الجودي جرياً على السياق الذي جرى من قبل وهو قوله: ((وهي تجري بهم في موج)) مع قصد الاختصار في اللفظ.
ثم قال: ((وقيل بعداً للقوم)) ولم يقل: ليبعد القوم؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بعداً) وحده منزلة ليبعدوا بعداً، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع بعداً الدال على معنى أن البعد لصيق بهم وحق له؛ لأنه لو قال: ليبعد القوم لما ظهرت اللام.
((الظالمين)) هنا أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.
هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلمة والألفاظ، وأما من حيث النظر إلى تركيب الجمل فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر: ((وقيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي)) ولم يقل: ابلعي يا أرض! ولم يقل: أقلعي يا سماء! جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليمكن الأمر الوارد عقبه في نفس المنادى.
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي))؛ لأن الطوفان ابتدأ من الأرض، وبنزولها منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى.
ثم أتبعهما قوله: ((وغيض الماء)) لاتصاله بقصة الماء، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: ((وقضي الأمر)) أي: بإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: ((واستوت على الجودي))، ثم ختمت القصة بما ختمت وهو التعريض الذي سبق بيانه.
هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.(84/9)
الجهة الثالثة: الفصاحة المعنوية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)
أما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية: فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، وفي أوجز وأقصر عبارة وأبلغها يقول عز وجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]، لا تعقيد يعكر الفكرة في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المراد، بل إذا جربت نفسك عند اجتماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وهذا من أعظم مظاهر الإعجاز في هذه الآية الكريمة، فكأن المعنى في مسابقة مع اللفظ حتى كاد المعنى يسبق إلى قلبك قبل أن يصل اللفظ إلى أذنك من شدة الوضوح وسلاسة التعبير.(84/10)
الجهة الرابعة: الفصاحة اللفظية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)
أما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر.
ولا تظنن هذه الآية الكريمة مقصورة على ما ذكرت من البلاغة والفصاحة، وإنما هذه مجرد إشارات، لكن من تمعن وتحرى سيجد ما هو أضعاف أضعاف هذه الفوائد، ولعل ما تركت أكثر مما ذكرت، لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإشارة بكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ منهما عن المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع على وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه، ولكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها، واستلبت ماؤها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].
انتهى كلام السكاكي.(84/11)
ذكر من ألف ذكر شيئاً في إعجاز الآية الكريمة
وقد تصدى أبو حيان أيضاً في تفسيره المسمى بالنهر للطائفها، وساق أحداً وعشرين نوعاً من البديع.
وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في هذه الآية الكريمة سماها: النهر المورود في تفسير آية هود، وهي في استخراج أوجه الإعجاز والبلاغة في هذه الآية الكريمة، أورد تلك الأنواع البديعية أيضاً وهي: المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وحسن التقسيم، والاحتراف، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.
إن هذا البحث يحتاج إلى تفصيل أكثر من هذا، لكن هذا أنموذج من الثمرات التي يقطفها العلماء من علم إعجاز القرآن الكريم، انظر كم من عناوين لبعض البحوث لا نعرف معناها مثل: التسهيم والاحتراف والإيضاح، وغير هذه من الاصطلاحات الفنية في علم البلاغة، ومن خبرها وسبر غورها فإنه يستطيع أن يتذوق حلاوة القرآن الكريم.
فهذه إشارة وأنموذج لما يمكن أن يستنبط من الكنوز من كلام الله سبحانه وتعالى فإنه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
فإذاً علم الإعجاز علم ضخم جداً وعلم عالي القدر، وهو من أشرف علوم القرآن الكريم.
المؤلفات في إعجاز القرآن كثيرة جداً، لكن هذا بحر لا يتمكن من الغوص فيه إلا من كان خبيراً بهذا الغوص؛ حتى يستطيع أن يستخرج هذه اللآلئ.(84/12)
تفسير قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي)
قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45].
((ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي)) هذا إعلام بأن نوحاً حملته شفقة الأبوة وعاطفة الرحم والقرابة على طلب نجاته؛ لشدة تعلقه به واهتمامه بأمره، وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة الإلهية وحسن السؤال فقال: ((وإن وعدك الحق)) ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي.
وإنما قال نوح ذلك لفهمه من الأهل أن ابنه يدخل في أهله الذين وعدهم الله بالإنجاء، ففهم من الأهل ذوي القرابة الصورية والرحم النسبية، ولفرط التأسف على ابنه غفل عن أن ابنه مستثنى، وذلك لقوله تبارك وتعالى: ((وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ))، ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام وعرض بقوله: ((وأنت أحكم الحاكمين)) أي: أنك العادل والحكيم الذي لا يخلف وعده.(84/13)
تفسير قوله تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك)
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] أي: ليس من أهلك الموعود إنجاءهم بل هو من المستثنين لكفرهم.
لا ينبغي أبداً أن يفهم من قوله: ((إنه ليس من أهلك)) أنه ليس من صلبك؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]، أي: فخانتاهما في العقيدة وفي الإيمان، وليست الخيانة المعروفة بارتكاب الفاحشة؛ لأنه يستحيل أن امرأة نبي ترتكب الفاحشة، فبعض الناس قد يربط بين قوله: ((فخانتاهما)) وبين قوله: ((إنه ليس من أهلك)) فنقول: لا هو من أهله من حيث إنه من صلبك، لكن المقصود أنه من أهلك الذين استثنيتهم بقولي: ((وأهلك إلا من سبق عليه القول)).
أو ((يا نوح إنه ليس من أهلك)) أي: هو ليس من أهلك أصلاً؛ لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر، وذلك لقوله: ((إنه عملٌ غير صالح)) أو ((إنه عَمِلَ غير صالح)) في هذه إشارة إلى أن القرابة الحقيقية هي القرابة في الدين وأخوة الدين.
وكما هو معلوم لو أن رجلاً مؤمناً مات وترك مالاً كثيراً، ولم يترك من ورثته إلا ابناً له كافر، فبإجماع العلماء لا يرثه ابنه الكافر، وإنما يئول ماله إلى إخوانه المسلمين، فقدمت رابطة العقيدة على رابطة النسب، فكذلك قوله تعالى هنا: ((إنه ليس من أهلك)) أي: ليس من أهلك الذين هم على دينك وعقيدتك وقرابتك الدينية، ولا علاقة ولا موالاة بين المؤمن والكافر.
قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد صلى الله عليه وسلم من عصى الله وإن قربت لحمته.
يعني كما قال الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وسبب النجاة ليس إلا الصلاح، وهذا لم يكن صالحاً، وليس سبب النجاة قرابته منك بحسب القرابة اللحمية النسبية، فمن لا صلاح له لا نجاة له، وهذا سر إيثار كلمة ((غير صالح)) على عمل فاشل، أو عمل فاسد؛ لأن مناط النجاة إنما هو الصلاح.
وقد قرأ يعقوب والكسائي: (إنه عَمِلَ غير صالح)، أي أن ابنك عمل عملاً غير صالح، والباقون قرءوها بلفظ المصدر بجعله نفس العمل مبالغة كما بينا.
و (غير) على قراءة يعقوب والكسائي تكون مفعولاً به.
قوله: ((فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) أي: لا تلتمس مني ملتمساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه.
قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه أصلاً، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله كما هنا ((فلا تسألن ما ليس لك به علم)).
أما إن كان السؤال من أجل الاسترشاد واستفادة العلم فهذا لا حرج فيه.
قوله: ((إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) أي: أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم.
وقد تنبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عند ذلك التأديب الإلهي والعقاب الرباني وتعوذ بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].(84/14)
تفسير قوله تعالى: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] يعني: ما فرط مني، ((وَتَرْحَمْنِي)) أي: بالوقوف على ما تحب وترضى، ((أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) أي: الذين خسروا أنفسهم بالاحتجاب عن رحمتك.
قال القاسمي: تنبيه: ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته أي أنه ربيبه، وأيده بعضهم بقراءة علي: (ونادى نوح ابنها) والله تعالى أعلم.
لكن ظاهر القرآن أنه ابنه من صلبه، ولا دليل على هذا الذي رواه أو ذكره.(84/15)
تفسير قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا)
لقد أخبر تعالى عما قال لنوح عليه السلام بعد أن أرست السفينة على الجودي بقوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48].
ذكر في إحدى الجرائد في أمريكا -وعندي صورة المقالة- أنه اكتشف هيكل أو جسم سفينة نوح عليه السلام في منطقة فيها تسمى الجودي، وهناك بعض القنوات في التلفاز في أمريكا مختصة بالقضايا العلمية أو الظواهر الطبيعية، ومن ضمن هذه البرامج حلقة مخصوصة عن سفينة نوح عليه السلام، وقد أرسل لي أحد الإخوة شريطاً، لكني حتى الآن لم أتمكن من رؤيته؛ لأني أعرف أن الناس الذين عندهم (فيديو) غالبهم غير ملتزمين بالدين، فلا نحب أن نظهر لهم الاحتياج إليهم حتى نرى، لكن قرأت التعليق على هذا الشريط في الجريدة، وذكروا أنه اكتشفت سفينة نوح في هذا المكان.
((قيل يا نوح اهبط)) أي: أنزل من السفينة.
((بسلام منا)) أي: بسلامة منا.
((وبركات عليك وعلى أمم ممن معك)) أي: ممن معك في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان ((وأمم)) أي: ومنهم أمم ((سنمتعهم)) أي: في الحياة الدنيا لتعلقهم بها ((ثم يمسهم منا عذاب أليم)) أي: في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما.
في الحقيقة أن من إعجاز القرآن الكريم تكرر حرف الميم فيها كثيراً، ومع ذلك لا يشعر القارئ بأي ثقل له على اللسان، مع أنه لو كان في غير القرآن لشعرت بثقل الحرف، لكن مع تكراره لا تكاد تشعر بهذا التكرار، هذا أيضاً مما أشار إليه بعض العلماء في إعجاز القرآن الكريم.(84/16)
كلام العلماء في الطوفان الذي وقع لقوم نوح
ذهب العلماء في الطوفان مذاهب شتى، فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة حينئذٍ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم، ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه.
خلاصة الكلام أن الحق ما عليه أهل الشرائع في أن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا، وصار العاقب في أولاد نوح الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77].
يقول المقريزي في الخطط: هم ثمانون رجلاً سوى أولاده، فمات الثمانون وبقي أولاده الثلاثة ومنهم خرج الجنس البشري.
وذلك باعتبار أن نوحاً هو أبو البشر الثاني.
وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع؛ لما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وصار أباً ثانياً للخليقة، ولذلك قيل: إنه أبو البشرية الثاني بعد آدم عليه السلام.
قال بعضهم في تقرير عموم الطوفان مبرهناً عليه: إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف.
الذين يدرسون الجيولوجيا يعرفون هذا جيداً، ففي بعض الأماكن من الأرض التي هي بعيدة تماماً عن البحار يجدون آثاراً بحرية، وحفريات من الكائنات البحرية، فهذا مما يؤيد عموم الطوفان للأرض كلها.
يقول: وقد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها وبعضها مدفون على مقربة منها، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذلك المكان وجمعها قسراً فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين، فتحجرت وظلت شاهدة على ما كان بأمر الخالق تبارك وتعالى.
إن قائل هذا الكلام ليس باحثاً من علماء الجيولوجيا، وإنما هو ابن خلدون.
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاماً، إذ لم يكن العمران قائماً إلا لقوم نوح، فكان عاماً لهم وإن كان من جهة خاصاً بهم، إذ ليس ثم غيرهم.
قال: هبط آدم إلى الأرض وهو ليس بأمة، لذا مرت عليه قرون ولَّدت أمماً، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل قرون، ونمو عشيرته لا يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً، من آدم إلى نوح ثمانية أبناء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً حتى يطئوا وجه الأرض بالأقدام وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين، أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان فلا برهان، وإن كان في غير ذلك المكان فإن لم يكن وضعها إنسان كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان.
على أي الأحوال يقولون: الطوفان خاص وعام، خاص بمكان، عام لسائر المكان.
يبدو أن القاسمي كان يريد التوسع في هذا البحث، يقولون: إنه ترك فراغاً قدره ثلاث صفحات وثلث صفحة في هذا الموضع، مما يشير أنه كان يريد التفصيل فيه، لكن يبدو أنه عاجلته المنية رحمه الله.(84/17)
تفسير قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك)
يقول تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49].
((تلك)) إشارة إلى قصة نوح عليه السلام ((من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)) أي: من قبل هذا الإيحاء إليك، والإخبار بها، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم، ((ولا قومك)) أي مع كثرتهم لم يسمعوا بها.
((فاصبر)) أي: على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح عليه السلام، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قضي لنوح ولقومه، كذا في الكشاف.
((فاصبر إن العاقبة)) أي: في الدنيا بالنصر والظفر وفي الآخرة بالنعيم الأبدي، ((للمتقين)) أي: المتقين الشرك والمعاصي.(84/18)
تفسير سورة هود [50 - 83](85/1)
تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50].
((وإلى عاد أخاهم هوداً)) عطف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} [هود:25] أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً.
وأخاهم يعني: واحداً منهم، كما يقولون: يا أخا العرب! يريدون بذلك واحداً من العرب.
وعاد هذه التي يذكرها الله سبحانه وتعالى هنا هي عاد الأولى، التي قال تعالى فيها: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50]، وقال فيها أيضاً: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]؛ لأن عاداً عبارة عن شعبين، أو قبيلتين، أو أمتين: عاد الأولى، وعاد الآخرة أو عاد الثانية.
أما الأولى: فهي التي أرسل إليها هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح، وقد سكنوا في جنوب الجزيرة العربية تقريباً في منطقة عمان وجنوب اليمن حتى صحراء الربع الخالي، وهي التي تسمى الأحقاف.
أما عاد الثانية: فهم من نسل هود والمؤمنون الذين خرجوا معه من الأحقاف قبل هلاك قومهم، وسكنوا اليمن حتى غزاهم القحطانيون من العراق، وسيطروا على اليمن بعد أن أبادوا عاداً الثانية.
فعاد الثانية أهلكت عن طريق القحطانيين لما غلبوهم وأبادوهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50] ولم يقل: (فما أبقى) لأنه أبقى من نسلهم من كان منهم عاداً الثانية، لكن في ثمود قال: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51] أي: وأهلك ثمود فما أبقى منهم أحداً بل استأصلهم.
وعاد عند العرب رمز للقدم والأبدية، كما يقال: هذا الشيء قديم قدم عاد، فهي من العرب البائدة، هي أقدم قبائل العرب على الإطلاق.
ويقال: هذا الشيء عادي، وليس ذلك نسبة إلى العادة ولكن نسبة إلى قوم عاد، والمعنى: أنه موغل في القدم.
ويقال: العاديات ويعبر بها عن الآثار والأطلال، ولذلك تسمى المحلات التي تباع فيها التحف القديمة والنادرة العاديات.
ومما يلاحظ أن لهجة أهل الصعيد تتميز عن لهجة أهل الوجه البحري بكلمة عاد، فأهل الصعيد حتى الآن يستعملون كلمة عاد بمعنى: أبداً، فلعل هذه الكلمة تميز بها أهل الصعيد؛ وذلك لأنه قدمت مع عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قبائل عربية من اليمن، وهذه القبائل استقرت في الصعيد لتشابه المناخ بين الصعيد وبين اليمن، وموطن عاد كان في حضرموت وفي جنوب اليمن، وهؤلاء تواترت عندهم كلمة عاد حتى جاءت إلى صعيد مصر، فلعل هذا هو سبب بقاء كلمة عاد في لغة أهل الصعيد، والله أعلم.
((قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) أي وحده ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)).
((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ)) أي: باعتقاد الأوثان شركاء وجعلهم شفعاء.(85/2)
تفسير قوله تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً)
قال تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:51].
لماذا خاطب كل رسول قومه بقوله: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً))؟ إزاحة للتهمة، وتمحيضاً للنصيحة، فإنها لا تنجع النصيحة ما دامت مشوبة بالمطامع والطموحات المادية، لذلك ينزه هود عليه السلام نفسه عن هذه التهمة، فيقول: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)) أي أفلا تفهمون وتعون إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً.
أو (أفلا تعقلون): أي: أفلا تتدبرون الصواب من الخطأ.(85/3)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52].
((ويا قوم استغفروا ربكم)) أي: من الوقوف مع الهوى بالشرك ((ثم توبوا إليه)) أي: من عبادة غيره بالتوجه إلى التوحيد.
((يرسل السماء عليكم مدراراً)) أي: كثير الدر، وقلنا: كثير الدر ولم نقل: كثيرة الدر مع أن السماء كلمة مؤنثة؛ لأن المقصود بالسماء المطر، فنظر إلى المعنى.
و ((مدراراً)) منصوب على الحال من السماء، أو أن المراد بالسماء السحاب فذكر على المعنى، أو أنه مفعال للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو أن الهاء حذفت من مفعال، أو مفعال على طريق النسق.
((وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)) أي: قوة مضمومة إلى قوتكم، أو قوة مع قوتكم، وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، كانوا شديدي الحرص على كثرة النسل وكثرة الأموال وكثرة الأولاد، حتى يتقووا بذلك على إثراء أموالهم وترهيب أعدائهم، فقد كانوا مثلاً في القوة، كما قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، واغتروا بقوتهم.
قوله: ((ولا تتولوا)) أي: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ((مجرمين)) أي: مصرين على إجرامكم وآثامكم.
قد حصل في بعض الاكتشافات الحديثة عن طريق التصوير من الفضاء أن اكتشفوا آثار مدينة إرم ذات العماد، كما نشر في بعض الجرائد الأجنبية، ونشر أيضاً هنا في جريدة الأهرام يوم عشرة شهر أربعة عام اثنين وتسعين تسعمائة وألف.
قالوا: أعلن العلماء مؤخراً اكتشاف آثار عاصمة ملك عاد المعروفة باسم إرم، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، جاء ذلك عقب دراسات وأبحاث علمية قام بها علماء الفضاء والجيولوجيا والآثار والتاريخ، وأشارت إليها بعض الصحف العالمية ومن بينها مجلة التايم في فبراير الماضي ومجلة لوس أنجلوس تايم، وفي أحدث تقرير علمي عن هذا الاكتشاف تلقاه الدكتور زغلول راغب النجار أستاذ علوم الأرض يبين معالم هذا الاكتشاف يقولون فيه: إنه في عام أربعة وثمانين وتسعمائة وألف زود مكوك الفضاء (تشيلنجر) بأجهزة استشعار عن بعد، تستخدم موجات من الأشعة غير المرئية أمكنها تصوير العديد من مجاري الأنهار القديمة والطرق المدفونة بالرمال بدقة بالغة في مساحات شاسعة إلى آخره.
والتفصيل حول هذا التقرير قد نشر فيه بعض الصور، لكنها ليست واضحة لدرجة كافية، لكن على أي الأحوال نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد العباد يقيناً؛ لأن هذه المدينة مدفونة تماماً تحت الرمال، حيث عاقبها الله سبحانه وتعالى بعاصفة رملية غطت بلادهم تماماً رغم أنهم كانوا يقولون: ((من أشد منا قوة)).
أما بالنسبة لمكان سفينة نوح فالتوراة تقول: إنها استقرت على جبل أرراك، أما القرآن فقد كان أكثر دقة حيث نص على أنها استقرت على جبل الجودي، وهو المكان الذي اكتشفت فيه بقاياها، والذي يبعد عشرين ميلاً عن جبل أرراك، الذي ذكر في التوراة، فهم يعترفون أن القرآن أكثر دقة من كتبهم.(85/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة)
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:53].
قوله تعالى: ((قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)) أي: ما جئتنا بحجة تدل على صحة دعواك.
وذلك لقصور فهمهم وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان، وللغشاوات والأقفال التي على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يفهموا هذه البينة، فأحياناً يكون العيب في عقل المستمع وليس في حجة المتكلم، وهذا حال منكري رسالات الأنبياء.
((وما نحن بتاركي آلهتنا)) أي: بتاركي عبادة آلهتنا.
((عن قولك)) هذا حال من ضمير تاركي أي: وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك.
أو ((عن)) للتعليل كما في قوله: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} [التوبة:114] أي: لأجلها.
والقول بأنها حال أبلغ؛ لدلالته على كونه علة الفاعلية، وهذا كقولهم في الأعراف: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70] انظر إلى الخبل الذي في عقولهم! ((وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: مصدقين، والمقصود إقناط الرسل من إجابتهم.(85/5)
تفسير قوله تعالى: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)
قال عز وجل: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55].
((إن نقول إلا اعتراك)) أي: مسّك، ((بعض آلهتنا بسوء)) أي: بجنون؛ لسبك إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين.
انظر وقارن بين خطاب هود عليه السلام وبين كلامهم هم، من الذي يفتقر إلى البينة؟ {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:53] أي: ايئس منا، ولا يكن عندك أي أمل في أن نستجيب لك.
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55].
يقول الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم.
زعموا واعتقدوا أن الحجارة تنتصر وتنتقم وتقوى على أن تصيب هوداً عليه السلام بالجنون كما زعموا.
قال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوس واحدة.
وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: ((ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71].
هو يتحداهم أن يجمعوا كل من يستطيعون وشركاءهم، سواء الذين يعبدونهم من دون الله أو الذين يعبدونهم معه.
((ثم اقضوا إلي ولا تنظرون)) أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثق هذه البراءة بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد أي: حيث قال: ((قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا)): أنتم أيضاً: ((أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) * ((مِنْ دُونِهِ)).
قال الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله.
ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، دون إمهال فقال: ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا)) أي: أنتم وآلهتكم.
((ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) أي: إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم لها تأثير في الضر فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال.
قال أبو السعود: فالفاء في قوله: ((فكيدوني جميعاً)) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم: يعني إن كانوا قادرين فكيدوني جميعاً، وعلى البراءة من كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلاً فرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد، وكانوا معروفين بأن أجسامهم كانت ضخمة جداً، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقَّرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].(85/6)
تفسير قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربي وربكم)
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
((إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ)) أي: فلا تستطيعون أن تصلوا إلي بسوء؛ لتوكلي على الله.
((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)) أي: مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء.
قال القاشاني: بيّن وجوب التوكل على الله وكونه حصناً حصيناً، أولاً: لأن ربوبيته شاملة لكل أحد: ((فإني توكلت على الله ربي وربكم))، أي: من يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، ويقوم بأفعال الربوبية من التربية والتنمية والرعاية هو الله.
إذا قلنا: الأم تربي ولدها، فيلزم من ذلك أنها تحفظه وترعاه وتحميه من كل سوء، فكذلك شأن الرب بل هو أولى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فمن يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه، فهو يقول: إذا كان هو ربي فهو الذي يحفظني وحده، ولذلك أتوكل عليه وحده.
((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا))، فكل ذي نفس تحت قهر الله عز وجل وسلطانه، أسير تحت تصرفه ومملكته وقدرته، عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه كالميت، فلا حاجة إلى الاحتراز منه.
والناصية هي منبت الشعر من مقدم الرأس، وقد تطلق على الشعر نفسه.
تسمية للحال باسم المحل، يقال: نصوت الرجل يعني: أخذت بناصيته، ويقال: ناصيته بيده أي: هو منقاد لها، والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط.
((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)): تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره، أي: هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم علي إذ لا يضيع عنده معتصم به ولا يفوته ظالم؛ لأنه تعالى مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهذا كقوه تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه في قوله: ((إن ربي على صراط مستقيم)) ولم يقل في هذه المرة: إن ربي وربكم كما قال أولاً: ((إني توكلت على الله ربي وربكم)) هذا الاقتصار إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد؛ لأنه واضح من السياق أنه يقصد ربي وربكم، أو للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دون هؤلاء القوم.(85/7)
تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم)
قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود:57].
((فإن تولوا)) أي: إن تتولوا، بحذف إحدى التاءين.
((فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم)) أي: قد قامت الحجة عليكم.
((وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ)): هذا استئناف بالوعيد لهم، بأن يهلكهم الله سبحانه وتعالى ويأتي بقوم آخرين يخلفونهم في ديارهم وأموالهم.
((وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا)) أي: لن تضروا الله سبحانه وتعالى بهذا التولي والإعراض عن دعوته شيئاً؛ لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم، أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء.
((إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)) أي: رقيب مهيمن عليه، فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها.
أو ((إن ربي على كل شيء حفيظ)) أي: حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.(85/8)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا)
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود:58].
((ولما جاء أمرنا)) أي: عذابنا أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم ((نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ)).
وقد بين الله صفة إهلاكهم في غير ما آية منها قوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8].
فإن قلت: ما معنى تكرار لفظ النجاة هنا في قوله تعالى: ((ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ))؟ ف
الجواب
أن الأول هذا إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان لما نجوا منه وأنه أمر شديد عظيم غير سهل.
إذاً فلا تكرار، فهو للامتنان عليهم وتحريض لهم على الإيمان.
((ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا)) أي: من عذاب الدنيا.
((ونجيناهم من عذاب غليظ)) أي: من عذاب الآخرة، تعريضاً بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ، ويرجح الأول لملائمته لمقتضى المقام.(85/9)
تفسير قوله تعالى: (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله)
قال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]: تأنيث اسم الإشارة باعتبار القبيلة ((تلك عاد)) أي: تلك قبيلة عاد، وصيغة البعد للتحقير، أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم.
أما إذا كانت الإشارة لمصارعهم، أي: تلك مصارع عاد فهي للبعيد المحسوس، لبعد الأماكن التي أهلكوا فيها، وديارهم باقية إلى الآن.
قوله: ((جحدوا بآيات ربهم)) فالجحود هنا تعدى بالباء حملاً له على الكفر؛ لأنه المراد، أو بتضمينه معناه، فضمن (جحد) معنى (كفر) فلذلك عديت بالباء.
كما أن (كفر) تجري مجرى (دحض) فتتعدى بنفسها، كما في الآية الآتية: ((ألا إن عاداً كفروا ربهم)).
قال تعالى: ((جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ)) أي: كفروا بالله وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته.
وجمع الرسل في قوله: ((وعصوا رسله)) مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لشدة كفرهم وعنادهم، ولبيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد، كما قال تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]؛ ولأن الكفر برسول واحد يعني الكفر بجميع المرسلين قال عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] وفي آية أخرى، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، مع أن المرسل إليهم رسول واحد؛ والإيمان بجميع الرسل شرط في صحة الإيمان، وقد ذكرنا مراراً أن حقائق الإيمان مرتبطة ومتلازمة بحيث لا ينفك بعضها عن بعض، فإذا اختل واحد منها اختل الإيمان كله، فمثلاً لو أن واحداً آمن بجميع الأنبياء ثم استثنى نبياً واحداً وكفر به، فهذا يهدم إيمانه بجميع الأنبياء، فيصدق عليه أنه كفر بجميع الرسل وجميع الأنبياء، فكذلك هنا قوله تعالى: ((جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله)).
((واتبعوا)) أي: أطاعوا في الشرك ((أمر كل جبار عنيد)) لا يستدل بدليل ولا يقبله من غيره، يريد بذلك رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.(85/10)
تفسير قوله تعالى: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة)
قال تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:60].
((وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة)) أي: جعلت اللعنة تابعة لهم ولازمة لهم في الدارين.
قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، ولم يقل: وجعلت عليهم اللعنة وإنما قال: ((وأتبعوا)) يعني: أنها لازمة لهم لصيقة بهم، أينما ذهبوا، فهي لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم حيثما داروا، وذلك بسبب اتباعهم رؤساءهم جزاءً وفاقاً.
وهذه إشارة إلى قاعدة: الجزاء من جنس العمل، لأنهم كما في الآية السابقة: ((وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، فلما اتبعوا رؤساءهم في الكفر كان جزاؤهم: ((وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ))، أي: هذا جزاء متابعتهم رؤساءهم في الكفر والعناد والتجبر، فعوقبوا من نفس الجنس بأن أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة.
((أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ)) أي: إذ عبدوا غيره، وسبق أن أشرنا إلى أن كفروا هنا تعدت بنفسها بدون حرف الباء.
((أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)) دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت ما لا يخفى فظاعته.
وتكرار حرف التنبيه (ألا) للمبالغة في تهويل حالهم والحث على الاعتبار بنبئهم.
وقوله: ((ألا بعداً لعاد قوم هود)) هذا عطف بيان لعاد ((ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود)) الفائدة المزيدة هنا هي النسبة بذكر هود عليه السلام، وفيها إشارة إلى أنهم ما استحقوا هذه الهلكة إلا بإعراضهم عن دعوة نبيهم هود عليه السلام، ولذلك قال: ((ألا بعداً لعاد قوم هود)) كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه عليه السلام.
وهنا تناسب أيضاً بين أواخر الآيات؛ لأنه قال قبلها: ((وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، وقبل ذلك: ((حَفِيظٌ))، و ((غَلِيظٍ))، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القواسم، وهنا ختمت الآية بقوله: ((أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)).(85/11)
تفسير قوله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً)
قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61].
((وإلى ثمود)) عطف على ما سبق بيانه من قوله: ((وإلى عاد)) أي: وأرسلنا إلى ثمود وهي قبيلة من العرب ((أخاهم صالحاً)) أي: واحداً منهم.
((قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ)) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقكم وكونكم من الأرض ولم يشركه غيره في خلقكم، فإنه خلق آدم من التراب.
((وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)) أي: عمركم فيها، أو جعلكم قادرين على عمارتها، كقوله تعالى في سورة الأعراف: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:74].
((فَاسْتَغْفِرُوهُ)) أي: من الشرك.
((ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)) بالتوحيد.
((إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)) أي: قريب الرحمة لمن استغفره، مجيب الدعاء بالقبول.(85/12)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)
قال تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62].
((قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)) أي: قد كنت قبل أن تقول هذا الكلام الذي تقوله الآن رجلاً عاقلاً رشيداً، وكنا نؤمل أن ننتفع بعقلك وذكائك وحكمتك، وأن تكون مسترشداً في التدابير، نستبصر برأيك في الأمور، فلما نطقت بهذا الكلام انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك.
انظر إلى عفن عقولهم، هو يقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] وهم يسفهونه، فلا يعجب المرء إذاً حينما يسمع من ملاحدة هذا الزمان نفس الأسلوب، فهم يتكلمون عن أهل الدين وأهل التوحيد ويصفونهم بأنهم متخلفون عقلياً، ويظهرون المتدين بصورة الإنسان المخبول أو المهووس أو المجنون أو الذي يخرف، أو الجاهل الذي لا يعي ولا يعقل ولا يفلسف الأمور، كما سبق من قول قوم نوح له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] ويقولون: نحن المفكرون، نحن المثقفون، نحن المتنورون، أما أنتم فجماعات ظلامية.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالشاهد أننا لا نعجب؛ فهذه سنة الله سبحانه وتعالى تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، نفس الأسلوب يتكلمون كأنهم على الحق الذي لا حق بعده، وكأن أهل التوحيد وأهل الطاعة وأهل الإسلام الذين يدعونهم إلى توحيد الله عز وجل متطرفون مخبولون مهووسون، إلى آخر ما يهذون به ويفترون.
فانظر هذه كانت ردود الكافرين على الأنبياء الذين هم أشرف الخلق عند الله سبحانه وتعالى، فقد قالوا لنوح عليه السلام: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وقال قوم هود عليه السلام لهود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، ويقول قوم صالح لنبيهم: ((يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)) أي: ما الذي حصل في عقلك؟ قد كنا نؤمل أن ننتفع بهذا العقل، أما الآن فلا رجاء فيك! ((أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا)) أي: من الأوثان.
((وإننا لفي شك مما تدعونا إليه)) أي: من التوحيد.
((مريب)): موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.(85/13)
تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63].
((قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ)) أي: أخبروني ((إن كنت على بينة من ربي)) أي: حجة ظاهرة وبصيرة ليست من عند نفسي بل هي من ربي.
((وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً)) أي: هداية ونبوة.
((فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ)) أي: من ينجيني من عذاب الله إن عصيته بأن أجاريكم في أهوائكم، وإن أنا وافقتكم؟! ((فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)) أي: ما تزيدونني باستتباعكم إياي وبطلبكم أن أتابعكم على ما أنتم عليه غير أن تجعلوني خاسراً بتعرضي لسخط الله.(85/14)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية)
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64].
((وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ)) هذه الإضافة إضافة تشريف كما تقول: بيت الله، كلمة الله، روح الله، في عيسى عليه السلام، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخلق.
أي: أن هذه الناقة مغايرة لما تألفونه وتعرفونه من النوق.
((لَكُمْ آيَةً)) أي: معجزة دالة على صدق نبوتي، هم رأوا الناقة وقد خرجت من صخرة من الجبل، آية من آيات الله.
((فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)) من فرط غضب الله عليكم لاجترائكم على الآية المنسوبة إليه.(85/15)
تفسير قوله تعالى: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام)
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65].
لقد أخبر عز وجل بأنهم لم يسمعوا قوله ولم يطيعوه بعد رؤية هذه الآية، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65].
((فعقروها)) أي: قتلوها.
((فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)) غير مردود.
قال في الإكليل: استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثاً، وفيه دليل على أن للثلاثة نظراً في الشرع، ولهذا شرعت في الخيار ونحوه.(85/16)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67].
((فلما جاء أمرنا)) أي: عذابنا وهو الصيحة.
((نجينا صالحاً والذين معه برحمة)) أي: بسبب رحمة عظيمة، فالباء سببية.
((ومن خزي يومئذ)) وهو هلاكهم بالصيحة.
((إن ربك هو القوي العزيز)) أي: القادر على كل شيء والغالب عليه.
((وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)) أي: من جهة السماء، فرجفوا رجفة الهلاك.
((فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)) أي: هامدين موتى لا يتحركون، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته.(85/17)
تفسير قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود)
قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68].
((كأن لم يغنوا فيها)) أي كأن لم يقيموا في مساكنهم.
((ألا إن ثمود كفروا ربهم)) أي: فأهلكهم.
((ألا بعداً لثمود)) أي: هلاكاً ولعنة لبعدهم.
وآثار ثمود قوم صالح ما زالت حتى الآن باقية، وهي عبارة عن مجموعة كتل من سلاسل جبلية من الصخر منحوتة كالمعابد، ولكني ما رأيت فيها تماثيل، وهي منحوتة كالقصور في منتهى الفخامة والضخامة، وكانوا يجوفون الجبل من الداخل وتنحت فيه البيوت والسلالم والأبواب والدواليب، ويسافر براً على طريق تبوك يجدها، لأن هذه الطريق تؤدي إلى ديار ثمود، والعلماء في السعودية -جزاهم الله خيراً- يحرصون على عدم التركيز وإلقاء الضوء والاهتمام على مثل هذه الآثار.
أما إذا كان الشخص عابر سبيل ومر بها فله ذلك، لكن يكون باكياً، ويسرع في السير حتى لا يحل به من العذاب ما حل بهؤلاء القوم، وهذه هي السنة عند المرور على مصارع الظالمين.
فالمكان الذي نزلت فيه اللعنة لا ينبغي الذهاب إليه على سبيل الاسترواح والترفيه، لكن إذا مر عليها الإنسان فيمر معتبراً باكياً، ويسرع كي لا يصيبه ما أصابهم، وهذا الحكم عام لكل مكان نزلت فيه اللعنة، كأماكن الفراعنة، والأماكن التي نزل فيها العذاب، كبحيرة قارون وغيرها من الأماكن.
أما ما جاء في الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على مقابر المشركين فليس في محل بحثنا، بل كلامنا يختص بالمكان الذي نزل فيه العذاب كديار ثمود مثلاً.(85/18)
الكلام على التنقيب عن الآثار القديمة وأهدافه
فالحمد لله أن السعوديين لا يهتمون بموضوع الآثار، بل بالعكس يحاولون عدم الاهتمام بها؛ لذلك لما جاءت بعض البعثات الأمريكية تلح على الحكومة السعودية أن تجري عملية حفر في منطقة الأحقاف بحثاً عن الأماكن الأثرية وهي مواطن عاد بعدما اكتشفوا مدينة إرم تباطئوا في ذلك؛ لأن كثيراً من محاولات الاستكشاف والبحث عن الآثار تهدف إلى إحياء التاريخ القديم وإلهاء الناس كما حصل مع علم المصريات القديمة، وذلك حتى يحاربوا به دعوة التوحيد، وقد وصل الأمر إلى حد أن تدرس في كتب التاريخ تفاصيل الشرك للأطفال: الإله كذا عمل كذا، والإله كذا تزوج الإلهة الفلانية، وإله القبط عمل كذا، وآمون وأخناتون إلخ، ويدرس هذا الشرك دون أن ينتقد فالضحايا هم الصغار.
فلذلك يتفطن العلماء في بلاد الحرمين لذلك، فلا يحاولون أبداً تركيز الأضواء حتى على أتفه الأشياء، فمثلاً القلعة التي توجد خلف الحرم، (قلعة أجياد) لا يوجد أحد التفت إليها، ولو كانت في مكان آخر لسلطت عليها الأضواء واحتفلوا بها احتفالاً عظيماً.
أمر آخر: أن البعثات الأمريكية واليهودية تأتي تحت أسماء مستترة بحجة التنقيب والكشف عن الآثار، وهم يبحثون عن المعادن المشعة لليورانيوم ونحوه كما فعلوا مع السودان، فهم بعد أن يحصلوا على هذه الأشياء يهربون بها.
ولعل هذا هو السبب في عدم استجابة السعودية لطلب هذه البعثات للتحري عن آثار قوم هود أو إرم ذات العماد.(85/19)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى)
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69].
لقد أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة، بقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)).
((ولقد جاءت رسلنا)) أي: الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط.
((إبراهيم بالبشرى)) أي: بولد يولد له، وولد ولد بعده.
((فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ))، وهذا دليل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق؛ لأنه لو كان الذبيح هو إسحاق، فكيف تأتي البشرى تبشره بإسحاق وأنه سوف يكبر ويولد له، وفي نفس الوقت يؤمر بذبحه؟! فهذا مما يدل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق.
ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سروراً؛ ليكون التبشير سروراً فوق سرور، حيث: ((قَالُوا سَلامًا))، أي: سلمنا عليك سلاماً.
((قَالَ سَلامٌ)) أي: عليكم سلام، أو سلام عليكم؛ إجابة لهم.
وقوله: (سلامٌ) أحسن من قول: (سلاماً)؛ أي أنه حياهم بأحسن من تحيتهم التي ابتدءوه بها؛ وذلك لأن الرفع أدل على الثبوت والدوام من النصب.
ثم أشار إلى إحسانه وضيافتهم بقوله: ((فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)) أي: مشوي سمين يقطر منه الودك، لأنه قال هنا: ((حنيذ)) أي: مشوي، وقال في موضع آخر: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26].
وأظهر الأقوال في (ما) أنها نافية، ((فما لبث أن جاء بعجل حنيذ)).(85/20)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم)
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77].
((فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ)) أي: لا يمدون إليه أيديهم، لا يتناولون هذا الطعام.
{نَكِرَهُمْ} أي: أنكرهم.
((وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أحس منهم خيفة لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروهاً، الضيف في عادة القوم إذا أتى ليفتك بالإنسان أو بصاحب الدار فإنه لا يأكل من الطعام.
ولما علموا منه الخوف بإخباره لهم كما في آية أخرى: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر:52] حينها {قَالُوا لا تَوْجَلْ} [الحجر:53].
وهنا: ((قَالُوا لا تَخَفْ)) أي: أن عدم أكلنا ليس لأننا نهم بأن نفتك بك أو نريدك بسوء؛ ولكن لأننا ملائكة لا نأكل، ولم ننزل بالعذاب عليكم: ((إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)) يعني: لإهلاكهم.(85/21)
تفسير قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق)
قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
((وامرأته قائمة فضحكت)) أي: ضحكت سروراً بزوال الخيفة، وذلك أنها سرت لما طمأنتهم الملائكة: و {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70].
أو ضحكت سروراً بهلاك أهل الخبائث قوم لوط.
((فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)) أي يولد لها.
والاثنان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنها حكاية عما بعد أن ولدا وسميا بذلك.
وفي توجيه البشارة إليها هنا مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى كقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، وقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، أن هذا إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورود البشرى، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن ذكر الآخر، وحيثما قال تعالى: ((فبشرناه بغلام حليم)) نقول في تفسيرها: فبشرناه وبشرناها بغلام حليم، لكن في الآيات التي ذكر فيها إبراهيم يكون المقام أمس بإبراهيم، أما في هذه الآية فالمقام أمس بامرأته.
أو أنها خوطبت للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك وخرق العادة فيه، وهنا كما ذكرنا أن السياق أمس بامرأته؛ لأنه افتتح الحوار بذكرها هنا: ((وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)) تمهيداً لقولها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:72 - 73] إلى آخره.(85/22)
تفسير قوله تعالى: (قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً)
قال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:72].
((قالت يا ويلتى!)) أي: يا عجبي! أصل يا ويلتى! الدعاء بالويل ونحوه عند الجزع والتفجع وشدة المكروه الذي يدهم النفس؛ لكن استعمل نفس التعبير بعد ذلك في التعجب، يا ويلتى بمعنى: يا عجبي.
والألف في (يا ويلتى) بدل من ياء المتكلم (يا ويلتي) ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن: ((يا ويلتي)) وقيل: هي ألف الندبة ويوقف عليها بهاء السكت: يا ويلتاه.
قوله: ((أألد وأنا عجوز)) أي: وأنا امرأة مسنة؟ والأفصح ترك الهاء في كلمة عجوز، فلا يقال: عجوزة، وقد سمع من بعض العرب (عجوزة)، لكن الأصل أنها لا تؤنث.
((وهذا بعلي)) أي: وهذا زوجي إبراهيم عليه السلام ((شيخاً)).
((إن هذا لشيء عجيب)) أي: إن هذا التوالد من هرمين لشيء غريب لم تجر به العادة.(85/23)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله)
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] قوله: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)) أي: أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟ يعني: أن أي امرأة في مثل سن امرأة إبراهيم ورجل في سن إبراهيم عليه السلام قد طعنا في السن وبشرا بولد، ألا يحصل تعجب من هذا؟! نعم يحصل تعجب، لكن الملائكة أنكرت على امرأة إبراهيم أن تتعجب.
يقول الزمخشري: إنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فقالوا: ((أتعجبين من أمر الله)) لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: ((رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)) أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة! فليست بمكان عجب.
وقوله: ((رحمة الله وبركاته عليكم)) كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب! إياك والتعجب فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم.
أي: فالجملة خبرية، وجوز كونها دعاءً بأن يجعل الله عليهم الرحمة والبركة.
ثم يقول: وأهل البيت نصب على النداء أو على الاختصاص؛ لأن أهل البيت مدح لهم، إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن.
((إِنَّهُ حَمِيدٌ)) أي: مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم.
((مجيد)) أي: كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر.
وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد وتمجده.(85/24)
تفسير قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)
قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
((فلما ذهب عن إبراهيم الروع)) أي: خيفة إرادة المكروه منهم، والمعنى أنه لما اطمأن قلبه ذهب عنه الروع.
((وجاءته البشرى)) أي: جاءته البشرى بدل الروع.
((يجادلنا في قوم لوط)) أي: في هلاكهم استعطافاً لدفعه.
روي أنه قال: أيهلك البار مع الأثيم؟ أتهلكونها وفيهم خمسون باراً؟ فقالوا: لا نهلكها وفيها خمسون، فقال: أو أربعون؟ فقالوا: ولا أربعون وهكذا إلى أن قال: أو عشرة؟ فيقولون له: لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة من الأبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة، ثم قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ} [العنكبوت:32].
ما موقع (يجادلنا) من الإعراب في قوله: ((فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ))؟
الجواب
هو في الحقيقة جواب (لما)، لكن جيء به في صيغة المضارع على حكاية الحال، وأن (لما) كـ (لو) تقلب المضارع ماضياً، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلاً، أو الجواب محذوف والمذكور دليله أو متعلق به.(85/25)
تفسير قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب)
قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75].
((إن إبراهيم لحليم)) أي: غير عجول على الانتقام من المسيء، وهذا مناسب لما سبق في الآية: ((يجادلنا في قوم لوط)) أي: يجادل ويناقش كي يدفع العذاب عن قوم لوط، لأن فيهم لوطاً.
((أواه)) أي: كثير التأسف.
((منيب)) أي: راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضى، والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.(85/26)
تفسير قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا)
قال تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76].
((يا إبراهيم!)) أي: قيل له: يا إبراهيم! ((أعرض عن هذا)) الجدال.
((إنه قد جاء أمر ربك)) أي: حكم الله بهلاكهم.
((وإنهم آتيهم عذاب غير مردود)) أي: لا يرده الجدال ولا الدعاء ولا غيرهما.(85/27)
ما يستفاد من قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى عذاب غير مردود)
في الآيات ثمرات: منها أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة على الأب كما هي نعمة على هذا الولد.
ومنها أن هلاك العاصي نعمة يبشر بها.
وذلك لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق كما في آخر الآية: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
وفسرت البشرى أيضاً بأنها تشمل هلاك قوم لوط، فبشر بإهلاك هؤلاء المجرمين.
فإذاً هلاك العاصي نعمة، ولذلك جاء في الحديث أن الشخص إذا مات فإنه يقال: (مستريح أو مستراح منه)، فالمستراح منه هو: الظالم الفاسق الفاجر الذي يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا مات وإذا أهلك يستريح منه الآدميون حتى العجماوات والشجر والحجر.
ومنها: استحباب نزول المبشر على من يريد أن يبشره؛ لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك.
ومنها: أنه يستحب للمبشر تلقي ذلك بالطاعة شكراً لله تعالى على ما بشر به؛ لأنهم قالوا لها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] أي: كان أولى أن تجعلي مكان قولك: يا ويلتى! سبحان الله، أو تشتغلي بتحميد الله عز وجل وتمجيده.
وحكى الأصم: أنهم جاءوه في أرض يعمل فيها، فلما بشروه غرز مسحاته وصلى ركعتين.
ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل؛ لقول إبراهيم: (سلام) بالرفع كما تقدم تفسيره.
ومنها: مشروعية الضيافة والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها.
ومنها: استحباب خدمة الضيف ولو للمرأة؛ لقول مجاهد: ((وامرأته قائمة)) أي: في خدمة أضياف إبراهيم، قال في الوجيز: وكن لا يحتجبن كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزاً، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق.
ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول وأن صوتها ليس بعورة.
كذا في الإكليل.
ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته، وسيأتي ذلك أيضاً في آية: ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ))، لا كما يزعم الشيعة تخصيص أهل البيت بـ فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.(85/28)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم)
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77].
((ولما جاءت رسلنا لوطاً)) أي: بعد منصرفهم من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان مقيماً بحبرون، وحبرون هي مدينة الخليل، وفي الإنجليزية تسمى باسم قريب من ذلك.
((سيء بهم)) أي: ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه على صورة مرد حسان الوجوه؛ فخاف أن يقصدهم قومه لظنه أنهم بشر.
((وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)) ضاق بالأمر ذرعه وذراعه أي: ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصاً.
قال الجوهري: أصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله.
وقيل: وجه التمثيل أن قصير الذراع لا ينال ما يناله طويل الذراع ولا يطيق طاقته، فضرب مثلاً للذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه.
وقال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعاً من ذلك وضعف، ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة.
و ((ذرعاً)) تمييز محول عن فاعل، والأصل: ضاق ذرعي به.
وشاهد الذراع قوله: وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)) أي: شديد.(85/29)
تفسير قوله تعالى: (وجاءه قومه يهرعون إليه)
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78].
كيف لا يشتد عليه والشيء الذي كان يخافه قد حصل؟! وذلك كما في قوله تعالى: ((وجاءه قومه يُهرعون إليه)) أي: يسرعون كأنما يدفعون دفعاً، وقرئ مبنياً للفاعل: (يَهرعون إليه) ((ومن قبل)) أي: من قبل مجيئهم.
((كانوا يعملون السيئات)) أي: الفواحش، ويكثرون منها، فهم قد مرنوا عليها، وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين لا يكفهم حياء، فالجملة (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) معترضة لتأكيد ما قبلها.
وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره، أي: لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك.
ثم قال لهم لوط: ((هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)): أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم.
أي: فتزوجوا هؤلاء البنات.
أو ((هؤلاء بناتي)) باعتبار أن النبي يكون أباً لأتباعه فيقصد النساء عموماً.
أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا ضيوفه.
والظاهر أنه عليه السلام كان واثقاً بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما، يعني: مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب، فكان إظهاره وقاية ضيفانه وفداءهم بهن، مع وثوقه المذكور وجزمه مبالغة في الاعتناء بحمايتهم، فهو بذل كل ما يستطيع من أجل حماية ضيفانه، مع أنه كان آيساً من أن يستجيبوا لنصيحته، لكنه قال ذلك قياماً بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح الذي يدوم عاره وشناره، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن، لكي لا ينسب إلى قصور، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة، فهو ما ترك سبيلاً يحمي به ضيفانه إلا سلكه، ومنها: أنه حرضهم على الزواج ببناته وقاية لضيفانه.
وقوله: ((هن أطهر لكم)) هذا من التشويق على مرأىً من ضيفانه ومسمع، وفيه ما فيه من زيادة الكرم والإكرام ورعاية الذمام.
وبالجملة فهو ترغيب بمحال الوقوع باطناً، وإعذار لنزلائه ظاهراً، والله تعالى أعلم.
أي: إذا نطق بهذا الكلام أمام نزلائه وضيفانه يكون قد أعذر نفسه أمامهم، وأنه لم يقصر في حمايتهم.
وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة وهي النكاح، وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي.
((فاتقوا الله)) أي: أن تعصوه بما هو أشد من الزنا خبثاً؛ لأن هناك داعية فطرية وطبيعية تدفع إلى الزنا، أما فعل فاحشة قوم لوط فهو أمر تنفر منه الفطرة، فهو أشد خبثاً من الزنا.
((ولا تخزون في ضيفي)) أي: ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم؛ فإنه إذا أهين ضيف الرجل أو جاره، فإن الخزي يصيب الرجل نفسه لأنه لم يحم ضيفانه، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة.
(تخزون) مجزوم بحذف النون، وياء المتكلم محذوفة واكتفى عنها بالكسرة، وقرئ بإثباتها: ((ولا تخزوني في ضيفي)).
((أليس منكم رجل رشيد)) أي: فيرعوي عن القبيح ويهتدي إلى الصواب.(85/30)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)
قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79].
((قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)) أي: من حاجة، وقد صدروا كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، كأنهم بالرد عليه قالوا: والله لقد علمت ما لنا في بناتك من حاجة! وفي هذا إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقاً وعالماً بعدم رغبتهم فيهن، ويؤيد ذلك قولهم: ((وإنك لتعلم ما نريد)) استشهدوا بعلمه هو، وذلك لعلمه باطناً أنهم لن يستجيبوا لتمكن هذا الأمر القبيح في نفوسهم.(85/31)
تفسير قوله تعالى: (قال لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركن شديد)
قال تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80].
((قال لو أن لي بكم قوة)) أي: لو كنت أستطيع أن أدفعكم وأقاتلكم جميعاً ببدني، أو عندي أولاد كثيرون أستطيع أن أدفعكم بهم، ما كنت قصرت في دفعكم.
((أو آوي إلى ركن شديد)) أي: عشيرة كثيرة؛ لأنه كان غريباً عن قومه عليه السلام، فشبه القبيلة والعشيرة بركن الجبل في الشدة والمنعة.
وتقدير
الجواب
لو أن لي بكم قوة بنفسي أو بولدي أو كان لي قبيلة عزيزة منيعة لفعلت بكم ما فعلت وصنعت ما صنعت، ولكففتكم عما تريدون.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الملل: ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح الذي في البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، إنكار على لوط عليه السلام بقوله: ((أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ))، ولا تخالف بين القولين بل كلاهما حق؛ لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين، وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى آكد قوة وأشد ركن، ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].
فهذا هو الذي طلبه لوط عليه السلام، فكونه يستغيث أو يستنجد ببشر فيما يقوى عليه البشر، لا حرج فيه شرعاً؛ لأن هذا من دفع الله الناس بعضهم ببعض.
وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه وحمايته حتى يبلغ كلام ربه تعالى: (من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)، فكيف ينكر على لوط أمراً فعله هو صلى الله عليه وسلم؟ إذاً ليس المقصود من الحديث الإنكار على لوط عليه السلام، وإنما أخبر أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط علم بذلك، أي: لم يكن قد شعر أن الملائكة في هذه اللحظة ما جاءت إلا لتنصره، وما جاءت إلا لتنتقم منهم بأمر الله.
ثم يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر، وهذا أيضاً ظن سخيف، إذ من الممتنع أن يظن بربه -الذي أراه المعجزات وهو دائماً يدعو إليه- هذا الظن.(85/32)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك)
قال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
((قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)) يعني: لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا.
((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)) أي: بطائفة من آخره، وببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض لك ولا لأهلك.
قرئ: (فأسر) بالقطع و (فاسر) بالوصل.
((وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)) أي: لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم، ((إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)) أي: من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت إلى الوراء فهلكت حينئذ، أما هو وسائر أهله فلم يلتفتوا؛ لأنهم نهوا عن الالتفات.
قال في الإكليل: فيه أن المرأة والأولاد من الأهل؛ لأنه استثنى الزوجة من الأهل.
فهذا دليل أيضاً أن امرأة الرجل من أهل بيته.
((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)) أي: موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب.
أي أن لوطاً استبطأ العذاب فقالوا: ((إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب))؟ بلى.
أو ذكرت ليعجل في السير، فإن قرب الصباح داع إلى الإسراع في الإسراء؛ للتباعد عن موقع العذاب.(85/33)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].
((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: عذابنا.
((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) والجزاء من جنس العمل، فكما قلبوا الفطرة قلب الله عليهم دورهم ((جعلنا عاليها سافلها)) فقلبت تلك المدن بسكانها جميعاً.
((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)) أي: من طين متحجر كقوله: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات:33].
((مَنْضُودٍ)) أي: يرسل بعضه في إثر بعض متتابعاً مستمراً.
قال المهايمي: اتصلت الحجارة بعضها ببعض؛ ليرجموا رجم الزناة، وذلك يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.(85/34)
تفسير قوله تعالى: (مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد)
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ)) أي: هذه الحجارة معلمة عند ربك.
((وَمَا هِيَ)) أي: تلك الحجارة.
((مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)) أي: ليست من الظالمين بالشرك وغيره ببعيد؛ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها.
وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة.
وقيل: الضمير في قوله: ((وما هي من الظالمين ببعيد)) للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بَحْرَ ماءٍ أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، والبحر الميت لا تعيش فيه أسماك ولا كائنات حية على الإطلاق من يومها، بل هو شديد الملوحة والنتن، فمياهه لا تغذي شيئاً من جنس الحيوان، وسمي أيضاً ببحيرة لوط، والأرض التي تليها قاحلة.(85/35)
تفسير سورة يوسف [1 - 18](86/1)
تسمية السورة ومناسبتها لما قبلها
سميت سورة يوسف بهذا لأن معظم ما ذكر في هذه السورة هو قصة يوسف عليه السلام.
وتناسب آي القرآن هو علم من علوم القرآن، أي: أن هناك حكمة ووجوه مناسبة بين ترتيب سور المصحف الشريف، وبين ترتيب الآيات فيما بينها في السورة الواحدة.
وفيما يتعلق بمناسبة هذه السورة لما قبلها، فإن السورة التي قبلها وهي سورة هود ختمت بقوله تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فجاء في هذه السورة نبأ من أنباء الرسل، بالإضافة إلى ما مضى.
ففي سورة هود ذكر تبارك وتعالى ما لقي الأنبياء عليهم السلام من قومهم، أما في هذه السورة فقد ذكر عز وجل ما لقي يوسف من إخوته؛ ليعلم ما قاساه الأنبياء من أذى الأجانب والأقارب معاً.
فسورة هود ذكر فيها أنباء الرسل وما لاقوه من أذى الأجانب، أما سورة يوسف ففيها ذكر ما لقي يوسف عليه السلام من أذى الأقارب وكيد إخوته له، فبين السورتين مناسبة تامة أكيدة، والمقصود بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ بما لاقاه من أذى القريب والبعيد.
ويكفي أن عمه أبا لهب كان يكيد له أشد الكيد حتى نزلت سورة في شأنه.
فجاءت هذه السورة لمواساته عليه الصلاة والسلام مما يلقاه من الأذى، وأنه ليس أول من لقي الأذى من الأقارب ومن الأباعد.(86/2)
معنى اسم يوسف وحقيقته اللغوية وتعريبه
يوسُف اسم عبراني ينطق يوسِف، كذلك يونُس ينطقونها يونِس، فلما عرب هذا الاسم عدل عن يوسِف إلى يوسُف؛ لأن في يوسِف معنى الإيساف والأسف، ولو همزت الواو تقول: يؤسف، كذلك في يونس لما عربت قيل: يونُس ولم يقولوا يونِس؛ لأن فيه معنى الإيناس.
فاجتنب في التعريب كسر السين؛ لما فيه من معنى المؤاسفة فصارت يوسُف، ومعناه: يزيد أو زيادة؛ وذلك لما روي أن أمه راحيل قعدت عن الحمل مدة، وكان لها ضرات يلدن فلحقها الحزن، ولما وهبها الله تعالى ولداً بعد سنين سمته يوسف، وقالت: يزيدني به ربي ولداً آخر بعد ما أنعم علي بيوسف.(86/3)
وقع سورة يوسف على اليهود وتأثيرها
هذه السورة مكية اتفاقاً وآيها مائة وإحدى عشرة بلا خلاف، وقد روى البيهقي في الدلائل (أن طائفة من اليهود حين تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم هذه السورة أسلموا) لموافقتها ما عندهم.
والسورة لا توافق ما عندهم فحسب، بل هي أوضح في بيان الأحداث، ولو حصلت مقارنة منصفة بين ما ذكر في التوراة وما في القرآن لتبين الفرق الشاسع بينهما، فهناك مواقف محورية حذفت من التوراة فهي غير موجودة، هذا بجانب فقد الترابط، بخلاف ما في القرآن من روعة الأسلوب القرآني وبلاغته، واستكمال المواقف والأحداث.(86/4)
تفسير قوله تعالى: (آلر تلك آيات الكتاب المبين)
قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1].
تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.
((تلك آيات الكتاب المبين)) الإشارة بتلك راجعة إلى آيات هذه السورة الكريمة، فكأنه قد قرأ هذه الآيات التي في سورة يوسف، ثم أشار إليها فقال: ((تلك آيات الكتاب المبين)) مع أنه لم يأت بعد ذكرُ هذه الآيات، فيكون قد نزَّل ما يأتي بعد منزلة الذي قد تقدم، والإشارة بلفظ (تلك) للبعد، وذلك لعظمتها وعلو مرتبتها، وأنها آيات عالية المقام.
((تلك آيات الكتاب المبين)) أي: أن المراد بالكتاب هو السورة؛ لأنه بمعنى المكتوب فيطلق عليها، أو المقصود القرآن كله؛ لأنه كما يطلق على كله يطلق على بعضه، فهذا يطلق عليه قرآن، وهذا يطلق عليه قرآن.
((المبين)) أي: الظاهر أمرها وإعجازها، إن جعل من باب (فعل) اللازم، أما إن جعل من المتعدي فالمفعول مقدر.(86/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً)
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2].
((إنا أنزلناه)) أي: الكتاب المنعوت السابق الإشارة إليه.
((قرآنا عربياً لعلكم تعقلون)) أي: لكي تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم، كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:44] فمن ثم لا يجوز أن يطلق على تراجم معاني القرآن الكريم لفظ القرآن، كما فعله بعض المستشرقين الملاحدة أعداء الدين، وأيضاً بعض جهلة المسلمين الذين يصنعون تراجم لمعاني القرآن ويسمونها قرآناً، فلا يمكن أن يكون القرآن غير عربي، لذلك لابد أن يقولوا: معاني القرآن الكريم، وألا يقولوا: القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((ولو جعلناه قرآناً أعجمياً)) أي: لو أن القرآن نزل بلغة أخرى غير العربية ((لقالوا لولا فصلت آياته)) لأن اللغات الأخرى غير العربية تعجز عن التعبير عن المعاني القرآنية، وهذا بين لمن قارن بين تراجم هذه المعاني، وبين القرآن الكريم.
((لعلكم تعقلون)) أي: لعلكم تتدبرون بعقولكم أن القصص الموجود في القرآن ومنه قصة يوسف عليه السلام خاصة مع وروده بهذه الكيفية من شخص لم يتعلم القصص.
إذا أضفنا إلى ذلك خصيصة أخرى من خصائص القصص القرآني، وهي التي عبر تبارك وتعالى عنها في وصف القرآن الكريم بأنه مهيمن على ما سبق من الكتب، فالقرآن يفصل في جميع القضايا التي تنازع فيها أهل الكتاب، فيأتي فاصلاً وحاكماً بينهم ومهيمناً على ما عندهم، فهو السلطان الأعلى على ما عندهم، وهذا لا يكون إلا من عند الله تبارك وتعالى، ولا يكون إلا بواسطة الوحي.
أو ((إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) أي: لعلكم تعقلون بإنزاله عربياً ما تضمن من المعاني والأسرار التي لا تتضمنها ولا تحتملها غيرها من اللغات؛ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأثبتها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوذ.
قال بعضهم: نزل أشرف الكتب (القرآن) بأشرف اللغات (اللغة العربية) على أشرف الرسل صلى الله عليه وسلم، بسفارة أشرف الملائكة (جبريل عليه السلام)، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض (مكة)، وفي أشرف شهور السنة (رمضان) وفي أشرف ليلة من هذا الشهر الكريم وهي ليلة القدر، فكمل له الشرف من كل الوجوه.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنه نزل على أشرف أمة؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].(86/6)
تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)
قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3].
((نحن نقص عليك أحسن القصص)) أي: أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوباً، وأصدقه أخباراً، وأجمعه حكماً وعبراً.
((بما أوحينا إليك)) أي: بإيحائنا إليك هذا القرآن.
((وإن كنت من قبله لمن الغافلين)) أي: من الغافلين عنه، حتى إنه لم يكن القرآن الكريم من قبل يخطر ببالك، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة؛ لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يستعمل الكلمة التي تقوم مقام الغفلة، حتى لا يصف النبي بعدم العلم.(86/7)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً)
قال تعالى: ((إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ)) أي: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والظرف (إذ) بدل اشتمال من المفعول قبله.
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] نادى يوسف أباه بهذه الرؤيا؛ لأن يوسف عليه السلام كان يحب أباه يعقوب عليه السلام، وكان يعتقد في أبيه أنه كامل في علمه، فقد كان نبياً من أنبياء الله، وأيضاً اجتمع إلى كمال علمه حلمه عليه وحبه له وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه، وهذا معلوم في عامة الناس.
فلذلك تجد الابن دائماً ينظر إلى أبيه على أنه أكمل الناس وأنه أعلم الناس وأكرم الناس وأحسن الناس وهكذا، فلذلك ينظر إليه بصورة فيها اعتقاد علو الشأن بهذه الدرجة، فيوسف عليه السلام لا شك أنه محق في ذلك الاعتقاد.
قال القاشاني: قوله: ((إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير؛ لأن بعض المنامات تكون أضغاثاً لا تعبير لها ولا يتكلف لها تعبير، لكن هذه كانت واضحة أنها رؤيا حق.
((يا أبت)) أصله: يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرت تاء التأنيث لأن الياء مكسورة، فناسبها أن تكسر التاء التي هي عوض عنها، وقرئ بفتحها، (يا أبت) على حركة أصلها، أو لأن أصلها (يا أبتا) فحذفت الألف وبقيت الفتحة، وقرئ بالضم: (يا أبتُ)، إجراءً لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض.
((إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) هذا استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها.
والتكرار في قوله أولاً: (رأيت)، ثم قوله: (رأيتهم) له فائدة، فهو استئناف من أجل بيان كيفية رؤيته هذه الأشياء التي رآها، وعلى هذا فلا تكرار، أو أنه كرر الفعل تأكيداً، وذلك لطول العهد كما في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون:35].
وإنما أجريت المرئيات المذكورة مجرى العقلاء في ضميرهم، وجمع صفتهم جمعاً مذكراً سالماً (ساجدين)؛ لأنه وصفها بفعل من أفعال العقلاء، وهو السجود.
ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال.
قال القاشاني: ولم أر من تعرض لهيئة السجود.
أي: كيف كان سجود الشمس والقمر، هل حركت جانبها الأعلى إلى الأسفل، أو ظهرت مستديرة أو مستطيلة؟! وهذا كله من التكلف، وإنما ينبغي أن يوكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].(86/8)
تفسير قوله تعالى: (قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك)
قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5].
((قال يا بني)) صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر، فإن الصغير كما يكون أحياناً للتحقير يكون أحياناً للتمليح، فهنا المقصود به التعبير عن عذوبة اللفظ المصغر.
((فيكيدوا لك كيداً)) أي: فيفعلوا لهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك.
((إن الشيطان للإنسان عدو مبين)) أي: ظاهر العداوة، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.
قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى ربما يكون أوقع في قلب يعقوب عليه السلام ما يريده إخوته له، فيقع في النفس من ذلك خوف واحتراز إن كان مكروهاً، فهذا النوع من الإلهام يسمى: إنذارات، وإذا كان الإلهام مما يسر فيسمى بشارات.
فخاف يعقوب عليه السلام من وقوع ما سيقع قبل وقوعه، وهذا شيء مجرب، ويعبرون عن الإلهام أحياناً بالحاسة السادسة.
وهذا يحصل كثيراً ونسمع كثيراً من هذا للأمهات بالذات، لأن قلوب الأمهات رقيقة، فنسمع قصصاً كثيرة عن أمهات قالت في نفس الوقت الذي حصل فيه حادث للابن في مكان بعيد: إني أشعر بقلبي أن حادثاً حدث لابني، وهذا من الإلهام الذي يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، فكذلك ربما يكون ما وقع ليعقوب عليه السلام حينما قص عليه يوسف الرؤيا مثل هذا الخوف، فنهاه عن إخبارهم برؤياه؛ احترازاً واحتياطاً.
ويجوز أن يكون احترازه من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وأن قدره سيزيد على قدر إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك.
وتعلمون أن من آداب الرؤيا: ألا تقص الرؤيا إلا على حبيب أو لبيب، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحبيب لا يحسد، أما إذا قصصت الرؤيا على عدوك المناوئ لك فقد يحمله الحسد على أن يتعمد الإساءة في تعبيرها بشر؛ لأنها تقع على ما تعبر به.
أو (لبيب) أي: رجل عاقل له علم ودراية بالأصول وقواعد تفسير وتعبير الرؤى.
قال السيوطي في الإكليل: قال الكياالهراسي: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.
قال ابن العربي: في حكم العادة أن الإخوة والقرابة يحسدون، أي: أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لهذا الأمر الذي يقع عادةً بين الناس، وهو أن الإخوة والقرابة يتحاسدون، والسبب هو أن الحسد يكون أقوى إذا كان هناك قاسم مشترك أو وصف مشترك بين طرفين.
مثلاً: اثنان مشتركان في علم، أو مشتركان في مهنة، أو مشتركان في قرابة من نفس النسق، فغالباً ما يقع الحسد بينهما.
فلذلك يكثر الحسد في الأقارب إلا من عصم الله سبحانه وتعالى.
ثم يقول ابن العربي: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فهذا فيه إشارة إلى قاعدة مقررة ينطق بها كل الناس: وهي أن الشخص الوحيد الذي يحب لك أن تكون أفضل منه هو أبوك، لذلك يعقوب عليه السلام ما تأذى بذلك، بل فرح لعلو مقام ابنه يوسف عليه السلام كما تنبئ عنه هذه الرؤيا فلم يتأثر بذلك، بل خشي من حسد إخوته له.
أما الأخ فإنه لا يود ذلك لأخيه، بخلاف المؤمن فإنه لا يكره خيراً لأخيه؛ لأن المؤمن لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ لكن ربما يكون الكلام هنا فيما زاد على القدر المتساوي، وإلا فهذه درجة من الإيمان موجودة كما وجدت في المهاجرين والأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فهناك نماذج في التقوى من البشر لكنها قليلة، فتجد من يحب لأخيه من الخير مثل ما يحب لنفسه.
أما الأب فهو الذي يحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه غالباً.
قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة؛ تحرزاً من الحسود إذا عرف منه ذلك.(86/9)
حكم كتم الحق عند خوف الفتنة
يقول الحاكم: وهذا داخل في قولنا: إن الحسد إذا كان سبباً للقبيح قبح، يعني: تفريعاً على قاعدة: أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فسب آلهة الكفار حسنة؛ لكنه إذا أدى إلى قبيح وهو المقابلة بالمثل، فإنه يقبح.
وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين من قوله: إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا لأن بعض العلم إذا ألقيته إلى غير أهله يسيء فهمه، فهناك من العلوم ما يكتم بحسب مستوى الشخص الذي تكلمه.
فإذا فتحت عليه باب شبهة ربما أفسدت عليه دينه، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف ألا يقص رؤياه على إخوته، فلا معنى لزعم من يزعم أن العلم لا يحل كتمه، نقول: عليه أولاً أن ينظر إذا كان إظهار العلم مما يضر المخاطبين فإنه يكتم عنهم؛ لأن هناك من العلوم ما يحتاج إلى درجة معينة من الفهم، المقصود من هذا أن خوف شر الأشرار أمر معتبر شرعاً، وهو من الصوارف التي تجيز كتم الحق أحياناً.
قال السيد المرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق): مما زاد الحق غموضاً وخفاءً خوف العارفين -مع قلتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور.
إن هذا الاستبداد والظلم الحاصل من سلاطين الجور قد يكون عذراً لبعض الناس ألا يجهروا بالحق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] أو قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] وإجماع أهل الإسلام أيضاً على جواز ذلك، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق، وذكر من قبل في الاستدلال على التقية أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، ووصفه بالإيمان، مع أنه كان يكتم إيمانه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] وقد كان يكتم إيمانه تقية، وسميت به سورة غافر فهي تسمى أيضاً سورة المؤمن، أي مؤمن آل فرعون.
وصح أمر عمار بالتقية وتقريره عليها حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عادوا فعد) ونزل فيه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين، أما أحدهما: فبثثته لكم -أي: نشرته فيكم وأعلمتكم به- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم) أي: من أمراء الجور والظلم إذا جهر بهذا العلم.
ولذلك قال الغزالي في خطبة المقصد الأسنى: من جهل الحق جدير بأن يتعامى، لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى.
ومن ثم كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى أن العالم ليس له أن يأخذ بالتقية؛ لأن العلماء العاملين الذين يعلمون الحق قلة، فإذا سكت العالم عن إظهار الحق الذي عنده مع جهل الناس؛ فمتى تقوم الحجة على هؤلاء الناس؟ والإمام أحمد أنكر أشد الإنكار على من اتقى القول في فتنة خلق القرآن، وصمد هو وقلة معه رحمه الله تعالى.
ومن الشعر الذي قيل في علي بن المديني وهو إمام جليل رحمه الله تعالى: يا ابن المديني الذي عرضت له دنيا فجاب بدينه لينالها ماذا دعاك إلى انتحال مقالةٍ قد كنت تزعم كافراً من قالها فهذا من العتاب الذي يكون بين العلماء في قضية الصدع بالحق وعدم التقية، لكن أغلب العلماء يرون جواز التقية عند الإكراه.(86/10)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6].
((وكذلك يجتبيك ربك)) أي: كما اصطفاك بهذه الرؤيا العظيمة الشأن يصطفيك للنبوة والسيادة.
((ويعلمك من تأويل الأحاديث)) أي: تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلاً لأنه جعل المرئي آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير، والتعبير يكشف عما ستئول إليه هذه الرؤيا.
والأحاديث اسم جمع للحديث سميت به الرؤيا؛ لأن الرؤيا إما حديث ملك، وإما حديث نفس، وإما حديث شيطان، فلذلك سماها الأحاديث.
((ويتم نعمته عليك)) أي: بما سيئول إليه أمرك فيما بعد.
((وعلى آل يعقوب)) وهم أهله من بنيه وحاشيتهم، أي: يبرز نعمته عليهم بك.
((إن ربك عليم)) بمن هو مستحق للاجتباء والاصطفاء ((حكيم)) في صنعه.(86/11)
أقوال المفسرين في كون الرؤيا سبباً في اصطفاء يوسف عليه السلام
قال أبو السعود: كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: ((ويعلمك من تأويل الأحاديث)) إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرئاسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة، وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي؛ لأنه كان نبياً يوحى إليه، فعرف أن الله سبحانه وتعالى كما اصطفاه بأن يرى هذه الرؤيا سوف يصطفيه بإتمام النعمة عليه.
سيكون إتمام النعمة عليه عن طريق علم التعبير، حتى إنه عبر رؤيا صاحبي السجن، الذي كان أحدهما سبباً فيما بعد لمعرفة شأنه في التعبير وأن يستدعى لتعبير رؤيا الملك، ورؤيا الملك كانت سبباً في إتمام نعمة الله عليه في الزيادة كما ذكرنا، وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي.
أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفة يعقوب بطريق الوحي، وإما بطريق التفرس في يوسف عليه السلام، وعن طريق الاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، فإن الغلام النجيب يسهل جداً على من هو صاحب فراسة أن يتنبأ، أو يستكشف ما ينتظر من نبوغه فيما بعد، هذا أمر له نظائر هنا، فكأنه استدل عليه السلام بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها مما هو أنفسي، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، فمن كان عنده الشفافية حتى يرى مثل هذه الرؤيا فلا بد أن الله سيمن عليه بالوعي والبصيرة حتى يتمكن من تعبير هذه الرؤيا، إن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمر من اتصف به، ومداراً لجريان الأحكام، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم السلام معجزة تظهر بها آثاره وتجري أحكامه.
وقد استدل بهذه الآية الكريمة في قوله تعالى: ((كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق)) على أن الجد يطلق عليه اسم الأب، فمن نسب رجلاً إلى جده وقال: يا ابن فلان، فلا يكون قذفاً.(86/12)
فوائد من تحذير يعقوب ليوسف من إظهار رؤياه لإخوته
قال المهايمي: من فوائد هذا المقام: استحباب كتمان السر، أي: يؤخذ من هذه من هذا الموقف بين يوسف عليه السلام وأبيه استحباب كتمان السر.
وجواز التحذير من شخص بعينه، وقد صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).
وجواز أيضاً مدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار الأخذ بالأسباب كما قال يعقوب لولده يوسف: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] فاعتبر الأخذ بالأسباب بأن نصح ابنه بكتمان هذه الرؤيا.
((فيكيدوا لك كيداً)) حتى إن السبب لم يدفع عن يوسف كيد إخوانه.
فيعتبر السبب وإن لم يؤثر، وكذلك جواز تعبير رؤيا الصغير لأن الصغير قد يرى رؤيا حق.
على أي الأحوال الإخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.
ثم ذكر القاسمي بحثاً مطولاً نقلاً عن الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) عن الرؤيا، وكذلك عن ابن خلدون، فنتجاوز هذين البحثين إلى قوله: وذكر ابن خلدون رحمه الله عند بحث علم تعبير الرؤيا: أن التعبير للرؤيا كان موجوداً عند السلف كما هو في الخلف، وأن يوسف الصديق صلوات الله عليه كان يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن الكريم، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه كما في الحديث: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً).
إذاً: المرئي منه ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير، كأن تكون رؤيا جلية واضحة، ومنه ما يحتاج إلى معبر.
وهذا علم له أصوله وله قواعده، فلا ينبغي للإنسان أن يتجاسر على تعبير الرؤيا؛ لأنها جزء من الوحي كما في الحديث: (هي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فلذلك كان بعض المعبرين أو بعض العلماء يمتنع من التعبير ويقول: أتريد أن أكذب في الوحي.
وقد كانت الرؤيا الصادقة من الإرهاصات التي تقدمت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).(86/13)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين)
قال عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف:7].
((لقد كان في يوسف وإخوته)) أي: في قصة وحديث يوسف وإخوته.
((آيات للسائلين)) أي: دلائل على قدرته تعالى وحكمته في كل شيء لمن سأل عن نبئهم، أو آيات على نبوته صلوات الله عليه لمن سأل عن نبئهم فأخبرهم بالصحة من غير تلق عن بشر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتلق عن بشر ولم يأخذ عن كتاب، فلم يبق إلا أن مصدره هو الوحي المعصوم من الله سبحانه وتعالى.
(آيات للسائلين) أي: آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها.
أولاً: تدل هذه الآيات على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى، كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف:6] أي: يصطفيك، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران:33] إلى آخره.
أي: أن الاصطفاء لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد، فهذا محض فضل من الله سبحانه وتعالى، ليس أمراً مكتسباً.
ثانياً: الآية الأخرى المشار إليها في قوله: ((آيات للسائلين)) تدل على أنه إذا قضى الله سبحانه وتعالى أن يصيب عبده بخير فلا يمكن لأحد أن يمنع عنه هذا الخير أو يدفعه، وهناك جملة كبيرة من الآيات في القرآن الكريم تدل على ذلك، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فإذاً من أراد الله به خيراً لا يمكن لأحد أن يدفع عنه هذا الخير، لا راد لقضائه سبحانه وتعالى، ومن عصمه الله لم يمكن لأحد أن يرميه بسوء ولا أن يقصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم.
فثمرة هذه القصة أن باستحضارها يقوى يقين المؤمنين وتوكلهم على الله سبحانه وتعالى، والعلم بأن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد حتى الأنبياء، فيكونون منه على حذر.
نعم الأنبياء معصومون من المعاصي، لكن الشيطان حريص على أن يكيدهم، من ذلك كيد الشيطان عن طريق التحريض لإخوة يوسف على أن يكيدوا يوسف عليه السلام.
أي هذه الآيات تطلعهم من طريق الفهم -الذي هو الانتقال الذهني- على أحوالهم في البداية والنهاية وما بينهما، وكيفية سلوكهم إلى الله، فتثير شوقهم وإرادتهم، وتكحل بصيرتهم وتقوي عزيمتهم.
أول السورة وهو غلام بريء يحكي لأبيه هذه القصة، ثم انظر في النهاية تجد العز والقدرة والتمكين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:101] إلى آخر الآية، مما يدل على أن العاقبة للمتقين.(86/14)
تفسير قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة)
قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8].
((إذ قالوا ليوسف وأخوه)) بنيامين، وهو شقيقه، وأمهما راحيل بنت ليان خال يعقوب عليه السلام.
((أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة)) بالنصب أي: والحال أننا جماعة أقوياء، فنحن أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما، لأننا رجال أشداء أقوياء نقضي حوائج أبينا وينتفع بنا.
والعصبة والعصابة: الجماعة من الرجال، فإذاً: ذكر العصبة ليس لإفادة العدد فقط؛ بل للإشعار بالقوة، ليكون أنسب في الإنكار.
ثم قالوا بعد ذلك: ((إن أبانا لفي ضلال مبين)) أي: في ذهاب عن طريق الصواب في هذه المسألة بالذات؛ لأنه فضل المفضول بزعمهم على الفاضل، وغاب عنهم أن يعقوب عليه السلام ما كان في ضلال مبين وإنما رأى في يوسف عليه السلام مخايل النجابة وعلامات السيادة التي سيئول إليها أمره فيما بعد، لاسيما بعد ما قص عليه تلك الرؤيا، فكانت دليلاً على أن الله يريد به خيراً، أما بنيامين فلكونه شقيقه ولكونه كان أصغرهم، ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين.(86/15)
تفسير قوله تعالى: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)
قال تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9].
((اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)) هذا من قولهم المحكي قبل، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم، ويروى أنه قصه عليهم فتشاوروا في كيده، ولا نستطيع أن نجزم بأن يوسف عليه السلام أخبرهم، فالله أعلم.
وتنكير كلمة (أرضاً) وإخلاؤها من الوصف للإبهام، أي: اطرحوا يوسف في أرض مجهولة لا يعرفها الأب، ولا يمكن ليوسف أن يعرف طريق العودة إليه.
((يخل لكم وجه أبيكم)) هذا هو جواب الأمر كناية عن خلوص محبته لهم؛ لأنه يدل على إقباله عليهم بكليته، وعلى فراغه عن الشغل بيوسف فيشتغل بهم، لكن ما حصل هو العكس، فإن يعقوب عليه السلام حزن أشد الحزن لغياب يوسف.
((وتكونوا من بعده قوماً صالحين)) أي: من بعد الفراغ من قتله أو طرحه.
هذه حيلة الشيطان الدائمة، فهو إذا أراد أن يسوغ للإنسان المرور إلى منطقة محذورة، أو ارتكاب أي نوع من الشر أو التقصير أو المعاصي، فإنه يقول له: اعمل هذا الشيء هذه المرة، ثم إنك بعد ذلك ستتوب وستكون من الصالحين، فانظر كيف قال لإخوة يوسف: ((وتكونوا من بعده قوماً صالحين)) أي: تائبين إلى الله مما جنيتم، فيكون صلاحكم فداء عن معصية قتله أو طرحه.
أو ((وتكونوا من بعده قوماً صالحين)) أي: ستصلح دنياكم وتصلح أموركم بعده لخلو وجه أبيكم.
قال ابن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده ليفرقوا بينه وبين أبيه على كبر سنه ورقة عظمه، مع مكانه من الله، فيمن أحبه طفلاً صغيراً، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الله لهم.
والعجيب أنهم أجمعوا واجتمعوا على كل هذه الكبائر.
قال ابن كثير: اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف.
وذلك لأنه لا يمكن للأنبياء أن يرتكبوا هذه الكبائر الموبقة، لأن الأنبياء معصومون من مثل هذا.
ثم يقول: وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنه أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوى قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136] وهذا فيه احتمال؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط، كما يقال للعرب قبائل، وللعجم شعوب: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13].
فيذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالاً؛ لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم، والله تعالى أعلم.(86/16)
تفسير قوله تعالى: (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجبِّ)
قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:10].
((قال قائل منهم)) أي: قالها قولة صريحة ورضي الباقون بهذا الاقتراح: ((لا تقتلوا يوسف)) لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح، فهم قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] وهذا قال لهم: إذاً القتل كبيرة موبقة ربما تسبب شؤمها في أن يسد عليكم باب الصلاح فيما بعد، وإنما أظهره في مكان الإضمار؛ استجلاباً لشفقتهم عليه، أو استعظاماً لقتله.
((وألقوه في غيابة الجب)) أي: في غوره، والجب: البئر التي لم تطو.
((يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ)) أي: يأخذه بعض الأقوام الذين يسيرون في الأرض فيتملكه، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه، فيحصل مطلوبكم بكونكم تتخلصون من يوسف ويخلو لكم وجه أبيكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح عليكم.
((إن كنتم فاعلين)) أي: إن كنتم عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه، وقد روي: أن القائل هو أخوهم الأكبر.(86/17)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف لحافظون)
لما تواطئوا على رأي أخيهم الأكبر واتفقوا على هذا المذهب جاءوا أباهم يعقوب فـ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11].
((قالوا)) أي: لأبيهم: ((يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون)) أي: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ لقد لاحظوا أن أباهم كان محتاطاً ومحترزاً على حفظ يوسف عليه السلام من إخوته، فأرادوا منه أن يتنازل عن هذا الاحتياط وهذا الاحتراز.
وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب ألا يأمنهم عليه، فبالتالي أخذ يحتاط أكثر؛ كيلا يمسوه بسوء.
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12].
الرتع: هو الأكل والشرب، واللعب: هو السعي والنشاط، حيث يكون الخضرة والمياه والزروع، كأنهم يقولون: إن إلزامك يوسف وحرصك على أن يكون ملازماً لك في نفس المكان دون أن يخرج معنا ليرتع ويلعب ويسعى ويجري ويمرح في الخضرة والزروع والمياه، هذا يوجد لديه نوعاً من الملل، والملل سوف يضعف نشاطه على العبادة، واكتساب الكمالات.
((وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) هنا توكيد بأن وباللام.(86/18)
تفسير قوله تعالى: (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به لخاسرون)
قال تعالى: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13].
أي: حتى لو كنتم تضمنون لي أنكم تحفظونه فحفظكم له إنما يحصل إذا كنتم دائمي النظر إليه، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة، فأخاف غفلتكم عنه.
قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.
الثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم.
قال الناصر: وكان أشد الأمرين على قلبه خوف الذئب عليه، فهو يجزع لذلك، وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالماً إليه عما قريب فأمر سهل.
إن الذي فهمه إخوة يوسف هو خوف أبيهم من الذئب؛ لذلك لم يشتغلوا إلا بتأمينه، فلم يناقشوه في جواب قول يعقوب: ((إني ليحزنني أن تذهبوا به) وإنما أجابوا عن أشق الأمرين على نفسه وهو خوفه من الذئب عليه فأجابوا {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف:14].
((ونحن عصبة)) أي: جماعة أقوياء يمكننا أن ننزعه من يد الذئب.
((إنا إذاً لخاسرون)) أي: هالكون ضعفاً وجبناً، أو عاجزون أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والدمار.(86/19)
تفسير قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب)
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15].
قال تعالى: ((فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ)) أي: بعد مراجعة أبيهم في شأنه ((وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ)) هذا فيه تعظيم لما لنيتهم التي نووها وأجمعوا عليه؛ لأنهم قالوا لأبيهم: سنأخذه كي يتمتع ويرتع ويلعب ويلهو ويسرح ويمرح، فأغروه بالإكرام وهم لا يريدون ذلك، بل بيتوا سوءاً وشراً.
((وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) (لتنبئنهم) هذه لام القسم، أي: أعلمناه بالإلقاء في روعه، أو بواسطة ملك، وهذا تبشير له بأنه سيتخلص مما هو فيه الآن، وسوف يحدثهم بما فعلوا به، وحصل ذلك حينما قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] * {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف:90].
((وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا)) أي: أوحينا إليه بخبرهم.
((وهم لا يشعرون)) إما متعلق بأوحينا إليه، إيناساً له وإجابة للوحي، أو أنها حال من الهاء في قوله: ((لتنبئنهم)) أي: لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف لعلو شأنك كما سيأتي في قوله تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58].
ولأنهم تركوك ذليلاً في الجب كي تسير رقيقاً وعبداً ذليلاً، فلن يتخيلوا أنك أنت الوزير الصالح الذي يكلمهم من أعلى المقامات، وأعلى الشأن، فهذا هو المعنى لقوله: ((لتنبئنهم بهذا بأمرهم هذا وهم لا يشعرون)).
وروي أنهم نزعوا قميص يوسف الذي عليه وأخذوا يوسف وطرحوه في البئر، وكانت فارغة لا ماء بها، وجلسوا بعد يأكلون ويلهون إلى المساء.
قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف:15] لم يذكر جواب (لما) فالجواب في الآية محذوف، أي فلما فعلوا ما فعلوا، وقيل: إن الجواب هو ((وأوحينا)) والواو زائدة.(86/20)
تفسير قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء يبكون)
قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16].
هذا بيان لمكرهم بأبيهم، فهم جاءوا بطريق الاعتذار الموجب موته، كي يقطع الأمل وييأس من عودته، وتنقطع محبته عنه ولو بعد حين، فيرجع إليهم بالحب الكلي.
((وجاءوا أباهم عشاء)) أي: قدموا عشاء، واختاروا وقت الظلمة كي لا تكون وجوههم ظاهرة أمام أبيهم؛ لأنه ربما ظهرت علامات الكذب على وجوههم، فهم اختاروا وقت الظلمة حتى لا يحتشموا من أبيهم في اعتذارهم بالكذب؛ أيضاً لأن أباهم كان عنده فراسة فهم خشوا أنه إذا نظر إليهم أن يكتشف كذبهم لما يرى من الاضطراب في كلامهم ووجوههم، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه إفراط محبتهم له، فإذا كانت عندهم المحبة ليوسف فلاشك أن هذه المحبة تمنعهم من الجرأة على قتله، فأرادوا أن يبعدوا عنهم الشبهة بهذا.(86/21)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا)
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17].
لقد نادوا أباهم بعد مجيئهم إليه، وأضافوه إليهم ليرحمهم، ويترك غضبه عليهم الداعي إلى تكذيبهم: ((قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ)) أي: إنا ذهبنا في العدو والرمي بالنصل.
((وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا)) أي: ما يتمتع به من الشراب والأزواد وغيرهما ليحفظها ((فأكله الذئب))، أي: كما حذرت.
((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) هذا تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه، أي: أنت تسيء الظن بنا، ولا تصدقنا في هذه الحالة ولو كنا صادقين، فكيف ونحن عندك غير مصدقين؟! أنت تتهمنا وغير واثق بقولنا.(86/22)
البكاء لا يدل على الصدق
يستفاد من الآيات أحكام منها: أن بكاء المرء لا يدل على صدقه، لاحتمال أن يكون تصنعاً، فالممثلون إذا أراد الواحد منهم أن يبكي يبكي، ويبكي الذين يشاهدونه من شدة البراعة في التمثيل بالبكاء والشكوى.
قال بعض السلف: إن الفاجر إذا كمل فجوره ملك عينيه، فإذا أراد أن يبكي بكى.
ليس شرطاً أن يستعمل المواد الموجودة مثل البصل وغيره حتى تذرف العين بالدموع.
إذاً: البكاء لا يدل على صدق الباكي، ويضربون المثل لذلك بدموع التماسيح.
بالمناسبة: لما ذهب أمير الكويت إلى أمريكا حين دخل الجيش العراقي الكويت فالرئيس الأمريكي بكى شفقةً على ما حصل للكويتيين، فقدرة الإنسان على أن يذرف الدموع لا تكون دليلاً على صدقه، ويسمونها كما تعلمون دموع التماسيح، حتى يتمكن من الفريسة كي يلتهمها.
قال بعض السلف: إن الشيطان إذا أراد أن يضل الناس ويخدعهم بالمبتدع ألقى عليه الخشوع والبكاء حتى يصطاده ويصطاد به، فالإنسان لا بد أن يكون حذراً، عالماً وعارفاً بالمقاييس والمعايير التي يحكم بها على الشخص، ليس البكاء من علامات الصدق، وليس شرطاً أن يكون الباكي صادقاً، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: ((وجاءوا أباهم عشاء يبكون)).(86/23)
أهمية الرياضة البدنية
((قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب)) من أحكام هذه الآية: مشروعية المسابقة، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب، فالإنسان إذا سابق على الخيل فإن الخيل يحصل لها نوع من الرياضة وتحتاج إليها لتشتد عضلاتها، وإذا أهملت فسيحصل لها ضعف.
كذلك رياضة النفس وتمرين الأعضاء على التصرف، فالحقيقة أن جانب الرياضة من الجوانب المهمة التي قصر فيه المسلمون جداً إذا قورنوا بغيرهم من الأمم الكافرة، فهم اهتموا بجانب الرياضة وحافظوا على نعمة الصحة، بينما جهل المسلمون قيمة هذا الجانب انخداعاً بمثل قول الصوفية أحياناً: يا خادم الجسم كم تبقى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان هذا كلام قد يصح في جانب معين، لكن المسلم إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، أو يشترك في الجهاد فكيف يدافع؟! كان بعض الإخوة ممن كان عنده حماس عاطفي يذهب إلى أفغانستان، لكنه صار عبئاً على المجاهدين؛ لأنهم يصعدون الجبال الشاهقة وهو لا يستطيع، وكانوا يحملونه فوق ظهورهم! كنت أتكلم عن اهتمام الإسلام بالرياضة البدنية خاصة في مراحل نمو الجسم وبناء الجسم.
على الإنسان أن يدرك أهمية مرحلة الشباب ويهتم بصحته البدنية.
والرياضة إذا كانت بالشروط الشرعية فلا بأس بها، فالصحابة كانوا يهتمون بالرياضة البدنية، فقد كانوا يجيدون ركوب الخيل، ومعلوم الجهد العضلي الذي كان يبذل للتحكم في الخيل والفرس، فسلموا من أمراض كثيرة من آفات الجلوس الطويل على المقاعد أو على المكاتب، وهذا الرسول عليه الصلاة والسلام تصارع مع ركانة فصرعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما قال: (خير الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ومع ذلك كان داود إذا قام للأعداء يصمد أمامهم ويغلبهم ولا يفر عند ملاقاتهم.
كذلك قوله: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) فالشاهد: أنه لابد من الاهتمام بالرياضة البدنية والصحة البدنية؛ لأن هذا رصيد ينفع الإنسان في المستقبل إذا احتاج دفاعاً عن النفس، حتى في الصلاة قد يصل الإنسان به الضعف أن يتعب من السجود والركوع ولا يقوى على العبادة.
فإذاً الاهتمام بالبدن داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) لأن الغالب في الدنيا أن الأحكام حسية.
ورأس مالك أيها الإنسان الصحة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فحافظ على صحتك ولا تتركها؛ لأنها من أعظم النعم، ومما يحفظ الصحة الاهتمام بالرياضة بالشروط المعروفة بحيث لا يذهب ليمارس الرياضة في أماكن الاختلاط مثلاً ولا أماكن الفساد، ولكن يجتهد في إيجاد مكان مع إخوانه الصالحين لممارسة الرياضة التي بها يحفظ صحته.
إذاً: من فوائد هذه القصة: مشروعية المسابقة، قال بعض اليمانيين: اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه، ولا تشبه بالفسقة، وأما بين الكبار فهو ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون في معنى القمار فلا يجوز.
الثاني: ألا يكون في معناه وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد كالمناضلة بالقسي والمسابقة على الخيل فذلك جائز مطلقاً، فكل رياضة أعانت على تقوية البدن أو على الرماية أو على الجهاد فهذا مما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
الثالث: ألا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها، ففي ذلك قولان للشافعية: أرجح الأقوال أنه يجوز إن كان بغير عوض، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة، وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت سبقني، وقال: هذه بتلك) صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث: (ليس من اللهو ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه) هذا ليس من اللهو وليس من الباطل؛ لأنه يستعان به على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.(86/24)
تفسير قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب)
قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
((وجاءوا على قميصه بدم كذب)) بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم أخذوا قميصه وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه.
((كذب)) هذا مصدر بتقدير المضاف أي: (وجاءوا على قميصه بدم) ذي كذب، أو أنه وصف به مبالغة.
(على) حرف جر، وهي ظرف لجاءوا، لأن كلمة (جاءوا) متضمنة معنى (افتروا).
((قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) أي: من تغييب يوسف وتفريقه عني.
والذي قوى يعقوب وحمله على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام هلاكه بسببه أولاً.
لم يقولوا مثلاً غرق في الماء، أو حصل له كذا، وإنما قالوا: أكله الذئب.
استدل بعض الناس بهذا القول على أن البلاء موكل بالمنطق.
وكذلك استدلوا بقول يعقوب عليه السلام في موضع آخر: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] فأحيط بهم.
إذاً: قواه على اتهامهم أنهم ادعو الوجه الخاص الذي خافه يعقوب عليه السلام وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: ((وأخاف أن يأكله الذئب)) وكثيراً ما تتفق الأعذار الباطلة مع قلق المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار، واستنبط من هذا الحكم بالأمارات والنظر إلى التهمة، حيث قال: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً).
وفي الآية من الفوائد: أن الجاه يدعو إلى الحسد كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعلون عداوتهم أشد من عدواة الأجانب، مع أن الأصل من القرابات أن تكون هناك محبة أصلية وهي صلة القرابة، لكن قد يصل العداء بين الأقرباء إلى أشده كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربي أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهند وكذلك الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلاً من الممكور به؛ لأن إخوة يوسف ظنوا أنهم أفضل منه، وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة وأظهره فعلاً لم يعتمد عليه، ولم يوثق بقوله.
ومن الفوائد أيضاً: أن الإذلال والإعزاز بيد الله عز وجل لا الخلق، وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء، وأن الإنسان وإن كان نبياً يخلق أولاً على طبع البشرية، وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل، وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر، انظر إلى الاحتياطات التي اتخذها يعقوب عليه السلام لحماية يوسف، حتى لاحظ إخوته ذلك: ((فقالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف)) عرفوا أن هذه الاحتياطات تدل على صدق حرصه الشديد وحراسته ليوسف، لكن لما أتى القدر لم ينفع الحذر.
قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض ولا ترى الشبكة فوقها قال: إذا جاء القضاء عمي البصر.
((قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) التسويل: هو تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن.
((فصبر جميل)) خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً، أي: فشأني صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت، والجميل من الصبر هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق، ولا جزع فيه رضاً بقضاء الله ووقوفاً مع مقتضى العبودية.
((والله المستعان على ما تصفون)) أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف.
هنا تقديرات واحتمالات: ((فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)) الاحتمال الأول: كلمة (المستعان) تفيد الطلب، يعني: أطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعينني على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف.
الاحتمال الثاني: أن المعنى (والله المستعان على ما تصفون) أي: على إظهار حال ما تصفون هل هو صدق أم كذب؟! قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] أي: من الكذب فكلمة (عما يصفون) يستدل بها على أن هناك كذباً، وهذا القول الثاني هو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83]؛ لأنه لو قلنا بالقول الأول أن المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف فإن معناه: أنه صدقهم فيما أخبروا به، لكن السياق والصيغة تشير إلى أنه لم يصدقهم، ولذلك قال: ((بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) فهذا السياق يؤيد أن الراجح هو إظهار حال ما تصفون وكذبه، وأنه من تسويل أنفسكم، وكذا استعملتها عائشة رضي الله عنه الله تعالى عنها في قصة الإفك قالت: (بل أقول كما قال العبد الصالح: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)، يعني: على إظهار حال ما تصفون من الكذب.
وقوله: ((والله المستعان)) فيه اعتراف بأن التلبس بالصبر لا يكون إلا بمعونته تبارك وتعالى.
قال الرازي: إن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي دواع قوية، والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنهما في تحارب وتجاذب، فما لم تحصل إعانته تبارك وتعالى لم تحصل الغلبة، ولذلك قال: ((والله المستعان)) يعني: سأل الله أن يعينه على الصبر، فقوله: ((فصبر جميل)) يجري مجرى قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، وقوله: ((والله المستعان)) يجري مجرى قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(86/25)
تفسير سورة يوسف [19 - 35](87/1)
تفسير قوله تعالى: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19].
((وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم)) أي: الذي يرد الماء ويستقي لهم.
((فأدلى دلوه)) أي: أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه هذا الوارد قال: ((يا بشرى هذا غلام)) وقرئ ((يا بشراي هذا غلام))، بالإضافة والمنادى محذوف، أو نُزِّلت البشرى منزلة من ينادى فقيل: ((يا بشرى)) ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
((هذا غلام)) الغلام الطار الشارب، أي: الذي بدأ ينبت شاربه، أو هو من ولادته إلى أن يشب، والتنوين لكلمة (غلام) لتعظيم شأن هذا الغلام.
((وأسروه بضاعة)) أي: أخفوه متاعاً للتجارة.
فتكون (بضاعة) منصوبة على أنها حال.
وإذا كان معنى (أسروه) جعلوه فهي مفعول به، أي: جعلوه بضاعة.
ويصلح إعرابها مفعولاً لأجله، أي: لأجل أنهم أسروه بضاعةً.
والبضاعة من البضع وهو القطع، فهو قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة، لأنه نظر إليه على أنه سوف يجعله عبداً ليحصل به مالاً كثيراً في التجارة ((والله عليم بما يعملون)).(87/2)
تفسير قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة)
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] الضمير في (أسروه) وفي (وشروه) للسيارة، والمقصود أن أهل هذه القافلة هم الذين أسروه وأخفوه، وقد روي أنهم كانوا تجاراً من بلدة مدين، فلما أصعد واردهم يوسف وضموه إلى بضاعتهم باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهماً، ثم أتوا بيوسف إلى مصر.
وإعراب دراهم بدل من (ثمن) مجرور بالفتحة؛ لأنه من صيغ منتهى الجموع فهو ممنوع من الصرف.
وقوله: (معدودة) كناية عن القلة؛ لأن الكثير يوزن عندهم، لكن القليل يعد، لذلك قال: ((دراهم معدودة)) أي: قليلة.
(وكانوا فيه).
أي: في يوسف ((من الزاهدين)) أي: الراغبين عنه ((وكانوا فيه)) دلالة على علو المقام كما في قوله تعالى: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:16].(87/3)
فوائد من قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس)
من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان ولا يتوقع؛ لأنه قد يرد الفرج من باب الكرب، فها هو يوسف عليه السلام ما حصل له الفرج والتمكين والسيادة في الأرض والخير إلا بعد هذه المحنة التي مر بها، فكأن إخوته ألقوه في الجب ليهلكوه، والله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك، أراد أن يكون إلقاؤه في الجب مفتاحاً لتحقق الرؤيا التي من أجلها حقدوا عليه وحسدوه وتآمروا على قتله أو إبعاده.
فهذه المحنة كانت في ظاهرها كربة وهي في الحقيقة سلام وفرج وتمكين في الأرض ليوسف عليه السلام.
ومعنى ((شروه)) باعوه، فالشراء والبيع يطلقان على بعضهما، فإذا كانت بمعنى اشتروه، فستكون القافلة الثانية التي من أهل مصر هم الذين اشتروه من تجار مدين، مع أن الرواية التي حكت أن تجار مدين باعوه أتت بصيغة التمريض (وروي)، فالله أعلم بصحة ذلك.
إذاً: الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان، وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره، وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه، وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة وبالعكس.(87/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه)
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
يخبر تعالى عن لطفه بيوسف عليه السلام، إذ يسر له من اشتراه في مصر فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح.
وهذه من المواضع التي ورد فيها ذكر مصر علماً على البلد في القرآن الكريم.
ومعنى: ((أكرمي مثواه)) أي: اجعلي مقامه حسناً مرضياً، والمثوى: هو محل الثواء، وهو الإقامة.
وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه؛ لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة واتخاذ الفراش ونحوه فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به.
وروي: أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده والعناية الربانية تحفه والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به يمدحه الله تعالى على يديه، فنال حظوة لديه، لأن قدومه كان مباركاً بالنسبة لهذا الرجل الذي اشتراه من مصر والذي أقام عنده وهو العزيز، فكان يحصل له خير كثير منذ أن قدم يوسف عليه السلام عنده، وأقامه قيماً على كل ما يملكه، وضاعف الله تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته.
ثم يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:21] أي: كما جعلنا له مثوىً كريماً في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له مكانةً رفيعةً في أرض مصر ووجاهةً في أهلها ومحبةً في قلوبهم؛ ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى، فلذلك أعقب الله تبارك وتعالى صدر هذه الآية مباشرة في نفس الآية بقوله عز وجل: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) هذه إشارة إلى أنه بجانب المكانة التي كانت له في قلب العزيز وفي منزله وفي إكرام مثواه بجانب ذلك أعطاه الله سلطاناً؛ لأن العزيز جعل ليوسف الأمر في ماله وأحواله، وجعل له مكانةً رفيعةً في أرض مصر ووجاهةً في أهلها.
((والله غالب على أمره)) إذا كانت الهاء تعود إلى لفظ الجلالة فيكون التفسير أن الله سبحانه وتعالى لا ينازعه أحد فيما يريد.
أما إذا قلنا إن الهاء تعود ليوسف عليه السلام فيكون التفسير أن الله سبحانه وتعالى لا يمنع عما يريد من أمر يوسف، فقد أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة، فقد أنجاه الله من كيد إخوانه حينما ألقوه في الجب أرادوا له الهلكة فأراد الله سبحانه وتعالى أن تكون له السيادة والرياسة والتمكين، كذلك هذه كأنها إشارة إلى المحن التي قد يقبل عليها يوسف فيما بعد، وذلك فيما يتعلق بامرأة العزيز، فالله سبحانه وتعالى كان أيضاً غالباً على أمره فمنعه من السوء، وكانت له العاقبة الحميدة، أيضاً بعد ذلك حينما ألقي في السجن وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ومع ذلك ألقي في السجن فكان له بعد ذلك العاقبة المحمودة، فهذا على أساس أن الهاء تعود إلى يوسف.
((والله غالب على أمره)) أي: على أمر يوسف، حيث إن يوسف أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة.
((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أي: لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فيأتون ويذرون زعماً أن لهم شيئاً من الأمر، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا لطفه سبحانه وتعالى.(87/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً)
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22].
هذه الآية كالتي قبلها تخللت نظم القصة وأحداثها لمعنى بديع وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، فوصل إلى السيادة عن طريق العبودية التي حصلت له لما بيع.
((ولما بلغ أشده)) أي: زمان اشتداد جسمه وقوته، قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان.
((آتيناه حكماً وعلماً)) الحكم إما أنه الحكمة، وهي العلم المؤيد بالعمل التي قال الله فيها: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]، أو أنه سلطان يحكم بين الناس به.
((وكذلك نجزي المحسنين)) قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: ((وكذلك نجزي المحسنين)) تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاءً على إحسانه، وعن الحسن قال: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.(87/6)
تفسير قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه)
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] هذا رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف في منزل العزيز، بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، بقوله: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ثم حصل تخلل لأحداث القصة بهذا الموضع: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:21 - 22] فعاد السياق ورجع إلى شرح ما جرى ليوسف عليه السلام في منزل العزيز من مراودتها له وإيذائها له عليه السلام.
((وراودته)) أي: طلبت منه أن يواقعها.
وتعديته بعن (وراودته عن نفسه) لتضمينه معنى المخادعة، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز لتقرير المراودة، كان يمكن أن يقول: وراودته امرأة العزيز، لكن سيفوتنا في هذه الحالة بيان هذا المعنى الذي جاء في صيغة الموصول: ((وراودته التي هو في بيتها)) إشارة إلى أن عوامل الفتنة كانت كلها مجتمعة في حق يوسف عليه السلام ومع ذلك ثبت؛ لأنها صاحبة البيت وهي البادئة والمحتالة والمخادعة والحريصة على ذلك، فإيراد الموصول (التي) دون امرأة العزيز جاء لتقرير المراودة حتى نعلم أنه قد وقعت هذه المراودة، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك.
قيل لامرأةٍ: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد.
وفيها إظهار كمال نزاهته عليه السلام كما سيأتي؛ لأن هذه الآية تثبت أنها هي التي فعلت ذلك، وأنه لم يكن من ناحيته شيء، فصيغة الموصول هنا أفادت كل هذه الفوائد.
((وقالت هيت لك)) قرئت (هيت) كجير، وكحيث، وبكسر الهاء، وبهمزة ساكنة بعدها (هئت لك).
إذاً فيها خمس قراءات (هَيت لك) (هِيت لك)، (هَيتُ) (هئْت)، (هيئت)، وهي في هذه اللغات كلها اسم فعل بمعنى: تعال، واللام لتبيين المفعول.
ونقل عن الفراء: أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.
قال ابن الأبياري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ونحوه.
((قال معاذ الله)) منصوب على المصدر أي: أعوذ بالله مما تدعينني إليه، لكونه زناً وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضراً لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن.
((قال معاذ الله)) قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وهذه هي الشفافية والإيمان والإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما وصفه الله تعالى بأنه كان من المخلصين، فأداه هذا إلى أن رأى الفحش في صورته الحقيقية القبيحة، التي تبلغ أقصى غايات السوء والقبح والشناعة، فلذلك قال: ((معاذ الله)).
فكلمة ((معاذ الله)) تكشف عن أنه رأى القبيح قبيحا، ً وأنه لم يزين في عينه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والإنسان قد يرى الأشياء على غير ما هي عليه، ولذلك كان من الدعاء المأثور -أعتقد أنه ينسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه-: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأتبع الهوى) أو كما قال رضي الله عنه، إذاً: قد يرى الإنسان الحق باطلاً أو الباطل حقاً، أما من وفقه الله سبحانه وتعالى فإنه يرى الأشياء على ما هي عليه، وهذا هو الذي حصل من يوسف عليه السلام، فإنه رأى القبيح قبيحاً في صورته التي يستحقها من القبح، فلذلك نفر منه وبعد منه غاية البعد ونفر غاية النفور كما هو واضح في السياق، فهو لم يتردد في ذلك على الإطلاق.
وهذا خلاف من يخذله الله سبحانه وتعالى فيستحقر القبائح، كم ترى من شخص قد يهنئ الآخر؛ لأنه أحضر جهاز الدش في البيت، ولو فقه وعرف ضرره لعزاه في هذه المصيبة التي ليس بعدها مصيبة.
فالله سبحانه وتعالى ينكس قلوب هؤلاء الناس ويرون القبيح حسناً والحسن قبيحاً، كما ترون في كافة وسائل الإعلام من التشنيع على أهل الطاعة، ومن التنفير عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالألفاظ المنفرة، والأوصاف المخالفة للحقيقة، وفي نفس الوقت يرون القبيح حسناً.
((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)) تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية.
قوله: ((معاذ الله)) فيه إشارةً إلى التقوى التي في قلبه، فهو يرى هذا الفعل معصية لله سبحانه وتعالى قبيحاً، ولا يعينه على النجاة منها إلا الله، ولذلك تعوذ بالله.
ثم إن يوسف عليه السلام ذكر لها بعض الأسباب التي تكون مقنعة لها فتكف عنه شرها فقال: ((إنه ربي أحسن مثواي)) فهنا علل امتناعه بأسباب خارجية مما عسى أن يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره، بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها.
والضمير في قوله: (إنه) للشأن، وفائدة تصدير الجملة به إشارة إلى ضخامة مضمون هذه الجملة، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن؛ فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبه.
هذه فائدة استعمال ضمير الشأن، فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هو أن ربي -أي: سيدي العزيز صاحب هذا البيت- قد أحسن مثواي، وأحسن تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف أقابل إحسانه إلي بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها بطريقة في غاية اللطف إلى رعاية حق العزيز، إذا كان من هو في مقام عبده أو خادمه راعياً حرمته بهذه الطريقة، فأولى بها وهي زوجته أن ترعى حرمته، فكأنه يقول لها: وقد أحسن مثواك أنت أيضا، ً فعليك أن تؤدي حق هذا الزوج ولا تخونيه.
وقيل: الضمير لله عز وجل، (إنه ربي) أي: الله عز وجل، فكيف أعصي الله عز وجل بارتكاب تلك الفاحشة؟! على أساس أن ربي خبر إن و (أحسن مثواي) خبر ثان، أو: (أحسن مثواي) هو الخبر و (ربي) بدل من الضمير.
وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل، أي: أن الله سبحانه وتعالى أحسن مثواي فكيف أعصيه؟! فأشار لها أيضاً أن تتقي الله ولا تفعل ما يغضبه سبحانه، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً، فهو لم يواجهها بقوله: ما هذا الذي تطلبينه، أو إن هذا لا يمكن أن يقع، أو إنني أمتنع من هذا.
ثم أضاف تعليلاً آخر للامتناع فقال: ((إنه لا يفلح الظالمون)) عقب التعليل الأول.
والفلاح هو الظفر، أو البقاء في الخير، ومعنى (أفلح): دخل فيه كأصبح وأخواتها.
والمراد بالظالمين كل من ظلم كائناً من كان، فيدخل في ذلك المقابلون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى كالزناة؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم، وظالمون للمزني بأهله.(87/7)
ثمرات قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها)
وقال بعض اليمانيين: ثمرات هذه الآية ثلاث: الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك ليعصمه منها، كأن يقول إذا دعي إلى أي معصية: معاذ الله، أو أعوذ بالله، أي: ألتجئ وأتحصن بالله سبحانه وتعالى أن يحميني من هذا.
ويدخل فيه دعاء الشيطان إلى المعصية الشيطان، وكذلك دعاء شياطين الإنس، أو دعاء هوى النفس الأمارة بالسوء.
الثانية: أن السيد والمالك يسمى رباً، لكن لا يطلق عليه الرب مطلقاً؛ لأن إطلاق هذه التسمية لا تكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى، أما في حق غيره فتكون مضافة، لذلك أتى بها يوسف عليه السلام مضافةً: (إنه ربي).
الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعايةً لحق غيره، وأيضاً خشية العار أو الفقر أو الخوف أو نحو ذلك، ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركاً للقبيح وأنه لا يثاب، بمعنى: أن الإنسان إذا انتهى من القبيح يمكن أن يشرك في النية بجانب الخوف من الله سبحانه وتعالى، نية الامتناع خشية العار، أو الخوف من مقابلة الإساءة بالإحسان ورعاية حق الغير، أو غير ذلك من ذكر العواقب التي تكون نتيجة هذه الفعلة.
وتدل الآية القرآنية أيضاً على لزوم حسن المكافأة بالجميل: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فكما أحسن هذا الرجل إلى يوسف عليه السلام فعليه أن يقابل إحسانه إليه بإحسان مثله، وأن من قابل الإحسان بالإساءة فإنه يكون ظالماً؛ لقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].(87/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها)
ثم يقول تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
الهم يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإجماع عليه، وبالعزم القصد إلى إمضائه، فهو -أي: الهم- أول العزيمة، أما أعلاه فهو الهمة.
إذاً: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقل ورضاً، مثل: الهم الذي يدفع صاحبه إلى المشي إلى الحانة ليشرب الخمر ووجدها مغلقة، فهذا عنده الهم وعنده العزيمة، وكذلك الذي يهم أن يقاتل أخاه المسلم، كما جاء في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما ذنب المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالمقتول فشل في المبارزة فقتل قبل أن يقدر على قتل أخيه، وإلا فهو قد هم وحرص على هذه المعصية، فيؤاخذ بهذا الهم.
أما الهم الثاني فهو الهم الذي هو خاطر أو حديث نفس يخطر للإنسان ولا يوجد عقبه شيء حسي أو في الأعيان، فروى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
فمعنى قوله تعالى: ((ولقد همت به)) أي: همت بمخالطته وعزمت عليها عزماً جازماً، ليس كالخاطر العابر، بل هو همٌّ مؤثر وهو العزم والتصميم، لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مبادئه من المراودة وتغليق الأبواب، ودعته إلى الإسراع إليها بقولها: ((هيت لك)) مما اضطره إلى الهرب إلى الباب، هذا الهم منها.
ولذلك يحسن الحقيقة الوقف هنا عند قوله: ((ولقد همت به)) ثم البدء بقوله: ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) لمعنى سوف نبينه إن شاء الله.
أي: لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها كما همت به لتوافر الدواعي، فكل دواعي الفتنة موجودة فقد كان في عنفوان شبابه عزباً مملوكاً، وهي التي ابتدأت وألحت على هذا الشيء، ثم إنها تملك الرغبة والرهبة، فقد هددت بسجنه وغير ذلك.
فهذه الآية تنزه يوسف أن يكون قد هم؛ لأن "لولا" حرف امتناع لوجود، فامتنع الهم لوجود برهان ربه، مثل قولك: لولا الماء لعطشنا، فامتنع العطش بسبب وجود الماء، وقولك: لولا الهواء لاختنقت، فامتنع الاختناق نتيجة وجود الهواء، وكذلك يقول الشخص: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، فهل معنى ذلك أنه قارف الإثم؟ لا؛ فبسبب وجود عصمة الله لم يقارف الإثم.
قال أبو حيان: ونظيره: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، ولا نقول: إن جواب "لولا" يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حيث ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله، فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلاً.
وقيل: جواب "لولا": لغشيها ونحوه، فلو قلنا: إن التقدير: ((ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) أي: لغشيها، أو لأجابها، فحينئذ يكون معنى الهم أنه مجرد خطور الشيء بالبال، أو أنه الميل الفطري الطبيعي كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه، وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة وبين النفس والعقل مجاذبة ومنازعة، فداعي الدين هو الذي يمنع من ذلك، فالهم هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل.
وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلاً جبلّياً، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا ترى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين.
فلا شك أن العبارة في الموقف السابق ليوسف عليه السلام وهو الوارد في قوله: ((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)) يدل على كمال نفوره واستقباحه لهذا الفعل، هل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه عليه السلام تسجيلاً محكماً؟! وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة، فحصل نوع من المزاوجة مثل قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54] لا لشبه بينها كما قيل، لكنه نوع من المشاكلة للاستصحاب بين اقتران اللفظين معاً في لفظ واحد أو في وقت واحد، لكن أشير إلى تباينهما حيث لم يردا في قالب واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هم بالمخالطة أي: لم يقل سبحانه وتعالى: ولقد (هما) معاً، أو لم يقل: ولقد هم كل منهما بالآخر، ولكن حصلت هذه المباينة إشارة إلى افتراقهما، ولقد همت به هماً كما ذكرنا بالمخالطة، أما هو فهم بها هماً جبلّياً غير اختياري.
فجاءت الصيغة بهذه الطريقة إشارةً إلى تباين نوعي الهم، وأنهما ليسا من باب واحد.
يقول: وصدر الأول -يعني: ابتدأ بهمها أولاً- بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ((ولقد همت به)) ليثبت وجود هذا الهم منها، وعقب الثاني بما يعفو أثره وبما يمحو أثره، ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) إشارة إلى تباين الهم كما ذكرنا.
((برهان ربه)) أي: حجة ربه الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، إنه نور من ربه سبحانه وتعالى جعله يرى القبيح قبيحاً وينفر منه غاية النفور، والمراد برؤيته له كمال إيقانه به ومشاهدته له مشاهدةً وصلت به إلى مرتبة عين اليقين، وهي أعلى مراتب العلم على الإطلاق، وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنا بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته، أقبح ما يكون وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه.
وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام، أي لولا مشاهدة برهان ربه بشأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل لمحض العفة والنزاهة.
فاتضح أن لا تشويش في هذه الآية على عصمة يوسف عليه السلام، كنبي من أنبياء الله عليهم السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها والانقياد إليها، ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا ملائكة أو عالماً آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي لكونهم مقهورين على تركها، كالعنين لا يؤجر ولا يثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعيةٍ ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كف النفس عما تتشوق إليه، فهو عمل نفسي، فهو يترك هذا الشيء نتيجة مجاهدة يثاب عليها، بخلاف من تركه وليس عنده داع إليه، فالدعاة بعثوا بتزكية الناس منها؛ لئلا يكونوا قدوةً سيئة مفسدين للأخلاق والآداب، وحجةً للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.
هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ما تلقفوه من أهل الكتاب من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام في همه، يقول القاسمي: فإني أنزه تأليفي عن نقلها بردها.
وقال العلامة أبو السعود: وكلها خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها.
وسبقه الزمخشري فأجاد الكلام في ردها، فلينظر فإنه مما يسر الواقف عليه.
((كذلك لنصرف عنه السوء)) أي: المنكر والفجور والمكروه.
((والفحشاء)) هي ما نتاهى قبحه ووصل في القبح إلى أقصى درجاته.
يقول أبو السعود في قوله تعالى: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)): آية بينة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يقع منه همٌ بالمعصية ولا توجه إليها قط، وإلا لو كان توجه إليها لقيل: كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل.
((إنه من عبادنا المخلصين)) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح كما في قراءة عاصم، أي: الذين أخلصهم الله لطاعته، فمعنى القراءة الثانية أن الله عصمه وحفظه وأخلصه لطاعته.
قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءة يوسف عليه السلام القاطعة، أولاً: شهد الله سبحانه وتعالى له بالبراءة كما في هذه الآية: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)) أي: أنه لم يقترب منه السوء والفحشاء، وهذا في غاية التنزيه له عليه السلام والسبب: ((إنه من عبادنا المخلصين)) أي: الذين أخلصناهم لطاعتنا بأن عصمناهم، أما شهادة يوسف لنفسه فقد شهد بعفته فقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26]، أما هو فلم يقع منه أدنى مراودة عليه السلام.
وكذلك امرأة العزيز نفسها شهدت بما ينزه يوسف قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] وسيدها أيضاً نزه يوسف وبرأه بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29]، وإبليس نفسه شهد ببراءة يوسف عليه السلام حينما قال: {َلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40].
فإذاً: لا سبيل لإبليس على عباد الله المخلصين ومنهم يوسف؛ لأن الله قال: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)).
ثم يقول الشهاب: فتضمن إخبار إبليس بأنه لم يغوه، ومع هذا لم يبرئه أهل القصص حينما جمعوا ركام المرويات الإسرائيلية والمخترعة والمختلقة، ولقد سماهم القا(87/9)
تفسير قوله تعالى: (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وهو من الصادقين)
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:25 - 27].
((واستبقا الباب)) هذا متصل بقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] فقوله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريراً لنزاهته، فقوله: (واستبقا الباب) أي: قصد كل منهما سبق الآخر إلى الباب، فيوسف عليه السلام بادر وسابقها إلى الباب ليخرج ويهرب من هذا الموقف، وهي سبقت أيضاً إلى الباب لتمنعه من الخروج ووحد الباب هنا مع جمعه أولاً، بقوله: (وغلقت الأبواب) لأن المراد به الباب الذي يؤدي إلى الخارج، أما الأبواب الأخرى فهي داخلية تؤدي إلى هذا الباب الخارجي.
فيوسف عليه السلام لم يكن همه فقط أن يخرج من الباب الداخلي، لكن أن يخرج من الباب الذي يكون منه الخلاص من هذه الفتنة.
((وقدت قميصه من دبر)) أي: اجتذبته من خلفه، فانقد قميصه أي: انشق.
((وألفيا سيدها لدى الباب)) أي صادفا بعلها ثمةً قادماً.
((قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم)) تبرئة لساحتها وإغراءً عليه وتحريضاً.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:26].
لأن قده من قبل أمارة الدفع عن نفسها به، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها.
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:27] لأن قده من دبره أمارة إدباره عنها بسبب أنها تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدته، ومن اللطائف ما قيل: إن هذا الشاهد أراد أن يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها.
وبدأ بذكر القد من القبل؛ لأنه على علم بأنه لم ينقد من قبل، حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، مع أنه كان يعلم أنه قد من دبر، لكنه أراد أن يأتي بعلامة يحكم بها في هذه المسألة، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحةً للتهمة ووثوقاً بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها، وهذه اللطيفة بعينها هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28].
فحتى يزيح التهمة عن نفسه، ويظهر أنه مخلص لقومه ويريد بهم الخير؛ تأليفاً لقلوبهم على الإسلام أو على الدين، يقول لهم: (إن يك كاذباً فعليه كذبه) هو أتى بصفة الكذب ولم يأت بصفة الصدق؛ لكون ذلك يعني أقرب إلى هواهم، مع أنه لن يضر موسى عليه السلام أن يوصف بأنه كاذب؛ لأنه مجرد احتمال، وهو صادق قطعاً.
هذا نوع من التنزل في الحوار الذي لا يضر في الحق شيئاً، وكما في سورة سبأ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24].
ومن هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره في قوله: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:76] فإزاحةً للتهمة بدأ بأوعيتهم أولاً قبل وعاء أخيه؛ كي لا يظهر أنه متعمد إخراجه؛ لأنه لو بدأ به، لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه.
والقاسمي هنا قد أحسن إحساناً عظيماً في تفسيره حينما تجاهل تماماً الكلام الطويل الذي لا دليل عليه.
فمن هو الشاهد في قوله تعالى: (وشهد شاهد من أهلها)؟! إنه ليس غريباً، ولذا تكون شهادته أوقع وأبلغ، حتى إنها جرت مجرى الأمثال، فحينما تأتي مثلاً بعدو من أعداء الإسلام يشهد بشهادة حق فتقول: ((شهد شاهد من أهلها)).(87/10)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأى قميصه قد من دبر)
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] الكيد هو الحيلة والمكر، وإنما استعظم كيدهن لأنه ألصق وأعلق في القلب، وأشد تأثيراً في النفس، ولهن فيه نيقةٌ ورفق، وبذلك يغلبن الرجال: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا أي: مع الضعف الذي في المرأة لكنها تقوى بهذا الكيد وهذا المكر على أن تغلب أقوى الرجال.
يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات، كاللقطة والسرقة والوديعة ومعاقد الحيطان والسقوف وشبهها.(87/11)
تفسير قوله تعالى: (يوسف أعرض عن هذا)
قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ((يوسف أعرض عن هذا)) نودي بحذف حرف النداء؛ لقربه وكمال تفطنه للحديث، والمعنى أعرض عن هذا الأمر واكتمه ولا تحدث به.
((واستغفري لذنبك)) أي: الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، وقذفه بما هو بريء منه.
((إنك كنت من الخاطئين)) أي: من جملة القوم المتعمدين للذنب يقال: خَطِئ إذا أذنب متعمداً، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد، ولذلك ينبغي للشخص الذي يتكلم في خلافات العلماء ألا يقول: وهذا القول خاطئ، لكن يقول: إن هذا القائل مخطئ نسبة إلى الخطأ وليس إلى الخطيئة، فليلتفت لهذا؛ لأن هذا التعبير يستعمل كثيراً على ألسنة الكثير من طلبة العلم، يقول: هذا المذهب خاطئ.
وهذا القول خطأ؛ لأن الخاطئ هو الشخص الذي يتعمد الوزر والإثم، أما الخطأ نتيجة الاجتهاد مثلاً فيقال فيه: خطأ ويقال لصاحبه: مخطئ، وليس خاطئاً، إلا إذا تعمد، ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب.
(إنك كنت من الخاطئين) وإيثار جمع السالم تغليباً للذكور على الإناث؛ لأن الخاطئين فيهم رجال وإناث فغلب التذكير كما هو معلوم، ودل هذا على أن العزيز كان رجلاً حليماً إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار، قال ابن كثير: أو أنه عذرها؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه.
ويقال: إنه كان قليل الغيرة.
قال الشهاب: وهذا لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام.
وقال أبو حيان كلاماً مؤذياً جداً سامحه الله يقول: إنه مقتضى تربة مصر.
والكثير من الناس للأسف الشديد ينزعون منزعاً غير مرضي، فبعض الناس يفيضون في هذا الكلام حتى قال بعضهم: ولذلك ترى الأسود لا تعيش في أرض مصر؛ لأن عندها غيرة، فلا شك أن هذا الكلام من العدوان، خاصة بعد أن شرف الله سبحانه وتعالى مصر بالإسلام، ما ينبغي أبداً أن يقال هذا الكلام، فنقرأ أحياناً في بعض الكتب أشياء مزرية، فهذا كتاب أظن اسمه (مرآة النساء فيما حسن منهن وساء)، كان يقول على سبيل الجزم والقطع: إن الرجال في مصر طبعهم غريب جداً في انقيادهم للنساء، حتى إنه لا يوجد في مصر رجل إلا ويخاطب امرأته بقوله: يا سيدتي.
فهذا بلا شك من العدوان، هل أحد يعرف هذا؟! فيحلو لبعض الناس سوء الظن بأهل مصر، وأن أهل مصر ليس عندهم غيرة، وأنا سمعت بنفسي شيئاً من هذا في بعض البلاد، فقد كنت في أبها وكان هناك حفل لتحفيظ القرآن، وكان الأمير خالد الفيصل حاضراً ذلك الحفل في المسجد الكبير هناك، وقام أحد المحاضرين من المشايخ الفضلاء -لا داعي لذكر اسمه- فتكلم عما يفعله العصاة والفساق من أهل بلادهم، فيقول: ويفعلون كذا وكذا ويذهبون إلى مصر! وكأن الذهاب إلى مصر سبة، والسبب في هذا الفسقة والفجرة من أهل الفن الممثلين والملاحدة والفساق والفجار، فالناس تنظر أن هذه هي مصر، وأن أهل مصر لا يعرفون الشرف ولا العرض ولا الغيرة ولا الكرامة، لكن منذ أن أعزنا الله بالإسلام ولله الحمد نحن نفخر بإسلامنا لا بشيءٍ آخر، ولكن ليس من الحكمة أبداً أن الإنسان إذا كان يخاطب قوماً ويتكلم باسم الإسلام، خاصة إذا كان عالماً أو مصنفاً أن يدق هذا الوتر في قلوب الناس؛ لأنه يجرح كثيراً.
نستحضر قصة الإفك كيف أن سعد بن معاذ لما قام وهو رئيس الأوس وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: (إن كان من قومي الأوس فأنا امتثل فيه رأيك، وإن كان من إخواننا الخزرج فمرنا فيه لنقتلنه، فغضب رئيس الخزرج وقال: لا تقتله ولا تستطيع أن تقتله وكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على المنبر، وكادت أن تحصل فتنة عظيمة بينهم) انظر إلى العصبية القبلية أو الوطنية.
إذاً: من يتكلم باسم الإسلام ينبغي ألا يقترب من موضوع العصبية والقبلية والطائفية، للأسف الشديد هناك أمور كثيراً ما تحصل تجد الواحد يقول: هذا من الصعيد وفلان هذا بحراوي، وللأسف ترانا نجري مع الناس الجهلة في هذه النعرة الجاهلية، وحتى على مستوى المحافظات تجد لكل محافظة صفة معينة قبيحة ظلماً وعدواناً.
فلا ينبغي أن نسترسل مع هذه المسالك؛ لأنه لا يليق أبداً بمن أعزه الله سبحانه وتعالى بالإسلام أن يحصل منه مثل هذا الكلام، فكل من كان مثلنا في الإسلام فهو أخونا سواء من أهل بلدنا، أو من أهل محافظتنا، أو من أهل مصرنا، أو من أي بلد إسلامي، أما التعميم فبلا شك أنه ظلم فادح، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)، فهذا فيه مراعاة لشعور الناس، انظروا كيف وصلت إلى هذا الحد، حتى الميت لو كان يستحق السب لا تسبه رعايةً لحرمة قريبه الحي! حتى ولو كان هذا كافراً أو فاسقاً، فلا تؤذوا الأحياء، فكيف بالمسلمين؟! وقال أبو حيان: إنه مقتضى تربة مصر بتحلي أهلها بهذه الصفة التي يزعمون.
ثم يقول القاسمي: وقد تقرر للمحققين أن الاختلاف في أحوال العمران في الخصب والجدب وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها له أثر في أخلاق البشر وأبدانهم.
انظر المقدمة الرابعة والخامسة من مقدمة ابن خلدون، وعفا الله عن الجميع!(87/12)
تفسير قوله تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه)
ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر فقال عز وجل: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30].
((وقال نسوة في المدينة)) أي: بعد أن انتشرت الشائعات، فمثل هذه الحوادث تشيع وتنتشر من قبل النساء، أما يوسف فلا يمكن أن يكون قد أذاع هذا، بل يوسف يتنزه عن أن يكون هو مصدر هذه الشائعات عليه السلام.
((امرأة العزيز)) العزيز هو الأمير، مأخوذ من العز وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية، الحقيقة هنا مناسبة لأن نعلق تعليقاً عابراً بالنسبة لاستعمال كلمة (العزيز) في القرآن، نقدم لها بالتعريف بعمالقة مصر الذين يسمون بالهكسوس، وهم العمالقة الذين كانوا يسكنون في جنوب فلسطين ومنطقة العقبة وجزء من سيناء المصرية، وكان يطلق عليهم الشاة أو ملوك الرعاة، وهم أبناء عم عمالقة العراق الذين كونوا دولة بابل الأولى، وأبناء عم عادٍ وثمود.
اندفعت الهكسوس الهمجية ودهمت في فترة من فترات الضعف السياسي في مصر حدود مصر الشرقية، مكتسحةً أمامها كل شيءٍ في مصر، ومما ساعدهم على ذلك كثرتهم العددية وقوتهم العسكرية، واستخدام الخيول والعجلات الحربية، والخناجر والسيوف البرونزية -لأن سيوف المصريين كانت من النحاس- والأقواس المركبة البعيدة المدى، وهذه الأسلحة لم يعرفها المصريون، فأخضعوا الدلتا وجعلوا شرق مصر وشمال الدلتا في محافظة كفر الشيخ الحالية من أهم عواصمهم ومراكزهم الهامة في مصر، ثم واصل الهكسوس زحفهم جنوباً فاحتلوا عاصمة مصر التي بالقرب من البدرشين في محافظة الجيزة الآن، ثم سيطروا على شمال الصعيد حتى منطقة القوصية بالقرب من أسيوط، وتحصن المصريون في طيبة التي هي الأقصر حالياً في جنوب الصعيد.
فالهكسوس كانوا يقتحمون البلاد من جهة الشمال، ومملكة الكوز في بلاد النوبة، مملكة قوية كانت تضم جنوب وشمال السودان وأجزاء من الحبشة، وأساءوا معاملة المصريين واستذلوهم وأجبروهم على دفع الجزية، وظلوا يحكمون مصر أو معظم مصر مدة مائة وخمسين سنة من (1720 ق م) إلى (1570 ق م).
خلاصة الكلام أن الهكسوس أصلهم عمالقة فلسطين، وأصل الهكسوس من العرب.
فملوك الهكسوس الذي حكموا مصر غير ملوك الفراعنة.
الشيخ عبد الرحمن يوسف العبسي يذكر في كتاب له اسمه: (إرم ذات العماد) يقول: إن يوسف عليه السلام نزل مصر وعاش فيها في زمن حكم ملوك الهكسوس، لذلك نجد أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن حكام مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام ينعتهم بألقاب عربية؛ لأنهم عرب مثل: لقب السيد، ولقب: العزيز وهي ألقاب عربية، ونحن نعرف أن الهكسوس عماليق من العرب البائدة، ومن أمثلة ذلك قال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] وقوله عز وجل: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف:30].
أما حينما نجح المصريون في طرد الهكسوس من مصر وسيطر المصريون مرةً أخرى على مقاليد البلاد، وبدأ عصر جديد هو عصر المجد الحربي الذي ضم كبار الملوك المصريين مثل: خوفو ورمسيس وهو نفس العصر الذي أرسل فيه سيدنا موسى إلى مصر، فنجد القرآن الكريم يذكر حكام مصر بلقب المصريين القديم فرعون، وهو اللقب المصري لكل ملوك مصر ومعناه: البيت العالي، يقول الله تعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
لاشك أن الإشارة إلى ملوك الهكسوس بالألقاب العربية، وملوك الفراعنة بلقب الفرعون أن هذا من معجزات القرآن الكريم ودقة تعبيراته، فهذا إشارة إلى أن هذا العزيز لم يكن من الفراعنة؛ لأن هذا حصل في زمن الهكسوس.
((قد شغفها حباً)) أي: خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف كالسحاب حجاب القلب.
((إنا لنراها في ضلال مبين)) أي: في خطأ عن طريق الرشد والصواب، وإقحام الرؤية للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ما فعلته هي، كعادة المغتاب، فالمغتاب يكون قصده من الغيبة رفع نفسه بتنقيص الآخرين، فعندما يقول: فلان ليس عنده ورع معناه: أنه يقصد أنني أنا الذي عندي ورع، وكأن يقول: فلان مثلاً بخيل، وهو لا يقصد فقط ذمه وإنما يريد أن يصف نفسه بالكرم وهكذا، وقوله عنهن: ((إنا لنراها في ضلالٍ مبين)) فيه توكيد بإن واللام.(87/13)
تفسير قوله تعالى: (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن)
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31].
((فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ)) أي: باغتيابهن وسوء قالتهن، استعير المكر للغيبة لشبهها له في الإخفاء، أو المكر على حقيقته.
فهو أطلق على الغيبة المكر؛ لأن الخفاء مشترك بين اللفظين، أو المقصود المكر على حسب التآمر والكيد والتخطيط، كأنها فهمت أن مكرهن ليس لأجل الغيرة، وإنما هو التآمر وكأنهن تعمدن ذلك كي تريهن يوسف عليه السلام ((فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن)) تدعوهن للضيافة مكراً بهن.
((وَأَعْتَدَتْ)) أي: أحضرت وهيأت ((لهن متكئاً)) أي: ما يتكئن عليه من الوسائد.
((وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)) أي: ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها.
((قالت)) ليوسف عليه السلام: ((أخرج عليهن)) أي: ابرز إليهن.
قال الزمخشري: قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها؛ لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهن، فتضع الخناجر في أيديهن ليقطعن أيديهن فتبكتهن بالحجة، وقد كان ذلك كما قال تعالى: ((فلما رأينه أكبرنه)) أي: أعظمنه وهبن حسنه الفائق.
((وقطعن أيديهن)) أي: جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد جرحتها.
((وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)) (حاش) أصلها (حاشا) بشين وألف، وحذفت ألفها تخفيفاً، وبها قرأ أبو عمرو.
((وقلن حاش لله)) أي: تنزيهاً له سبحانه وتعالى عن صفات النقص والعجز، وتعجباً من قدرة الله عز وجل على مثل ذلك الصنع البديع، وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية على نهج القصر وأسلوبه بناءً على ما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك في الصورة، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناهٍ في الحسن بالملك، وكل متناهٍ في القبح بالشيطان.(87/14)
تفسير قوله تعالى: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه)
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].
((قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)) أي: في الافتتان به.
((وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)) أي: امتنع طالباً للعصمة مستزيداً منها، فهو طلب من الله سبحانه وتعالى العصمة وتمادى في ذلك، وثبت على موقفه.
قال الزمخشري: الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، ونحوه: استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب، وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهم والبرهان.
((وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ)) أي: ليعاقبن بالسجن والحبس.
((وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ)).
أي: الأذلاء المهانين.
قوله: (ليسجنن) (وليكوناً) النون في الأولى ثقيلة، والثانية مخففة وهي نون التوكيد.(87/15)
تفسير قوله تعالى: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)
لما سمع يوسف عليه السلام تهديدها: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
((قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)) من الفاحشة، لأن مشقة دخول هذا السجن قليلة يعقبها راحات أبدية.
ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله: ((وإلا تصرف عني كيدهن)) أي: ما أردن مني.
((أصب إليهن)) أي: أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية.
((وأكن من الجاهلين)) أي: بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح.
قال أبو السعود: هذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى، جرياً على أدب الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب الله عز وجل، وسلب القوى عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن.
قال القاشاني: وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أدباً.
يجب أن يكون القلب دائماً متصلاً بهذا الافتقار إلى عصمة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فهذا من كمال توحيد يوسف لربه عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(87/16)
تفسير قوله تعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن)
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34].
((فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ)) أي: أجاب دعاءه.
((فصرف عنه كيدهن)) أي: أيده بالتأييد القدسي فصرفه إلى جناب القدس ودفع عنه بذلك كيدهن.
((إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) أي: إنه هو السميع لدعاء المتضرعين إليه، العليم بما يصلحهم.(87/17)
تفسير قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35].
((ثم بدا لهم)) أي: ظهر للعزيز وأهله.
((من بعد ما رأوا الآيات)) أي: الشواهد على براءته عليه السلام.
((ليسجننه حتى حين)) أي: إلى مدةٍ يرون رأيهم فيها.(87/18)
تفسير سورة يوسف [51 - 82](88/1)
تفسير قوله تعالى: (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:50 - 51].
((قال ما خطبكن إذا راودتن يوسف عن نفسه)) استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد قول يوسف عليه السلام للملك أو لرسول الملك ((ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم))؟ فجاء الجواب قال الملك: ((ما خطبكن)) أي: ما شأنكن ((إذا راودتن يوسف)) يوم الضيافة، يعني: هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ ((قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء)) أي: من قبيح، لقد بالغن في نفي السوء عنه، وهو أبلغ ما يكون في تنزيه يوسف عليه السلام عن أي قبيح؛ لأن كلمة (سوء) نكرة في سياق النفي فهي تعم، ويكون العموم قطعياً إذا أضيفت إليه كلمة ((ما علمنا عليه من سوء)) أيضاً من المبالغة في تنزيهه عن ذلك.
قالت امرأة العزيز: ((الآن حصحص الحق)) أي: ثبت واستقر وظهر بعد خفائه ((أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)) أي: إنه لمن الصادقين في قوله: هي راودتني عن نفسي.
قال الزمخشري: ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به؛ لأنهن خصومه وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال.
وكما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء.(88/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)
{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52].
تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي؛ ليعلم أني لم أخنه بالغيب؛ لأن يوسف في هذه اللحظة لم يكن حاضراً، وإنما تم استدعاء النسوة ثم قال لهن الملك: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]؟ هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51].
فإذا كان هذا الحوار في غياب يوسف عليه السلام لم يكن الملك قد أحضره بعد، فتقول امرأة العزيز: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي العزيز أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر الذي هو الفاحشة، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة.
((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) أي: لا يرضاه ولا يسدده.(88/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
أي: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته، أو ما أبرئ نفسي من الخيانة فإني قد خنت يوسف لما رميته بالذنب، وذلك لما قالت لزوجها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] وأودعته السجن ظلماً وعدواناً، فهي تريد أن تعتذر مما كان منها، أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام.
وهناك قول آخر: أن القائل: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) هو يوسف؛ لكن القول الأرجح والأليق بالسياق هو نسبة ذلك إلى امرأة العزيز.
ثم يقول: وقد حكاه -أي هذا القول- الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فأفرده بتصنيف على حدة.
ويشير القاسمي هنا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أفرد هذه الآية بالتصنيف؛ للانتصار للقول بأن قائل ذلك هو امرأة العزيز.
ثم يقول: وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف يقول: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه، وهو القول بأن هذا من كلام يوسف عليه السلام، والمعنى: أنه حينما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف أن يخرج حتى تظهر براءته، فكان ما حصل منه من التثبت والتريث والتأني سببه لتعلم براءته، حيث يقول: ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه؛ لأن المعصية خيانة، ثم أكد أمانته بقوله: ((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وسدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] فتآمر العزيز وامرأته على أن يسجنا يوسف عليه السلام رغم ظهور الآيات الدالة على براءته.
ثم أراد يوسف عليه السلام أن يتواضع لله ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس قائماً من نفسه، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: ((وما أبرئ نفسي)) أي: لا أنزهها من الزلل ولا أشهد لها بالبراءة بالكلية ولا أزكيها؛ فإن النفس البشرية تأمر بالسوء وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ.
هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف، وأشهر من قال بذلك كما ذكرنا من المفسرين ابن أبي حاتم، وابن جرير الطبري.
قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك، والله تعالى أعلم.
قوله عز وجل: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) ما إعراب بالغيب؟ هي جار ومجرور حال من الفاعل أو من المفعول، أي: حال كوني غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني.
أو (بالغيب) ظرف أي: بمكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.
((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بطريق الأولى، وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم كقوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:30] أي: في قولهم، وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.
قال في الإكليل: إذا كان يوسف عليه السلام هو القائل: ((وما أبرئ نفسي)) فلا شك أن هذه الآية دليل أصلي على التواضع، وكسر النفس وهضمها، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي) فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن رسول الله عليه السلام أولى بكل فضيلة من كل من عداه من الأنبياء والمرسلين.
قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها ثم قال-: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.
وفعلاً مما يؤذي جداً أننا إذا راجعنا كتب التفسير في مثل هذا الموضع، نجد الملفقة والمتكلفين والمتنطعين والقصاصين قد زادوا وأعادوا في تلفيق القصص التي لا مستند لها في هذه المواقف كما ذكروا هنا: أن يوسف عليه السلام لما قال: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) فقال له جبريل: أين ذهب همك بها؟ فرد وقال: ((وما أبرئ نفسي)).
وكل هذا من التلفيق ومن العدوان على مقام أنبياء الله ورسله المعصومين، حتى الآن كل من له تعلق بهذه القصة يقطع بنزاهة يوسف عليه السلام، حتى إبليس نفسه نزه يوسف عليه السلام حينما قال {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] فاستثنى المخلصين، والله عز وجل وصف يوسف بأنه من المخلصين بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] أي: من الذين لن يجد الشيطان إليهم سبيلاً، وامرأة العزيز نزهته والنسوة نزهنه، والشاهد الذي شهد نزهه، ومع ذلك لم ينزهه هؤلاء القصاصون الملفقون؛ فينبغي أن يحذر من مثل هذه الروايات الملفقة المصنوعة.
قال الناصر ولقد صدق في التوقيع على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك دأب المبطلة من كل طائفة، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.(88/4)
قوة عفة يوسف عليه السلام وحفظ الله له
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت لـ ابن القيم في الجواب الكافي في صبر يوسف وعفته مع الدواعي من وجوه.
وهذا بلا شك من أعظم نماذج العفة وحبس النفس عما حرم الله سبحانه وتعالى، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد.
والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه: أحدها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً بل يحمد كما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن).
الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشباب وحدته أقوى.
الثالث: أنه كان عزباً ليس له زوجة ولا سرية تكسر ثورة الشهوة.
الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه.
الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر: وزادني كلفاً في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فطباع الناس مختلفة في ذلك.
السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع: أنه لا يخشى أن تنم هي عليه ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء.
العاشر: أنه كان مملوكاً لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأُنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا.
الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: ((أعرض عن هذا)) وللمرأة: ((استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع.
وهذا لم يظهر منه غيرة.
ومع هذه الدواعي آثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه.
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة.
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.(88/5)
تفسير قوله تعالى:.
(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي)
أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته فقال عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].
هذه الحادثة مع الملك لا مع العزيز، وكان العزيز وزير الملك، والملك كان أعلى من العزيز.
((وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي)) أي: أخصها به دون العزيز، جرياً على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز، قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، فعلم كرم نفسه وسعة علمه فقال: ((ائتوني به أستخلصه لنفسي)) أي: أجعله من خاصتي دون العزيز.
((فلما كلمه)) أي: فلما أتوا به وخاطبه الملك وعرفه وشاهد فضله وحكمته وبراءته.
وجوز أن يكون الفاعل في قوله: ((فلما كلمه)) يوسف عليه السلام.
((قال إنك اليوم لدينا مكين)) أي: ذو مكانة عالية ومنزلة، ((أمين)) أي: مؤتمن على كل شيء.
روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال الملك لهم: هل نجد مثله رجلاً مهبطاً للإمداد الرباني؟ فقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر، ونزع خاتمه من يده ووضعه في أصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقاً في عنقه، وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له: لا يمضي أمر ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه: مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه، وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة، والله تعالى أعلم.
قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام علم يقيناً أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى خلفان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه، ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار، فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيداً، ولا للتجارب تهديداً، ولم يخف للسجن ظلماً وشراً، ولا للتنكيل به ألماً وضراً، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب، نال بطهارته وتقواه تاج الفخر، ولسان الصدق طول أيام الدهر.
يعني: يكفي أن قصة يوسف عليه السلام تتلى إلى أن تقوم الساعة، فهي عبرة لكل معتبر، ومثل أعلى للبشرية في هذا الموقف بالذات، فلا شك من هذا كله أنه {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] وأن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالاً نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذاً نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدىً نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار، فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.(88/6)
تفسير قوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)
قال عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
أي: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن الأرض، أي: خزائن أرضك، أي: جميع الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: ((إني حفيظ عليم)) أي: أمين أحفظ ما تستحفظني، عالم بوجوه التصرف فيه.
ومن أروع ما يستدل به هنا على معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فنلاحظ يوسف عليه السلام ما أثنى على نفسه بحسن الصورة مع أن الله أعطاه شطر الحسن كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، والنسوة قلن: ((إن هذا إلا ملك كريم)) ومع ذلك ما قال: إني أوتيت شطر الحسن، ولم يتفاخر بانتسابه إلى الآباء والأجداد مع أنه هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظر إلى ما وصف به نفسه فقال: ((إني حفيظ عليم)).
قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه.
وكذلك موسى عليه السلام وصفته ابنة الرجل الصالح بقولها: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)) ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة) أي: أشكو إلى الله من ثقة وأمين وعنده خوف من الله وورع وتقوى، لكنه قاصر ليس عنده الكفاءة في العمل، بينما نجد شخصاً فاجراً عنده القوة على هذا العمل، لكنه ليس أميناً، وأفضل الأحوال أن تجتمع الصفتان معاً كما قال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] جمع بين الأمانة وبين القوة.
ثم يقول الزمخشري: وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء حكم الله تعالى، وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا.
لا شك أن الأنبياء منزهون عن السعي وراء الدنيا، فلا يمكن أن يكون يوسف عليه السلام طلب الملك من باب حب الدنيا حاشاه عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد يوسف عليه السلام أن ينفع هؤلاء الناس، وأن يصل ويتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، وقد رأى أنه لا يقوم غيره مقامه.
ثم يقول: فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر، ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم.
وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.
وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه.
كان الوضع شبيهاً بوضع ملكة انكلترا تملك ولا تحكم -كما قال له هنا: لا أتميز عليك إلا بالعرش الملك- لكن الحكم الفعلي لرئيس الوزراء، فيبدو أن هذه الصورة التي كانت بين يوسف عليه السلام وبين هذا الملك.
وهذه الآية كما هي أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم، فهي أصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحة، وفي أن المتولي أمراً شرطه أن يكون عالماً به خبيراً ذا فطنة.
قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرض بعدما قال له الملك: ((إنك اليوم لدينا مكين أمين)) ((قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) ثم جاءت الآية مباشرة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] إلى آخره ولم تحك الآيات الكريمة ما رد عليه الملك ولم يقل: وثقت أو قبلت ذلك إلا إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له، وهو غني عن التصريح، لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله: ((إنك اليوم لدينا مكين أمين))، وللتنبيه على أن كل ذلك من فعل الله عز وجل، وإنما الملك آلة وسبب في ذلك.
قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات يقول القاسمي: ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره، والأهرام بفتح الهمزة جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة عن القاهرة أميال معدودة، من غرائب الدنيا.
ثم يقول: دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم، ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية، آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور.
يعني: كما تعلمون كان المصريون القدماء يعبدون الملوك، والملوك كانوا يسخرون الشعب تسخيراً قبيحاً جداً كما هو محفوظ.
وهذا الكلام الذي يذكره القاسمي أو ينقله عن كتاب (الأثر الجليل) هو لم يذكر بالضبط تاريخ طباعة الكتاب، لكن إذا كان من أيام ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين فقد طبع من مدة بعيدة، ولا نجزم هل كان هذا الكلام قبل اكتشاف حجر رشيد، أم بعد اكتشاف حجر رشيد؟ لأن حجر رشيد هو الذي فتح باب الشر علينا، حينما أعان على ترجمة اللغة الهيروغليفية، وبالتالي لم ينفتح علينا مجرد اكتشاف آثار قدماء المصريين ومعرفة لغتهم، وإنما انفتح باب التكلم عليهم بإعجاب وبفخر وباعتزاز، مع كونهم من الوثنيين، فهذه خطة استعمارية خبيثة، كما تعرفون لو راجعتم التاريخ بداية الاكتشاف أعتقد كان هناك شخص يهودي اسمه روتشل تقريباً أراد أن يمول عملية اكتشاف الآثار المصرية مقابل الترويج للتاريخ الفرعوني القديم، بحيث يزاحم العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في أيامها، القصة معروفة تجدونها في كتاب (الإنتاجات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور محمد حسين رحمه الله.
والآن كل بلد يكتشف فيها آثار قديمة يتوقع شراً بسبب الاكتشافات لتلك الأيام الماضية.
في البحرين أيضاً حصلت اكتشافات كلها تدور حول الشركيات والوثنيات وكل هذه الأشياء من أجل أن ينفخوا في هذه الروح؛ لإيجاد البديل عن العقيدة الإسلامية، فيفخر الناس بالانتماء إليه ويعتزون بهذا الذي يسمى بتراث الآباء والأجداد، فالله المستعان.
أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك خوفو، والثاني للملك خفرع والثالث للملك منقرع وجميعهم من العائلة المنفيسية، ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب أو مدرسة للمعارف الكهنوتية أو غير ذلك.(88/7)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض وكانوا يتقون)
قوله تعالى {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56].
الأرض هي أرض مصر.
((يَتَبَوَّأُ مِنْهَا)) أي: ينزل من بلادها ((حَيْثُ يَشَاءُ)) وذلك أنه عليه السلام لما ولاه الملك النظر على خزائن مصر تجول في قطرها، وطاف في قراها والأمر أمره والإشارة إشارته، عناية منه تعالى ورحمة، كما قال: ((نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) أي: الذين أحسنوا عملاً.
كل هذا برحمة الله جزاء على الإحسان الذي رعاه يوسف عليه السلام؛ لأن يوسف عليه السلام عبد الله كأنه يراه، وكما ذكرنا من قبل أن الإحسان هو الغاية من خلق البشر، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] قال: أحسن ولم يقل أكثر، فإذا أردنا معنى الإحسان نرجع إلى حديث جبريل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو الذي فعله يوسف عليه السلام: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
فهذه قاعدة: لا يمكن أن يحسن الإنسان العمل ويملك نفسه ابتغاء وجه الله عز وجل، ثم بعد ذلك يضيعه الله عز وجل أو يهدر عمله ويضيع ثوابه.(88/8)
تفسير قوله تعالى: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا)
{وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57].
أي: ثواب الآخرة خير للمؤمنين المتقين من ثواب الدنيا، وفي هذا إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك.
إذاً: انظر كيف حظي يوسف عليه السلام بشرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الدنيا وعز الآخرة؛ وذلك مقابل أن ضبط نفسه وخاف ربه في هذه اللحظات العصيبة التي مرت به.(88/9)
تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه)
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58].
هذه إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف عليه السلام، وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل الرمل كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع المخصبة، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس من سائر البلاد في المسير إلى مصر ليمتاروا منها لأنفسهم وعيالهم، لما علموا وجود القوت فيها، وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف عليه السلام عن أمر أبيهم يعقوب عليه السلام لتناول القحط بلادهم فلسطين، فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف؛ خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف، فلما هبطوا مصر دخلوا على يوسف عليه السلام ولم يعرفوه؛ لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، ثم إنه يبعد جداً أن يتخيلوا أن أخاهم الذي ألقوه في الجب يمكن أن يكون هو الملك الفعلي والحاكم في أرض مصر، فلذلك قال تعالى: ((وهم له منكرون)) وقد تخلصوا منه بأن باعوه رقيقاً يلتقطه بعض السيارة، فكيف يقفز إلى أذهانهم أن يكون قد وصل إلى هذا العز الذي وصل إليه والجاه؟! وفي نفس الوقت كان شكله قد تغير عما كان عليه زمن الصبا والحداثة.
أما هو فعرفهم، روي: (أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض تحية له، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان -يعني: فلسطين- لنبتاع طعاماً، فقال لهم: لعلكم جواسيس، قالوا: معاذ الله! ما جئنا إلا للميرة؛ لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة بنو أب واحد، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر هلك منا واحد، قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن ابنه الصغير الذي هلك، قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وائتوا بأخيكم الصغير إلي ليتحقق صدقكم، ثم أخذ شمعون واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق)، وهذا ما أشير إليه بقوله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59].
((وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) بفتح الجيم وقرئ وبكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة، فيها كناية عن وفرة ما أعطاهم إياه من الطعام والميرة أي التمويل.
((أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ)) أي: أتمه، ((وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: خير المضيفين، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به لا امتنان.(88/10)
تفسير قوله تعالى: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:60 - 61].
((فلا كيل لكم عندي)) أي: لو جئتم مرة ثانية لا كيل لكم عندي.
((ولا تقربون)) أي: ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية، وحذفت الياء تخفيفاً.
والنون في قوله: (ولا تقربون) هي نون الوقاية.
((قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ)) أي: سنحتال في انتزاعه من يد أبيه ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله.
((وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)) أي: ذلك من المراودة أو الإتيان به، فيكون ترقياً إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.(88/11)
تفسير قوله تعالى: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم)
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62].
((وقال لفتيانه)) أي: لخدامه الكيالين ((اجعلوا بضاعتهم في رحالهم)) يعني ببضاعتهم ما شروا به الطعام إما الذهب أو الفضة وروي أنها كانت فضة، أي: اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون.
((لعلهم يعرفونها)) أي: لكي يعرفوها.
((إذا انقلبوا إلى أهلهم)) أي: وفتحوا أوعيتهم.
((لعلهم يرجعون)) أي: حسبما أمرتهم به، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع، كل هذا تحريض لهم على أن يرجعوا، وهذا من الإحسان والإكرام، حيث أعطاهم هذه الميرة وأعطاهم أيضاً الثمن الذي بذلوه وهو الفضة.
وفي تفسير آخر لقوله: ((لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون)) أي: أن يتحرجوا إذا وجدوا المال فيحرصون على أن يعيدوه إلى صاحبه، ولكن قد يدفع هذا التأويل قولهم فيما بعد: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65] فهموا من ذلك أنها ردت إليهم تفضلاً، {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف:65].(88/12)
تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل)
{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63].
((فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)) أي: أنذرنا بمنعه بعد هذا إن لم نأت بأخينا فيما يستقبل.
((فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ)) أي: نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وقرئ: ((فأرسل معنا أخانا يكتل)) أي: يكتل أخونا لنفسه مع اكتيالنا.
((وإنا له لحافظون)) أي: من أن يناله مكروه.
((وإنا له لحافظون)) هذه نفس العبارة التي قالوها في حق يوسف عليه السلام، فلذلك أثاروا شجون يعقوب عليه السلام وذكروه بما مضى من قولهم في حق يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12] فقال: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
((قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل)) أي: هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق أكثر مما أخذت عليكم في يوسف، فقد قلتم: ((وإنا له لحافظون)) ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك؟ فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض الأمر إلى الله ((فالله خير حافظاً)) أي: خير منكم ومن كل أحد هناك قراءة أخرى: ((فالله خير حِفظاً)) وهذا فيه إيماء إلى أنه مستعد أن يرسله؛ لأنه قال: ((فالله خير حافظاً)) أو ((فالله خير حفظاً)).
((وهو أرحم الراحمين)) أي: أرحم من والديه وإخوته.(88/13)
تفسير قوله تعالى: (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم)
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65].
أي: وجدوا ثمن طعامهم في متاعهم، روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفاً لدابته فرأى فضته في فم متاعه فقال لإخوته: قد ردت دراهمي وهاهي في متاعي، ثم لما وصلوا أرض كنعان وأخذوا يفرغون أوعيتهم وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه، فاستطارت قلوبهم ودهشوا، وحمدوا عناية الله بهم.
((قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)) أي: ماذا نبتغي وراء ذلك؟ فلا مزيد على ما فعل، فقد أكرمنا وأحسن مثوانا بإنزالنا عنده ورد الثمن علينا، والمقصود من هذه العبارة استنزال أبيهم عن رأيه كي يأذن لهم في استصحاب أخيهم.
أو من البغي بمعنى: لا نبغي في القول ولا نكذب في هذه القصة التي حكيناها لك من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره في إحضار أخينا، أو: ما نبغي ولا ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا.
وقرئ على الخطاب: ((يا أبانا ما تبغي)) أي: أي شيء تطلب غير هذا الدليل على صدقنا.
((هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا)) جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا وهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلاً من حيث لا ندري؟! ((وَنَمِيرُ أَهْلَنَا)) هذا معطوف على مقدر مفهوم أي: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك، أي: نأتيهم بطعام، ومنه: ما عنده خير ولا مير.
((وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ)) أي: باستصحابه ((ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)) أي: سهل على هذا الملك المحسن لسخائه، فلا يضايقنا فيه، أو المعنى: ((ذلك كيل يسير)) أي: قصير المدة، فليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير، أو المعنى: ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله، وقال ابن كثير: هذا من تمام الكلام وتحسينه أي: أن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا.(88/14)
تفسير قوله تعالى: (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله)
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66].
قال لهم أبوهم: ((لن أرسله معكم)) أي: لن أكتفي بقولكم هذا الذي تقولونه، ولا بد أن أستوثق بأن تؤتون عهداً ويميناً من الله ((لَتَأْتُنَّنِي بِهِ)) أي: لتردنه عليّ ((إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)) أي: أن تغلبوا كلكم فلا تقدروا على تخليصه، وأصله من أحاط به العدو وسد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه.
((فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)) أي: شهيد رقيب، والقصد حثهم على ميثاقهم لتخويفهم من نقضه بمجازاته تبارك وتعالى.
قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها.
هنا لطيفة: قال الناصر: ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر: البلاء موكل بالمنطق، فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13] فابتلي من ناحية هذا القول.
وقال هاهنا ثانياً: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] أي: تغلبوا عليه، فابتلي أيضاً بذلك وأحيط بهم وغلبوا عليه.(88/15)
تفسير قوله تعالى: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد)
{وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67].
((وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)) أي: لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند فيريب بهم؛ لأن دخول قوم على شكل واحد وزي متحد على بلد هم غرباء عنه مما يلفت نظر كل راصد، هذا من التلطف المشار إليه في قوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19] التلطف والحذر ينبغي أن يكون سمة للمؤمن، وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، وكانت جميع المدن تقريباً تحصن بالأسوار، مثلاً: الإسكندرية كانت مسورة بالسور الذي لا تزال آثاره موجودة في الشلالات، هذا السور الذي بناه عمرو بن العاص رضي الله عنه.
فكل مدينة كانت مسورة بسور يحميها ولا ينفذ إليها إلا من باب المدينة، وعلى كل باب حرس، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه وإتباع البصر.
وقيل: نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة.
قوله: ((وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) أي: لا أدفع عنكم شيئاً مما قضي عليكم؛ فإن الحذر لا يمنع القدر.
ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف وقد قال عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة، وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير، وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى وهروب منه إليه.
((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)) أي: لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء.
((عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)).(88/16)
تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم)
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68].
((وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ)) أي: من الأبواب المتفرقة: ((مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ)) أي: ما كان ذلك الدخول يغني عنهم ((مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا)) أي: أبداها.
((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ)) أي: علم جليل لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير، يعني: الإنسان له أن يأخذ بالأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب وإنما يتعلق بمسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، ولقد مدحه الله سبحانه وتعالى بهذا المسلك رغم أنه قال لهم: ((يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)) -أي: خذوا بالأسباب-؛ إلا أنه استدرك فقال: ((وما أغني عنكم من الله من شيء)).
((وإنه لذو علم لما علمناه)) هنا توكيد بإن وباللام، ونكر أيضاً العلم، وعلل بالتعليم بقوله: ((لما علمناه)) والتعليم مسند إلى ذات الله عز وجل، ففي ذلك من الدلالة على علو شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى، أفاده أبو السعود.
((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أي: فيظنون الأسباب مؤثرات.(88/17)
المسلمون أولى بالأنبياء
نحن نتكلم عن يعقوب عليه السلام وعن يوسف وعن جميع أنبياء الله بمنتهى الفخر والاعتزاز؛ لأنهم على ملتنا وعلى ديننا الإسلام، ففي الحقيقة نحن أولى بيعقوب وبيوسف من اليهود، فاليهود قد يحلو لهم الاستدلال أحياناً بآيات من القرآن على إثبات أن فلسطين كانت لهم، ويذكرون قصة سليمان وداود وموسى ويعقوب ويوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بل حتى الأهرامات هذه فهي بلا شك آية؛ لما ظهر فيها من القوة العلمية والعملية بالنسبة للناحية المدنية؛ لأن في هندسة الأهرام من الأسرار العلمية العميقة ما يجدون لها تعليلاً، ويكفي التحنيط فهم حتى الآن لم يعرفوا كيف تم تحنيط قدماء المصريين، فقدماء المصريين بلا شك كانوا على درجة عالية جداً فيما يسمى بالحضارة والتقدم العلمي في زمنهم، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الناس قالوا: إنه لا يمكن أن يكونوا قد قدروا على ذلك إلا بالاستعانة بالجن، فاليهود الآن يشيعون أن الذي نفذ هذه الأهرامات وصممها هو مهندس يهودي؛ كي يثبتوا لهم حقاً في كل مكان، كما تعرفون أسلوب اليهود لعنهم الله.
وكذلك بالنسبة للنصارى فهم يدعون محبة عيسى ويؤلهونه، وعيسى سيلعنهم يوم القيامة، وحينما ينزل عيسى في آخر الزمان سوف يقتلهم ولن يقبل منهم إلا الإسلام، ولا تقبل حينئذ الجزية لا منهم ولا من غيرهم، فهم بين خيارين: إما أن يسلموا، وإما أن يقتلوا، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] وعيسى ما مات، إنما سيموت بعدما ينزل في آخر الزمان، فنحن أولى بعيسى منهم.(88/18)
الحرب بين المسلمين واليهود
نحن الآن في حرب مع اليهود لعنهم الله، فلو بعث موسى أو عيسى أو سليمان أو يوسف أو أي نبي من أنبياء الله عز وجل فإنه سيكون مع المسلمين إذا رفعوا راية لا إله إلا الله، فالرسول لا يمكن أن يقاتل تحت راية جاهلية أو وطنية أو قومية أو غير ذلك، لكن هذه الحرب قطعاً ستكون حرباً إسلامية، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] حتى إن الحجر نفسه والشجر يقول: يا مسلم! يا عبد الله! ولم يصفه بأي صفة أخرى، فلم يقل له: يا مصري، يا سوري، يا شامي، يا سعودي! بل يقول: يا مسلم! يا عبد الله! فهؤلاء فقط هم الذين يستطيعون أن يذلوا اليهود ويردوهم إلى حجمهم الحقيقي، أما النماذج التي يراها اليهود الآن فلا شك أن من حق اليهود أن يفتخروا ويتكبروا ويتجبروا؛ لأنهم يجدون كائنات مثل الصراصير تتعامل معهم، لا عزة ولا كرامة ولا أنفة ولا إخلاص لبلادهم ولا شيء من هذا، فهل يلام اليهود على ما يفعلون بالمسلمين؟ ما الذي يمنعهم من التمرد والتنمر؟! لا يردعهم إلا الإسلام، ولذلك يخافون جداً من أن تصطبغ الحرب مع اليهود بصبغة دينية.
فهذا كاسترو لما نصح السفير اليهودي في كوبا قال له: أحذركم أن تصطبغ الحركات الفدائية بصبغة إسلامية أو صبغة دينية.
لماذا؟ لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يضر اليهود، وهم يعرفون هذه الدروس جيداً ويحفظونها، ولذلك كل همهم إطفاء نور الإسلام خوفاً وهلعاً من عودة الروح الإسلامية في القتال مع اليهود لعنهم الله، فالحديث بلا شك ذو شجون، لكن أهم ما في الأمر أنهم الآن يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى لإعادة بناء الهيكل الذي بناه سليمان كما يزعمون.
من الإله الذي كان يعبده سليمان؟ هو الله سبحانه وتعالى، ما الدين الذي كان عليه سليمان؟ هو الإسلام {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42] فسليمان كان على الإسلام، وموسى كان داعياً إلى الإسلام، ويوسف كان داعياً إلى الإسلام وهكذا، فإذاً لو بعث أنبياء الله عز وجل وقامت حرب إسلامية بين المسلمين وبين أعداء الله اليهود فسينضم هؤلاء الأنبياء إلى المسلمين، وهذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب، ولذلك إذا انتزع العنصر العقائدي من قضية فلسطين سوف يسهل جداً على اليهود أن يقنعوا من يسمونهم بالعرب بعدالة قضيتهم.
إذاً العنصر العقائدي هو روح القضية، إنه وطن إسلامي دخل فيه حكم الإسلام فلا يجوز أن يمنح هبة لأحفاد القردة والخنازير، إذا انتزعت هذه القضية ما أسهل أن يقنعنا اليهود ويسكتوننا، كما كانوا يفعلون قديماً فيما يسمى بمجلس الأمن، كان السفير اليهودي في مجلس الأمن يأتي بالقرآن الكريم ويخرج لهم الآيات التي تثبت أن لهم حقاً في فلسطين، صحيح من الناحية التاريخية المحضة إذا انتزعنا العنصر العقائدي سنقول: نعم ها هم إخوة يوسف جاءوا من أرض كنعان: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] لكن كتبها لهم على أنهم مسلمون، وكذلك جاء الدين الإسلامي الذي نسخ كل ما سبقه من الشرائع، فلذلك لو بعث موسى كما قال الرسول عليه الصلاة السلام: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني، ثم تلا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا)) [آل عمران:81]) أي: أن كل نبي من الأنبياء حينما يبعثه الله لابد أن يأخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه، فيقر بذلك.(88/19)
حياة الخضر
وقوله عليه الصلاة السلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) من الأدلة على أن الخضر ليس بحي وأنه قد مات عليه السلام، إذ لو كان حياً لما وسعه إلا أن يأتي وينصر الرسول عليه السلام ويبايعه على الإسلام.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، فدل على أن الخضر لم يكن موجوداً، إذ لو كان موجوداً لكان متعيناً عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(88/20)
اليهود يشتمون الأنبياء
اليهود يشتمون الأنبياء، كسليمان وداود وغيرهما عليهما السلام، فهم يصفونهم بالكلام القبيح الماجن، وينسبون إليهم شرب الخمر وفعل الفواحش، وأن سليمان أشرك بالله قبل أن يموت إلى آخر هذا الكلام الكفري.
فهم الذين يؤذون الأنبياء، إذاً من أولى بالأنبياء؟ نحن أولى بالأنبياء، سليمان معنا، ويوسف معنا، وداود معنا، وموسى نفسه عليه الصلاة والسلام معنا تماماً، كما نقول للنصارى في حق عيسى، وكما نقول للشيعة في حق أهل البيت وفي حق علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(88/21)
الحرب بين المسلمين ويهود إسرائيل
إذاً القضية الفلسطينية قضية عقائدية، حين نجد هؤلاء الممسوخين من أمثال عرفات وغيره ممن يذلون أنفسهم يوماً بعد يوم ولا يرجعون بطائل، واليهود يمعنون في إذلالهم فزادوهم رهقاً؛ لأن عنصر العقيدة ألغي من القضية.
لن تعود فلسطين إلا بالإسلام، هذا لا شك فيه على الإطلاق، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] وكما قلنا من قبل مراراً: الأمة المسلمة قد آتاها الله أشرف كتاب، وبعث منها أشرف رسول، بأشرف لغة، في أشرف بقاع الأرض وهي مكة، في أشرف شهور السنة وهو رمضان، وفي أشرف ليلة منه وهي ليلة القدر؛ لقد اجتمع لها الشرف من كل وجه، فالعزة في التمسك بالقرآن، فإذا فقدنا مصدر العزة فسنعود إلى الوضع الأصلي الذي كنا عليه، وهو وضع تأثير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) كما قال عمر رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الإسلام، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله).
(مهما) جملة شرطية، المعنى: أن الذي يؤتيه الله النعمة ويكفر بها لا يكون كمن لم يؤتها حتى وإن كفر، ولذلك قال الله للحواريون لما طالبوا بالمائدة: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] فلذلك هذه الأمة إذا قطعت صلتها بالإسلام ستعود إلى التخلف والذل والهوان؛ لأن هذا هو وضعها الأصلي، وما رفع عنها الذل والهوان إلا بالإسلام، فإذا تخلت عن الإسلام تعود في ذيل الأمم.
فـ هتلر كان يعتبر اليهود أخس أجناس البشرية، بسبب الغدر والخسة والنذالة وقتلهم الأنبياء، ومع ذلك فأقدام اليهود الآن على رءوس من ينتسبون زوراً وكذباً للإسلام، فسيكون التفاضل بيننا وبينهم في العقيدة، فإذا نحن تخلينا عن العقيدة فلا شك أنهم سيتفوقون علينا في الدنيا.
الحوادث التي حصلت في الأيام الأخيرة، مثل فضيحة نتنياهو تنظر الناس لها على أن الموضوع كان تلقائياً، لا.
فاليهود يحاولون أن يلقنوا العالم كله درساً، بحيث يظهرون أنفسهم بأنهم الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فبالتالي تستحق عطف الغرب بدل هؤلاء العرب الهمج، فاليهود يلفتون أنظار العالم كله وذلك بإبراز العدل عندهم، في حين يظهرون الغش والتزوير الموجود عند العرب بواسطة خبراء في هذا الجانب، فهي عملية تلميع لصورة اليهود لعنهم الله، ثم يأتي بعض ممن ينتسبون إلينا من الصحفيين العرب ويشيدون بالديمقراطية في إسرائيل، وكان من ضمن هذه العبارات: ليس عيباً أن نأخذ الدرس من إسرائيل ولكن العيب ألا نفهمه.
فالشاهد أن كل هذا محاولة تلميع صورتهم، وبالتالي تقبيح صورة من ينتسبون إلى الإسلام، وفي الحقيقة الإسلام مظلوم من الفريقين، لأننا لم نمثل الإسلام التمثيل الصحيح بل تخلينا عنه، وبسبب تخلينا عنه وصلنا إلى هذا الذل وهذا الهوان، وإلا لو كان عند الملك حسين ذرة من كرامة لما قبل المدعو بيجن، وهو يقول: نحن دائماً نتعاون مع بعض، فإذا تعاونت العبقرية اليهودية مع المال العربي أنتجت جنة في الأرض.
معنى ذلك: أن العرب ليس لهم قيمة إلا بالمال وبالبترول، وليس عندهم عقلية ولا عبقرية ولا إبداع.
واليهود من قبل شبهوا العرب بأنهم عبارة عن حيوان من ذوات الأربع يقف على أرض من ذهب، هذه صورة العرب عندهم، أي: أن كل قيمتهم في الأرض التي يقفون عليها، ولذلك الأمريكان أيام حرب الخليج قالوا -والعياذ بالله ونستغفر الله من حكاية هذا الكلام! -: نحن توجهنا لنصحح خطأ الرب -أستغفر الله- إنه أعطى هذه الأمة ما لا تستحقه من الثروات، ومن البترول بالذات.
فالشاهد من هذا أننا في كفة غير متعادلة، فاليهود دولة عقيدية اسمها إسرائيل، نسبة إلى نبي الله إسرائيل عليه السلام وهو يعقوب، ليس في إسرائيل دستور، وإنما دستور إسرائيل هو التوراة المحرفة، المناهج التعليمية كلها مصطبغة بصبغة دينية، أنا لا أدري ما سر أن الجماعات الدينية اليهودية في فلسطين المغتصبة لا يسمون المتطرفين؟! لماذا نحن نختص بلفظ التطرف؟ فكل يهودي متطرف سواء كان شيوعياً أو يسارياً أو يمينياً؛ لأن التطرف هو الانحراف عن الإسلام بفهم أهل السنة والجماعة، سواء داخل دائرة الإسلام أم خارجها.
فنعود إلى موضوعنا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الملل: كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة إشفاقاً عليهم، إما من إصابة العين، وإما من تعرض عدو أو مستريب بإجماعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم، وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم، ولكن لما كان طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم:11] حمله ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب، وإن كان ذلك لا يغني شيئاً، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن.
قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أن العين حق كما ثبت ذلك في الحديث، وأن الحذر لا يرد القدر، ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب.
وقال بعض اليمانيين: لهذه الجملة ثمرات: وهي استحباب البعد عن مضار العباد والحذر منها، فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه، ثم ناقش القاسمي رحمه الله تعالى بالتفصيل قضية الحسد وتأثير العين وأنه حق في بحث واف شاف كاف ورد على المنكرين لذلك.
فنحن نتجاوزه مع أهميته وروعته اختصاراً، فمن يحتاجه يراجعه في تفسير هذه الآية.(88/22)
تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه لسارقون)
قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69].
يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه ضم إليه أخاه بنيامين إما على الطعام أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه وقال له: ((لا تبتئس)) قيل في بعض الروايات: إنهم لما دخلوا كان عددهم عشرة، وجلسوا اثنين اثنين على الطعام أو عند المنام، وبقي هو وحده وجلس يبكي استيحاشاً، فانضم إليه يوسف، والله تعالى أعلم.
فالله أعلم على أي الأحوال ضم إليه أخاه بنيامين إما على الطعام أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه وقال له: ((لا تبتئس)) أي: لا تحزن ((بما كانوا يعملون)) بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير.
وقد روي أنهم لما قدموا عليه ووقفوا بين يديه رأى أخاه بنيامين معهم، فأمر بإنزالهم في بيته وحلولهم في كرامته وضيافته، وحضورهم معه في غدائه، ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له، وسألهم عن سلامة أبيهم، ورفع طرفه إلى أخيه فأدناه وآواه إليه وآنسه بحديثه كما ذكر في الآية، ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده، فتواطأ مع فتيانه إذا جهزوا إخوته أن يضعوا سقايته في رحل أخيه، كما بينه تعالى بقوله: ((فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) أي: من الطعام، ((جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ)) وهي جام فضة يشرب به يوسف وضعه في ميرة أخيه.
وقد روي: أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلاً عن المدينة، ثم أمر أن يسعى في أثرهم ويؤذنوا بما فقد، كما أشار إليه تعالى بقوله: ((ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)) أي: بعدما انفصلوا عن المدينة، ((أذن مؤذن)) أي: نادى مؤذن، ويقال: آذن أي: أعلم.
وأذّن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه فهو يكثر الإعلام بدخول وقت الصلاة، والمؤذن عموماً هو المنادي.
((ثم أذن مؤذن أيتها العير)) العير: هي الإبل التي عليها الأحمال؛ لأنها تذهب وتجيء، وهو اسم جمع للإبل لا واحد له، والمقصود يا أصحاب العير، وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة: عير.(88/23)
تفسير قوله تعالى: (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون وأنابه زعيم)
{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:71 - 72] الصواع هو السقاية، وهو إناء من فضة.
لو كان الإناء من فضة فيكون مباحاً في شرعه عليه السلام، فيكون شرع من قبلنا مخالفاً لشرعنا، فليس لأحد أن يحتج به على جواز الشرب في آنية الفضة، بل على المسلم أن يخاف الله ويتقيه وأن يتخلص من أواني الفضة كالشوك والملاعق وغيرها من الأواني التي تستخدم في أثاث البيت، لأنها حرام، ولا فرق بين الرجال والنساء في استعمال الفضة والذهب كأوانٍ، فهو محرم على الرجال والنساء جميعاً ما عدا الحلية منهما للنساء فجائز.
أما سجودهم لأخيهم فهو سجود انحناء وتحية، وهذا كان في شرعهم جائزاً.
قال في الإكليل: في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح واستخراج الحقوق.
قال ابن العربي: وفي إطلاقه السرقة عليهم وليسوا بسارقين جواز دفع الضرر بضرر أقل منه.
((ولمن جاء به حمل بعير)) هذا أصل في الجعالة.
((وأنا به زعيم)) هذا أصل في الضمان والكفالة.(88/24)
تفسير قوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين)
لما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73] أي: ما جئنا للسرقة، أو لمطلق الفساد، وإنما جئنا للميرة.
((وما كنا سارقين)) أي: ليس من شأننا أن نوصف بالسرقة.
وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم لما تيقنوه من حالهم في كرتي مجيئهم، بمعنى: أنكم ما جربتم علينا سرقة، وأنتم تعرفوننا جيداً.(88/25)
تفسير قوله تعالى: (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين)
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74].
((قالوا فما جزاؤه)) أي: ما جزاء السارق؟ كيف تعاقبونه في شريعتكم؟ ولأنهم متأكدون وواثقون من أنهم برآء وأن ليس فيهم سارق ((قالوا جزاؤه)) أي: في شريعتنا ((من وجد في رحله فهو جزاؤه)) أي: أن جزاء سرقته أخذ من وجد المتاع في رحله رقيقاً لمن سرق منهم.
((كذلك نجزي الظالمين)) أي: في شريعة يعقوب عليه السلام.
((فهو جزاؤه)) تقرير لذلك الحكم وإلزامه به لا غير، بحيث لا يوجد جزاء آخر نعاقبه غير الرق، ويجوز أن تكون ((جزاؤه)) مبتدءاً والجملة الشرطية خبره، على إقامة الظاهر مقام المضمر، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] أي: بالسرقة، تأكيد إثر تأكيد وبيان لقبح السرقة.(88/26)
تفسير قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه)
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
((فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ)) أي: أن فتى يوسف عليه السلام بدأ بأوعية إخوة يوسف لأبيه ومن معهم ((قبل وعاء أخيه)) بنيامين؛ نفياً للتهمة، وسبق التنبيه على نظائر ذلك.
((ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ)) أي: السقاية.
((كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)) أي: دبرنا بتحصيل غرضه.
((مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)) أي: في شرع الملك وقانونه، والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيل وصنعه، أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه رحمة منه وفضلاً، وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبد بما شاء، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته، ويستدل به على جواز تسمية القوانين الكفر ديناً، والآيات في ذلك كثيرة، مثل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] هنا أطلق على الكفر ديناً.
((إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) أي: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره، وكان إلهاماً من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر وفق المراد.
((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)) أي: بالعلم كما رفعنا يوسف، وفي إيراد صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة غير مختصة بهذه المادة.
((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ)) أي: من أولئك المرفوعين.
((عليم)) أي: فوقه أرفع درجة منه.(88/27)
تفسير قوله تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77].
عادوا من جديد لظلم يوسف وأخيه، قالوا: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون بذلك يوسف نفسه عليه السلام، سبحان الله! انظر إلى المشاعر السوداء، فإلى هذه اللحظة ما زال الحقد على يوسف والظلم والجور بالنسبة لأخيه بنيامين موجوداً، قالوا: إن يفعل فهذا شأنه هو وأخوه، وهذه أخلاقهما.
((فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)) أي: شر منزلة حيث سرقتم أخاكم يوسف من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء، فيوسف هو المسروق وليس هو السارق، وأنتم بأنفسكم الذين سرقتموه.
والعبارة التي أسرها يوسف في نفسه أنه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] أي: من أمر يوسف، هذا على أحد التفسيرين.
أو قول آخر: أنه أسر ما قالوه في نفسه ثم استأنف فقال: ((أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون)).(88/28)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً)
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78].
لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يظهرون عطفهم عليه، وذلك بأن له أباً شيخاً كبيراً يحبه حباً شديداً يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقاً عندك.
قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقاً أن يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب؛ مراعاة لشأن الكبير وسن الكبير واحترام الكبير، فتوسلوا هم بهذا الحق كما في قوله عز وجل: ((إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه)) وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ؛ لأنهم قد شابوا في الإسلام وفي التوحيد وفي الطاعة.
وما عزم عليه إخوة يوسف من إنقاذ أخيهم من العبودية المقضي عليه بها كان بلا شك عملاً صالحاً منهم، وهو مما يدل على أنهم هذه المرة أحسن طوية ووفاء مع أخيهم بنيامين، حتى إن أحدهم كان مستعداً أن يكون رقيقاً من أجل إنقاذ أخيه، ومما يدل على أنهم كانوا صادقين حينما أعطوا العهود لأبيهم على أن يحفظوه، فما عزموا عليه يعرب أيضاً عن أمانة وصدق وبر، وشدة تمسك بموثق أبيهم، وذلك محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه.
((إنا نراك من المحسنين)) أي: إنا نراك من المحسنين إلينا، فأتمم إحسانك بأن تأخذ أحدنا مكانه، أو ((من المحسنين)) أي: من المتعاونين بالإحسان فليكن هذا منه، وكما تلاحظون أن سلوك يوسف وخلقه ينبئ عن تمكن صفة الإحسان منه، فهؤلاء رفقاؤه في السجن قالوا عنه: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] وهذا شأن المسلم تظهر عليه سيما الصلاح والإحسان وتقوى الله عز وجل حيث كان، فهنا نفس العبارة قالها إخوة يوسف ليوسف: ((إنا نراك من المحسنين)).(88/29)
تفسير قوله تعالى: (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79].
أي: لا يؤاخذ أحد بجرم غيره.
قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل -أي: الدية- فهذه قضية أخرى، وهي ترجع إلى قاعدة: أن الغرم بالغنم.
مثال قضية العقل: لو أن إنساناً قَتَلَ بحيث استوجب ولي القتيل الدية، ففي هذه الحالة لا يدفع الدية القاتل وحده، وإنما تدفعها العاقلة، وهم أقاربه العصبة من الذكور، كما أنه إذا مات فهذه العاقلة ترثه وهذا غنم في مقابل العزم.(88/30)
تفسير قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80].
الذي عنده تذوق بلاغي وإحساس باللغة العربية وروعتها عند تلاوة القرآن الكريم يقف كثيراً عند هذا التركيب الفذ في هذه الآية وغيرها، حتى إن أعرابياًَ عندما سمع هذه الآية قال: أشهد أن هذا لا يقوله بشر، أي: يستحيل أن تصدر هذه العبارة من بشر، لقوة البلاغة فيها.
لو شرحت هذه الكلمات المعدودة لشرحت في صفحات كثيرة؛ لما فيها من التعبير النفيس البليغ.
((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) أي: يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد اليأس كما دل عليه السين والتاء فإنهما يدلان على شدة المبالغة في اليأس، وبيان أنهم لم يبق عندهم أي أمل في أن يستجيب لهم يوسف عليه السلام.
قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس لما شاهدوه من عوذه بالله حيث قال لهم: ((معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون)) فقابلهم بهذا الرد الحاسم الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله عز وجل، وحيث سماه ظلماً بقوله: ((إنا إذاً لظالمون)).
((خلصوا)) أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم.
((نجياً)) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ لأن النجي فعيل بمعنى مفاعل، كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] أي: مناجياً، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك.
وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والزميل.
وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة.
أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى.
ولذا قال الزمخشري: (نجياً) ذي نجوى، أو فوجاً نجياً، أي: مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً، وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكأن تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟! كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب فاحتاجوا إلى التشاور.
والقاضي عياض له كتاب الشفا، وهو من الكتب المهمة جداً جداً، فعلى الإنسان في بداية التزامه أن يمر بكتاب الشفا؛ لأن الشفا شفاء حقيقة كما وصفه مؤلفه القاضي عياض، وهو أيضاً من الكتب المباركة جداً والتي لها أعظم التأثير في قلب المؤمن، وبالذات فيما يتعلق بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وحيوية هذه الحياة في قلبه، فكتاب القاضي عياض اسمه (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) فهو من الكتب التي ينبغي أن تعطى اهتماماً خاصاً لأي أخ ملتزم، مثل: رياض الصالحين، ومثل: الأذكار للنووي، وقد ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا في بحث إعجاز القرآن: أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام! وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام، ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره في إخوة يوسف: ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.
((قَالَ كَبِيرُهُمْ)) في السن وهو روبيل: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف:80] أي: عهداً وثيقاً في رد أخيكم، وإنما جعله منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم.
((وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ)) أي: قبل هذا تعلمون أنكم قصرتم في شأن يوسف عليه السلام، و (ما) مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، أو: (ما) مصدرية في موضع رفع بالابتداء و ((من قبل ما فرطتم في يوسف))، أو في موضع نصب عطفاً على مفعول ((ألم تعلموا))، وإما موصولة ومحله الرفع أو النصب على الوجهين، بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي: قدمتموه في حق يوسف من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعدما قلتم: ((وإنا له لناصحون)) ((وإنا له لحافظون)).
((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) أي: لن أفارق أرض مصر.
((حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) أي: بالرجوع والانصراف إليه.
((أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي)) أي: بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب.
((وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ))، لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.(88/31)
تفسير قوله تعالى: (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق)
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:81 - 82].
لقد أمر كبيرهم أن يرجعوا ويخبروا أباهم بما جرى بقوله: ((ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)) أي: نسب إلى سرقة صواع الملك ((وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)) أي: ما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله ولا شيء أبين من هذا.
((وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ)) استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر، وكذا من سمع كلام شخص من وراء حجاب فهو كعدم العلم به، فهذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف.
((وما كنا للغيب حافظين)) أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق.
((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)) هي مصر أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة.
((وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)) أي جئنا معها، وكانوا قوماً من كنعان.
((وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)) أي: فيما أخبرناك.(88/32)
تفسير سورة الكهف [1 - 6](89/1)
بين يدي السورة
في هذه السورة أّمن الله تعالى أولياءه من أعدائهم، وزادهم الإغناء الكلي عن الأشياء، وذلك لما آمنوا به سبحانه وتعالى، وفيها أيضاً بعض الكرامات العجيبة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان، وهذا كله من أعظم مقاصد القرآن، فهو يبين لهم ثمرة الإيمان، وعواقب أهل الإيمان، وكيف أن الله يكرم أهل الإيمان.
وهي سورة مكية، وقيل: أولها إلى قوله: (جرزاً)، وقوله: (واصبر نفسك)، وقوله: (إن الذين آمنوا): إنها مكية كلها، وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.
ومن أشهر وظائف سورة الكهف: استحباب تلاوتها يوم الجمعة، وقد صح في ذلك بعض الأحاديث، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)، وفي حديث آخر: (من قرأ سور ة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور إلى الجمعة التي تليها).
ومعلوم أيضاً فضائل أول عشر آيات من سورة الكهف، فهي عصمة من فتنة المسيح الدجال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف:1].(89/2)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب).
قال تعالى ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قدمنا أن كثيراً ما تفتتح السور وتختم بالحمد؛ إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو المحمود على كل حال، والمحمود أولاً وآخراً، كما قال عز وجل: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص:70]، وتعليماً للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه بحمد الله، والثناء عليه تبارك وتعالى بنعمه العظمى، ومننه الكبرى.
وفي إنشار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العالية تنبيه على أنه أعظم نعمائه سبحانه وتعالى، فالحمد لله: إشارة إلى حمد الله، والثناء عليه، والشكر له بمقابل نعمه عز وجل، فالحمد يكون لله عز وجل على نعمه العظمى، ومننه الكبرى، فاختص هنا في أول هذه السورة الحمد على نعمة هي أعظم نعمة على الإطلاق، وهي إنزال الوحي.
يقول: وفي إنشار إنزال التنزيل بقوله: (الذي أنزل على عبده الكتاب) من بين سائر نعوته سبحانه وتعالى العالية: تنبيه على أنه -أي: القرآن- أعظم نعمائه، فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد، ولا شيء في معناه يماثله.(89/3)
مقامات وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية في القرآن
وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية تنبيه على عظمة المنَّزل والمنزَّل عليه، فذكره صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية من أعظم ما يمدح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لإمعانه في التذلل والخضوع والتواضع والعبودية لربه تبارك لله تعالى، فمن تواضع لله رفعه، فالنبي عليه السلام أشد الخلق وأعظمهم تحقيقاً للعبودية لله عز وجل؛ فلذلك رفعه الله على سائر الأنبياء والمرسلين، قال: في ذكره بعنوان العبودية تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه، كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء، وقد تقدم في عدة مواضع من القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى وصفه بالعبودية في أعلى المقامات، وهنا أيضاً وصفه بالعبودية في أشرف الأشياء وهي: أنه أنزل عليه الكتاب، وهذا أمر معروف في القرآن الكريم، كما في قوله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وهذا في مقام الإسراء، وهو آية عظمى من آيات الله سبحانه وتعالى، وقد صفه الله فيه بالعبودية، وفي مقام الدعوة أيضاً: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، أي: تزاحمت عليه الجن طبقة فوق طبقة، وفي مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وفي هذا كله أن شأن الرسول أن يكون عبداً للمرسِل، فما دام أنه قد أرسل من قبل الله سبحانه وتعالى فهو عبد له، لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام.(89/4)
كمال القرآن وسلامته من العوج
لقد حُلَّى الكتاب في قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) بأل العهدية، والمقصود بالكتاب هنا القرآن الكريم، فالمقصود به: الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو عبارة عن جميع القرآن المنزل حينئذٍ.
ثم أخر الكتاب على الجار والمجرور فقال: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) ولم يقل: (الذي أنزل الكتاب على عبده)، مع أن حقه التقديم عليه؛ ليتصل به قوله سبحانه وتعالى: (ولم يجعل له عوجا)، ولو قال: (الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجا) لم يكن الكلام متصلاً في شأن الكتاب؛ لأن هذا الكتاب هو الذي لم يجعل الله له عوجاً.
ومعنى: (لم يجعل له عوجا) أي: ليس فيه اختلال في نظمه، ولا تنافٍ في معانيه، أو زيغ أو انحراف عن الدعوة إلى الحق، بل إن القرآن هو الدستور الذي يعالج ويزيل العوج؛ لذا فقد جعله فقد جعله الله سبحانه وتعالى: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:2 - 3].
ومعنى: (قيماً)، أي: قيماً بمصالح العباد، وما لابد لهم منه من الشرائع، فهذا وصف له بأنه مكمل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً).
قوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، ولم يقل: (الكتاب الكامل)، من أل العهد؛ لأن أل في الكتاب هنا للعهد، وكأنه لا يوجد كتاب غيره باعتباره أكمل الكتب على الإطلاق، واختصاص هذا القرآن الكريم بالكتاب كأنه لا كتاب غيره، ثم قال: (ولم يجعل له عوجا)؛ فنفى عنه العوج، وأثبت له ضد ذلك، وهو أنه يقوم بالناس، ويصلح حالهم، ويعالج عوجهم، فقال: (قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه)، يقول: (فهو وصف له بأنه مكمَّل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه)، أو قيماً على الكتب السالفة مهيمناً عليها، أو قيماً متناهياً في الاستقامة والاعتدال، فيكون ذلك تأكيداً لما دل عليه من نفي العوج، مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له حسبما تنبئ عنه الصيغة.
وانتصبت كلمة (قيماً) بمضمر تقديره: جعله، وهناك قول آخر -وإن كان الأظهر ما ذكرناه- وهو: أن (قيماً) متعلقة بالقرآن الكريم.
وقلنا: إن الحكمة في تقديم الجار والمجرور على الكتاب ليتصل الكلام؛ لأن (قيماً) ستكون استمراراً لوصف القرآن الكريم، فهذا الوجه الأول، وهو الأظهر.
وأما الوجه الثاني: فقد ذهب القاسمي إلى أن الضمير في قوله: (ولم يجعل له عوجا)، وما بعده إنما يعود إلى كلمة (عبده)، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: لم يجعل لعبده زيغاً ولا ميلاً، وجعله صلى الله عليه وسلم قيماً مستقيماً كما أمر في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، أو قيماً عليه الصلاة والسلام بأمر العباد وهدايتهم؛ إذ التكميل يترتب على الكمال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه، فأمر بتقويمها وتزكيتها، ولهذا المعنى سمي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أمة، وهذه القيمية -أي: القيام بهداية الله- داخلة في الاستقامة المأمور هو بها، والأظهر هو الوجه الأول، وأن الكلام إنما هو في شأن القرآن الكريم.(89/5)
نذارة القرآن وبشارته
قال الله: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2]، أي: لينذر من خالفه ولم يؤمن به عذاباً شديداً عاجلاً وآجلاً، والبأس هو القهر والعذاب، وخصصه بقوله تعالى: (من لدنه)، إشارة إلى زيادة هوله، وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك عظمه بالتنكير، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف:2]، أي: بهذا القرآن الكريم.
وقال القاسمي: (ويبشر المؤمنين)، أي: الموحدين؛ لكونهم في مقابلة المشركين الذين قالوا: اتخذ الله ولداً، (الذين يعملون الصالحات)، أي: الخيرات والفضائل، (أن لهم)، أي: بأن لهم بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة، (أجراً حسناً)، وهو: الجنة، {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3].
قوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) [الكهف:4] وهؤلاء أصناف، أي: أن الذين قالوا: (اتخذ الله ولداً)، ليسوا النصارى فقط، ولكن ذلك يشمل أيضاً مشركي العرب؛ لأنهم قالوا: (الملائكة بنات الله) وخصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقاً بهم استعظاماً لكفرهم.
(وينذر)؛ لأنه قال قبل ذلك: (لينذر بأساً شديداً من لدنه) وهذا عام، ثم خص نوعاً من هذا الكفر لفظاعته وشناعته، وهو زعم الولد لله سبحانه وتعالى.
(وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)، أي: من المشركين الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله، أو من النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، فخصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقاً بهم استعظاماً لكفرهم، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين)، للإيذان بكفاية ذات حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه.
أي: أنه هنا قال: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)، في حين أنه قال في وصف المؤمنين: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات)، ولم يقل: (ويبشر الذين يعملون الصالحات)، فاستغنى في الكلام عن الكفار بذكرهم بلفظ الموصول (الذين)، ولم يقل: (الذين كفروا)؛ لأن هذا من أعظم وأشنع وأقبح أنواع الكفر.
قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:5] الهاء في قوله: (به) تعود إلى الولد، أي: ما لهم بهذا الولد المزعوم علم، أو ما لهم علم باتخاذ الله الولد، ولم يقم على هذا دليل، بل إن هذا القول لا يصدر إلّا عن جهل مفرط، وتوهُّم كاذب، وتقليد للآباء، لا عن علم ويقين، ويؤيده قوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم).(89/6)
استعظام نسبة الولد لله جل وعلا
قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] هذا أسلوب تعجب، أي: ما أكبرها كلمة (تخرج من أفواههم)، وذلك لأن الولد لله مستحيل، ولا معنى لنسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا علم يقيني يشهد أن الوجود الواجدي أحدي الذات -الوجود الواجدي: من مصطلحات المتكلمين، ومعناه واجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى- فهو أحدي الذات لا يماثله الوجود الممكن، والولد مماثل لوالده في النوع، والله سبحانه وتعالى لا مثل له، ولا مكافئ له في القوة، قال الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].
وإعراب قوله: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)، إعرابها: صفة لكذب، في محل نصب صفة للكذب؛ لأن الجمل بعد النكرات صفة، فقوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)، تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم، وهذا شيء عظيم جداً؛ لأن الكلمة تخرج من أفواههم، كيف ساغ للشعوب أن تنطق بهذه الكلمة؟ والمعنى: كبر خروجها من أفواههم- أي: عظمت بشاعته وقباحته بمجرد التفوه- فما بالك باعتقاده، لمجرد أن الفم ينطق بهذه الكلمة وهي الزعم بأن لله ولداً هذه من أقبح وأشنع ما يرتكب، فكيف باعتقاد ذلك في قلوبهم؟ قوله: (إن يقولون إلا كذباً)، أي: إن يقولون إلا خوضاً لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلاً، وذلك لتطابق الدليل القطعي والوجدان الروحي على استحالة أن يكون لله عز وجل ولد.(89/7)
تفسير مطلع سورة الكهف من أضواء البيان
أما العلامة الشنقيطي فقد فصل في مقدمة الجزء الرابع من تفسير أضواء البيان في الكلام على هذه الآية، فيقول بعد ما ذكر الآيات التي فسرناها: علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم، وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي لا اعوجاج فيه، بل هو في تمام الاستقامة؛ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وبين لهم فيه العقائد والحلال والحرام، وأسباب دخول الجنة والنار، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم، فهو النعمة العظمى على الخلق، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى، بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} الآية.
وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم منذراً من لم يعمل به، ومبشراً من عمل به، ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:174 - 175].
وقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51].
وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:76 - 77]، وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].
وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:106 - 107].
وقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86] الآية.
وقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير.(89/8)
كتاب الله مستقيم لا عوج فيه
قال الشنقيطي: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا))، أي: لم يجعل في القرآن عوجاً -و (له) هنا بمعنى (فيه) - أي: لا اعوجاج فيه البتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل؛ سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه وأخباره وأحكامه، لأن قوله: (عوجاً) نكرة في سياق النفي، فهي تعم نفي جميع أنواع العوج.
فلا يمكن أن يحصل في القرآن أي نوع من العوج أو الاضطراب، بخلاف ما يفعله البشر، فالإنسان مهما كانت ملكاته الأدبية أو العلمية فلابد أن تجد خللاً في الكتاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فالذي يبدأ بتأليف كتاب يكون نفسه طويلاً وفي الآخر يبدأ يضعف، بل الأسلوب في بعض المواضع يكون أضعف منه في مواضع أخرى، ولابد أن يأخذ على كل كتاب أي نقص، ما عدا كتاب الله سبحانه وتعالى، ولهذا عجز الكافر مع شدة عداوتهم له وحرصهم على إباطاله عن أن يمسكوا أي عيب أو عوج في القرآن، بل انطلقت ألسنتهم بعبارات الانبهار بإعجاز القرآن الكريم.
بخلاف ما تجرأ به أحد الملاحدة في هذا الزمان وهو طه حسين حينما كان أستاذاً في كلية الآداب، وأراد عدو الله أن يحطم قدسية القرآن الكريم، فكان يطالب طلبة الكلية بأن يتعاملوا مع القرآن كأي كتاب آخر عند النقد، فهذا من زندقته وكفره بكتاب الله عز وجل، وهذا معروف من تاريخه الأسود في عداوة الإسلام وعداوة اللغة العربية.
فهذه الآية كانت تكفي في إحباط ضلالته وزندقته: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1].
فكيف يوضع كلام الله على مائدة النقد والفحص والعياذ بالله؟! قال: وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه بينه في مواضع أخرى كثيرة، كقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:27 - 28].
وقال عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فقوله: (صدقاً) أي: في الأخبار، قوله: (عدلاً) أي: في الأحكام، وكقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والآيات في ذلك كثيرة جداً.
وقوله عز وجل: (قيماً)، أي: مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ، وهذا بينه أيضاً قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:1 - 3]، يعني: لا اعوجاج فيها.
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37].
وقال عز وجل: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، وقال عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وقال عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].
وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى: (قيماً) هو قول الجمهور، وهو الظاهر، وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله: (ولم يجعل له عوجاً)، لكن هذا فيه نفي العوج وإثبات القيمية؛ لأن الشيء قد يكون مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة.
وفي قوله: (قيماً) وجهان آخران من التفسير: الأول: أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ومهيمناً عليها، وعلى هذا التفسير فالآية تكون كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) [المائدة:15]، فهذه بعض مظاهر الهيمنة والتصحيح والقيمية.
الوجه الثاني: أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية، قال القاسمي: وصف القرآن بأنه مكمل للخلق بعد وصفه بأنه كامل في نفسه بأل العهدية في قوله: (الذي أنزل على عبده الكتاب)، أي: الكامل في نفسه، (قيماً) يعني: الذي يعالج عوج الناس ويزيل العوج الذي في الخلق، ويحقق لهم مصالحهم الدينية والدنيوية.(89/9)
إنذار الكفرة وتخويفهم وبشارة المؤمنين
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقوله في هذه الآية الكريمة: (لينذر بأساً شديداً) هذه اللام متعلقة بقوله تعالى: (أنزل)، يعني: (أنزل على عبده الكتاب لينذر).
وقيل: هي متعلقة بقوله: (قيماً)، والأول هو الظاهر، أما الإنذار فهو الإعلام المقترن بتخويف وتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار، والإنذار يتعدى إلى مفعولين، كما في قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14]؛ لأن المفعول الأول هو ضمير: (كم).
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول، وحذف في الثاني المفعول الثاني، فكان المذكور دليلاً على المحذوف في الموضعين، وتقدير المفعول الأول: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً، وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً بأساً شديداً.
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين، وبشارة للمؤمنين المتقين؛ إذ قال في تخويف الكفرة به: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} وقال: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}.
وفي بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً بينه قوله جل وعلا: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وفي قوله: {آلمص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:1 - 2].
أما البأس الشديد الذي أنذرهم الله إياه فهو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، والبشارة الخبر بما يسر، لكن العرب قد تطلق البشارة على الخبر بما يسوء أحياناً، ومنه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8] ومنه قول الشاعر: وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر يعني: أخبرتني بما يسوءني وأن أحبتي جفوني.
وقول الآخر: يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير إذاً: إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهذا عند الشنقيطي مجاز مرسل، وهو من أساليب اللغة العربية، ويسميه البلاغيون استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتلميحية كما هو معروف في محله، والشنقيطي كان من فطاحل البلاغة، وقد تتلمذ عليه الشيخ ابن باز في البلاغة.(89/10)
شروط العمل الصالح
هناك بعض الشروط التي لابد منها في العمل لكي يكون صالحاً: الشرط الأول: أن يكون مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله بما شرع ولا يعبده بالبدعة، ولابد أن تتقرب إلى الله بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح بل هو باطل، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، إلى آخر الآية، فلابد من شرط المتابعة.
الشرط الثاني: أن يكون العامل مخلصاً في عمله بالله فيما بينه وبين الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:11 - 15].
الشرط الثالث: أن يكون العمل مبنياً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة؛ لأن العمل كالسقف والعقيدة كالأساس، وإذا لم توجد العقيدة انهار السقف، كالروح في البدن إذا خرجت منه أصبحت لا قيمة لك ولا للجوارح الموجودة، فالعمل بدون إيمان، كما قال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فقيده بالإيمان.
فالعمل الصالح لا يكون مقبولاً ونافعاً في الآخرة إلا بأن يكون مؤسساً على العقيدة الصحيحة، أما الكافر فمهما عمل من الأعمال الخيرية أو الحسنة فإنه لا يثاب عليها في الآخرة على الإطلاق، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، تحبط كل أعمالهم في الآخرة، وقد يثابون في الدنيا إذا شاء الله ذلك؛ لأنها جنة الكافر، فيثاب الكافر بالعافية وبكثرة الولد والرزق وغير ذلك من أنواع التخفيف عن هذا الكافر في الدنيا فقط؛ لأنه المكان الوحيد الذي يمكن أن يثاب فيه، أما في الآخرة فلا يمكن أن ينفعه أي عمل بدون إيمان.
فقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، مفهومه: أن من لم يكن مؤمناً لا ينفعه عمله، وصرح به في قوله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وفي قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] وقوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) [إبراهيم:18]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.(89/11)
بشرى المؤمنين بالحسنى
قال عز وجل: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2]، يعني: وليبشرهم بأن لهم أجراً حسناً، والأجر هو جزاء العمل، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر هو الجنة.
ولهذا قال: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3] فلذلك صح تفسير الأجر الحسن بأنه الجنة؛ لأنهم ماكثون فيه أبداً.
أما وجه الصدق لهذا الأجر فالقرآن الكريم مليئ بالآيات التي توضح وصف كونه أجراً حسناً؛ كقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:13 - 16]، كل هذا وصف الجنة، وشرح لكلمة (حسناً)، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
{مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}، أي: خالدين فيه بلا انقطاع، كما في قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، أي: غير مقطوع، وقال عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، الدنيا مهما كان فيها من قصور أو جنات لابد أن يصيب صاحبها الملل، لذا تجده يرغب دائماً في التغيير، حتى أن صاحب البساتين يفزع إلى الصحراء، ويسعد جداً بتغيير الجو كما يقولون، أو العكس.
أما الجنة فلا يمكن أبداً أن يتطرق أي ملل إلى أهلها كما قال الله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، يعني: ما له من انقطاع ولا انتهاء، وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وقال أيضاً: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].(89/12)
تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)
قال الله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4].
أي: ينذرهم {بَأْسًا شَدِيدًا} من عنده، وهذا من عطف الخاص على العام: لأن قوله: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:3] شامل لكل الكفار سواء الذين قالوا اتخذ الله ولداً، أو غيرهم من الكفار.
وقد تقرر في فن المعاني أن عطف الخاص على العام يكون إذا امتاز الخاص عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة، تنزيلاً للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات، ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:97 - 98]، فهنا صفة حسنة ثم خص جبريل وميكائيل بالذكر مع أنهم من الملائكة، فهذا ما يسمى بالإطناب المقبول، فهو إطناب لكنه إطناب مقبول؛ لأنه جعل هذا النوع الخاص المذكور بصفات معينة كذاه أخرى اقتضت العطف، وكأنهما خارجان عن الملائكة.
ومن هذا أيضاً قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب:7]، خص هؤلاء بالذكر مع أنهم من النبيين، لأنهم أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومن الممتاز بصفات قبيحة ما جاء في الآية التي نحن بصددها: (لينذر بأساً شديداً من لدنه)، قلنا في التفسير: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً من لدنه، ومن هؤلاء الذين كفروا (الذين قالوا اتخذ الله ولداً)؛ لكن خصهم بالذكر هنا لامتيازهم في كفرهم بأنه من أشنع وأقبح أنواع الكفر؛ لأنه شتم لله سبحانه وتعالى بأن نسبوا إليه الولد؛ فإن الذين قالوا: اتخذ الله ولداً.
امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء، ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم.
والآيات الدالة على عظم فريتهم كثيرة جداً، كقوله هنا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:88 - 92]، لكن الله سبحانه وتعالى بمشيئته هو الذي يمسكها عن ذلك، وهذا القول يبلغ من شناعته أن السماوات تكاد من شدة الغيظ والانفعال والغضب والقشعريرة تكاد تشقق وتفطر، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:90 - 92].
وقال تبارك وتعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40].
والآيات مثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله سبحانه تعالى ثلاثة أصناف من الناس: اليهود والنصارى، إذ قال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) [التوبة:30] إلى آخره، والصنف الثالث مشركو العرب، كما قال تعالى عنهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، يعني الملائكة في زعمهم.(89/13)
تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم)
قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:5].
لماذا تعرض عز وجل هنا لنفي العلم عن آبائهم؟ لأن آباءهم هم قدوتهم، كما قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، يعني: أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به؛ لأنه مستحيل، والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه.
ومن الآيات الدالة على ذلك، قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]؛ لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلاً، ولا يدل على إمكانه، ومن هذا القبيل: قول المنطقيين: (السالبة لا تقتضي وجود الموضوع)، وهذا كلام منطقي لا يخصنا الآن.
ما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً بينه في مواضع أخر، كقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100]، وقوله في آبائهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله هنا عز وجل: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، يعني: أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولداً.
أمر كبير عظيم كما دلت الآيات على عظمه، كقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40]، وقوله: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91].
وكما قلنا: كلمة (تخرج من أفواههم) تفيد استعظام افترائهم على إخراجها من أفواههم؛ لأن المعنى: كبر خروجها، أي عظمت بشاعته وقباحته بمجرد التفوه به، فما بالك باعتقادهم له، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يكون حممة أحب إليه من أن ينطق به)، يعني: أن يحترق حتى يكون فحمة سوداء أهون عليه من أن ينطق به بلسانه لكنه يجد في نفسه هذه الوساوس، فقال: (أوقد وجدتموه؟ ذلك صريح الإيمان، أو قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
فالإنسان قد لا يقوى على النطق بهذه الوساوس، وقد ترد له بعض هذه الخواطر لكن من شدة استعظامها لا يمكنه النطق بها، فاجتراء المشركين على النطق بهذه الأشياء يدل على شناعة الفعل الذي أتوا به، فلذلك أتى بكلمة: (تخرج من أفواههم)، أي: كيف طاوعتهم أنفسهم أن يتفوهوا بهذه الكلمة فضلاً أن يعتقدوها؟ وقال بعض علماء العربية: إن قوله: (كبرت كلمة): معناه التعجب، فهو بمعنى: ما أكبرها كلمة! أو: أكبر بها كلمة! فهو أسلوب تعجب؛ لأن فَعُل بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى: (كبرت كلمة) كما هنا.
وإليه إشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مرسلا إذا تقرر ذلك ففاعل كبر، ضمير محذوف، و (كلمة): نكرة مميزة للضمير المحذوف على حد قوله في الخلاصة: ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوم معشره والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها، فالمخصوص بالذم تلك المقالة التي فاهوا بها، وهي قولهم: (اتخذ الله ولداً).
وأعرب بعضهم (كلمة): بأنها حال، أي: كبرت نيتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم، وهذا مذهب ضعيف! والصحيح أنها تمييز.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (تخرج من أفواههم): أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال: (إن يقولون إلا كذباً).
وهذا المعنى له شواهد من القرآن كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167] ونحو ذلك من الآيات.
(إن يقولون إلا كذباً) الكذب هو مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال.
(قالوا اتخذ الله ولدا): فعل وفاعل ومفعول، وكل هذه العبارة تذكرنا بقول ابن مالك: (وكلمة بها كلام قد يؤم)، يعني: قد تطلق الكلمة ويقصد بها مجموعة من الكلمات، كما تقول: قرأت كلمة لبيد، يعني: قصيدة لبيد، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99 - 100]، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] أي: كل هذه أطلق عليها كلمة، فإذاً: قد يطلق على مجموعة من الكلمات لفظ كلمة، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، كل هذا أطلق عليه أيضاً كلمة.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ولم يجعل له عوجا) -بكسر العين- في المعاني، أي يكون نفي العوج في المعاني، أما العوج في الشيء الحسي فهو ما كان منتصباً، تقول: هذا الحائط ليس فيه عوج بفتح العين.
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل (عوجا)، بالسكت على الألف المنزلة من التنوين، وهي سكتة يسيرة من غير تنفس إشعاراً بأن (قيماً) ليس متصلاً (بعوجا) في المعنى، بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر، أي: جعله قيماً، على أن الجار الأول منفي أما (قيماً) فهو مثبت فجاءت السكتة من أجل أن تفصل بين المنفي والمثبت، ونحن نريد في المعنى أن نثبت الاستقامة والقيمية، فلذلك جاءت هذه السكتة لتشير إلى أن (قيماً) منصوب بفعل مقدر، يعني: جعله قيماً.
(ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات): قرأ الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة، وكسر الشين المشددة، وقرأ حمزة والكسائي (يَبْشر) بفتح الياء وسكون الباء الموحدة.(89/14)
وجوب إنذار الكفرة بالقرآن
في قوله تبارك وتعالى: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2]، وقوله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4] تنبيه إلى حقيقة مهمة جداً، وهي أنه ينبغي إنذار الكفار بالقرآن الكريم، وللأسف الشديد هناك فلسفة لا أدري ما مصدرها بالضبط، إذ بعض الناس المقصرين أو القاصرين يقول لك: لماذا تنذره بالقرآن وهو لم يؤمن بالقرآن؟ فيعطل بهذا أقوى أسلحة الإسلام في مجابهة الكافرين وإقامة الحجة عليهم.
فالقرآن هو أقوى مصادر إقامة الحجج، عقلية ونقلية وغيرها، فعجباً لمن يقول: الكافر نكلمه بأي لغة أخرى ما عدا الاستدلال بالقرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، بل نقول: ليس المطلوب أن يهتدي، بل المطلوب أن تبلغه هذه الحجة، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، يعني: لأنذركم به يا معشر قريش الذين تعيشون معي وتسمعون مني مباشرة.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، أي بالقرآن.
(لأنذركم به) أي: بهذا القرآن، (ومن بلغ)، يعني: ولأنذر أيضاً من بلغه القرآن ممن هم على وجه الأرض إلى قيام الساعة، فإذاً: نحن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ونوابه في هذه الأمة المحمدية، ومسئوليتها أن تقوم برسالة البلاغ؛ لأنها شاهدة على الأمم، قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
فهذا الكلام مفاده تعطيل الاحتجاج بالقرآن الكريم؛ بحجة أنهم لا يؤمنون به، بينما القرآن الكريم له سلطان على القلوب لا يوصف، كان يحدثنا أخ إنجليزي قبل أسبوع أو أكثر وكان ممن يصلي معنا صلاة القيام، وكان يقول لي: أنا أصلي مع الإخوة في المسجد فتنتابني القشعريرة والعظمة، وأشعر بسلطان قوي على قلبي؛ يقول: لكن كانوا حينما يدعون في القنوت لا أشعر بنفس التأثر مع أني لا أفهم معاني القرآن! يسمع القرآن فيشعر بسلطان القرآن على قلبه، أما عند الدعاء فلا يشعر بذلك لأنه ليس بقرآن حتى وإن كان الناس من حوله يبكون في الصلاة.
القرآن له سلطان على القلوب بلا شك، حتى على من سمع القرآن وهو لا يفهم معناه؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت الجبال تخشع: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21]، فكيف بالقلب الحي؟! فإذاً قوة معاني القرآن وقوة ألفاظه هما من إعجاز القرآن الكريم.
وبلا شك أن هذه كلها عوامل مهمة جداً في إقامة الحجة على الناس وإنذارهم، فينبغي أن نتفطن لهذا الكلام ونلغي هذا المفهوم الذي يقول: كافر لم يسلم، ولم يؤمن بالقرآن، كيف تجادله بالقرآن؟(89/15)
تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)
قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، أي: مهلك نفسك، {عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ}، أي: بهذا القرآن، (أسفاً) أي: للتأسف على توليهم وإعراضهم عنه، والأسف: فرط الحزن والغضب.
و (لعل) للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، يقول القاسمي: (لعل) هنا استعارة.
أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك، فمن شدة شفقته على الكافرين المعرضين عن القرآن الكريم، والذين سوف يهلكون بالنار إن استمروا على هذا الكفر، وصل إلى حالة يتوقع المشركون أنه سيموت غماً وأسفاً وحزناً وأسى.
إذاً (لعل) تكون للترجي؛ لكن ليست هنا للترجي، بل للطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس أنك مهلك نفسك بسبب هذا الحزن لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم، وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتسجيل حاله معهم وقد تولوا وهو آسف من عدم هدايتهم بحال من فارقته أحبته فهم بقتل نفسه، أو كاد يهلك وجداً عليهم وتحسراً على آثارهم.
فكل ذلك كما قال القاسمي: إن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه، ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله تعالى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وكلما كانت محبته للحق أقوى كان شفقته ورحمته على خلقه أكثر؛ لكون الشفقة عليهم ضمن محبته لله، وأشد تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، فهو لا يسألهم أجراً ولا يريد منهم جزاء ولا شكوراً، إنما يريد لهم السعادة والنجاة، ويشفق عليهم من عذاب الله، كما صرح صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فقال في الحديث المتفق عليه: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، فأخذ يذبهن بيده وهن يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي).
هذا تصوير لحاله صلى الله عليه وسلم مع الخلق، فهو من شدة الشفقة والرحمة لهؤلاء الخلق يشفق عليهم من العذاب فمن هلك يهلك رغماً عنه، وهو يحاول أن ينقذه بقدر الاستطاعة صلى الله عليه وسلم، فشبه حاله بحال رجل أوقد ناراً في الظلام، والفراشة ليس لها عقل فإذا رأت ضوءاً في الظلمة، ظنته كوة تنفذ إلى الضياء في الخارج، مثل أي نافذة في غرفة مظلمة تنفذ إلى نور الشمس في الخارج، فتريد أن تخرج إلى الضياء فتنجذب إليه، فإذا نفذت ظنت أنها قد بعدت عن هذه الفتحة، فتعود من جديد لهذا الضوء، فإذا بها تطالها النيران وتحرقها، فهذا الرجل من شدة شفقته على هذا الفراش الذي ليس عنده عقل، جعل يذبهن بيده؛ فيشبه النبي عليه الصلاة والسلام نفسه مع هذه الأمة -أمة الدعوة- أنه واقف على شفير جهنم، وهم يندفعون إليها بأقصى قوتهم، ويلقوا أنفسهم في النار وهو مشفق عليهم من هذا المصير، فجعل يذبهم ويدفعهم بيده، ليمسك بهم بأي طريق، ولو عشوائية.
(وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، الحجزة: موضع الخصر وفيها مركز ثقل الإنسان، فهو يحاول أن يمسكهم لأجل أن ينقذهم من النار، لكنهم يقاومونه ويلقون بأنفسهم في النار، فهذه صورته عليه الصلاة والسلام التي وصلت إلى حد أنه يكاد يهلك من شدة الحزن والشفقة عليهم أن يهلكوا في النار؛ فهل توجد رحمة بالبشرية أعظم من هذه الرحمة؟ لا توجد على الإطلاق، ولذلك فإن عدو البشرية كلها هو الذي يشوه الإسلام أو يصد الناس عنه، لأنه يحرمهم من أعظم حق من حقوق الإنسان.
هؤلاء الضالون الكفرة: أمريكا ومن معها يتعلقون بشماعة حقوق الإنسان لاستذلال الأمم وقهرها، لكنهم أفلسوا تماماً، فأعظم حق من حقوق الإنسان أن لا يحال بينه وبين السعادة الأبدية وأن ينقذ من الموت، ومن الخلود فيها، والحياة في النار عذاب أليم بشع شنيع بلا نهاية، قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه النار: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، يعني: نار الآخرة أقوى من النار التي في الدنيا سبعين مرة، هل الإنسان يطيق حمل كوب من الشاي؟ لن يستطيع الإنسان، هل سيقرب بدنه إلى النار بواحد على سبعين، فما بالك بهذا العذاب الرهيب الذي وصفه الله سبحانه وتعالى، وهذا كلام حقيقي وسيقع قطعاً، فالنار موجودة الآن وتنتظر سكانها والعياذ بالله.
فالشاهد أن الموضوع خطير، والدعوة الإسلامية ما هي إلا إنقاذ للبشرية، وكما أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن، وأرسل الرسول وجاهد الصحابة لحمل هذا النور إلى العالمين، فيحاول هؤلاء الكفار أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى بكل الأساليب القذرة، تارة بتسليط خبيث مصر سلمان رشدي، وتارة بالتشنيع على الإسلام ليل نهار، والإعلام الآن في العالم كله معه، ليس له شغل غير التشنيع على الإسلام والغمز واللمز، وتسليط وكلائهم ونوابهم من العلمانيين والصحفيين الفجرة بالطعن في الدين ليل نهار، كل هؤلاء يتآمرون على البشرية، وهم يضيعون أعظم حق من حقوق الإنسان وهو -على الأقل- أن يطلع على الإسلام في صورته الصحيحة، لكنهم يشوهون لأنهم (يبغونها عوجا) يصورون (سبيل الله) على أنها طريقة معوجة.
هذا كله جريمة في حق البشرية كلها؛ لأنه وضع حواجز دون إنقاذ الناس من النار، ودون الفوز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، فهل هناك حق للإنسان أعظم من هذا؟ هؤلاء هم الذين يضيعون حق الإنسان.
فانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم مع كفرهم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74 - 75]، لا يخفف عنهم أبداً، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، أعظم أمنية أن يموتوا حتى يتوقف العذاب، ولكن انظر إلى
الجواب
{ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78].
فإذاً المصير خطير جداً، الدنيا أيام وتنقضي مهما طال العمر، ثم يكون الإنسان إما إلى الجنة في سعادة أبدية، وإما في شقاء أبدي لا يتوقف، فلو قلنا حضارة فرعون لها سبعة آلاف سنة إلى الآن، وقال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر:45 - 46]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فمعناه أنه منذ سبعة آلاف سنة وهو يعرض غدواً وعشياً على النار، وكم عاش، وكم كان عمره؟ مائة سنة، مائتين سنة، فالعذاب أطول بكثير، ثم انظر إلى الخلود؛ لأنه كان ينوي الكفر إلى الأبد، ولذلك عاقبه الله بعذاب مؤبد بلا نهاية، فالأمر جد خطير، ولذلك أوصي نفسي وإخواني بأن يتأملوا قليلاً في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] سواء كانت في حق أهل الجنة أو في حق أهل النار؟ فالأمر في غاية الخطورة، ولو أن الإنسان تفكر فيه لما أكل ولا شرب ولا نام ولا هناه عيش.
قوله عز وجل: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم).
يقول الشنقيطي: اعلم أولاً أن لفظة (لعل) تكون للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور، واستظهر أبو حيان في البحر المحيط: أن لعل في قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك)، للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به.
يعني كأن ربنا سبحانه وتعالى يقول له: أنت تهلك نفسك شفقة عليهم، فليست (لعل) للشك، وإنما هي مقدرة بالاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟ لا ينبغي أن يطول أسفك على إعراضهم فإن من حكمنا عليه بالشقوة لا تجدي عليه الحسرة.
وقال بعضهم: إن (لعل) في الآية للنهي، وممن قال به العسكري، وعلى هذا فالمعنى: لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم، وقيل: هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار.
يقول الشنقيطي: وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى (لعل): أن المراد بها في الآية النهي على الحزن عليه.
يقول: إن إطلاق (لعل) مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام، ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك: كثرة ورود النهي صريحاً عن ذلك، كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8])، ويقوي هذا المنحى وجود النهي عن أن يقتل نفسه حسرة عليهم في آية أخرى، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل:70]، وقال تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68] إلى غير ذلك من الآيات.
والباخع: المهلك، أي: مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم، ومنه قول ذي الرمة: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر أي: الذي سيهلك الحزن نفسه.
وقوله: (على آثارهم) قال القرطبي: الآثار جمع أثر.
ويقال: إثر، فالمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
وقال أبو حيان في البحر: ومعنى (على آثارهم) من بعدهم، أي: بعد يأسك من إيمانهم، أو بعد موتهم على الكفر، يقال: مات فلان أثر فلان.
أي: بعده، أو: (لعلك باخع نفسك على آثارهم)، يعني: أنت تحزن عليهم بعد ما ماتوا على الكفر، {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68] فهم لا يستحقون ذلك.
قال الزمخشري: شبهه وإياهم حينما تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما دا(89/16)
تفسير سورة الكهف [32 - 59](90/1)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين)
يقول تبارك وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32].(90/2)
مجمل تفسير الآيات المتعلقة بقصة الرجلين
((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا))، أي: مثلاً للمؤمن والكافر، ((رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ))، وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار، وأعز شيء عند هؤلاء الناس أن تكون الجنات من الأعناب ثم تحاط بالنخل.
((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا))، أي: بين الجنتين أو بين النخيل والأعناب.
((زَرْعًا))، يعني: فحصد منهما الفواكه والأقوات؛ لأن النخيل والأعناب فواكه، أما الزرع فهو القوت، فحصد لهما الفواكه والأقوات فكانتا منشأ الثروة والجاه.
((كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا))، أي: آتت ثمرتها كلها كاملة، ((وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)) ولم تنقص منه شيئاً، ((وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا))، يعني: فجرنا فيما بين هاتين الجنتين نهراً -بفتح الهاء- يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما تتميماً لحسنهما.
((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)) كان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، مأخوذ من ثمر ماله إذا كثر، وقوله هنا: (وكان له ثمر)، لا يراد به الثمر الذي هو ثمر الفواكه متى وجبت، فإن هذا مما سبق ذكره، لكن المقصود أنواع من المال غير هاتين الجنتين مشتق من (ثمر ماله) إذا كثر.
((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)) أي: وهو يراجعه الكلام تعييراً له بالفقر فخراً عليه بالمال وبما أوتي من الجاه، ((أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)) أي: أنصاراً وحشماً.
((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، يعني: اصطحب صاحبه هذا الذي كان يعايره بالفقر وأنه أكثر منه مالاً وأنصاراً وحشماً، وأخذ يطوف به في هاتين الجنتين، ويفاخره بما فيهما، كما يدل عليه السياق.
وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما نص لأمور: الأمر الأول: إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، فقوله تعالى: ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ)) هذا سياق في تعداد نعم الله عليه أنهما جنتان وليس جنة واحدة.
الأمر الثاني: لاتصال الجنتين ببعضهما بحيث صارتا كأنهما جنة واحدة.
الأمر الثالث: لأن الدخول يكون في واحدة ثم في التي تليها.
الأمر الرابع: قيل الإضافة تأتي بمعنى اللام، فالمراد بها العموم والاستغراق، أي: دخل كل ما هو جنة له يتمتع بها، فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة، وهي الإشارة إلى أنه لا جنة غير هذه.(90/3)
أثر الكبر والعجب في سلب نعم الله
قوله: ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، أي: بما يوجب سلب النعمة وهو الكفر والعجب؛ لأنه تلبس بهاتين القبيحتين، كفره بالله ثم الغرور والكبر والعجب، أو ((وهو ظالم لنفسه)) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وطلبها بتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك.
فهو يسيء إلى نفسه وينقصها ويضرها؛ لأنه يأخذ بالأسباب التي تستلزم زوال هذه النعمة وهلاك نفسه، أو (الظلم) بمعنى: وضع الشيء في غير موضعه؛ لأن مقتضى ما شاهده التواضع لله سبحانه وتعالى الذي رزقه هذه النعم لا العجب بها وظنها لا تبيد أبداً، والكفر بإنكار البعث كما يفيد قوله: ((قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ))، أي: تهلك وتفنى، ((هذه)) أي: الجنة، ((أبداً)) لاعتقاده أبدية الدهر، وألا كون سوى ما تقع عليه مشاعره، فلا يؤمن بالغيب، وإنما يعتقد أن الحياة الدنيا باقية إلى ما لا نهاية، ولذلك أردف قوله: ((مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)) بقوله: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، فهذا دليل كفره وتكذيبه بالغيب.
((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، أي: كائنة آتية، ((وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) إقساماً منه على أنه حتى وإن رد إلى ربه يوم القيامة -على التسليم بوقوعه- فكما أكرمني الله سبحانه وتعالى في الدنيا فلابد أن يكرمني في الآخرة، فهو يقول لصاحبه: حتى لو كان كلامك صحيحاً وأننا سنبعث وننشر ونرد إلى الله، لأجدن في الآخرة خيراً من جنتي هذه في الدنيا؛ تمنياً على الله، وادعاء لكرامته عليه، ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا باستحقاقه واستئهاله، وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه، وكما استحق ذلك في الدنيا فلابد أن يملك هذه الأهلية وهذا الاستحقاق للإكرام في الآخرة.
وهذا بلاك شك من ضعف عقله، كما قال تبارك وتعالى {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15] كما قال هذا، {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ} [الفجر:16]: امتحنه {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16]، وليس الأمر كما تظنون، فليس كل من أعطيه وأكرمه أكون قد أكرمته بالفعل، وليس كل من امتحنته وابتليته أكون قد أهنته؛ لكن أبتلي هذا بالنعم لأنظر أيشكر أم يكفر؟ وأبتلي هذا بالنقم لأنظر أيصبر أم يجزع؟ فهذه ألوان متعددة من العبودية لله سبحانه وتعالى، فهذا ظن أنه نال هذه الأشياء عن جدارة، وأن له أهلية واستحقاقاً لنعمة الله دنيا وأخرى.
قال تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، ومثل هذا من يسيطر عليه تصور كيف أن أمريكا والأمريكان وأهل الغرب الآن في تقلبهم في البلاد واغترارهم بالدنيا وزخرفها، وتعاليهم في البنيان، واهتمامهم بزخرفة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، فأصبحوا في حالة اغترار يفوق الوصف بما هم عليه من التقلب في البلاد، ومن إملاء الله عز وجل لهم، ومن ابتلائهم بالنعم وهم يزدادون في العتو والكفران.
وقول الله عن الكافر أيضاً: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:77 - 78].
وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، أي: مرجعاً وعاقبة، فكفر بالقول بقدم العالم، ((ما أظن أن تبيد هذه أبداً))، كذلك كان ينفي حشر الأجساد، ((وما أظن الساعة قائمة)) وهذا أيضاً كفر، واعتقد عكس الجزاء لما قال: ((لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته، وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة، وكأنه ينسب إلى الله سبحانه أنه غير قادر على البعث والنشور، والقول بعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية، ومع ذلك فهو ينتظر أن يثاب على الكفر بما هو الأحسن والحسنى وبما هو أفضل وأعظم، فهذا بلا شك أيضاً ينافي حكمة الله سبحانه وتعالى لأن الجزاء من جنس العمل، فكيف يكفر بالله بهذه الصورة وينتظر أن يثاب على كفره في الآخرة؟! فهذا عكس الجزاء، وهو ينافي الحكمة الإلهية.(90/4)
تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه فلن تستطيع له طلباً)
يقول تبارك وتعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:37 - 41].
((قال له صاحبه)) الذي عيره بالفقر، وقال له وهو يعيره بما يستحق أن يعير به، فهو يعيره بالفقر وهذا لا يد له فيه، والفقر ليس مما يعير به لأن المال غاد ورائح، فرد عليه وعيره بالكفر، فقال: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)).
وقوله: ((وهو يحاوره)) أي: يراجعه كلام التعيير على الفقر وفي سياق الإنكار عليه في هذا المسلك: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)) فجعل التراب نباتاً، ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة، (ثم سواك رجلاً)، أي: كملك وعدلك فكنت إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال.
قال أبو السعود: والتعبير عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة لإنكار الكفر.
يعني: لم يقل تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالله)، بل آثر النص الكريم استعمال لفظ (الذي)؛ لأن (الذي) ستأتي بعده صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وفعل مهم له تعلق أساسي بهذا الموضوع، يشعر بعلية ما في حيز الصفة لإنكار الكفر، يعني: إنما أنكر عليك الكفر لأنك كفرت بالله وقد خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، والتلويح بدليل البعث الذي وافق به قوله عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] إلى آخره، فهو يريد في هذا السياق استعمال الاسم الموصول بدل لفظ الجلالة الصريح لإنكار الكفر عليه.
ثانياً: للتلويح بدليل البعث والنشور؛ لأن الله إذا كان هو الذي خلقنا من تراب فإنه سبحانه وتعالى أقدر على أن يبعثنا بعد أن نموت ونصير تراباً، كما قد صرح به تعالى في قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، وكما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [البقرة:28].
قال ابن كثير: أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه؛ فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته.
أي: كيف يستند وجوده إلى موجود مثله؟! وهو مثله عاجز عن أن يفعل ذلك.
قال: فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: ((لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا))، أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية، ((ولا أشرك بربي أحداً)) أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له من العلويات والسفليات، لا أحد من والسماوات ولا من الأرضين.
وقرأ ابن عامر (لكنا) بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، وقرأ حفص بحذفها وصلاً وبإثباتها وقفاً، فالوقف أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق ألف إجراء للوصل مجرى الوقف، لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم اللبس بينها وبين (لكنَّ) المشددة.
قال الزمخشري: ونحوه قول القائل: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي أي: أنا لا أقليك، والقلى هو الهجر، ومنه قول الآخر: ولو كنت ضبياً عرفت قرابتي ولكنّ زنجي عظيم المشافر يعني: ولكن أنا زندي عظيم المكاسر.(90/5)
تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله)
يقول تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39].
((ولولا)) يعني: هلا قلت عند دخولها هذا الذكر: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
قال الزمخشري: يجوز أن تكون (ما) موصولة، يعني: الأمر ما شاء الله، أو: شرطية منصوبة بالموضع، والجزاء محذوف، بمعنى: أي شيء شاء الله كان، والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها: الأمر ما شاء الله؛ اعترافاً بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها، وقلت أيضاً بجانب ما شاء الله: لا قوة إلا بالله؛ إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتسديد أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، فالله هو من يعمر هاتين الجنتين ويدبر أمرهما لا بحولي وفضلي، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل، وإنما تم ذلك بمعونته سبحانه وتعالى وتأييده.
إذاً: لا يقوى أحد في بدنه ولا ملك يده إلا بالله تعالى، والقصد من الجملتين: التبرؤ من الحول والقوة، وإسناد ما أوتيت إلى مشيئة الله وقوته وحده.
ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر لا يبعد أن ينعكس عليه، يعني: أنت تعيرني بالفقر وأنت لا تأمن أن يعاقبك الله بفقر أشد منه؛ فإن الأمر كله لله عز وجل، فقال له: ((إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا))، يعني: إن اغتررت بأن رأيتني أقل منك مالاً وولداً فعيرتني بالفقر، ((فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ))، في الدنيا ((وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا))، يعني: مقداراً قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية، ((فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا))، أي: تراباً أملس لا تثبت فيها قدم لملاستها.
((أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا))، أو يهلكها لا بآفات عليا كالحسبان، وإنما يهلكها بآفة من جهة الأرض بأن يصبح ماؤها غائراً في الأرض، ((فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)) أي: حيلة تدركه بها بالحفر أو بغيره.
وقوله تعالى: (إن ترن)، وقوله: (أن يؤتين) رسم بدون ياء؛ لأنها من ياءات الزوائد، وأما في النطق فبعضهم يثبتها وبعضهم يحذفها، وهذا يبين لنا أن القرآن يؤخذ بالمشافهة؛ لأنه في الحالتين تكتب في المصحف بدون ياء، لكن من حيث القراءة فهناك قراءة بإثبات الياء وأخرى بحذف الياء.(90/6)
تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره وما كان منتصراً)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:42 - 43].
((وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ))، أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة، وأصله من أحاط به العدو؛ لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك، ومنها قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66]، ومثله قوله: أتى عليه: إذا أهلكه، وأصلها: أتى عليه العدو إذا جاءه مستعلياً عليه.
وشبه إهلاك جنتين بما فيهما بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج منهم أحد.
((فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا))، أي: فعير هو نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه، فعاد بالحسرة والتلوم والتندم، ومن شدة حسرته ظل يقلب كفيه على ما أنفق فيها.
قال الزمخشري: تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر، لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن، كما كني عن ذلك بعضّ الكف، وكذلك سقوط اليد {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:149]، ولأنه في معنى الندم عدي بتعديته بعلى، أي: ((فأصبح يقلب كفيه)) ندماً ((على ما أنفق فيها))، كأنه قيل: أصبح يندم على ما أنفق فيها وفي عمارتها، فيكون ظرفاً لغواً ويجوز كونه ظرفاً مستقراً.
والمقصود أنه كان متحسراً، والتحسر هو الحزن، وهو أخص من الندم؛ لأنه الغم على ما فات.
((وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)) أي: ساقطة عليها، والعروش: جمع عرش وهو ما يبنى ليوضع عليه شيء، فإذا سقط سقط ما عليه، يعني: أن كرومها المعروشة سقطت عن الأرض، وسقطت ومن فوقها كروم العنب بحيث قاربت أن تصير -صعيداً زلقاً- تراباً أملس.
((وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا))، يعني: من الأوثان، وذلك أنه تذكر موعظة أخيه؛ فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه.
((وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ))، لم تكن له منعة وقوم، ((يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: يقدرون على نصرته من دون الله كما افتخر بهم واستعز على صاحبه، كان يقول: أنا ذو الحسب والنسب، وأنا صاحب الحشم والخدم، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] فما نفعه أحد من هؤلاء النفر، ولم تعد له فئة بعد ما كان يبطر ينصرونه من دون الله ((وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)) يعني: ما كان ممتنعاً بنفسه وقوته عن انتقام الله عز وجل.(90/7)
تفسير قوله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق)
{هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44] ((هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا))، أي: في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك هنالك ((الولاية)) أي: النصرة ((لله)) وحده لا يقدر عليها أحد غيره، فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: ((ولم تكن لهم فئة ينصرونه)) بمعنى: أن الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على المشركين، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدق قوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف:40]، ويعضده قوله تعالى: ((هو خير ثواباً وخير عقباً))، أي: لأوليائه، فلا ينقص لمؤمن درجة لدناءته في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه.
وقرئت ((الولاية)) بكسر الواو، بمعنى السلطان والملك، أما (الولاية) بفتح الواو النصرة، فعلى الأولى يكون المعنى: هنالك السلطان له والملك فلا يغلب ولا يمتنع منه، وعلى الثانية: أنه في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر؛ لأن هذا الرجل قال: ((يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا))، ففي هذه الحالة تاب وعاد إلى الله سبحانه وتعالى، فهذه كلمة ألجئ إليها فقالها لما اضطر إليها بعد مجهود، فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها، وهذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84]، وكقوله إخباراً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:90 - 91].
أو أن قوله تعالى (هنالك الولاية) إشارة إلى الآخرة، أي: في تلك الدار تكون الولاية لله تعالى، كقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، ويناسبه قوله: ((هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا))، و (هنالك) على الأوجه المتقدمة يكون خبراً متقدماً، والولاية: مبتدأ مؤخراً، والوقف على (منتصراً).
((هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ)) قرئت (الحق) بالرفع صفة للولاية، وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المذكور والعامل مقدر، وبالجر كما هي قراءة حفص عن عاصم صفة للفظ الجلالة.
((هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)) قرأ بسكون القاف وضمها وهما: العاقبة.(90/8)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)
قال سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
((واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)) أي: اذكر لهم ما يشبه هذه الدنيا في زخرفها وسرعة زوالها.
((كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض)) أي: فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور ((فأصبح هشيماً)) بعدما كان في حالة الزهو أصبح جافاً يابساً مكسوراً، ((تذروه الرياح)) تفرقه وتنفثه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها؛ فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل في النبات من شرف النمو ثم يزولون زوال النبات، ((وكان الله على كل شيء مقتدراً)) أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة.
ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهى المثل وأبدعها ضرب كثيراً في التنزيل، كقوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) [يونس:24]، وقال تعالى أيضاً في سورة الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) [الزمر:21]، وفي الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] إلى آخر الآية.(90/9)
تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)
ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الدنيا، فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) وذلك لإعانتها فيها ووجود الشرف بهما، ثم أشار أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي؛ إذ لا يحتاج فيها إليهما في الآخرة، أما في الدنيا فهما ترف وزينة، لأن المال والبنين يعاونان صاحبهما، لكن هذا ليس من أسباب الشرف الأخروي، فقال عز وجل: ((والباقيات الصالحات)) أي: المال والبنون لا يبقيان وهما زينة الحياة الدنيا ومصيرهما مصير الحياة الدنيا الذي بينه في الآية السابقة، لكن الباقيات الصالحات خير منهما، ((عند ربك ثواباً وخير أملاً)) أي: الأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات خير عند ربك من المال والبنين في الجزاء والفائدة، وخير مما يتعلق بهما من الأمل؛ فإن ما ينال بالمال والولد أو البنين من الآمال والإنجازات في الدنيا غايتها أنها تكون إلى زوال، أما ما ينال من الآمال في الأعمال الصالحات فإنه باق، يقول: وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي لا يزول ولا يحول.
وقدم المال على البنين لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد، يعني: المال عنصر عريق وعنصر أساسي بما يربط به من الزينة والإمداد، ولكون الحاجة إليه ماسة؛ ولأن المال زينة ولو بدون بنين، وقد يوجد رجل عنده بنون بدون مال فلا يكون زينة، ولكن إذا كان المال قد يكون زينة لصاحبه ولو لم يكن هناك بنون، ولذلك قدم ذكر المال على البنين.
وأفردت الزينة، مع أنها مسندة إلى الاثنين لأنها مصدر في الأصل أطلق على المفعول مبالغة، وإضافتها إلى الحياة اختصاصية؛ لأن زينتها مختصة بها.
وقال: ((الباقيات الصالحات)) ولم يقل: (الأعمال التي تبقى)، وكأن الأمر مفروغ منه، وللإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه، بل لفظ: ((الباقيات)) اسم لها لا وصف، ولذلك لم يذكر الموصوف، وإنما يحتاج إلى التعرض لخيريتها.
وقال: ((والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً))، فكرر (خير) للإشعار باختلاف حيثيتين.
أي: الخيرية والمبالغة مع زيادة.
ووقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات: بالصلوات والأعمال الحسنة والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أي: الكلام الطيب، وبغيرهما مما روي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع من ذلك كله لم يخرج في الصحيحين، وكله على طريق التمثيل، واللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده.
يعني: لا تعارض بين العموم التي ذكرناه في تفسير الباقيات الصالحات وبين الخصوص الوارد في بعض الأحاديث على أنه من أفرادها، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات من الجانبين، وهن الباقيات الصالحات)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(90/10)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال ولا يظلم ربك أحداً)
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49].
أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة التي هي الوعد الحق، والفيصل الصدق بقوله سبحانه: ((وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)).
((ويوم نسير الجبال)) أي: اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو أو نيسر أجزاءها بعد أن نجعلها هباءً منثوراً، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل:88].
((وترى الأرض بارزة)) لبروز ما تحت الجبال، أي: ظهورها بنفسها وبروز ما عداها بزوال الجبال والكهوف حتى تبدو للعيان سطحاً مستوياً لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك.
((وحشرناهم)) أي: جمعناهم إلى موقف الحساب.
((فلم نغادر منهم أحداً)) يعني: لم نترك منهم أحداً، لا صغيراً ولا كبيراً، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، وقال عز وجل: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103].
((وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا))، أي: مصطفين مترتبين في المواقف لا يزحم بعضهم بعضاً كل في رتبته، وقال أبو السعود (صفاً)، أي: لا متفرقين ولا مختلطين، فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده، وإنما المقصود غير متفرقين ولا مختلطين.
قال الزمخشري: شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد، لا يحجب أحد أحداً.
((لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ))، يعني: بلا مال ولا بنين وخلفتكم وراءكم هذه الزينة، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} [الأنعام:94]، أي تركتم ما أعطيناكم وراء ظهوركم.
أو: لقد بعثناكم وجئنا بكم كما خلقناكم وأنشأناكم في أول مرة، والكلام فيه تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، بل زعمتم بإنكاركم البعث: ((أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا)) أي: وقتاً لإنجاز ما وعدناكم من البعث والنشور والحساب والجزاء.
(وبل) للخروج من قصة إلى أخرى، فالإضراب انتقالي لا إبطالي، والإضراب الإبطالي لإضراب ما بعدها عما قبلها، فيكون فيه إبطال ما قبلها، تقول: جاء محمد بل علي، أما الانتقالي فيستعمل للخروج من قصة إلى أخرى وهو المذكور هنا، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48].
((وَوُضِعَ الْكِتَابُ))، أي: صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق.
((فترى المجرمين مشفقين)) خائفين أن يفتضحوا ((مما فيه)) أي: من أعمالهم السيئة المسطرة.
((وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا))، يعني: يا هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمالنا.
قال القاشاني: يدعون الهلكة التي هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة.
((مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)) أي: أي شأن حصل لهذا الكتاب؛ فلا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا ضبطه وحفظه؟ والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي وعده مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.
يقول البقاعي رحمه الله تعالى: (إن لام الجر رسمت مفصولة) هذا من علم تدوين المصحف الشريف، والطريقة التي حفظ بها القرآن سواء من حيث حفظه بالسطور أو بالصدور آية من آيات الله سبحانه، ولا يعقلها إلا العالمون.
يقول البقاعي رحمه الله تعالى: وهذه إشارة إلى أنه لشدة الكرب يقفون على بعض الكلم، ويقطعون الكلمة من شدة الخوف والفزع، وهذا من لطائفه رحمه الله تعالى.
وهذه اللطيفة لها نظائر كثيرة في القرآن، وضبط رسم المصحف له كثير من الحكم كما وقفنا عليه في هذا الموطن.
((مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا))، كل شيء فعله الإنسان سوف يجده مدوناً حتى فتاته في الطين، وسوف يسأل عن هذا: لم فعلت ذلك؟ قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]، وقال عز وجل: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13].
((وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))، فالله سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، ولا يقع منه ظلم أبداً، فلن يكتب على الإنسان شيئاً لم يعمله، ولن يزيد في عقابه الذي يستحقه.(90/11)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
ثم أشار تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان وإيثاره على الرحمن، والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق، فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
((كان من الجن)) العتاة المردة الشياطين.
((ففسق عن أمر ربه)) خرج عن طاعته.
((أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو)) أي: فتستبدلونهم بي؛ فتطيعونهم بدل طاعتي وهم لكم عدو يبغون بكم الغوائل، ويوردونكم المهالك.
وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتباعه وطاعته، ولهذا قال تعالى: ((بئس للظالمين بدلاً)) أي: بئس للظالمين الواضعين شيئاً في غير موضعه؛ لأن العدو ينبغي أن يتخذ عدواً، أما أن تتخذ العدو ولياً، وتجافي وتعادي الولي الحقيقي الذي هو الله سبحانه وتعالى، فـ (بئس للظالمين بدلاً)، يعني: بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته.
قال ابن كثير: وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس:59 - 60].
كذلك هنا في الآية السابقة بعدما بين الله سبحانه وتعالى حال الناس حينما يرون أعمالهم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الكهف:49 - 50]، إلى قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
في سورة يس قال عز وجل: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:55 - 59]، ثم قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62].(90/12)
تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض)
قال سبحانه وتعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة عنصره وأصله والفسق والعداوة.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يستأنف كلاماً يبين فيه أن إبليس وذريته لا يستحقون أن نتخذهم أولياء، ففي الآية السابقة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ} [الكهف:50]، ثم يبين حيثيات ذلك، فيقول تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51]، فقد بين أولاً الصوارف عن اتخاذ الشيطان ولياً، وهي: خباثة عنصره وأصله، والفسق والعداوة، {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فهذه الصوارف بين فيها أنهم لا يستحقون الولاية، وينبغي أن ننصرف عن طاعتهم لأجل هذه الصوارف التي ذكر.
وقوله: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)) يعني: أين كان إبليس وذريته الذين تطيعونهم في معصيتي وتوالونهم من دوني يوم خلقت السماوات والأرض؟! بل أين هم يوم خلقتهم؟! هل أعانني أحد منهم حتى يستحق أن يكون شريكاً لي في الطاعة والانقياد؟! يعني: هؤلاء مخلوقون مربوبون مقهورون لا يستحقون أن تطيعوهم في معصيتي، ولا أن تتخذوهم أولياء من دوني، ولا أن تعبدوهم من دوني؛ لأن هؤلاء كانوا عدماً ثم خلقتهم، فلم أحتج إلى معاونتهم، وليسوا شركاء لي في خلقي.
يقول رحمه الله تعالى: أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض حين خلقتها، ((ولا خلق أنفسهم)) أي: وما أشهدت بعضهم أيضاً خلق بعض منهم، ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر، وهذا أبلغ.
((ما أشهدتهم)) المقصود بها: أنني لم أحتج إلى مساعدتهم ولم يعضدوني، لأني غني عن خلقي، وتأمل أيضاً قوله: ((ولا خلق أنفسهم)) إشارة إلى أنهم مخلوقات، فكيف تعبدون المخلوق وتذرون الخالق؟! فمن لم يشهد فأنى يستعان به، وأنى يصح جعله شريكاً؟! فهل يتصور أن الغائب عند خلق السماوات والأرض يمكن أن يستعان به؟! ثم إذا كان غائباً ولم يستعن به فأنى يصح جعله شريكاً لله؟! لا يصح أن يكون شريكاً لله عز وجل.
ولذلك قال عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، أي: وما كنت متخذهم أعواناً لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، أي: وإذا لم يكونوا عضداً في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟! واستحقاق العبادة من توابع الخالقية، يعني: الذي يستحق العبادة هو الذي يكون قد خلق، والاشتراك فيها يستلزم الاشتراك فيها، والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير وهم المضلون، فلا يكونون أرباباً، وإنما وضع المضلين موضع الضمير ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال، وتأكيداً لما سبق من الإنكار في اتخاذهم أولياء، أي أنه قال: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا))، ولم يقل: وما كنت متخذهم عضداً؛ لأن استعمال الصفة الظاهرة مكان الضمير فيه إبراز صفة الضلال، وإذا كانوا مضلين ففي هذه الحالة أيضاً لا يستحقون ذلك الاتخاذ كما أشار.
ونحو هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23].(90/13)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم)
يقول تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52].
((ويوم يقول)) الحق تبارك وتعالى، ((نادوا شركائي الذين زعمتم)) في دار الدنيا أنهم شركاء؛ لينقذوكم مما أنتم فيه، ويقال لهم ذلك على رءوس الأشهاد تقريعاً وتوبيخاً لهم.
((فدعوهم)) نادوا هذه الآلهة، فمنهم من ينادي اللات، ومنهم من ينادي العزى؛ كل ينادي الإله الذي عبده من دون الله، أي: نادوهم طالبين منهم الإعانة لبقاء اعتقاد شركهم، يعني: أنهم ما زالوا على الشرك.
((فلم يستجيبوا لهم)) أي: فلم يعينوهم؛ لعجزهم عن الجواب فضلاً عن الإعانة.
وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم، يعني أن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((فدعوهم فلم يستجيبوا لهم)) وهذا أمر ظاهر أنهم إذا دعوهم في ذلك اليوم فلن يستجيبوا لهم ولن ينفعوهم وإنما أبرزه وأظهره في الآية تهكماً بهم، وإيذاناً بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به.
((وجعلنا بينهم)) أي: بين الكفار وآلهتهم، ((موبقاً)) أي: مهلكاً يشتركون فيه جميعاً وهو النار، أو: عداوة هي في الشدة نفس الهلاك، فعبر عن العداوة بالهلاك، كقول عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً، أي: إذا أحببت فلا تبالغ في المحبة، وتتعلق بمن تحب، ثم إذا انقلبت على الجانب الآخر تكون مبالغاً أيضاً في العداوة، حتى إنها تتفق في التلف والفساد بينكما.
وعلاقة قول عمر بتفسير: ((موبقا)) أن التفسير الثاني لها يعني: مهلكاً يشتركون فيه وهو النار.
كما كان هؤلاء يحبون آلهتهم في الدنيا ويكلفون ويتعلقون بهم، لكن في الآخرة حينما يبغضونهم يبغضونهم بغضاً مهلكا، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]، أي: أعداء لهم، كما قال تبارك وتعالى في سورة العنكبوت: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25]، بالروح والدم نفديك يا فلان، ويكتبون له لوحة تأييد بالدم -ولعله دم المرضى والمساكين- ثم يوم القيامة: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]، يقول تعالى: ((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)) * ((كَلَّا)) فالذين تبحثون في جنابهم عن العز سوف ينقلبون عليكم، وسيتبرءون منكم يوم القيامة، ((وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)).
قال ابن كثير: وأما إن جعل الضمير في قوله تعالى ((بينهم)) عائداً إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به.
يعني يحتمل أن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)) يعني: بين الكافرين وبين آلهتهم.
هذا قول.
وقول آخر: فصلنا المؤمنين عن الكافرين وميزناهم، كما قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: انفصلوا لا تختلطوا بالمؤمنين، فهذا تفسير آخر، فهو كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، وقال: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَينَهُم} [يونس:28] أي: فصلناهم، وقال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30].(90/14)
تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار أكثر شيء جدلاً)
يقول سبحانه وتعالى {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:53 - 54].
((ورأى المجرمون النار)) أي: جهنم المحيطة بأنواع الهلاك، ووضع المبهم مقام المضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك.
أي: فتكلم على هؤلاء الكافرين فلم يقل: (ورأوا النار) وإنما قال: ((ورأى المجرمون النار)) فإظهار وإبراز كلمة (المجرمون) فيه تصريح بالصفة التي يعرف أنهم يستحقون بسببها هذا المصير.
((فظنوا أنهم مواقعوها)) أي أيقنوا بأنهم واقعون فيها.
((ولم يجدوا عنها مصرفاً)) أي: معدلاً ينصرفون إليه، إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن؛ فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب مقدر وحاضر غير مؤجل، ومجرد توقع العذاب لا شك أنه في حد ذاته عذاب، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال للرجل الذي أراد أن يذبح شاة فقعد يسن السكين أمام أختها: (أتريد أن تميتها موتتين)، فكيف بالبشر؟ فهذا الانتظار وهذا العناء في حد ذاته عذاب معجل.
ثم يقول سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ صَرَّفْنَا))، أي: "نوعنا في هذا القرآن: الجامع للمهمات وأنواع السعادات لمصلحة الناس ومنفعتهم ((من كل مثل)) يركز على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به.
((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا))، أي: مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.(90/15)
تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا وجعلنا لمهلكهم موعداً)
ثم يقول تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:55 - 59].
((وما منع الناس)) أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم.
((أن يؤمنوا)) أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك.
((إذ جاءهم الهدى)) القرآن والحق الواضح النير، ((ويستغفروا ربهم)) عن المعاصي السالفة.
((إلا أن تأتيهم سنة الأولين)) يعني: إلا أنهم كانوا يطلبون إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين وهي عذاب الاستئصال.
((أو يأتيهم العذاب قبلاً)) أي: يرونه عياناً ومواجهة، وهو عذاب الآخرة أو أعم، والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قِبَلاً) أو (قُبُلاً)، جمع قبيل بمعنى: أنواعاً مختلفة، وقرأ بفتحتين ((أو يأتيهم العذاب قَبَلًا)) أي: مستقبلاً.
((وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)) أي: وما نرسلهم قبل إنزال العذاب إلا لتبشير من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى.
((ويجادل الذين كفروا بالباطل)) يجادلون ويقترحون آيات، ((ليدحضوا به الحق)) أي: ليزيلوا بالجدال الحق الثابت عن مقره، وليس ذلك بحاصل لهم.
وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها، فاستعير من زلل القدم المحسوس لإزالة الحق المعقول.
قال الشهاب: ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره، وأنشد لنفسه: أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج فكأن كلامهم وجدالهم مثل الوحل يضعوه أمام الحق حتى يزيلوه عن مكانه، لكن الحق ثابت مستقر لا يؤثر فيه ذلك.
((وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا)).
(ما) إما مصدرية، يعني: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزواً، أو (ما) موصولة، يعني: واتخذوا الذي أنذروا به من العقاب هزوا، أي: استهزاءاً وسخرية، وهو أشد التكذيب، حيث وصف بالمصدر مبالغة.
ثم يقول تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا))، كناية عن عدم تدبرها والاستعاض بها بأبلغ أسلوب.
((ونسي ما قدمت يداه)) أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به عليه إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك.
((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ))، أي: جعلنا عليها حجباً وأغطية كثيرة كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله.
((وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)) أي: وجعلنا فيها ثقلاً يمنعهم من استماعه، والجملة تعريض بإعراضهم ونسيانهم.
يعني: فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه لأنا ((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا))، فالجملة تعريض بأن إعراضهم ونسيانهم مطبوعان على قلوبهم، وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
((وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا))، أي: فما يكون منهم اهتداء البتة.
وقوله: ((وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا))، والآيات في هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6].
((وربك الغفور ذو الرحمة)) ربك: مبتدأ، والغفور: خبره، وقدم الوصف بالمغفرة على الرحمة لأنه أهم بحسب الحال، والمقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استحقاقهم له كما يعرب عنه قوله: ((لو يؤاخذهم بما كسبوا)) والموعد المذكور هو بدر، أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات، أو يوم القيامة، والكل لاحق بهم، يعني أن الله لم يعجل لهم العذاب، ((بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً)) محيصاً أو مفراً أو ملجأ أو منجى.
قوله: ((وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)).
((وتلك القرى)) قرى عاد وثمود وأضرابهم، ((أهلكناهم لما ظلموا)) بالكفر والطغيان.
((وجعلنا لمهلكهم موعداً)) وقتاً معيناً لا محيد لهم عنه، وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب، أي: إن تأخر عنكم العذاب فلا تستعجلوا فهناك موعد لابد أنه آتيكم.(90/16)
تفسير سورة الكهف [60 - 64](91/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه من سفرنا هذا نصباً)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:60 - 62].
بعدما قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57]، أشار عز وجل إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة ما لا يخفى على متبصر كما ستقف على شذرات من ذلك، وسنلاحظ كيف أن الإنسان إذا فقه معنى الآيات، والتفت إلى النصائح والنكت البلاغية الموجودة في عبارات القرآن الكريم، فهذا مما يعينه على الحفظ، كما سنضرب أمثلة لذلك.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60].
أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه: ((لا أبرح))، أي: لا أزال أسير، ((حتى أبلغ مجمع البحرين))، أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين فألقى فيه الخضر، أو: أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة فأتيقن فوات المطلوب، (حتى أبلغ مجمع البحرين)، لماذا؟ لأن هذا هو المكان الذي وعده الله سبحانه وتعالى أن يلتقي فيه بالخضر، ويناسب هنا أن نذكر سبب هذه القصة؛ لأنه يعيننا على فهمها.(91/2)
ذكر حديث قصة الخضر وموسى
روى البخاري في باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: (إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله)، وهذا من التغليظ في الفتوى، وليس المقصود أنه عدو لله فعلاً، ولكن هذا اجتهاد منه وهو مخطئ فيه بلا شك، لكن هذا من التغليظ والتشديد على من يتجاسر عن القول بغير علم.
ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى: يا رب فكيف لي به؟) انظر إلى همة موسى لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ولو في مجمع البحرين؛ حرص على أن يلتقي به كي يتعلم منه، فقال: (وربما قال سفيان: أي رب وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، وربما قال: فهو ثمة، فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون)، وهذا تلميذ موسى عليه السلام، ولكن أطلق عليه (فتاه) إشارة إلى أن المتعلم كالعبد بين يدي العالم، والعالم كأنه سيد له، فعبر عنه بالفتى التي يعبر بها عن العبد إشارة إلى موقع التلميذ من شيخه وأستاذه.
(حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (مثل الطاق) يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت.
يقول: (فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً.
قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به)، يعني: موسى عليه السلام في هذا السفر السعيد الطويل لم يشعر بالنصب ولم يجد تعباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقوي ويمد بعون ومدد من عنده من خرج في طلب العلم أو ابتغاء مرضاته، كما أن الشهيد لا يجد من الجرح الذي يجرحه إلا مثل ما يجد من القرصة، فلم يشعر موسى بالتعب إلا من بعد أن جاوز المكان الذي أمر به، وهو هذه الصخرة التي فقد عندها الحوت دون أن يشعر.
(فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً، فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم) هذا هو الشاهد على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل وليس ثمة موسى آخر كما زعم نوف البكالي.
قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل! قال: نعم.
أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه إلى قوله: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً- فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما، قال سفيان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما)، وقرأ ابن عباس: (أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)، (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، ثم قال لي سفيان: سمعت منه مرتين وحفظته منه، فهذه القراءة قراءة تفسيرية، قيل لـ سفيان: حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان، قال: ممن أتحفظه؟! ورواه أحد عن عمرو غيري، سمعت منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر -بكسر الضاد- لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)، هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة.(91/3)
تفسير مفردات قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه)
((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} لا أزال أسير وأمشي إلى أن أبلغ المكان الذي وعدني الله، ((أو أمضي حقباً)) يعني: إما أن أذهب إلى ملتقى البحرين فأجد فيه الخضر، أو أظل أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلوب.
قال المهايمي: ((وإذا قال موسى)) أي: اذكر للذين ((إن تدعهم للهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً)) لتكبرهم عليك: أنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه، ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم؛ لأنها هداية في الظاهر والباطن، وهداية الخضر إنما هي في الباطن، ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق كما احتاج إليه موسى.
(وإذ قال موسى لفتاه) والفتى: الشاب، كما في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء:60] شاباً، وقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] يعني: شباباً.
قال الشهاب: العرب تسمي الخادم فتى؛ لأن الغالب هو استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام، ومحباً له، وذا غيرة على كرامته، ولذلك اختصه موسى رفيقاً له وخادماً, وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل، وفتح الله تعالى بيت المقدس عليه ونصره على الجبارين.
((فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا))، أي: مجمع البحرين، ((نَسِيَا حُوتَهُمَا))، أي: خبر حوتهما وتفقد أمره، وكانا تزوداه وأخذا الحوت في المكتل، ولما بلغا مجمع البحرين لم يطمئنا على أن الحوت معهما ونسيا هذا الحوت، ((فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)) أي: طريقه في البحر، ((سرباً)) أي: مثل السرب في الأرض، وهو المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
((فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)).
((فلما جاوزا)) يعني: مجمع بينهما، أي: جاوزا مجمع البحرين، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت، ((قال لفتاه آتنا غدائنا)) أي: ما نتغدى به، ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) تعباً ومشقة، وبينت السنة أن هذا النصب لم يلقه موسى وفتاه حتى جاوزا مجمع البحرين، ((قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ))، أي: فإني نسيت خبر الحوت.
وإسناد النسيان إليهما: إما بمعنى نسيان طلبه والذهول عن تفقده لعدم الحاجة إليه، وإما للتغليب بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده، (نسيا حوتهما)، يعني: نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره، وعلى قول آخر: أن النسيان هنا هو من يوشع بن نون؛ لأنه قال: (فإني نسيت الحوت)، نسب النسيان إلى نفسه، فإذاً: (نسيا) بالمثنى تغليباً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده؛ فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر المالح، ومع ذلك يمكن إطلاق أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين المالح والعذب تغليباً، وإن كان يخرج من أحدهما فيصدق عليه أنه يخرج منهما، كقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، فالرسل من مجموع الإنس والجن وإن كانت الرسل لا تكون إلا من الإنس.
((وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)) يعني: أن أذكره لك، وتعرب (أن أذكره) على أنها بدل من الهاء، يعني: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وقرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلاً، والباقون بكسرها، ((واتخذ سبيله في البحر عجباً)) أي: أمراً عجيباً إذ صار الماء عليه سرباً.
((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))، قال موسى: ((ذلك)) أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله سرباً ((ما كنا نبغ)) أي: نطلب فيه الخبر؛ لأنه أمارة المطلوب، وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين وصلاً لا وقفاً؛ وبإثباتها في الحالين، وبحذفها كذلك.
((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا))، أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامها يتبعانها، ((قصصاً)) أي: اتباعاً لئلا يفوتهما الموضع ثانياً.(91/4)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما)
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: ((فلما بلغا مجمعا بينهما نسيا حوتهما)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن موسى وفتاه نسيا حوتهما لما بلغا مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى؛ لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه، وإنما أسند النسيان إليهما؛ لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي (فإن قَتَلُوكم فاقتلوهم).
فلو قتلونا كلنا لم يبق منا أحد فيقتلهم؛ لكن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر.
قال: والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:62 - 63]؛ لأن قول موسى: ((آتنا غداءنا)) يعني به الحوت، فهو يظن أن فتاه لم ينسه.
كما قاله غير واحد، وقد صرح فتاه بأنه نسيه بقوله: ((فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)).
وفي قوله عز وجل: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، وبقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19].
وفتى موسى هو يوشع بن نون، والضمير في قوله تعالى: ((مجمع بينهما)) عائد إلى البحرين المذكورين في قوله تعالى: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف:60]، والمجمع: اسم مكان على القياس، أي: مكان اجتماعهما.
والعلماء مختلفون في تعيين البحرين المذكورين، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب.
وقال محمد بن كعب القرظي: ((مجمع البحرين)) عند طنجة في أقصى بلاد المغرب.
يعني: في المكان الذي يلتقي فيه البحر الأبيض بالمحيط الأطلنطي عند مضيق جبل طارق.
وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام.
وقيل: هما بحر الأردن والقلزم.
وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية، وعن أبي بن كعب قال: بإفريقيا، إلى غير ذلك من الأقوال، ومعلوم أن تعيين البحرين من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه.
وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع البحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تأريخه، لأن الجغرافيا في هذا الوقت لم تكن معروفة، وهذا زعم في غاية الكذب والبطلان، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: ((فلما بلغا مجمع بينهما)) مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء، لاستحالة صدق النقيضين معاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) قرأه عامة القراء ما عدا حفص ((أنسانيه إلا الشيطان)) وقرأه حفص عن عاصم ((أنسانيه)) بضم الهاء.(91/5)
تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا)
قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65].
أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، ((فوجدا عبداً من عبادنا)) التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف.
والجمهور على أنه الخضر، وسنتكلم على جملة من نبئه بعد تمام قصته -إن شاء الله- ((آتيناه رحمة من عندنا)) أي: آتيناه رحمة لدنية اختصصناه بها، ((وعلمناه من لدنا علماً)) أي: علماً جليلاً آثرناه، وهو علم لدني يكون بتأييد رباني.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبن هنا، هل هما رحمة النبوة وعلمه أو رحمة الولاية وعلمها؟ والعلماء مختلفون في الخضر هل هو نبي، أو رسول، أو ولي؟ كما قال الراجز: واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول وقيل: مَلَك أو مَلِك -فالكلمة غير مضبوطة- ولكن يفهم من بعض الآيات أنه هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة.
الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح أن الخضر كان نبياً، وعليه فالعلم اللدني هنا المقصود به الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، مع العلم أن الاستدلال بها على ذلك فيه مناقشات معروفة عند العلماء.
يقول: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن الكريم.
والمنهج الصحيح في التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن أولاً، فنتحرى ونبحث عن مادة رحم أو رحمة في القرآن، فنجد أنها استعملت كثيراً في القرآن بمعنى النبوة.
يقول رحمه الله: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي؛ فمن إطلاق الرحمة على النبوة: قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]-يريد بذلك النبوة، يعني: هل هم يقسمون رحمة ربك النبوة- أي: نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقوله تعالى في سورة الدخان: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:4 - 6]، وقوله تعالى في آخر القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86].
ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله وتعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68].
يعني: لما أوحينا إليه، وكذلك في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] أي: وحياً.
فإذاً الرحمة هنا النبوة، والعلم هو علم النبوة والوحي.
قال: ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولاسيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار بالوحي، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45].
فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ ف
الجواب
أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به.
الإلهام الذي يحصل للأولياء عند علماء الأصول مقرر أنه لا يجوز الاستدلال به، لا يوجد شيء اسمه ألهمت كذا وكذا، فيحكم ويدعي أن الله سبحانه وتعالى أحل أو شرع أو حرم على أساس الإلهام؛ لأن الإلهام ليس دليلاً شرعياً؛ لأن الولي ليس بمعصوم، وأيضاً لا يوجد دليل على صحة الاستدلال بالإلهام، بل يوجد الدليل على عدم جواز الاستدلال به.
ثم يقول رحمه الله: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره.
يعني أن بعض الصوفية يقول: الملهم يجوز له الاستدلال بالإلهام في حق نفسه لا في حق غيره من الناس.
حتى هذه الدعوى لا تسلم له، وفي الحديث: (إنه قد كان في من قبلكم محدثون، وإن يكن منهم أحد فهو عمر رضي الله عنه)، فهل عمر في يوم من الأيام جاء في أي قضية خلافية بينه وبين الصحابة استدل بأنه محدث أو بأنه ملهم؟ ما استدل بذلك أبداً.(91/6)
الرد على المتصوفة الذين يجعلون الإلهام حجة
يقول: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره؛ جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مستدلين بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، وبخبر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)، كله باطل لا يعول عليه لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات.
قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
وقال تعالى في آخر سورة طه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:124]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولم يذكر الإلهام.
إذاً: غير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان؛ لأنه غير معصوم، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، حتى أن بعض الضلال يزعم أنه يحكم على صحة الأحاديث بأن يعرضها على قلبه -بأحدث طريقة في تصحيح الأحاديث- كما كان يزعم الفرماوي الضال المضل، كان يعرض الحديث عليه، فيعرضه على قلبه حتى سموه وقتها، ألباني -بهمز العامية- يعني: قلباني، يصحح الحديث بالقلب المريض، فيعرض عليه الحديث ويقول: هذا قاله الرسول أم لم يقله؟ ثم يأتي بعض الضلال خاصة من الدجاجلة الذي دخلوا في موضوع الشعوذة والغلو في موضوع الجن، فكان بعضهم يزعم أن معه قرين النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً يعرض عليه الأحاديث، يأتي بحديث ويقول له: هل الرسول قاله فعلاً وهل كنت حاضراً وقتها؟ فيأتيه الخبر من هذا القرين المزعوم، فهذا كله عبث، وهذا كله ضلال مبين، فلماذا كان السفر وجهاد علماء الحديث؟ ولو هذا باباً صحيحاً لتلقي العلم منه، ولما سافر العلماء واغتربوا ورحلوا في طلب العلم، وسهروا الليالي وألفوا الكتب.
يقول: وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي، ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال: وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وينبذ الإلهام بالعراء، يعني: ارم موضوع إلهام الصوفية بالعراء، ولا تلتفت إليه.
أعني به إلهام الأوليا: ليس بحجة شرعية.
وقد رآه بعض من تصوفا: زعموا أنه حجة شرعية.
وعصمة النبي توجب اقتفا، يريد أن يفرق بين إلهام الأنبياء وإلهام الأولياء، فإلهام الأولياء ليس فيه أي حجة، وإلهام الأنبياء هو الحجة؛ لأن عصمته توجب اقتفاء آثاره، وقبول الإلهام الذي يلهمه الله سبحانه وتعالى، فإلهام الأنبياء من الله سبحانه وتعالى صورة من صور الوحي، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) إلى آخر الحديث.
قال: وبالجملة: فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، وعلماء المالكية يقولون: يقتل فوراً ولا يستتاب.
فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ولم يقل: حتى نلقي في القلوب إلهاماً، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165]، فلو كان الوحي الذي يوحيه الله إلى الرسل غير كاف لبقي في الناس حجة في غير الرسل عن طريق إلهام الأولياء، لكن جعل الحجة فقط للرسل.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، والآيات والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً، وقد بينا طرفاً من ذلك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة.
هذا الكلام يقوله بعض الصوفية الجهلة ويزعمون أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة، فيقولون: أنتم طريقكم الكتاب والسنة والأمور الظاهرة، ونحن لنا طريق باطني، يقولون: مثل حال الخضر مع موسى، كما أن الخضر كانت له شريعة وموسى كانت له شريعة ولا أحد يعترض على الآخر، وهم يزعمون أن الخضر كان ولياً ولم يكن نبياً.
وبالذات موضوع الخضر كان مرتعاً خصباً للاختراع والابتداع، وافتراء الأكاذيب.
نكرر هذه العبارة لأهميتها، يقول: وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطناً توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام؛ بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره، وهذا ما يلهج به كثير من جهلة الصوفية.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم.
قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار؛ فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات فيشتغلون بها عن أحكام الشرائع الكليات.
يقول: قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب كما هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يوضحه الدليل في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب في سورة آل عمران.
ثم يقول: وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به: إن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب.
بل معنى الحديث: استفت قلبك في موضع الشبهات.
فمعنى الحديث التحذير من الشبه، وإلا لو جعل كل واحد قلبه المفتي الخاص به لوقعت فوضى لا حدود لها، فهذا يشرب الخمر ويستفتي قلبه وقلبه مريض، فلا يكون هناك ضابط وتضيع معالم الشريعة تماماً، المقصود: بـ (استفت قلبك): أن هذا حين تشتبه عليك الأمور كما سيبين الشيخ رحمه الله تعالى.
قال: فمعنى الحديث: التحذير من الشبه؛ لأن الحرام بين، والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحلية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك بالاستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة.
يعني: كرجل ليس عنده علم كثير، لكنه يرى عامة علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي القديم والحديث وفي السلف والخلف يحرمون الربا، ويجرمون آكل الربا، ثم يأتي واحد شاذ لا خبرة له في الفقه أصلاً يقول: إن الربا حلال؛ ليس تخصصه الفقه، فيفتي باستباحة الربا، فهذا مما ينبغي أن يستفتي الإنسان فيه قلبه ولا يستند فيه إلى مثل هذا المفتي؛ لأنه ضل في هذه الفتوى بلا شك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، حتى لوجدت من يفتيك بحلية شيء أنت تعلم من جهة أخرى أنه محرم فاستفت قلبك واتبع ما يدلك عليه قلبك من السير في القافلة العظمى من علماء الإسلام دون من شذ وتعدى حدود الله.
يقول: فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً وذلك باستناد من الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وحديث واسطة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم.
قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الطرف، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، قال النووي في رياض الصالحين: حديث حسن، ورواه أحمد والدارمي في مسنديهما.
ولا شك أن المراد ب(91/7)
تفسير سورة الكهف [65 - 82](92/1)
تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك حتى أحدث لك منه ذكراً)
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:66 - 70].
((هَلْ أَتَّبِعُكَ)) أي: أصحبك، ((عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) أي: مما علمت من عند ربك، ((رشداً))، أي: علماً ذا هدى وإصابة خير.
قال القاضي: وقد رأى في ذلك غاية التواضع والأدب، لم يقل له: (علمني)، وإنما قال: (هل أتبعك) فاستجهل نفسه، ووصف نفسه بعدم العلم، فأظهر الفقر والحاجة إلى ما عنده من العلم، واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليك.
وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
وفي قوله: ((مما علمت)) تذكير له بنعمة الله عليه أي: كما علمك الله عليك أن تعلم طالب العالم.
((قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، نكر (صبراً) لبيان أنه لن تستطيع معي صبراً بوجه من الوجوه، ثم علل معتذراً بأنه لن يستطيع أن يصبر، قال: ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا))، أي: إن صحبتني سترى مني أموراً ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.
قال: ((سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا))، أي: لا أخالفك في شيء.
قال الزمخشري: رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده أن يستطيع معه صبراً بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقاً بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لابد لما يستمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم؟ قال بعض المفسرين في تفسير فاتحة القرآن عند قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7]: إن الإنسان إذا كان في الجماعة أي: إذا أدخل نفسه في زمرة الجماعة كان بركة عليه، ولذلك صبر إسماعيل لأبيه وقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، أما موسى فقال: ((ستجدني إن شاء الله صابراً)) وهذه لفتة عارضة.
وإنما قال: (إن شاء) لما يعلم من صعوبة الأمر، وصعوبة أن يرى منكراً ثم يصبر عن إنكاره.
((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)).
شرط المرافقة الموافقة، أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولن تعلم وجه صحته حتى أبدأ أنا ببيانه، وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والمستمع مع المسمع، فلا يبادر الإنكار حتى يتبين سبب هذا القول أو الفعل.(92/2)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)
((فَانطَلَقَا))، على ساحل البحر يطلبان سفينة، ((حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا))، أي: شيئاً عظيماً من إتلاف السفينة: قتل الجماعة من غير نفع، وكفران نعمة الحمل بغير نول، فكيف تتسبب في إهلاكهم وإغراق أهلها، بغير ذنب، وهل هذا جزاء أنهم حملونا بغير أجرة؟! ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، ذكره الخضر بما تقدم من الشرط، {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] يعني: هذا الصنيع وأنا أتعمده، وسبق أن اشترطت عليك أن لا تعترض على شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، وهو من الأمور الذي اتفقت معك على أن لا تنكر علي فيها؛ لأنك لم تحط بها خبراً؛ إذ لها سر لا تعلمه أنت، ((قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ))، أي: قال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط، فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر، وسيكون هذا أمراً عسيراً علي، والمراد: التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ((وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا))، أي: لا تحمل علي من أمري في تحصيل الأمر منك عسراً؛ لأنه يلجئني إلى تركه، فلا تعسر علي متابعتك بل يسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.
((فانطلقا)) بعد أن نزلا من السفينة إلى الساحل، ((حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))، يعني: نفساً ستقتل، بل هل نفس زكية طاهرة من موجبات القتل؛ لأنه لم يقتل غيره، فكيف تقتله؟ ((لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)) أي: شيئاً منكراً، أو أنكر من الأول، فالأول كان خرقاً يمكن تداركه بالسد، أما القتل فلا سبيل إلى تداركه.
((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) تأكيد في التذكار، ونكتة زيادة (لك) كما قال الزمخشري: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية.
أي: كما لو أتى إنساناً ما نهيته عنه فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في عتابك، قال: وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر).
يعني من قرأ قراءة سريعة دون تأمل لا يلتفت لمثل هذا المعنى، لكن من تأمل القرآن وبلاغته أدرك هذا في المرة الأولى.
قال موسى: ((قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))، أي: وجدت من جهتي عذراً؛ إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة فخالفتك ثلاث مرات بمقتضى الاستعجال.
((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ)) اختلف في تسميتها، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين، ولا يوثق بشيء منه، يعني: لا يهمنا اسم القرية، والمقصود أخذ العبرة.
((اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)) أي: امتنعوا من أن يطعموا الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم، وقرئ: (فأبوا أن يُضِيْفُوهما) من الإضافة، يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيَّفه: أنزله ليطعمه في منزله على وجه الإكرام.
((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))، أي: ينهدم.
تقول: انقض الطائر إذا أسرع سقوطه، يقول هنا: والإرادة مستعارة للمداناة والمشاركة لما فيهما من الميل، استعارة تصريحية أو مكنية أو تخيلية، أو هي مجاز مرسل بعلاقة السبب، إذ الإرادة سبب لقرب الوقوع.
وقد أكثر الزمخشري من الشواهد على مثل هذا المجاز.
((فأقامه))، أي: عمره وأصلحه، ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا))، أي: لو طلبت على عملك جعلاً حتى تنتفع به، ففيه لوم على ترك الأجرة مع مسيس الحاجة إليها، أي: هؤلاء الناس ضيعوا حقنا في الضيافة، فكيف تصلح لهم هذا الجدار وتقيمه وتضيع الأجر ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)) هذا إشارة إلى الفراق الموعود، بقوله: ((إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني))، أو إشارة إلى الاعتراض الثالث، أو هذا الوقت الحاضر فراق بيني وبينك.
((سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) يعني: عاقبة أو مآل مالم تصبر على ظاهره؛ لأن التأويل يطلق أحياناً على العاقبة والمآل.
وتأويل هذا الذي لم يستطع عليه صبراً هو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبديل الأحسن، واستخراج الكنز لليتيمين.
قال أبو السعود: وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام الصبر، دون أن يقول: بتأويل ما فعلت، أو: بتأويل ما رأيت ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتابه.
ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى، وما كان أنكره ظاهراً، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على باطنه.(92/3)
إثبات إرادة حقيقية للجدار
قوله: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)).
يقول الشنقيطي رحمه الله: هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بالمجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات إيرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق، كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله سبحانه وتعالى ونحن لا نعلمها، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن والسنة.
يقول: فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، فقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) [الأحزاب:72]، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه.
ومن الأحاديث على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعاً لفراقه)، وكان هذا بمحضر من جميع الصحابة الذين حضروا في صلاة الجمعة، فكلهم رأى هذا الموقف في اليوم الذي اتخذ له فيه المنبر فمر على الجذع ولم يستند إليه كما كان يستند أثناء الخطبة عليه، فصعد المنبر فإذا الجذع يبكي كبكاء الصبي ويحن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نزل عليه الصلاة والسلام من على المنبر وضم الجذع إليه وأخذ يمسح عليه ويهدئه حتى سكت وله خنين كخنين الطفل إذا كان يبكي وينضم إلى صدر أمه، وكأنما نفسه ستطير، فالجذع وهو جماد حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجزع من فراقه.
إذاً: فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق إرادة في مثل هذه الجمادات.
قال: فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال، وهذا زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأمثال هذا كثيرة جداً، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها؛ لأن العقل لا يحيل مثل هذا.
((يريد أن ينقض فأقامه)) جدار خلق الله فيه إرادة بحيث يريد أن ينقض، ولا إشكال في ذلك، ولا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها، لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح جداً كما ترى، مع أن من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء، كما في قول الشاعر: يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وكقول راعي نمير: في مهمه قلقت به هامتها قلق النفوس إذا أردن نضولا يعني: إذا قاربنه، وقول آخر: إن دهراً يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان يعني: لزمان يقع الإحسان فيه.
وقد بينا في رسالتنا المسماة: (منع جواز المجاز في المنزل للتعجب والإعجاز) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز، أن ذلك لا يتعين بشيء منها، وبينا أدلة ذلك، والعلم عند الله تعالى.(92/4)
تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ما لم تسطع عليه صبراً)
يقول تبارك وتعالى على لسان الخضر عليه السلام: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:79 - 82].
((أما السفينة)) التي خرقتها، ((فكانت لمساكين يعملون في البحر)) أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر لنقل الناس من ساحل إلى آخر، ((فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً))، أي: إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة غصباً، فأردت أن أعيبها لأرده عنها بعيبها؛ لأنه إذا كان فيها هذا العيب لن يأخذها، لكن إذا كانت السفينة صالحة -كما قال ابن عباس - فإنهم يأخذونها غصباً وظلماً وعدواناً.
يقول الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة صحيحة كانت أو معيبة، ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة وهي قوله: ((فأردت أن أعيبها))، أي: لئلا يأخذها هذا الملك، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله: ((حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)) ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب؛ لأن عيبها يزهده فيها.
ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالاً عند علماء العربية لحذف النعت، أي: وكان وارءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة، بدليل ما ذكرنا، كما سبق في قوله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} [الإسراء:58]، واسم ذلك الملك: هدد بن بدر، وقوله: (وراءهم)، أي: أمامهم، كما تقدم في سورة إبراهيم عليه السلام، في قول الله: ((مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ)) [إبراهيم:16] يعني: من أمامه.
((وأما الغلام)) الذي قتلته، ((فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا))، لو تركناه حياً، ((أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا))، أي: أن ينزل بهما طغيانه وكفره، ويلحقه بهما لكونه طبع على ذلك، فيخشى أن يعديهما بدائه؛ إذ الكفر ينتقل منه إليهما فيفتنهما عن دينهما، ((فَأَرَدْنَا)) بقتله، ((أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً))، أي: طهارة عن الكفر والطغيان، وهذا يشير إلى أن الإيمان تطهير وتزكية، ((خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)) أي: رحمة بأبويه وبراً.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82].
قوله: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما))، أي: قوتهما في العقل وكمال الرأي، ((ويستخرجا كنزها))، ليتصرفا فيه، ((رحمة من ربك)) أي: تفضلاً به عليهما، ورحمة: مفعول له، أو مصدر مؤكد (لأراد)، فإن إرادة الخير رحمة.
((وَمَا فَعَلْتُهُ))، ما فعلت ما رأيت مني، ((عَنْ أَمْرِي))، أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى، ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) من الأمور التي رأيتها، أي مآله وعاقبته.
قال أبو السعود: ((ذلك)) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد درجتها في الفخامة، و ((تسطع)) مخفف بحذف التاء.(92/5)
فوائد من قصة موسى مع الخضر
يذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض الفوائد من هذه القصة، يقول: تنبيهات فيما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام والنقائض والفوائد السامية.(92/6)
فوائد مرتبة حسب سير القصة
الأول: قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر، واستخدام الرحلة في طلب العلم، واستزادة العالم من العلم، واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل وشدة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازاً وتأدباً عن نسبتهما إلى الله تعالى، وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة، واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه، وتقديم المشيئة في الأمر، واشتراط المسموع على السامع، وأنه يلزم الوفاء بالشروط، وأن النسيان غير مؤاخذ به، وأن للثناء اعتباراً في التكرار ونحوه، وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة، وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام، وجواز أخذ الأجر على الأعمال، وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة لكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها شيئاً لا يكفيه، وأن الغصب حرام، وأنه يجوز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية ما فيه كمال المودع واليتيم، وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف، وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه، وأن أعظم ثقة التأمين على الأولاد هي تقوى الله سبحانه وتعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، ليست الأموال ولا الضياع ولا الثروات وإنما تقوى الله سبحانه وتعالى، وأنه تجب عمارة ما يخاف منه الخراب، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب، وأنه يجوز دفن المال في الأرض.
وقال البيضاوي: الفائدة من هذه القصة أن لا يعجب المرأ بعلمه، ولا يبادر إلى إنكار مالم يستحمله، فلعل به سراً لا يعرفه، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمتعلم، ويراعي الأدب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يحقق إصراره ثم يهاجر عنه.
انتهى.
ومن فوائد الآية كما في فتح الباري: استخدام الحرص على لقاء العلماء، وتجشم المشاق في ذلك، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحر، وطواعية الخادم لمخدومه، وعذر الناسي، وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه، ومحل ذلك إذا كان ذلك على غير سخط من المقدور.
ومنها: أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب، وفيها جواز طلب القوت وطلب الضيافة، وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالمرة الثانية، وفيها: حسن الأدب مع الله، وألا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل بتقديره وخلقه.(92/7)
عدم نسبة الشر إلى الله
لو تأملت في قوله أولاً: ((فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا))، وجدت أنه لم ينسب العيب إلى الله، لكن نسبه إلى نفسه وإن كان عن أمر الله تأدباً مع الله.
وعندما يذكر قتل الغلام قال {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81].
وفي الحالة الثالثة قال: ((فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا))، فنسب الإرادة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنها في خير محض، والنكتة أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، كما في حديث القنوت في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، فليس في أفعال الله شر على الإطلاق، بل كل أفعاله خير محض، وإنما الشر أمر نسبي إضافي، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2]، فأضاف الشر إلى المخلوقين، لكن لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نظائر، كما في قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41]، وقول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] * {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فنسب الخلق والهداية إلى الله، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:79 - 81]، فلم ينسب المرض إلى الله مع أن الله خالق كل شيء.
لكن تأدباً نسب المرض إلى نفسه لأنه شر.
وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} [الفاتحة:7]، فنسب النعمة إلى الله، ثم في الغضب والضلال قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ولذلك قلنا: إن الغالب أن في تفسير (الذين أوتوا الكتاب) أو (الذين أورثوا الكتاب): أنها إذا وردت للمجهول فالسياق سياق ذم.
أما إذا نسبت إلى الله فالسياق سياق مدح: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14].
وفي سورة الجن قال: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ) [الجن:10]، ثم قال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، ففي الشر استعمل صيغة المجهول، أما في الخير والرشاد فقد نسبه إلى الله سبحانه وتعالى.
وفيها حسن الأدب مع الله، وألا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل من تقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة: ((فأردت أن أعيبها))، وعن الجدار: ((فأراد ربك))، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (والخير بيديك والشر ليس إليك)، يعني: ليس في أفعالك شر أبداً.(92/8)
فوائد بلاغية ولغوية
من فوائد هذه القصة: إطلاق لفظ القرية على المدينة: لقوله: ((أَهْلَ قَرْيَةٍ))، ثم قال بعد ذلك: ((لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ)) فدل على أن المدينة يطلق عليها قرية، وورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم يقل: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، إلا بعد أن جاوز الموضع الذي حدده الله تعالى له، فلعل الحكمة أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة الله في التيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة.
وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزة هذا الموعد بوناً بيناً والله تعالى أعلم.
يعني: أن موسى لم يشعر بالتعب إلا بعد أن جاوز المكان الذي حدده الله له، وهو الصخرة أو مجمع البحرين، وكأن الله ينبهه: أنك ما دمت مسافراً في طلب العلم فأنا أُذهب عنك النصب والمشقة وأيسر عليك الأمر، فلما جاوز ذلك الموضع حصل له النصب {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62].
وإن كان موسى عليه السلام متيقظاً لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا قص عليهم القصة، وما أورد الله تعالى قصص أنبيائه إلا ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلاً وآجلاً، والله أعلم.
ثم قال الناصر رحمه الله في الانتصاف: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الحمية للحق.
أي أن موسى ما أنكر إلا غيرة على الحق على ظاهر شريعته، ثم إنه حين خرق السفينة قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71]، فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل أحد: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد، فتلك حالة غرق.
فالشاهد: أن موسى عليه السلام ما قال: نفسي نفسي! وإنما كان همه الناس من حوله {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71] ولم يقل: (لتغرقنا)، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه.
ثم قال عليه الرحمة على قول الزمخشري: (فإن قلت: (فأردت أن أعيبها)، كان من المفروض من حيث سياق المعنى أن يقول: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً فأردت أن أعيبها) فلماذا قدم فعل الغصب رغم أن النتيجة حقها أن تؤخر عن السبب؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم).
قال الناصر: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها للمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا هو حدّ الترتيب في التعليل، أن يركب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد، فلا يحتاج إلى جعله مقدماً والنية تأخيره، والله أعلم.
ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآية والمخالفة بينها في الأسلوب عجباً؛ ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: ((فأردت أن أعيبها)) وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه فقال: ((فأردنا أن يبدلهما ربهما))، وقال: ((فخشينا أن يرهقهما)) ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى؛ لأن المراد: ثم عبت، فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور (فأردنا) (فخشينا) فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا، وإنما يعنون أمر الملك.
ويدل على ذلك قوله في الثالثة: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)) فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير! فإذا الثالثة قال الخفاجي في إعادة (أهل)، يعني قوله: ((استطعما أهلها))، بعدما قال: ((أتيا أهل قرية)) مع أن السياق كان يقتضي أن يقال: (حتى إذا أتيا أهل قرية فاستطعماهم فأبوا أن يضيفوهما)، ونظم الصلاح الصفدي سائلاً الإمام السبكي عن هذا المعنى، فقال: رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاصه بإيجاز ألفاظ ونصح معان ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد نرى (استطعماهم) مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) أو (استطعماهم) فلابد له من وجه.
وقد أجابوا بأجوبة مطولة نظماً ونثراً، والذي تحرر فيه: أنه ذكر الأهل أولاً ولم يحذف إيجازاً سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]؛ لأن الإتيان ينسب للمكان كما تقول: أتيت عرفة، ولمن في المكان تقول: أتيت بغداد، فلولم يذكر كان فيه التباس مخل، فليس ما هنا نظير تلك الآية، لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها.
يعني لم يقل كما قال في سورة يوسف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]؛ لأنه ظاهر جداً أن المقصود أهل القرية.
وأما الأهل الثاني (استطعما أهلها) فأعيد لأنه غير الأول، وليست كل معرفة أعيدت عيناً كما بينوا؛ لأن المراد به بعضهم إذ سؤالهم فرداً فرداً مستبعد، فلولم يذكر فهم غير المراد، وأما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر، وأما لو قال (استطعماها)؛ فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب.(92/9)
خصوصية الخضر في أفعاله
ومن فوائد هذه القصة ما قاله القاسمي رحمه الله تعالى: قال الإمام السبكي رحمه الله تعالى: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافراً مخصوص به -هذا من خصائص الخضر- لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن خلاف الظاهر الموافق للحكمة، فلا إشكال فيه).
يعني: الأمر من حيث ما يظهر لنا لا شك أنه يستنكر كما فعل موسى عليه السلام لما أنكرها، أما الخضر فقد خصه الله سبحانه وتعالى أن يعمل بالباطن لا بالظاهر في هذه الأمور، فلا إشكال في هذه القصص.
قال: وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لاسيما بين أبوين مؤمنين، ولو فرضنا أن الله سبحانه وتعالى أطلع بعض أوليائه كما أطلع الخضر عليه السلام لم يجز له فعل ذلك، وما فعله الخضر كان بعلم الله وبأمر الله، قال تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.
وما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما كتب إليه نجدة الحروري الخارجي: كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان، فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل؛ فإنما قصد به ابن عباس المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعاً لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام، وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز؛ لأنه لا تقتضيه الشريعة، وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ كيف والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي، وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعاً مستقلاً به وهو نبي، وليس في شريعة موسى أيضاً؛ ولذلك أنكره.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الشرين بأخفهما فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفساً كثيرة قبل أن يتعاطى شيئاً من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك بإطلاع الله تعالى عليه.
إذاً: هذا الحكم مخصوص بالخضر عليه السلام.
وقال ابن بطال: قول الخضر: وأما الغلام فكان كافراً؛ فهو باعتبار ما يئول إليه أمره لو عاش حتى يبلغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.
يقول القاسمي: مفاد الآية: أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب، ولذا قال بغير نهي: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]؛ لأنه لم يفعل ما يستوجب ذلك، لا لكونه صغيراً لم يبلغ الحلم؛ لأن الآية لا تفيده، وقد يكون كبيراً.
يعني: أن كلمة الغلام يجوز أن تطلق على من كان كبيراً، وليس كما يتبادر إلى أذهاننا أنها تطلق على صغير السن، فمن حيث اللغة قد يطلق الغلام على الكبير، قال: فقد قال اللغويون: الغلام: الطار الشارب أو من حين يولد إلى أن يتم، والكهل أيضاً قد يطلق عليه غلاماً، ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل من قومه الجنة) إلى آخر الحديث، (فوصف النبي عليه السلام بوصف الغلام، وعند البخاري: (وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً فذبحه)، قال موسى: (أقتلت نفساً لم تعمل بالحنث) ولكن لا نص فيه على أنه كان صغيراً، فتأمل.(92/10)
ترجيح أن المذكور هو موسى بني إسرائيل
يقول القاسمي: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة، وذهب نوف البكالي -تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس موسى بن عمران كما في البخاري.
ووقع في رواية أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير عند النسائي قال: (كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب فقال بعضهم: يـ ابن عباس! إن نوفاً يزعم عن كعب الأحبار: أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منفى -أي: ابن إسرافيل بن يوسف عليه السلام- فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قال: نعم.
قال: كذب نوف)، كذب هنا: بمعنى أخطأ.
وفي رواية البخاري: (كذب عدو الله)، وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من مقالته، وقد ذكرنا القصة حينما سئل موسى عليه السلام: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، أو: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا.
أو حدثته نفسه بهذه فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه.
وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه؛ لئلا يحكم على ما لا علم له به، وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة فيكون المراد بفتاه يوشع، وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقاً في خدمته.(92/11)
ترجيح أن صاحب موسى هو الخضر
قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى: {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65] هو الخضر، قالوا: سمي بذلك؛ لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت، وقد صح ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حجر الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت -أي: تجادلت- أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقياه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فعله؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر.
فسأل موسى السبيل إلى لقياه فجعل الله له الحوت آية)، إلى آخر الحديث.(92/12)
نسب الخضر ودحض شبهة خلوده في الأرض
تنبيه يتعلق بنسب الخضر، وفي كونه نبياً، وفي طول عمره وبقاء حياته على أطوار كثيرة: فمن قائل: بأنه ابن آدم لصلبه، أو ابن قابيل، أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وليس هناك دليل نقلي على صحة ذلك.
وقد احتج من قال: إنه نبي بقوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}؛ لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله، والأصل عدم الواسطة، وقيل: كان ولياً، وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصديقية، فهو مقام برزخي له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية، وقيل: إنه ملك من الملائكة.
وأما تعميره: فيروى عن ابن عباس: أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال.
أي: مُدَّ له في أجله لأجل أن يكذب المسيح الدجال حين يخرج.
قال النووي في التهذيب: قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة؛ أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تذكر.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات، وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت فلا يصح من طرقها شيء، ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل، وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟! انتهى ملخصاً.
ويقول الشنقيطي: قال أبو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر وهو باق أم لا؟ فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم، وخبر مسلمة بن مثقلة كالهراء، وخبر رياح كالريح، وما عدا ذلك من الأخبار كلها واهية الصدر والأعجاز، لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً، أو أن يكون بعضهم تعمد ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34].
وقال صاحب فتح البيان: والحق ما ذكرناه عن البخاري وأقرانه في ذلك، ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم حتى يعتمد عليه ويصار إليه.
وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، ونفي طول التعمير لأحد من البشر، وهما قاضيان على غيرهما، ولا يقضي غيرهما عليهما، ومن قال: إنه نبي، أو مرسل، أو حي باق.
لم يأت بحجة نيرة، ولا سلطان بين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وقال تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه: في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد ما مثاله يقول: وفيه كثير من الجن، وهم رجال الغيب الذين يرون أحياناً في هذه البقاع، قال تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وكذلك الذين يرون الخضر أحياناً).
بعض الناس يظهر شخص يقول له: إنه الخضر، أو يقابله فيقول لك: قابلت الخضر في الحج؟ إلى غير ذلك، وهذا الكلام بضاعة رائجة في سوق الصوفية، وأغلب الذين يذكرون عنهم هذه الخرافات هم الصوفية، والذي يجالس الصوفية يسمع منهم هذا، فتجد أحدهم يقول: تبدى لي رجل في الصحراء، وقال لي: أنا الخضر إلى غير ذلك، ويرجع يقول: رأيت الخضر، يقول شيخ الإسلام: كذلك الذين يرون الخضر أحياناً هو جني رأوه، أي: كما تلعب الجن بعقول هؤلاء الناس، وقد رآه واحد ممن أعرفهم، وكان ذلك جنياً لبس على المسلمين الذين رأوه، وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حياً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه، فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمداً أن يؤمن به ويجاهد معه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يبعث الله نبياً إلا أخذ الله الميثاق عليه وعلى أمته لئن أتى محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه)، ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدراً من أن يلبس الشيطان عليهم، ولكن لبس على كثير ممن بعدهم فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي، ويقول: أنا الخضر، وإنما هو شيطان، كما أن كثيراً من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه في أمور وقضاء حوائج فيظنه الميت نفسه، وإنما هو شيطان تصور بصورته.
وهذا واقع؛ لأن الشياطين لها القدرة على أن تتشكل في صورة الإنس، أو كما يقولون في موضوع تحضير الأرواح: إن الذي أمكن من تحضير الأرواح روح أحمد شوقي وأنشأه قد يرينا هذا الشيء ونجده بالضبط هو شعر أحمد شوقي إلى آخر هذا الكلام، طيب ما المشكلة؟ الذي حضر هذا ليس روح أحمد؛ لأن الله عز وجل قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، فالأرواح ممسكة عند الله، فما يمسكه الله لا مرسل له، ولا قدرة لها على أن تستحضر؛ لأن الله أمسكها، فكيف ترسل؟ أين الدليل على كونه يقول الشعر؟ وهل الجن عندهم هذه الملكة؟ قد يكون هو قرين أحمد شوقي الذي كان يلازمه، وكل إنسان له قرين، فلذلك يقول شعراً مثله أو نحو هذا، على أي الأحوال كل هذه الأشياء لا ينبغي أن ننخدع بها، ولا أن يلبس بها علينا.(92/13)
الأدلة على موت الخضر
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر هل هو حي إلى الآن أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي، وأنه شرب من عين تسمى عين الحياة، وممن نصر القول بحياته: القرطبي في تفسيره، والنووي في شرح مسلم وغيره، وابن الصلاح والنقاش وغيرهم، وقال ابن عطية: وأطنب النقاش في هذا المعنى -يعني: حياة الخضر وبقائه إلى يوم القيامة- وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق.
انتهى بواسطة نقل القرطبي له في تفسيره.
وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة، ويروون عنهما بعض الأدعية كل ذلك معروف، ومستند القائلين بذلك ضعيف جداً؛ لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح، ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره، وكلها ضعيفة لا تقوم به حجة.
وبعض الناس يدعون أنه موجود وحي ولكنه محجوب عن أعيينا كالجن وكالملائكة، ويقولون: فكيف تنكرون وجود الخضر حياً ونحن لا نراه؟
الجواب
أنه لابد لكل دعوى من بينة؟ فإذا قلنا: إن الجن محجوبون، فالله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، وكذلك الملائكة.
أما دعوى أن الخضر موجود، وأنه حي، وأنه يرانا ونحن لا نراه، فالأصل خلاف هذه الدعوى؛ لأن الأصل في بني آدم أن يرى بعضهم بعضاً، فلا يجوز الخروج عن الأصل إلا بدليل وببينة، وبعض العوام يغرقون بتأثير الضلالات الصوفية بهذه المسألة، حتى إن المغرقين في الجهل منهم متى ما ذكر أمامه اسم الخضر قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ لأنهم يتصورون ويزعمون بجهالاتهم أنه متى ما ذكر لفظ الخضر فإنه يمر ويلقي عليك السلام، فعليك أن ترد عليه السلام.
من أقوى أدلة من يقولون بحياة الخضر، وليس معنى ذلك أنها صحيحة، لكن هذا أمثل ما عندهم نسبياً، ومع ذلك فهو في غاية الضعف، كما يقولون: وأحسن ما في خالد وجهه ووجهه الغاية في القبح فهي مسألة نسبية يقول: ومن أقواه عند القائلين به: آثار التعزية حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في تمهيده عن علي رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] الآية، إن في الله خلفاً من كل هالك، وعوضاً من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام.
يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
هذا نقله القرطبي في تفسيره حتى لو صح هذا الأثر فليس فيه نص على أنه الخضر.
قال الشنقيطي رحمه الله: والاستدلال على حياة الخضر بآثار التعزية كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفا مردود من وجهين: الأول: لم يثبت ذلك بسند صحيح، قال ابن كثير في تفسيره: وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم، وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف.
الثاني: على فرض أن حديث التعزية صحيح لا يلزم من ذلك عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً أن يكون ذلك المعزي هو الخضر، بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن؛ لأن الجن هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بلا دليل، وقولهم: كانوا يرون أنه الخضر، ليس حجة يجب الرجوع إليها؛ لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معقول، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى.
ثم قال الشنقيطي رحمه الله: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل أن الخضر ليس بحي بل توفي، وذلك لعدة أدلة: الأول: ظاهر عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، فقوله: (لبشر)، نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر من قبله، والخضر بشر من قبله، فلو كان شرب من عين الحياة وصار حياً خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] فأمده الله بالملائكة) الحديث.
ومحل الشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، فعل في سياق النفي، فهو بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض.
ثم قال: (فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض؛ لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يعبد في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض.
الدليل الثالث: إخباره صلى الله عليه وسلم: بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لن يبقى أحد على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة، فلو كان الخضر حياً في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة.
الإشارة هنا إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد))، يعني: لو ولد غلام في نفس تلك الليلة التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام لمات في خلال المائة عام.
فالخضر لا يمكن أن يتجاوز عمره مائة سنة ولابد أن يكون قد مات في خلال المائة سنة.
عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر قال: (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة) إلى آخر الحديث.
وقوله: (ما على الأرض) يدفع إشكال من يقول: إن عيسى مرت عليه مائة ولم يمت؛ فالكلام في من هو على الأرض، أما عيسى فهو في السماء، ولاشك أن الخضر عليه السلام نفس منفوسة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ)، فهذا الحديث فيه تصريح بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة.
قال: فقوله: (نفس منفوسة) ونحوها من الألفاظ في رواية الحديث نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض، ولاشك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر؛ لأنه نفس منفوسة على الأرض.
الدليل الرابع: أنه لو كان الخضر حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس جميعهما.
والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة آل عمران أنه أخذ على النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم -كما قال ابن عباس وغيره- فالأمر فيها واضح، وعلى أنها عامة فإنه عليه الصلاة والسلام يدخل في عمومها دخولاً أولياً، فلو كان الخضر حياً في زمانه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته.
ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: (أن عمر(92/14)
الخضر في اعتقاد أهل السنة
تنبيه أخير يتعلق بقصة الخضر: أورد فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة): قصة الخضر كما ثبت في الأحاديث التي تلوناها، ثم ذكر بعض الفوائد، فقال حفظه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب نبيه موسى الذي قال جواباً عن
السؤال
لا أعلم على الأرض أعلم مني، أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبداً لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى، وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر.
ثانيا: أن الخضر بعد أن تم اللقاء بينه وبين موسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله تعالى لا شيء، وأنهما لن ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر.
ثالثا: أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعل، ولذلك فإن الخضر عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئاً من ذلك؛ لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز، فلو وكلت رجلاً على عمل لك ثم جاءت الوحوش أو قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويترك بعضه لما كان ملوماً شرعاً، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله؛ لأنه حافظ له على قدر من المال، وما فعله الخضر بالنسبة للسفينة لا يعدو ذلك، فإنما أفسد السفينة فساداً جزئياً لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها، وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل من أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما، كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحياناً إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة، فما فعله الخضر بالنسبة للسفينة موافق للشرع الإلهي تماماً في كل دين وملة، وليس مخالفاً للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ عن أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده.
وأما قتل الغلام فهو كذلك سائغ في الشريعة، إذا كان هذا الغلام سيكون ظالماً لوالديه مجبراً لهما على الكفر، وكان هذا مما علمه الله مستقبلاً، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضاً سائغاً، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي -والشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا هو أصغر من الغلام، وكما قلنا: كلمة غلام تحتمل أيضاً أن تطلق على الكبير- يقول: والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين، أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين: الألم الأول: أنه ولدهما، وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء.
والثاني: أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان، وهذا عذاب آخر.
فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذاباً واحداً فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما، ولاشك أن صبرهما على فقده فيه خير لهما، فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقاً للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد وعليها سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك لما قيل لـ ابن عباس على الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل.
وهذا تعليق على شيء لا يقع، لأن الخضر كان يوحى إليه.
وأما مسألة بناء الجدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القرى والضيافة الواجبة؛ فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والنصرانية واليهودية، ففي القرآن الكريم: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وجاء في الإنجيل: (أحسنوا إلى من أساء إليكم، وباركوا لاعنيكم)، وقال تعالى فيما أوحاه لموسى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة، ثم إن إحسانه هذا لغلامين لم يتأت منهما إساءة، وكان أبوهما رجلاً صالحاً، وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم، ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم.
فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر؟ وأي حقيقة أطلع عليها الخضر تخالف أوامر شريعة كان عليها موسى، بل ما فعله الخضر موافق تماماً لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئاً يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها، وباختصار لم يفعل الخضر شيئاً مخالفاً لشريعة موسى، فافهم هذا جيداً وتمسك به.
رابعاً: وجود الخضر عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمراً سائغاً وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولاً إلى بني إسرائيل فقط ولم يكن رسولاً للعالمين، حتى المسيح عليه السلام إنما كان كما ينقل عنه في التوراة: (لم أبعث لخراف بيت إسرائيل الضالة).
إذاً: التبشير بالنصرانية الذي سمي تبشيراً بعد المسيح عليه السلام والذي اخترعه بولس من محدثات النصرانية، لكن المسيح أرسل إلى بني إسرائيل فقط، وكتبهم تدل على ذلك، فنشر النصرانية بهذه الطريقة مما أحدث في النصرانية بعد رفع المسيح عليه السلام.
ولما سلم موسى عليه السلام على الخضر قال الخضر: (وأنى بأرضك السلام، قال له موسى: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل، يعني: موسى الذي أرسل خاصة إلى بني إسرائيل؟ قال: نعم)، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز شرعاً أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته، وهذا مهم جداً في إبطال ضلالات الصوفية، فهم يريدون أن يقولوا: نحن عندنا العلم اللدني، ولنا طريقة غير طريقتكم، فهم يجوزون أن يكون هناك طريق إلى الجنة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم غير طريقه، ويقولون: أنتم لكم طريقة العلم الظاهر، ونحن عندنا العلم اللدني، ويستدلون بقوله: ((وعلمناه من لدنه علماً))، فمن سوغ هذا يعتبر كافراً خارجاً من ملة الإسلام، أي أن من يعتقد أن هناك طريقة للنجاة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم يخالف بها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كافر خارج من ملة الإسلام.
وقد يقول قائل: كيف وجدت معاً شريعة موسى وشريعة الخضر؟ نقول: هذا كان في زمانهم سائغاً، وكان قبل بعثة محمد عليه السلام، ويمكن أن يرسل نبي للهنود الحمر في أمريكا، ونبي أرسل لمنطقة في آسيا، وفي جنوب أفريقيا؛ لأن الله قال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، فهذا كان سائغاً، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يعد هذا محتملاً، لأنه عليه الصلاة والسلام رسول للعالمين، فلا يسع الخضر أو غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه، ولذلك فلا وجود بتاتاً للخضر أو أمثاله بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: لاشك أن ما فعله الخضر عن وحي حقيقي من الله، وليس عن مجرد خيال أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، يعني: أنه لم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وحي بعده.
أي: قد يأتي دجال من ضلال الصوفية ويقول: (ما فعلته عن أمري)، وإذا رأيت شيخك يفعل كذا وكذا فلا تعترض عليه، بحجة الالتزام بقصة موسى والخضر؟ نقول: هل هناك وحي بعد محمد عليه السلام؟ لا.
فقد انقطع الوحي بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى شيئاً من ذلك فقد كفر؛ لأنه خالف قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وختم بي النبيون فلا نبي بعدي).
ثم يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله: من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئاً مختلفاً تماماً، فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأنه موجود يتصل بهم، ويأخذون منه من العلم اللدني، وأشياء تخالف ما عليه شريعة محمد؛ وهذا فيه فتح باب عظيم لإفساد دين الإسلام.
وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما كان الخضر -وهو ولي فقط في زعمهم- أعلم من موسى، فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام عالم بالشريعة الظاهرة فقط والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق، ويأخذ لهم الع(92/15)
من خرافات الصوفية في الخضر
من خرافات الصوفية في الخضر: ما يقوله الحكيم الترمذي، وهو محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بـ الحكيم؛ يقول في كتابه (ختم الولاية): وللخضر عليه السلام قصة عجيبة في شأنهم، وقد كان عاين شأنهم في البدء فأحب أن يدركهم فأعطي الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم إلى قوله: وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب ذو القرنين عين الحياة فأتته وأصابها الخضر في قصة طويلة.
إذاً: خرافات طويلة لا أول لها ولا آخر ولا زمام ولا خطام، خرافات بدون إسناد وبدون دليل.
أيضاً من العلم الذي ينطقون به، علم البث، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف.
إلى آخر هذا الكلام، فالتقف الصوفية هذه القصة عن الحكيم الترمذي وأضافوا إليها من الخرافات والزيادات ما شاءوا.
يقول رجل اسمه السرهندي: إنه رأى الخضر وإلياس عليهما السلام حضرا عنده في حلقة الدرس، وأما الخضر فقال له: إنهما من عالم الأرواح وإنهما يتشكلان بما شاءا من الصور، وإنه -أي السرهندي هذا- سأل الخضر هل تصلون على المذهب الشافعي؟ فقال الخضر: لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لأن قطب الزمان الشافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي.
ويعلق السرهندي يقول: إن كمالات الولاية مختصة بالمذهب الشافعي، وإن كمالات النبوة فهي من اختصاص المذهب الحنفي، ولذلك عندما ينزل عيسى فإنه يصلي ويعمل بالمذهب الحنفي إلى آخر هذه الخرافات.
ذكر أيضاً الخلاف كثيراً في أنه شافعي أو حنفي، إلى أن قال الشيخ: وهؤلاء لاشك أنهم كانوا كذلك حمقى مجانين ذهبت عقولهم ولم ترجع لهم أبداً.
والعجيب أن مثل هذه الخرافات تظل تسري وتجري، فقد زعم الحصفكي الحنفي في مقدمة كتابه الدر المختار: أن الخضر أودع أوراق المذهب الحنفي في نهر جيحون إلى وقت نزول عيسى عليه السلام، أي: وضعه في زجاجة وقفل عليها وألقاها في نهر جيحون، وعندما ينزل عيسى تؤخذ إليه الصحائف ويتعلم منها المذهب الحنفي حتى يحكم به في آخر الزمان، أي: أن الدين سوف يتحول إلى هذه الخرافات وهذه الأساطير التي ليس عليها أثارة من علم.
أيضاً كل ميدان من ميادين الصوفية يدخلون فيه الخضر، فهو صاحب الكشف، ونقيب الأولياء، وآخر العهود، ومرسل الأنام، ومعلم الأفكار.
يقول أحمد بن إدريس: اجتمعت بالنبي عليه الصلاة والسلام اجتماعاً صورياً ومعه الخضر عليه السلام، فأمر النبي عليه السلام الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية، فلقنني إياها بحضرته صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام: يا خضر! لقنه ما كان جامعاً لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار.
من ضمن أذكار الشاذلية: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، وفيها: أن محمداً عليه والسلام هو أصل هذا الوجود، وهو أول مخلوق في هذا الوجود، ومنه انشقت كل الأنوار، وظهرت كل الموجودات.
وهذا مصطلح معروف اسمه: الحقيقة المحمدية.
وهو مصطلح خبيث للصوفية يقصدون به كلاماً في غاية الخطورة.
إذاً خلاصة هذا الكلام: أن خضر الصوفية بما يزعمونه وينسبون إليه ليس هو الخضر الذي نؤمن به، والذي ذكره الله في القرآن، والذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصته، فذاك عبد موحد مؤمن على علم من علم الله بالوحي، عاش ومات لوقته وزمانه، وفعل ما فعل موافقاً للحق والشريعة، أما الخضر الصوفي فهو مصدر للخرافة والجهل والشرك، ولذلك أخبر شيخ الإسلام ابن تيمية: بأن الخضر المزعوم لا حقيقة له، شأنه في ذلك شأن الغوث والقطب الصوفي، ومنتظر الرافضة.
يقول شيخ الإسلام: ثلاثة أشياء ما لها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة - المهدي المزعوم عند الشيعة- وغوث الجهال.
فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس، أنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوى النصيرية فيه باطل، وأما محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود.
وكذلك يزعم بعضهم أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم، ونحو هذا فهو باطل، فـ أبو بكر وعمر وهما أفضل أولياء الله على الإطلاق لم يكونا يعرفان جميع الأولياء ولا يمدانهم، فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله لا يحصيه إلا الله عز وجل.
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه وقال له الخضر: (وأنى بأرضك السلام، فقال له: أنا موسى! قال له: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم)، وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه.
ومن قال: إنه نقيب الأولياء، أو إنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل، والصواب الذي عليه المحققون: أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، إلى آخره.
قال عليه الصلاة والسلام: (كيف تهلك أمة أنا أولها، وعيسى في آخرها)، فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قط ولا خلفاؤه الراشدون.
وقول القائل: إنه نقيب الأولياء، فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام وليس فيهم الخضر؟ وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب، وبعضها مبني على ظن الرجال مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك.
وروي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال وقد ذكر له الخضر: من أحالك على غائب فما أنصفك، وقال أحمد: وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان.
وهذا الجواب هو خلاصة قضية الخضر وما شابهها: من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان.(92/16)
تفسير سورة الكهف [83 - 98](93/1)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين من أمرنا يسراً)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:83 - 88].
قال الله: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وهو الإسكندر الكبير المقدوني، وسنذكر وجهة تسميته أو تلقيبه بذلك.
((قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا))، أي: نبأً مذكوراً معجزاً أنزله الله علي.
((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ))، أي: بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد، وعظم الصيت، وكبر الشهرة.
((وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا))، أي: طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
((فَأَتْبَعَ سَبَبًا))، وفي قراءة: (فاتبع سبباً)، ويتعديان لمفعول واحد، وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين، والتقدير فأتبع سبباً سبباً آخر، أو فأتبع أمره سبباً؛ كقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص:42].
وقال أبو عبيدة: (اتبع) في السير، و (أتبع) معناه: اللحاق، كقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10]، أي: لحق به، وقال يونس: (أتبع) بالجر: الحثث في الطلب.
(واتبع) مجرد الانتقال.
والفاء في قوله: (فأتبع) فاء الفصيحة، أي: فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله عليه.
وقوله تعالى: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس))، أي: أقصى ما يسلك من الأرض من ناحية المغرب، يعني: أنه مشى إلى أقصى ما تصل إليه اليابسة من جهة المغرب.
((وجدها تغرب في عين حمئة))، أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود، وقرئ: (حامية) أي: حارة، وقد تكون جامعة للوصفين.
وقوله: ((وجدها)) بمعنى رأى، ((ووجد عندها قوماً)) أي: أمة.
ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره عليهم، وحكمه فيهم، وجعل له الخيرة في شأنهم بقوله: ((قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب)) يعني: إما أن تعذبهم بالقتل وغيره، ((وإما أن تتخذ فيهم حسناً)) بالعفو.
ثم بين اتصاف ذي القرنين بصفتي العدل والإنصاف ليحتذى حذوه ويقتدى به، بقوله عز وجل: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)).
وقوله تعالى: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة)) يقول الشنقيطي: قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم (حمئة) بلا ألف بعد الحاء وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم (حامية) بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل.
فعلى القراءة الأولى فمعنى (حمئة): ذات حمأة وهي الطين الأسود، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، والحمأ هو الطين، كما تقدم، ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين: بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد والخلب: هو الطين، والثأط: الحمأة، والحرمد: الأسود.
وعلى قراءة: (حامية): بصيغة اسم الفاعل فالمعنى أنها عين حارة، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، ولا منافاة بين القراءتين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ((وجدها تغرب في عين حمئة)) أي: رأى الشمس في ناظره تغرب في البحر المحيط.
وبعض الناس وبالذات قاصري الفهم من المستشرقين، يقولون: إن القرآن يصور للمسلمين أن الشمس تغطس في العين الحمئة هذه أو في البحر، فيرد ذلك ابن كثير بقوله: (في ناظره).
ثم قال: وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه.
ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط، وهو ذو طين أسود.
والعين: تطلق في اللغة على ينبوع الماء، والينبوع: الماء الكثير، فاسم العين يصدق على البحر لغة، والمقصود بالبحر المحيط المحيط الأطلسي؛ لأنه آخر شيء من جهة المغرب.
قال: وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)).
قال: أما من ظلم، بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال فسوف نعذبه، ((ثم يرد إلى ربه))، في الآخرة، ((فيعذبه عذاباً نكراً))، أي: منكراً لم يعهد مثله.
((وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)).
قيل: إن قوله تعالى: ((وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى)) هي الجنة في الآخرة، أما في الدنيا: ((وسنقول له من أمرنا يسراً)) وهذا في حق المؤمن؛ لأن المؤمن يعمل للآخرة، قدم ويوقن بثوابها الأخروي الذي يسعى إليه بحق.
أما في الكافر فقال: ((أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد))، رغماً عنه إلى ما كان ينكره أو يكذب به من الآخرة، ((ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً)).
وقيل: ((فله جزاء))، أي: فله في الدارين ((جزاء الحسنى))، أو قيل: الخصلة الحسنى، أو: ثناؤه الحسنى جزاء، أي: مجزياً بها.(93/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً وكان وعد ربي حقاً)
((ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا))، أي: طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90]، يعني: شيئاً يسترهم من المباني أو الجبال.
قال تعالى: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91]، (كذلك) أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان، وسعة الملك.
أو: أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم.
أو: المقصود بكلمة (كذلك): أنه كما حكم في أهل المغرب مكناه أيضاً في أهل المشرق يحكم فيهم بنفس الحكم المتقدم، أو: (كذلك) إشارة إلى مطلع الشمس، وأنه كما وجد الشمس تغرب في عين حمئة في جهة المشرق وجدها أيضاً تطلع في جهة المشرق، أو: المقصود أنه: بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله عز وجل، أو: (كذلك) صفة لقوم، أي: على قوم مثل ذلك القبيل الذين تغرب عليهم الشمس في الكفر والحجب، كذلك وجد قوماً بنفس الصفة في المشرق.
((وقد أحطنا بما لديه خبراً))، أي: علماً نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض.
((كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا))، يفهم من هذا الإشارة إلى عظيم العدد والعدد التي كانت معه، بحيث لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع غير الله أن يحصر ويحيط ما معه من الجيوش الكثيرة وكذلك العدد والآلات.
قال تعالى ((ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا))، بعدما اتجه إلى مشرق الأرض حيث مطلع الشمس أتبع سبباً، أي: طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب.
((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ))، بعض المصنفين يذكر أن هذه المنطقة تقع ما بين البحر الأسود وبين بحر قزوين، وهي عبارة عن منطقة جبلية تزيد على ألف ومائتين وخمسين كيلو متر تقريباً، وهي منطقة جبال متصلة، فهي في حد ذاتها سد، وليس فيها مكان سوى مسافة واحدة هي التي تنقطع عندها السلسلة الجبلية، وهي التي أنشأ فيها هذا السد، وهي الجهة الوحيدة في المنطقة التي فيها سهل أو شعب واسع بين الجبلين، وكان يأجوج ومأجوج يغيران على الأمم من خلاله، أما ما عدا ذلك فكانت حواجز جبلية قوية جداً، وهي سلسلة جبال القوقاز، والله تعالى أعلم.
((السدين)) بفتح السين وضمها قراءتان، أي: بين الجبلين اللذين سد ما بينهما.
((وجد من دونهما))، أي: وراءهما، ((قوماً)) أمة من الناس، ((لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا))، لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم.
((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ))، بالقتل والإضرار.
((فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا))، أي: جعلاً نخرجه من أموالنا، وقرئ: ((فهل نجعل لك خراجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً))، أي: حاجزاً يمنع خروجهم علينا، ((قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ))، أي: ما جعلني فيه مكيناً من المال والملك أجلّ مما تريدون بذله، وأنا لست في حاجة إلى هذا الجهد أو هذا الخراج؛ لأن ما مكني منه الله سبحانه وتعالى من المال والملك أجل وأعظم مما تريدون بذله.
((فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ))، بعمالة وصناع وآلات، ((أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا))، أي: حاجزاً حصيناً، وأصل الردم: سد الثلمة بالحجارة ونحوها.
((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ))، أي: ناولوني قطع الحديد.
((حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ))، أي: بين جانبي الجبلين، ((قَالَ انفُخُوا))، أي: في الأكوار والحديد.
((حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا)) أي: المنفوخ فيه جعله كالنار في الإحماء، ((قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا))، يعني: كان الحديد بمثابة اللبنات، والنحاس المذاب بمثابة الإسمنت، وهذه سبيكة من أقوى ما تكون من السبائك، والمعنى: أفرغ عليه نحاساً مذاباً ليلصق بالحديد ويتدعم البناء به ويشتد.
((فما اسطاعوا أن يظهروه))، يعني: لم يستطيعوا أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته، (وما استطاعوا له نقباً)، لم يستطيعوا ثقبه لسماكته وصلابته.
((قال هذا رحمة من ربي))، أي: هذا السد رحمة من ربي على القاطنين عنده، وعلى القوم الذين يسكنون في هذه المنطقة؛ لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم لسد الطريق عليهم، يعني: هو أمان لهؤلاء الذين يسكنون عنده، وأمان لمن وراءهم أيضاً، لأنهم لن يصلوا إليهم بسبب هذا السد.
((فإذا جاء وعد ربي))، بدحره وخرابه، ((جعله دكاء))، بالمد، أي: أرضاً مستوية، وقرئ: ((جعله دكا)) أي: مدكوكاً مسوىً بالأرض.
((وكان وعد ربي حقاً)) أي: كائناً لا محالة.
وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.(93/3)
تنبيهات على قصة ذي القرنين
ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات:(93/4)
قصص القرآن عظات وأحكام وآداب
التنبيه الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار يعني أن القرآن الكريم لا يسلك مسلك الروايات التاريخية أو القصص والحكايات ومجرد الأخبار، وإنما المقصود بما ذكر من ذلك العظات والأحكام والآداب التي تتجلى في سياق الوقائع، فيجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات وما يستنبط من تلك الآيات، وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علماً إلى العليم الخبير.
فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض، ورزقه من يشاء بغير حساب ملكاً ومالاً، لما له من خفي الحكم وباهر القدرة، فلا إله سواه، والإشارة هنا إلى رفع شأن ذي القرنين.
ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل، وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر، فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس ومطلعها وشمالها وعدم فتوره؛ فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القطر عذراً في الخمول والرضا بالدون، بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
يعني أنه إذا ذاق المرارة نتيجة الجد والكفاح والسعي، فعليه أن يعزي نفسه بحلاوة العاقبة من الراحة والهناء، كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار، إن لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.
ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة، ولا يؤخر الاجتهاد في تحصيل المطالب العالية إلى مرحلة الكهولة، إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال، إذ إن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره، وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب، فهزم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم وكأنه القضاء المبرم، ولم يقف في وجهه عدد ولا عدد، وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل، وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية التي ورثها عن أبيه وهو شاب، وقضى -أي: مات- وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.
ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة، فيسوقهم بعصا الإذلال ويجرعهم غصص الاستعباد والنكال، بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف:87] إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.
ومنها: أن على الملك إذا اشتكي إليه جور المجاورين أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعاً عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب، قياماً بفريضة دفع المعتدين، وإمضاء العدل بين العالمين، كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد، وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار لرد غارات البرابرة وصد هجماتهم.
ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة في مقابلة عمل يأتيه ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته، وزيادة الشغف بمحبته، كما تأبى الإسكندر تفضلاً وتكرماً.
ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام، كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم والشفقة عليهم: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] كقول سليمان: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنجليزية.
ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص، وبوضع صفائح النحاس خلال الصخور الصم صدقاً في العمل ونصحاً فيه؛ لينتفع به على تطاول الأجيال، فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.
ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال، ومشاركتهم بنفسه إذا اقتضى الحال؛ تنشيطاً لهمتهم، وتجرئة لهم، وترويحاً لقلوبهم، وقد كان الإسكندر يقاسم الرجال الأتعاب، ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96].
ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره، ولذا قال: ((هذا رحمة من ربي)).
ومنها: الإعلام بالدور الأخروي، وانقضاء هذا الطور الأولي؛ لتبقى النفوس تواقة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي، ولذا قال: ((فإذا جاء وعد ربي))، إشارة إلى العالم الآخر.
ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء وجميل الآثار، فإن من أمعن النظر فيما قص عنه في هذه الآية الكريمة يتضح له جلياً حسن سجاياه وسمو مزاياه من الشجاعة، وعلو الهمة، والعفة، والعدل، ودأبه على توطيد الأمن، وإثابته المحسنين، وتأديبه للظالمين، والإحسان إلى النوع البشري لاسيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة وحشية فاسدة.
ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمماً متباينة، كما كان يرمي إليه سعي الإسكندر، فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد، وقد حكي: أنه كان يجيش من كل أمة استولى عليها جيشاً عرمرماً يضيفه إلى جيشه المقدوني اليوناني، ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.
ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد يقضي على المرء أن يعيش أولاً طفلاً مرضعاً لا يعلم ما حوله، ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة قياماً بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له، وعرضة لأسقام تذيقه الآلام وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئاً من هذا النظام، فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله؛ ترعرع إنساناً عظيماً ظافراً بمنتهى أمله، كما فعل الإسكندر الكبير.
هذا فيما يتعلق بالتنبيه الأول.(93/5)
تحرير النزاع في حقيقة ذي القرنين
التنبيه الثاني: من هو ذو القرنين؟ اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فليب، وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان حينما كان يتكلم عن الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني، وهو ابن فليب، وليس بـ الإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين.
فـ ذو القرنين كان رجلاً صالحاً موحداً لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عباد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج.
وأما هذا المقدوني فكان مشركاً يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة، والنصارى تؤرخ له، وكان أرسطا طاليس وزيراً له، وكان مشركاً يعبد الأصنام.
انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
ثم يعلق القاسمي على كلام ابن القيم قائلاً: وفيه نظر، فإن المرجع في ذلك -يعني: في حسم هذه القضية- هم أئمة التاريخ، وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فليب باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا، وأما دعوى أنه كان مشركاً يعبد الأصنام؛ فغير مسلم.
وأكيد أنكم سعداء مثلي حينما نسمع بأن الإسكندر كان رجلاً مسلماً موحداً، فنرجو أن يكون هذا هو المذهب الراجح، لأن الإنسان إذا تخيل أن باني الإسكندرية رجل وثني لاشك أن الفرق شاسع جداً في الأمرين، على أي الأحوال القاسمي يتحمس جداً للترجيح بأن الإسكندر كان مؤمناً موحداً، وأنه هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم.
يقول: وأما دعوى أنه كان مشركاً يعبد الأصنام؛ فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين؛ لأنه كان تلميذاً لـ أرسطا طاليس، وقد جاء في ترجمته كما في طبقات الأطباء وغيرها: أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت، وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر -لما كفر بعبادة الأصنام حكم عليه قومه بالكفر في ذلك الوقت- وأريد السعاية به إلى الملك، فلما أحس بذلك شخص عن أثينا -هرب من أثينا لما أرادوا الانتقام منه بسبب موقفه من عبادة الأصنام- لأنه كره أن يبتليه أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراط معلم أفلاطون؛ فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام، وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها؛ فثوروا عليه العامة، واضطر الملك إلى قتله، فأودعه السجن ليكفهم عنه، ثم لم يرض المشركون إلا بقتله، فسقاه السم خوفاً من شرهم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم.
كان هذا الكلام كله في حق سقراط.
قال: فالوثنية وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه، كـ النجاشي ملك الحبشة؛ فإنه جاهر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى، وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله؛ فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد.
قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس أستاذ سقراط يقول ببقاء النفس، وكونها فيما بعد في ثواب وعقاب على رأي الحكماء الإلهيين.
وأما قول الفخر الرازي: إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالاً قوياً، وهو أنه كان تلميذ أرسطا طاليس الحكيم وكان على منهجه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه.
أي: على أساس أنه لو أن الإسكندر تلميذ أرسطا طاليس، والقرآن الكريم يمدح ذا القرنين، فلو كان الإسكندر هو ذا القرنين، وهو تلميذ لـ أرسطا طاليس فتعظيم الله لـ ذي القرنين أو للإسكندر يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق.
ثم يرد القاسمي قائلاً: فلا يخفى دفع هذا اللزوم؛ فإن من كان تابعاً لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه؛ إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه، وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلداً، أفلا يمكن أن يكون حراً في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق، ومن آتاه الله من الملك ما آتاه أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر، وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف فيه متبوعه؟ يعني أنه لا يليق به أن يكون مقلداً لأستاذه فإن من آتاه الله سبحانه وتعالى الملك والجاه لا يبعد أن يؤتيه الله من تنور الفكر وعدم التقليد ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه.
قال: هذا على فرض أن متبوعه مذموم، وقد عرفنا أن متبوعه أعني أرسطا طاليس كان موحداً، وهو معروف في التاريخ.
وقد قيل: إن أرسطو وسائر الناس في زمانه كانوا على منهج الأنبياء، وهذا لا يبعد، فعندما يكون التاريخ موغلاً في العراقة والقدم بهذا الشكل لا يصعب تحريفه خاصة من ذوي الأغراض من مزوري التاريخ والكاذبين على المعاصرين، فضلاً عن الغابرين، فضلاً عمن بيننا وبينهم آلاف أو مئات السنوات.
يقول: على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بها كمالاً، وللرازي فرص يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف بمذهبهم، وهذه منها وإن صبغها سامحه الله بهذا الأسلوب، عرف ذلك من عرف.(93/6)
سبب تلقيب ذي القرنين بذلك
التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بـ ذي القرنين، فقيل: لأنه طاف قرني الدنيا -طاف في قرني العالم أقصى الشرق وأقصى الغرب- أو: لأنه كان له قرنان، أي: ظفيرتان، أو لأنه ملك الروم والفرس.
قال الزمخشري: ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشاً، فلما ذكر أحد علماء الحديث البخاري، قال: ذلك الكبش النطاح.
لأنه شجاع ينطح أقرانه ويغلبهم في العلم.
يقول القاسمي: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان؛ لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها، والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود الذين هم السائلون: ((ويسألونك عن ذي القرنين))، وقد وقع في توارتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: فإذا أنا بكبش واقف عند النهر وله قرنان، والمراد به: ملك له قرنان، ثم قوله: وبينما كنت متأملاً إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها، وللسيف قرن عجيب المنظر بين عينيه.
قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان، والسيف: رمز إلى مملكة اليونان، والقرن هو رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير، وما أشار إليه من سرعة مسيره إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد به من الغارات المتواصلة، وقوله (خرج من المغرب)، إشارة إلى خروجه من مقدونيا أو مكدونيا -وهي التي وقعت فيها مذبحة قريبة في الجبل الأسود أو كوسوفا- التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوث وكسره وتعقبه إلى داخل مملكته.
والقصد: أن هذا اللقب - ذو القرنين - شهير، وليس من أوضاع العرب خاصة كما زعمه بعضهم، بل هو معروف حتى عند أهل الكتاب، بل هو معروف عند العصرانيين أيضاً، وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي صارت إلى العرب وأقرتهم عليها.(93/7)
خلاف العلماء في نبوة ذي القرنين
التنبيه الرابع: قال الرازي: اختلفوا في ذي القرنين، هل كان من الأنبياء أم لا؟ منهم من قال: إنه كان نبياً، واحتج عليه بوجوه: الأول: قوله تعالى: ((إنا مكنا له في الأرض))، والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني: قوله تعالى: ((وآتيناه من كل شي سبباً)) ومن جملة الأشياء النبوة.
الثالث: قوله تعالى: ((قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا))، والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبياً.
ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.
انتهى كلام الرازي.
ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: ((قلنا يا ذا القرنين)) على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبياً، وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء عدول عن الظاهر.
ثم يعلق القاسمي: ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته.
يعني: التمسك بمثل هذه العمومات لا يكفي في إثبات النبوة؛ لأن الأدلة في عامتها يضعف وجه دلالتها على كونه كان نبياً؛ لأن قوله: ((إنا مكنا له في الأرض)) ما المانع من أن يكون المقصود به الملك والتمكين الدنيوي والصفوة وتوسع النفوذ والسلطان؟ وليس شرطاً أن يكون التمكين بالنبوة، والظاهر أنه كان ملكاً عظيماً.
ثانياً: قوله: ((وآتيناه من كل شيء سبباً)) لا تستلزم أن يؤتى النبوة أيضاً، باعتبارها سبباً من الأسباب، كما في قوله تعالى في شأن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، وهي إنما أوتيت من كل شيء مما يؤتاه الملوك، كذلك هذا آتاه الله من كل شيء سبباً ولا يشترط أن تشتمل على معنى النبوة.
يقول القاسمي: ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته؛ لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص، وأما الاعتماد على العمومات لاستفادة فمثل ذلك فغير مقنع، وأما قوله تعالى: ((قلنا يا ذا القرنين))، فقد قلنا إنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم، لا أنه قول مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر.
يقصد القاسمي: أن قوله تعالى: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]، كناية عن تمكينه له تعالى من هؤلاء القوم، لا أنه قال له ذلك مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى، كأن الله هو الذي خيره ولقنه ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر، {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] فإذا كان الله مكنه منهم، وكان من قبل قد قال له: أنت مخير أن تفعل هذا أو ذاك، فكيف يسوغ له بعد ذلك أن يجتهد اجتهاداً ينقض هذا الحكم؟ قال: ولا يقال: إن الأصل في الإطلاق الحقيقة، لأنا نقول به ما لم يمنع منه مانع وللتنزيل الكريم أسلوب خاص عرفه من أمعن النظر في بديع بيانه.
نعم.
لو كان مراد القائل بنبوته: إنه من الملهمين، ذهاباً في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع لكان قريباً، فتكون نبوته من القسم الثاني، وهو الإلهام الذي جاء في الحديث تسمية صاحبه محدثاً كما في البخاري قال عليه الصلام والسلام: (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، وإطلاق النبوة عليه وإن كان محظوراً في الإسلام إلا أنه كان معروفاً قبله في العباد الأخيار.(93/8)
سبب نزول الآيات الواردة في ذي القرنين
التنبيه الخامس: حكي في قوله تعالى: ((ويسألونك عن ذي القرنين)) قولان: في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم، ورجح الأول من وجهين: الأول: إن للإسكندر عند اليهود شأناً وقدراً، وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة، فدخلها إسكندر وسمع نبوءة التوراة فسر، وأحسن إلى اليهود -يعني رؤيا دانيال- وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.
ثانيهما: أن عنوان ذي القرنين مستعمل في لغة الإسرائيليين، كما قدمناه عنهم.(93/9)
المراد بالعين الحمئة المذكورة
التنبيه السادس: قالوا: المراد بالعين الحمئة البحر المحيط، وتسميته عيناً لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى كعين، وإن عظم عندنا، قالوا: رأى الشمس في ناظره تغرب في البحر، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحل البحر يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق فلكها، يعني: لا تزال تدور في فلكها بعيداً عن الأرض.
وللإمام ابن حزم رحمه الله رأي آخر في الآية ذكره في كتاب الملل في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين كان في العين الحمئة الحامئة، كما تقول: رأيتك في البحر، تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر.
وبرهان هذا: أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل، ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت لرأس السرطان، مرئي مشاهد.(93/10)
موضع السدين
التنبيه السابع: قال الرازي: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال، وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان، وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.
وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه: أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.
وذكر ابن خرداد في كتاب المسالك والممالك: أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشهدوه، فوصفوه بأنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.
قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
يقول: فقد بعث إليه الواثق -يعني: إلى هذا السد- أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه، وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً.
هذه نقطة مهمة جداً في الحقيقة، يقول: حتى لو لم نستطع الآن أن نراه لم يضرنا.
وبعض الناس يقول: حصل مسح جغرافي شامل للكرة الأرضية، وأن هذا السد لو كان موجوداً لرأيناه إلى آخره، وهذا الكلام لا يسلم؛ لأنه كم من منطقة بالذات هذه المناطق الجبلية لم تطأها قدم إنسان على الإطلاق، وهناك مناطق لا يتصور أن يصل إليها إنسان، وهذا وارد، فهذا لا يضر خبرنا شيئاً.
يقول: وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً؛ لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء؛ بحيث يكون ميل الشمس ورجوعها وبعدها كما هو في الجهة الشمالية.
ثم يقول: واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان، فهو كاذب مبطل جاهل أو متجاهل، لاسيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره، وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهية العقل، فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر، ونعوذ بالله من البلاء.
قال بعض المحققين: اعلم أن كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا.
فقد تحدث بين طبقات الأرض فروق عن طريق الزلازل والبراكين ونحو هذه الأشياء، ومثل هذا ما يسمى بـ: المتحف الروماني، أو المسرح الروماني فهو تحت الأرض، وكان من قبل جبلاً عالياً، وكان في هذه المنطقة بركان، ثم أزيل لأن رجلاً يونانياً مغرم بالبحث عن حلمه في الحياة، وكل حياته كرسها لأجل أن يبحث عن مقبرة الإسكندر، فكان يحفر حتى اكتشفوا المقابر أو المساكن ومن ضمنها المسرح الذي تحت الأرض، فما الذي هبط بهم؟ عذاب، فخسف الله بهم الأرض، أو زلازل أو براكين وانقلبت البلد، أو غطيت بهذه الأكوام من الصخور، إذاً: هذا شيء وارد في علم الله وفي قدرة الله سبحانه وتعالى، تحصل بعض الزلازل أو البراكين فتغير التركيب الجيولوجي للطبقات.
فيقول: كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زماننا هذا، فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن فربما كان ذلك ناشئاً من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره، ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة.
هذه المسألة فيها خلاف، ودليل القرآن يدل على بقاء هذا السد إلى يوم القيامة.
قد يقول قائل: كيف وقد قال تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]، فمعناه: أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه، حيث كان هذا السد حائلاً بين يأجوج ومأجوج وبين الإفساد في هذه البلاد.
((قال هذا رحمة من ربي)) لمن؟ رحمة من الله بالأمم القريبة منه لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أنه مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله، ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف لحظة واحدة أمام قدرة الله، بل يدكها جمعاء دكاً في لمح البصر.
فمراد ذي القرنين بهذا القول: تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، ((فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء)) أي: إن الله قادر على أن يدكه دكاً.
قال: فأراد ذو القرنين تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله، فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان وكان هذا السد موجوداً دكه الله دكاً، وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها لأسباب أخرى كالزلازل إذا قدم عهده، وكالثورات البركانية كما قلنا، وليس في الآية ما ينافي هذا.
قال: وأما قوله تعالى: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)) فالمراد منه: خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض كما يخرج الشيء المحبوس المضغوط إذا انفجر، واستعمال لفظ الفتح مجازاً شائع في اللغة، ومنه قول: افتتحوا البلاد، وقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، فليس للأشياء أبواب، وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم، بل هم من كل حدب ينسلون، والمراد أن المراد بخروجهم هذا -وهو الغالب- خروج المغول والتتار، وهم نسل يأجوج ومأجوج، وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري، وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض بعد أن انتشروا فيها من الإفساد والنهب والقتل والسبي.
وهناك رسالة لأحد المصنفين بعنوان: يأجوج ومأجوج، في مجلد كبير، وتتبع الخروج المتعدد للمغول والتتار والإفساد الذي أفسدوه في الأرض بصورة مفصلة، والذي انتهى بأن هزمهم الإسلام وذابوا في الهوية الإسلامية، وفروا من ملوكهم وأصبحوا مسلمين يحكمون بالإسلام.
ثم يقول: والراجح أن السد كان موجوداً بإقليم داغستان -التابع الآن لروسيا بين مدينة ديربل وخوازر- فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بالسد، وبه موضع يسمى باب الحديد، وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب بجبل قاف، وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم، ويقولون: إنه في نهاية الأرض، وذلك بحسب ما عرفوه منها ومن ورائه قبيلة يأجوج ومأجوج.
انتهى.
وجاء في صفوة الاعتبار: أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين، فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلاً، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدماً، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدماً، وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدماً، وقالوا: إن هذا السور أيضاً كان من أحد الوسائل الدفاعية لرد هجمات المغول والقبائل الشمالية، والسور الآن خراب في جهات كثيرة.
وهذا تأويل بعيد.
يقول: فإن كان هو المراد بالسد في الآية لزم حمل الصفات المذكورة فيه من كونه زبر الحديد، ومفرغاً عليه النحاس على بقاع من ذلك السور.
وهذا احتمال بعيد جداً.
ثم قال بعض المصنفين في هذا: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي كوة قاف تقتضي أن هذا الجبل كان مسدوداً بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين، وهذا السد العظيم تارة يعزى للإسكندر وتارة لـ أنو شروان، ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن تروى لمن يروم ذلك.(93/11)
تسمية يأجوج ومأجوج أعجمية
التنبيه الثامن: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان لم ينصرفا للعجمة والتعريف، ويجوز ياجوج وماجوج بترك الهمز.
قيل: إنهما من الترك، وقيل: إن يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم، ثم من الناس من وصفهم بصغر القامة وصغر الجثة، وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز المعروفة عند العرب بجبل قاف في إقليم داغستان قبيلتان تسمى إحداهما آكوك والثانية ماكوك فعربهما العرب بيأجوج ومأجوج، وهما معروفان عند كثير من الأمم، وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب، ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.(93/12)
الإسرائيليات في ذكر يأجوج ومأجوج
التنبيه التاسع: توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواية في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج، وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات، ومن ذلك حديث: (إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه، كان كل قد حمل السلاح) إلى آخره في هذا الكلام، رواه ابن عدي في الضعفاء عن حذيفة مرفوعاً وقال: موضوع منكر.
أيضا هناك أثر عن وهب بن منبه، كما قال ابن جرير؛ الأثر الطويل العجيب في سير ذي القرنين وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم.
وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، فجزى الله البخاري أحسن الجزاء على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار، ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: إن راوي الضعاف غاش آثم مضل، والله المستعان.(93/13)
يأجوج ومأجوج في السنة
العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى له كلام في هذه القضية أيضاً، يقول: اعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له.
ورغم أن القاسمي في آخر كلامه أثنى على البخاري لأنه نبذ الإسرائيليات، لكن نلاحظ أيضاً أن القاسمي لم يتعرض لما في البخاري ومسلم من الأحاديث التي تعرضت لذكر السد، وذكر يأجوج ومأجوج، وتفاصيل ما سيقع في قيام الساعة، فهذا مما يضعف الاستناد لاستنباطات القاسمي، لأنه أهمل ذكر السنة مع أنه أثنى على البخاري رحمه الله تعالى.
وهذا الجانب من البحث الذي يعتبر نقطة ضعف من كلام القاسمي وفاه وعالجه من وجهة نظر أخرى العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.
يقول: فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين الكريمتين لهما بيان أوضحته السنة، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بياناً وافياً بالمقصود، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين -دون يأجوج ومأجوج - إنما يجعله الله دكاً عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة؛ لأنه قال هنا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:98 - 99]، وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة التي عوض عنها تنوين (يومئذ) من قوله: ((وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض)) أنه إذا جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض.
ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم، وإذا تقرر أن معنى يومئذ: يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم، فاعلم أن الضمير في قوله: (وتركنا بعضهم)، على القول بأنه لجميع بني آدم، فالمراد يوم القيامة.
وإذاً: فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد وقربه منه، وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج، فقوله بعده: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف:99]، يدل في الجملة على أنه قريب منه.
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98]، هو إشارة إلى السد، أي: هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده، أو: هذا الإقدار والتمكين من تسويته ((فإذا جاء وعد ربي)) يعني: فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي: مدكوكاً مبسوطاً مسوىً بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام.
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:96 - 97].
لأن قوله تعالى: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج))، وإتباعه لذلك بقوله: ((واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا)) يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها، وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم روسيا -إن يأجوج ومأجوج هم الروس- وإن السد فتح منذ زمان طويل.
فإذا قيل: إنما تدل الآيات المذكورة في الكهف والأنبياء على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد، واقترابه من يوم القيامة، لا ينافي كونه قد وقع بالفعل.
يعني: إنه يوجد قول آخر يرد على هذا الكلام، يقول: اقتراب القيامة ليس فيه إشكال، وتوجد علامات كثيرة جداً تدل على اقتراب الساعة، كبعثة النبي محمد عليه السلام.
يقول: كما قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها)؛ فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، وإذاً فلا ينافي دك السد الماضي المزعوم الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن؟ فالجواب هو ما قدمنا: أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافياً بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له.
يعني رغم محاولة الشنقيطي لاستنباط هذا المعنى من آيتي سورة الكهف وسورة الأنبياء، يقول: لكنه يحتاج لمزيد من الإيضاح عن طريق السنة.
يقول: ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة؛ لأنها مبينة للقرآن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟، قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة، كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا.
قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.
قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا.
اقدروا له قدره.
قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت دراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله؛ فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله.
ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم -أي: لا أحد يستطيع أبداً أن يقاتلهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة.
يدعو عليهم المسيح عليه السلام فيهلكهم الله سبحانه وتعالى.
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة -المجموعة من الناس- من الرمانة، ويستظلون بقحفها -قحف الرمان هو ورقه- ويبارك الله في الرسل؛ حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة).
وهذا الحديث رواه مسلم.
وهذه الريح هي التي تأتي من اليمن تقبض نفس كل مؤمن، وهي المشار إليها بقول النبي عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، يعني: حتى تأتي هذه الريح التي تقبض أرواح جميع المؤمنين.
قال: وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال، فمن يدعي أنهم روسيا، وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها، ولا شك أن كل خبر ناقض خبر ا(93/14)
خطر الخوض في تنزيل أشراط الساعة على الواقع
ونحتاج وقفة يسيرة هنا مع ظاهرة مؤلمة تتكرر بين وقت وآخر: وهي ظاهرة الاستناد إلى مرويات أهل الكتاب والإسرائيليات، فهذا من الشيء المؤسف جداً، الآن توجد موجة كاسحة في عالم التأليف عن أشراط الساعة، حتى يكاد الناس يقولون: فلان هو فلان المذكور في كذا، إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو أن اعتماده على أحاديث مأخوذة من كتب الشيعة وكذبهم وضلالهم، وإما من كلام أهل الكتاب والإسرائيليات، ويحاولون أن يطبقوها على الواقع، يقول لك: إن صدام حسين هو السفياني.
هذه الموضة كانت بدأت منذ سنوات، وكان معظم الناس يتكلمون ويقولون: إن العام الحاسم هو عام (1997)، ثم مرت سنة (1997) وحصل ما حصل.
فالرجم بالغيب، والإخبار عن المستقبل أو تنزيل النصوص على الواقع بدون بينة من الشرع، يعتبر من التقول على الله سبحانه وتعالى بغير علم، وموافقة لهوى النفس، فالإنسان يجد دافعاً داخلياً للاستجابة، لكن الأحداث لا تسير حسب الأماني، ونحن إنما نفرح حينما نعلم أنه سيكون النصر في النهاية للمسلمين.
كما حصل أيضاً في فتنة الخليج قالوا: هذه هي الملحمة بيننا وبين اليهود والنصارى في فلسطين، وستحصل الملحمة الكبرى في المنطقة المعروفة بالشام، ونحن إن كنا نوقن بأن الملحمة ستقع؛ لأن الرسول عليه السلام أخبر بذلك في أحاديث صحيحة، إلا أننا لا نطبقها على الواقع إلا إذا وقعت، فلا يصلح أن نستدعي أحداث آخر الزمان بإرادتنا، هذه أمور كونية قدرية ستقع حتماً، لكن كما شاء الله ومتى شاء الله، ونحن مسئولون فقط عن الإيمان بها إيماناً مجملاً، أما تنزيلها على الأعيان والزمان فهو تقول على الله بغير علم.
وقد حصل الخلل في مثل هذا الأمر في حادثة المهدي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، سنة ألف وأربعمائة هجرية، لما حصل الاعتصام في الحرم؛ لأنهم كانوا يريدون تسرعة الأحداث بأيديهم، فأخرجوا المهدي من بينهم، وخططوا لذلك في ضوء أحاديث ضعيفة ونحو ذلك؛ فحصل ما حصل من انتهاك حرمات الله عز وجل.
فنحن غير مسئولين عن أشراط الساعة وغير مكلفين بأن نجتلبها، والأحداث ستسير وفق ما حدده الله لا الهوى، وتأتي رواية تقول لك: توجد روايات في التوراة تقول كذا، وإن السفياني رجل جبار وقاسي القلب، لكن يهزم إلخ، وينتهي في النهاية نهاية سعيدة، وبلا شك -إن شاء الله- ستكون نهاية سعيدة للمسلمين، ويمكن لهم الله سبحانه وتعالى، آجلاً أو عاجلاً، كما وعدنا الله سبحانه وتعالى، لكن الخطر في أن هذه التحليلات تمثل حرباً نفسية، لأن إسرائيل كأنها إذا أرادت فلا مرد لإرادتها ولا لأمرها، فهذه نوع من الحرب النفسية ومساهمة في نشر الأراجيف بين المسلمين.
قد كنت أنتظر مرور سنة (1997) هذه بأي طريقة، حتى أقول هذا الكلام، وجاءت الآن المناسبة، أين العامة التي كانت تلهج بذكر سنة (1997) وبما سيكون فيها؟ وجاء الوقت الآن وبدأت الجعجعة لسنة ألفين، لكن نقول: الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أما أن نلهو بالغيب بناءً على إسرائيليات لا نعرف صدقها من كذبها، أو بناءً على منامات، أو حديث موضوع، أو اقتباسات من كتب الشيعة الكذابين الذين هم أكذب الفرق في القديم والحديث، ثم بعد ذلك نمني أنفسنا ونهرب من الواقع إلى هذه الخيالات، فهذا مما لا يليق بالمسلم.
فلنكف عن الخوض في هذه الموجة النازلة، حتى الكتب أصبحت كثيرة في هذا الباب، والكل يكتب عن أشراط الساعة، ويرتب بعضها على بعض، ولماذا صدام حسين خصيصاً؟! وما الذي يعجب في صدام حسين السفاح المجرم الأفاك الأثيم؟! أليس هو الذي جلب لنا كل هذا الشؤم؟! حرب الخليج تعتبر مثل حادثة الفيل في استعمالها للتأريخ؛ لأنها فصلت بين حقبتين تاريخيتين، فهي فتحت أمامها الشر والذل والهوان الذي نحن فيه الآن، إذ أن الجيوش الأمريكية والإنجليزية التي أرسلت صارت الآن تخزن أسلحتها في فلسطين المحتلة، وأصبح من حق اليهود استعمالها عند الضرورة -خدمة ما بعدها خدمة- وبعض المساكين السذج في الصدام الأخير المزعوم بين صدام حسين وأمريكا لم يلتفت إلى أن الغرض هو إيجاد المبرر لزيادة هذه القوات، والناس ظنوا أن أمريكا تراجعت، لا.
بل وجدت المبرر لحشد القوات في هذه المنطقة.
صحيح عند النصارى توجه في أمريكا، وبلا شك عند اليهود يقين بوقوع ملحمة هرمجدون، وربما هي التي يسميها الرسول عليه الصلاة والسلام الملحمة الكبرى، فهم يزعمون أن النصر سيكون حليفهم في النهاية، ولكن قطعاً سيكون النصر حليف المسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولكن متى؟ لا ندري، وهذه الملحمة في الشام في مكان حدده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل دقة، أما أن نقول: إن حرب الخليج كانت هي الملحمة وسيحصل كذا وكذا.
إذاً: الإنسان لا يرجم بالغيب وينتظر أن تقع الأشياء بصورة لا تقبل التأويل، ثم نقول: هذا الذي كان مقصوداً بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن ننسى الأحاديث، ومنهج أهل السنة والجماعة، ومنهج المحدثين، ونتشبث بأحلام ومنامات، ومنها أحلام نصرانية أو كتابية، أو أحاديث إسرائيلية، وأحاديث ضعيفة وموضوعة بالذات من قبل الشيعة، فهم يجيدون الكذب في مثل هذه الأشياء، فهذا ليس هو المنهج الصحيح، والقضية تحتمل كلاماً مفصلاً، لكن هذه إشارة عابرة باعتبارها أول فرصة مناسبة نتكلم فيها على هذا الأمر.
يقول الشنقيطي: فقولكم لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح؛ لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس، حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره تعالى في سورة المائدة من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، وهم في فراسخ قليلة من الأرض، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه؛ لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق، وعلى كل حال فربك فعال لما يريد.
وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة زاعمين أنه منزل في التوراة أو غيرها من الكتب السماوية باطل يقيناً لا يعول عليه؛ لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ؛ بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم، كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46]، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام:91]، وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، إلى غير ذلك من الآيات العظيمة.
بخلاف هذا القرآن العظيم، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه ولم يكله إلى أحد، حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17]، وقال: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، وقال في النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
ولما رأى النبي عليه السلام صحيفة من التوراة في يد بعض الصحابة غضب غضباً شديداً، وقال: (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فالموضة الجديدة الآن: جاء في الآثار كذا وكذا، وفي الإنجيل كذا، وفي التوراة كذا، هذا مما ينبغي عدم التسامح فيه، وتوجد حالات قليلة عند مناظرة أهل الكتاب نلزمهم فيها بما في كتبهم من الأشياء التي توافق ما عندنا، وتدعم الإيمان بنبوة النبي عليه السلام، فهذه يمكن أن تستخدم في مجال معين كالاستدلال بها، أما أن يسمى عندنا: (كتاب مقدس) وبعض الناس يقول: وجاء في الكتاب المقدس، من قال لك: إنه هو الكتاب المقدس؟ لذلك بعض الإخوة ذوي الفطانة كتب ضمن المراجع في آخر الكتاب: المرجع رقم كذا الكتاب المقدس عندهم، لأنه ليس مقدساً عندنا، نحن نؤمن بالتوراة وبالإنجيل بلا شك، لكن هل الذي في أيديهم الآن هو الذي أنزله الله، أم أنه اختلط حقه بباطل كثير؟ كما قال ابن القيم: (ما عند أهل الكتاب في كتبهم باطله أضعاف أضعاف حقه، والحق الذي فيه منسوخ)، فنحن في غنى عن أن ننظر في مثل هذه الكتب، نحن نؤمن بالتوراة التي نزلت على موسى، ونؤمن بالإنجيل الذي نزل على عيسى، لا أربعة أناجيل على الأقل، فأيها الصحيح؟ وهي متناقضة ومتعارضة، وفيها من الكذب والتحريف ما فيها، فموضوع التسامح في مثل هذا مما يهدد العقيدة.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم، خوف أن يصدقوا بباطل أو يكذبوا بحق، ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات: في واحدة منها يج(93/15)
تفسير سورة طه [1 - 43](94/1)
تفسير قوله تعالى: (طه)
يقول الله تعالى: {طه} [طه:1].
نبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية على نكتة تتعلق بالحروف المقطعة في أوائل بعض السور فقال: وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ رفها ترى سراً عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخباراً به عنها وفي هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضاً ومع حم مع يس وافهم مقتضى الفرقان والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرى أن أظهر الأقوال في هذه الحروف أنها مما تحدى به الله في القرآن الكريم العرب، فهو مكون من نفس لغة العرب التي نزل بها القرآن، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله! يقول: أظهر الأقوال عندي أن {طه} [طه:1] من الحروف المقطعة في أوائل السور، مثل {حم} [غافر:1] و {الم} [البقرة:1] وغيرها، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها بأنها من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة الشعراء: {طسم} [الشعراء:1]، وفاتحة النمل: {طس} [النمل:1]، وفاتحة القصص، وأما الهاء ففي فاتحة مريم: {كهيعص} [مريم:1]، فخير ما يفسر به القرآن القرآن.
وقال بعض أهل العلم وهو أيضاً قول معتمد عندهم: أن (طه) الطاء مثل الطاء في (طسم)، والهاء مثل الهاء في (كهيعص)، يعني أنها من الحروف المقطعة في أوائل السور، خلافاً لما يزعمه بعض الناس من أنه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويسمون أبناءهم بـ (طه) بناء على هذا، وهذا مما لا يثبت، وإنما هي حروف كأي حروف أخرى مقطعة في أوائل السور.
وقال بعض أهل العلم: قوله: (طه) معناها: يا رجل، وهي لغة بني عبس من عدنان، وبني قيس، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عكل: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه، حتى تقول له: يا طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: دعوت لطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون مزايلاً وقال عبد الله بن عمرو: معنى (طه) بلغة عك: يا حبيبي! ذكره الغزنوي وقال هو بلغة طي، وأنشد يزيد بن المهلهل: إن السفاهة طه في شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين ويروى: إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين وممن نقل عنه: أن معنى (طه) يا رجل: ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى.
وغيرهم، نقل ذلك عنهم ابن كثير وغيره.
وذكر القاضي عياض عن الربيع بن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه)) يعني: طء الأرض بقدميك يا محمد! وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة يعني: فهو أمر بالوطء على الأرض بقدميه.
وفي (طه) أقوال أخر ضعيفة مثل: القول: بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول: بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، كأن الله تعالى يقول: يا طاهراً من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة.
والصواب -إن شاء الله- في الآية هو ما صدرنا به كلامنا، ودل عليه القرآن في مواضع أخر.
إذاً: معنى (طه) مثل (الم)، وليس كبعض الناس إذا سمع (طه) قال: صلى الله عليه وسلم، نعم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر اسمه، لكن (طه) ليست من أسمائه عليه الصلاة والسلام.(94/2)
تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
قال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، يعني: لتسعد بترك تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، والشقاء هنا: بمعنى التعب، ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3]، أي: تذكيراً له.
أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن أنزلنا القرآن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار، والقصد: أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، هذا هو واجبك، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، وليس بمسئوليتك قيام القلوب بهذا الحق، لكن عليك بيان هذا الحق والتبليغ.
وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع من التنزيل: أن ينهاه عن الحزن عليهم، وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وهذا يصور مدى سخط النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، فصوره بمن يفارق أحب الناس إليه، ثم هم ينصرفون عنه ويودعوه، وإذا به يظل يلاحقهم ويمشي خلفهم أسفاً على فراقهم وذهابهم عنه، حتى كاد أن يقتل نفسه من الغم والحزن والحسرة والتأسف لفراقهم؛ فلذلك يقول الله تعالى هنا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] يعني: لعلك مهلك نفسك، (على آثارهم) لأنه يحرص على أن يهتدوا، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، كأن الله سبحانه وتعالى يقول له: ترفق بنفسك فإنك تكاد أن تقتل نفسك، وتكاد أن تموت من شدة الشفقة عليهم؛ صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران:176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً مثل: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] أي: هون عليك، ما أنزلنا عليك القرآن حتى تشقى وتتألم وتحزن هذا الحزن لنفورهم من الإيمان، ولكن بلغ وأنذر فقط، وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن العناية به والرأفة ما لا يخفى.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى): فيها وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له القرآن: الأول: أن معنى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] أي: لتتعب التعب الشديد بقصد تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فأنزل الله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] أي: لتنهك نفسك بالعبادة؛ وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحاء، وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: إن كان المنطوق إرادة نفي الشقاء بنزول القرآن؛ فالمفهوم إرادة السعادة؛ فلذلك قال الشنقيطي: ويفهم من قوله: (لتشقى)، أنه أنزله عليه ليسعد صلى الله عليه وسلم كما يدلنا على ذلك الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وقد روى الطبراني، عن ثعلبة بن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي)، قال ابن كثير: إسناده جيد.
فيكون معنى الآيات على هذا القول الأخير مثل قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، حسب الاستطاعة.
وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب: ذو العقل يبقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة يلعب فالشقاوة هنا بمعنى: العناء والتعب، ومنه قوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، أريد بذلك العناء والتعب في دار الدنيا.
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3]، (تذكرة) أظهر الأقوال فيه أنه مفعول لأجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن (إلا تذكرة) أي: لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عقابه، والتذكرة: هي الموعظة التي تلين القلوب، فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه، وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم؛ لأن هؤلاء الذين يخشون الله هم الذين ينتفعون بالتذكرة، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45]، فالتخصيص المذكور بقوله: (لمن يخشى) في الآيات فيمن تنفع فيهم الذكرى، كما قال تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، فهي تنفع المؤمن، ولذلك قال هنا: ((إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى))؛ لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكرة دون غيرهم.
أما ما ذكره تعالى هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة، فقد بينه في غير هذا الموضوع، كما في قوله عز وجل: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27 - 28]، وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90]، إلى غير ذلك من الآيات.(94/3)
تفسير قوله تعالى: (تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار إلى تضخيم هذا المنزل الكريم بنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:4 - 6]، فهذا كله تفخيم لشأن القرآن الكريم، وبيان عظم قدر من أنزله، وهو الله سبحانه وتعالى المتفرد بصفاته وأفعاله.
وقوله: (الرحمن) قرئ بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصوف، والكلام هنا على وصف الرحمن: ((تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)) ((الرَّحْمَنُ))، بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصول، يعني: ممن خلق.
قوله: ((عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) أي: علا وارتفع، قاله ابن جرير، وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان، كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلاً.
ولا شك أن هذا المسلك الخلفي مسلك مذموم، وهو من التأويل الفاسد الذي يجب رده، والصحيح بل الصواب الذي لا يصح غيره: أن مثل هذه الآيات من آيات الصفات تمر على ظاهرها الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، بلا كيف، وبلا تعطيل، قال ابن كثير: والمسلك في ذلك طريقة السلف من إمرار ما جاء من ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]، هذا بيان لشمول قهره وملكه للكل، أي: كلها تحت ملكه وقهره وسلطنته وتدبيره، لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره سبحانه وتعالى.(94/4)
تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، بيان لكمال لطفه، أي: علمه نافذ في الكل؛ فيعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] والأخفى من السر: سر السر، فكذلك إن تجهر أو تخفت فيعلمه بجهرٍ وخفتٍ.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]،أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله سبحانه وتعالى، ((لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) أي: الفضلى؛ لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
وقوله تعالى: ((وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)) المراد بقوله في هذه الآية: (وأخفى) أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها القرآن.
يقول الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) أي: ما قاله العبد سراً، (وأخفى) أي: ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه.
يعني: السر هو ما يقوله العبد في الخفاء، أما ما هو أخفى من السر: فهو ما توسوس به نفسه، يعني مجرد ما يحدث الإنسان نفسه بشيء دون أن ينطق به فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
قول آخر: (فإنه يعلم السر)، السر: ما توسوس به نفسه، (وأخفى) ما هو أخفى من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، ويعلم ما سيكون في المستقبل من أفعال هذا الإنسان، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، وكما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، إن الله يعلم ما يسره الإنسان اليوم وما سيسره غداً؛ لأن ما يسره غداً هو أخفى بلا شك من السر، والعبد لا يعلم ما في غد، كما قال زهير في معلقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وأخفى) صيغة تفضيل، يعني: يعلم ويعلم ما هو أخفى من السر.
وهناك قول ظاهر السقوط، وهو الزعم بأن (أخفى) فعل ماض: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] يعني: أنه يعلم سر الخلق وأخفى عنهم ما يعلهه هو.
وهذا قول ظاهر السقوط، وإنما (أخفى) أفعل تفضيل، يعني: ما هو أخفى من السر.
فقوله تبارك تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] يعني: فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف:205]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، ولكن لابد في الدعاء من النطق وتحريك اللسان، لكن لا يرفع ولا يجهر بذلك.(94/5)
تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)
قال تبارك وتعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:9 - 10]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) هذا من عطف القصة أو الاستئناف، والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهت إليه الآية قبله ببيان أنه دعوى كل نبي لاسيما أشهرهم نبأً وهو موسى عليه السلام، فقد خوطب بقوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14]، وبه ختم نبأه في هذه السورة بقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98]، يعني: لما ذكر قصة موسى عليه السلام بدأها ببيان دعوته إلى لا إله إلا الله وإلى التوحيد، وختمها أيضاً بذلك، ففي مبدأ القصة خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، وفي آخر القصة قال: ((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا))، وربما قصد بذلك حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التأسي بموسى في الصبر والثبات؛ لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له.(94/6)
تفسير قوله تعالى: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً)
أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام إلى كيفية ابتداء الوحي إليه وتكريمه تعالى إياه؛ وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعدما طالت غيبته عنها ومعه زوجته، فأضل الطريق في صحراء سيناء، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء، فبينما هو كذلك إذ: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] يعني: أحس من جانب الطور ناراً، كما خصه تعالى بقوله: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10]، أي: أبصرتها إبصاراً بيناً لا شبهة فيه، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10]، أي: بشعلة مقتبسة تصطلون وتستدفئون بها، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10]، أي: أجد هادياً يدلني على الطريق، لأنه كان قد ضل الطريق.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:11 - 12]، (فلما أتاها) أي: النار، (نودي يا موسى) (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، فيجب في مثل هذا الوادي رعاية الأدب بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه له، كما يراعى أدب القيام عند الملوك، (وطوى) اسم للوادي.
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13] أي: اصطفيتك للنبوة، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أي: استمع للذي يوحى، ثم بينه بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] أي: خصني بالعبادة وحدي، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركتها دالة على ما في القلب واللسان، وأن تجعل الحركة صورة ظاهرة تعكس ما في القلب واللسان من الخشوع.
قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر، وأفردت في الأمر بالعبادة؛ لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وذلك قوله تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، أي: لتذكرني، فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار، أو (لذكري) خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو بإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون ذاكراً لي غير ناس.
هذه أقوال في معنى قوله: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)).(94/7)
تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى)
ثم أشار عز وجل إلى وجوب إفراده بالعبادة، وإقامة الصلاة لذكره بقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه:15] أي: واقعة لا محالة، {أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] أي: بسعيها عن اختيار منها، والنفس متعلقة بآتية، يعني: إن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما تسعى.
ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات، وأن الساعة لا يُعلم متى هي، وفي: (كاد) معنى القرب من ذلك، وتأولوا الآية على وجوه: الوجه الأول: إن كاد منه تعالى واجبة، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: أكاد أن أفعل كذا، معناها: أن ذلك واجب أن يقع كما أراد الله سبحانه وتعالى، والمعنى: (أكاد أخفيها) أنا عن الخلق لقوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51]، فعسى من الله واجبة، بمعنى: هو قريب.
الوجه الثاني: قال أبو مسلم: (أكاد) بمعنى: أريد، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76].
ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد) بمعنى: ولا أريد أن أفعل.
قال الشهاب: تفسير (أكاد) بأريد هو أحد معانيها، كما نقله ابن جني في المحتسب عن الأخفش، واستدلوا عليه بقوله: كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى كادت وكدت، يعني: أرادت وأردت، بدليل أنه قال بعدها: وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى بمعنى: أراد، لقوله: تلك خير إرادة.
الوجه الثالث: أن (أكاد) صلة في الكلام، قال زيد الخير: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس الوجه الرابع: أن معنى (أكاد أخفيها): فلا أذكرها إجمالاً، ولا أقول: هي آتية؛ وذلك لفرض إرادته تعالى: إخفاءها.
إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي: اللطف بالمؤمنين، وبحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم.
وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف وإن اتسع اللفظ لها.(94/8)
تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)
{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].
(فلا يصدنك عنها) أي: فلا يصدنك عن تصديق الساعة، (من لا يؤمن بها واتبع هواه) أي: ما تهواه نفسه من الشهوات، وترك النظر والاستدلال، (فتردى) أي: فتهلك.
قال الزمخشري: يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير، إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيراً من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم -لا تغتر بكثرة عددهم-، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه لا البرهان وتدبره، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله، {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] أي: فتهلك معهم.(94/9)
تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)
قال تبارك وتعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، هنا شروع في ما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر، وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع.
لماذا ينبه الله موسى عليه السلام أنها عصا؟ لأن هذا تمهيد وإيقاظ وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] استوفى الجواب كل أركان التعريف، فإن أي شيء أردت أن تعرفه فإنك تعرف الذات، ثم النسبة فقال: (عصاي)، والياء ياء النسبة، ثم فؤائدها: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).
(أتوكأ عليها) أي: أعتمد عليها إذا عييت، أو إذا وقفت على رأس القطيع عند الصخرة.
(وأهش بها على غنمي) أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله.
(ولي فيها مآرب أخرى)، أي: حاجات أخر.
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:19 - 21] أي: سنعيدها إلى هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تفعل من قبل، فليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22] أي: إلى إبطك، {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [طه:22] أي: نيرة، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22]، أي: من غير قبح وعيب؛ كبياض البرص فإنه مما ينفر عنه؛ لأن البياض المستقبح هو البياض الذي ينشأ عن البرص -المرض المعروف- فلذلك قال: (بيضاء من غير سوء)، حتى لا يتوهم أحد أن هذا بياض منفر كبياض البرص، واعتمد الزمخشري أن قوله تبارك وتعالى: (من غير سوء) كناية عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوءة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه لجاجة، فكان جديراً بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا أنصف ولا أجمل للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه، ((تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى)) أي: معجزة أخرى غير العطاء.
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23]، حق الآيات أن تظهر بعد التحدي والمناظرة، ولكن لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى؛ فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة.
والمقصود من هاتين المعجزتين وما ينضاف إليهما: إفحام فرعون، وتأييد موسى بهذه المعجزات أمام الكفار عند المناظرة، والله سبحانه وتعالى أراه أولاً هذه المعجزات مع أن حقهما إظهارهما عند التحدي والمناظرة، لكن أراه الله أولاً بعض آياته الكبرى ليقوى قلبه على مناظرة الطغاة، فحينما يقصد ويواجه فرعون يكون قلبه متيقناً أن معجزاته واقعة، فقد رأى العصا انقلبت حية، ورأى ما حصل بيده عليه السلام، وغير ذلك من هذه الآيات.(94/10)
تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)
قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:24] أمره أن يذهب إليه بعد أن طمأن قلبه بهذه المعجزات، وأنه مؤيد من الله سبحانه وتعالى، (اذهب إلى فرعون) هذا هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة.
إذاً: كل ما مضى تمهيد لهذا المقصود؛ وهو الذهاب إلى فرعون، وفصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته، والأوامر الماضية لما قال له تبارك وتعالى: (ألقها يا موسى)، ثم قال: (خذها ولا تخف)، ثم قال: (واضمم يدك إلى جناحك)، ثم فصل بينهما بقوله تبارك وتعالى: (تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)، بعد هذا الفصل قال: (اذهب إلى فرعون)، على أنها مهمة مستقلة، أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعوه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي.
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: جاوز الحد في التكبر والعتو حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، فلابد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية التي صدقتها المعجزة.(94/11)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]، إنما سأل ذلك لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل؛ لأنه كما قال في السورة الأخرى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، لما قتل بطريق الخطأ وعدم القصد ذلك الرجل القبطي الذي استغاثه عليه الرجل من شيعته: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، فسأل الله سبحانه وتعالى هذه الأمور؛ لأنه كان يتخوف من آل فرعون في شأن هذا القتيل، ولأن الذي بُعث إليه هو فرعون الذي يعرف أنه جبار عنيد، وأقوى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، فهذا مما لا شك فيه أن صاحب مثل هذه المهمة الخطيرة يحتاج إلى عناية ربانية؛ فلذلك التجأ موسى عليه السلام إلى سلاح الدعاء، سائلاً الله سبحانه وتعالى هذه الأمور: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]، سأله أن يمده بمنطق فصيح؛ لما في لسانه من عقدة كانت تمنعه من كثير من الكلام، كما قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، وقول فرعون: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ليكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، وذلك بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28]، قال بعض العلماء: دل قوله: (عقدة من لساني)، عقدة بالتنكير والإفراد، ثم أتبع ذلك بقوله: (يفقهوا قولي)، هذا يدل على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها، فهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى عنه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، وقوله تعالى عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والاستدلال بقول فرعون في موسى فيه نظر، فإن فرعون معروف بالكذب والبهتان، والعلم عند الله تعالى.
ثم قال موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31] أي: قو به ظهري، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:29 - 34] أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك؛ لأن التعاون مهيج للرغبات، ويتزايد الخير ويتكاثر، ولا شك أن التعاون والاجتماع على الطاعة مما يشد أزر الإنسان، ويقوي نيته للعمل الصالح.
{إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:35] أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعو به مما يفيدنا.
ودائماً الجماعة تشعر وتدرك بركتها خاصة في أعمال الطاعات والعبادات، كما يحصل في صيام رمضان؛ لأن الناس كلهم يتعاونون على إظهار ذكر الله سبحانه وتعالى، وهكذا أي شيء يعمل جماعة، فإن الجماعة تكون فيها البركة.(94/12)
تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى)
قال الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] أي: أجيب دعاؤك* {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37]، هذا كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ولبيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمة التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو داع له أولى وأحرى.
يعني: ما مر من الآيات يبين الله سبحانه وتعالى لموسى أنه أنعم عليه بأعظم نعمة وهي نعمة النبوة والرسالة، ثم أنعم عليه بهذه المعجزات، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول له: قد أنعمنا عليك هذه النعمة العظمى؛ نعمة الرسالة بدون طلب منك، وإنما ابتدأها الله سبحانه وتعالى في حقه من غير سابقة دعاء منه ولا طلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37]، فصدره هنا بالقسم: (ولقد مننا)، لكمال الاعتناء بذلك، (مرة أخرى) أي: في وقت آخر.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:38 - 39] قوله: (إذ أوحينا إلى أمك) يعني: ألقينا بطريق الإلهام، والوحي إلى أم موسى لا يدل على أنها كانت نبية، وإنما هذا إلهام جعله الله في قلبها أو ألقاه في روعها، وليس وحياً كالوحي الذي ينزل على الأنبياء.
((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)) يعني: الصندوق، ((فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ)) (اليم) البحر، يعني: ألقيه واقذفيه متوكلة على الله عز وجل.
((فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي))، لماذا هو عدو لله؟ بدعواه الألوهية، ((وَعَدُوٌّ لَهُ))، لدعوته إلى نبذ ما يدعي؛ وهو سوف يدعوه إلى نفس ما يدعيه من الألوهية وغير ذلك.
قال الزمخشري: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقائه إليه؛ سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه:39] أي: على سبيل الاستعارة بالكناية بتشبيه اليم بمأمور منقاد وإثبات الأمر تسهيل.
وهذا الكلام في الحقيقة فيه نظر، من أين لنا أن هذا الأمر مجاز؟ والله قادر أن يخلق في اليم إدراكاً بحيث يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى.
(فليلقه اليم بالساحل) أمر الله اليم أن يلقيه في الساحل، ((يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)) أي: محبة واسعة مني زرعتها في قلب من يراك، وهذه من خصائص موسى عليه السلام، فما كان أحد يراه إلا وأحبه، ولذلك أحبه فرعون بمجرد أن رآه، وقالت زوجته: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9].
((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))، أي: ولتربى بيد العدو على رغد بالحفظ والعناية؛ لأن المصون يجعل بمرأى ممن يكفله، (على) بمعنى الباء، لأنه في الأصل بمعنى: بمرأى مني.
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه منّ على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه؛ وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير.
ومعنى الوحي إلى أمه: أي: ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام، وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك، ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبياً لمجرد موقف عام أوحى الله إليه، وليس وحياً كالذي ينزل على الأنبياء، فليست الآية دليلاً لـ ابن حزم وحيث ذهب إلى جواز نبوة المرأة؛ لأن المرأة لا تكون نبية.
(أن) مفسرة؛ لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه، والتعبير بكلمة (ما) الموصولة يدل على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78] يعني: شيء عظيم، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، للدلالة على عظم شأن الموحى به.
((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)) أي: الصندوق، {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه:40] البحر، ((فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ))، شاطئ البحر، والبحر المذكور هو نيل مصر، والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26] يعني: ألقى ووضع، ومعنى: (فاقذفيه في التابوت) أي: ضعيه في الصندوق، والضمير في قوله: (أن اقذفيه) راجع إلى موسى بلا خلاف، وأما الضمير في قوله: (فاقذفيه في اليم) فهو راجع إلى التابوت أو موسى.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت؛ لأن تفريق الضمائر غير حسن، فالأصل أن الضمائر كلها على نسق واحد، كلها تعود إلى موسى، خلافاً لقول من قال: إن الهاء في: (اقذفيه في اليم) إلى التابوت، والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت، (فليلقه اليم) أي: موسى عليه السلام في الساحل.
((يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)) وهو فرعون، وصيغة الأمر معناها الخبر.
قال أبو حيان في البحر المحيط: (فليلقه) أمر معناه: خبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.
الوجه الثاني: أن صيغة الأمر في قوله: (فليلقه) أريد بها الأمر الكوني القدري، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل؛ لأن الله أمره بذلك كوناً وقدراً.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله في سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ولا شك أن هذه الآية من أعظم آيات البلاغة في القرآن الكريم.
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] (ليكون)، هذه لام العاقبة، وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون وذلك في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]، والمعنى: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)) إلا من محبة موسى؛ ولذلك يقولون في تعريف العشق: حركة قلب فارغ، وقوله هنا: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)) أي: من كل شيء إلا من محبة موسى عليه السلام، ومن شدة وجد قلبها من محبته والشفقة عليه كادت أن تنطق بهذا السر: (إن كادت لتبدي به)، من شدة وجدها، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
وإعراب: (يأخذه) جواب الطلب مجزوم؛ لأنه في جواب الطلب: (فليلقه اليم بالساحل)؛ لأننا قلنا: إن معناه الأمر الكوني.
أما إذا قلنا إن: (فليلقه اليم بالساحل) بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ وليس لمعنى، والصيغة تنافي الأمر، والعلم عند الله تعالى.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وذكر في قصتها: أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت؛ لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطناً محلوجاً، وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميّز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، واسمه حزقيل، وكانت عقدت في التابوت حبلاً، فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل، فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها، وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى؛ فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله عز وجل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37]، أشار إلى ما يشبهه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114].
قوله: (وألقيت عليك محبة مني)، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ما ذكره جل وعلا في القصص بقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، قال ابن عباس: (وألقيت عليك محبة مني) أي: أحبه الله وحببه إلى خلقه، وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال، لا يكاد يصدر عنه من رآه، وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه، نقله القرطبي.(94/13)
تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)
قال تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40].
هذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كون أخته مشت إليهم، وقالت لهم: (هل أدلكم على من يكفله)، أوضحه جل وعلا في سورة القصص، فبين أن أخته المذكورة كانت مرسلة من قبل أمها لتتعرف على خبره بعد ذهابه في البحر، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريماً كونياً قدرياً، فقالت لهم أخته: (هل أدلكم على من يكفله) أي: على مرضع يقبل ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة؟ وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:11 - 13]، فقوله تعالى في آية القصص: (وقالت لأخته) أي: قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها، (قصيه) أي: اتبعي أثره وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره.
(فبصرت به عن جنب) أي: رأته من بعيد كالمعرضة عنه؛ تنظر إليه وكأنها لا تريده، (وهم لا يشعرون) بأنها أخته جاءت لتعرف خبره، فوجدته ممتنعاً من أن يقبل ثدي مرضعة؛ لأن الله يقول: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] أي: تحريماً كونياً قدرياً، ومنعناه منها ليكون بذلك رجوعه إلى أمه، وليكون ذلك سبب رجوعه إلى أمه؛ لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها لما قالت لهم: ((هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ))، أخذوها وشكوا في أمرها، وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له، وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ورجاء منفعته.
يعني: أنها تكون مخلصة وناصحة له وأمينة؛ كي تنتفع من الملك بأجر هذه الرضاعة؛ فأرسلوها لما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، فذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة؛ ولكن لكونه قبل ثديها سألتها أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليهم، وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً، ولا أقدر على المقام عندكم، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والغلال والكساوي والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها، وقد أبدلها الله بعد خوفها أمناً في عز وجاه ورزق دارٍ! قوله تعالى في آية القصص: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [القصص:13]، وعد الله هو المذكور في قوله: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، والمؤرخون يقولون: إن أخت موسى المذكورة اسمها مريم.
قوله: (كي) إن قلنا: إن (كي) حرف مصدري واللام محذوف، فالمعنى: لكي تقر، وإن قلنا: إنها تعليلية فالفعل منصوب بأن مضمرة.
(تقر عينها) قيل: أصله من القرار؛ لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره، فقرت العين: أن العين إذا رأته تسكن وتثبت عليه ولا تتحول إلى غيره من شدة الوله به.
وقيل: أصله من القرار كما في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، فالقرار المقصود به السكون، بمعنى: أن العين إذا رأته لشدة حبه له تدخل وتستقر عليه، ولا تتحول إلى غيره.
وإذا قلنا: هو مأخوذ من القر: البرد، تقول العرب: يوم قر، أي: بارد، ومنه قول امرئ القيس: تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعاً صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرفت الأرض واليوم قُرّ يعني: واليوم بارد.
ومنه أيضاً قول حاتم الطائي الجواد: أوقف فإن الليل ليل قر والريح يا وافد ريح صر فالقر البرد، ولماذا خص البارد؟ لأنهم يقولون: إن البكاء الذي ينشأ عن الفرحة تكون دموعه باردة، والبكاء الذي يصدر عن الحزن يكون ساخناً، وعلى هذا القول فإن قرة العين من بردها؛ لأن عين المسرور باردة، ودمع البكاء من السرور بارد جداً، بخلاف عين المحزون فإنها حارة، ودمع البكاء من الحزن حار جداً، ومن أمثال العرب: أحر من دمع المقلاة، والمقلاة هي المرأة التي لا يعيش لها ولد، فيشتد حزنها بموت أولادها، فتشتد حرارة دمعها بذلك.
قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ((إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ)): أي: يضمن حضانته ورضاعته، فقبلوا قولها؛ وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها، كما قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع)، فجاءت أخته فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فجاءت بأمه كما قال: (فرجعناك إلى أمك) أي: مع كونك في يد العدو، (كي تقر عينها)، برؤيتك، (ولا تحزن) بفراقك، فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.(94/14)
تفسير قوله تعالى: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً)
ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع، بقوله: {وَقَتَلْتَ نَفْساً} [طه:40] أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] أي: اغتممت وحزنت أن يطبق عليك القصاص، وموسى ما قصد القتل؛ وإنما لأن موسى كان شديد القوة فعندما وكزه بيده إذا بهذه الوكزة تقتل الرجل من شدة قوته عليه السلام؛ وكما تعلمون فإن الأنبياء يكونون في أكمل صورة في كل شيء خَلقاً وخُلقاً ونسباً وقوة بالبدن وجمالاً في الصورة والحسب، وكل الصفات الخَلقية والخُلقية يكونون فيها أكمل الناس.
وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا رجلاً مصارعاً إلى الإسلام فلما دعاه قال: إن صرعتني سأسلم، وكان من أقوى المصارعين العرب، فصارعه، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم.
وفي الحديث أيضاً: (كنا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالصحابة هم أشجع الأمم على الإطلاق، ومع ذلك يقولون: إذا كنا في حالة الجهاد والالتحام المسلح مع الأعداء نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم يختبئون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمون به، (فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه صلى الله عليه وسلم).
{فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ} [طه:40] أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه من الكفار؛ وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
{فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] أي: ابتليناك ابتلاء، على أن الفتون مصدر كالسكون، أو إن الفتون جمع فتنة، يعني ضروباً من الفتن، أي: فجعلنا لك فرجاً ومخرجاً منها، وهو إجمال لما سبق ذكره.
{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [طه:40] أي: معزز الجانب، مكفي المئونة، في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم وهو نبيهم عليه السلام، ولم يثبت أن هذا الرجل الصالح هو شعيب عليه السلام.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] أي: بعد أن قضيت الأجل المبروم بينك وبين شعيب مع الزيادة، جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك في وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك الخبر غير مستقدم ولا مستأخر، والأمر له تعالى، وهو المسير عباده وخلقه كيفما يشاء.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: ((ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى))، تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً.
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، تذكير بقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13]، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه، والاصطناع افتعال من الصنع، بمعنى: الصنيعة، يقال: صنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاً لإكرامه ولاختياره وتقريبه منه، ولجعله من خواص نفسه وندمائه وجلسائه، فجعله نبياً مكرماً كريماً منعماً عليه بحلائل النعم.
والظاهر هنا: العدول عن نون العظمة تمهيداً لإفراد لفظ النهي؛ لأنه قال تعالى: (وحرمنا)، (فرجعناك)، (وفتناك)، (واصطنعتك)، فهل يصح أن يقول: صنعناك بأنفسنا؟ لا؛ لأنه حينئذ سيقول: لنفسي، ولا يمكن-معاذ الله- أن يجمع ذلك في حق الله.
يقول: والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: (وفتناك) ونظيريه السابقين تمهيد لإخراج لفظ النفس اللائقة بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، (واصطنعتك لنفسي).
ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه وتعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42] أي: بمعجزاتي كالعصا، وبياض اليد، وحل العقدة، مع ما سيظهر على يده، {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]، لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله من هذه الناحية، ولا ممن هي، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم، ولا الفتون الذي فتنه، ولكنه بين في سورة القصص خبر القتيل المذكور في قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:15 - 16]، وأشار إلى القتيل المذكور في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19]، شيء عجيب، موسى في زمن فرعون يُكفّر، ولذلك رد عليه قائلاً: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20].
وقد أشار تعالى في سورة القصص أيضاً إلى غم موسى، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:20 - 22] إلى قوله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
وقوله تعالى: (وفتناك فتونا) قال بعض أهل العلم: الفتون مصدر، وربما جاء المصدر الثلاثي المتعدي على فعول، وقال بعضهم: هو جمع فتنة، وقال الزمخشري في الكشاف: فتوناً: يجوز أن يكون مصدراً على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور.
وجمع فتن أو فتنة فتون، وقد تكون جمع فتن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث؛ كحجوز وبدور في حجرة وبدرة، أي: فتناك ضروباً من الفتن اهـ.
وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث الفتون، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده، وهو حديث طويل يقتضي: أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره، مثل الخوف عليه من الذبح وهو صغير، فهذه فتنة، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت، وقذف في اليم، وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله، وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور.
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق حديث الفتون بطوله: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم.
وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً اهـ.(94/15)
تفسير قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى)
قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27]، يقول: قد قدمنا أنه أتم العقد، وبينا دليل ذلك من السنة، وبه تعرف أن الأجل في قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص:29] عشر سنين لا ثمان.
وقال بعض أهل العلم: لبث موسى في مدين ثمان وعشرين سنة، عشر منها مهر ابنة صهره، وثمانية عشرة أقامها هو اختياراً، والله تعالى أعلم.
وأظهر الأقوال في قوله تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] أي: جئت على القدر الذي قدرته، وسبق في علمي أنك تجيء فيه، فلم تتأخر ولم تتقدم، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز: نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى موسى ربه على قدر(94/16)
تفسير قوله تعالى: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)
قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:42 - 43]، والمراد بالآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]، وقوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل:12].
(إنه طغى)، أصل الطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقوله عنه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله عنه أيضاً: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].
(ولا تنيا)، مضارع وني يني على حسب قول ابن هانئ في الخلاصة، يقول: والونى أو الوني في اللغة الضعف والفتور والكلال والإعياء، وقال العجاج: فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر يعني: ما كسل وما تعب وما أعيا.
إذاً: قوله: ((وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي)) أي: لا تضعفا ولا تفترا في ذكري، وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته بقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، وأمر بذكره عند لقاء العدو بقوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45]، وقال ابن كثير رحمه الله: والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله حال مواجهة فرعون، فيكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له، كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه) أي: وهو يلاقي أو يقاتل قرنه أي: خصمه.
وقال بعض أهل العلم: (ولا تنيا في ذكري): لا تزالا في ذكري، واستشهد لذلك بقول طرفة: كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبداً تغلي أي: لا تزال تغلي.(94/17)
تفسير سورة طه [44 - 59](95/1)
تفسير قوله تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)
قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، هذا من خطاب الله لموسى وهارون عليهما السلام، والمعنى: لعله يخشى عقابي؛ فإن تزيين القول مما يكسر ثغرة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]، وهذا من مظاهر تلطف موسى بفرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18]، تلطف في العبارة: (هل لك)، ولم يقل: تعال كي أزكيك، وإنما نسب التزكية إلى نفسه هو: (إلى أن تزكى)، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت.
{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19].
وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وقوله تبارك وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله، فإنه لا يصح منه، ولذا قال القاضي أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب بعدكما، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن: إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما في تضاعيف ذلك من الآيات.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]: أمر الله جل وعلا نبييه موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا لفرعون في حال تبيين رسالات الله إليه: (قولاً ليناً) أي: كلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً ليس فيه ما يغضب وينفر، وقد بين جل وعلا المراد بالقول البين في هذه الآية بقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:17 - 19]، وهذا -والله- غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى.
وقد كانت عادة قدماء المصريين عموماً -للأسف الشديد- عبادة ملوكهم ومن يلي أمرهم، واتخاذهم آلهة، إلى حد أن الشعب كأنه لا قيمة له ولا وزن، كذلك نلاحظ خلاف من كان قبلهم من الأمم يقول الله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65]، يتكلم عن القبيلة كلها، أو الأمة بمجموعها.
أما موسى فكثير من الآيات تخبر أن الله أرسله إلى فرعون، كما قال هنا: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43]، وقال أيضاً: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات:17]، وإذا ذكر شعبه معه فعلى سبيل التبعية له، لذا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى التعبير بهذا التعبير: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النازعات:17].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: يؤخذ من الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرق واللين لا بالقسوة والشدة والعنف، كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال يزيد الرقاشي عند قوله: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)): يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ فانظر إلى لطف الله سبحانه وتعالى، وتحببه إلى عدوه الطاغي الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومع ذلك انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى من رحمته ولطفه به يحرض نبييه الكريمين عليهما السلام أن يقولا له قولا ليناً؛ لأن الهدف هو انقياده إلى الحق؛ فلذلك كان يقول يزيد الرقاشي عندما يتلو هذه الآية: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ كيف بالمؤمن الذي يتولى الله ويناديه ويناجيه ويسأله الهداية والتوفيق؟! ولقد صدق الله من قال: ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكاً وزورا أناب إلى الله مستغفراً لما وجد الله إلا غفورا قوله تعالى: ((لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) يقول: قد قدمنا قول بعض العلماء: إن (لعل) في القرآن بمعنى التعليل، إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، فهي بمعنى: كأنكم، وقد قدمنا أيضاً: أن لعل تأتي في العربية للتعليل، ومنه قوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق وهذا مثل واقع المسلمين الآن مع اليهود لعنهم الله، وقوله: (لعلنا نكف) يعني: لأجل أن نكف.
فأحياناً كلمة (لعل) في القرآن الكريم تستعمل للتعليل، بمعنى لكي أو لأجل، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] يعني: لأجل أن تتقوا، فإن الصيام وسيلة إلى التقوى، وهذا خلاف الكلام الذي ذكره القاسمي رحمه الله تعالى؛ لأن القاسمي لما جعلها على بابها؛ أي: أن لعل للترجي، قال: إن الرجاء هنا صادر عن موسى وهارون، أما الشنقيطي رحمه الله تعالى فيقول: إن لعل في القرآن تأتي أحياناً بمعنى التعليل، إلا في سورة الشعراء: ((وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ))، فإن معناها: كأنكم تخلدون.
وقال بعض أهل العلم: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))، معناه: على رجائكما وطمعكما، فالترجي والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر، وعزى القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كـ سيبويه وغيره.(95/2)
تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)
قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يعني: يبادرنا بالعقوبة، (أو أن يطغى) أي: يزداد طغياناً بالعناد في قطع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتجرؤ على أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجرأته وقسوة قلبه، واقتصر على الثاني الزمخشري.
إذاً: المعنى: أن يبادرنا بالعقوبة، (أو أن يطغى) يزداد في العناد ثم يأمر بقتلنا.
وقول آخر في تفسير: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أن يقول في حق الله سبحانه وتعالى كلاماً لا ينبغي لجرأته وقسوة قلبه.
قال الزمخشري: إن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز؛ باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة.
قالا: (أو أن يطغى)، ولم يذكرا تفاصيل هذا الطغيان، فلم يقولا: نخاف أن يسب الله سبحانه وتعالى، أو يقول كلمته العظيمة، وهذا كله من أجل التحاشي عن التفوه بالكلام الذي لا يليق في حق الله تبارك وتعالى، وهذا هو الأدب الذي ينبغي أن يلزم، حتى إذا حكى الإنسان كلاماً من الكفر؛ فينبغي أن يغير في العبارة بحيث يتجنب ويتحاشى التلفظ بما لا يليق بحق الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن الإنسان يصاب أحياناً من كلمات بعض الملاحدة من العلمانيين وغيرهم ممن يقولون في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق دينه ما تقشعر له الجلود، فلا بد من استعمال الرمز بحكاية ما فيه إيذاءً لله سبحانه وتعالى.
{قَالَ لا تَخَافَا} [طه:46]، هذا الخوف خوف فطري جبلي، وهو خوف من الأذى أو القتل، وهذا لا يلام عليه الإنسان، فهذا من الخوف الجبلي الذي هو من جبلة وطبيعة البشر، وليس الخوف الذي هو شرك.
(قال لا تخافا) أي: من صلفه وطغيانه.
{إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46]، بالحفظ والنصرة، فهذه المعية الخاصة وليست المعية العامة التي هي معية الله مع جميع الخلق، بالسمع والبصر والرقابة والشهادة وغير ذلك، وإنما هذه المعية معية خاصة بالمؤمنين ولأهل التقوى وللأنبياء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، بالنصرة والتأييد والتولي.
{أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: ما يجري بينكما وبينه، فأرعاكما بالحفظ، فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ، كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير، وإذا كان الله الحافظ تم الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدو؛ ولذلك موسى عليه السلام في أحرج اللحظات لما طارده فرعون وجيشه، فلما وصل موسى وقومه إلى ساحل البحر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، ماذا يفعل؟ البحر أمامه، والعدو من خلفه! فانظر إلى جواب موسى لثقته بهذا الوعد من الله، وقد يكون موسى لا يعرف كيف يكون المخرج؟ لكن في أشد اللحظات هو واثق بوعد الله، مع أن العدو على وشك أن يصلهم، فقالوا له: (إنا لمدركون) أي: حقاً سوف ينالون منا ويصلون إلينا، {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، هذه هي المعية الموعود بها هنا: (إنني معكما أسمع وأرى).(95/3)
تفسير قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل)
قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47].
((فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: أطلقهم من الأسر والعبودية؛ لأن بني إسرائيل عانوا في مصر أشد العذاب والعناء على يد فرعون وملئه، فمعنى: (أرسل معنا بني إسرائيل) أي: لإطلاقهم من الأسر والعبودية وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين، (ولا تعذبهم) أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة.
(قد جئناك بآية من ربك) أي: آية تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك.
(والسلام على من تبع الهدى) أي: آمن بآيات الله المبينة للحق، وفيه من ترغيبه لاتبعاهما على ألطف وجه ما لا يخفى.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ألف الاثنين في قوله: (فأتياه فقولا)، راجعة إلى موسى عليه السلام وهارون، والهاء في قوله: (فأتياه) تعود إلى فرعون، أي: فأتيا فرعون (فقولا له إنا رسولا ربك) أي: إنا رسولان إليك من ربك، (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي: خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاءوا.
(ولا تعذبهم)، العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل هو المذكور في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]، وجاء ذكره أيضاً في سورة إبراهيم والأعراف والدخان في قوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:30 - 31]، وقال في سورة الشعراء: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، وقال أيضاً في سورة الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:16 - 17].
وقوله تبارك وتعالى: (قد جئناك بآية من ربك) الآية هنا جاءت مفردة؛ وهي اسم جنس، وهذه الآية مفردة يراد بها جنس الآية الصادق على العصا واليد وغيرهما لدلالة آيات أخرى على ذلك، بل آيات أخرى تدل على أن موسى أوتي تسع آيات وليس آية واحدة.
إذاً: المقصود (بآية) هنا جنس الآية.
(والسلام على من اتبع الهدى) يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى، ويفهم من الآية أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه، وفرعون كذلك؛ ولذلك كان في أول كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام)، إلى آخر كتابه صلى الله عليه وسلم.(95/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى)
قال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، والآيات في هذا كثيرة، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39]، وقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16]، وقال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:31 - 35] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله هنا: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} [طه:48] يعني: من ربنا، {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ} [طه:48] أي: بآياته تعالى، {وَتَوَلَّى} [طه:48] أي: أعرض عنها.
وفيه التنصيص بالوعيد، ولم يصرح بحلول العذاب به، وهذا منتهى التلطف به بالوعيد، رغم أن فرعون أتى بهذه الأمور العظام لكن انظر إلى التلطف، لم يقل: إن العذاب سوف يحل عليك، وإنما قال: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، فلم يصرح بحلول العذاب به، وتلطف في إثبات الوعيد لمن كذب وتولى.
((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)) (قال) أي: فرعون، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية والأعضاء التي تطابق المنفعة المنوطة بها، فسواها بها وعدلها، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز به بين الخير والشر، وهذه الآية في معناها آية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، وآية: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي.
زاعماً أنه لا يعرف الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعلم لهما إلهاً غير نفسه، كما قال في الآية الأخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، وقد دلت آيات القرآن الكريم على أن فرعون كاذب في دعواه أنه هو ربهم الأعلى، وأنه يعلم أنه عبد مربوب لرب العالمين، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] كان على سبيل المكابرة، كذلك هنا في قوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}، على سبيل الاستنكاف أن يكون لهما إله غير نفسه، وقال أيضاً: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].
إذاً: قوله: ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا))، هذا تجاهل عارف؛ لأنه عبد مربوب لرب العالمين، ففرعون بطبعه يأكل ويشرب وينام ويمرض، والناس قد رأوه ولد من أب وأم، وتجري عليه كل الأعراض البشرية، فمن أين له أن يدعي هذه الألوهية؟! وقبل أن يولد أين كان؟! أين عقول هؤلاء القوم الذين استساغت عقولهم الضعيفة أو المريضة هذا القول؟! ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى))، هذا تجاهل عارف، وادعاء منه بالجهل وعدم معرفته بالله، وأنه لا يعرف الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الإسراء على لسان موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، فموسى الصادق المصدوق عليه السلام يخبره بالحقيقة: (لقد علمت) يعني: أنت تعرف جيداً يا فرعون، (ما أنزل هؤلاء)، أي: هؤلاء الآيات، ((إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)).
كذلك أيضاً قال تبارك وتعالى في سورة النمل: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ)) أي: فرعون وقومه، {آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:13 - 14]، رغم أنهم كانوا على يقين أن هذا من عند الله، لكنه الجحود، وادعاء الجهل والنكران بعد العلم: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
وسؤال فرعون عن رب موسى وجواب موسى له جاء موضحاً في سورة الشعراء بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23 - 24]، انظروا للحوار، فرعون يقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:23 - 25]، يتعجب من جواب موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي} [الشعراء:26 - 29]، انظر للفرق بين الحجة وبين الإقناع بالسطوة والسلطة: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:29 - 32].(95/5)
تفسير قوله تعالى: (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)
قال الله تعالى: {الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: أن الله عز وجل أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجاً، فجعل للرجال أزواجاً من بني آدم من جنس آخر، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه، فلم يزوجه بالإناث من البهائم مثلاً، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
((ثُمَّ هَدَى)) أي: هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة، وقال بعض أهل العلم: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة.
وهذا المعنى فصله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، حيث بين فيه النوع الأول من أنواع الهداية، وهو الهداية العامة لكافة المخلوقات إلى ما يصلحها.
هذا هو معنى قوله: ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))؛ حتى الرضيع حينما يخرج من بطن أمه هداه إلى كيفية الرضاعة، مع أن لها ميكانيكية محددة في غاية الدقة، وهذا لم يسبق له، كما قال الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78]، لكنه بنداء الفطرة يتجه إلى الأم ويرضع بالطريقة المعروفة.
كذلك عالم الحيوانات والنباتات والحشرات وكل هذه العوالم إذا الإنسان تطلع إلى آيات الله سبحانه وتعالى فيها وتدبر لوجد شرحاً لهذه الآية الكريمة: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فهناك علم من العلوم الحديثة التي تكشف آيات الله سبحانه وتعالى، وأيضاً العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر هذا بالتفصيل في قضية القضاء والقدر، وذكر أمثلة كثيرة جداً من هداية الحيوانات إلى ما يصلحها، والعلم الحديث الآن ذكر آلاف الأمثلة أكثر مما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى.
يقف يتأمل في مملكة النحل والعجائب التي أعطاها الله للنحل من خلقه، ثم هداها إلى الوظائف التي تؤديها، وهكذا مملكة النمل أعطى كل نملة خلقها، ثم هداها إلى ما فيه صلاحها، ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى أن فأراً وقف على برميل زيت، وهو يريد أن يشرب من هذا الزيت، وكان مستوى الزيت إلى حد لا يصل إليه الفأر، فأتى بماء في فمه ثم صبه على الزيت، ومعلوم أن كثافة الزيت أقل من كثافة الماء، وهو ما درس هذا ولا تعلم قوانينه، فصار الزيت يعلو الماء ويرتفع في البرميل، إلى أن استطاع أن يشرب منه! ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)).
ومنها: أن شخصاً أتى بإناء فيه عسل وطعام ووضعه داخل إناء آخر فيه ماء، لكن النمل حاولت أن تصل إلى العسل فلم تستطع، فماذا فعلت؟ صعدت على السقف، ثم تدلت واحدة على الأخرى حتى بلغ السرب الإناء فأخذت منه! وعجائب صنع الله سبحانه وتعالى كثيرة جداً في هذا الباب.
وقال بعض أهل العلم: ((أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)) أي: أعطى كل شيء صورته المناسبة له، فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديراً، كما قال الشاعر: وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل يعني: له لكل شيء صورة ((ثُمَّ هَدَى))، كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه.
وقال بعض أهل العلم: من العجائب موضوع هجرة الأسماك وهجرة الطيور، وكيف أنها تقطع كل هذه المسافات الهائلة، ثم تعود من حيث أتت! ما الذي يهديها في الظلام، لا توجد معالم في الأرض تميز بها طريق الهجرة، كيف تميز؟ وكيف تعرف؟ كل هذا بلا شك من آيات الله سبحانه تعالى.
وقال بعض أهل العلم: ((أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)) أي: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، إذ كل جزئية في العين لها وظيفة تناسبها، فالأذن خلقت على شكل يوافق الاستماع، كذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، وكذلك كل موضع في الإنسان، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
ومن أعظم آيات الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان أن كل شيء في مكانه، ومع ذلك الملاحدة الذين طمس الله على قلوبهم يزعمون أن الطبيعة هي الخالق! إن أي جزئية في جسم الإنسان نجد أنها في الموقع المناسب لها والملائم للوظيفة التي خلقت من أجلها، ولو نظرنا للأسنان مثلاً لرأينا حكمة الله في هذه الأضراس، ترتيب الأسنان بهذا الوصف وبهذه الصورة العجيبة لحكمة مطلقة من فعل الله سبحانه وتعالى.
فأفعال الربوبية ترشد كلها لقوله: ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، العين مثلاً كان ممكن أن توضع في القفا، أو يوضع الحاجب أسفل منها، أو الفم يكون على صورة أخرى بخلاف خلق الله سبحانه وتعالى، وعندها فإنه لا يتطابق مع الوظيفة التي خلق لها.
وانظر إلى أنواع الشعر: الشعر الذي في الرأس، وشعر الحاجب، والرموش، واللحية، ثم انظر إلى حكمة الله سبحانه وتعالى: لو أن شعر الرموش صار نموه بنفس معدل نمو شعر الرأس ماذا سيحصل؟! وغير ذلك من هذه الأحوال، بل كل بحكمة الله يتواءم مع وظيفة خلق الله الإنسان لكي يؤديها، فكل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير نائب عن الآخر.
إذاًَ: ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ))، (كلَّ) مفعول، (أعطى) فعل يتعدى لمفعولين، والمفعول الثاني (خلقه).
وقيل في المعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأحوال المذكورة؛ لأنه لاشك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به؛ فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وأكمل قدرته! وكما يقول الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهذه آيات الله سبحانه وتعالى كلها خلقت وبثت في الأرض وفي أنفسنا كي تدلنا عليه عز وجل، نتدبر ونتفكر في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسنا؛ كي نتعرف على قدرة الله سبحانه وتعالى، ونصل إلى توحيده عز وجل.
وابن القيم رحمه الله فصل الكلام في كتابة التبيان في أقسام القرآن وفصل كثيراً جداً على أساس المستوى العلمي الذي وصلوا إليه في زمانهم، وهو مما يكشف عن ثقافة عالية جداً بالنسبة لزمانهم، ولا شك أننا الآن لدينا أضعاف أضعافها، ولكن للأسف الشديد نحن نتلقاها من الكفار الملاحدة، وهذه الآيات يطلع عليها الكفار والملاحدة سواء في الشرق أو في الغرب ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يطمس على قلوبهم إلا من رحم الله، ومع أن هذه الآيات أمام أحدهم لكن أعماه الله مما يدل على أن القوة هي التي عطلت عقولهم عن أن تنتفع بهذه الآيات التي بين أيديهم، فمن يطالع موسوعة الطبيعة يلاحظ تفاصيل كثيرة جداً لهذه الآية، وأيضاً موسوعة الألف الأمريكية فيها كثير جداً من هذه الآيات.
وفي معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في علوم القرآن أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافاً حقيقاً يكذب بعضه بعضاً، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضاً، والآيات تشمله جميعاً، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وسأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه إليهم جماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.(95/6)
تفسير قوله تعالى: (فما بال القرون الأولى)
قال تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51].
قال فرعون: ((فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))؟ يعني: ما حال القرون السالفة؟ وما جرى عليهم؟ لنا استفسار عن قوى فرعون، فقد كان في قمة الغباء، ولديه عقلية ضعيفة كما هو واضح من هذه الآيات، وكان يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، يرمي موسى بأنه لا يعرف الفصاحة، ثم: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] هل هذه هي مؤهلات الحجة والعلم، {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ولكن لما أخذه الله جعل الماء يجري من فوقه وأغرقه بعد ذلك! وانظر إلى المناظرة التي ذكرها الله في سورة الشعراء، والنقاش الذي يدل على أن عقليته مشوهة تماماً، وليس عنده أي قدر من المفهومية أو العقل أو الذكاء.
كذلك هنا أيضاً يسأل موسى عليه السلام ويقول له: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50]، وانظر إلى المراوغة، يريد أن يصرف النقاش عن صلبه، ومحوره الأساسي، قال الله عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وما دخل القرون الأولى بالموضوع الذي نتكلم فيه؟! لقد كان هذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه أو لشغله عن دعوته إلى التوحيد، وتوضيح الحقيقة أكثر وأكثر في الدعوة إلى (لا إله إلا الله)، وإشغاله عما أرسل به، وإما أنه كان يتوهم أن موسى يعرف الغيب فلذلك سأل عن أحوال الْقُرُونِ الأُولَى، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، كل هذا من أجل أن يقطع موسى عن الوصول إلى هدفه وغايته! فلما قال: ((فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))، أجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به فلا يعلمه إلا هو، وليس من شأن الرسالة أن تتكلم عن تفاصيل القرون الأولى، وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ محصي غير منسي، ((قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ)) [طه:52]، وهو اللوح المحفوظ، {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، ويجوز أن يكون قوله: (في كتاب) تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة، فنشبه علمه تعالى الذي لا يتغير بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته حتى لا يذهب أصلاً، والذي يسجل المعلومات في كتاب لا ينسى.
كما في الحديث: (قيدوا العلم بالكتابة).
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقه نحن نحتاج إلى كتابة؛ لأننا نضل وننسى، أما الله سبحانه وتعالى فقد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، لكن هذا ليس عن خوف نسيان كما يحصل بالنسبة للمخلوقات، لذلك نزه موسى الله سبحانه وتعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، فمن يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان، والله سبحانه وتعالى منزه عنه، فالكتاب على هذا القول بمعناه اللغوي هو السفر لا اللوح المحفوظ.(95/7)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً)
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53].
((الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً)) فراشاً، ((وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)) أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس في الطعم، والرائحة، والشكل، والنفع.
انظر إلى موسى عليه السلام لم يسمح له أن يحول مجرى النقاش، وهو لما بدأ بهذا
السؤال
{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً} [طه:49 - 53].
شرع يسرد أدلة توحيد الربوبية ليتوصل بها إلى توحيد الألوهية، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} قال الزمخشري في قوله تعالى: ((وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ)): هذا من باب الالتفات، وناقشه الناصر بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد، يصرف كلامه على وجوه شتى، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)).
ثم قوله تعالى: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً)).
إلى قوله: ((فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى))، فإما أن يجعل من قول موسى ويكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات، وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ((لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف عند قوله: ((وَلا يَنسَى)) ليستقر بانتهاء الحكاية.
ويحتمل معنىً آخر، وهو: أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على ظهر الغيبة، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}، فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير إلى ذاته؛ لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات، لكن الزمخشري لم يعنه، والله تعالى أعلم.
اهـ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي (مَهْداً) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف، والمهاد: الفراش، والمهد بمعناه.
((الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً))، بين تبارك وتعالى في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده، ومع كونها من آيات كمال قدرته، واستحقاقه العبادة وحده دون غيره، فهي من النعم العظمى على بني آدم.
الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب.
الثانية: جعله فيها سبلاً يمر بها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر.
الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب.
الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض.
ثم شرع الشنقيطي رحمه الله تعالى في ذكر أنواع كثيرة من الآيات التي تشرح وتفصل هذا فنتجاوزها، ونأتي للخطاب وقوله تعالى: ((وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً)) وقد قدمنا أن معنى السلك الإدخال، وقوله: ((َسَلَكَ)) معناه: أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلاً فجاجاً يمر الخلق منها، وعبر عن ذلك هنا بقوله: ((وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً))، وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل كقوله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، وقال في الزخرف: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10]، وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في النحل: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل:15]؛ لأن عطف السبل على الرواسي ظاهر في ذلك.
((كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)) أي: كلوا -أيها الناس- من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلناه من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك.
((وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)) أي: أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها، والأمر في قوله: ((كُلُوا وَارْعَوْا)) للإباحة، ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك العبادة وحده.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى)) أي: لأصحاب العقول، فالنهى جمع نهية وهي العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق، تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعُل بالضم: إذا كملت نهيته أي: عقله.(95/8)
تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)
قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] (منها) أي: من الأرض (خلقناكم) أي: خلقنا أصلكم وهو آدم، أو: خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن ما في الأرض، ((وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ)) أي: بالإماتة، مثل إعادة البذر إلى الأرض ((وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)) أي: بردهم كما كانوا أحياء.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} قد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل: الأولى: أنه خلق بني آدم من الأرض.
الثانية: أنه يعيدهم فيها.
الثالثة: أنه يخرجهم منها مرة أخرى.
ثم ذكر آيات كثيرة جداً في تفصيل كل واحدة من هذه المسائل الثلاث.(95/9)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)
ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، فقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى} [طه:56 - 58].
((وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا)) أي: من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين ((فَكَذَّبَ وَأَبَى)).
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} * {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى} أي: مستوياً واضحاً يجمعنا.
{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]، وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه، {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] أي: في النهار لكي يكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} [طه:60] أي: انصرف عن المجلس، {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه:60] أي: ما يكيد به موسى من السحرة وأدواتهم، ثم أتى إلى الموعد ومعه من جمعه.
قوله تبارك وتعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}، قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة السلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم.
أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر، فقد ذكر ذلك عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76]، وقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، وقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر: فقد ذكره الله جل وعلا أيضاً في مواضع من كتابه، كقوله تعالى في هذه السورة: ((أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى)) * ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) * ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) -واضح تماماً أن فرعون كانت أعمدة حكمه قائمة على السحر تماماً كما هو الآن أن إحدى الممالك قائمة على السحر، والله المستعان! - وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:109 - 110]، وقوله في سورة يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]، وقال سحرة فرعون: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63].
قوله عز وجل: ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر؛ أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر، وقد بين في غير هذا الموضع أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك: {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:109 - 112]، فقوله عز وجل حاكياً عن فرعون: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) في الموضعين يدل على أن قول فرعون: ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك.
((فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ))، والإخلاف عدم إنجاز الوعد، وقرر أن يكون مكان الاجتماع للمناظرة والمغالبة في السحر في زعمه ((مَكَاناً سُوًى))، وأصح الأقوال في قوله: ((سُوًى)) أن أصله من الاستواء؛ لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية، وقوله: (سوى) فيه ثلاث لغات: الضم والكسر مع القصر وفتح السين مع المد.(95/10)
تفسير سورة طه [66 - 79](96/1)
تفسير قوله تعالى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)
قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
هذا يدل على نوع السحر الذي جاء به سحرة فرعون، وأنه سحر تخييلي وليس سحراً حقيقياً، فقد سحروا أعين الناس؛ لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي، وإما أن يؤثر في المرئي، فالسحر قد يحصل في العين نفسها، فالعين ترى حصول الشيء وهو لم يحصل، أو ربما يحصل في الشيء الذي هو مرئي.
قال الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون كان سحر تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر، وهذا الذي دلت عليه آية طه هذه، دلت عليه آية الأعراف، وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116]، وهذا يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمراً لا حقيقة له، وبهاتين الآيتين احتجت المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له، فالمعتزلة ينكرون حقيقة السحر.
والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تبارك وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً بالتفريق بين الرجل وامرأته، وقد عبر الله عنه بما الموصولة، وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي، ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، فلولا أن السحر له حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
إذاً: لا يوجد تعارض بين الآيات التي تدل على أن السحر له حقيقة، وبين الآيات الدالة على أنه خيال، بل يجمع بينهما بأن من السحر ما هو تخييل كما أخبر عن سحرة فرعون، ومنه ما هو حقيقة كما ذكرنا.
فإن قيل: قوله في طه: ((يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ))، وقوله في الأعراف: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116]، الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في الأعراف: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]؛ لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال، فالذي يظهر في الجواب -والله تعالى أعلم- أنهم أخذوا كثيراً من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى، وهي كثيرة، فظن الناظرون أن الأرض ملئت بحيات تسعى؛ لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي، فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظمة، وهذا ظاهر لا إشكال فيه.
وقد قال غير واحد: إنهم جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أنها تسعى.
وعن ابن عباس: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً، مع كل ساحر منهم حبال وعصي، وقيل: كانوا أربعمائة، وقيل: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً، وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له: شمعون، وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيباً، مع كل نقيب عشرون عريفاً، مع كل عريف ألف ساحر، وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف، وكان رئيسهم أعمى.
وهذه الأقوال كلها من الإسرائيليات، ونحن نتجنبها دائماً، ونقلل من ذكرها، وربما ذكرنا قليلاً منها منبهين عليه.(96/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)
تكلم الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، ببحث طويل كثير النفع في حوالى اثنتين وثلاثين صفحة، ونحن سوف نمر على رءوس الكلام بحيث يعلم عموم معنى كلامه، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتابه المبارك (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
قوله: ((لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)) هذه الصيغة للعموم؛ لأن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم كما هنا: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} فهو أيضاً من صيغ العموم.
قال الشنقيطي: فقوله تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ)) نفي يعم جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله: ((حَيْثُ أَتَى))، وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران: الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102].
فقوله تعالى: ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)) يدل على أنه لو كان ساحراً -وحاشاه من ذلك- لكان كافراً.
وقوله: ((وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) صريح في كفر معلم السحر، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقرراً له: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]-يعني: ((فَلا تَكْفُرْ)) بتعلم السحر- وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
فقوله تعالى: ((وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) أي: من نصيب، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذاً بالله تعالى، وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح، وذلك مما لا شك فيه.
الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن الكريم أن الغالب فيه أن لفظة: (لا يفلح) يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة يونس: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس:68] يعني: ما عندكم دليل على هذا {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:68 - 70].
فهذا يدل على أن نفي الفلاح كان عن الكافر.
وقوله تعالى في سورة يونس أيضاً: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17]، فنفى الفلاح عن الكافرين أيضاً.
وقال في الأنعام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة: أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة والكفرة فإنه ينال الفلاح، وهو كذلك، فالذي ينال الفلاح هو المؤمن الذي يتجنب هذه الأفعال وهذه الصفات التي اتصف بها السحرة والكافرون، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ)) مضارع أفلح بمعنى: نال الفلاح، والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب، ومنه قول لبيد: فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل فقوله: (ولقد أفلح من كان عقل) يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر المطلوب.
ويطلق الفلاح أيضاً على البقاء والدوام في النعيم، ومنه قول لبيد: لو أن حياً مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح فقوله: (مدرك الفلاح) يعني: البقاء، وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم: (حي على الفلاح) في الأذان والإقامة، فحي على الفلاح تحتمل معنيين: إما الفوز بالمطلوب، أي: هلموا إلى الصلاة لتفوزوا بمطلوبكم، أو البقاء والدوام لنعيم الجنة.
((حَيْثُ أَتَى)) حيث كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان، وربما ضمّنت معنى الشرط، وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي: حيث توجه وسلك.(96/3)
مسائل تتعلق بقوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)
ذكر الشنقيطي مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة: المسألة الأولى: اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر.
المسألة الثانية: اعلم أن الفخر الرازي قسم السحر إلى ثمانية أنواع: النوع الأول: سحر الكلدانيين والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم، وراداً عليهم.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ومعلوم بأن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف؛ لأنهم كانوا يتقربون فيه إلى الكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله، ويرجون الخير من الكواكب، ويخافون الشر من قبلها، كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه، فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح.
النوع الثاني من السحر: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، وفصل في ذلك.
النوع الثالث: من أنواع السحر: الاستعانة بالأرواح.
النوع الرابع من أنواع السحر: التخيلات والأخذ بالعيون.
النوع الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضربت بالبوق من غير أن يمسه أحد! ومنها: الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى أنهم يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل.
قال ابن كثير بعد ذكر كلام الرازي: ومن هذا القبيل حيل النصارى.
يعني: من أنواع السحر الذي يكون فيه نوع من الحيل وخفة اليد ونحو هؤلاء الناس أصحاب الألاعيب، وليس له في الحقيقة واقع، والرازي يرى أن سحر سحرة فرعون هو من هذا النوع الذي هو تخييل ((يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى))؛ لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فألقوه في وقت الضحى، فجاءت الشمس على هذا الزئبق وتمدد، فبالتالي الزئبق حرك هذه العصي وظنوا أنها حركة طبيعية.
يقول ابن كثير: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، يعني: النصارى -أضلهم الله- خبراء في هذا الدجل، وهذا النوع من الدجل هو أقصى ما يستطيعون أن يموهوا به على أتباعهم ممن أظلم الله قلوبهم بالشرك والتثليث؛ لأنهم لا عقول لهم، فإنهم يسهل جداً أن يؤسروا بمثل هذه الأشياء التي نذكرها، وكنت قرأت يوماً وأنا عابر شعاراً يتعلق بالتمثال المزعوم لـ مريم عليها السلام، ويقولون: هناك حركات معينة تلتمس من هذا التمثال! وقد تعودنا على سماع هذا الكلام، وهم لا يملكون إلا هذا الدجل، وليس هناك ما يؤيدون به باطلهم سوى الدجل، وهذه الألاعيب، فالقوم لهم خبرة عريقة في مجال الدجل والخداع وأسر الجهلة بمثل هذا الكلام.
يقول ابن كثير: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس.
وهكذا ابن كثير وغيره من العلماء إذا ذكروا كنيسة القيامة يسمونها كنيسة القمامة، استهزاء بها؛ أولاً: لأننا لا نعترف بما يسمونه قيامة؛ لأن معنى كلامهم أن المسيح -والعياذ بالله كما كذبوا- صلب، ودفن ثلاثة أيام، ثم قام من بين الأموات في هذا اليوم الثالث وصعد إلى السماء، فهذا لا شك أنه تكذيب بالقرآن الكريم، وكفر بواح صراح، فـ المسيح عليه السلام رفع، ولم يتمكن منه اليهود لعنهم الله، وإنما رفع إلى السماء، والنصارى عندهم كنيسة يسمونها (القيامة) ويحتفلون بالعيد فيها.
ويحصل ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم غارقون في الجهل ومنافاة التوحيد، أن بعضهم يهنئ النصارى بعيد المسيح (المجيد)، وهذا قد يخرج من الإسلام والملة إذا كان معتقداً لذلك، فمعناها أنه يكذب القرآن، وهم يقيمون هذا العيد في كنيسة القيامة، ويبدو أن النصارى سموها بهذا الاسم للتعظيم، وزرع الهيبة في النفوس لباطلهم.
وفي هذه الكنيسة التي في بيت المقدس يحتالون في إدخال النار خفية إليها، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم، وأما الخواص فهم يعرفون أنها حيلة من حيلهم التي يستعينون بها، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم! وقد حصل منذ سنوات خرافات منها: الزعم أن مريم عليها السلام ظهرت في كنيسة الزيتون في القاهرة، ووقعت ضجة كبيرة في هذا الأمر، حتى فتن بهذا الأمر الكثير من الطغام من المسلمين الجهال إلى آخر هذا الدجل.
فالنصارى لهم خبرة عظيمة جداً في هذا المجال، والآن بواسطة التكنولوجيا الحديثة سهل جداً إيهام الناس أن نوراً يظهر وسط الظلام، ولكن هل مريم عليها السلام تظهر لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها من دون الله، والذين يشتمون ويسبون الله؟! إن الشياطين تتلاعب بعقولهم، فخوارق العادات بحد ذاتها لا تدل على إيمان أو صلاح، وخوارق العادات لا تدل على أن هذا هو حق، وإلا كان سحرة الهند وأصحاب حركات الخفة على حق.
خوارق العادات لابد فيها من شرطين: أولاً: أن تكون غير مخالفة للشرع.
ثانياً: أن ينظر في سيرة الرجل الذي كانت له هذه الخوارق، فإن كان رجلاً صالحاً مستقيماً على السنة، وعلى الشرع، مجانباً للكبائر والمعاصي، وكانت الكرامة لا تتنافى مع الشريعة، ففي هذه الحالة نسميها كرامة.
أما خرق العادة في حد ذاته فقد يحصل بأسباب كثيرة، منها: السحر والتخييل، ونحو هذه الأشياء التي يفعلها صاحب خفة اليد.
وأما النصارى، فحتى لو حصلت لهم هذه، وفعلوا ما فعلوا، فمجرد أن الإنسان يجوز أن يكون دينهم مرضياً عنه أو فيه شيء من الحق؛ فإنه يخرج من الإسلام، ومن ذلك أن يجوز أن مريم موالية لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها، ويعبدون المسيح من دون الله.
فهل مريم عليها السلام تكون مع هؤلاء أو تؤيدهم؟! هذا مستحيل.
فالشاهد: أن هذه الأشياء لا يضحك بها إلا على بسطاء العقول.
يقول: وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ؛ فإنه من يكذب عليّ يلج النار).
ثم ذكر الرازي حكاية عن بعض الرهبان، وهي: أنه سمع صوت طائر حزين الصوت، ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب في وكره من ثمر الزيتون، ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ يعني: النصارى يرون ذلك منه وهو في الصومعة، فهو عمل هذه الحيلة كي يأتي بهم، فيرون الزيتون، فيعتبرون أن هذا من كراماته على الله؛ ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
من ذلك أيضاً: أن بعضهم كان يعمل تمثالاً ويعمل فيه تجويف؛ بحيث إنه في وقت معين يوهم الناس أن التمثال يدر لبناً في وقت معين، وقد جعل أنبوباً موصلاً، ويصب اللبن من فوق وينزل، ويوهم الناس أنه يدر لبناً! وهذه الأشياء لا تزلزل قلب المؤمن أبداً؛ لأن الإنسان دائماً عندما يذكر خوارق العادات عليه أن يتذكر المسيح الدجال، ويقارن ما يفعله هؤلاء بما سيفعله المسيح الدجال، فهل يساوون شيئاً بالنسبة لما سيفعله المسيح الدجال؟! لا، فهو سيفعل أشياء مذهلة، ويدعي الألوهية، ويفتن الناس بهذه الخوارق وهذه الأفعال، فهل هذا دليل على أنه على حق؟!
الجواب
لا، إذاً: هؤلاء الناس سيسهل على المسيح الدجال أن يقنعهم، ولا شك أن هذا منهج غير صحيح في البحث عن الحق، فالبحث عن الحق لا يكون عن طريق هذه الأشياء.
ثم قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وعلوم الشر كثيرة، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعاً، وأن منها ما هو كفر بواح، ومنها ما يؤدي إلى كفر، وأقل درجاتها التحريم الشديد.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال بعضهم: إنه يكفر بذلك، وهو قول جمهور العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم، وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره، وعن الشافعي: أنه إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك؛ فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، واعتقد إباحته فهو كافر أيضاً وإلا فلا، وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة.
قال الشنقيطي: التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل: فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر؛ فهو كفر بلا نزاع، وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.(96/4)
تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجداً)
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجداً لله تبارك وتعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى، فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي هذه الهداية العظيمة، وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في الأعراف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] إلى قوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:120 - 122].
قال الله تبارك وتعالى: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)) يدل على قوة البرهان الذي عاينوه؛ لأن هذه الحجة كانت حجة في غاية القوة، وكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها، فلشدة تأثرهم بهذه المعجزة كأن هناك من أمسكهم بغاية القوة وألقاهم بحيث يسقطون ساجدين من شدة وعظم المعجزة التي عاينوها! وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم، والظاهر أن هذا من الإسرائيليات.
وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظراً إلى حالهم الماضية، فقوله: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)).
فهم في هذه اللحظة كانوا مؤمنين، ولم يعودوا ساحرين كافرين، لكن أطلق عليهم اسم السحرة باعتبار حالهم الماضية، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، فهل اليتامى يؤتون المال وهم يتامى قبل أن يبلغوا؟ لا، بل لا يدفع إليهم مالهم حتى يبلغوا سن الرشد بعد بلوغهم النكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، لكن عبر عنهم باليتامى باعتبار حالهم الماضية.
واعلم أن علم السحر مع خسته، وأن الله صرح بأنه يضر ولا ينفع، قد كان سبباً لإيمان سحرة فرعون؛ لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا، وأنها خارجة عن طور السحر، وأنها أمر إلهي؛ فلم يداخلهم شك في ذلك.
وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في نوع المعجزة التي يؤيد بها أنبياءه، أنها تكون من جنس الشيء الذي يتميزون به، كما أيد عيسى عليه السلام بكثير من المعجزات الطبية؛ لأنه كان في عصر تفوق أهله في علم الطب جداً، وكذلك أيد سليمان عليه السلام بالقصور والملك الكبير؛ لأنه كان يتعامل مع اليهود الماديين، وكذلك لما دعا بلقيس أظهر لها ما يدهشها ويذهلها.
كذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعظم معجزة على الإطلاق، وهي القرآن الكريم؛ لأن العرب كانوا في قمة البلاغة في ذلك الوقت، ولذلك أتى بمعجزة من جنس العلم الذي تفوقوا فيه، وهكذا.
إذاً هؤلاء السحرة كانوا بارعين جداً في السحر، وفرعون بلا شك قد انتقى أكثرهم تفوقاً في علم السحر: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112]، فحذقهم في هذا السحر هي التي جعلتهم يؤمنون أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وأنها أمر إلهي، ولم يشكوا في ذلك، فكان ذلك سبباً لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد والتهديد.
فانظر كم كان عمر إيمانهم؟ ثواني معدودة، ومع ذلك انظر كيف صمدوا أمام فرعون هذا الصمود: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، ولو كانوا غير عالمين بالسحر، لأمكن أن يظنوا أن العصا من جنس الشعوذة والعلم عند الله تعالى.(96/5)
تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)
قال تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، لما آمن السحرة بالله عز وجل قال لهم فرعون منكراً عليهم: ((آمَنْتُمْ لَهُ)) أي: صدقتموه بأنه نبي مرسل من الله وآمنتم له قبل أن آذن لكم؟ يعني: أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم؛ لأنه يزعم أنه لا يحق لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذنه لهم.
فانظر إلى الأعجب من ذلك! فرعون بعدما كان يمني السحرة ويعدهم، ويقول لهم: {وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، ويكون لكم الحظ، فإذا به يتهم موسى عليه السلام بأنه كبير السحرة، وبأنه أستاذهم الذي علمهم السحر، ثم هددهم مقسماً على أنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً، وهذا أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأن قطعهما من جهة واحدة يبقى معه شق كامل صحيح بخلاف قطعهما من خلاف، فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم، وكذلك يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع كما هو معروف.
وقد بين هذا قوله تبارك وتعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:49]، وقال تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:123 - 124]، فقوله هنا في سورة طه: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، هو المراد بقوله: ((لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)).
يعني: آية الأعراف بينت آية طه.
وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71].
((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا))، أنا أم رب موسى ((أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)).
إذاً: فرعون كان يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله، وهذا أيضاً كقوله: {قال أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله: {لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].
وقال بعضهم: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا)) يعني: أنا أم موسى أشد عذاباً وأبقى، وعلى هذا فهو يتهكم بموسى؛ لأن موسى يعتقد أنه قطعاً لن يكون أقوى منه، وأنه ضعيف بالنسبة إليه، فهذا التهكم بموسى عليه السلام لاستضعافه له، وأنه يقدر على أن يعذب من لم يطعه، كقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والله جل وعلا أعلم.
قال الشنقيطي: واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل فيهم فرعون ما توعدهم به أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لموسى وهارون: {أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، والعلم عند الله تعالى.
إذاً: هذا هو الشيء الوحيد الذي استند إليه العلامة الشنقيطي في هذا الترجيح؛ لأن الله قال: {أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، فعموماً هذا الوعد من الله عز وجل يقتضي أنهم غالبون، وأن فرعون لن يقتلهم ولن يصلبهم كما توعدهم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)) أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فألقي السحرة سجداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية و ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)) فقال فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} [طه:71] أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك، {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:71] أي: من جانبين متخالفين، {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71] يعني: أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه أو من تخليده في العذاب {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايمي: وضعفه الزمخشري؛ لأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: ((آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)) أي: لموسى، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى.
إذاً: قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، فيها قولان: القول الأول: أنا أم رب هارون وموسى ((أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)).
القول الثاني: ((َلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا)) أنا أم موسى ((أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى))، والراجح القول الثاني لقوله: ((قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ))، يقول: إن اللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغير الله تعالى، يعني إذا استقرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن فعل الإيمان حينما يتعدى باللام يكون في حق غير الله عز وجل، كما في قول إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، وكذلك هنا: {آمَنْتُمْ لَهُ} [الشعراء:49] يعني: صدقتم موسى عليه السلام، وقال تبارك وتعالى في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]؛ فمع الله عداها بالباء، أما مع المؤمنين فقال: ((يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)).
إذاً: تعدي فعل الإيمان باللام يكون في حق غير الله تعالى، فهذا الوجه هو الذي رجح به كون قول فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، المقصود به: أنا أم موسى؛ لأن في السياق قبله مباشرة: ((آمَنْتُمْ لَهُ)) أي: بموسى عليه السلام، وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع المسلمين؛ لأن موسى ما عذب أحداً ولا هدد أحداً بالتعذيب، فهو يريد أن يتهكم بموسى.(96/6)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات)
قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
قال الشنقيطي: قوله: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ)) أي: لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات، كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها.
والواو في قوله: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) عاطفة على (ما) من قوله: ((عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ)) أي: لن نختارك (على ما جاءنا من البينات)، ولا على (الذي فطرنا) أي: خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود.
وقيل: هي واو القسم.
يعني: والله الذي فطرنا؛ على أنها قسم، وقيل: هي واو القسم والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله، أي: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) لا نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) أي: اصنع ما أنت صانع فلسنا راجعين عما نحن عليه ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) أي: إنما ينفذ أمرك فيها فقط، فتكون (هذه) منصوبة على الظرف على الأصح، أي: وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها.
وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع من ثباتهم على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده؛ رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، مذكور في غير هذا الموضع، كقوله في الشعراء عنهم في هذه القصة بعينها: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، وقال في الأعراف: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126].
وقوله: ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) عائد الصلة محذوف، أي: ما أنت قاضيه؛ لأنه مخفوض بالوصف ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا))، على أن الأقرب هو إعراب (هذه) على أنها ظرف، يعني: يمكن أن تقضي أو تحسم فقط علينا في الدنيا ولا سلطان لك على الآخرة.(96/7)
تفسير قوله تعالى: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا)
قال تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73].
ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا قالوا له: ((إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا))، يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر وغيره من المعاصي ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) أي: ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وهذا الذي ذكره عنهم أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الشعراء عنهم: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:50 - 51]، وقال عنهم في الأعراف: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126].
وفي آية طه هذه سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم: ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) يدل على أنه أكرههم عليه مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى} [طه:62 - 64]، فقولهم: ((فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً)) صريح في أنهم غير مكرهين، وكذلك قوله عنهم في الشعراء حينما قالوا لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42].
سبحان الله! هؤلاء فعلوا ما فعلوا تقرباً إلى فرعون لينالوا القربة والزلفى من فرعون على ما هو عليه، قالوا لفرعون: ((أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً)) مكافآت وجوائز ((إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)) {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ}.
وقوله في الأعراف: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114].
إذاً: هذه الآيات تدل على أنهم كانوا غير مكرهين، فما الجواب عن هذا الإكراه المذكور في آية طه؟ قال: للعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة: منها: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم.
يعني هو أكرههم على القدوم والحضور من كافة البلاد في مصر كي يحضروا هذه المواجهة، قال: فهو أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر، وطواعهم نسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة، وبذلك ينتفي التعارض، ويدل لهذا قوله: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36]، وفي الآية الأخرى: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111] يعني: كأن هناك قواتاً معينة ستذهب وتحضر السحرة، وتجندهم لكي ينفذوا أمر فرعون، فهذا دليل على أنهم لم يأتوا طوعاً، وإنما أرسل إليهم من يجتذبهم ويحضرهم إلى هذا الموعد.
جواب آخر: قالوا: إنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر، ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين.
((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) يعني: أكرهتنا صغاراً، ثم تعلموا وتخرجوا بالسحر وبعد ذلك كانوا يمارسونه.
جواب آخر: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل فوجدوا أن عصاه تحرسه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه، وألزمهم بذلك، فلما لم يجدوا بداً من ذلك فعلوه طائعين، وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
إذاً: أظهر هذه الأجوبة هو الجواب الأول: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أجبروا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم هو بالنسبة إلى أول الأمر، وبالنسبة إلى آخر الأمر تنفك الجهة، وبذلك انتفى التعارض، ويدل لهذا قوله: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36]، وقوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111].
وظاهر قوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أن المعنى: والله خير من فرعون وأبقى منه؛ لأنه باق لا يزول، ولا يذل ولا يموت ولا يعدم كما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النحل: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} [النحل:52] أي: دائماً لا ينقطع أبداً، وغيره من الملوك يذهب عنهم ملكه، إما أن يذهب هو عن ملكه، أو يذهب الملك عنه، وآيات الله كثيرة في ذلك.
والله جل وعلا لا يزول ملكه أبداً، أما غيره من الملوك فإما أن يزول هو عن الملك أو يزول عنه الملك، وأكثر المفسرين على أن معنى قوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) يعني: أن ثوابه خير مما وعدهم به فرعون في قوله {قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114]، فردوا على هذا بقولهم: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) وأبقى أي: أدوم؛ لأن ما وعدهم به فرعون زائل، وثواب الله باق، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17].
وفسر بعض العلماء قوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) خير ثواباً، وأبقى عذاباً من عذابك وأدوم منه؛ فهو الأجدر بأن نخافه، ونشفق منه، ونفر منه، وعليه فهو رد لقول فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، ومعنى أبقى: أكثر بقاء.(96/8)
تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا)
قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74].
(إنه) هذه هاء الأمر أو الشأن ((مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ)) يعني: يوم القيامة ((مُجْرِماً)) يعني: في حال كونه مجرماً، أي: مرتكباً للجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذاً بالله تعالى ((فَإِنَّ لَهُ)) أي: عند الله ((جَهَنَّمَ)) يعذب فيها ((لا يَمُوتُ)) يعني: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة فيها راحة؛ لأنه إذا مات يستريح، فيكون أعظم أمنية عندهم أن يموتوا، لكن الموت يذبح وينتهي، ويقال: خلود ولا موت، ((وَلا يَحْيَا)) حياة هنيئة، وإنما يحيا حياة العذاب والشقاء، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17]، وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وقال تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:11 - 13]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فأعظم أمنية لأهل النار هي أن يموتوا، فيجيبهم مالك خازن النار فيقول لهم: ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) لا أمل لكم في الخروج على الإطلاق ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة: ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم(96/9)
تفسير قوله تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى)
قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} [طه:75].
((وَمَنْ يَأْتِهِ)) يوم القيامة في حال كونه مؤمناً ((قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ)) أي: في الدنيا حتى مات على ذلك ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ)) أي: عند الله ((الدَّرَجَاتُ الْعُلا)) والعلا: جمع عليا، وهي تأنيث الأعلى، وورد هذا المعنى في قوله عز وجل أيضاً: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21]، وقال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]، ونحو ذلك من الآيات.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ)) أي: لن نختارك بالإيمان والاتباع (على ما جاءنا) أي: من الله على يد موسى ((مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)) أي: وهذا الذي خلقنا، واختيار هذا الوقف للإشعار بعلة الحكم، فلم يقولوا مثلاً: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} وعلى ربنا، أو: وعلى الله، وإنما قالوا: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) يعني: لن نؤثرك على الذي فطرك، فاختيار الوقف على أن الله الذي خلقهم وفطرهم للإشعار بعلة الحكم؛ فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب إيثارهم عليه سبحانه وتعالى، وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]، فأجابوا بقولهم: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)) يعني: هو الذي خلقنا، فهو أحق أن نؤمن به، أما أنت فلست سوى مخلوق مثلنا، فكيف نعبدك؟! وكيف نحتاج إلى إذنك قبل أن يدخل الإيمان قلوبنا؟! وقيل: إن قوله: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) قسم محذوف الجواب، ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) أي: اصنع ما أنت صانع، وهذا جواب عن قوله لهم: {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف:124].
((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) أي: تقضي في هذه الحياة الدنيا، وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها، وإنما نريد الآخرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73] أي: خير وأبقى ثواباً، ((إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا)) يعني: فينقضي عذابه (ولا يحيا) أي: حياة طيبة.
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} [طه:75] أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.(96/10)
تفسير قوله تعالى: (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)
قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76] أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.
ثم ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض اللطائف فيقول: اللطيفة الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] استعمال أدب حسن معه، فهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، وفيه أيضاً تواضع له وخفض جناح، وربما ببركة هذا الأدب مع موسى هداهم الله سبحانه وشرح قلوبهم للإيمان، فتأدبوا معه مع ما كان تقتضيه الخصومة والمواجهة.
وفيه تنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلَّم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم {قَالَ بَلْ أَلْقُوا}، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب حينما قال: ((بَلْ أَلْقُوا))، حتى يخرجوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفذوا أقصى مجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وقذف المعجزة على السحر فمحقه، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين، وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ} [طه:58]، ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون إلقاؤه العصا قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رءوس الأشهاد، فيكون أفضح بكيدهم، وأهتك لستر حرمهم.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: ((مَا فِي يَمِينِكَ))، ما الحكمة من أن اللفظ الكريم آثر: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:69]، ولم يقل: وألق عصاك تلقف ما صنعوا؟ المشهور قولان: القول الأول: أن هذا لتعظيم العصا.
القول الثاني: أن هذا لتحقير العصا.
الوجه الأول: أن يكون تعظيماً لها، والإبهام وهو يستعمل أحياناً للتعظيم أو للتحقيق، فالاحتمال الأول: أنه أريد بذلك تعظيم العصا {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني: العصا العظيمة التي في يمينك، أي: لا تبالي بهذه الأجرام الكبيرة، وهذه العصي التي ألقوها وهي كثيرة وكبيرة، فإن ما في يمينك شيء أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فألق ما في يمينك يتلقفها بإذن الله ويمحقها.
الوجه الثاني: أن يكون تصغيراً لها: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني: ألق هذا الشيء الحقير الذي في يمينك، وهو عصا صغيرة هي فرع من شجرة، أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق الشيء الصغير الذي في يمينك؛ فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى، فتحقير العصا على هذا الوجه ليس تحقيراً لآيات الله سبحانه وتعالى، بل المقصود من ذلك تحقير كيد السحرة، فهذه العصا الهينة الصغيرة أبطلت هذا السحر العظيم الذي أتوا به؛ لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى؛ فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ففي الحقيقة يئول الأمر إلى تحقير السحر الذي أتوا به، وأنه سحر حقير إلى حد أن مثل هذه العصا الضئيلة بقدرة الله تلقفته وأبطلت كيدهم وسحرهم! ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، فقد كان علماء البلاغة والذين يتذوقون البلاغة حق التذوق لهم أساليب، فإذا أرادوا أن يمدحوا أنفسهم بعد الانتصار على العدو وجيشه فيظل يمدح أحدهم هذا الجيش وهو في الحقيقة يمدح نفسه أو يمدح جيشه، فإن كان هذا الجيش بهذه القوة وبهذه الإمكانات والعدة والعتاد، وفيه الشجعان وكذا وكذا، ثم هزم أمام جيشنا؛ فإن هذا يتضمن مدح جيشنا في الحقيقة، فهذا أسلوب من أساليب العرب.
يقول: ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ويلزم من ذلك تعظيم شيء ممدوح قهره واستولى عليه، فكسر الله أمر العصا ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين، فدحض السحرة بالعصا الصغيرة التي ذكرها الله هنا بقوله: ((مَا فِي يَمِينِكَ)) يعني: كأنه شيء ما يستحق أن يذكر لصغره، لكن مع صغرها دحضت سحرهم وأبطلته في طرفة عين، فكيف بكيد السحرة أنفسهم؟ لا شك أنه أحقر، لأنه هو الذي هزم.
واعلم أنه لابد من نكتة تناسب الأمرين: التعظيم والتحقير، وتلك -والله تعالى أعلم- هي إرادة المذكور مبهماً؛ لأن ما في يمينك أبهم من عصاك، وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال تسلكه مرة في تحقير شأن ما أخذته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يذكره ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه، وليوهم أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، فيكفي فيه الرمز والإشارة، فهذا هو الوجه المناسب لهما جميعاً.
ثم قال الناصر: وعندي في الآيات وجه سوى قصد التعظيم والتحقير والله تعالى أعلم، وهو: أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا من الله تبارك وتعالى آية، وذلك عندما سأله عنها، وقد قال الله تعالى له في أول موقف علم فيه موسى أن العصا آية من آيات الله التي يؤيده بها: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ثم أظهر الله له تعالى آيتها.
فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يذكره بكلمة (يمينك)، ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه:17]، وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها، وذلك مقام يناسب التثبيت والتأنيس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:67 - 69] إذاً: هذا تأنيس لموسى وإذهاب للوحشة والخوف منه، حيث يذكره بكلمة: (بيمينك)، فإنه قيل له ذلك من قبل ثم ظهر له أنها آية.
ولـ أبي حيان نكتة أخرى، وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة، فاليمين مرتبطة دائماً باليُمن والبركة.(96/11)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي)
أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه من إنجائهم وإهلاك عدوهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:77 - 79].
((وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)) أي: سر بهم من مصر ليلاً ((فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)) أي: يابساً، فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله، ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك، ((وَلا تَخْشَى)) أي: غرقاً من بين يديك.
إذاً: قوله ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) من الخلق أن يلحقوك ويدركوك، ((وَلا تَخْشَى)) مما أنت عليه من الحال بين يديك، وهو الغرق في البحر، ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) لا من خلفك ولا من أمامك، ولا تخشى غرقاً.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يسري بعباده -وهم بنو إسرائيل- فيخرجهم من قبضة فرعون ليلاً، وأن يضرب لهم طريقاً في البحر يبساً، أي: يابساً لا ماء فيه ولا بلل، وأنه لا يخاف دركاً من فرعون وراءه أن يناله بسوء، ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه، وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع، كقوله في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:52 - 63] جبل من الماء هنا، وجبل من الماء نفسه هنا، وكلاهما وقف بقدرة الله كالحائط! {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]؛ لأن البحر عميق، فالماء وقف كما يقف الجدار من الجانبين، ثم انكشف لهم القاع، ومشوا عليه، والماء منصوب بقدرة الله سبحانه وتعالى! وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، أما الآية العظمى الأخرى -والله تعالى أعلم- فهي أن فرعون أعمى الله عقله فسيطر عليه الغرور والكبر إلى آخر لحظة في حياته، ومع كل هذا لا يقول: آمنت بالله سبحانه وتعالى، وهو يرى هذه الآية وهم يمشون والماء واقف من الجانبين، وقد انكشف لهم القاع، فمع أنه يرى هذه الآية، فللكبر والعتو يمضي وراءهم ويطاردهم داخل هذا البحر إلى أن نجى الله موسى ومن معه، ثم انطبق البحر على فرعون وجنوده وأغرقهم.
قال: فقوله في الشعراء: {أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:63] أي: فضربه، فانفلق يوضح معنى قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}، وقوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، يوضح معنى قوله: ((لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى))، وقد أشار إلى ذلك في سورة الدخان في قوله تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:22 - 24]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية: ((فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)) أي: فاجعل لهم طريقاً، من قولهم: ضرب له في ماله سهماً، وضرب اللبن عمله.
اليبس مصدر وصف به، يقال: يبس يبساً ويبيساً ونحوهما العدم، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبناها.
وقوله: ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) الدرك اسم مصدر بمعنى الإدراك، أي: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك من ورائك، ولا تخشى من البحر أمامك، وعلى قراءة الجمهور: (لا تخاف) فالجملة حال من الضمير في قوله: (تضرب) أي: تضرب لهم طريقاً في حال كونك غير خائف دركاً ولا خاش.(96/12)
تفسير قوله تعالى: (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم)
قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78].
((فَأَتْبَعَهُمْ)) أي: اتبعهم، والمعنى: أن موسى لما سرى ببني إسرائيل ليلاً أتبعهم فرعون وجنوده (فغشيهم من اليم) أي: من البحر ما غشيهم، أي: أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فانتهوا عن آخرهم، ووضح ذلك في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] يعني: سيتبعكم فرعون وجنوده، ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:53 - 60]، كان هذا في وقت شروق الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فقوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] أي: أول النهار عند إشراق الشمس، وقال أيضاً: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} [يونس:90]، وقال في الدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اتباعه لهم.
أما إغراقه فقال تعالى عنه هنا: ((فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ))، وقال في الشعراء: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:63 - 67]، وقال في الأعراف: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الأعراف:136]، وقال في الزخرف: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55]، وقال في البقرة: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، وقال في يونس: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وقال في الدخان: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24]، والتعبير باسم المبهم (ما) الذي هو الموصول بقوله تعالى: ((فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)) يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه، ونظيره في القرآن: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]، وقال أيضاً: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54]، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، فالإبهام هنا للتعظيم، واليم: البحر، والمعنى: فأصابهم من البحر ما أصابهم، وهو الغرق والهلاك المستأصل.
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} يعني: أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليه، وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فالآية ترد عليه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}، ما كان عنده هدى ولا رشاد إنما أضلهم وأهلكهم.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:96 - 97]، وهو الذي كان يدعي ويقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، وهم قالوا في طريقتهم: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: أحسن منهج وطريق.
{فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:97 - 98] فالنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله تبارك وتعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}، ولم يقل: (وما هداهم)، هي مراعاة فواصل الآيات، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] المقصود بها: (وما قلاك)، ولكن قال: (وما قلى) مراعاة لهذه الفواصل.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ))؛ لأنه ندم على الإذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم، كما قال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54 - 55]؛ فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم ونزلوا في الطريق الذي سلكوه؛ ففاجأهم الموج، كما قال تعالى: ((فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)) أي: علاهم منه وغمرهم ما لا يحاط بهوله.
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي: أوردهم الهلاك بعتوه وعناده في الدنيا والآخرة وما هداهم سبيل الرشاد.(96/13)
تفسير سورة طه [80 - 94](97/1)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم)
ذكر تبارك وتعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، فقال سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:80 - 82].
قوله تعالى: ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ))، وهو فرعون وقومه، فقد كانوا: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49]، وذلك بأن أقر أعينكم منهم بإغراقهم وأنتم تنظرون.
((قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)) أي: لمناجاة موسى وإنزال التوراة عليهم، واليهود السامرية يعتقدون أن هذا الجبل في نابلس، ويسمونه جبل الطور، ولهم عيد سنوي يقعدون فيه، ويقربون فيه القرابين، والمعروف أن هذا الجبل هو جبل معروف في طور سيناء، والله تعالى أعلم.
وأصل هذه المواعدة كانت لموسى عليه السلام، وبعد ذلك خاطب الله سبحانه وتعالى بها بني إسرائيل في سياق الامتنان عليهم بهذه المعاتبة {وَواعَدْنَاكُمْ}، مع أن الأصل أنه واعد موسى عليه السلام، فيقول الزمخشري: إنما عدى المواعدة إليهم؛ لأنها لابستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه.
((جَانِبَ)) مفعول فيه أو مفعول به على الاتساع، أو بتقدير مضاف، يعني: وواعدناكم إذ كان جانب الطور الأيمن: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)) * ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) يعني: من بدائله؛ فإن المن كالعسل، والسلوى من الطيور الجيد لحمها.
((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) أي: فيما رزقناكم بأن تتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به.
((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) أي: فقد هلك.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)): الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة:51]، وقوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:86]، وهو الوعد بإنزال التوراة.
وقوله هنا: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى))، قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع من القرآن كقوله في البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، وقوله في الأعراف: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [الأعراف:160].
وأكثر العلماء على أن المن هو الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض.
ويسمونه الآن في العراق وتركيا ماء السماء، يجمع من فوق أوراق الأشجار في الصباح، وهو مثل البودرة، ثم يجمع ويتفننون في إضافة المواد عليه.
يقول: وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى، ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض، والسلوى طائر يشبه السُّمانى، وقيل: هو السماني، وهذا قول الجمهور في المن والسلوى، وقيل: السلوى العسل، وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل.
والتحقيق: أن السلوى يطلق على العسل لغة، ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها يعني: ألذ من العسل إذا ما نستخرجها؛ لأن النشور استخراج العسل، قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كناية، سمي به لأنه يسلي، قاله القرطبي؛ إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية، يعني: ليس المراد في الآية العسل، وإن كان لغة يطلق السلوى على العسل.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كسب ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه، ويشمل غير ذلك مما يماثله، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: مما امتن الله به على عباده، وكثير من الناس يقولون: إن الكمأة هي النبات المشهور الآن بعش الغراب، وفوائدها الصحية كثيرة جداً.
قوله عليه الصلاة والسلام: (الكمأة من المن) يعني: مما امتن الله به على عباده.
فمنه الكمأة، ومنه أيضاً المن الذي هو العسل، وماؤها شفاء للعين.
يقول: والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا: إنه السمانى أو طائر يشبهه؛ لإطلاق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك، مع أن السلوى يطلق لغة على العسل كما بينا.
وقوله في آية طه هذه: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) أي: من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان.
وقوله تعالى: ((كُلُوا)) يقدر قبلها: وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ))، الضمير المجرور في قوله تعالى: ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) راجع إلى الموصول الذي هو (ما) في قوله: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)).
((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) أي: لا تطغوا فيما رزقناكم.
ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو: أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك، فهذا كله من الطغيان فيما رزقنا الله، وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا؛ لأن الفاء في قوله تعالى: ((فَيَحِلَّ)) فاء سببية والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها؛ لأنه بعد النهي وهو طلب محض.
وقرأ الكسائي هذا الحرف ((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)) بضم الحاء (فيحُل).
((وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) أي: هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر: هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده ويقولون: هوت أمه، أي: سقط سقوطاً لا نهوض بعده.
واعلم أن الغضب صفة وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه إذا انتهكت حرماته، وتظهر آثارها في المغضوب عليهم؛ نعوذ بالله من غضبه جل وعلا! ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت، فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة الأعراف.
قرأ حمزة والكسائي هذه الآية: (قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم جانب الطور الأيمن) بتاء المتكلم فيهما، وقرأه الباقون (وواعدناكم) (وأنجيناكم) بالنون الدالة على العظمة.
قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق ((وَعَمِلَ صَالِحاً)) بجوارحه ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: استقام وثبت على الهدى المذكور، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] وفي الآية ترغيب لمن وقع في وحشة الطغيان ببيان المخرج له كي لا ييئس: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}.
وقوله: ((إِنِّي لَغَفَّارٌ)) أي: كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحاً ثم اهتدى، وقد أوضح الله هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وقال في حق الذين سبوه وشتموه وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، مرغباً لهم في التوبة عن ذلك الشرك: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، وقال أيضاً: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53]، يعني: لمن تاب {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه} [الزمر:53 - 54]، إلى غير ذلك من الآيات، وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.(97/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى)
قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83] أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار؛ فالله سبحانه وتعالى أنكر على موسى عليه السلام أنه تقدم بين يدي من كانوا معه من نقباء بني إسرائيل، وعجل شوقاً إلى كلام ربه عز وجل ولقائه.
فقوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، إنكار من الله سبحانه وتعالى لتعجل موسى عن قومه، وكان قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور على الموعد المطلوب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه.
{قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
((قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)) أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير، ولذا قال: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) أي: ظننت أن تقدمي بين أيديهم وسبقي إياهم إليك مما يرضيك عني للمسارعة إلى الامتثال بأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك، وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال ورغبة في قبول العذر، ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) يعني: يا رب لترضى، ويعتبر هذا براً منه عليه السلام وابتهالاً إلى الله سبحانه وتعالى، عسى أن يتقبل عذره بعدما أنكر الله عليه تعجله في لقائه قبل قومه.
قال الناصر: إنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} وهو سبحانه وتعالى أعلم أن يعلم موسى أدب السفر، وهو: أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، كما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجعل أصحابه بين يديه ويتأخر هو عنهم في مؤخرة المجموعة التي يصحبها، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب موسى بهذا الأدب، وهو أنه كان ينبغي أن تتأخر فأنت رئيس القوم، وذلك ليكون نظره محيطاً بطائفته، وقد كانت الملائكة تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذا كان يتأخر، وكذلك لأنه إذا كان في مؤخرتهم فإنه يحيط نظره بهم جميعاً، فيرى من كان مريضاً أو من أصابه شيء، أو من ارتد عن المجموعة، فيكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم، وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطاً عليه السلام في قوله: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} [الحجر:65] يعني: اجعلهم يمشون أمامك وكن أنت خلفهم، فأمره أن يكون آخرهم، على أن موسى عليه السلام إنما فعل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، يعني: موسى عليه السلام ضحى بهذا الأدب لشدة شوقه إلى لقاء ربه، وكان يحسب أن في ذلك إرضاءاً لله عز وجل في مبادرته إليه ومسارعته إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يطلبه، وهذه طبيعة فيمن عنده موعد مع من يحب أو موعد يسره، فلو استطاع أن يطير قبل الموعد لسارع إلى ذلك، ولا أسرَّ من مواعدة الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام الذي ذاق طعم مناجاة الله عز وجل من قبل، فكان في أشد الشوق إلى لقاء الله وحضور موعده عز وجل.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83 - 84]: أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة، وذهابه إلى الميقات، واستعجاله إليه قبل قومه، وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه؛ استعجل إلى الميقات، فقال له ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار إليها تبارك وتعالى في غير هذا الموضع، كقوله في الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:142 - 143].
وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو: أن جواب موسى ليس مطابقاً للسؤال الذي سأله ربه؛ لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه، والجواب لم يأت مطابقاً لذلك؛ لأنه أجاب بقوله: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.
وأجيب عن ذلك بأجوبة منها: أن قوله: ((هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)) يعني: هم قريب وما تقدمتهم إلا بقدر يسير يغتفر مثله، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم.
هذا هو الجواب الأول.
الجواب الثاني: أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله: ((وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ))، داخله عليه السلام من الهيبة والإجلال والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق، والله تعالى أعلم.
في قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أدب المؤمن، وهو المسارعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، والإنسان متى ما عرف أن رضا الله سبحانه وتعالى في شيء فعليه أن يسارع إلى هذا الشيء، ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وكذلك في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، ومن الآيات التي تمثل هذا المعنى قوله تعالى: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى))، فإن كان عليه ذنب فليعجل التوبة ولا يسوفها؛ لأن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه؛ فيجب على الإنسان التوبة على الفور، فكلما أخر التوبة فإنه يكتسب ذنباً جديداً.(97/3)
تفسير قوله تعالى: (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك)
قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} [طه:85].
((قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ)) أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة، ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ)) يعني: اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً لما طالت عليهم غيبة موسى، ويئسوا من رجوعه، والسامري في لغة العرب بمعنى اليهودي، وقد قال بالظن من ادعى تسميته أو حاول تعيينه، فلا يسأل أحد: من هو هذا السامري؟ فلم يصح شيء في تسمية السامري، لكنه رجل من اليهود، وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها.
((قَالَ فَإِنَّا)) خبر ((قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، والآية إخبار من الله سبحانه وتعالى لموسى بوقوع قومه في الفتنة، لكن في الحقيقة يراد بهذا الخبر الأمر برجوعه لقومه وإصلاح ما فسد؛ فكأن المعنى: فارجع إليهم يا موسى وأصلح ما فسد من حالهم، وذلك جاء في قوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:86]، رجع لأنه فهم من هذا الخبر أنه أمر بالرجوع إليهم لإصلاح ما فسد من أحوالهم.
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي: حزيناً {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:86] أي: بإنزال التوراة عليه ورجوعه بها إليهم، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} [طه:86]، أفطال عليكم زمان الإنجاء، ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي))، أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.
يقول الشنقيطي: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ}، كلمة الفتنة في اللغة تأتي بمعان كثيرة منها: الاختبار، والعذاب، والإضلال، والمقصود بها هنا فتنة الإضلال؛ لأنه قال: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، فالظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل فهي فتنة إضلال، كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، فهذه الفتنة في عبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة، كقوله تعالى: {ووَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51].
فقوله عز وجل هنا: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع، كقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، إلى قوله: ((اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) أي: اتخذوه إلهاً، وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته، وقوله هنا: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه:87]، يشرح معنى: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أي: كيف أضلهم! قال موسى في الآيات: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88].
والسامري قيل: اسمه هارون، وقيل: اسمه موسى بن ظفر، وعن ابن عباس: أنه من قوم كانوا يعبدون البقر، وقيل: كان رجلاً من القبط، وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه، وقيل: كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، وهم معروفون بالشام، قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان.
والفتنة أصلها في اللغة وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف، وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة، منها: الوضع في النار، كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يحرقون بها، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] يعني: الذين أحرقوهم بنار الأخدود.
ومنها: الاختبار، وهو الأغلب في استعمال الفتنة، كقوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وقوله: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:16 - 17].
ومنها: نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، وقوله هنا: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)) أي: أضللناهم.
ومنها أيضاً الحجة، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: لم تكن حجتهم.
فقوله عز وجل هنا: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أسند إضلالهم إلى السامري؛ لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورمى عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل؛ فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: ((فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)) * ((فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ))، وقال في الأعراف: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، والخوار: صوت البقر، قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله: {عِجْلاً جَسَداً} [الأعراف:148].
وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحماً ولا دماً، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل، فهو صنع العجل على هيئة فيها تجويف تدخل منها الريح وتخرج، فإذا دخلت من مكان تخرج من الناحية الأخرى مصدرة صوت العجل، وهو خوار العجل.
قال: والأول أقرب لظاهر الآية؛ فهم فتنوا بأن حولت لهم صورة العجل إلى عجل حقيقي بلحم ودم، فالله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحماً ودماً كما جعل آدم لحماً ودماً وكان طيناً، لكن ترجيح مثل هذا يحتاج إلى دليل إلا أن يقال: إن الدليل هو قوله: (جسداً)، والله تعالى أعلم.(97/4)
تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً)
قال تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:86].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل، فقوله: ((أَسِفاً)) أي: شديد الغضب، فالأسف هنا شدة الغضب، وعلى هذا فقوله: ((غَضْبَانَ أَسِفاً)) أي: غضبان شديد الغضب، ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن الكريم قوله تعالى في الزخرف: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55]، لما آسفونا أي: لما أغضبونا، فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم.
قال الشنقيطي: وقوله: ((غَضْبَانَ أَسِفاً)) حالان، وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً، كما أشار له في الخلاصة بقوله: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد يعني: ممكن الحال يكون كلمة وممكن أن يتعدد، فهذا معنى قول صاحب الخلاصة.
وما ذكره جل وعلا في آية (طه) من كون موسى رجع إلى قومه: (غضبان أسفاً) ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في سورة الأعراف: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف:150]، وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، قال عز وجل في الأعراف: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] وقال في (طه) مشيراً لأخذه برأس أخيه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان؛ لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ}، وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه، ومع ذلك لم يبلغ الغضب بموسى عليه السلام يلقي الألواح، لكنه لما عاين -بعينه- قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تبارك وتعالى.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح).
وهذا معنى الحكمة المشهورة: ليس الخبر كالمعاينة.
ويمكن استنباط نفس هذه الحكمة من القرآن الكريم من موضع آخر: {لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18]، فالنبي عليه السلام وصف له حالهم في القرآن لكنه لو رآهم لولى فراراً وامتلئ رعباً، فالله يقول: ((لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ)) أي: لو رأيتهم ونظرت إليهم بعينك لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.
وقوله تعالى: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) قال الشنقيطي: أظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون من خير الدنيا والآخرة، وهذا الوعد هو المذكور هنا في قوله: ((وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ)) يعني: كي ينزل على موسى عليه السلام التوراة، وقد كتبها الله له بيده، وهي ألواح التوراة، فهذا هو الوعد الحسن.
قال: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ}، الاستفهام هنا للإنكار، يعني: لم يطل العهد، وهذا هو السبب مع أني لم أتأخر عنكم كثيراً، أي: لم يطل عليكم العهد، كما يقال في المثل: وما بالعهد من قدم؛ لأن طول العهد مظنة للنسيان والعهد قريب لم يطل، فكيف نسيتم؟ ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي))، هنا قال بعض العلماء: (أم) هنا هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} بل ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ))، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، فكأنهم أرادوا الغضب لما عملوا السبب الذي يجلب لهم غضب الله سبحانه وتعالى وهو الكفر.
ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم؛ فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل.
وقوله: (فأخلفتم موعدي) كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى؛ فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى، فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره.
((قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا))، قرأه نافع وعاصم (بملكنا) بفتح الميم، وقرأه حمزة والكسائي بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر الميم، يعني: فيها ثلاث حركات يقول: والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك، وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده، وهو اعتبار بارد ساقط كما ترى، يعني: هذا العذر السخيف ينطبق عليه قول القائل: عذر أقبح من ذنب، يعني: ما كان بأيدينا لكن غلبنا السامري وكادنا وغلبنا، ولقد صدق من قال: إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر الذنب إن كان بغير عذر مقبول، فالعذر ساذج.
وهنا يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة لغوية، يقول: كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ (لم) إذا تقدمتها همزة استفهام فلها وجهان معروفان عند العلماء: الأول: أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) بمعنى وعدكم.
نلاحظ هنا الفعل (يعدكم) فعل مضارع سبقته (لم) الجازمة، وسبقها همزة الاستفهام، فإذاً: فعل مضارع مجزوم بلم تقدمتها همزة استفهام، فالقول الأول: أن المضارع ينقلب ماضياً، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ)) تساوي: وعدكم، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] تساوي: شرحنا لك صدرك، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] تساوي: جعلنا له عينين، ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر؛ لأن لم حرف يقلب المضارع إلى معنى الماضي كما هو معروف، ووجه انقلاب النفي إثباتاً: أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم، أي: تنفي النفي، ونفي النفي إثبات فيئول إلى معنى الإثبات.
هذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن الاستفهام في ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر، فيقول: بلى.
يعني: هذه الصيغة تأتي من أجل أن يقر المخاطب، يقول: ألم نفعل كذا؟ تقول: بلى.
لكي تثبت ذلك.
وعليه فالمراد من قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) حملهم على أن يقروا بذلك، فيقولوا: بلى قد وعدنا ربنا وعداً حسناً، ونظير هذا من كلام العرب قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح فإذا عرفت أن قوله هنا: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ))؛ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكن بينه في غير هذا الموضع كقوله في الأعراف في القصة بعينها: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150]، وبين بعض ما فعل بقوله في الأعراف: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ َ} [الأعراف:150]، وقد أشار إلى هذا في (طه) في قوله: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).(97/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا)
قال تعالى: ((قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ)) [طه:87].
قال الزمخشري: قرئ بالحركات الثلاث على الميم، قال الزمخشري أي: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخُلِّينا وراءنا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده، {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}.
((وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا))، وفي القراءة الأخرى: ((ولكنا حملنا أوزاراً)) أي: أثقالاً وأحمالاً، ((مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)) يعني: من حلي القبط، (والقوم) المقصود بهم قوم فرعون، والمقصود بالحلي حلي نسائهم.
((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: قذفناها في النار لنتلفها.
((فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)) أي: كان إلقاؤه ((فَأَخْرَجَ لَهُمْ)) أي: من تلك الحلي ((عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)) أي: صوت عجل، وقد قيل: إنه صار حياً وخار كما يخور العجل، ودبت فيه الحياة، وقيل: وإنما جعل فيه منافذ ومخارج بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوتاً مثل صوت العجل.
قوله تعالى: ((فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى)) يعني: السامري ومن افتتنوا به، فقالوا بالتغرير: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور! كيف ذهب موسى يطلب لقاء الله في الطور وهذا هو إلهنا وإله موسى؟ ويقصدون -والعياذ بالله- هذا العجل، فهذا معنى قولهم: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) يعني: موسى غفل عن إلهه وهو هنا وذهب يطلبه في الطور!(97/6)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً)
أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه مما لا يستتر بطلانه على أحد، فقال سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89].
((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)) أي: العجل، ((إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) أي: لا يرد لهم جواباً، ((وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا)) أي: دفع ضر، ولا جلب نفع، فكيف يتخذ إلهاً؟ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا)): قال بعض العلماء: والأوزار معناها: الأثقال، قال بعض العلماء: معناها: الآثام، ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم.
ووجه الثاني: أنها آثام وتبعات؛ لأنهم كانوا مع القبط في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ أمان الحربي؛ ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم، والتعليل الأخير أقوى؛ لأن من خصائص هذه الشريعة المحمدية ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهؤلاء حملوا معهم حلي القبط، ولم تكن تحل لهم في شريعتهم غنائم، فكأنهم لما حملوها حملوا معها أوزاراً وآثاماً لأنهم مستأمنون، وبالتالي لا يجوز لهم أن يأخذوا أموالهم، فهذا التعليل أقوى من التعليل الأول.
((مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)) المراد بالزينة: الحلي، كما يوضحه قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، ((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة؛ لأن السامري حفر حفرة وأمرهم أن يقذفوا هذه الحلي في داخل الحفرة، وبعض المفسرين يقول: فعلوا ذلك لأن الحلي لما كانت متناثرة كان يشق عليهم حملها، وهم أرادوا أن يقبروها في كتلة واحدة حتى يسهل حملها.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة؛ لأن ذلك أسهل لحفظه إلى أن يرى نبي الله موسى فيه رأيه.
والسامري لما أمرهم بحفر حفرة، وأمرهم أن يضعوا فيها الحلي، كان يريد تدبير خطة لم يطلعهم عليها، وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات، وكان على فرس؛ أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس، ويزعمون في هذه القصة: أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات، أي: لاحظ أن الموضع الذي أصابه حافر الفرس ينبت فيه نبات، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب، وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكور، وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار، فجعله الله عجلاً جسداً له خوار، يعني: كأن الله أقدره على هذا الفعل ابتلاءً وامتحاناً وفتنة، كما يقدر المسيح الدجال على الخوارق فتنةً للناس، فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى! كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:95 - 96] يعني: حينما لاحظت وقوع الحافر في الأرض قبضت قبضة مما وقع عليه حافر الفرس واحتفظت بها: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:96].
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمُِ} هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد، {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} فهذا يدل على أن ذلك الاعتراف كان من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم، ولا يوجد احتمال أنه من غيرهم.
إذاً: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:87 - 88] أي: نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر! قال ابن عباس في حديث الفتون وهو قول مجاهد، وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة (فنسي) أي: نسي أن يذكركم به، وعن ابن عباس أيضاً (فنسي) أي: السامري نسي ما كان عليه من الإسلام وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته.
إذاً: (نسي) الفاعل هنا ضمير يعود إلى السامري، أي: نسي السامري الإسلام الذي كان عليه.(97/7)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً)
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه، وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضر ورد الجواب، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف في القصة: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148].
ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها؛ لأن العابد في هذه الحالة أكمل من المعبود من حيث سريان الحياة فيه، ومع ذلك يعبد صنماً لا يسمع ولا يعي ولا يعقل، يقول: ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73]، وقوله تعالى أيضاً: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ} [الأعراف:195]، وقال تعالى أيضاً: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، وقال أيضاً: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14].
قال الشنقيطي: قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً يعني: هل يفهم من هذه الآية: أنه إن كان يرجع إليهم قولاً ويتكلم يصلح أن يكون إلهاً؟ لا، فليس المقصود بهذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي عدم حصول المشروط، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط.
وهذا معروف في تعريف الشرط أنه ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، ولا يتوقف على وجوده عدم ذلك الشيء، مثلاً: شروط الحياة بالنسبة للبذرة: أولاً: أن تكون البذرة نفسها سليمة.
ثانياً: لابد من التربة الصالحة ومن الماء والهواء، فالحياة في البذرة لابد فيها من شروط، فهل مجرد وجود شرط واحد يستلزم وجود هذه الحياة؛ لا، فقد يوجد الهواء فقط لكن البذرة مسوسة مثلاً أو غير ذلك من الشروط، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تحصل الحياة، فكذلك الشيء الذي يعلق على أكثر من شرط لا يتحقق إلا بوجود جميع هذه الشروط، وإذا تخلف شرط واحد لا يقع الشيء، ووجوده وحده لا يقتضي وجود هذا الشيء؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات شرط منها يقتضي فوات المشروط، وحصول شرط منها لا يقتضي حصول المشروط، فمثلاً الصلاة من شروطها: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة، فلو أن رجلاً استقبل القبلة وهو غير طاهر والمكان نجس وثوبه نجس، فهل تصح صلاته؟ لا تصح الصلاة مع أنه أتى بشرط من الشروط.
يقول: فكل ما توقف على شرطين فصاعداً لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط، فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه ديناراً، لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة، ومحل هذا ما لم يمكن تعليق الشروط على سبيل البدل؛ فإنه يكفي فيه واحد، كما لو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهماً، فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله: وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا فبحصول واحد تحققا وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه يهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل! كان المفروض أن يحافظوا على هذه الزينة التي هي الحلي إلى أن يأتي موسى فيرى فيها رأيه؛ فهم تورعوا عن زين القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، قال: فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب يعني: هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين رضي الله عنهما- وهم يسألون عن دم البعوضة! انتهى منه.(97/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} [طه:90] يعني: من قبل رجوع موسى إليهم، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:90] أي: ضللتم بعبادته، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، في عبادته سبحانه وتعالى، وترك عبادة العجل، {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] (قال) أي: موسى {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:92 - 93] يعني: في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر.
وقوله: ((أَلَّا تَتَّبِعَنِ)) فيها أقوال منها: ما منعك أن تتبعني؟ أو المعنى: ما حملك على ألا تتبعني؟ بحمل النقيض على مثله فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله، أو: ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم فتكون مفارقتك زجراً لهم؟ ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه ويصلح ما يراه فاسداً.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن بني إسرائيل لما فتنهم السامري وأضلهم بعبادة العجل نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها -أي: كفر وضلال ارتكبوه بذلك- وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا، وأن عجلاً مصطنعاً من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر، وأمرهم باتباعه في توحيد الله تبارك وتعالى، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن يطيعوه في ذلك؛ فصارحوه بالتمرد والعصيان والديمومة على الكفر حتى يرجع إليهم موسى، وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه، وقد أوضح الله هذا المعنى في سورة الأعراف فقال تعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]، فقولهم في خطابهم له: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}، أي: نستمر ونستديم على عبادتنا، فهذا يدل على استضعفاهم له، وتمردهم عليه المصرح به في الأعراف كما بينا.(97/9)
فتوى الطرطوشي في رقص وتواجد الصوفية
ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى من باب الشيء بالشيء يذكر؛ بمناسبة الكلام على أنهم صاروا عاكفين حول هذا العجل يعبدونه فذكر بهذه المناسبة ما يفعله بعض الصوفية من ذلك مما سيذكره؛ يقول رحمه الله تعالى: قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه: سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية، واعلم حرس الله مدته! أنه اجتمع جماعة من رجال يكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم -يعني: نوع من الإيقاع من الموسيقى- ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه- يذكرون الله ويذكرون الرسول عليه السلام، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه: يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل واعمل لنفسك صالحاً ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله! مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم.
هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.
انتهى منه بلفظه.
وعلق الشنقيطي رحمه الله تعالى بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة مريم ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق، ولا شك أن منهم من هو على الصراط المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً مفصلاً كما هو معلوم؛ كـ عبد الرحمن بن عطية وابن أحمد بن عطية وابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني وكـ عون بن عبد الله الذي كان يقال له: حكيم الأمة.
وكـ سهل بن عبد الله التستري، وأبي طالب المكي وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي والجنيد بن محمد ومن سار على منوالهم؛ لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع، فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال، وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال، نعم صار المعروف في الآونة الأخيرة وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا -إلا من شاء الله منهم- دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم؛ ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً وأموالاً وجاهاً، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعملون بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين، فيجب التباعد عنهم والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال: إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عن حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النساء:123 - 125].
فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال، ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي؛ نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
((قَالَ يَبْنَؤُمَّ)) أي: قال هارون (يا ابن أم) أو (يا ابن أم) أي: بكسر الميم أو فتحها في (أم)، وذكرها أعطف لقلبه {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] يعني: لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضب موسى لله وغيرته على حرمات الله، ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بتركهم لا رأي لهم، ((وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))، أي: لم تراع في الاستخلاف والقعود بين ظهرانيهم.(97/10)
تفسير قوله تعالى: (ألا تتبعن أفعصيت أمري)
قوله تعالى قال {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93] قال بعض أهل العلم (لا) في قوله: (أن لا تتبعني) زائدة للتوكيد، المقصود: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن تتبعني، لكنا هنا المراد به التوبيخ، ومثله قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، قالوا: لأن المراد ما منعك أن تسجد إذ أمرتك بدليل قوله في القصة بعينها في سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فحذف لفظة: (لا) في سورة ص مع ثبوتها في الأعراف، والمعنى واحد، فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد.
قال مقيده عفا الله عنه: قد عرف في اللغة العربية: أن زيادة لفظة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة.
يعني: بعض الناس لا يفهمون أن في اللفظ الفلاني حروف مزيدة، والبعض يستغرب كيف يكون في الآية لفظ مزيد، وهذا يجري على لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
قال الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: (لا) في قوله: (ألا تتبعن) زائدة للتوكيد، واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في الأعراف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]؛ لأن المراد: ما منعك أن تسجد إذا أمرتك، بدليل قوله في القصة بعينها في سورة ص: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] أي: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وقوله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] أي: فوربك لا يؤمنون، وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] أي: والسيئة، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] يعني: أنهم يرجعون، فهل من أهلك يعود إلى الحياة؟ لا، فقوله: {وَحَرَامٌ} هذا تحريم كوني قدري على أحد القولين، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]، فالمقصود: أنها إذا جاءت يؤمنون، كذلك قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} [الأنعام:151] على أحد القولين: أن تشركوا بالله، فهذا هو التفسير، لكن في القرآن: ((أَلَّا تُشْرِكُوا)).
قال: ونظير ذلك في كلام العرب قول امرئ القيس: فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر يعني: فوأبيك، وقول أبي النجم: فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا يعني: لا ألوم البيض أن تسخرا، وقول الآخر: ما كان يرضي رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر يعني: وعمر.
وقول الآخر: وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع ذائب غير غافل يعني: أن أحبه، و (لا) مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها.
وقال الفراء: إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، كالأمثلة المتقدمة، والمراد بالجحد: النفي وما يشبهه، كالمنع في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، فالمنع في حد ذاته في معنى الجحد.
يقول الشنقيطي: والذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن زيادة لفظة: (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره، وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) قول ساعدة الهذلي: أفعنك لا برق كان وميضة غاب تمسنه ضراب مثقب ويروى: (أفمنك) بدل (أفعنك) يعني: أعنك برق، و (لا) زائدة للتوكيد، والكلام ليس فيه معنى الجحد، ونظيره قوله الآخر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: وكاد صميم القلب يتقطع، مع أنه ليس فيها معنى الجحد.
ومثل هذا قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] فالمعنى: أقسم بهذا البلد، و {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] المقصود: أقسم بيوم القيامة.
قال الشنقيطي: قوله تعالى: ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر الوجوب؛ لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فجعل أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مانعاً من الاختيار موجباً للامتثال، وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، فيدل على أن الأمر ظاهره الوجوب، يعني: الأصل في أي صيغة أمر أنها تحمل على الوجوب، ولا تصرف عن الوجوب إلى الاستحباب أو غيره إلا بقرينة، قال في مراقي السعود: وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب وافعل: يعني: صيغة افعل صيغة الأمر.(97/11)
تفسير قوله تعالى: (قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي)
قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94].
قال الشنقيطي: وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته، وقد بين تعالى في سورة الأعراف أنه أخذ برأسه يجره إليه، وذلك في قوله: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150]، وقوله: ((وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))، هذا من بقية كلام هارون، أي: ((خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ))، وأن تقول لي: لم ترقب قولي! أي: لم تعمل بوصيتي، وتمتثل أمري.
ثم يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة من هذه الآية، وهي: أن هذه الآية تعتبر من المواضع الواضحة في القرآن الكريم في التعرض للحية: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).
كان العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب كتاب: فتح المنعم سئل مرة سؤالاً حيث يريد السائل دليلاً من القرآن على مشروعية إعفاء اللحية، ففتح الله عليه بهذه الآية، وهو دليل من القرآن الكريم مباشر وهذا المعنى يوضحه الشنقيطي في هذا التنبيه فيقول: وهذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية.
يعني: من سأل فقال: أين الدليل القرآني على وجوب إعفاء اللحية من القرآن؟ فنقول: أولاً: لا يلزم للشيء أن يكون واجباً أن يثبت فقط بالقرآن، فمحجية السنة أمر لا شك فيه، لكن بغض النظر عن هذا نحاول الإجابة عن
السؤال
يقول: يمكن أن يستدل بهذه الآية، لكن بشرط أن نفهمها في ضوء آية سورة الأنعام، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84] ثم إنه تبارك وتعالى بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين -الذين منهم؟ هارون، قال عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم-: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه، أي: الأمر الموجه للقدوة أمر لأتباعه.
قال: وقد قدمنا هناك أنه ثبت في صحيح البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أين أخذت السجدة في سورة ص؟ قال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} [الأنعام:84] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]؟ فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولفظه في البخاري عن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: (أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام:84] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]؟ فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: اقتداء بداود حينما سجد في هذا الموطن في سورة ص.
يقول الشنقيطي رحمه الله: فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة الأنعام، وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيهم أسوةً حسنة، وعلمت أن هارون كان موفراً شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: ((تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي))؛ لأنه لو كان حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته؛ تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن الكريم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم.
والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية! وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها؛ ليس فيهم حالق، نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
ثم يقول الشنقيطي: أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية، فلسنا بحاجة إلى ذكرها؛ لشهرتها بين الناس؛ وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك، وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن.
هل يستطيع أحد أن يناقش هذا الاستدلال؟ ومتى يصح الاستدلال بالآية على الوجوب؟ الآية بمفردها تدل على المشروعية، وهي تدل على الوجوب إذا أضفنا في الاستدلال بها أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، فما دام أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، وأمر نبينا أن يقتدي به في ذلك؛ فحينئذٍ يصبح هذا دليل الوجوب، لكن الفعل في حد ذاته يحتمل الوجوب ويحتمل النسخ أو الاستحباب، وهذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري في هذا الموضع.
على كل الأحوال الحكم ثابت بالوجوب، ونحن ذكرنا هذا للاستزادة، فراجعوا في فتح الباري.
ثم قال الشنقيطي: وإنما قال هارون لأخيه ((يَبْنَؤُمَّ))؛ لأن قرابة الأم أشد عطفاً وحناناً من قرابة الأب.
وأصله.
يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفاً، وحذف الألف المبدلة منها كما هنا.(97/12)
تفسير سورة طه [95 - 103](98/1)
تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري)
قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:90 - 94] يعني: بتركهم لا راعي لهم، {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] أي: لم تراع قولي في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95].
بعد هذا الحوار التفت موسى إلى السامري {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}، أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه:96] أي: فطنت لما لم يتفطنوا له، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} [طه:96] يعني: كنت من قبل قد قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، يعني: ألقيتها في الحلي المذاب حتى صار عجلاً حيا، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:96] أي: حسنته وزينته، ((قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا)) [طه:97] يعني: وإن لعذابك موعداً {لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97] أي: لنصيرنه رماداً في البحر بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.(98/2)
تنبيهات متعلقة بقصة عبادة بني إسرائيل للعجل(98/3)
وعظ هارون لقومه أحسن الوعظ
يذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فيقول: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله: ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ))، ثم دعاهم لمعرفة الله تبارك وتعالى ثانياً بقوله: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ))، ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى: ((فَاتَّبِعُونِي))، ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: ((وَأَطِيعُوا أَمْرِي))، وهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لابد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإزالة الشبهات في قوله: ((إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ))، ثم معرفة الله في قوله: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ))، فمعرفة الله هي الأصل، ثم التي بعدها النبوة في قوله: ((فَاتَّبِعُونِي))، ثم الشريعة في قوله: ((وَأَطِيعُوا أَمْرِي))، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه.
وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته.
هذا من كذبهم على نبي الله هارون عليه السلام، لأنه قطعاً مثل موسى وسائر الأنبياء معصومون من أدنى من ذلك بكثير، فكيف لا يعصمون من الشرك؟ وكيف لا يعصمون من عبادة العجل؟ فإذاً: ما ادعاه كتبة التوراة من أن السامري هو هارون عليه السلام الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته كما هو موجود عندهم، هو من أعظم الفراء بلا امتراء.
عندما تقارن بين مواقف القرآن من الأنبياء عليهم السلام، وبين مواقف هؤلاء الذين حرفوا الكلم من بعد مواضعه، تتعجب! فقد ادعوا أن سليمان عليه السلام عبد الأصنام، وما أكثر القبائح التي نسبوها لغيرهم من الأنبياء! وانظر إلى القرآن كيف يعظم هؤلاء الأنبياء كداود وسليمان، وبيان ذلك بالتفصيل في تفسير سورة ص، وهذا من العلامات البينات الدالة على أن القرآن كتاب الله حقاً، وأنه من عند الله عز وجل، وأنه ذكر أحسن المواقف وأعظمها للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهاهم هؤلاء اليهود لعنهم الله ينسبون ويدعون أن هارون هو السامري، وأنه هو الذي اتخذ العجل، وأنه هو الذي أمر بني إسرائيل بذلك، فانظر كيف يأتي القرآن مهيمناً على ما عندهم من الضلال وحاكياً عن هارون عليه السلام أنه قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90].(98/4)
المقصود بالرسول في قوله: (من أثر الرسول)
التنبيه الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} هو جبريل عليه السلام، و ((أَثَرِ الرَّسُولِ)) يعني: التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته، حيث قالوا: إنه لاحظ أن أثر الحافر ينبت فيه نبات، فتفرس وتفطن إلى أن فيه قوة حياتية، فمن ثم قبض هذه القبضة وألقاها في الحلي حينما صهرها؛ ليكون منها العجل.
يقول: فعامة المفسرين ذهبوا إلى أن الرسول هو جبريل، والمراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته، ثم اختلفوا في السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر، وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور.
واختلفوا أيضاً كيف أن السامري اختص برؤية جبريل عليه السلام؟ فقيل: إنما عرفه؛ لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه،.
وكل هذا ليس عليه أثارة من علم، ولا يدل عليه التنزيل الكريم؛ ولذا قال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، وههنا وجه وآخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) المراد بالرسول موسى عليه السلام، وبأثره سنته، ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان، وفلان يقبض أثر فلان، إذا كان يمتثل رسمه، يعني يتبع هديه وطريقته، ويقال: فلان يقفو أثر شيخه، يعني: يتبعه، فأثر الرسول هو سنته وهديه ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان، ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير: أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بهذا العجل، فرد عليه السامري قائلاً: ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنتك ودينك، فخالفته أي: طرحته، هذا هو الوجه الذي ذهب إليه أبو مسلم، وهو متجه؛ لأنه كما قال: لا توجد أدلة على هذا الذي حكوه من أن أثر الرسول هو جبريل، وأنه أثر حافر فرسه إلى آخره، فلم نقف على دليل على ذلك عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تفهم الآية بهذا الوجه المستقيم ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) يعني: هذا من فتنته بالشرك والردة، قال: أنا فهمت شيئاً لم يفهمه الآخرون، وعرفت لفطانتي وبصيرتي أنكم لستم على الحق، وأن الإسلام ليس هو دين الحق.
((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: اعتد برأيه، وظن أن ما عليه موسى وهارون وقومهما ليس هو الحق، وقد كنت من قبل قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، يعني: شيئاً من سنتك ودينك، ((فَنَبَذْتُهَا)) يعني: فقذفته وطرحته ورفضته، كنت متمسكاً بهديك وسنتك بالحق، لكنني عندما بصرت بما لم تبصروا به طرحت ونبذت هذا الشيء، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة.
وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟ وهو يشير إلى قوله: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) إذاً: الكلام هنا في سياق الغائب، وإن كنا في التفسير نقول: فقبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، لكن لفظ القرآن جاء في سياق الغائب، ((قَالَ)) مخاطباً موسى: ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) لأنه في حالة خطاب مع موسى عليه السلام.
وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً مع جحده وكفره، يعني: كيف يخاطبه بقوله: قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، وهو مكذب بموسى؟ فعلى مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، فهل هم يؤمنون أن النبي أنزل عليه الذكر؟ لا، لكن يقصدون بذلك أنهم لم يؤمنوا بالإنزال، لكن هذا على سبيل السخرية منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر:6 - 7].
قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس مشهوراً باسم الرسول، فليست (ال) العهدية حتى تنصرف إلى جبريل عليه السلام، خاصة وأن جبريل عليه السلام لم يجر له ذكر فيما تقدم حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه؛ فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكلف بعلم الغيب.
يعني: لا يوجد دليل نقلي يثبت أن الرسول هو جبريل عليه السلام، فجبريل لم يشتهر بلفظ الرسول، بالذات عند الإطلاق كقوله تعالى في سورة المدثر: ((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ))؛ لأن السياق يرشدنا إلى أن الرسول المعهود هو موسى عليه السلام، أما هنا لم يجر ذكر جبريل، وجبريل لا يشتهر باسم الرسول بحيث ينصرف الاسم إليه عند الإطلاق، وأيضاً لم تجر لفظ الإشارة حتى تجعل لام التعريف في كلمة: ((الرَّسُولِ)) إشارة إلى جبريل عليه السلام.
إذاً: لا يوجد أي دليل على تفسير الرسول بجبريل، وكأن القول بأنه جبريل من ادعاء علم الغيب، فمن أين لنا أن أنه جبريل؟ هذا غيب، ولا يوجد دليل على تأييد ذلك.
ثانيهاً -أي ثاني الوجوه-: أنه لابد فيه من الإضمار، والإضمار بلا شك خلاف الأصل؛ لأننا كما قلنا: الوجه الأول من التفسير المشهور عند المفسرين: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً)) أي: من أثر حافر فرس جبريل، يعني: نحن نقدر ثلاث كلمات، والإضمار خلاف الأصل، الأصل ألا يكون هناك إضمار، فهذا إضمار فيه كثير من التكلف.
ثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان كيف أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ من أين عرف أنه جبريل؟! ومن أين رآه؟! ولماذا هو بالذات؟! ولماذا لم يره غيره من الناس؟! فنحتاج إلى التعسف في جوابنا على هذه الأسئلة.
كيف اختص السامري من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته أنه هو جبريل؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه بعيد.
يقولون: إن جبريل هو الذي رباه لما أنقذه من فرعون وهو صغير، ولم يقتله كما كان يقتل صبية بني إسرائيل وهذا احتمال بعيد؛ لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبي صادق، فكيف يحاول الإضلال؟! فلدينا أحد أمرين: إما أن السامري عرف جبريل في حال صغره قبل أن يكتمل عقله، وإما بعد أن اكتمل عقله، فإذا كان عرف جبريل وهو يأتي موسى عليه السلام من عند الله حال كمال عقله، فلا شك أنه سيعرف بذلك أن موسى نبي صادق، حيث هو يرى بعينيه جبريل ملك الوحي الذي ينزل على موسى، فهذا دليل قطعي على نبوة موسى عليه السلام، فكيف يرتد بعد ذلك عن الإيمان بموسى؟! وكيف يحاول إضلال بني إسرائيل؟! ثم إن كان لم يعرفه حالة البلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية في حصول تلك المعرفة؟ هذه أيضاً أشياء تستوجب قدراً كبيراً من التعسف للإجابة على هذه الأسئلة، والحقيقة أن هذا التفسير تفسير قوي، وله وجه للأسباب التي ذكرنا، فهذه من الفوائد العظيمة في تفسير القاسمي، فعضوا عليها بالنواجذ.(98/5)
أوجه تفسير قوله: (لا مساس)
التنبيه الثالث في قوله: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] في قوله: ((لا مِسَاسَ)).
وجوه: الوجه الأول: لا أَمس ولا أُمس، يعني عوقب السامري بأنه ما دام حياً لا يقربه أحد أبداً، ولا يمس أحداً.
الوجه الثاني: أن المقصود من قوله: ((لا مِسَاسَ)): المنع من أن يخالط أحداً، أو يخالطه أحد عقوبة له، هجرة وعقوبة جماعية له، فالناس كلهم يقاطعونه عقوبة له على ما صنع.
الوجه الثالث: ما ذكره أبو مسلم أي: ما أريد مس النساء، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله، فلا يكون له ولد يؤنسه، فيحرمه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]؛ لأن المس يكنى به عن النكاح، كما في قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، والله تعالى أعلم.(98/6)
تفسير قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو)
ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98].
((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ)) أي: المستحق للعبادة والتعظيم {اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: أحاط علمه بكل شيء.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: بين جل وعلا في هذه الآية أن العجل الذي صنعه السامري من حلي القبط لا يمكن أن يكون إلهاً؛ وذلك لأنه حصر الإله أي المعبود بحق بـ: ((إِنَّمَا)) -التي هي أداة حصر على التحقيق- في خالق السماوات والأرض.
{الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [طه:98] أي: لا معبود بحق إلا هو وحده جل وعلا، وهو الذي وسع كل شيء علماً، (وعلماً) تمييز محول عن الفاعل.
أي: وسع علمه كل شيء.
وما ذكره تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى هو الإله المعبود بحق دون غيره، وأنه وسع كل شيء علماً؛ ذكره في آيات كثيرة من كتابه الكريم، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255]، وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
وقال في إحاطة علمه بكل شيء: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.(98/7)
تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
قوله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءَِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه:99]، هذا السياق -كما بينه القاسمي - إشارة إلى فضل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما قصه عليه من أنباء الأنبياء تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته.
قال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}.
((ذِكْرًا)) أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمى القرآن ذكراً؛ لما فيه من ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمه، ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر الخاص له صلوات الله وسلامه عليه.
قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43].
كما بين تعالى نعمته بذلك بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه فلم يؤمن به، فقال عز وجل: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:100 - 101].
((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)) أي: عن هذا القرآن، وعن هذا الذكر ((فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا)) أي: إثماً، يعني: عقوبة ثقيلة، شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب، وصعوبة تحملها أو صعوبة احتمالها.
((خَالِدِينَ فِيهِ)) أي: باحتماله المستمر، ((وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)).
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:102 - 103].(98/8)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)): الكاف في قوله: ((كَذَلِكَ)) [طه: 99]، في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: نقص عليك من أنباء ما سبق قصصاً مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون، وعن موسى وقومه والسامري.
والظاهر أن (من) في قوله تعالى: ((مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)) للتبعيض، ويفهم من ذلك: أن بعضهم لم يقصص عليه خبره، وليس المقصود بها البيان؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر في موضع آخر في القرآن الكريم أنه قص عليه أنباء بعض الرسل، وبعضهم لم يقصه عليه، كما قال تبارك وتعالى في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، وقال تعالى في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] وقال في سورة إبراهيم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [إبراهيم:9].
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر الذي له شأن.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أخبار الماضين.
أي: ليبين بذلك صدق نبوته، فالله سبحانه وتعالى من حكمة اشتمال القرآن الكريم على قصص الأنبياء السابقين الماضين: هو تأييد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة؛ لأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم؛ فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه، وهذا ما بينه تعالى في قوله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] أي: فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك به علم، وقوله تعالى في سورة هود: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقال أيضاً في سورة هود: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، وقال تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال أيضاً في قصة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] يعني: لم يكن عندك علم بهذا الذي قصصنا عليك، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:44]، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46]، وقوله أيضاً: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45]، كل هذه الآيات تؤكد معنى واحد، وهو: أن هذا من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من مؤيدات نبوته وأعلامها؛ لأن المقصود أنك لم تكن حاضراً يا نبي الله تلك الوقائع، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته.
وقوله تعالى: ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)) أي: أخبار ما مضى من أحوال الأمم والرسل، وقوله: ((وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا)) أي: أعطيناك من عندنا ذكراً، وهو هذا القرآن العظيم، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله عز وجل: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50]، وقال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58]، فالقرآن يسمى ذكراً، وقال أيضاً: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وقال أيضاً: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1]، وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، إلى غير ذلك من الآيات.
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه: أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم.
ثانيها: أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمه تعالى، ففيه التذكير والمواعظ.
ثالثها: أن فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: فإنه شرف لك ولقومك.
واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكراً، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43].
ويدل على الوجه الثاني في كلامه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقوله تعالى: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].(98/9)
تفسير قوله تعالى: (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً)
قال تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه:100].
قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم، أي: صد وأدبر عنه، ولم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من القصص والأمثال، ونحو ذلك؛ ((فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا))، قال الزمخشري: يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزراً: تشبيهاً -في ثقلها على المعاقب، وصعوبة احتمالها- بالحمل الذي يفدح الحامل، وينقض ظهره، ويلقي عليه بهره، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله على أن المجرمين يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم، أي: أثقال ذنوبهم على ظهورهم كقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]، وقال في النحل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، وقال في العنكبوت: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، وقال في فاطر: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]، وبهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تعلم أن معنى قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:101]: أن المراد بذلك الوزر المحمول: أثقال ذنوبهم وكفرهم يأتون يوم القيامة يحملونها، سواء قلنا: إن أعمالهم السيئة تتجسم في أقبح صورة وأنتنها، أو غير ذلك كما تقدم إيضاحه، والعلم عند الله.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: ((خَالِدِينَ فِيهِ)) يريد: مقيمين فيه أي: في جزائه، وجزاؤه جهنم.(98/10)
تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً)
قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] بدل من يوم القيامة، أو منصوب بمحذوف، والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يماثلها إلا نفخة في بوق، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور، والبحث وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم، أفاده بعض المحققين.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: نسوقهم إلى جهنم، ((زُرْقًا)) أي: زرق الوجوه، والزرقة تقرب من السواد، فتكون وجوههم فيها زرقة قريبة جداً من السواد، فهذا بمعنى قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].
وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم، والأزرق شاخص؛ لأنه لضعف بصره يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه، وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]، نقله الرازي، والأول أظهر، يعني: أنه فعلاً وجوههم تكون شديدة الزرقة بحيث تقترب من اللون الأسود.
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103].
((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) أي: يتسارُّون من الرعب والهول أو من الضعف، قائلين يهمس بعضهم في أذن بعض، فهم يتخافتون فيما بينهم من الرعب والهول، أو من الضعف الشديد سراً، قائلين: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا))، يعني: في الدنيا لبثتم عشر ليال، يتذكرون المدة التي عاشوها في الدنيا، فيقدرونها ويقولون: نحن عشنا تقريباً في الدنيا عشر ليال فقط، كل العمر الذي عاشوه ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يوازي عشر ليال.
قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور.
يعني: الشدائد التي يلقونها يوم القيامة من هولها تنسيهم أيام السرور، وهذا قريب جداً مما ذكرناه في سورة يس: ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)).
هل هم كانوا في حالة رقود، أم كانوا يعذبون في القبور؟ يعني: من شدة الأهوال التي عاينوها نسوا العذاب الذي كان في القبر؛ لأنه بالنسبة إليه شيء لا يذكر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].(98/11)
تفسير قوله تعالى: (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً)
قال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103].
((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) أي: يتسارُّون من الرعب والهول أو من الضعف، قائلين يهمس بعضهم في أذن بعض: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)) يعني: في الدنيا لبثتم عشر ليال، يتذكرون المدة التي عاشوها في الدنيا، فيقدرونها ويقولون: نحن عشنا في الدنيا تقريباً عشر ليال فقط! كل العمر الذي عاشوه ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يوازي عشر ليال!! قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لما يعاينون من الشدائد التي تنسيهم أيام النعمة والسرور.
يعني: الشدائد التي يلقونها يوم القيامة من هولها تنسيهم أيام السرور، وهذا قريب جداً مما ذكرناه في سورة يس: ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)).
فهم كانوا يعذبون في القبور، ومن شدة الأهوال التي عاينوها نسوا العذاب الذي كان في القبر؛ لأنه بالنسبة إليه شيء لا يذكر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].(98/12)
تفسير سورة طه [128 - 132](99/1)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)
قال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128]، ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ)) أي: لهؤلاء المكذبين، ((كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ)) أي: الأمم المكذبة للرسل، ((يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)) يريد قريشاً حيث يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط، ويعاينون آثار هلاكهم، فقوله: ((مَسَاكِنِهِمْ)) يعود إلى هؤلاء المعذبين من القرون المهلكة، أما قوله: ((يَمْشُونَ)) فالواو تعود إلى كفار قريش، أي: هم يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط، ويعاينون آثار هلاكهم، وأنه ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى)) أي: العقول السليمة، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].(99/2)
تفسير قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى)
قال عز وجل: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129]، هذا بيان لحكمة تأخير عذابهم، مع إشعار قوله تبارك وتعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)) بإهلاكهم مثل هلاك أولئك، يعني: كما كذب هؤلاء المكذبون من قريش فلهم نفس المصير الذي لقيه المكذبون فيما مضى، لكن يمنع من نزول العذاب بهم الآن كما نزل على من قبلهم أن لذلك أجلاً محتماً لا يخلفه الله سبحانه وتعالى، وما هي هذه الكلمة السابقة؟ قال القاشاني: هو القضاء السابق ألا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، فقد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يهلك أمته إهلاكاً عاماً يستأصل شأفة المكذبين منهم كما حصل في الأمم السابقة.
وقال الزمخشري في تفسير الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أنه يؤجل عذابهم إلى الآخرة، فلولا هذه العدة؛ لكان مثل إهلاكنا عاداً وثمود لازماً لهؤلاء الكفرة.
وقوله: ((لَكَانَ لِزَامًا)) يعني: كان إهلاكهم لازماً ومحتماً كما أهلك الأولون، واللزام مصدر لازم كالخطاب، وصف بالمصدر مبالغة كما تقول: رجل صدق، فيوصف الإنسان بالمصدر أحياناً للمبالغة، أو أن اللزام اسم آلة؛ لأنها تبنى عليه، كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضاً كقولهم: مسعر حرب، ونزال خصم، بمعنى: مجهز على خصمه، من نز بمعنى ضيق عليه، وجوز أبو البقاء كون لزام جمع لازم، كقيام جمع قائم.(99/3)
معنى قوله تعالى: (وأجل مسمى)
قوله تعالى: ((وَأَجَلٌ مُسَمًّى)) عطف على (كلمة)، (ولولا كلمة وأجل) أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة؛ لما تأخر عذابهم أصلاً، فهم يستحقون العذاب؛ لأنهم كذبوا، فالأصل أنهم يعاقبون كما عوقب السابقون الذين أشير إليهم في قوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)) إلا أن الله سبحانه وتعالى بين أن هناك مانعين يمنعان أن يكون العذاب لازماً لهم الآن، فالأول هو العدة بتأخير جزائهم إلى يوم القيامة، ولولا أيضاً أجل مسمى، فلا يستغرب أحد كيف أن (لزاماً) منصوبة، و (أجل) مرفوعة؛ لأن (أجل) معطوفة على (كلمة)، وكلمة مرفوعة، قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}، إذاً: لولا كلمة سبقت من الله ولولا أيضاً أجل مسمى لكان نزول العذاب فيهم أمراً لازماً محتماً.
وقوله تعالى: ((وَأَجَلٌ مُسَمًّى)) إذا كان في الدنيا فقد يكون يوم بدر كما قال الله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77]، وفي حديث أشراط الساعة التي تكون قبل يوم القيامة: (اللزام) وهو العذاب الذي لزمهم يوم بدر، أو يكون الأجل المسمى يوم القيامة، فلولا هذا الأجل المسمى لما تأخر عذابهم أصلاً.
قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه -يعني: مع تقارب المعنى بين قوله: ((كَلِمَةٌ سَبَقَتْ))، وبين قوله: ((أَجَلٌ مُسَمًّى)) - للإشعار باستقلال كل منهما، فالعطف للمغايرة، ولنفي لزوم العذاب، ومراعاة لفواصل الآية الكريمة، ويحتمل أن المقصود ((لَكَانَ لِزَامًا)) يعني: لكان الأخذ العاجل ((لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى)) كدأب عاد وثمود وأضرابهم.(99/4)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك)
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130] أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال، بل إمهال، فإن الله يمهل ولا يهمل؛ فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر.
فهذه الفاء سببية في قوله: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ))، والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، وليس المراد ترك القتال فتكون الآية منسوخة، لكن المقصود: لا تضطرب ولا تجزع لما صدر منهم من الأقوال الكفرية.(99/5)
معنى قوله: (وسبح بحمد ربك)
قوله تعالى: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)) في المراد بالتسبيح هنا وجهان: الأول: أنه التنزيه، والثاني: أنه الصلاة، فيحتمل أن المقصود: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك عن الشرك، وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامداً له على ما ميزك بالهدى، معترفاً بأنه المولي للنعم كلها، ومن الصيغ الثابتة المأثورة في التسبيح: سبحان الله وبحمده.
وخصص هذه الأوقات بالتسبيح؛ لأن لبعض الأوقات مزية على غيرها فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]، وذكر طرفي النهار؛ ليعم الأمر بالتسبيح الليل والنهار، فكأنه قال: سبح بحمد ربك في كل وقت، فذكر الطرفين؛ ليفيد عموم هذه الأوقات، أو يكون المقصود أن لهذين الوقتين بالذات مزية على غيرهما من الأوقات، وهذا صحيح، فإن بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس -اللذان هما طرفا النهار- من الأوقات المباركة، وثبت في فضيلتهما كثير من الأحاديث، وهما أفضل أوقات الذكر في النهار على الإطلاق.
إذاً: القول الأول: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك متلبساً بحمده؛ لأن الكمال يتضمن أمرين: نفياً وإثباتاً، فالنفي يشير إليه التسبيح، فلفظة التسبيح تفيد تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص وعن كل ما لا يليق به، أما التحميد فهو الثناء على الله بالكمالات كلها، فله صفات الكمال والجمال والجلال.
والحمد أعم من الشكر، فالحمد هو الثناء الحسن، والمدح بصفات الكمال والجمال والجلال، فإذا قلنا: سبحان الله وبحمده، استجابة لقوله: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ))؛ فهذه الباء تفيد التلبس، يعني: سبح بحمد ربك متلبساً بتحميده، يعني: اقرن بين التسبيح وبين التحميد؛ لتجمع بين السببين، نفي النقائص وإثبات الكمالات، فهذا معنى: سبحان الله وبحمده، سبحان الله: أي: أنزه الله عما لا يليق، وبحمده أي: أقول بجانب سبحان الله: الحمد لله، يعني: أثني عليه بإثبات الكمالات له وأمدحه بذلك.
القول الثاني: أن المراد بالتسبيح هنا: الصلاة، ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) أي: صل لربك، وهو الأقرب عند القاسمي رحمه الله، بدلالة قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وهذه دلالة الاقتران، فقرن الصبر بالصلاة، فنفهم آية طه في ضوء آية البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] أي: استعينوا على البلاء الذي منه أذية الكفار للمؤمنين بما يسمعونه منهم من كلمات الكفر والأذى، كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، وهنا يقول: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)) يعني: اصبر على ما يقولون من كلمات الكفر والأذى الذي يؤذونك به، فهذه الآية مثل قوله في الآية الأخرى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
قوله تعال: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) عطف على الأمر بالصبر على ما يقولون من الأذى، وفي الآية الأخرى عطف على الأمر بالصبر، فيصير المقصود بالتسبيح هنا الصلاة، والآيات يفسر بعضها بعضاً، وفي بعض الأحاديث يطلق على الصلاة تسبيح، مثل حديث: (كان لا يسبح في السفر)، وقول ابن عمر: (لو كنت مسبحاً لأتممت) يعني: لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت، وفي الحديث: (جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير ولم يسبح بينهما شيئاً) يعني: لم يتنفل بينهما، فالصلاة يطلق عليها تسبيح، باعتبار أن التسبيح أحد أعمال الصلاة، فيجوز أن يطلق عليها جزء من أجزائها.
إذاً: المعنى: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) أي: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه.
((قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ)) يعني: صلاة الفجر، ((وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)) يعني: صلاة الظهر والعصر؛ لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها، ((وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)) أي: من ساعات الليل، والمراد: صلاة المغرب والعشاء، وإنما جعل وقت الصلاة فيهما لاختصاصهما بمزيد من الفضل؛ وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب، وهدوء الرجل، والخلو بالرب تبارك وتعالى، ولأن الليل وقت السكون والراحة، فصرفه للعبادة على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنفق، فكانت أفضل عند الله وأقرب؛ لأن فيها مجاهدة للنوم واللجوء إلى الراحة.
وقوله: ((وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)) ظرف، يعني: سبح أطراف النهار، وقوله: ((وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)) تكرير لصلاة الفجر والعصر، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية، ومجيئه بلفظ الجمع مشاكلة لآناء الليل، أو لأن صلاة الظهر في نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير، فجمع باعتبار النصفين، أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار.
قال الرازي: إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح؛ لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوى والراحة، إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تبارك وتعالى.
وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: ((لَعَلَّكَ تَرْضَى)) أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، يعني: الزم هذين الأمرين: الصبر والتسبيح لعلك تنال ثواب ذلك وهو أن يرضيك الله، وتنال به ما ترضى به نفسك من رفع ذكرك، ونصرك على عدوك، وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك، وهذا كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، وفي الحديث القدسي: (يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).(99/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم)
أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من زخارف الدنيا إنما هو فتنة لهم، فلا ينبغي الرغبة فيه، وأن ما عنده أجل وأسمى، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، ((أَزْوَاجًا)) أي: أصنافاً، ((زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا)) أي: زينتها، منصوب على البدلية، بدل من ((أَزْوَاجًا)) أو منصوب بـ ((مَتَّعْنَا))، على تضمين معنى أعطينا أو خولنا.
وقوله: ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم، فإن ذلك فان وزائل، وغرور وخداع مضمحل.
قال أبو السعود: قوله تعالى: ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) متعلق بقوله: ((مَتَّعْنَا)) يعني: متعناهم بهذه الدنيا، لنفتنهم فيه، جيء به للتنفير عنه، ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً، فهو في الحال زهرة، لها بهجة ونضارة، لكن في المآل تضمحل وتزول، ولذلك قال: ((زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا)) فهذا إشارة إلى سوء عاقبة ما هم فيه من المتاع مآلاً إثر إظهار بهجته حالاً، أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه.
((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أي: ثوابه الأخروي خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، ((وَرِزْقُ رَبِّكَ)) يعني: ثوابه في الآخرة، خير في نفسه، ((وَأَبْقَى)) يعني: أدوم؛ لأنه لا يفنى، بل يكونون خالدين فيه، فلذلك قال: (ورزق ربك خير) مما هم فيه من زهرة الحياة الدنيا، والثواب الأخروي أفضل وأبقى مما هم فيه؛ لأن ما هم فيه زهرة لا تلبث أن تضمحل، أما رزق ربك وثواب الآخرة فإنه باق لا يضمحل ولا يفنى، وهذا كقوله تعالى: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80].
أو المعنى: ما أوتيت من النبوة والهدى خير مما فتنوا به وأبقى، ((وَرِزْقُ رَبِّكَ)) يعني: ما أوتيت -يا محمد- من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى؛ لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى، وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب.(99/7)
قول الزمخشري في تفسير هذه الآية
من لطائف الآية ما قاله الزمخشري رحمه الله ونصه: مد النظر تطويله، وألا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به، وتمنياً أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80].
قال: وفيه: أن النظر غير الممدود معفو عنه، فالنهي ليس عن النظر، وإنما هو عن مد النظر، فالنظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر، ثم غض الطرف، يعني: مثل نظرة الفجأة، فمن نظر نظرة لا يقصدها، فرأى شيئاً ينبغي له أن يغض النظر عنه، فيغض طرفه بسرعة، ولا حرج عليه في ذلك، فالنهي هو عن مد البصر وإدامته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي بن أبي طالب: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) له الأولى التي نفهمها في ضوء حديث جرير في نظرة الفجأة، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؛ فأمرني أن أصرف بصري).
إذاً: نظر الفجأة هي النظرة التي تقع بطريقة غير إرادية، وغير مقصودة، وسرعان ما يغض الطرف عن المنظور، لكن لو كانت النظرة الأولى ناشئة عن عمد ونية فلا تحل الأولى ولا الثانية، وبعض الناس عندهم مرض في قلوبهم؛ ولذلك يفهمون الأحاديث والنصوص فهماً سقيماً، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لك الأولى وليست لك الآخرة) فيظن أن له أن ينظر الأولى عامداً إلى حرم الله النظر إليه، وليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود: لك الأولى إذا كانت نظرة فجأة بغير قصد، أما بقصد فلا تحل أولى ولا أخرى.
يقول الزمخشري: ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره، ويملأ منه عينيه، قيل: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)) أي: لا تفعل ما أنت معتاد له، وظالم به، ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة، في اللباس والمراكب وغير ذلك؛ لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم.
وهم إنما اتخذوها لجذب ولفت أنظار الناس إليهم، فمن ينظر إليهم فكأنه يغريهم على اتخاذ هذه الأشياء؛ لأنه يحصل لهم غرضهم الذي اتخذوها من أجله، والنظر إلى صورة المنظور تؤثر في القلب، وكذلك النظر إلى الظلمة له تأثير في إمراض القلب؛ ولذلك يجتهدون الآن في تدخيل التقنية الحديثة في تضخيم الأصوات، والتحدث بطريقة معينة، والتحرك بطريقة معينة، وكل ذلك أمور مدروسة؛ لإظهار الهيبة من هؤلاء.(99/8)
تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يعني: بأهله: أهل بيته أو التابعين له صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن أهل النبي عليه الصلاة والسلام هم كل مؤمن كما حققه العلامة ابن القيم في كتابه: جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، صلى الله عليه وسلم، فمن أراد تحقيق هذه المسألة فليراجع كتاب جلاء الأفهام للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فقد شرح وبين أن المقصود بالآل في قولنا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، أتباعه المؤمنون به عليه الصلاة والسلام.
يقول: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)) يعني: أهل بيته أو التابعين له، أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله سبحانه وتعالى.(99/9)
معنى قوله تعالى: (واصطبر عليها)
قوله تعالى: ((وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) أي: اصطبر على أدائها؛ لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة؛ لأن الإنسان إذا واظب على الصلاة فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، فلذلك هل يمكن أن تجد من هو محافظ على الصلوات الخمس في جماعة، ثم يفطر في رمضان عامداً؟ لا؛ لأنه إذا حافظ على الصلاة فلابد أنه سيحافظ على الزكاة والحج وصوم رمضان وغير ذلك، لكن إذا هان على إنسان أن يضيع الصلاة فإنه يهون عليه ما عدا الصلاة من العبادة.
ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها؛ إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، فالأمر بالصلاة ليس لأن الله سبحانه وتعالى محتاج إلى عباده، أو أن صلاتهم تعود عليه بنفع ما، وإنما لأن نفع الصلاة يعود إليهم هم؛ فلذلك عقب الأمر بالصلاة بقوله: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)).(99/10)
معنى قوله تعالى: (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك)
الأمر بالصلاة إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها وهو الله سبحانه وتعالى نفع ما، لتعاليه وتنزهه، ولذلك قال: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) أي: لا نسألك مالاً، بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً، ومعنى ((نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) أي: نحن نعطيك المال ونكسبك، ولا نسألك هو، وهذا قاله ابن جرير رحمه الله تعالى.
وقال أبو مسلم: المعنى: أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج، فإن شأنكم معشر البشر إذا كان للرجل منكم عبيد فإنه يترك هؤلاء العبيد يعملون ويكتسبون المال، ويعودون بهذا المال على سيدهم، فهو ينتفع بهم؛ لأن المال الذي في يد العبد ملك لسيده في الحقيقة، فالله تبارك وتعالى يبين أنه ما يريد منهم ولا منه عليه الصلاة والسلام سوى العبادة، ولا يريد من العباد أن يرزقونه، كما تريد السادة من العبيد الخراج، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
وقال بعض المفسرين: معنى الآية: أقبل مع أهلك على الصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم، ولا تهتموا بأمر الرزق والمعشية.
وهذه الآية من أعظم ما يرد به على قول بعض المفرطين: العمل عبادة، وهي كلمة صحيحة إذا حملت على أحسن الوجوه، لكنهم قد يتركون الصلاة ويقولون هذه الكلمة! مرة في مجلس الشعب دخل عليهم وقت المغرب، فقام رجل من الدعاة الصالحين الموجودين، فقال: الصلاة يا رئيس! فقال له: نحن في عبادة! وهذا نسمعه الآن في كل مكان، تنصح إنساناً وتقول له: أترك ما في يدك واذهب إلى الصلاة، فيقول: العمل عبادة، فنقول: العمل عبادة، والصلاة أليست عبادة؟! ثم إن العمل وقته متسع لكن الصلاة وقتها يضيق، خاصة صلاة الفجر أو العصر، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) يعني: كأن مصيبة أصابته ضاع فيها كل أهله وكل ماله، وأصبح بلا أهل ولا مال، وفي حديث آخر: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، فترك الصلاة من كبائر الذنوب العظيمة، فكيف يقال: العمل عبادة، إذا كان هذا العمل يعطل عن الصلاة؟! المفروض أن الناس ينظمون مواعيدهم وأعمالهم بحيث لا تعارض أعمالهم مواعيد الصلاة، فهو إذا طرأت عليه الحاجة البشرية فلا شك أنه يسارع ويبادر لقضاء هذه الحاجة، مثل الطعام، فلماذا لا يبقى في العمل ويقول: العمل عبادة، ويترك الطعام والشراب؟! لماذا عند ذكر الله وعند فرائض الله يقول: العمل عبادة؟! العمل الذي هو عبادة هو العمل الذي لا يلهي عن طاعة الله سبحانه وتعالى، والصلاة هي أشرف الأعمال على الإطلاق، قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، وهذا القول من تلبيس الشيطان ولعبه بعقول هؤلاء الناس، يضيع الصلاة ويقول: العمل عبادة، يترك العبادة بحجة العمل، فهذه عبادة للشيطان في الحقيقة، وليست عبادة للرحمن جل وعلا.
هذه الآية: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)) لابد لكل إنسان دائماً أن يتذكرها، وأن يكرر الأمر لأهله بالصلاة، ففي كل وقت صلاة يأمرهم بها، حتى لو كان يتوقع أنهم سيبادرون إلى الصلاة؛ امتثالاً لهذه الآية، لابد أن الإنسان يعود نفسه، ولي الأمر هو المسئول الأول أن يأمر أولاده بالصلاة قبل ذهابه لصلاة الجماعة، فيأمرهم بالصلاة، ويقول لهم: بادروا بالصلاة، لا تؤخروا الصلاة، حضرت الصلاة، فيذكرهم باستمرار بحضور وقت الصلاة، ويأمرهم بذلك، فينبغي أن يكون هذا سلوك ثابت في كل بيت مسلم، فالأصل أن الذي يقود دفة السفينة يأمرهم دائماً بالصلاة، والصلاة -بلا شك- أولى من متابعة الواجبات المدرسية والمذاكرة وغير ذلك من الأمور التي هي دون الصلاة بكثير، فلابد أن يكون من وظائف ولي الأمر التي لا يخل بها أبداً الأمر بالصلاة امتثالاً لهذه الآية: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)).
أيضاً في هذه الآية بيان أن الصلاة هي السبب في سعة الرزق، فمن أراد سعة الرزق فلا يترك الصلاة اشتغالاً بالرزق، والحقيقة أن ما عند الله ينال بطاعته ولا ينال بمعصيته، فالرزق عند الله كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فإذا كان الرزق من عند الله فهل نطلب ما عند الله بمعصية الله أم بطاعة الله؟ نطلب الرزق الذي عند الله بطاعته، فإذا أطعنا الله يبارك لنا في هذا الرزق، والآية تشير إلى أن الصلاة سبب في سعة الرزق، ولا يمكن أن تكون الصلاة عائقة عن الرزق؛ لأنه عقب قوله: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) بقوله: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) فالذي يرزقنا وضمن لنا أرزاقنا هو الذي أمرنا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها.
فالإنسان إذا نزلت به خصاصة أو حاجة أو فقر، فمن أعظم أسباب سعة الرزق أن يبادر إلى الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابته خصاصة فزع إلى الصلاة، وكان يفزع إلى الصلاة إذا أصابه أي مكروه، امتثالاً لقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، يقول بعض المفسرين: معنى الآية: أقبل مع أهلك على الصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم، يعني: على حاجتكم، فلا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، مضمون، ونحن رازقوك: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ))، وهذا المعنى تدل عليه الآية مفهوماً.
وليس في الآية حث على القعود عن الكسب، وليست مستنداً للكسالى القابعين في المساجد عن السعي المأمور به، فبعض الناس يقعد عن الكسب والعمل، ويقول: نصلي ونمكث في المساجد ونترك العمل والوظيفة والسعي وراء الرزق الحلال، فهل استدلالهم بهذه الآية يكون في محله؟ لا، فليس الأمر كما يقول بعضهم: جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين فالله سبحانه وتعالى أمرك بالسعي في طلب الرزق كما قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وقال في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] يعني: بعد أن تؤدي الواجب افعل لطلب الرزق ما شئت، لكن المهم ألا تضيع الصلاة بحجة الرزق، والدليل أن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، وهذا أمر صريح بترك ما يسميه بعضهم الآن: العمل عبادة، فالله يأمرك بترك هذه العبادة وقت الصلاة.
ومن العجيب أن يطلق على طلب الدنيا عبادة بهذا المعنى! بل هذا كله من عبادة الدنيا، فالدنيا استعبدته في الحقيقة، فهو عابد للدنيا، فالعمل الذي هو عبادة هو الذي لا يشغلك عن أشرف العبادات، والكسب الحلال والسعي وراء الرزق عبادة يثاب عليها الإنسان، لكن لا ينبغي أن يغتر بمن يقيم التعارض بين الأمرين، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، إلى آخر الآية في سورة النور؛ إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين، يعني: يحافظون على الصلاة، ويعمرون المساجد بصلاة الجماعة، وفي نفس الوقت يسعون إلى الرزق الحلال؛ {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] * {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، وقال تبارك وتعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
((وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل لأهل التقوى والخشية من الله دون من لا يخاف منه عقاباً ولا يرجو منه ثواباً، كما قال في الآية الأخرى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].(99/11)
تفسير سورة طه [133 - 135](100/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت: آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى وكناقة صالح، واقتراحهم في ذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك: ((لَوْلا يَأْتِينَا))، أي: هلا يأتينا محمد بآية كناقة صالح وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحرص وحث.
فأجابهم الله بقوله: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، وهي هذا القرآن العظيم؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز! وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه ((بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها.
فالقرآن الكريم يشهد بصدق وصحة الكتب السابقة التي أوحاها الله سبحانه وتعالى إلى أنبيائه.
هذا معنى: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، وهو القرآن الكريم الذي هو حجة وبرهان قاطع على صحة ما أنزله الله من قبل من الكتب كالتوراة والإنجيل وغير ذلك كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه جل وعلا في سورة العنكبوت في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:50 - 51]، فقوله في سورة العنكبوت: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)) هو معنى قوله تبارك وتعالى في سورة طه: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
ويزيد ذلك إيضاحاً الحديث المتفق عليه: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، معنى الحديث: أنه ما من نبي إلا أوتي من المعجزات ما آمن البشر على مثله، وهي معجزات مؤقتة مثل عصا موسى، هل هي باقية حتى الآن هذه العصا يحدث بها ما كان يحصل لموسى عليه السلام؟ ومثل معجزات عيسى عليه السلام أو ناقة صالح أو غير ذلك من هذه الآيات التي كان فيها خرق للعادة مقترنة بدعوى النبوة لتأييد الأنبياء، فهي معجزات للأنبياء لكنها معجزات موقوتة، وهي خارقة وقاهرة لمن يرونها، ثم بعد ذلك تبقى خبراً كما نخبر نحن عنها الآن، وكما أخبر بها من أتوا بعد الأنبياء عليهم السلام.
أما القرآن العظيم فهو معجزة باقية حية متجددة لا تنقضي أبداً؛ لأنه معجزة بكل معنى الكلمة، وبكل مظاهر الإعجاز، وكما قلنا مراراً: نأمل أن تأتي فرصة نناقش فيها قضية إعجاز القرآن وتعطى حقها الذي تستحقه، لأن هذا باب من العلم في غاية الأهمية خاصة في مثل هذا الزمان.
بعض الخبثاء من أعداء الله في موقع على الإنترنت ادعى أنه يقبل التحدي، وأنه يأتي بضد القرآن وهذا الكلام لا يصدر إلا عن إنسان جبان، ولو كان على مستوى التحدي فلماذا لم يظهر نفسه واختبأ كالفئران والجرذان؟ ولا أحد يستطيع أن يصل إليه، وعلى الأقل يفتح مكاناً في نفس الموقع للتعليقات، لكنه لم يترك أي وسيلة يمكن لإنسان أن يرد عليه بها في نفس الموقع؛ إذا كنت تتحدى! هل تختبئ في الخندق؟! الإنسان عندما يتحدى يقف ويثبت أمام التحدي.
فهل يعجز أحد عن السباب والشتائم؟ كل إنسان قادر على أن يسب وأن يشتم وينتقي أقبح الألفاظ.
فعندما يأتي مثلاً بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] هل يعجز أحد أن يقول: أنا سأقبل التحدي، ويأخذ كلمة (الكافرون) ويقول: يا أيها المسلمون! هل هكذا يكون التحدي؟! كثير منا لا يعرف ما معنى إعجاز القرآن ومن سبقوه كانوا أكثر منه علماً وواقعية، فهذا قام بوضع البدائل ويقول: أنا قابل للتحدي، وسوف أعمل نفس القرآن الكريم، ويظل يكتب: يا محمد! لما أضللت عبادي، وأدخلتهم النار، وجعلتهم من الكافرين؟ إلى آخره!! فمثل هذه الخزعبلات وهذا الضلال لو كان كاتبها عنده شجاعة أدبية لأظهر نفسه، وبدأ يناقش العلماء الذين يتحداهم، لكنه لما خاف أن يظهر عجزه للناظرين اختبأ! هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: نحن من غير قصد أحياناً نتعرض لمثل هذه المحاولات ونتعامل معها بطريقة تخدم سياسة الأعداء، فمثل هذه القضية التي انشغل الناس بها ونشروها في الجرائد لو كان عندهم نوع من الفقه لامتنعوا من نشرها أصلاً؛ لأن كثيراً من الناس لا يقصدون بذلك إلا أن يلقوا إلينا مثل هذه الشبهات ونحن الذين ننشرها على أوسع نطاق! وكمثال عابر بعض الأدوية التي يتحدث عنها الناس نجد طريقة الدعاية التي حصلت لها ما كانت تحلم بها شركات الأدوية ولو أنفقت على ذلك البلايين، لا يمكن أنها كانت تصل للمستوى الإعلامي الذي حصل نتيجة تناولها بشكل غير مدروس، فيحدث أن كل الناس تتكلم عنها: ولماذا لا نرد؟ لازم نرد، لكن أين سترد؟ على موقع آخر؛ لأن الموقع الذي كتب فيه لا يسمح بالرد، أو لا يوجد به مكان للرد عليه.
فالمصيبة أن بعض من ليس عندهم فقه يرد في موقع آخر، ويكون بذلك قد ساهم في إطلاع من لم يطلع على الأمر في الأساس، فالأولى أن يترك الموضوع ولا يثار، وإلا كان كالتراب الي بتحريكه ينتشر في الجو فعدم الرد على مثل هذه الأشياء هذا أفضل؛ لأن الشخص المجهول قد جبن عن أن يواجه، ولم يترك فرصة لأحد ليرد عليه، ثم لا يعجز أحد كما قلنا عن الشتائم؛ فلنعامل هذا كما في قوله تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]؛ لأنه لا يوجد أحد يعجز عن الشتائم، فما علينا إلا الصبر {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، فالمطلوب الصبر على هذا الأذى كما أمرنا الله تبارك وتعالى.
فإذاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، هذه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة باقية حجة على البشرية إلى نهاية الزمان، وهذا يتوافق مع وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه خاتم الأنبياء، لأنه إذا كان خاتم الأنبياء فلا يوجد نبي بعده، ومقتضى ذلك أن تبقى معجزته أيضاً قائمة ظاهرة باهرة قاهرة لكل من عاندها، وهي معجزة القرآن الكريم؛ ففي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، أرجو أن تكون أمتي أكثر أمم الأنبياء جميعاً، لماذا؟ لأن المعجزة باقية ودائمة ومتجددة إلى قيام الساعة، وليست كمعجزات الأنبياء السابقين الذين حصل لهم خرق العادة ثم توقفت وصارت بعد ذلك خبراً، أما القرآن فتكفل الله بحفظه لكي يبقى حجة على البشر، ودلالة واضحة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(100/2)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم في سورة بني إسرائيل، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:90 - 93]-من ذهب- {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، أنا أقترح على الله؟! ليس هذا من شأني.
وقوله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) فأجابهم تعالى: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) أي: أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب؟! وهذا تفسير آخر، لكن الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر بينة ما في الصحف الأولى بأنها القرآن الكريم.
أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات فسخروا بها لما أتتهم، ثم عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا لكفرهم بها؟! يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك؟ وهذا قاله ابن جرير رحمه الله تعالى؛ ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، فأقوام الأنبياء طلبوا واقترحوا الآيات، ولم يكتفوا بما أيد الله به الأنبياء من المعجزات، فلما أجيبوا إلى ذلك وكفروا نزل بهم العذاب العاجل! وهذه سنة الله فيمن تعنت واقترح آية ثم أجيب إلى هذه الآية فكفر بها، فيأتيه العذاب.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعدما حكى قول ابن جرير: وذهب غيره إلى أن المعنى: أولم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور، مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يتعلم ممن علمها، فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنده، وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان.
ينبغي أن يكون الدليل الأعظم على صحة الكتب السابقة هو القرآن الكريم، لا بد أن نكون على يقين من ذلك، وأن هذا يكفي، ليس معنى يكفي أننا ننفي ما عداه من المعجزات، لكن نقول: إنه معجزة المعجزات لأن الآية تقول: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍِ مِنْ رَبِّهِ}، فماذا جاء الجواب؟ ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) أي: أولم يأتهم القرآن الكريم؟ وهذا السياق يفهم منه: أن القرآن كاف في إقامة الدليل على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكما قال الله أيضاً في سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} [العنكبوت:50 - 51] انظر إلى كلمة ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ)) يعني: أن القرآن فيه الكفاية في إقامة الدلالة على معجزته عليه الصلاة والسلام وعلى نبوته {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].(100/3)
القرآن معجزة النبي الكبرى
قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره، وهو الدليل وحده؛ وما عداه مما ورد من الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهى فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وحظ من التأكيد لمن سلمه من أهله؛ ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده.
والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة وأن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر هو: أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتابة، ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم منقذاً لهم من خسران كانوا فيه وهلاك أشرفوا عليه، وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف.
مع أن التحدي كان تحدياً صارخاً لأعظم بلغاء عرفهم تاريخ العرب وهم قريش، مع ذلك ما يعرف عن رجل منهم أنه استجاب لهذا التحدي، إنما لجئوا إلى المجالدة والقتال بالسيف، لكن هل عرف عن أحد منهم أنه استجاب لهذا التحدي؟! لا.
يقول: فعجزوا والآية تتحداهم، وهل تحدي أقوى من أن يقول الله لهم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]؟ وهذه الآية من أعظم إعجاز القرآن الكريم حيث قال: ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا))، فقطع بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم! وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء، واضطهاد المؤمنين؛ إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جنباتها.
وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقال تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38].
يقول: وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصح دليلاً على المدعى، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:23 - 24]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فالقرآن يطالبهم بمقاومة الحجة بالحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على الرغم من العقل، فالإسلام ما طالب الناس أن يدخلوا فيه بالإكراه وبالإرغام وبالإجبار، وإنما أمرهم بإعمال العقل، وأن يستعملوا العقل الذي ميزهم الله به عن العجماوات، حتى يهتدوا به إلى إعجاز هذا القرآن الكريم.
يقول: معجزة القرآن جامع من القول العلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها خطة الذي لا ينتقص؛ وله أن يأخذ حقه الذي لا ينتقص من التدبر في القرآن الكريم، فهي معجزة أعجزت كل قوم أن يأتوا بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها.
أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جن، أو شفاء علة من بدن؛ فهي مما ينقطع عنده العقل، ويجمد لديه الفهم.
هذا الفارق بين معجزة القرآن ومعجزات من سبق من الأنبياء؛ كإحياء الموتى مثلاً بالنسبة لعيسى عليه السلام، هل معجزة إحياء الموتى أو معجزة العصا من الأشياء التي يفسح فيها المجال للعقل لكي يتفكر ويتعقل كيف حصلت؟ لا، لأنها خرق للأسباب العادية، فهذا هو المقصود من قوله: فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم.
وإنما يأتي بها الله سبحانه وتعالى على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم تضئ عقولهم بنور العلم، وهكذا يؤتي الله بقدرته الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.
يقول: وقال فاضل آخر: قضت رحمة الله جل شأنه أن تكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم، يبسط بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليهم انتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يئوب من استبطائه بنجاح، بدون هذا الاعتبار للعقل لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها، هذا ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية، وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن الإحاطة بها عقولهم، وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه.
وأما الآن حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده؛ فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة؛ لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية، فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولاً، ثم إذا ظهر لهم برآته منه صاروا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات! ومحمد عبده له موقف فيه ملاحظات كثيرة بالنسبة لقضية المعجزات، وهذا الكلام في الحقيقة لا يخفى أن فيه ما يرد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام له معجزات حسية، وكان القرآن قطعاً أكبر معجزة، لكن هل اقتصر الله سبحانه وتعالى في تأييد نبيه محمد عليه الصلاة والسلام على معجزة القرآن فقط؟ لا! نعم هو معجزة المعجزات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أيد بمعجزات أخرى؛ كنبع الماء من بين أصابع يده الشريفة عليه الصلاة والسلام والإسراء والمعراج وغير ذلك والمعجزات كثيرة جداً.
فالكلام السابق يشم منه رائحة كلام من مدرسة محمد عبده الغير مرضي في قضية المعجزات.
ومن الكلام الذي لا نقبله قوله: مما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تجوز فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا لكل المعجزات السابقة، وهو وإن كان تهوراً منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم: إننا في زمان لا ينشئ فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي.
هذا الكلام فيه نظر! فلا زالت المعجزة وخرق العادة دليلاً واضحاً جداً على أن هذا الإنسان مؤيد من عند الله سبحانه وتعالى.
الفارق فقط أنه لم توجد في زمننا معجزة خارقة للعادة كمعجزات الأنبياء؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد قبض عليه الصلاة والسلام وذهب إلى الرفيق الأعلى، وترك معجزاته الحسية خبراً يخبر به.
أما المعجزة الحية التي هي متجددة وقائمة فهي لا شك القرآن الكريم، لكن هذا لا ينفي الإعجاز بما عدا القرآن الكريم من المعجزات بأنواعها.
يقول: لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق بأعمال العقل واتباع قواعد العلم بصرف النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات.
وهذا الكلام أيضاً غير صحيح، وأنا أعجب كيف أن القاسمي مع سلفيته الواضحة جداً يتورط في موافقة مدرسة محمد عبده في مثل هذه الأشياء؟! يقول: لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية.
انتهى.(100/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله)
أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم والإعذار ببعثته بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134].
((وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل إتيان البينة، أو: من قبل محمد عليه الصلاة والسلام، يعني: لو أن الله أنزل عليهم العذاب قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، لقالوا: ربنا كيف عذبتنا؟ لولا أرسلت إلينا رسولاً لترى هل نطيعه أم لا؟ لماذا عذبتنا قبل أن ترسل إلينا رسولاً وتقيم علينا الحجة؟ الله سبحانه وتعالى يقول لهم: قد جاءتكم الحجة، وقد جاءتكم المعجزة والدليل على صدق هذا النبي: ((وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل البينة أو من قبل محمد عليه الصلاة والسلام ((لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ)) أي: من عذاب دنيوي ((وَنَخْزَى)) أي: من عذاب أخروي؛ أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها، فلم يحصل أننا أهلكناهم قبل إتيان الآية والبينة؛ فانقطعت معذرتهم؛ لأن الله أرسل إليهم الرسول بالفعل ولم يهلكهم قبل أن يرسل الرسول.
فانقطعت معذرتهم، ولذلك عندما يسألون: أما جاءتكم الرسل والنذر؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] {قَالُوا بَلَى} [الملك:9] فيقرون: {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:9].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}، هذه الآية تشير إلى معناها آية القصص في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، فهذه الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير، هي المذكورة في قوله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] يعني: قبل الرسل تكون لهم هذه الحجة، ويقولون: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:47]، لكن بعد الرسل قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ويقول تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
قال تعالى: {قُلْ} [طه:135] أي: لأولئك الكفرة المتمردين، {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135] كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ)) أي: منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ} [طه:135]، عما قريب، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} [طه:135] المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] أي: من الزيغ والضلال، أي: هل هو النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه أم هم وأتباعهم؛ وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده؛ فلله الحمد في الأولى والآخرة.
((قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا))، أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار الذين يقترحون الآيات عليه عناداً وتعنتاً: كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ))، أي: منتظر ما يحل بالآخر من الزواجر كالموت والغلبة.
وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، الشهادة أو النصر {إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، وقال تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة:98]، إلى غير ذلك من الآيات.
والتربص: الانتظار.(100/5)
تفسير قوله تعالى: (قل كل متر بص فتربصوا)
قال تعالى: {قُلْ} [طه:135] أي: لأولئك الكفرة المتمردين، {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135] كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ)) أي: منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ} [طه:135]، عما قريب، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} [طه:135] المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] أي: من الزيغ والضلال، أي: هل هو النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه أم هم وأتباعهم؛ وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده؛ فلله الحمد في الأولى والآخرة.
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار الذين يقترحون الآيات عليه عناداً وتعنتاً: كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ)) أي: منتظر ما يحل بالآخر من الزواجر كالموت والغلبة.
وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره الكفار، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، الشهادة أو النصر {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، وقال تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة:98]، إلى غير ذلك من الآيات، والتربص هو: الانتظار.
وفي قوله: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] ذكر جل وعلا أن الكفار سيعلمون ((مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى)) أي: وفق لطريق الصواب والديمومة على ذلك، وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار.
والمعنى: سيتضح لكم أننا مهتدون، وأنا على صراط مستقيم، وأنكم على ضلال وباطل، وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة، ويظهر لهم في الدنيا لما يرونه من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ودينه.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع، كقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42] فالناس الآن في الدنيا، في أثناء السباق، التراب يملأ الجو، وبالتالي لا يستطيع الناس أن يعرفوا من الذي سيسبق؟ ومن الذي سيصل أولاً؟ ومن الذي غلب؟ كما قال الشاعر: سوف تدري إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار فكذلك إذا انقضت الدنيا سوف يعلمون.
ومتى يعلم الكفار أن المسلمين كانوا هم أهل الهداية وأصحاب الصراط السوي؟ يجيب تعالى بقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، وقال تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]، فبمجرد أن تأتيهم ملائكة الموت وملائكة العذاب سيعلمون ساعتها قطعاً ويقيناً من المهتدي ومن كان على صواب، وقال تبارك وتعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، إلى غير ذلك من الآيات.
والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم وقوله تعالى: ((فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)).
((مَنْ)) في قوله: ((مَنْ أَصْحَابُ)) قال فيها بعض العلماء: هي موصولة، فيكون إعراب ((مَنِ)) مفعول به في محل نصب.
وقال بعضهم: هي استفهامية معلقة بالعلم.
هذا آخر تفسير سورة طه.(100/6)
تفسير سورة الزخرف [1 - 20](101/1)
بين يدي سورة الزخرف
سميت سورة الزخرف بهذا الاسم لدلالتها على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربها؛ بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه، كما سيتضح هذا المعنى جلياً عند تفسير الآية التي ذكر فيها الزخرف، فالدنيا ليست للمؤمنين وطناً ولا مقراً.
وهي سورة مكية إلا قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وآياتها تسع وثمانون آية.(101/2)
تفسير قوله تعالى: (حم.
والكتاب المبين.
إنا جعلناه قرآناً عربياً)
قال تبارك وتعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:1 - 3] أي: لعلكم تعقلون معانيه: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} [الزخرف:4] أي: رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها، {حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: ذو الحكمة الجامعة.(101/3)
تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين)
قال تبارك وتعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5].
أي: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر بسبب الإسراف، يعني: أن الشخص الذي يحتاج إلى تذكير بآيات الله سبحانه وتعالى هو المسرف، فإنه يذكر ليرجع إلى الاعتدال، فيقول الله تبارك وتعالى: ((أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا)) يعني: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير، بل التذكير يجب عند الإسراف والتفريط، ولهذا بعث الله الأنبياء في زمان الفترة؛ لشدة حاجة الناس إلى التذكير؛ لأنهم يميلون إما إلى الإفراط وإما إلى التفريط.(101/4)
تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين.
وما يأتيهم من نبي)
قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف:6 - 8] أي: قوة، {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8] أي: سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصصهم وحالهم مع تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم، وهذا هو الذي اختاره القاسمي.
والمقصود من ذلك أن يتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ}.
قال الألوسي: الضمير في قوله: (أشد منهم) عائد إلى القوم المسرفين المخاطبين في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}، وفيه ما يسميه علماء البلاغة: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
وقوله: (أشد منهم) مفعول به لأهلكنا، لكن الأصل أن (أشد) نعت لمحذوف؛ لأن المفعول محذوف تقديره: أهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، على حسب قوله في الخلاصة: وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل فهنا حذف المنعوت لوضوح النعت، وعلى هذا فقوله: ((فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا)) يعني: فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، والبطش أصله: الأخذ بعنف وشدة، والمعنى: فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ بسبب تكذيبهم رسلهم، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً، أي: كانوا أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً، فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بالأقوى الأكثر.
وقوله تعالى: ((وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ)) أي: صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل، وقول من قال: (مثل الأولين) أي: عقوبتهم وسنتهم راجع إلى ذلك المعنى.(101/5)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض لعلكم تهتدون)
قال تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف:9 - 10]، وفي قراءة: (مهاداً) أي: فراشاً تستقرون عليها، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: طرقاً تمشون عليها من بلدة إلى بلدة لمعايشكم ومتاجركم.
وقوله: (لعلكم تهتدون) أي: بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.(101/6)
تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر)
قال الله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11].
قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بمقدار الحاجة إليه، فلم يجعله طوفاناً يهلك، ولا رذاذاً لا ينبت، بل قدره بما ينفعكم ويقضي حاجاتكم، فهو غيث مغيث.
وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: أحيينا به بلدة ميتاً من النبات، قد درجت من الجدب، وعتت من القحط، فأحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها بهذا الماء.
وقوله: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي: من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض كذلك يخرجكم الله سبحانه وتعالى أحياءً، وقد تقدم أن من أدلة البعث والنشور الاعتبار بإحياء الله تعالى الأرض بعد موتها.
قال بعض العلماء في قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر): أي: بقدر سابق وقضاء، وهذا تفسير آخر.
وقال بعض العلماء: أي: بمقدار يكون به إصلاح البشر، فلم يكثر الماء جداً فيكون طوفاناً فيهلكهم، ولم يجعله قليلاً دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21]، إلى قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22].(101/7)
تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها)
قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12].
قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: خلق كل شيء فزوجه، أي: جعله صنفين، كما قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:39]، والأزواج هي الأصناف، والزوج تطلق في لغة العرب على الصنف، وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، وقال أيضاً: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53]، وقال أيضاً: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] أي: من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10].
ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] أي: أصناف، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه:131] أي: أصنافاً منهم، وقال تعالى أيضاً: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: والأصناف الذين كانوا على شاكلتهم.
وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي: جعل لكم من السفن والبهائم ما تركبونه.(101/8)
تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم)
قال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14].
قال السيوطي في (الإكليل): في الآية استخدام هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته.
ومما يلفت النظر هنا أن الآية تشير إلى هذا الذكر بعد قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] و (الفلك): سفن، والسفن جمادات ليس فيها روح.
فإذاً: هذا الذكر يقال عند ركوب أي شيء من وسائل المواصلات، سواء كان المصعد مثلاً؛ لأنه من تسهيل الله، أو كانت الحافلة أو السيارة أو الدراجة، أو أي شيء مما سخره الله سبحانه وتعالى من أنواع الجمادات، بجانب المخلوقات الحية من الخيول والجمال وغيرها، فيستحب أن يقال هذا الذكر عند الاستواء عليها.
فالله جل وعلا جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام.
وقوله: ((لِتَسْتَوُوا)) أي: ترتفعوا؛ لأن الاستواء بمعنى الارتفاع، أي: لترتفعوا معتدلين على ظهورها، ثم تذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات، فلابد من شكر هذه النعمة بالقلب، ثم يضيف إلى ذلك الشكر باللسان، بأن يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى الكلام الذي يقولونه: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.(101/9)
معنى قوله تعالى: (سبحان الذي سخر لنا هذا)
قوله: (سبحان) تدل على تنزيه الله عز وجل أكمل تنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وقوله: (الذي سخر لنا هذا) (هذا) راجعة إلى لفظة: (ما) في قوله سبحانه وتعالى: {مَا تَرْكَبُونَ} يعني: الذي تركبون، والمعنى: (سبحان الذي سخر لنا هذا الذي نركبه.
ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جمع الظهور مع أن كلمة: (ما) مفرد، فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} فجمع الظهور نظراً إلى معنى ما؛ لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها، فعام، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد في قوله: (عليه) باعتبار لفظها.
وقوله: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا)) أي: ذلل لنا هذا الذي نركبه من الأنعام والسفن؛ لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الإنسان، فلابد للإنسان أن يستحضر هذه النعمة، وأن يشكرها بقلبه، ثم يتدبر ويتفكر فيما يقول ليحسن أداء الشكر بلسانه، وقد رأينا صور الفيلة في بلاد الهند وغيرها، ومع هذا يأتي طفل صغير فيركب على الفيل ويقوده، وكم بين طفل وبين فيل! وأيضاً الجمال، فالجمل بلا شك أقوى من الإنسان، ويعرف هذا جيداً من يعرف طبع الجمل إذا نفر وتمرد على صاحبه، فهذا التسخير هو بقوة الله عز وجل وإرادته.
وكذلك البحر، فإنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وفيه من القوة ما لا يجهله أحد، ففيه من الأمواج ما قد تغرق أقوى السفن على الإطلاق، ومع ذلك يذلله الله سبحانه وتعالى ويسخره لبني آدم، فلو لم يذلل الله هذا البحر لإجراء السفن فيه لما قدر الناس على شيء من ذلك.
وقد يقول بعض الناس: إن الذي يحكمه أحوال الطبيعة، وإن السفينة تحمل الأثقال الكبيرة وتثبت فوق الماء وكذا، فنقول: ينبغي أن ننتبه إلى أن الله هو الذي أودع فيه هذه السنن وهذه القوانين، ونحن فقط نكتشفها، أو نكتشف ما نستطيعه مما يتوافق مع حاجاتنا ومصالحنا، ولا شك إنها كلها من فعل الله سبحانه وتعالى.
والقوانين التي تسمى بقوانين الفيزياء كلها عبارة عن سنن موجودة منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق، فأودعها فيه، ونحن نكتشفها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً.(101/10)
معنى قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين)
وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: مطيقين، والعرب تقول: أقرن الرجل بالأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به، من قولهم: أقرنت الدابة بالدابة، إذا قرنتها في حبل بدابة أخرى قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها؛ لأن الضعيف إذا لز في القرن -الذي هو الحبل- مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير: وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس والبزل: جمع بازل: وهو البعير الذي يضع نتاجه وهذا كله في السنة الثامنة أو التاسعة.
وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معدي كرب -وقد حمله قطرب على هذا المعنى-: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنين(101/11)
وسائل المواصلات من تسخير الله عز وجل
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام فإنه لو لم يذلله الله لهم لما قدروا عليه ولما أطاقوه، كما جاء ذلك مبيناً في آيات أخر، منها قوله سبحانه وتعالى مبيناً العلامات العظام على قدرة الله سبحانه وتعالى ومننه على خلقه، {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:41 - 42]، وكما سبق في تفسير سورة يس أن في قوله: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) إشارة إلى ما استجد من وسائل المواصلات، سواء في البر أو البحر أو الجو، فكلها داخلة في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}.
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14]، وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية:12]، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ} [إبراهيم:32]، وقال تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] وغير ذلك من الآيات.(101/12)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً)
قال تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15].
قوله: (وجعلوا له من عباده جزءاً) أي: جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيباً، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله.
قال القاشاني: أي: اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما وفاطرهما، وقد جسموه وجزءوه بإثبات الولد له الذي هو بعض من الوالد مماثل له في النوع.
يعني: لا شك أن الولد فرع عن الوالد الذي هو الأصل، فإثبات الولد فيه تجسيم لله سبحانه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالولد يكون مماثلاً في النوع لوالده، فهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ماديين وظاهريين جسمانيين، لا يتجاوزن عن رتبة الحس ولا يتجردون عن ملابس الجثمانيات حتى يدركوا الحقائق المجردة والذوات المقدسة فضلاً عن ذات الله تعالى، فكل ما تصوروا وتخيلوا كان شيئاً جسمانياً، يعني: كحالة الماديين في عصرنا الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما يرونه ويحسونه، ويجعلون جهلهم بما وراء ذلك من الغيبيات دليلاً كافياً في التكذيب بها، ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور وكل ما يتعلق بالمعاد، وكذبوا بالجن وبالملائكة، وبغير ذلك مما لا يقع تحت حسهم؛ إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا، وأيضاً لا تتعدى عقولهم المحجوبة عن نور الهداية أمور المعاش، فلا مناسبة أصلاً بين ذواتهم وذوات الأنبياء إلا في ظاهر البشرية، فلا حاجة إلى ما وراءها.
وقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} أي: لجحود نعم ربه التي أنعمها عليه، وهذا يبين كفرانه لمن تدبر حاله.(101/13)
خلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (جزءاً)
يقول الألوسي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: (وجعلوا له من عباده جزءاً): قال بعض العلماء: (جزءاً) أي: عدلاً ونظيراً، يعني: الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله عز وجل.
وقال بعض العلماء: (جزءاً) ولداً.
وقال بعض العلماء: (جزءاً) البنات.
وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء هو النصيب، وتبعه القاسمي على ذلك؛ فـ القاسمي ذهب إلى أنه النصيب، واستشهد ابن كثير على ذلك بآية الأنعام، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136].
قال الألوسي عفا الله عنه وغفر له ورحمه: إن الذي يظهر أن قول ابن كثير رحمه الله هذا غير صواب في الآية؛ لأن المدعى لله في آية الأنعام هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام، والمدعى له في آية الزخرف هذه جزء من عباده، لا مما ذرأ من الحرث والأنعام، فبين الأمرين فرق واضح كما ترى.
وقول قتادة ومن وافقه: إن المراد بالجزء: العدل والنظير الذي هو الشريك غير صواب أيضاً؛ لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب، أما كون المراد بالجزء في الآية الولد، وكون المراد بالولد خصوص الإناث، فهذا هو التحقيق لمعنى هذه الآية الكريمة.
يعني: أن هناك من قال: إن الجزء هو: الولد، وهناك من قال: إن الجزء هو البنات، والعلامة الألوسي رحمه الله تعالى يقول: المذهب الأول صحيح باعتبار عمومه، لكن المراد من هذا العموم الخصوص (البنات) يعني: أن كلمة الولد تعم الذكور والإناث، كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، ثم خصص وقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالبنت يطلق عليها أيضاً ولد.
فإذاً: لا تعارض بين التفسيرين، بل بينهما عموم وخصوص، فالبنت تدخل في قوله الولد، لكن المراد خصوص البنت من قسمي الولد، فيكون إطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين: أحدهما: ما قاله بعض علماء العربية: إن العرب تطلق الجزء مراداً به البنات، فيقولون: أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، وامرأة مجزئة، أي: تلد البنات، ومنه قول الشاعر: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحياناً وقول الآخر: زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلاً: إنها كذب وافتراء على العرب، وقال في (الكشاف) في الكلام على هذه الآية الكريمة: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث ملحون، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتاً وبيتاً: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئة إلى آخره.
وقال ابن منظور في (اللسان): وفي التنزيل العزيز {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:15] قال أبو إسحاق: يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات لله تعالى وتقدس عما افتروا، قال: وقد أنشدت بيتاً يدل على أن معنى جزءاً معنى الإناث، قال: ولا أدري البيت هو قديم أم مصنوع: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب إلى آخر البيت.
فالمعنى في قوله: (وجعلوا له من عباده جزءاً) أي: جعلوا نصيب الله من الولد الإناث، قال: ولم أجده في شعر قديم، ولا رواه عن العرب الثقات، وأجزأت المرأة: ولدت الإناث، وأنشد أبو حنيفة: زوجتها من بنات الأوس مجزئة انتهى الغرض من كلام صاحب (اللسان).
وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم: أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث معروف، ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له.
إذاً: لاحظنا أن هناك اختلافاً في ثبوت المعنى المذكور لكلمة (جزءاً).(101/14)
التحقيق في معنى الآية
أما الوجه الثاني وهو التحقيق إن شاء الله: أن المراد بالجزء في الآية: الولد، وأنه أطلق عليه اسم البنت؛ لأن الفرع كأنه جزء من أصله، والولد بضعة من الوالد.
لأن معنى الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكاراً شديداً، وقرع مرتكبه تقريعاً شديداً في قوله تعالى بعده مباشرة: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:16 - 17]، إلى قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، ففي سياق الآيات عموماً في هذا الموضع كلها يتكلم الله على ما هو معروف من بغض العرب للإناث، وكيف أنهم نسبوا البنات -وهن أخس النوعين في نظرهم- إلى الله سبحانه وتعالى.(101/15)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16].
(أم اتخذ) يعني: بل اتخذ، والهمزة للإنكار تكذيباً لهم وتعجيباً من فعلهم؛ حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزئين وهو الإناث دون الذكور، مع أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهن، وقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن، وكأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضاً وتمثيلاً، أما تستحيون من السقوط في الفتنة ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجنسين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟! أفاده الزمخشري.
يقول الألوسي رحمه الله في قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}: (أم) هنا بمعنى استفهام الإنكار، فالكفار لما قالوا: الملائكة بنات الله، أنكر الله عليهم أشد الإنكار موبخاً لهم أشد التوبيخ، حيث افتروا عليه الولد، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما وهو الأنثى، كما قال تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات) وهي النصيب الأدنى من الأولاد، (وأصفاكم) أي: خصكم وآثركم (بالبنين) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد، وهذا ما وضحه تعالى في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17]، وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] يعني: فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسوداً من الكآبة وهو كظيم، أي: ممتلئ حزناً وغماً؟ وقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم؛ لأنهم مع افترائهم عليه جل وعلا الولد جعلوا له أنقص الولدين؛ وفي هذا إشارة إلى نوعين من الضعف والنقص يوجدان في المرأة: النوع الأول: نقص ظاهري.
والنوع الثاني: نقص باطني.
أما النقص الظاهري فمن حيث الصورة؛ فإنه لا شك أن الرجل أكمل من المرأة من الناحية البدنية، ولذلك تحاول النساء تكميل هذا النقص في الظاهر بارتداء الحلي والزينة، أما الرجل فزينته هي الرجولة نفسها، ولذلك لا يليق بالرجل أن يلبس الذهب ولا يلبس الحرير ونحو ذلك، ومع تحريم الذهب والحرير إلا أن الله تعالى -مراعاة لفطرة النساء- أباح لهن هذه الأشياء، وقال هنا: ((أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين))، أي: أتختارون لله سبحانه وتعالى النصيب الأدنى والأضعف والأنقص؟! كيف والأنثى لنقصها الظاهري تنشأ في الحلية، وتنجذب إلى الزينة لتكملة هذا النقص بالملابس والزينة وغير ذلك؟ قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا فالنقص الظاهري تجبره المرأة بالزينة من الذهب وغيره.
وقوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} هذا هو النقص الداخلي الباطني، فالغالب في المرأة أنها حيية لا تفصح ولا تقوى على المناظرة ولا المحاورة عند الخصام والجدال، فالنساء إذا شئن أن يفتخرن في الشعر لم يقارن الرجال، بخلاف الرثاء فإن فيه ضعفاً؛ فرثاء الخنساء لأخيها صخر بالنسبة لرثاء الشعراء من الرجال فيه تميز واضح جداً.
إذاً: هنا إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم على الله سبحانه وتعالى الولد جعلوا له أنقص الولدين الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية من الحلي والحلل وأنواع الزينة من صغره إلى كبره، حتى ترى الطفلة الصغيرة التي لا رأت التلفزيون ولا رأت الأفلام ولا خالطت المتبرجات تذهب بالفطرة إلى المرآة، ولا شغل لها إلا المرآة والزينة وتسريح الشعر والفرح والسعادة بهذا الحلي، لتجبر بتلك الزينة نقصها الخلقي الطبيعي، والأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها.
وقد يقول بعض الناس: هناك بعض النساء عندهن قدرة على الخصام، فنقول: نعم، لكن هل هو خصام مبين ينفع أو يشفع؟
الجواب
لا، ففي الغالب أن المرأة لا تقوى على مثل ذلك، ولكن توجد بعض استثناءات، كما قال الشاعر: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال فالأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها.(101/16)
ضلال الجاهلية في نسبة البنات إلى الله
قال تبارك وتعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57].
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62]؛ لأن كراهية البنات سنة جاهلية قبيحة ومبغوضة من الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40].
وقال سبحانه وتعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:21 - 22].
وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:149 - 157].
كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وحينما يئدون البنات ويدفنونهن أحياء كانوا يقولون: نلحقهن ببنات الله، وندفنهن حتى يلتحقن بالملائكة الذين زعموا أنهم إناث، وبعض الجهلة يزينون ستائر البيوت بالتماثيل، ولكن ليت الأمر وقف عند حد التزيين بالتماثيل، بل يصنعون تماثيل على هيئة عرائس صغيرة بأجنحة، يعني: على نفس المعنى الجاهلي الذي نعاه الله سبحانه وتعالى واستنكره على أهل الجاهلية، أي: أنهم يصفون الملائكة بأنهم إناث، فتراهم يصنعون تمثالاً صغيراً على هيئة البنات، ذوات أجنحة، على أساس أن هذه هي الملائكة، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا يخرج من نفس المنبع الجاهلي، فينبغي للمسلم أن يحذر من ذلك.(101/17)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً)
قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17].
وقوله تبارك وتعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) فيه إشارة إلى أسلوب آخر من أساليب الإنكار عليهم فيما يزعمون؛ لأن هذه البنات المزعومة يلزم من ادعائها أن تكون من جنس من نسبت إليه؛ لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته، فهذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [الزخرف:17] يعني: أنهم بزعمهم أن لله بنات وهي الملائكة، فهذا يقتضي أنهم يجعلون هؤلاء الملائكة من المثل لله سبحانه وتعالى.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلاً لله في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} ظاهر؛ لأن البنات المزعومة يلزم من ادعائها أن تكون من جنس من نسبت إليه؛ لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته، فلذا قال: (مثلاً).
ويقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا}: أي: من البنات، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: من الكآبة والغم والحزن، (وهو كظيم) أي: مملوء قلبه من الكرب.(101/18)
تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)
قال تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
قوله: (أومن ينشأ) أي: يربى، (في الحلية) أي: في الزينة، يعني البنات، (وهو في الخصام) أي: في المجادلة، (غير مبين) أي: لمن خاصمه ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه، والمعنى: أومن كان كذلك جعلتموه جزءاً لله من خلقه، وزعمتم أنه نصيبه منهم.
قال إلكيا الهراسي رحمه الله تعالى: فيه دليل على إباحة الحلي للنساء، سئل أبو العالية عن الذهب للنساء فلم ير به بأساً، وتلا هذه الآية: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].(101/19)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً)
{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].
قال تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثاً، والتفسير لـ (عنده) مبني على قراءة أخرى في نفس هذه الآية وهي أن بعض القراء يقرءونها: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً)، أخذاً من قوله تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ} [فصلت:38] وليس هناك إشكال؛ لأن من شروط القراءة الصحيحة أولاً: أن توافق الرسم والخط العثماني، والخط العثماني لم يكن منقوطاً، وذلك أن (عند وعباد) تكتب بنفس الحروف العين والباء والدال، لأن عباد تكتب في المصحف العثماني (عبد) لكن تُقرأ عباد إذا قدرنا النقطة تحت الباء، أما إذا قرأناها: الذين هم عند الرحمن، فتكون النقطة فوق، وسبب هذا أن المصحف العثماني لا توجد فيه هذه النقطة لا فوق ولا تحت.
ثانياً: أن تكون موافقة للإعراب ولقواعد النحو العربي.
ثالثاً: أن تثبت بالتواتر.
وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]، في القراءة الأخرى: (الذين هم عند الرحمن إناثاً) أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثاً، فقالوا: هم بنات الله، جهلاً منهم بحق الله سبحانه، وجراءة منهم على قول الكذب.
وقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي: أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم؟! وهو إنكار عليهم.
وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أي: على الملائكة بما هم مبرءون منه، {وَيُسْأَلُونَ} أي: يسألون عنها يوم القيامة، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً، وفيه من الوعيد ما فيه؛ لأن كتابتها والسؤال عنها يقتضي أنهم سوف يعاقبون ويجازون على ذلك أشد الجزاء.(101/20)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:20 - 22].
في هذه الآيات الرد على من يقلدون آبائهم على الباطل، وبيان أن ذلك من عبادة الطاغوت؛ لأن الله يكره ويبغض عبادة الطاغوت، والناس في ذلك أصناف، كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل:36] وهم الذين عبدوا الله ووحدوه، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] وهم الذين عبدوا الطاغوت من دون الله، فعبادة الطاغوت من دون الله لا يمكن أن يكون صاحبها مهتدياً، ولهذا كذبهم الله في قولهم: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، بأنهم ليسوا مهتدين، بل هم ضالون.
وأوضح أنه لم يكن راضياً بكفرهم، وأنه بعث في كل أمة رسولاً، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا الطاغوت، أي: يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه، وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة، أي: ثبت عليه الكفر والشقاء، كما قال تعالى في آية الأنعام: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، فالله وحده هو الذي يملك التوفيق والهداية، وله الحجة البالغة على خلقه، يعني: فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق فهو فضل منا ورحمة، ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة؛ لأنه لم يكن له ذلك ديناً علينا ولا واجباً مستحقاً، بل إن أعطيناه ذلك ففضل، وإن لم نعطه فعدل.(101/21)
تقدير الله للمقادير قبل خلق الخلق
الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، وعلم أن قوماً صائرون إلى الشقاء، وقوماً صائرون إلى السعادة، كما قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبساً، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق له في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرتهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء، فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]، وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه: أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية فرقاً ضرورياً، لا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون وفقأت عينه -مثلاً- وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور، ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك، قائلاً: إن هذا بإرادتك ومشيئتك، مع سبق الإصرار والترصد.
ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية أن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته: أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله فيما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك: أنك لو قلت للقدري الذي ينفي القدر السابق: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا بمحل كذا وفي وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك، وتصير علم الله جهلاً بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟! والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]، وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعاً مختاراً غير مقهور ولا مجبور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29].
والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا، وهي أن عبد الجبار المعتزلي قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، يريد أن يقول: إن المعاصي مثل السرقة والزنا لا تقع بمشيئة الله؛ لأنه في زعمه يريد أن ينزه أن تكون هذه الرذائل بمشيئة الله، فهم يريدون نفي القدر السابق تنزيهاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا تقع المعاصي بمشيئته، فلما قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، قال له أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال -أي: أبو إسحاق - رداً عليه: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه، فأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن منعك حقاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل.
فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.
ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار هو معنى قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
وذكر بعضهم: أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت، وطلب منه أن يدعو الله أن يردها إليه، فقال عمرو ما معناه: اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها؛ لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا، فقال الأعرابي: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث؛ فإن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه.
فألقمه حجراً.
والله أعلم.(101/22)
تفسير سورة الزخرف [21 - 32](102/1)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً)
قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21].
تقدم أن ناقشنا بالتفصيل معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)، وبينا أن مسلك المفلسين: إما الاحتجاج بالتقليد، وإما الاحتجاج بالقدر في مصادمة الشرع، ويحسبون أن في الاستناد إلى مشيئة الله العامة -المشيئة الكونية القدرية- حجة لهم، في حين أن الحجة هي لله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك كوناً وقدراً، لكنه شاءه أيضاً شرعاً، حيث شاء منهم الهداية والطاعة، فلا ينبغي أن يحتج الإنسان بالقدر إلا في المواضع التي ذكرنا تفصيلها فيما تقدم.
وقوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) (أم) هي المنقطعة المقدرة بـ (بل والهمزة)، يعني: أنهم ((ما لهم بذلك من علم)) وفي هذا وصفهم بالجهل فيما يتخرصون به، حيث قالوا: ((لو شاء الرحمن ما عبدناهم)).
وقوله: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) أي: هل عندهم كتاب من الله سبحانه وتعالى أوحي إليهم من قبل هذا القرآن، ((فهم به مستمسكون)) أي: بهذا المنهج، وهو الاحتجاج بالقدر فيما هم عليه من الشرك، وهذا كقوله تعالى في الآيات الأخرى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] يعني: كتاباً موحىً فيه ذلك.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)): (أم) هنا تتضمن معنى استفهام إنكار، يعني: أن هذا الذي عليه الكفار من عبادتهم الأوثان وجعلهم الملائكة بنات الله لا دليل لهم عليه، ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتاباً يحل فيه ذلك، وأنكر أن يكونوا قد أوتوا هذا الكتاب، وأنكر أن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، إنكاراً دالاً على النفي للتمسك بالكتاب المذكور مع التوبيخ والتقريع.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، بينه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:40]، وهذا دليل عقلي.
ثم طالبهم بالدليل النقلي فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40].
وقال تعالى في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4].
وقال تعالى في سورة الروم: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35].
وقال في سورة الصافات: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:156 - 157]، وقال في سورة النمل: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].
وقال عز وجل في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
وقال تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].(102/2)
تفسير قوله تعالى: (بل قالوا إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)
قال تبارك وتعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
أي: لا حجة لهم إلا تقليدهم آبائهم الجهلة مثلهم، ولذا قالوا: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة)) يعني: على ملة أو على دين.
((وإنا على آثارهم مهتدون)) أي: أنهم يعتزون بتراث الآباء والأجداد وعقائدهم.(102/3)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
يعني: أن هؤلاء ليسوا أول كفار اتكئوا واستندوا إلى تقليد الآباء والأجداد ومشايعتهم على الكفر، بل هذه سنة الأقوام والأمم من قبلك، أي: كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله.
قال القاضي البيضاوي: والقاضي عند الإطلاق في كتب التفسير يقصد به البيضاوي.
قال: وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقييد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور فيه.
وتخصيص المترفين في قوله: ((إلا قال مترفوها)) إشعار بأن النعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد، فالترف له آفات كثيرة جداً، منها أن الترف يصرف الإنسان ويثبط همته بحيث لا يترقى عن مستوى التقليد، والأخذ بقول الغير بدون دليل.(102/4)
تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتهم عليه آباءكم)
قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24].
وفي قراءة أخرى: (قُل أولوا جئتكم بأهذى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) أي: جاحدون منكرون، وإن كان أهدى، إقناطاً للمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيه، يعني: حتى لو كان ما تأتينا به أهدى مما وجدنا عليه آباءنا ((فإنا بما أرسلتم به كافرون))؛ لأن كلامهم هذا جاء جواباً لقول الرسول: ((أولو جئتكم)) يعني: أتكفرون وتكذبون حتى ولو جئتكم ((بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم))؟ قالوا: نعم، ((إنا بما أرسلتم به كافرون)) ولو كان أهدى؛ لأنهم يقصدون بذلك تيئيس وإقناط الرسل والمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيما جاءهم به الرسول.(102/5)
تفسير قوله تعالى: (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)
ثم قال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25].
كان العذاب فيما مضى يأتي الأمة المكذبة فيستأصلها، وقد رفع هذا العذاب المستأصل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أعني: بذلك أمة الإجابة، وإلا فإن أمة محمد هي كل من على ظهر الأرض منذ أن بعث إلى أن تقوم الساعة، إذ ليس للبشرية نبي سوى محمد عليه الصلاة والسلام، فأمة الدعوة هم المخاطبون برسالته وبالقرآن، والمكلفون بالإيمان به، وهم كل البشر على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلا تعاقب هذه الأمة بالاستئصال التام، لكن يمكن أن تكون هناك زلازل في بعض الأماكن، إلا أنها لا تكون عقوبة كاملة لأهل الأرض، وهذا مما رحم الله به البشرية ببعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك في التفسير هنا في قوله: ((فانتقمنا منهم)) يعني: بعذاب الاستئصال.
وقوله: ((فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)) أي: انظر كيف كان آخر أمرهم مما أصبح مثلاً وعبرة.(102/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون.
إلا الذي فطرني)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27].
(وإذ قال إبراهيم) قال القاضي: أي: اذكر وقت قوله هذا؛ ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، يعني: هم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] ولو كان هؤلاء الكفار من العرب أو مشركي قريش عقلاء، وكان لابد من تقليد، فليقلدوا أباهم إبراهيم؛ فإن أشرف آبائهم هو إبراهيم عليه السلام.
(إنني براء مما تعبدون) أي: بريء من عبادتكم، أو من معبودكم.
و (براء) هي القراءة العامة، وهو مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة؛ لأن المصدر إذا استعمل في الصفة يكون فيه مبالغة، فإذا قلت: رجل عدل، أي: أنه هو نفس العدل، وقد تقدم بيان هذا مراراً، فلذلك أطلق على الواحد وغيره.
وقُرئ بضم الباء: (إنني بُراء) فيكون اسماً مفرداً صفة مبالغة، كطُوال وكُرام بضم الطاء والكاف.
وقوله: ((إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)) هذا استثناء منقطع، أو متصل على أن (ما) في قوله: (إنني براء مما) يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو (إلا) بمعنى غير فتكون صفة لـ (ما) أي: إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني أي: خلقني.
((فإنه سيهدين)) أي: للدين الحق واتباع سبيل الرشد، والسين إما للتأكيد، بدليل أن نفس الآية جاءت في نفس القصة جاءت في سورة الشعراء بدون سين: (يهدين) فهي للتأكيد، والمضارع في الموضعين للاستمرار، أي: استمرار هذه الهداية.
أو أن السين للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً، فيتغاير ما في الآيتين من المحكي بناءً على تكرر قصته عليه السلام.(102/7)
براءة إبراهيم هي كلمة التوحيد
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء، أي: بريء من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده وهو وحده معبوده، وضحه قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:75 - 78]، وكقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79] فبين أيضاً هنا براءته من المشركين، وزاد في سورة الممتحنة بيان براءته من العابدين وعداوته وبغضه لهم في الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
قوله عز وجل هنا: ((فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ))، ذكر نحوه في الشعراء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، وقوله أيضاً: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وقال: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77].
وقوله: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)) * ((إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) أي: خلقني، وهذا يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا من خلق؛ ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الأخرى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، فإذا كان هو الذي خلقكم فينبغي أن تعبدوه وحده، وقال عز وجل: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:184]، وقال: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17]، وقال أيضاً: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال أيضاً: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2].
وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، مأخوذ من فعلوت من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، فالطاغوت ما جاوز الحد؛ لأن الإنسان إذا رفع المخلوق إلى حد أن يعبده فيكون قد طغى واتخذه طاغوتاً، ورأس الطاغوت: الشيطان؛ لأنه الآمر بكل شرك وكفر وعصيان، ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] يعني: بـ (لا إله إلا الله) وهذا هو تحقيق لا إله إلا الله، أي: أن تكفر بكل ما عبد من دون الله، وتؤمن أنه لا يستحق أن يوجه له شيء من العبادة التي لا تنبغي إلا الله، وتثبت أحقية هذه العبادة لله سبحانه وتعالى، ولذلك فمعنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الناس يزعمون أو يصفون بالألوهية مخلوقات من دون الله سبحانه وتعالى ويتخذونها آلهة، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على إله الحق وإله الباطل، أما الله فلا يطلق إلا على الإله الحق، ولذلك الإعراب: لا: نافية للجنس، ولا يصح أن يكون التقدير: لا إله موجود، وأنا الحقيقة يلح علي دائماً المثال الذي كان المدرس يقوله لنا ونحن في ابتدائي: لا زعيم إلا جمال، يعني: لا زعيم موجود.
أما لا إله إلا الله فالتقدير: لا إله حق، وليس: لا إله موجود؛ لأنه توجد آلهة تعبد من دون الله، وهي آلهة باطلة، فالشيطان يُعبد، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، والمال إله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) وهكذا.
فإذاً: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فلا يصح الإيمان بالله إلا مع الكفر بالطاغوت الذي يتجاوز به العبد حده حينما يرفعه إلى مقام الألوهية ويعبده من دون الله، فكل هذا معناه واحد فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) يعني: وحده، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) التي هي: لا إله إلا الله، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام هنا: (إنني براء مما تعبدون) * (إلا الذي فطرني) يساوي: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله)، وتساوي: لا إله إلا الله، ولذلك قال هنا: (وجعلها كلمة) أي: كلمة التوحيد، (باقية في عقبه لعلهم يرجعون).(102/8)
تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
يقول القاسمي: (وجعلها) أي: شهادة التوحيد، (كلمة باقية في عقبه) أي: موصىً بها موروثة متداولة محفوظة، فإبراهيم عليه السلام قبل أن يموت كان يوصي بنيه بأن يتمسكوا بلا إله إلا الله، وأن يتبرءوا من المشركين، وبنوه كذلك فيما بعد كانوا يوصون أبناءهم، وهكذا كل جيل كان يوصي الآتي من عقب إبراهيم بأن لا إله إلا الله، ولذلك عندما نراجع وصايا العلماء نجد فيها: أن هذه وصية فلان الفلاني؛ أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: كأنها وصية لمن يأتي بعده من ذريته بأن يثبتوا على التوحيد، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] يعني: وحده بلا شريك، وقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وقوله: (لعلهم يرجعون) أي: لكي يرجعوا إلى عبادته وإلى توحيده في سائر شئونهم، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم، وهذا التفسير مجمل، نشير إليه أولاً، ثم نأتي بالتفاصيل من كلام الشنقيطي رحمه الله.
وقوله: (وجعلها) يعني: كلمة التوحيد المفهومة من قول إبراهيم الآنف الذكر: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27].
وقوله: (كلمة باقية في عقبه) والقاسمي هنا يفهم من تفسيره أنه ليس كل عقب إبراهيم وذريته استقاموا على التوحيد، بل منهم من انحرف عن التوحيد إلى الشرك، لكن بقي الموحدون منهم يوصون عبر الأجيال بكلمة التوحيد، ويتداولونها ويحفظونها، كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132]، وكذلك أيضاً وصى بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وهذه الآية فصلها العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيلاً وافياً فقال: قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) * (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين) * (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) يقول: الضمير المنصوب في (جعلها) راجعه إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة مذكورة في الآية السابقة بالمعنى، لكنها تساوي في اللفظ معنى: لا إله إلا الله؛ لأن (لا إله إلا الله) نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله: (إنني براء مما تعبدون)، ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله، كما في قوله: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين).(102/9)
ذكر خلاف المفسرين في فاعل جعل من قوله: (وجعلها كلمة)
الفاعل في قوله: (وجعلها) ضمير مستتر، يرجع إلى إبراهيم، وفي قول آخر: يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
فبعض المفسرين قالوا: هو راجع إلى إبراهيم، وهذا هو ظاهر السياق؛ لأن السياق في شأن إبراهيم عليه السلام.
وقال بعضهم: هو راجع إلى الله سبحانه وتعالى، يعني: أن الله هو الذي جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.(102/10)
معنى جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم عليه السلام
فعلى القول الأول أن إبراهيم جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه، فالمعنى: صير إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه، يعني: في ولده وولد ولده، وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم، لأن إبراهيم عليه السلام تسبب في بقائها فيهم بأمرين: أحدهما: وصيته لأولاده بذلك، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيوصي به السلف منهم الخلف، فهو الذي سن فيهم هذه السنة، يوصيهم بالتوحيد في حياته، ثم اقتدى به أولاده من بعده، فكل واحد منهم يوصي من يأتي بعده بالتمسك بـ (لا إله إلا الله) كما أشار إلى ذلك الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] * {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:131 - 132].
الأمر الثاني: سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، فإنه كان يسأل الله لهم الإيمان والصلاح، كما قال عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] يعني: واجعل يا رب من ذريتي أئمة.
وقال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وقال أيضاً: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقال عنه هو وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:128 - 129]، فأجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني: استجاب الله هذه الدعوة لإبراهيم عليه السلام، ولذلك تسبب إبراهيم بهذه الدعوة في بعثة محمد عليه السلام؛ لأن من هذه الأسباب الدعاء، وهو قال: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)، وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، ولذلك إذا أطلق على إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فإنما المقصود أبو الأنبياء من بعده، أما الذين قبله فلا يدخلون في ذرية إبراهيم؛ لأنه لم يكن قد خلق، أما إبراهيم عليه السلام فكافأه الله عز وجل بأن جعل كل الأنبياء الذين أتوا من بعده في ذريته، فأول ذلك إسحاق، ثم رزق إسحاق يعقوب، وهو إسرائيل، ثم من نسل يعقوب جاءت أنبياء بني إسرائيل، ولم تخرج عنهم النبوة إلا ببعثة النبي عليه السلام من نسل إسماعيل أخي إسحاق، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26].
أما على القول الثاني في قوله: (وجعلها كلمة) وهو أن الذي جعلها هو الله سبحانه وتعالى، فلا إشكال، ويكون التفسير: وجعلها كلمة باقية في المؤمنين من عقبه.
وقوله: (لعلهم) يعني: لعل المشركين من عقبه أو من ذريته (يرجعون) أي: عن الشرك إلى التوحيد.(102/11)
هل استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؟
وقد بين تبارك وتعالى هنا أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته؛ لأن إبراهيم عليه السلام كان دعا لذريته بأن يكونوا على التوحيد فقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128] يعني: أن ذريته خرج منهم مؤمنون وخرج منهم كافرون، سواء في بني إسرائيل أو في العرب؛ لأنهم من نسل إسماعيل عليه السلام.
فإذاً: بين الله سبحانه وتعالى هنا أنه لم يستجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، وإنما استجابها في البعض وهم المؤمنون من ذريته؛ لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه ساحر، وكثير منهم مات على ذلك، وذلك في قوله عز وجل: (بل متعت هؤلاء وآباءهم)، يعني: متعت كفار مكة وآباءهم، (حتى جاءهم الحق ورسول مبين) هو محمد صلى الله عليه وسلم، (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) فكفار مكة من نسل إبراهيم من ذرية إسماعيل، ومع ذلك يثبت الله هنا أنهم كفروا ووصفوا النبي عليه السلام بالسحر، فدلت هذه الآية على أن تلك الدعوة لم تستجب في حق كل ذرية إبراهيم، وإنما في المؤمنين منهم.
وما دلت عليه آية الزخرف هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] يعني: واجعل من ذريتي أئمة، {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] أي: الظالمين من ذرية إبراهيم، ففهم من ذلك أن من ذريته ظالمين، وقوله تعالى في الصافات: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، فالمحسن منهم هو الذي كلمة التوحيد باقية فيه، والظالم لنفسه المبين من ليس كذلك.
وقال تعالى في النساء: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:54 - 55].
وبين عز وجل في سورة الحديد أن غير المهتدين من ذريته كثيرون في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26].
وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: (لعلهم يرجعون) أي: جعل الكلمة باقية فيهم لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم؛ لأن الحق ما دام قائماً في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول، لأن (لعل) تفيد الترجي، والترجي هنا بالنسبة لبني آدم؛ لأن الترجي هو أن يرجو الإنسان حصول شيء وهو لا يجزم بحصوله؛ لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ومن يصير إلى الضلال، فالترجي هنا هو بالنسبة إلى بني آدم وليس بالنسبة لله سبحانه وتعالى.(102/12)
ترادف العقب والذرية والبنين
والعلامة الشنقيطي وقف هنا وقفة يسيرة قال فيها: ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على انسحاب معنى العقب والذرية والبنين، يعني: أن كلمات: العقب، والذرية، والبنين معناها واحد؛ لأنه قال في بعض هذه الآيات عن إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقال في بعض الآيات: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وفي بعضها: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:37]، وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ} [العنكبوت:27]، وقال: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ))، فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد؛ وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفاً أو تصدق صدقة على بنيه، فقال: هذا وقف على بني أو علي ذريتي أو على عقبي، فحكم ذلك واحد.
وقد دلت بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم ذرية الرجل، وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين دل ذلك على دخول أولاد البنين في العقب أيضاً.
فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام:84] إلى قوله عز وجل: {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام:85] الشاهد: (وعيسى)؛ لأن عيسى عليه السلام ابن بنت، لا أب له، فهو ابن بنت من جهة مريم عليها السلام.
ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23]؛ لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة شامل لبنات البنات وبنات بناتهن، وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص قرآني صريح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن، فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب هو ظاهر القرآن، ولا ينبغي العدول عنه.
أما لفظ الولد فلا يدخل فيه أولاد البنات، والدليل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، فهذا لا يدخل فيه أولاد البنات، فهو نص صريح على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد.(102/13)
تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآبائهم خير مما يجمعون)
قال تبارك وتعالى: ((بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:29 - 32].
قوله: (بل متعت هؤلاء) يعني: أهل مكة، (وآباءهم) أي: من قبلهم في الحياة فلم أعاجلهم على كفرهم (حتى جاءهم الحق) أي: دعوة التوحيد أو القرآن (ورسول مبين) أي: ظاهر الرسالة بالآيات والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته.
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (كافرون) أي: جاحدون، فازدادوا في ضلالهم لضمهم إلى شركهم معاندة الحق؛ لأن الكفر قابل للزيادة، والدليل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، والكفر نفسه درجات، فكلما ازداد الكافر في الصد عن سبيل الله عز وجل والتكذيب بآياته ازداد كفراً.
وقالوا أيضاً في مواجهة هذا الحق الذي أرسل إليهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.
أي: لولا نزل هذا القرآن على رجل من إحدى القريتين المعهودتين في أذهانكم: من مكة أو الطائف، فالتعريف هنا للعهد.
وقوله: (عظيم) يقصدون بالعظمة الجاه والمال، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم.
قال القاضي: ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
وقد أجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} وهذا إنكار فيه تجهيل ورد لتحكمهم فيما لا يتولاه إلا هو تبارك وتعالى، وبيان أن هذا ليس إليهم، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، والله عز وجل يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فالنبوة هبة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما معناه: (إن الله نظر في قلوب العباد، فاختار من قلوب العباد قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصفى قلب وأطهر قلب وأكمل قلب، فاصطفاه لرسالته ولنبوته ولكتابه، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً رضي الله تعالى عنهم) إلى آخر الأثر الموقوف الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
والمراد بالرحمة: النبوة، ولو وقفت على كلمة (رحمت) وقفت بالتاء مراعاة لرسم المصحف؛ لأنه إذا كانت التاء مكتوبة تاءً مفتوحة فإذا وقفت عليها تقف عليه بالتاء.
وقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: فجعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً، ورفعنا بعضهم بالغنى فوق بعض درجات.
وقوله: (ليتخذ بعضهم) يعني: ليتخذ الغني (بعضاً) يعني: الفقير (سخرياً) أي: مسخراً في العمل، وما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع؛ لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه.
وهذه الآية الكريمة كلها في الرد على الاقتراح، وبيان جهلهم بحكمة الله سبحانه وتعالى في المفاضلة في مراتب الناس؛ حيث جعلوا مقاييس المفاضلة هي المال والجاه، فرد الله عليهم أن ذلك ليس إليهم، ثم بين عز وجل ذلك فقال: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعض سخرياً)، أي: ليس المقصود الاستهزاء، وإنما يعني التسخير بالعمل، لأنه لو كان كل الناس وزراء فمن الذين سيخدمون الناس ويقومون بالوظائف الأخرى؟! لكن الله سبحانه وتعالى فاضل بين خلقه وخالف بين وظائفهم؛ كي ينتفع بعضهم من بعض، ويحصلوا بذلك مصالحهم، لكن ليس هذا التسخير بإعطاء البعض وتخصيصه بالغناء، والتقتير على البعض وكونه فقيراً، دليلاً على أن الغني أكمل من الفقير، أو أن الفقير أحقر من الغني، هذا الاعتبار إنما هو في موازين هؤلاء الماديين.
وقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: جعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً.
وقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أي: رفعنا الغني فوق الفقير درجات في الدنيا.
وقوله: (ليتخذ بعضهم) أي: الغني (بعضاً) أي: الفقير (سخرياً) يعني: مسخراً في العمل؛ لأن كل شيء لابد أن يكون فيه رئيس ومرءوس، حتى يحصل ما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع، وليس هذا الاختيار لكمال في الموسع عليه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، لكن هذا التفاضل لأن حاجة البشر ماسة إلى التضام والتآلف الذي به ينتظم شملهم، أما النفحات الربانية والعلوم اللدنية فليست مما يستدعي سعة ويساراً؛ لأنها اختصاص إلهي وفيض رحماني.
والسخري بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة، وهي الاستخدام والقهر على العمل.
وقوله: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة خير مما يجمعون من الحصاد الفاني، فرحمة ربك في أول الآية وفي آخرها مقصود بها النبوة، فإذا كانت رحمة ربك خيراً مما يجمعون من الأموال والغنى والسعة واليسار فإن العظيم حقاً هو الذي أعطيها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشنقيطي في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وقال كفار مكة: (لولا) هلا، (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين) أي: على رجل من إحدى القريتين؛ وهما مكة والطائف (عظيم) يعنون كثرة ماله، وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود، وقيل: حبيب بن عمرو بن عمير، وقيل: هو كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية: أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر، ففي البداية أنكروا واقترحوا أن الله يرسل عليهم ملائكة، ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر، تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين فقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)، وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم وسخافة عقولهم؛ حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجباً لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي، ولذا زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم، وقد بين تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم وسخافة عقولهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن، كقوله تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:5 - 6]، وقال في آخر سورة القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]، وقال في آخر سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى في سورة الكهف: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف:65]، على القول بأن الخضر عليه السلام نبي.
قال تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)) يعني: أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا، بل تولى قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً وهذا وضيعاً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً ونحو ذلك، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ولم يحكمهم فيها، بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟! فهذا مما لا يعقل، ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} التحقيق -إن شاء الله- أنه من التسخير، ومعنى تسخير بعضهم لبعض: خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض؛ لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي، فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي، فتنتظم المعيشة لكل منهما، وهكذا.(102/14)
الرد على زعم واقتراحات الكفار في هذه السورة
والمسائل التي ذكرها الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في سورة (ص) في قوله حاكياً عنهم: {أأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:8]، وهذا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم؛ لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه؛ لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم، وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى: {أأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25]، فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] وقال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] يعني: لشدة التشابه بين العبارات التي كانوا يقابلون بها أنبياءهم من التكذيب والاحتقار والازدراء صارت متشابهة حتى في الألفاظ؛ ولذلك قال تعالى: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) يعني: كلما جاء قوماً رسول ردوا عليه نفس الرد، كأن كل أمة كافرة كانت توصي التي بعدها، ولا يؤخذ من السياق أن هذا حصل بالفعل، لكن لشدة التشابه صار كأنهم يتواصون به.
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] يعني: مثل ما نزل عليهم الوحي ينزل علينا نحن أيضاً، ولذلك جاء
الجواب
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] أي: أن تنزل عليه صحف بالوحي من السماء.
أما إنكاره تعالى عليهم اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار تجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله: (أهم يقسمون رحمة ربك) فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام؛ لأنه تعالى لما قال: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، أتبع ذلك بقوله رداً عليهم وإنكاراً لمقالتهم: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، ثم أوعدهم على ذلك بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124].
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم فقد جاء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل:71]، وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، وقال تعالى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، وقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135].
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ والقوة والضعف فقال هنا: (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً)، وقال تعالى: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة والاهتداء بهدي الأنبياء وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها، قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، فإذا تأملنا وجدنا أن هنا أمراً بالفرح، وفي الآية الأخرى في سورة القصص نهي عن الفرح في قول قوم قارون له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، والمقصود بالفرح المنهي عنه ما يكون عن البطر والطغيان والاستكبار في الأرض، أما الفرح هنا فهو الفرح بالإيمان وبالهدى وبالقرآن وبالإسلام، كما يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس:58] أي: بالإيمان والقرآن والإسلام، ولذلك كان الإمام وكيع بن الجراح سميناً، وكان إذا أراد أن يبكت من يكلمه في هذا السمن أو يقول له: أراك سميناً؟! يقول له: هذا من فرحي بالإسلام.
فإذاً: قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) أي: نفرح بالقرآن، ونفرح بالإسلام وبالسنة؛ لأن هذا هو الذي ينبغي أن يفرح الإنسان به، ويأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نجتهد به؛ لأنه (خير مما يجمعون)، وقال تعالى في سورة آل عمران: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157].(102/15)
بيان فساد قول الاشتراكيين في التسوية بين الناس
ختم الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه الآية الكريمة بشيء هو حقيقة واقعة في فترة من الفترات في ظل الحكم الاشتراكي في عهد عدو الله عبد الناصر؛ حيث كانت هناك محاولة لتمرير مفاهيم الاشتراكية وفرضها على الناس، وجرت علينا الشؤم والبلاء في النظام، فإنها غصبت أموال الناس قهراً وظلماً، وحصل غير ذلك من المظالم التي ذاق الناس ويلاتها، فالشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى كان يعيش في تلك الفترة في الجزيرة العربية؛ فلذلك يشير إلى هذا الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، يقول: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وهي قوله كقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، وقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات دلت على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وبذلك تحقق.
والعجيب أن العلامة الشنقيطي يتكلم بهذا الكلام في وقت كنا هنا في مصر ونحن تلامذة في المدارس نحفظ الميثاق أكثر مما نحفظ آيات القرآن الكريم، وكان لابد في أي موضوع تعبير أو موضوع إنشاء من أنك ترصعه بنص من الميثاق، وكأنه آية قرآنية! حتى قالت أمينة السعيد في يوم من الأيام: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟ وبعض هؤلاء يقول: إن الإسلام لا يتصادم مع الاشتراكية! حتى ألف أحد الدعاة الكبار المشهورين كتاباً اسمه: الاشتراكية في الإسلام، وأجهد نفسه هو وغيره في محاولتهم أن يأتوا من الشرق ومن الغرب بدليل أو شبهة حتى يثبتوا أن الإسلام دين الاشتراكية، وكأن الإسلام تابع لمذاهبهم ولضلالهم! والعجيب أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يتصدى لهذا المفهوم في وقت كانت فيه هذه المفاهيم حقائق مقررة، وكان لا يستطيع أحد أن يوقفها أبداً، ومع ذلك هو يجهر ويتنبأ بفشل هؤلاء، ونحن الآن نعيش بعد سنوات طويلة من حقب الاشتراكية السوداء المهينة، ونراجع تلك الأيام، وكيف عذبت الشعوب وقهرتها، وأذلتها وأفقرتها، حتى نفس روسيا التي كانت منظراً فقط للأسلحة النووية، تتسول اليوم من الشرق ومن الغرب، وأمريكا تذلها وتجبرها على الركوع تحت أقدامها، وغير ذلك من التهديدات التي نسمعها بين الحين والآخر.
الشاهد من هذا الكلام: أن العلامة الشنقيطي يتكلم في جو ما كان أحد يتكلم بهذا الكلام فيه، بل كان الغالب والسائد في المؤلفات والخطب، والدروس والكتب والمطبوعات والإعلام، هو ترسيخ أن الإسلام هو دين الاشتراكية، وأن الإسلام يدعو للاشتراكية، وكانوا يرددون بيت لـ حافظ إبراهيم يقول فيه: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء يعني: يزعمون أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو إمام الاشتراكيين! مع أن الاشتراكية هذه أتت في وقت قريب، والله المستعان! وبعدما ذكر بقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71]، يقول: وبذلك تتحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس.
فهم يظهرون للناس أن الاشتراكية تحقق وتوزع الحق بين الناس بالتساوي، وهم ينتقدون غيرها من المبادئ والأنظمة، سواء كان هذا نظاماً رأسمالياً أو غيره فيقولون: النظام الرأسمالي فيه استغلال لكن الاشتراكية توزع الفرص على الناس بالتساوي، وفي الحقيقة هم يريدون أن يستأثروا بالثروات؛ ولذلك فإن زعماء الشيوعية كانوا طوال عمرهم يعيشون حالة من الترف أشد من حالة الأباطرة والقياصرة أيام المملكة القيصرية؛ فيقتنون أعجب أنواع السيارات في العالم كله.
يقول: مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها، ويتصرفوا بها كيف شاءوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور، والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينظم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير.
وكان النظام الشيوعي يوزع كل شيء بالبطائق؛ لأن مبدأ الشيوعية أن يعطي كل واحد حسب حاجته لا حسب قدرته وبذله، يعني: كل واحد يبذل للدولة حسب قدرته، ويبذل أقصى طاقته في الإنتاج، ثم يوزع على الناس حسب حاجتهم، وليس الذي يسعى أكثر ينال أكثر، بل ينال كل واحد حسب حاجته.
قال: وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس، بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال عز وجل: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].(102/16)
تفسير سورة الزخرف [33 - 61](103/1)
تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمةً واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً)
قال تبارك وتعالى مشيراً إلى حقارة الدنيا عنده وفي ميزانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
قوله تعالى: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً))، أي: متفقة على الكفر بالله تبارك وتعالى، أي: لولا كراهة أن يصبح الناس أمة واحدة على الكفر.
((لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ)) يعني: هذا الذي يكفر بالرحمن سبحانه وتعالى يعطيه الله المزيد من الدنيا؛ لأنه إذا أتاه المزيد من الدنيا يظن أن الله يريد به خيراً، فيستدرجه، فكلما ازداد كفره بنعم الله ازداد استحقاقه للعذاب بجانب كفره الأصلي، فيزداد عذاباً، وهذا كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
وأما إعراب قوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) فهو بدل اشتمال، من كلمة (من)، يعني: لبيوت من يكفر.
وقوله: ((لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ)) فيها قراءتان: (سَقْفَاً مِنْ فِضَةْ)، والقراءة الأخرى: ((سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ)).
وقوله: ((وَمَعَارِجَ)) يعني: مصاعد من فضة ((عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)) أي: يرتقون.
وقوله: ((وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا)) أي: من فضة ((وَسُرُرًا)) أي: من فضة ((عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ)).
وقوله: ((وَزُخْرُفًا)) أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، أي: زينة من ذهب وجواهر أو فضة.
ثم أشار تعالى إلى أنه لا دلالة في ذلك على فضيلتهم، يعني: حتى ولو أعطاهم الله سبحانه وتعالى كل ذلك لما دل ذلك على أنهم كمل أو على أفضليتهم عند الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت من السقف الفضية والمعارج والأبواب والسرر والزخرف، إلا متاعاً يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا.
وقوله: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)) أي: وزينة الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، أي: الذين اتقوا الله فخافوا عقابه، فجدوا في طاعته، وحذروا معاصيه، خاصة دون غيرهم.
قال المهايمي: لا خصوصية في ذلك المتاع، بحيث يدل على عدم منصب النبوة، وإنما الذي يدل على عدم النبوة عدم التقوى؛ فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه، سواء كانت عنده الدنيا أم لا.
وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق، بحيث يصير صاحبها أعشى.
وسيأتي مزيد بيان في كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى حول هذه الآية، لكن نثبت أولاً كلام القاسمي رحمه الله حيث قال: تنبيه: ما قدمنا من أن معنى ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) لولا كراهة ذلك، وأن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر، أي: أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور، هذا هو ما ذكره المفسرون.
فورد عليه -يعني: يورد بعض الناس إشكالاً على هذا- أنه حين لم يوسع على الكافرين خشية الفتنة التي كانت تؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر؛ لحبهم الدنيا، وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ فأجيب: بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضاً؛ لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من ديدن المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبر؛ حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى.
هذا ما قاله الزمخشري.
على أي الأحوال هذه الآية تتمة لما قبلها ترد على أولئك الضالين زعمهم أن العظمة الدنيوية تستوجب النبوة، فبين تبارك وتعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى وهي التسخير، وفي الآية الثانية وهي حقارة الدنيا عنده، وأنه لولا التسخير لما آتاها أحط الخلق، وأبعدهم منه؛ مبالغة في الإعلام بضعتها.
فالدنيا أحقر عند الله من جناح بعوضة، ولولا كراهة الفتنة أن يصير جميع البشر أمة واحدة متفقة على الكفر لآتى الله سبحانه الكافر كل هذا النعيم، ولذا قال سبحانه: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:33 - 34] ((وَزُخْرُفًا)) أي: ذهباً.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تزن عند الله سبحانه وتعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
والحقيقة أن الحديث لا ينص على أنها تساوي جناح بعوضة، بل يدل على أن الدنيا أحقر من جناح البعوضة؛ لأنها لو كانت تساوي جناح بعوضة لما سقاه شربة ماء، فتأمل شربة الماء بالنسبة إلى كل النعيم الذي يؤتاه الكافر تعرف مدى حقارة الدنيا عند الله سبحانه وتعالى! قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ)).
قوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) في الموضعين قرأه ورش وأبو عمرو وحفص عن عاصم بضم الباء على الأصل، وقرأه قالون عن نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: بكسر الباء؛ لمجانسة الكسرة للياء.
وقوله: ((سُقُفًا)) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم ((سُقُفاً)) بضمتين على الجمع، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ((سَقْفًا)) بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد، والمراد به: الجمع.
قوله تعالى: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان وإحدى الروايتين عن هشام وأبو عمرو والكسائي: ((لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) بتخفيف الميم من (لمَا)، وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين: ((لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) بتشديد الميم من (لمَّا).
ومعنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين؛ وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصاً بالمؤمنين دون الكافرين، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً))، أي: لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار، ولعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنياً وفقيراً، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.(103/2)
اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين
ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: أن متاع الدنيا مشترك بين المؤمنين والكافرين، لكن الآخرة ليست مشتركة: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ))، فالآخرة خاصة بالمتقين، وهذا المعنى جاء موضحاً في غير موضع، كقوله تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
فقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: مشتركة في الحياة الدنيا بين المؤمنين والكافرين، ويدل على هذا الاشتراك صدر الآية: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))، فهنا امتنان على العباد بهذه النعم التي أطلق أيديهم فيها، وأنعم عليهم بها.
ثم هناك أمر مهم جداً، وهو أن في آية الزخرف ما يدل على هذا الاشتراك وهو كلمة (لولا) في قوله: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ)).
؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، ثم يأتي العلماء والمفسرون ويقولون: هي مشتركة بين المؤمنين وبين الكفار في الحياة الدنيا، فلابد أن يعرف الإنسان ما الدليل على هذا التفسير، والدليل هو أن كلمة: ((َلَوْلا)) حرف امتناع لوجود، والذي امتنع هو أن يقصر الله الدنيا على الكفار، ويوسع عليهم فيها وحدهم، هذا هو الممتنع.
إذاً: هي ليست مقصورة عليهم؛ لأن هذا ممتنع بسبب وجود كراهة أن يصير الناس جميعاً أمة واحدة.
وكذلك تفسير هذه الآية هنا في سورة الزخرف: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: أن متاع الدنيا مشترك بينهم وبين الكفار لكن التمتع في الآخرة خاص بالمؤمنين؛ لأنه قال: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)).
وقال في آية الأعراف: ((خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، أي: خالصة لهم دون غيرهم، ولا يشاركهم فيها أحد.
يقول: فقوله في آية الأعراف هذه: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا، وذلك الاشتراك دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو (لولا) في قوله هنا: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)).
أي: امتناع تخصيص الكفار بنعيم الدنيا ومتاعها، فهو ممتنع بهذا الدليل.
قال: وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين منصوص عليه في آية الأعراف بقوله: ((خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وهو الذي أوضحه في آية الزخرف بقوله: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)).
وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ (المتقين)؛ لأن كل مؤمن اتقى على الأقل الشرك بالله، فيصدق عليه أنه من المتقين.(103/3)
تمتيع الكافر في الدنيا
وما دلت عليه هذه الآيات من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى، كقوله تعالى: {قَاْلَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة:126]، وقال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69 - 70].
وقد بين تبارك وتعالى في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر،)، فالدنيا جنة الكافر؛ لأن من ضمن حكمة الله سبحانه وتعالى في التوسعة على الكافر في الدنيا أنه يكافئه مقابل ما يعمل من الأعمال الحسنة، كبر الوالدين، وصدق الوعد، والإحسان إلى الفقير واليتيم والمسكين، وغير ذلك مما يسمونه بالأشياء الإنسانية، فإذا عملها وهو يريد بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فقد يجازى بها في الدنيا؛ لأنها لا تنفعه على الإطلاق في الآخرة؛ لأنه لا يسمى عملاً صالحاً؛ لأنه يفتقد شرط الإيمان، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، فلابد أن يكون مؤمناً، فالذي بدون الإيمان قد ينفعه في الدنيا فقط، لكن لا يمكن أن ينفعه في الآخرة، ونقول: (قد) لأنه لا ينال ذلك إلا بمشيئة الله، كما قال تعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فالمنفعة معلقة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيعطى الكافر في الدنيا مقابل الأعمال الحسنة التي يعملها؛ لأن هذه هي الجنة والفرصة الوحيدة لأن يثاب على هذا العمل، أما في الآخرة فلا يمكن أن ينتفع ويثاب على عمله.
ثم قال تعالى أيضاً: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] على أظهر التفسيرين.
وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
وقال تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44].
ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه، واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقاً أعطاهم خيراً منه في الآخرة، ردها الله عليهم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون:55] * {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56].
وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37].
وقال تعالى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48].
وقال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2].
وقال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].(103/4)
المقصود بالمعارج والسقف والزخرف
وقوله تعالى: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا)).
يعني: لصيرنا، وقوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) بدل اشتمال مع إعادة العامل -يعني: حرف الجر- من قوله: ((لِمَنْ يَكْفُرُ)).
وعلى قراءة (سُقُفاً) بضمتين فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف.
وعلى قراءة (سَقْفاً) فهو مفرد أريد به الجمع، وقد قدمنا في أول سورة الحج في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5] أن المفرد إذا كان اسم جنس يجوز إطلاقه مراداً به الجمع، وأكثرنا من أمثلة ذلك من القرآن، ومن الشواهد العربية على ذلك.
وقوله تعالى: ((وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)) الظاهر أنه جمع معرج، والمعرج والمعراج بمعنى واحد، وهو: الآلة التي يعرج بها، يعني: يصعد بها إلى العلو.
((وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)).
أي: يصعدون ويرتفعون؛ حتى يصيروا على ظهور البيوت، ومن ذلك المعنى قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97].
والسرر: جمع سرير، والاتكاء معروف، والأبواب: جمع باب، وهو معروف، والزخرف: الذهب.
قال الزمخشري: إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر، كل ذلك من فضة.
وكأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله: ((َزُخْرُفًا)) مفعول عامله محذوف، والتقدير: وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، يعني: ذهباً.
وقال بعض العلماء: إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، يعني: من ذهب.(103/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناَ فهو له قرين)
قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].
أي: ومن يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف سطوته، ولم يخش عقابه (نقيض له شيطاناً فهو له قرين)، أي: نجعل له شيطاناً يغويه، ويضله عن السبيل القويم دائماً؛ لمقارنته له، فإنه يظل مقارناً إياه.
قال: القاشاني: قرئ: ((وَمَنْ يَعْشُ عن))، وقرئ: ((وَمَنْ يَعْشَ عن)) بضم الشين وفتحها، والفرق: أن عشى يستعمل إذا نظر نظرة العشى لعارض أو متعمداً من غير آفة في بصره، وعشي إذا ضعف بصره.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها أيضاً: وسنتعرض لهذا التفسير في أثناء تفسير سورة فصلت في قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25].
((وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ)) أي: جئناهم بهم، وأتحناهم لهم، أو هيأنا، أو سلطنا، أو بعثنا ووكلنا، أو سببنا، أو قدرنا، وجميع تلك العبارات راجعة إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى، ويزينون لهم الكفر والمعاصي.
والقرناء: جمع قرين، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق.
((فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) أي: من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة.
((وَمَا خَلْفَهُمْ)) أي: من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث.
وبين هنا في سورة الزخرف سبب هذا التقييض، وأنهم مع إضلالهم لهم يحسبون أنهم مهتدون، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38].
فترتيب قوله: ((نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)) على قوله: (ومن يعش) يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن، ونظير ذلك آية أخرى في القرآن الكريم فيها الربط بين الغفلة عن الذكر وبين تسليط الشياطين، وهي قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]، فكلمة (الوسواس الخناس) معناها: أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله وسوس له الشيطان، وإذا ذكر الله انخنس، وفي الحديث أنه إذا سمع الذكر يولي وله ضراط، لشدة نفرته عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
إذاً: سورة الناس فيها نفس هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]؛ لأن الوسواس هو كثير الوسوسة؛ ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس يخنس إذا تأخر وهرب، فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن.
إذاً: من أعظم علاج الوسوسة المواظبة على ذكر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذكر يضعف تأثير الشيطان، ويجعله يفر بعيداً عن الإنسان، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، وهي قوله تعالى: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ)) فعقوبته: ((نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)).
ودل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100]؛ لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم.
ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].
وقال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ} [الأنعام:128]، أي: استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا.
وقال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202].
وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] إلى قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62].
وقوله تعالى: ((فَبِئْسَ الْقَرِينُ)) يدل على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت وآية الزخرف وغيرهما جديرون بالذم الشديد، وقد صرح تعالى في سورة النساء بقوله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]، وقال هنا: ((فَبِئْسَ الْقَرِينُ))؛ لأن كلاً من (ساء) و (بئس) فعل جامد لإنشاء الذم.(103/6)
تفسير قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون)
واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذين أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى، فقال تعالى عنهم: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37].
وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30].
وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد أخسر الناس أعمالاً في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] وهذا ظاهر وملموس ومحسوس من أحوال الكفار، ونحن نرى شدة اغترارهم بما هم عليه، كما قال كلينتون في حفل تنصيبه للرئاسة: إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وأن عليها التزاماً مقدساً بتحويل العالم إلى صورتها.
ونقول: لو تحول العالم إلى هذه الصورة فبئس العصر! أيضاً: أقر مجلس الشيوخ في أمريكا القانون الإرهابي الذي تبنته أمريكا، والذي يبيح للرئيس الأمريكي أن يتدخل في أي دولة في العالم؛ لحماية الحرية، وتسهيل ممارسة الحرية الدينية للطوائف المخالفة للدين.
ومصر موضوعة في أوائل هذه الدول التي يطبق عليها هذا الكلام، ومن حقه أن يتدخل بفرض عقوبات على أي دولة تتعرض للحرية الدينية بأي طريقة مخالفة.
الشاهد: أن واحداً من هؤلاء الشيوخ -شيوخ الضلال- تكلم وقال: إن هذه البلد تصدر كل شيء للعالم، فينبغي أن تصدر له أيضاً قيمها، وإن من هذه القيم حماية الحريات الدينية، وغير ذلك! وطبعاً كل هذه من أساليب أقنعة الهيمنة والإذلال والقهر للأمم، وهذا كله مما يبين لنا كيف أن هؤلاء على ضلالهم وكفرهم، يحسبون أنهم مهتدون.
وقوله تعالى هنا في آية الزخرف: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ))، من قولهم: عشا عن الشيء يعشو، إذا ضعف بصره عن إدراكه؛ لأن الكافر أعمى القلب، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، بسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين.
وقوله تبارك وتعالى: ((وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)).
قال ابن جرير في تفسيرها: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون لهم الإيمان بالله والعمل بطاعته.
وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]، أي: يظن هؤلاء المشركون بالله بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه أنهم على الصواب والهدى.
وقوله: ((حَتَّى إِذَا جَاءَنَا)) أي: العاشي عن ذكر الله.
وقوله: ((قَالَ)) أي: قال لشيطانه.
وقوله: ((يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)) المقصود: بعد المسافة بين المشرق والمغرب، وقال: (المشرقين) من باب التغليب، ونظير ذلك أن تقول: العصران، والمقصود بها: الظهر والعصر، أو العمران، والمقصود بهما: أبو بكر وعمر، والأبوان: الأب والأم، والأسودان: التمر والماء، والقمران: الشمس والقمر.
وقيل: المراد: مشرقا الصيف والشتاء، والتقدير: من المغربين.
يقول بعض الشعراء أيضاً في كلمة القمرين هذه: أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع.
قوله: (لنا قمراها) يعني: الشمس والقمر.
وقوله: ((فَبِئْسَ الْقَرِينُ)).
أي: حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله والعذاب المستحق لمذهبه ودينه تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق، وزين له ما وقع بسببه في العذاب، واستوحش من قرينه واستذله، لعدم الرابطة الطبيعية، أو انقطاع الأجساد بينهما.(103/7)
تفسير قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون)
قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
قال القاشاني: أي: لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا، وتبين عاقبته، وكشف عن حاله؛ لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه.
أو: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته؛ لأن كل واحد منكم له الحظ الأوفر من العذاب.
قال المبرد: منعوا روح التأسي؛ لأن التأسي يسهل المصيبة.
وهذا شيء طبيعي في الإنسان، كما يقول العوام: المصيبة إذا عمت هانت، أو إذا رأى الإنسان بلية غيره هانت عليه بليته.
فحتى هذا المعنى النفسي الذي يحصل بسبب الاشتراك في البلاء من التخفيف يحرم منه أهل النار، فالآية تشير إلى أن اشتراكهم في العذاب لن يحدث لهم المساواة التي كانوا يجدونها في الدنيا إذا اشتركوا في بلية، فإنهم في النار اشتركوا في البلية، لكنهم منعوا روح التأسي؛ لأن التأسي يسهل المصيبة، كما قالت الخنساء رضي الله عنها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي وقوله: ((وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)) وهو كقوله تعالى في سورة الصافات: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33].(103/8)
تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين)
قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40].
هذا إنكار تعتيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا الله سبحانه وتعالى وحده، فهذه هداية خاصة بالله عز وجل، أما أنت يا محمد فإنك لا تسمع الصم، ولا تهدي العمي؛ لأن هذا النوع من الهداية لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال؛ لأنه لا أجمع من ذلك لحالهم، ولا أبلغ منه؛ إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه، كالأصم، وإبصار آيات الله والاعتبار بها كالأعمى، وقُصد بذلك الضال الحائر.(103/9)
تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون عليهم مقتدرون)
قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:41 - 42].
((فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ)) أي: نقبضك قبل أن نظهرك عليهم.
((فإنا منهم منتقمون)) أي: بالعذاب الأخروي.
ثم قال تعالى: ((أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)).
وهذا كقوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] وفي تعبيره بالوعد -وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد- إشارة إلى أنه هو الواقع؛ وهكذا كان؛ إذ لم يفلت أحد من صناديدهم إلا من تحصن بالإيمان.(103/10)
تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم)
قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].
يعني: دين الله الذي أمر به، وهو الإسلام، فإنه كامل الاستقامة من كل وجه.
قال الشهاب: هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، وأمر له بالدوام على التمسك.
يعني: هو متمسك، لكن أمره هنا للدوام، وهذا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ِ} [النساء:136] أي: دوموا على ذلك، واثبتوا عليه.
فكذلك هنا: (فاستمسك) هو متمسك منذ الوحي نزل، لكن الأمر هنا هذا أمر وهو الدوام على التمسك بهذا الحق.
والفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي: إذا كان أحد هذين واقعاً لا محالة فاستمسك به.
وهذه الآية تدل على أن المتمسك بهذا القرآن على هدى من الله سبحانه وتعالى، وهذا معلوم بالضرورة.(103/11)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) أي: وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقومك من قريش؛ لما خصهم به من نزوله بلسانهم، أو أن المراد بقوله: ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) أي: أتباعه صلى الله عليه وسلم، أي: أنه تنويه بقدرك، وبقدر أمتك، وذلك لما أعطاهم الله بسببه من العلوم والمزايا والخصائص والشرائع الملائمة لسائر الأحوال والأزمان.
ويجوز أن يراد بالذكر: الموعظة.
وقوله: ((وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) أي: عما عملتم من ائتماركم بأوامره، وانتهائكم عن نواهيه.(103/12)
تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا)
قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].
أي: هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ وهل جاءت في ملة من مللهم؟ قال القاضي: والمراد هنا الاستشهاد بشيء معين، وهو الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه فيكذب ويعادى، والذين أمر بمسائلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم هم مؤمنو أهل الكتابين: التوراة والإنجيل.
فقوله سبحانه: ((وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا)) يعني: من أمم رسلنا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سيسأل الموجودين في زمنه، والموجودون في زمنهم هم المؤمنون من أتباع كتابهم.
أو أنه جعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم؛ لأنهم يخبرون عما قاله أنبياؤهم، وذلك أن دعوة التوحيد هي أظهر ما في دعوات الأنبياء، وهم يخبرون عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء.
وقال بعض المفسرين: إن هذا كان في حادثة الإسراء.(103/13)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا لعلهم يرجعون)
قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:46 - 47].
((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا)) أي المصدقة له ((إِلَى فِرْعَوْنَ))؛ لينهاه عن الاستعباد، ((وَمَلَئِهِ)) أي: لينهاهم عن التعبد له.
وقوله: ((فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، أي: فأبان أنه لا يستحق العبادة غير الله تبارك وتعالى، وأنه ليس لأحد سواه عبودية؛ لأنها حق الربوبية المطلقة لله عز وجل.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47].
أي: فلما أتاهم بالحجج على التوحيد، والبراءة من الشرك، إذا فرعون وقومه يضحكون، كما أن قومك مما جئتهم به من الآيات والعبر يسخرون، وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما كان يلقى من مشركي قومه، وإعلان منه لهم أن قومه من أهل الشرك لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، وإرشاد له صلى الله عليه وسلم بالصبر عليهم أخذاً بسنن أولي العزم من الرسل، وإخبار منه له أن مردهم إلى البوار والهلاك، كسنته في المتمردين عليهم قبله، وإظهاره عليهم وإعلائه أمره، كالذي فعل بموسى عليه السلام وقومه الذين آمنوا به، من إظهارهم على فرعون وملئه.
ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد، فما كانوا يهزئون من الآيات والمعجزات التي جاءهم بها موسى عليه السلام لقصور في تلك الآيات على ما تدل عليه، وإنما لمجرد العناد، ومحض الاستكبار والجحود، كما بين موجب هذا الهزء بقوله: ((وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا)).
أي: أختها السابقة عليها، ((وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ)).
أي: العذاب الدنيوي مما يلجئ إلى الرجوع، ((لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)).
فسلط الله عليهم العذاب الدنيوي إلجاءً لهم إلى الرجوع وإلى التوبة.(103/14)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك)
قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:49 - 50].
قوله تبارك وتعالى: ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ)) فيها أقوال: قيل: يا أيها العالم! لأنهم كانوا يعظمون الساحر، ولذلك خاطبوه على جهة التعظيم بقولهم: ((يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ)).
وقيل: قالوها على جهة الاستهزاء، ويرشح ذلك أن السياق في ذكر سبب استهزائهم؛ لأنه قال قبلها: ((إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ))، ثم قال: ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ))، أي: استهزاءً به عليه السلام.
أو أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، حيث كان أشيع عنه أنه ساحر، فتقدم لهم وصفه وتسميته بأنه ساحر فيما بلغهم عنه، فلما لقوه أو أتوه أو فزعوا إليه قالوا له: ((يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ))، باعتبار هذه التسمية المتقدمة عندهم.
وقوله: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ)) العهد الذي عهده الله سبحانه وتعالى عند موسى أنه لا يعذب من آمن بموسى، فقالوا: فادع الله لنا بهذا العهد، أن من آمن منا فسوف لا يعذبه.
وقوله: ((إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)) أي: بما تزعم أنه الهداية، يعني: كأنهم يعطونه وعداً: ((لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) [الأعراف:134].
وهذا دليل واضح على أن فرعون وقومه كانوا يعرفون في قلوبهم أن موسى رسول من عند الله حقاً وصدقاً، وأنه لا يكذب على الله، والأدلة كثيرة في القرآن، منها هذه الآية: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: سوف نتبعك ونهتدي إن كشفت عنا العذاب، كما قال تبارك وتعالى في سورة الأعراف: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف:134 - 135].
وكذلك قال هنا: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}، أي: ينكثون العهد الذي عاهدوا عليه، ويتمادون في غيهم.(103/15)
تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر)
قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
المقصود بقوله: ((من تحتي)) أي: من تحت قصوري ((أفلا تبصرون)) أي: أفلا تبصرون قوتي وملكي وعظمتي؟! فشاء الله سبحانه وتعالى أن يأتيه الجزاء من جنس العمل، فإنه لما قال هذه العبارة: ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)) تفاخراً وتعاظماً، أجرى الله الماء من فوقه، وأغرقه في النهاية.
وقوله: ((وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي))، يعني بذلك: أنهار النيل.
وقوله: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ)) أي: ما أنا فيه من النعيم، والخير، وما فيه موسى من الفقر؟!(103/16)
تفسير قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)
قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
قوله: ((أَمْ أَنَا خَيْرٌ)) (أم) هنا بمعنى: بل، والمعنى: بل أنا خير ((مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ)) أي: ذليل ضعيف، لا شيء له من الملك والأموال، وهذا هو نفس المنطق المادي الذي يشيع في الكفار.
وقوله: ((وَلا يَكَادُ يُبِينُ)) يعني: لا يكاد يبين الكلام؛ لمخالفة اللغة العبرانية للغة القبطية، وكلمة قبطي لا تدل على ديانة، وإنما أصلها المصري القديم، وهذا يعني أن المصري القديم كان في ساعات يعبد فرعون، وفي ساعات يعبد كذا، ولما دخلت النصرانية مصر تدينوا بها، لكن للأسف الشديد حتى اليوم نحن المصريين نسمى باللغة العبرانية بالأقباط، ففي اللغة العبرية كلمة (إيجبشن) ومعناها: قبطي، ولم تعرب بكلمة مصر إلى الآن.
وقوله: ((وَلا يَكَادُ يُبِينُ))؛ أي: أن لغته غير واضحة بالنسبة لفرعون؛ لأنه يتكلم بالعبرانية، أما فرعون فيتكلم القبطية.
قال بعض المفسرين: إن هذا إشارة إلى عقدة كانت في لسانه، ثم أذهبها الله عنه، وهذا ورد في حديث الفتوح الطويل المعروف، وإن كان لم يصح، لكن يشيع عند المفسرين، خاصة في تفسير سورة طه، عند قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]، فموسى عليه السلام لما كان صغيراً، وخشي فرعون على ملكه منه، قيل له: اختبره، وانظر ماذا سيختار، فأتى بجمرة من النار، وبشيء آخر، فألهم أن يأخذ جمرة النار؛ حتى يظهر له أنه لا يعقل ولا يعي الأشياء، فحصل منها هذه العقدة في لسانه، والله تعالى أعلم، وإن كان الظاهر والأصل أن الأنبياء مبرءون عن العيوب الجسدية.
وعلى أي الأحوال حتى لو فرضت صحة ذلك فالذي نؤمن به يقيناً أن موسى عليه السلام دعا الله سبحانه وتعالى أن يذهب عنه ذلك، وقد استجاب دعاءه؛ كما حكى الله عن موسى عليه السلام أنه قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27 - 32] إلى قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36].
إذاً: هذا الخبيث فرعون إن كان يقصد بقوله: ((وَلا يَكَادُ يُبِينُ)) الإشارة إلى هذه العقدة التي كانت في لسانه، فنقول: لنفترض فعلاً أنها كانت عقدة، فقد أذهبها الله عنه، فكأن فرعون عيره بشيء قد كان وزال، وفرعون وإن كان يدري هذا لكنه أراد التضليل على الرعية؛ لأنه عارف بالحقيقة.(103/17)
تفسير قوله تعالى: (فلولا ألقي عليه أسورة قوماً فاسقين)
قال تعالى: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53].
((فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)) يعني: نريد أن تنزل عليه أسورة الذهب من السماء، ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ))؛ كي يؤيدوه، وسبق الرد على اقتراح الآيات، وقلنا: إن هذا ليس إلى الأنبياء، بل هو من محض إرادة الله سبحانه وتعالى، ولذلك لو أن الملائكة جاءتهم في صورتهم الحقيقية فلابد أن تأتيهم بالعذاب، وإلا فإنها تأتيهم في صورة رجال، كما قال عز وجل: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9].
ويفهم من قوله: ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)) أن فرعون كان يؤمن بوجود الملائكة، كما أن فرعون ما كان ينكر وجود الله، ولم يحك القرآن عن أمة من الأمم الكافرة أنها أنكرت وجود الله، فإن توحيد الربوبية قد أطبق عليه المشركون كافة، حتى الذين قص الله خبرهم في سورة المؤمنون كانوا يقرون بوجود الله، كما هو واضح من سياق الآيات.
وكذلك أبو لهب وأبو جهل وغيرهم من كفار قريش كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، لكن النزاع كان في توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد، أما توحيد الربوبية فإنه لا يسمى إيماناً، كما يفعل بعض الناس الآن؛ حيث يصف الكفار والمسلمين، ويضع معهم النصارى واليهود، كأن يقول: نحن معشر المؤمنين بالله.
إذاً: على هذا القول كان أبو جهل مؤمناً وكان أبو لهب مؤمناً وكان فرعون مؤمناً.
فالمقصود توحيد الألوهية والعبادة، وليس توحيد الربوبية، بدليل أن كلمة التوحيد هي (لا إله إلا الله)، وليست (لا رب إلا الله)؛ ولو كانت (لا رب إلا الله) لدل على أن المشركين كانوا مسلمين؛ لقول الله عز وجل عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم كانوا يقولون: لا رب إلا الله.
وقوله: ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)) أي: يعينونه ويصدقونه.
((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ)) أي: استفزهم بهذه المغالطات وحملهم على أن يخفوا له ويصدقوه ((فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)).(103/18)
تفسير قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم ومثلاً للآخرين)
قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56].
((فَلَمَّا آسَفُونَا))، يعني: أغضبونا وأسخطونا؛ لأن الأسف يراد به الغضب، كما أطلق الله سبحانه وتعالى الأسف على أشد الغضب في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150]، على أصح التفسيرين.
فقوله: ((فَلَمَّا آسَفُونَا)) أي: أغضبونا بطاعة عدونا، وقبول مغالطاته بلا دليل، وتكذيب موسى وإيذائه ووصفه بالساحر، ونكث العهود.
وقوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال الأجيال الطوال، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال.
وقوله: ((فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا)) أي: حجة للهالكين بعدهم؛ لأن السلف هم السابقون، كما قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، فهم سابقون من حيث الزمان، فقوله: ((فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا)) يعني: حجة للهالكين بعدهم، وسلفاً لمن يهلك بعدهم.
وقوله: ((وَمَثَلًا)) أي: عبرة ((للآخرين))، كما قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8].(103/19)
تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58].
((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) هذه الآية فيها عدة تفاسير منها: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) يعني: في كونه كآدم، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
والمعنى: أنه بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة، عبادته كفر، ودعاؤه شرك، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره.
وقوله: ((إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ)).
أي: من هذا المثل المضروب، ووصفه المبين ((يَصِدُّونَ)).
أي: يعرضون ولا يعون.
وقوله: ((وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)) يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم، زعماً منهم أنهم بنات الله تعالى كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة، يريدون أنهم خير من عيسى وأفضل؛ لأنهم من الملأ الأعلى، والنوع الأسمى، فإذا جازت عبادة المفضول فبالأولى عبادة الأفضل، هذا لأنهم يقررون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة، وغفلوا لجهلهم عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان القاطع قام على بطلان عبادة غيره تبارك وتعالى.
يعني: أنهم يستدلون بعبادة النصارى لعيسى عليه السلام على عبادتهم للملائكة، والملائكة أفضل من عيسى، فأولى أن تعبد الملائكة؛ لأنهم أفضل من عيسى! ولا شك في بطلان هذا القياس، وبطلان المقيس عليه، فأولاً: هل عبادتهم عيسى عليه السلام مما يرضي الله؟ أو هل أمر الله به؟ فالمقيس باطل، وهذا مجرد دعوى وكفر، وكذلك المقيس نفسه باطل، وهو عبادة الملائكة؛ للأدلة الواضحة التي سوف نذكرها، وكأنهم يقررون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم بالباطل أقيسة صريحة، وغفلوا لجهلهم عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان القاطع قام على بطلان عبادة غير الله تعالى، وعلى استحالة التوالد في ذاته العادية، وإذا اتضح الهدى، فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال.
فهذا أمر واضح وضوح الشمس، فإن كلا العبادتين باطل، سواء عبادة الملائكة أو عبادة المسيح عليه السلام.
فإذاً: هم في هذا الكلام يعرفون جيداً أن هذا باطل، لكنهم ما أرادوا إلا المشاغبة والجدال العقيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ((وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، يعني: هم مقتنعون أنهم لا يقيمون حجة، إنما يجادلون لدفع الحق.
فقوله: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، أي: ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد؛ لظهور بطلانه.
وقوله: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))، أي: شديدو الخصومة للباطل تمويهاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجهل) وما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو الجلي الواضح لدلالة السياق والسباق، فقابل بين ما حكيناه وبين ما حكاه غيرنا وأنصف.
ثم رفع الله جل وعلا شأن عيسى عليه السلام فقال سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].
((إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ)) أي: عبد لله، ((أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) أي: بالنبوة والرسالة.
وقوله: ((وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: آية وحجة عليهم، لما ظهر على يديه، مما أيد نبوته ورسالته، وصدق دعواه.(103/20)