تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم)
قال تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:87].
العطف على (كلاً) أو (نوحاً)، أي: كلاً منهم فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعات كثيرة.
فالمفعول محذوف، يعني: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم هدينا معهم جماعات كثيرة.
وقوله: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط المستقيم) يعني: في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضاً، ولحقت بإبراهيم فازداد ارتفاع درجاته عليه السلام.(54/8)
تفسير قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)
قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
قوله: (ذلك هدى الله) إشارة إلى الدين الذي كانوا عليه (يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا) يعني: لو أشرك هؤلاء الأفاضل من الأنبياء عليهم السلام مع عظمتهم (لحبط عنهم ما كانوا يعملون) يعني: من الأعمال المرضية.
فالأنبياء لا شك في أنهم يعملون أعمالاً مرضية عظيمة جداً أكثر من أي امرىءٍ من البشر، ومع ذلك لو وقع منهم الشرك لحبطت أعمالهم المرضية، فكيف بمن عداهم ممن هم أقل منهم مرتبة إذا أشركوا بالله سبحانه وتعالى؟! وهذا -بلا شك- فيه تعظيم لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
والسياق هنا سياق شرط، أي قوله تعالى: (لئن أشركت) وكذلك (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) فهل الشرط يقتضي جواز الوقوع؟
الجواب
لا، الشرط لا يقتضي جواز الوقوع، ومثال ذلك الشرط في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، فهل معنى ذلك أن هذا يقع بأن يكون للرحمن ولد؟
الجواب
لا، وإن كانت الآية فيها احتمالات كثيرة.
وقوله: (قل إن كان للرحمن ولد) إن: نافية بمعنى (ما) مثل قوله تعالى: (إن هو إلا عبد) يعني: ما هو إلا عبد.
فـ (إن) بمعنى (ما) النافية، فكذلك هنا، (قل إن كان للرحمن ولد) يعني: ما كان للرحمن ولد، (فأنا أول العابدين) لهذا الإله المنزه عن أن يكون له ولد.
وهناك تفسير آخر في قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد)، وهو: إن كان لله ولد فأنا أول العابدين المستنكفين عن عبادة إله يحتاج إلى الولد.
أو أن قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد) مجرد شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، وإنما الشرط لتبيين شيء معين، أو حكم معين، لكن لا يقتضي أن المشروط يقع بالفعل؛ لأن الأنبياء إذا كانوا معصومين من المعاصي فأولى بهم أن يعصموا من الشرك، فهذا لا يقع من الأنبياء قطعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعصمهم ويحفظهم من ذلك.
فإذاً: المقصود هنا مجرد بيان خطورة الشرك، وتشنيع لأمره وتغليظ لشأنه تنفيراً منه، فالشرط لا يقتضي الوقوع، مثل قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17].
فالشرط لا يقتضي جواز وقوع هذا الفعل.
وفي قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، وكذلك في قوله هنا: ((وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) فهو شرط، وهو لا يقتضي جواز وقوعه.(54/9)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)
ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
قوله: (أولئك)، إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم عطفوا لاستلطافهم بما ذكر من الهداية وغيرها.
وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب)، الكتاب هنا اسم جنس، والكتب هي كثيرة، لكن هنا المقصود جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية.
وقوله: (آتيناهم الكتاب)، المقصود بالإيتاء: التفهيم التام لما فيه من الحقائق، والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق، وهذا أعم من أن يكون بالانزال ابتداءً أو يالإيغاث إسقاءً، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
وقوله: (آتيناهم الكتاب والحكم)، أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب، (والنبوة)، أي: الرسالة، وقيل: (النبوة)، وإن كانت أعم إلا أن المراد بها ما يشمل الرسالة؛ لأن المذكورين رسل.
ولا تعارض بين قولك: محمد نبي الله ومحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلمة النبوة أعم، هذا هو السبب في عدم التعارض؛ لأن النبوة تشمل الرسل، وتشمل غير الرسل، فهي مرتبة أعم، لكن أخص منها مرتبة الرسالة، فلا تعارض، بل بينهما عموم وخصوص، لكن في تفسير هذه الآية إذا أردنا أن نفسر قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)، فنخص المعنى العام للنبوة بمعنى الرسالة؛ لأن المذكورين كلهم رسل، ولم يقتصروا على مرتبة النبوة.
وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء)، الهاء في قوله: (بها) تعود إلى هؤلاء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة، يعني: بهذه الثلاثة المذكورة.
وقوله: (هؤلاء)، يعني: قريشاً، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون لما يصدقه جميعاً، كما هو معروف أن الإيمان حقيقة كلية متركبة من أجزاء، وهذه الأجزاء لا ينفصل بعضها عن بعض، فإذا حبطت واحدة منها حبط جميع الإيمان، يعني: لو أن الإنسان آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكنه كفر باليوم الآخر، والبعث والنشور فإن كل إيمانه يحبط، فيصح أن يوصف -مع أنه يصدِّق بالأنبياء ويصدق بالله- بأنه لا يؤمن باليوم الآخر، ولا يؤمن بالله، ولا بالملائكة، كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
ونحن نعلم أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث وبالنشور، ويؤمنون باليوم الآخر، لكن أطلق عليهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأنهم بكفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو بعيسى -وهذا كان في حق اليهود- فقد كفروا بجميع الأنبياء، لو واحد مسلم آمن بجميع الأنبياء لكنه قال: إلا عيسى، أو إلا يونس، لصار كافراً متساوياً سواء بسواء مع إخوانه في الكفر، فيحبط كل إيمانه، ولو آمن بكل الملائكة ما عدا جبريل فإنه أيضاً يحبط كل إيمانه، ويسمى كافراً خارجاً من ملة التوحيد.
فمن ثمَّ قال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء) يعني: المشركين من قريش (فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين)، يعني: وفقنا للإيمان بها (قوماً ليسوا بها بكافرين)، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وأتباعهم، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأظهر؛ لأنه إذا قلنا: ((فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ))، وهذا يصلح أن يكون في مقابلة كفار قريش لأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها.
ولا شك أن في التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل إيذان بفخامتها وعلوها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها، قياماً بحق الوكالة.
قال الرازي: دلت هذه الآية على أن الله تعالى سينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقوي دينه، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه، قاهراً لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان جارياً مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزاً.(54/10)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90].
قوله: (أولئك) إشارة إلى الأنبياء المذكورين.
قوله: (الذين هدى الله) أي: إلى الصراط المستقيم.
قوله: (فبهداهم اقتده) أي: بطريقتهم، وهي بالإيمان بالله، وتوحيده، والأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة، ونحو ذلك.
واستدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ.
أي أن الأصل هو أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) أي: اقتد بهداهم.
ولذلك لما سئل بعض العلماء عن دليل من القرآن الكريم عن وجوب إعفاء اللحية استدل بهذه الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) أي: هؤلاء الأنبياء المذكورون، ووجه الاستدلال أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجدهم قد اتخذوا العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال له هارون عليه السلام: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] ومعنى ذلك أنه كانت له لحية عظيمة بحيث أنها تمسك، ولم تكن مثل اللحية المجوسية التي تكون مقصوصة بحيث لا تمسك؛ لأن هذه هي سنة المجوس، فالمجوس كانوا يقصونها، وهناك فرق بين القص وبين الحلق، فالحلق استئصال، أما القص فتكون فيه اللحية موجودة.
فمن قصَّر لحيته إلى حد الحلق فلا يعتبر قد خالف المشركين؛ لأن المجوس كانوا يتركونها بحيث تكون قريبة جداً إلى الحلق.
والشاهد من الكلام أن الأمر للقدوة أمر لأتباعه، كقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فهذا الأمر موجه للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن المقصود به هو وأتباعه، فأمر القدوة أمر لأتباعه، فإذا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهؤلاء الأنبياء ومنهم هارون الذي كان ذا لحية طويلة فهو أمر لنا؛ لأننا مأمورون -أيضاً- بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن قد يعكر على هذا الاستدلال أنه يفتقر إلى دليل يدل على أن هارون أتى بها على سبيل الوجوب، وهذا الاستدلال من لطائف الاستدلال.
واستدل بها ابن عباس رضي الله عنهما على استحباب السجدة في سورة (ص)؛ لأن داود عليه السلام سجدها، رواه البخاري وغيره، ولفظ البخاري عن العوامي قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟! يعني: أين دليلك على سجودك؟! قال: أو ما تقرأ (ومن ذريته داود وسليمان) إلى قوله: (أولئك الذين هدى الله فبداهم اقتده)؟! فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: اقتداءً بداود؛ لأنه أمر بالاقتداء به.
واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقريره أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وقد تنوعت الكمالات التي اتصف بها الأنبياء، سواء في الصبر على البلاء، والشدة، والبأس، والملك، والسلطان، ونحو ذلك، فكانت هذه الخصال مفرقة في الأنبياء عليهم السلام، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13].
وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكل أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم بأسرهم، فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فأُمر نبينا عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهم في كل خصال الفضائل والكمالات التي تحلو بها، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به، فإذا أمر الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام بأمر فإن النبي لا يتصور أبداً أنه يخالف أمر الله عز وجل؛ لأنه معصوم عن مخالفة ما أمره الله به، ومعنى ذلك أنه بالفعل امتثل هذا الأمر، واجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال، فثبت بذلك أنه أفضلهم، ولا شك في أن هذا استنباط حسن.
وقوله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) هذه الهاء تسمى هاء السكت، ويقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت، ومن العلماء من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها بهاء الضمير، ومنهم من يكسرها، وفيه وجهان: أحدهما: أنها هاء السكت أيضاً، شبهت بهاء الضمير، وليس بشيء، والثاني: أنها هاء الضمير، والمضمر المصدر، أي: اقتد الاقتداء.
وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23] الهاء في قوله: (عليه) المقصود بها القرآن، أو المقصود بها التبليغ، فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما.
وقوله: ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) (إن هو) أي: البلاغ، أو أن المقصود به القرآن، ولذلك قلنا: إن السياق يشير إلى أن قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه) يعني البلاغ أو القرآن الكريم، وقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) أي: عظة وتذكير لهم؛ ليرشدوا من العمى إلى الهدى.
وفي هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس، وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق، فقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) أي: لجميع العالمين، وجميع الخلائق الجن والإنس، رغم أنف هؤلاء الذين يحاولون أن يزعموا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قاصرة على العرب.
وهناك برنامج في الإنترنت قال عنه بعض الإخوة: إن موسوعةً عن الإسلام موجودة فيه باللغة الإنجليزية، فاطلعت على أشياء منها عن طريق ورق مكتوب فرأيت من ضمن الأشياء أن واحداً من الخبثاء تكلم عن كلمة القرآن، وشرح قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، فأشار إلى أن القرآن نزل باللغة العربية حتى يعقلها العرب، ثم قال: إن القرآن نزل على الشعوب العربية، ومضى في الكلام كأنه يمدح الإسلام! ولا شك في أن هذا معنىً خطير؛ لأنه حصر الإسلام في العرب، وهذا من المقطوع ببطلانه، وهو من البديهيات المعروفة في دين الإسلام.(54/11)
حكم أخذ الأجرة على التعليم وتبليغ الدعوة
قيل: إن الآية تدل على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام، وللفقهاء في هذه المسألة كلام، فقوله تعالى: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) قال فيه بعض المفسرين: في هذه الآية إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم؛ لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة.
وعلى كل الأحوال فالآية تدل على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً كي لا يشق عليهم الامتثال، أما استفادة الحل والتحريم من الآية ففيه خفاء، فالقائل بالإباحة يقول: المعنى: لا أسئلكم جعلاً تعففاً.
يعني: وإن حل لي أخذه فأنا أتعفف عن أخذه.
فيقول: إن الآية تدل على إباحة أخذ الجعل.
والقائل بالتحريم يستدل بالآية على تحريم أخذ الأجرة على التعليم، وقال في قوله تعالى: (لا أسألكم عليه أجراً) أي: لأنه حرم عليَّ ذلك.
قال ابن القيم: وأما الهدية للمفتي ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته أنه يهاديه، أو مَنْ لا يَعرِفُ أنه مفتٍ فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تجزل المعاوضة عن الإفتاء.
وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجاً إليه جاز له ذلك، وإن كان غنياً عنه ففيه وجهان.
فطلب الأجرة لا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه، كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة.
أو سئل عن حلال وحرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة.
فهذا حرام قطعاً، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به).
وقال أيضاً: (من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به).
وعن أبي بن كعب قال: (علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: إن أخذتها أخذت قوساً من نار).
وهناك أحاديث أخر، وبها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم، وأما أخذ الأجرة على التلاوة ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قصة اللديغ قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً)، وكان هذا الأجر على الرقية.
والشوكاني يقول: قوله: (أحق ما أخذتم عليه أجراً) عام يصدق على التلاوة في الرقية أو التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء لأجل كونه قارئاً، ونحو ذلك، فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلاً تحت العموم.
والموضوع كبير، وفيه اختلاف كبير بين العلماء، وليست غايتنا أن نحقق هذه المسألة، ولها موضع آخر في أحكام الإجارة.(54/12)
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91].
ولما بين تبارك وتعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين أتبعه ببيان كفرهم بذلك على وجهٍ سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:89 - 90]، فبيَّن لهم النعمة الكبرى التي هي القرآن الكري بقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين)، ومع ذلك كفروا به، فقال عز وجل: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا)) لما جاءتهم نعمة القرآن والوحي (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
قوله: (وما قدروا حق قدره) يعني: ما عظموه حق تعظيمه.
وكلمة (حق) في قوله تعالى: (حق قدره)، منصوبة على المصدرية؛ لأن أصلها (وما قدروا الله قدره الحق)، فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه.
وقوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) يعني: حين اجترءوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، إذ طاوعتهم قلوبهم أن يقولوا هذه الكلمة، يعني أن قول هذه الكلمة يعكس أنهم ما قدروا الله وما عظموا الله حق تعظيمه تبارك وتعالى، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا ينفون نزول القرآن على الرسول عليه السلام فقط، وإنما ينفون أصل إرسال الكتب من الله سبحانه وتعالى إلى جميع الأنبياء مبالغة في نفي الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً، حيث قيل في جواب سلبهم العام لإثبات قضية جزئية بديهية التسليم: ((قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ)) أي: ضياءً من ظلمة الجهالة وبياناً يفرق بين الحق والباطل ((تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا)) أي أنهم كانوا يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه، فكيف ينكر إنزال شيء وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان موجود في قراطيس؟! أي: في أوراق مكتوبة.
وعدل عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) ولم يقل: قل: من أنزل التوراة.
ثم مدح الكتاب بقوله: (نوراً وهدى للناس) فكل هذا لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر.
وقوله تعالى: (وتخفون كثيراً) أي: تبدونها وتخفون.
أي أن قوله تعالى: (تخفون) معطوف على (تبدونها) والعائد محذوف، فقوله: (وتخفون كثيراً) أي: كثيراً منها.
ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، وبالمعترف لديهم بأحقيته، وفيه نعي على أهل الكتاب لسوء صنيعهم المذكور؛ إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام:91] يعني أهل الكتاب، (وعلمتم) يعني: على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم (ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) يعني: من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني، ومن الذي أنزل هذا؟ (قل الله) أي: أنزله الله.
أو: الله أنزله.
وأمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، يعني أنه يسألهم السؤال ثم يجيب، إشارة إلى أن الجواب متعين، ولا يحتمل أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب، وتنبيهاً على أنهم بهتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب، فتولى هو الجواب فقال: (قل الله) يعني: هو الذي أنزل هذا الكتاب.
وقوله: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أي: بعد التبليغ وبعد إلزامهم الحجة (ذرهم) أي: اتركهم (في خوضهم) أي: باطلهم (يلعبون) أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان، وهذا هو حال اللاعب، فهذا حال هؤلاء الذين كفروا بالقرآن الكريم، وهو أنهم يفعلون فعل اللاعب، واللعب لا يجر للإنسان نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً، بجانب أنه يضيع عليه الوقت والزمان.
وهذه الآية فيها قولان: القول الأول: أنها مكية النزول تبعاً للسورة؛ لأن سورة الأنعام مكية، وأن القائل: (ما أنزل الله على بشر من شيء) هم المشركون، وإلزامهم بإنزال التوراة لأنها كانت عندهم من المشاهير الذائعة، فألزمهم بإنزال التوراة؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى اليهود على أنهم أعلم منهم، وأنهم أهل كتاب، وكانوا يعرفون بالتوراة، هذا هو الظاهر.
وقال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش.
قال ابن كثير: وهو الأصح.
وهذا اختيار الإمام ابن جرير؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، ولأن اليهود ما قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر، كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس:2]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:94]، وكذلك قالوا هنا: (ما أنزل الله على بشر من شيء).
إذاً: يكون المقصود بها كفار قريش لا أهل الكتاب.
فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم وإيقافاً على عنادهم، ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش بأنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجل هذا الكتاب، مما يوجب اعترافهم بأحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى.
القول الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، ولا يرد أن هذه السورة مكية، فلا إشكال في أن تكون السورة مكية في العموم، لكن يكون فيها بعض الآيات مدنية؛ لأن مناظرات اليهود إنما جرت في المدينة النبوية، ولأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم: هذه السورة مكية يعني أنها سورة مكية إلا ما استثني مما ألحق بها.
والقائلون بأنها مدنية قالوا: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص أو في مالك بن الصيف.
وذكر المفسرون لكلٍ من هذه الأقوال قصصاً تؤيد قولهم.
وقال أبو السعود رحمه الله تعالى: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط -أي: في قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) - بل إلزامهم بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً؛ لأن التوراة تشهد للقرآن الكريم، ولأن التوراة فيها أدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة.
فقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تجعلونه في قراطيس، وحذف حرف الجر بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو: تجعلونه نفس القراطيس المقطعة، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، يعني أنهم يجعلونه قراطيس لكي يظهروا البعض ويكتموا البعض الآخر.
وقوله تعالى: (تبدونها ويخفون كثيراً) يعني: يبدونها ويخفون، دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به.(54/13)
تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه)
قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92].
ولما أبطل كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة بين تنزيل ما يصدقها بقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ).
قوله: (وهذا كتاب) يعني: هذا القرآن.
وقوله: (أنزلناه مبارك) يعني: كثير المنافع والفوائد؛ لاشتماله على منافع الدارين، وعلوم الأولين والآخرين، وما لا يتناهى من الفوائد.
قال الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، فالأولى أشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجدوه في هذا الكتاب، وأما الثانية التي هي العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب، وهو المسمى بتهذيب الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثلما تجده في هذا الكتاب.
ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا القرآن الكريم والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة، وقد شوهد هذا في كل عصر، فإن الله سبحانه وتعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين.
وقوله: (مصدق الذي بين يديه) يعني: من التوراة.
أو: من الكتب التي أنزلت قبله.
وفيه إثبات التوحيد موافقاً لها، فالأمر بالتوحيد في نفي الشرك وفي النهي عن الشرك موجود في سائر أصول الشرائع التي لا يطرأ عليها النسخ.
قوله: (ولتنذر أم القرى ومن حولها) أم القرى هي مكة، سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلهم ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل.
وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستلزم لإنذار أهل الأرض كافة، وإنذار أهلها يلزم منه إنذار كل القرى والمدن والبلاد في أرجاء الأرض وما حولها، أي: من أطراف الأرض شرقاً وغرباً، كما قال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -وذكر منهن- وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة).
ثم قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) فمن صدَّق بالآخرة خاف العاقبة، وما يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب.
وقوله: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) يعني: بالنبي أو بالقرآن، ويحافظون على الصلاة، وخصص الصلاة لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان وأعظمها قدراً؛ ولأن من حافظ على الصلاة فهو لما سواها أحفظ، فلذلك اقتصر على ذكر الصلاة فقال: (وهم على صلاتهم يحافظون).
ولذلك لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] والمقصود به الصلاة، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر) وفي هذا نظر؛ لأن الكفر قد أطلق على غير ترك الصلاة من المعاصي.(54/14)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:93] أي: اختلق إفكاً فجعل له شركاء أو ولداً، أو افترى أحكاماً في الحل والحرمة، كـ عمرو بن لحي وأشباهه ممن ينطبق عليهم قول الله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:93] وممن ادعى النبوة كذباً، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة، وهذا تهديد على سبيل الإجمال، كعادة القرآن، فإنه يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك.
وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) يعني: لا أحد أظلم من هؤلاء، (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يعني من ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي، بما يفتريه من القول، كـ النضر بن الحارث، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31].
فقوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93] يعني من ينكر إعجاز القرآن الكري، حتى قال: (سأنزل مثلما أنزل الله) مع أنه قد عرف إعجازه، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله، وكأنه -أيضاً- ادعى الإلهية لنفسه؛ لأن القرآن لا يقدر على أن يأتي به على هذه الصورة المعجزة إلا الله سبحانه وتعالى، فمن قال: سأنزل مثلما أنزل الله فكأنه يدعي أنه قادر على ما لا يقدر عليه إلا الله من هذه المعجزة الظاهرة، وكأنه يسوي قدرته بقدرة الله، ويلزم من ذلك أنه يدعي الإلهية لنفسه، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة، فيعلم ما للظالمين فيها المبَيَّن في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] يعني أصحاب هذه الأقوال وهذه الأفعال المذكورة في أول الآية بقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فإنه لا أحد أظلم من هؤلاء، وهؤلاء هم الظالمون؛ لأن الإنسان الذي عنده إيمان بالآخرة وخوف من العاقبة والآخرة وما أعد الله للظالمين فيها لا يجترئ على أن يأتي بشيء من هذه الأشياء المشار إليها في الآية، فمن ثمَّ استطردت الآية في ذكر أحوال الظالمين في الآخرة، باعتبار أن هؤلاء أظلم الظالمين.
يقول تعالى: (ولو ترى) أي: انظر إلى أحوالهم: (وَلَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) قوله تعالى: (في غمرات الموت) أي: في شدائده وسكراته وكرباته (والملائكة باسطوا أيدهم) أي: بالضرب والعذاب.
وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50].
وقوله: ((أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)) أي: قائلين لهم: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم.
تغليظاً وتوبيخاً وتعنيفاً لهم، والظاهر أنه لا يمكن أن يكون في ذلك مجاز، وإنما هو حقيقة، وأن هذا يحصل حقيقة مع الكفار عند احتضارهم على الصورة المحكية، ومتى ما أمكن حمله على الحقيقة فلا نعدل عنه إلى المجاز.
قال الحافظ ابن كثير: إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، وروحه تهرب خوفاً من الملائكة، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم وهم يخرجون: (أخرجوا أنفسكم) ومما يؤيد الحقيقة ويبعد المجاز قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] فإن الحقيقة صريحة في قوله: (ولو ترى) وقوله: (يضربون)، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل.
قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية بيان حال الكافر عند القبر وعذاب القبر، واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة.
لأنه هنا ذكر مجموعة من الملائكة وليس ملكاً واحداً.
يقول تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} قوله: (اليوم) يعني وقت الإهانة، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له، أي: من الآن فصاعداً، فمن وقت الإهانة لكم عذاب دائم لا ينقطع.
وقوله: (تجزون عذاب الهون) أي: الهوان الشديد (بما) أي: بسبب (بما كنتم تقولون على الله غير الحق) كالتحريف، وكدعوى النبوة الكاذبة، وهو جرأة على الله متضمنة للاستهانة به سبحانه وتعالى (وكنتم عن آياته تستكبرون) حتى قال بعضكم: (سأنزل مثل ما أنزل الله).(54/15)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى)
قال تعالى في آخر هذا الربع: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
قوله تعالى: (ولقد جئتمونا) أي: جئتمونا للحساب والجزاء (فرادى) أي: منفردين عن الأموال والأولاد وما آثرتموه من الدنيا، أو: (فرادى) ليس معكم أعوان ولا أوثان ممن زعمتم أنهم شفعاء، و (فرادى) جمع فريد، كأسير وأسارى.
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراة غرلاً ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء:104]) أخرجه الشيخان.
ورويا -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشرون حفاة عراةً غرلاً.
قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك).
وروى الطبري بسنده عن عائشة (أنها قرأت قول الله عز وجل: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) فقالت: يا رسول الله! واسوأتاه! الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوءة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شُغِلَ بعضهم عن بعض).
وقوله: ((وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)) يعني: ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم وغير ذلك، فتركتم ما خولناكم من النعم (وراء ظهوركم) يعني: في الدنيا، ولم تحملوا منه نقيراً.
وفي هذا إشارة إلى أنهم لم يصرفوه إلى ما يفيدهم في الآخرة، بل انشغلوا به عن الآخرة، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي.
وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!)، وزاد في رواية: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس).
ثم قال تعالى: ((وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ)) يعني: شركاء لله في الربوبية واستحقاق العبادة، ((لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ))، وفي قراءة أخرى بالرفع (لقد تقطع بينُكم)، أي: شملكم.
فإن البين من الأضداد، فيستعمل للوصل ويستعمل للفصل، أي: تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات.
وقوله: ((وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) أي: ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام.
وهذا كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]، وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، وقال عن إبراهيم عليه السلام مخاطباً قومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بينكم فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت:25]، والآيات في هذا كثيرة جداً.
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(54/16)
تفسير سورة الأنعام [95 - 101](55/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95].
قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) هذا شروع في ذكر بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وفي هذا تقرير شأن توحيده تبارك وتعالى، وقد بين الله عز وجل وقرر في الآيات السابقة التوحيد، وحاجَّ القرآن الكريم المشركين، ودحضهم، وأبطل شبهاتهم، وشرع الله عز وجل هنا في بيان بعض المبدعات، وما استبعدوه من المخلوقات الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وفي هذا التعريف بخطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه.
والمعنى أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فعل كذا وكذا وكذا مما سيأتي من الآن فصاعداً، فالذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فلق الحب عن النبات، وخلق من النواة النخلة.
وفي معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) قولان: أحدهما: أن (فالق) بمعنى (خالق) والثاني: أن الفلق هو الشق.
أما القول الأول في (فالق): فهو أنه بمعنى (خالق) أي: إن الله خالق الحب والنوى.
وهذا قول ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال الضحاك ومقاتل، قال الواحدي: ذهبوا بـ (فالق) مذهب (ثاقب)، يعني: خالق.
وأنكر الطبري هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء) بمعنى (خلق)، ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه، يعني: جواز أن يعبر عن (خلق) بـ (فلق)، وكذا المجد في القاموس.
قال الرازي: الفطح هو الشق، وكذلك الفلق، فالشيء قبل أن يدخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً، والعقل يتصور من العدم ظلمةً متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق، فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه -يعني: أوجده- وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق، فبهذا التأويل لا يزعم حمل الفالق على الموجد والمبدع.
فهنا الرازي يذكر وجه التعبير عن (خلق) بـ (فلق)، أو عن (خالق) بـ (فالق): فهذا هو وجه القول الأول، وهو أن (فالق الحب والنوى) بمعنى: خالق الحب والنوى.
أما القول الثاني -وهو قول الأكثرين- فهو أن (فالق) بمعنى الشاق الذي يشق الحب والنوى.
وكون الفلق هو الشق في معناه وجهان: أحدهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة.
وهو قول الحسن والسدي وابن زيد، قال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقاً أخضر.
أما الوجه الثاني فهو أن الفلق هنا بمعنى الشق الذي يوجد في الحب والنواة، كحبة الشعير -مثلاً-، حيث يوجد فلق ونوع من الشق في الحبة نفسها، وكذلك النواة كما في نواة التمر، فإنه يوجد فيها شق يقسم الحبة إلى اثنتين.
لكن ضعف هذا الوجه الثاني بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة، أما الحب فهو ما ليس له نواة، كالحنطة والشعير والأرز، وأما النوى فهو جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما.
قال الرازي: إذا عرفت ذلك فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تبارك وتعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر، فالأول يخرج منه الشجر الصاعد إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض المسماة بعروق الشجرة، وهي التي نعبر عنها بالجذور، وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض.
وذكر الإمام الرازي -كما نقل القاسمي - كلاماً بديعاً جداً في عجائب صنع الله سبحانه وتعالى في فلق الحب والنوى، والحقيقة أن الكلام في غاية الإبداع، وباختصار فإنه لا شك في أن من يدرس علم النبات فإنه يطلع على أسرار وعجائب عظيمة جداً في خلق الحب والنوى.
ونلاحظ هنا أن الرازي هو كـ ابن القيم وكـ الغزالي وغيرهما من العلماء الذين اجتهدوا في محاولة إعمال العقل البشري في التدبر في آيات الله سبحانه وتعالى الكونية.
وكلهم كانوا يتحدثون على مستوى الثقافة التي كانت في عصرهم، وهذا أقصى ما وصل إلى علم البشر في ذلك الوقت، ولا شك في أنه يوجد اليوم من مظاهر الإبداع وعلامات وآثار التوحيد في خلق الله سبحانه وتعالى في عالم النبات ما يبهر العقول.
والكلام هنا هو عن طبيعة إحدى الشجرتين، فالتوجه إلى أسفل هو المقصود بالجذور، وطبيعة الشق الآخر التوجه إلى أعلى، وهو الذي يخرج منه الشجر، فواحدة منهما تقتضي الهوي إلى عمق الأرض، ومع ذلك تولدت منها الشجرة التي تصعد في الهواء، فالحس والعقل يشهد بكون طبيعة تلك مضادة للطبيعة الأخرى، لكن اجتمعتا، فعلمنا بذلك أنه ليس هذا مقتضى الطبع والخاصية، وإنما هو مقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع، فلو أنك بذرت بذرة فول أو نحوها فبقدرة الله سبحانه وتعالى تنمو الجذور من جهة معينة، فلو أن الحبة وضعت في الأرض مقلوبة بحيث يكون الجذر إلى أعلى فسنجد الحبة نفسها بقدرة الله عز وجل تعدل وضعها، بحيث يتجه الجذر إلى أسفل، والنبات يتجه إلى أعلى، والعجائب في هذا كثيرة جداً.
ومن هذه العجائب التي أشار إليها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ الأسنة القوية فيه، فلو أنك أتيت بسكين حاد وحاولت أن تغوص به في داخل الأرض فإن لم تكن تربة لينة فستكون هناك مقاومة، وهذه الجذور بعضها في غاية دقتها ولطافتها ولينها، ولو أتيت بهذه الجذور أو الشعيرات الجذرية ودلكتها بيدك فإنها تصير مثل الماء، وتلين في يدك وتتمزق بمجرد ضغط الأصابع عليها، ومع أنها في غاية الدقة وفي غاية اللطافة تقوى بقدرة الله سبحانه وتعالى على النفوذ في الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة، فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لابد من أن يكون بتقدير العزيز الحكيم سبحانه وتعالى.
ومن سافر من مصر ماراً في الطريق البري فإنه يرى العجائب في سيناء، ويرى الجبال التي في سيناء وفيها عجائب مذهلة من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى.
وهكذا ترى النخيل صنوان وغير صنوان خارجاً من أعماق صخر عتيد في غاية الصلابة والقوة، وفي تلك الصخور العاتية تجد النخل قد نبت من هذه الصخور، فما يكون ذلك إلا بقدرة الله عز وجل.
ومن هذه العجائب أنه يتولد من تلك النواة شجرة، وهذه الشجرة يحصل فيها طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة خاصة، وفي داخل ذلك القشر الخشبة، وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش، ثم يتولد من جسم الشجرة أغصانها، ويتولد من الأغصان الأوراق أولاً، ثم الأزهار والأنوار -جمع نَورة، وهي البراعم- ثانياً، ثم الفاكهة ثالثاً، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر، مثل الجوز، فالجوزة من الخارج يكون فيها قشرة خضراء، لكن هذه لا تراها؛ لأنك تتعامل مع الطبقة التي تليها، والذين يبيعونه يأخذون هذا القشر، فالأول طبقة تتكون من هذه القشرة الخضراء، وبعد ذلك يكون القشر الذي نراه نحن وهو الذي يشبه الخشب، ثم تحت القشرة ذلك الخصل الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب، ثم ذلك اللب مشتمل على جرم كثيف، وهو أيضاً كالقشر، وهذا الجرم اللطيف هو الدهن، وهو المقصود الأصلي، فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها يدل على أنها نفسها تتعرض لمؤثرات واحدة في تربة واحدة متجانسة، وتسقى من ماء واحد، والشمس واحدة، وهكذا العوامل التي تؤثر عليها واحدة، ومع ذلك بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذه الأنواع التي لا حصر لها من خلق الله سبحانه وتعالى من أنواع الفواكه التي تذهل العقول إذا تدبرت وتفكرت ملياً في عظم قدرة الله سبحانه وتعالى فيها، فهذا التنوع كله من ماء واحد، وتربة واحدة، وعوامل محيطة واحدة، ومع ذلك يخرج هذا حلواً وهذا حامضاً مختلفاً ومتفاوتاً، والنوع الواحد يتفرع إلى أنواع، كالتمر مثلاً، كل ذلك يدل على تدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا تدبير العناصر والطبائع.
وكذلك نجد أحوال الفواكه مختلفة، وبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز، وبعضها تكون الفاكهة المطلوبة منه في الخارج وتكون النواة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها تكون النواة فيه لها لب، كما في نوى المشمش والخوخ، وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر، وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوباً في الداخل والخارج، مثل التين، فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه.
وأيضاً الحبوب مختلفة في الأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر.
فهذه الأشكال المختلفة لابد من أن تكون لأسرار وحكم، وقد علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل، وبعض الحبوب يكون لها خاصية، والأخرى تكون لها خواص ومنافع أخرى، وقد تكون ثمرة واحدة غذاءً لحيوان وسماً لحيوان آخر، فهذا كله يدل على توحيد الله سبحانه وتعالى وقدرته عز وجل.
وإذا أخذت ورقةً واحدة من ورق الشجر تجد خطاً واحداً مستقيماً في وسطها، ثم ينفصل إلى يمنةً ويسرةً، وإلى شعب أخرى لا تزال تزداد حتى تخرج عن الإدراك بسبب ذلك الصغر، حتى لا تكاد تُرى، والخالق تعالى إنما فعل ذلك لتقوى القوى المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، حتى إ(55/2)
قدرة الله تعالى في إخراج الحي من الميت والميت من الحي
يقول عز وجل: ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ)) فأنت ترى البيضة التي هي تعتبر أكبر خلية نواة والمادة الحيوانية -البروتوبلازم- حولها، ولو فتحت البيضة تجد أن الذي فيها ميت، ثم بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذا المخلوق الحي بكل ما فيه من إبداع خلق الله سبحانه وتعالى، فمن الذي فعل هذا؟! وهل يقوى جميع علماء الكرة الأرضية بأمريكا وبالغرب وبالشرق بكل ما معهم من قوى وعلم على فعل ذلك؟! وهل يقدرون -لا نقول: على خلق فرخ من بيضة- بل على خلق نملة أو خلق بكتيريا أو فيروس؟! وهل يقوون على ذلك؟!
الجواب
مستحيل، فالتحدي قائم، ومع ذلك يجحدون، ولا يعترفون بجهلهم وضعفهم أمام قدرة الله تبارك وتعالى.
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74].
وهكذا الجاحدون في كل وقت (ما قدروا الله حق قدره) فلا يعظمون الله عز وجل تعظيمه اللائق به، ولا يقدرونه حق قدره عز وجل.
فقوله عز وجل: ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) كالحيوان من النطفة، والنبات الغض الطري من الحب اليابس (ومخرج الميت) كالنطفة والحب (من الحي) كالحيوان والنبات.
وقوله تعالى: (ذلكم الله) الفالق للحب والنوى، والمخرج الحي من الميت وعكسه هو الله القادر العظيم الشأن المستحق للعبادة وحده، (فأنى تؤفكون) أي: أنى تصرفون عنه إلى غيره؟! والمقصود أن الحي والميت متضادان متنافيان، فلعله إذا كان يحصل المثل من المثل -أي: حي يخرج من حي- فقد يتوهم الإنسان أن هذا بسبب الطبيعة والخاصية، أما حصول الضد من ضده، كالحياة من الموت والموت من الحياة فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن كان ميتاً فكيف هو بذاته يعطي حياة، فخروج الضد من الضد دليل على أنه لابد من أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم تبارك وتعالى.(55/3)
تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً)
ثم قال عز وجل: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96].
قوله: (فالق الإصباح) هذا خبر آخر لـ (إن)، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو فالق الإصباح والإصباح مصدر سمي به الصبح، يقال: أصبحت إصباحاً.
لكن عبر هنا عن الصبح نفسه بالمصدر، وهو الإصباح، قال امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ بصبح وما الإصباح منك بأمثل يعني: وما الإصباح الذي يولد منك.
لأن الإصباح أول ما يخرج منه ضوء الفجر، وهو يولد من الليل، فمثل هذا الإصباح ليس بأمثل من هذا الليل الطويل.
وقوله: (فالق الإصباح) يعني: يشق بهذا الصباح ظلمة الليل.
وقوله: ((وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)) يعني: صير الظلام يُسكن إليه ويُطمأن به استرواحاً من تعب النهار، أو (سكناً) يسكن فيه الخلق، أي: يقرون ويهدءون، فيكون هذا من السكون، كقوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس:67]، وقُرئ: (وجاعل الليل سكناً).
وقوله: ((وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا)) أي: على أدوار مختلفة؛ لتحسب بهما الأوقات التي نيطت بها العبادات والمعاملات، كما ذكروا في سورة يونس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5].
قوله: (ذلك) يعني: التسيير من الحساب المعلوم (تقدير العزيز) أي: الغالب على أمره (العليم) بتدبيرهما ومراعاة الحكمة في شأنهما، وهنا استدلال بالأحوال الفلكية على دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته؛ لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية.
وقوله: (فالق الإصباح) قرأ (فالق الأصباح) على أنه جمع صبح، كقفل وأقفال، وإذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر فكثيراً ما يختم الكلام بالعزة والعلم، كما في هذه الآية، وكما في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:37 - 38].
وقال هنا: (ذلك تقدير العزيز العليم)، ولما ذكر الله خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة (فصلت) قال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12].
وفي العزة معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، ولا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما، كما قال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] وفيها معنى القدرة الكاملة أيضاً.
و (العزيز) إشارة إلى كمال قدرته، و (العليم) إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة وحركاتها المقدرة في المقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، فهذا يدل أن هذا التخصيص إنما هو بفعل الفاعل المختار سبحانه وتعالى، لا بفعل الطبع أو الخاصية.(55/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:97].
ثم بين تعالى نعمته في الكواكب إثر بيان نعمته في النيرين -أي: في الشمس والقمر- إعلاماً بكمال قدرته وحكمته ورحمته، فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:97].
قوله: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) يعني: في ظلمات الليل أثناء سيركم في طرق البر أو البحر.
وقوله: (قد فصلنا الآيات) يعني: بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر (لقوم يعلمون) يعني: يعلمون وجه الاستدلال بها، فإنما خلقت للاستدلال المتأكد بالعمل بموجبها، أي: الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه، واستحقاقه العبادة وحده تبارك وتعالى.
وإذا تأملنا قوله تعالى هنا: (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون)، وتأملنا آيات الله سبحانه وتعالى في مثل هذه المواضع (قوم يتفكرون)، (قوم يعقلون)، (آيات للمتوسمين)، (أفلا تتفكرون)، (أفلا تعلقون) ندرك مدى تعظيم الإسلام للعلم والعقل وللتدبر والتفكر، وعدم التقليد والانقياد، فالإسلام هو دين العلم، لكن العلم الصحيح بمعناه الحقيقي الذي يقود إلى توحيد الله عز وجل.
العالمانيون لأن العلمانيين أعداء الله وأعداء رسول الله عليه الصلاة والسلام يخدعون السذج من الناس، وذلك أنهم يستغلون التشابه اللفظي في الحروف بين كلمة العلمانية وكلمة العلم، وفي الحقيقة لا توجد علاقة على الإطلاق بين العلمانية وبين العلم أبداً؛ لأن أصل كلمة (العلمانية) هذه الذي ينطقونها كلمة أجنبية، وكلمة حديثة، فلذلك احتاروا في ترجمتها، وأصلها كلمة (سيكيولارزم) أي: الحاجة اللادينية المتعلقة بهذا العالم، بغض النظر أو مع إهمال أي عالم آخر، كعالم الآخرة أو العالم الغيبي، فهي تعني العالم الدنيوي الذي لا علاقة له بأي غيبيات أو آخره أو دين أو غير ذلك.
فلذلك اختلفوا في ترجمتها، ونحن نعلم أن القواميس الأولى التي وضعت إنما وضعها النصارى، وبعض القواميس تقول في ترجمة هذه الكلمة: اللادينية.
وهذا أدق التعابير عن معنى العلمانية، ومعنى اللادينية: رفض الدين.
ثم إن نسبة (العلمانية) نسبة غير قياسية، فكلمة (العلمانية) ليست مأخوذة من العلم، وإنما هي مأخوذة من العالم.
فينبغي أن نفوت عليهم الفرصة، فبدلاً من أن نستعملها بكسر العين الذي يخدعون الناس به، ويزعمون أن (العلمانية) مأخوذة من العلم نبين لهم أنها مأخوذة من كلمة العالم، بمعنى هذه الحياة الدنيوية.
فمعناها: الدنيوية أو اللادينية أو العالمانية، وهذا المصطلح هو أدق.
وبعضهم يقول: علينا أن نهجر استعمالها بلفظ (العلمانية) حتى لا نخدم أهداف أعداء الدين في نسبتها إلى العلم، وهي لا علاقة لها بالعلم على الإطلاق، بل هي في الحقيقة جهل؛ لأن الذي يجهل آيات الله سبحانه وتعالى سواء التكوينية أو التنزيلية ويعرض عن هداها ويدرس كل العلوم بغض النظر عن صانعها، وعن خالقها سبحانه وتعالى جاهل أشد الجهل بلا شك، وعلى هذا فهذه جهلانية وليست علمانية.
فمن أجل ذلك علينا أن نتحرى دائماً أن ننطقها (العالمانية) حتى تأخذ معناها الصحيح، وهو نسبتها إلى هذا العالم الدنيوي الذي يغفل ويهمل ويتجاهل العالم الأخروي أو العقيدة الدينية.
وبعض الشيوخ المشهورين تكلم في هذا الأمر، فسئل فأجاب وقال: إن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية.
لأنه يحسب أن العلمانية بمعنى العلم، و (العالمانية) أو (العلمانية) إنما هي بمعنى العالم، أي: الاقتصار فقط على الدنيا وعلى المادة، وإهمال جانب الغيبيات وجانب الآخرة وجوانب الدين كلها.
فانظر إلى قوله تعالى هنا: ((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) فهذا هو العلم الحقيقي الذي ينسب الفضل إلى صاحبه، وينسب الخلق إلى خالقه عز وجل.(55/5)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) الآية
يقول تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:98].
قوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) يعني آدم عليه السلام (فمستقر ومستودع) تُقرأ: (مستقَر) وتقرأ: (مستَقِر ومستودَع) بفتح الدال لا غير، أي أن الكسر والفتح هو فقط في كلمة (مستقِر) أما (مستودع) فبفتح الدال لا غير.
وقوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) يعني: فلكم استقرار واستيداع.
أو: موضع استقرار واستيداع.
وهذا الاستقرار إما في الأصلاب أو فوق الأرض؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24] يعني: على أنها مكان، أو في الأرحام؛ لقوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج:5] أو: (مستقر) في أصلاب الرجال و (مستودع) في أرحام النساء، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، يقول عز وجل: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6 - 7].
وهذا أمر معروف الآن في علم التشريح، وهو أن الغدة التي تخرج منها الحيوانات المنوية التي تكون سبباً في خلق الإنسان تكون موجودة أساساً بين الصلب والترائب، ثم بعد ذلك يحصل الهبوط لها إلى موضعها في أسفل الجذع، لكنها توجد بين الصلب والترائب ثم بعد ذلك تنزل.
فهذه -أيضاً- يعتبرونها من آيات الإعجاز العلمي، فقوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب) يعني: يخرج من الغدة والخصية التي تكون في هذا الموضع، ثم تنزل بعد ذلك حتى بعد أن يولد المولود.
فقوله: (فمستقر ومستودع) مستقر النطفة الصلب، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر، وإنما من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، ثم تخرج من صلب الرجل، فكأن هذا الشخص نفسه هو الذي استودعها في هذا الموضع.
أو يكون المعنى: تحت الأرض أو فوقها؛ فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرةً أخرى، يقول الشاعر: وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع وعلى قراءة: (فمستقِرٌ ومستودَع) يكون المعنى: منكم قار ومنكم مستودع.(55/6)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به)
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99].
ثم بين تبارك وتعالى وتعالى حجةً كبرى على كمال قدرته، ومنةً أخرى من مننه ونعمه، فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيء} [الأنعام:99].
قوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب.
لقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69]، و (المزن) السحاب، وسمى السحاب سماءً لأن العرب تسمي كل ما علا سماءً، فسماء الحجرة هو السقف، والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] وفي هذه الآية إشارة إلى حتمية نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لا يصدق هذا وكان يظن أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم ويعز دينه فليس له حل إلا أن يموت، وهذا مثل أن تقول لواحد: اذهب ومت، حيث لا توجد فائدة إلا كذلك.
فمن كان يظن أن الله لن ينصر محمداً ويعز دينه صلى الله عليه وسلم فلا يوجد أمامه غير أنه يموت؛ لأن هذا لن يقع.
فقوله: (فليمدد بسب) أي: ليربط حبلاً في السماء، والمراد: يربط الحبل في سقف الحجرة ويثبته حوله عنقه -بنفس نظرية الشنق- ويقف على الكرسي ويحرك الكرسي ثم يتدلى ثم ليقطع صلته بالأرض فيتدلى في الهواء، (فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) يعني: هو لا يكيد إلا نفسه، ولن يستطيع بهذا الظن أو بهذا الأمل في خذلان الإسلام أن يضر إلا نفسه.
فهذا منتهى كيده أنه يكيد نفسه، لكن لا يستطيع أبداً أن يعطل وعد الله بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: (فليمدد بسبب إلى السماء).
وكذلك هنا قوله: {(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام:99]، ففي لغة العرب كل ما علاك فهو سماء.
فقوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) هنا أسلوب بلاغي يسمى أسلوب التفات، وهذا التفات بشأن ما أنزل الماء لأجله، أي: فأخرجنا بعظمتنا ذلك الماء مع وحدته مَاءً نبات كل شيء، إشارة بهذا الالتفات إلى بيان كمال اعتناء الله سبحانه وتعالى بهذا الذي أخرجه من ماء واحد، ومع ذلك أخرج بماء واحد نبات كل شيء، أي: كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4].
وقوله: (فأخرجنا منه)، الهاء تعود على النبات في قوله: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ)) يعني: من النبات.
والمقصود: من أصول النبات (خضراً) أي: شيئاً غضاً أخضر.
يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة.
وقوله: (نخرج منه) صفة لـ (خضراً)، أي: نخرج من هذا الخضر (حباً متراكباً) أي: متراكماً بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز.
قال الرازي: ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.
ونحن نلاحظ هذا، فمن نظر إلى السنابل يجد فيها أشياء مثل الإبر حتى لا تأتي الطيور فتلتقط تلك الحبوب من السنبلة.
وهذا -أيضاً- علم عجيب جداً من العلوم، فمن كان يقرأ في هذه الأشياء والوسائل الدفاعية التي يزود الله سبحانه وتعالى بها الكائنات من أجل الحفاظ على بقائها وعلى حياتها؟! ومما سمعته من إخواننا الذين يشتغلون بزراعة التين أنهم يقولون: إن التينة ما لم تصل إلى استوائها ونضجها يوجد في أسفلها مادة لبنية تظهر إذا عصرت أسفلها، وهذه المادة اللبنية هي التي تحدث الشقوق والجروح في الشفتين وفي اللسان، فالذي يأكل تيناً كثيراً يحس أنه يوجد جرح في الشفتين وفي اللسان، فإذا استوت التينة لا توجد فيها هذه المادة، يقولون: كأن هذه عقوبة لمن يقطف الثمرة قبل أوانها.
فعليك أن تعرف ذلك، وأن تتجنب أكل الشيء قبل أن يستوي وينضج، ومن تعجل الثمرة قبل أوانها وقبل نضجها واستوائها فإنه يفيد حلقه ولسانه هذا الإفراز اللبني الموجود في أسفل التينة.
وهذا سمعته من الذين عندهم خبرة في زراعة التين، فهذا من الوسائل الدفاعية، حتى النبات يزوده الله سبحانه وتعالى بما يدفع عنه.
وبعض الحيوانات البحرية يفرز حبراً أسود إذا ما تعرض لخطر وهذه المادة تعكر الرؤية على العدو القادم الذي يريد أن يلتهمه أو يؤذيه، وهكذا العالم كله عجيب جداً، وكل هذا الذي نقوله من آيات الله عز وجل.
فبين تعالى ما يخرج عن النوى من الشجر فقال: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا)) يعني: متراكماً بعضه فوق بعض ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات فقال سبحانه: ((وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ)) أي: الطلع أول ما يبدو من ثمر النخيل، فإن أول ما يظهر من ثمر النخيل هو الطلع، يكون كالكيزان الذي فيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً، وهو القنو، وهو -أيضاً- العرجون بما فيه الشماريخ، وجمعه قنوان، والجمع والمثنى سواء، فالمثنى قنوان والجمع -أيضاً- قنوان، ولا يفرق بينهما إلا الإعراب.
و (دانية) بمعنى: ملتفة يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، ولذا اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها، أي: البعيدة، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] ولزيادة النعمة فيها؛ لأنه قال عز وجل هنا: ((وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ))، (دانية) أي: إما أنها قريبة من بعضها، وإما قريبة لمن يتناولها، ولذا يجدها دانية.
فهي تشمل الدانية والبعيدة، لكن لإظهار كمال النعمة اقتصر على ذكر الدانية، وإن كان السياق من حيث التفسير والمعنى يشمل -أيضاً- نعمة الله فيه البعيدة، لكن اقتصر على إحداهما لدلالة السياق عليه، كما اقتصر في قوله: (سرابيل تقيكم الحر) يعني: والبرد.
قوله: ((وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ)) عطف على: (نبات كل شيء) أي: وأخرجنا به جنات.
أو عطف على (خضراً).
(مشتبهاً وغير متشابه) حال من الزيتون، واكتفى به عن حال ما بعده، أو حال من الرمان لقربه، والمحذوف حال الأول.
قال الزمخشري: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا.
والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً، ولذلك قال هنا: (مشتبهاً) من فعل (اشتبه) (وغير متشابه) من الفعل (تشابه).
وقُرئ: (متشابهاً وغير متشابه)، والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها.
وقوله: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، انظروا كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به (وينعه) يعني: انظروا إليه في بداية خروج الثمر، وكيف يكون هذا الثمر ضئيلاً وضعيفاً، ثم انظروا إلى (ينعه) أي: إلى حال ينعه ونضجه، وكيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستفسار واستدلال، وليس المقصود أي نظر، ولا مجرد حاسة النظر المادي، وإنما المقصود التدبر والتفكر والاستبصار، ولا شك في أن الإنسان يعتبر بذلك.
ولو سألك أحد عن دليل توحيد الله سبحانه وتعالى وعظم قدرته وعمله عز وجل فافتح له ثمرة الرمان، وقل: هذه دليل الوحدانية وتأمل في العجائب في مثل هذه الثمرة، وهذا مجرد أنموذج، والقرآن يدلنا على ما هو أكثر من ذلك، فتأمل في خلق ثمرة الرمان، وبدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيها، سواء في منظرها، أو في مذاقها، أو في طريقة تركيبها، وحاول أن تعمل عقلك: كيف يخرج هذا من بين ماء وطين؟! و {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4] فانظر إلى هذه الثمار وتفكر فيها، والإنسان يعتقد أن ثمرة الرمان خاصة من أعظم ما يتجلى فيه عجيب صنع الله سبحانه وتعالى، فافتح مرة ثمرة الرمان لا لتأكلها ولكن لتتأمل فيها، ودقق في تراكب حباتها وعظم صنع الله سبحانه وتعالى فيها! يقول عز وجل: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) يعني: تأملوا حالة الثمر، سواء في بداية خروج الثمرة، وهي حالة الضعف؛ إذ لا يمكن أن ينتفع بهذه الثمرة، أو إلى حالة ينعها، وهي حالة النضج، وكيف ينتقل إلى هذه المرحلة من النضج والاستواء والانتفاع والملاذ.
والمقصود: انظروا نظر اعتبار واستدلال على توحيد الله وقدرته، وعلى وقع الرحمة والحكمة من حال إلى حال، فإن في ذلك آيات عظيمة دالةٍ على ذلك، كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فلا ينظر نظر اعتبار واستدلال على قدرة الله إلا هؤلاء العقلاء الذين يؤمنون، يعني: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم.
وقوله: (إن في ذلكم لآيات لقومٍ يؤمنون) يعني: يؤمنون بأن بالذي يخرج هذا الثمار هو الله وحده الذي يستحق العبادة، أو (يؤمنون) أي: يستدلون بها على البعث والن(55/7)
أشرف أنواع الأشجار
وقد تكلم هنا -أيضاً- الرازي بكلام يبخل الإنسان بأن يتجاوزه، يقول: اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل، والعنب، والزيتون، والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، ولذلك قدم الزرع أولاً، ثم تكلم عن الشجر، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهةً في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر تظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعدها يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، وهو من ألذ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، فيمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن أن يذكروها إلا في المجلدات، وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة، فثبت أن العنب سلطان الفواكه.
وأما الزيتون فهو -أيضاً- كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل -أيضاً- عنه دهن كثيف عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمالات.
وأما الرمان فحاله عجيب جداً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه، أما الأقسام الثلاثة الأول -وهي: القشر والشحم والعجم- فكلها باردة يابسة قابضة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبةً للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغيرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي.(55/8)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن)
قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100].
ولما ذكر تعالى هذه البراهين من دلائل العالم العلوي والسفلي على عظيم قدرته، وباهر حكمته، ووافر نعمته، واستحقاقه للألوهية وحده عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه، فقال عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100].
ونحن نعلم أن من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية التركيز على آيات توحيد الربوبية، حتى تكون دليلاً ومقدمة لدعوة الناس إلى توحيد الإلهية، والسورة كلها هي في الدعوة إلى توحيد الإلهية، وأما ما فيها من آيات الربوبية فهو يقود مباشرةً إلى توحيد الإلهية.
قوله: (وجعلوا لله شركاء الجن) أي: جعلوهم شركاءه في العبادة.
فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ أي أن هؤلاء القوم كانوا يعبدون الأصنام، فكيف اتخذوا الجن شركاء من دون الله؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم بذلك، فالذين أمروهم بعبادة الأصنام هم الجن، كما في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:117 - 119] فكل المعاصي -سواء أكانت الكفر، أم ما دون الكفر- الآمر بها في الحقيقة هو الشيطان، كما في هذه الآية، وكقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50]، وقال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44] لأن الذي يأمر بالشرك وعبادة الأصنام هو الشيطان، ووالد إبراهيم كان يعبد الأصنام، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74] إذاً: كان يعبد الأصنام يتخذها آلهةً، وهو ظاهر الآية الكريمة، فمن الذي أمر بذلك؟ إنه الشيطان، ولأن الشيطان هو الذي يأمر بهذا الشرك، فالذي يفعل هذه المظاهر من الإشراك يكون عابداً في الحقيقة للشيطان وأوليائه وأتباعه وذريته من الجن، ولذلك قال هنا: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ)) كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].
ولو أتيت إلى النصراني أو اليهودي أو المجوسي وقلت له: أنت تعبد الشيطان فربما استنكر منك ذلك جداً، ولقال اليهودي: أنا أعبد الله.
أي: حسب تصوره، ولقال النصراني: أنا أعبد المسيح.
وهكذا كل واحد يحاول أن يدافع عن المنهج الذي اختصه، لكن إنما هم في الحقيقة عابدون للشيطان؛ لأنه هو الذي يزين لهم ذلك، وهو الذي يأمرهم به.
قوله: (وأن اعبدوني) يعني: وحدي.
وقد ظهر في هذه الأزمان عجائب الفتن من عبادة الشيطان صراحةً في أوروبا وفي أمريكا، فيعبد الشيطان هناك صراحةً، ويتكلمون عن بطولة الشيطان، وعلى أنه هو الإله والعياذ بالله! وقبل هذا كانت هذه القضية مغطاة، وكنت إذا قلت لأحدهم: أنت تعبد الشيطان ينكر عليك ذلك، أما الآن فيعبد الشيطان صراحةً، حيث توجد معابد رسمية لعبدة الشيطان، ويمارسون كل الطقوس الشركية المعروفة عنهم والجرائم التي يفعلونها، ويسمون رسمياً بعبدة الشيطان، ولهم معابدهم، ولهم فرقهم والعياذ بالله! ويوجد ممن يسمون بالأدباء عندنا هنا -أيضاً- من يدافع عن إبليس، ويظن أنه بطل في الروايات ونحو هذه الأشياء التي يسمونها تحفاً أدبية، وفيها -أيضاً- تقديس للشيطان ودفاع عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ذكر الله سبحانه أن الملائكة تقول يوم القيامة: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41].
والشيطان معروف أنه أصل الجن، فمن ثمَّ قال تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ))، وإعراب قوله تعالى: (وخلقهم) أنه حال من فعل (جعلوا) مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها، يعني: والحال أنهم يعلمون أن الله هو الذي خلقها.
أي أنهم عبدوا الجن مع أنهم يعلمون أن الله هو الذي خلق الجن، وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن، وليس من يخلق كمن لا يخلق.
وقيل: الضمير للشركاء أي: والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟! وهذا كقول إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96] فانظر إلى الوقف هنا: (أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) فعلى أحد التفسيرين: خلقكم وأعمالكم.
والتفسير الآخر: (خلقكم وما تعملون) من هذه الأصنام؛ وفي الحديث: (إن الله صنع كل صانع وصنعته) فإذا كان هو المستقل بالخلق وجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له، وقيل: المراد بالجن الملائكة.
فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم: بنات الله.
وكلا الأمرين موجب للشريك، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الإلهية.
فقوله: (وجعلوا لله شركاء الجن) قيل: هم الملائكة.
فإذا كان المقصود الملائكة فلماذا عبدوا الملائكة وجعلوهم شركاء من دون الله عز وجل؟!
الجواب
لأنهم قالوا: إنما يستعان بالله سبحانه وتعالى عن طريقهم.
أو قالوا: إن الملائكة -والعياذ بالله- بنات الله! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وأما تسمية الملائكة جناً فهذه تسمية حقيقية وليست مجازاً؛ لأن لفظ الجن يشمل الملائكة لغةً؛ لأن الملائكة يخفون ولا يظهرون، ولذلك فإن الآية التي في سورة الكهف، وهي قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ذهب فيها بعض المفسرين إلى قول مرجوح، فقال: الجن نوع من الملائكة.
أو أن طائفة من الملائكة تسمى جناً، والله تعالى أعلم.
والراجح أن إبليس ليس من الملائكة.
قوله: (وخلقهم) إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً.
وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم، بل هو محدث، وإذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث له خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى، ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذٍ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد، فإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا: لابد من إلهين.
فسقط قولهم: إن هناك إلهين: إلهاً قديماً وإلهاً محدثاً، والعياذ بالله.
فقوله: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم) يعني: اتخذوهم شركاء مع أنهم يعلمون أن الله خلقهم، أي: خلق العابدين أو خلق الشركاء أنفسهم (وخرقوا له) يعني: اختلقوا وافتروا له (بنين) وهذا كقول أهل الكتابين في المسيح وفي عزير، وهو -أيضاً- كقول بعض العرب في الملائكة، ولذا قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، وبعض الناس تذهب عقولهم مباشرة في هذه الآية إلى النصارى فقط، وينسون أنها كذلك في غير النصارى الذين قالوا: اتخذ الله ولداً.
فاليهود قالوا: عزير ابن الله.
والنصارى قالوا: المسيح ابن الله.
والمشركون قالوا: إن الملائكة بنات الله.
فكلمة ولد تشمل الذكر والأنثى.
فقوله: (وخرقوا) أي: اخترقوا واختلقوا وافتروا له (بنين وبنات بغير علم)، يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه.
وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبةً في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله.
يعني: اختلقها وافتراها.
ويجوز أن يكون من (خرق الثوب)، إذا شقه، أي: اشتقوا له بنين وبنات.
وقُرئ: (وخرَّقوا له بنين وبنات بغير علم) وهذا للتكثير.
وقوله: (بغير علم) أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رمياً بقول عن عمىً وجهالة من غير فكرٍ وروية، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقدر قدره، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جُزم به وقام عليه الدليل.
ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله سبحانه وتعالى: (سبحانه وتعالى عما يصفون) يعني: من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد.(55/9)
تفسير قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة)
ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترءوا عليه بوجوه أربعة، بدأ منها بقوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:101].
قوله: (بديع السموات والأرض) أي: مبدعهما بلا مثال سابق.
يعني: يبدع ويحدث شيئاً لا نظير له من قبل، يقال: هذا شيء بديع، أي: لم يسبقه مثله في حسنه.
وقيل: بمعنى عجيب النظير فيهما.
قال أبو السعود: والأول هو الوجه، والمعنى أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة، فهو سبحانه فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال بالمرة، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟! يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أبدع أقطار كل ما في العالم العلوي والسفلي من غير أن يكون له نظير من قبل أو مثال سابق، وخلق كل هذه الكائنات في السماوات وفي الأرض بلا مادة، فهو فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال بالمرة، أي: يحدث الأثر في غيره ولا يؤثر فيه سبحانه وتعالى شيء، فلا ينفعل بشيء، وإنما يفعل هو ويدبر ويصرف أحوال خلقه.
ومعروف أن الوالد عنصر الولد، فالوالد هو العنصر الأساسي الذي يخرج منه الولد منفعلاً بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد تبارك وتعالى؟! ولذا قال: ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)) يعني: من أين وكيف يكون له ولد كما زعموا، والحال أنه ليس له على زعمهم -أيضاً- صاحبة يكون الولد منها، ويستحيل ضرورةً وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد، وأيضاً الولد لا يحصل إلا بين متجانسين، ولا مجانس له تعالى.
وقوله: (أنى يكون له ولد) هذه جملة مستأنفة لتقرير تنزهه عن الولد، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة، فقوله: (ولم تكن له صاحبة) جملة حالية، والمقصود منها تأكيد استحالة أن يكون لله تعالى ولد.
وقوله: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) يعني: أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء وانتظمه، وأوجد الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً له تعالى؟! فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه؟! فإذا كان الله سبحانه خالق كل شيء فهذا الولد سيكون من هذه الأشياء المخلوقة له عز وجل، فكيف يكون المخلوق ولداً لخالقه؟! وقوله: (وهو بكل شيء عليم) أي: مبالغ في العلم أزلاً وأبداً.
فهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء، أي أنه سبحانه عالم بكل المعلومات، فلو كان له ولد فلابد من أن يتصف بصفاته، ومنها عموم العلم، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع، وهذا الذي يدعونه ولداً ليس بهذه الصفة؛ فإنه سبحانه وتعالى الذي ينفرد بكونه بكل شيءٍ عليم.(55/10)
تفسير سورة الأنعام [102 - 110](56/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء)
قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102].
هذه الآية كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:101].
قوله تعالى: (ذلكم) أي: الموصوف بما سبق، البعيد رتبة عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة، (ذلكم) الإله المنزه عن أن يكون له شريك، وعن أن يكون له ولد، (ذلكم الله ربكم) يعني: ذلكم الموصوف هو الله ربكم (لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) يعني: بالإيمان به وحده.
والمقصود: فاعبدوه وحده بلا شريك؛ فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده.
وقوله: (وهو على كل شيء وكيل) أي: رقيب وحفيظ، يدبر كل الخلق ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.(56/2)
تفسير قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)
قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
قوله: (لا تدركه الأبصار) هذه جملة مستأنفة، إما أنها مؤكدة لقوله تعالى: (وهو على كل شيء وكيل) وذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يُرى فليحذر، أي: أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء وكيل، أي: رقيب وحفيظ من حيث لا يُرى، أي أنه يراكم ويرى أعمالكم ويراقبكم، وأنتم لا ترونه.
فقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) مؤكد لقوله: (وهو على كل شيءٍ وكيل) فهو رقيب من حيث لا يُرى، فينبغي الحذر منه سبحانه وتعالى.
وإما أنها مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد، وذلك ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة، يعني: أبصار أهل الدنيا لا تراه؛ لجلاله وكبريائه وعظمته، فإذا كان الله سبحانه وتعالى بهذه العظمة والتنزه والتعالي فكيف ينسب إليه هذه العظيمة التي هي نسبة الولد والشريك إليه؟! فالله سبحانه وتعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)؛ لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته، فالخلقة التي خلق الله عليها أهل الدنيا -خاصة أبصارهم- لا تؤهلهم لأن يروا الله عز وجل، فبالخلقة التي خلقنا عليها نحن لا نطيق رؤية الله عز وجل، ولذلك قال هنا: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، فعجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا هو بسبب ضعف نشأة هذه الدار، إلا لمن أمده الله بالقوة، وهذا بخلاف نشأة الآخرة؛ فإن المؤمنين والكافرين أيضاً تعاد نشأتهم من جديد في الآخرة، فالصفات والطاقات والقدرات لمن يخلقه الله سبحانه وتعالى في الآخرة تختلف تماماً عما هو عليه الحال في الدنيا.
فمثلاً: قامة الإنسان وصورته وحجم أعضائه كل ذلك يتفاوت تماماً، فكل أهل الجنة يعاد خلقهم من جديد على صورة أبيهم آدم، وآدم كان طوله في السماء ستين ذراعاً، أي: ما يساوي عمارة الآن ارتفاعها خمسة عشر طابقاً، فهذا كان طول آدم عليه السلام، فكذلك أهل الجنة يدخلون على نفس هذه الصورة التي خلق عليها آدم عليه السلام، وقد صح في الأحاديث -أيضاً- أن ضرس الكافر في جهنم مثل جبل أحد، أي: الضرس الذي في فمه يكون مثل جبل أحد، وطول جبل أحد قرابة ستة كيلو مترات، فلك أن تتخيل كم يتضاعف إحساسه بالآلام وبالعذاب والعياذ بالله! فقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (أل) هنا للعهد، يعني الأبصار المعهودة في الدنيا، وليست الأبصار مطلقاً؛ لأن أبصار أهل الجنة ترى الله سبحانه وتعالى، فالأبصار هنا الأبصار المعهودة التي نعرفها التي هي أبصار أهل الدنيا، فإنها لا تدرك الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأحداق ما دامت على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
والله سبحانه وتعالى يرى كل المخلوقات لا يغيب عنه شيء.
فبالنسبة لنا -نحن المخلوقين- هناك غيب وهناك شهادة، أما الله سبحانه وتعالى فكل شيءٍ عنده شهادة، فلا يغيب عن الله شيء أبداً، فحجابه النور، ولو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، أي: لاحترقت كل الكائنات لو كشف هذا الحجاب؛ لأنها لا تطيق ولا تتحمل رؤية الله عز وجل في الدنيا.
قال ابن كثير: وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤيا فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال: يا موسى! إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده.
يعني: تحطم واندك.
قال عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: في الدنيا، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، يعني: انظر هذا الجبل مع عظمته وضخامته ومتانته فإنه لا يتماسك إذا تجلى له الله سبحانه وتعالى {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] يعني: أنا أول المصدقين والمؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا، وإنما يُرى الله عز وجل في الآخرة.
فالمنفي من الإدراك في هذه الدنيا هو الإدارك الدنيوي خاصة، ولا يحتاج إلى حجة ولا برهان، فقوله: (لاتدركه الأبصار) ليس مطلقاً، وإنما المقصود الأبصار المعهودة عند أهل الدنيا، فهي التي لا تدرك الله سبحانه وتعالى، (وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).
لكن بعض الفرق كالمعتزلة فهموا من هذه الآية: أن المنفي هو الإدراك في النشأتين، فقالوا: لا تدركه الأبصار لا في هذه النشأة في الدنيا ولا في الآخرة أيضاً؛ ولذلك ججدوا رؤية الله في الآخرة، فمن نحى هذا المنحى فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة.
أما الكتاب: فمثل قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] فلما أتبعها بـ (إلى) عين أن المقصود هو رؤية حقيقية، وأنها تنظر إلى الله سبحانه وتعالى في الجنة.
وقال تبارك وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35].
قيل: المزيد هو روية الله عز وجل في الجنة.
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقد صح أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل.
وقال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فعوقبوا بالحجاب عن رؤية الله عز وجل، أما المؤمنون فقال تعالى عنهم: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] يعني: ينظرون إلى الله سبحانه وتعالى.
وأما السنة فالأحاديث متواترة عن عدد كبير جداً من الصحابة الذين أثبتوا في أحاديثهم رؤية الله في الآخرة، فمن السنة ما رواه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري ومسلم قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صالة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]) وليس المقصود من التشبيه تشبيه المرأي بالمرأي، وإنما تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه هو شدة الوضوح، فليس المقصود من هذا الحديث تشبيه الله عز وجل بالقمر، معاذ الله! إذ كيف يشبه الله بالقمر؟! وإنما المقصود بقوله: كما ترون هذا القمر)، أن القمر كان بدراً منيراً في السماء ولا سحاب دونه، يعني أن رؤية الله في الآخرة ستكون كرؤيتكم القمر في الدنيا في شدة الوضوح، أما كيفية رؤية الله فالله أعلم كيف ستكون.
لكن المقصود هنا تشبيه الرؤية بالرؤية، أي: تشبيه رؤية الله في الآخرة برؤية القمر في الدنيا، ووجه الشبه هو شدة الوضوح.
وقوله: (إنكم سترون ربكم) خطاب للمؤمنين.
وقوله: (لا تضامون) بتشديد الميم، من الانضمام؛ لأن الناس إذا أرادوا أن يروا شيئاً غير واضح فإنه ينضم بعضهم إلى بعض كي تقوى الشهادة بما يرونه، فترى أحدهم يقول: انظر فأنا أرى.
فيأتي آخر فينضم إليه لكي يرى، وينضم بعضهم إلى بعض لكون الشيء الذي يرونه ليس واضحاً.
فمثلاً: رؤية الهلال في أول الشهر، ربما احتاج الناس إلى أن ينضم بعضهم إلى بعض؛ لأنه يكون دقيقاً جداً في السماء، بحيث يمكن أن لا يرى، فلذلك قد يتضامون، أي: ينضم بعضهم إلى بعض حتى يؤكد الواحد منهم ما يراه الآخر إن سبق عدم وضوح المرئي.
أو أن المعنى (لا تضامون في رؤيته) من الضيم الذي هو الظلم، يعني: لا يظلم بعضكم بعضاً بحيث يرى البعض والبعض الآخر لا يرى، فهذان الاحتمالان كلاهما ينفيان عدم وضوح رؤية الله في الآخرة، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) أي: لا تحتاجون للانضمام، ولا يظلم بعضكم بعضاً، فيرى بعضكم وبعضكم لا يرى، وذلك لشدة الوضوح.
قال: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا.
ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]).
قال ابن كثير: تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأدلته -يعني: في القرآن والسنة- طافحة بوقع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا، إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم.
يعني: حصل الاختلاف حول رؤية الله في الدنيا في حق الرسول عليه الصلاة والسلام: هل وقعت أم لا.
قال ابن كثير: كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية.
فـ عائشة كانت تستدل بهذه الآية، وهي قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ(56/3)
نفي وجود التعارض بين نفي الإدراك وإثبات الرؤية
وهذا الكلام الذي مضى في الآية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إنما هو بناء على أن نفي الإدراك هنا هو بمعنى الرؤية، فإذا نفينا وقلنا: (لا تدركه الأبصار) بمعنى: لا تراه الأبصار فنحن نقول: الأبصار المعهودة هنا في دار الدنيا.
وهناك قول آخر قاله فريق آخر من العلماء، وهو أنهم قالوا: إنه لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ لأن الإدراك ليس المقصود به مطلق الرؤية.
وقالوا: (لا تدركه الأبصار) الإدراك معناه الإحاطة ومعرفة الكنه، فهذا نفي الحقيقة، وهو ثابت، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ إذ لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى أبداً، ولذلك قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
يقول ابن كثير: وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم.
ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو، فقيل: الإدراك المنفي هو معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو.
أي: حتى لو رأى المؤمنون ربهم فإنهم لا يحيطون بالله علماً، ولا يدركون كنه الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة، لكن لا يعني ذلك أنهم يحيطون به علماً، أو أنهم يدركونه إدراك إحاطة، أي: لا يعرفون حقيقته وكنهه عز وجل، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فإذا قلت: نحن نرى القمر فهل معنى ذلك أنك تحيط علماً بالقمر؟! والجواب أن هذا لا يعني أنك تعرف تفاصيل القمر، بل العكس، فنحن لا نرى للقمر إلا جهة واحدة فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك، وهو أولى بذلك، وله المثل الأعلى، فنحن نرى القمر، لكن لا نحيط به، فمن باب أولى أن المؤمنين حتى لو رأوا الله فليس معناه أنهم يحيطون به، أي: لا يدركون كنه الله عز وجل وحقيقته.
وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، فالإدراك بمعنى الإحاطة.
وقالوا: لا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فهل كوننا لا نحيط بالله علماً أننا لا نعلم شيئاً عن الله؟!
و
الجواب
لا؛ بل نحن نعلم من صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله ما بلغنا عن طريق الوحي، ونحن نعلم هذه الأشياء الخاصة التي جاءتنا عن طريق الوحي، لكن هل معنى ذلك أننا نحيط بالله علماً؟
الجواب
لا، فلا يتعارض كوننا لا نحيط بالله علماً مع كوننا نعلم بعض صفات الله سبحانه وتعالى، حتى أسماء الله لا نعرفها جميعاً، بل من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه.
فكما يثبت لنا العلم بالله مع عدم الإحاطة كذلك يثبت للمؤمنين رؤية الله في الآخرة مع عدم الإدراك، فقوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: لا تحيط به الأبصار.
ومثال ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) يعني: لا أستطيع أن أوفيك حقك من الثناء، فهل كونه لا يحيط بالثناء أو لا يستوفي كل ما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء هل هذا ينفي أنه أثنى على الله؟! الجواب: بل هو يثني على الله، لكن بدون أن يحيط بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء، ولذلك قال: (لا أحصي ثناءً عليك) فنفى إحصاء الثناء، وهذا لا يتعارض مع ثبوت ثنائه على الله، فكذلك هاهنا.
وقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي أنه يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، ولا يخفى عليه شيء منها.
وقوله: (وهو اللطيف) أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة.
وقوله: (الخبير) أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها أو جليلاتها.
ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها، كنوع من اللف والنشر، فـ (لا تدركه الأبصار) لأنه اللطيف (وهو يدرك الأبصار) لأنه الخبير.
فجاءت هكذا (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فاللطيف متعلق بقوله: (لا تدركه الأبصار) والخبير متعلق بقوله: (وهو يدرك الأبصار).(56/4)
تفسير قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه)
قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104].
قول الله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم) يعني: الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة.
والبصائر جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به، ويجوز أن يكون المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، والمقصود به النور.
فهناك نور يستبصر به القلب، ويعبر عنه بكلمة (بصيرة القلب) كما أن البصر نور تستبصر به العين، فالنور الذي ترى به العين هو البصر، فهناك البصر وهناك البصيرة، فما تعلق برؤية العين فهو البصر، وما تعلق برؤية القلب فهو البصيرة.
وقوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر) يعني: من أبصر الحق بتلك البصائر وآمن به (فلنفسه)، يعني: فلنفسه أبصر؛ لأن نفع ذلك لها يعود على نفسه.
وقوله: (ومن عمي) أي: من ضل عن الحق (فعليها)، ولا شك في أن التعبير عن الضلالة عن الحق بالعمى تقبيح لهذا الضلال وتنفير عنه.
والمقصود بالعمى هنا عمى القلب؛ لأن الكلام هنا عن البصائر وليس عن الأبصار، وقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فكم من رجل له عينان حادتان مبصرتان ولكن لا بصيرة له، ولكنه أعمى القلب! وكم من رجل أعمى لا يرى بعينه لكن عنده بصيرة يرى بقلبه الحق ويهتدي إليه! قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، فالكلام هنا هو عن عمى القلب وليس عن عمى البصر، والآية هنا تتكلم عن البصائر التي هي نور القلب الذي يبصر القلب به الحق.
ولذلك قال: (فمن أبصر) يعني: أبصر الحق بهذه البصائر فلنفسه (ومن عمي) يعني: ضل عن الحق (فعليها) وقد أشرنا أنه قبح الضلال عن الحق بأن وصفه بالعمى.
وقوله: (فعليها) يعني: فعلى نفسه عمي، وإياها ضر بالعمى.
وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) أي: برقيب يرقبكم ويحفظكم عن الضلال، بل أنا منذر، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.(56/5)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:105].
قوله: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، أي: ننوع الآيات ونوردها بصورة وبأخرى حتى نقيم الحجج والدلائل، وكذلك نصرف الآيات ونوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع لتكمل الحجة على المخالفين.
وقوله: (وليقولوا درست) أي: وليقولوا في ردها: درست.
وليقولوا في محاولة إبطالهم هذه الآيات التي نصرفها: درست أي: ليس هذا وحياً أوحاه الله إليك، وإنما أنت حصلت على هذه العلم عن طريق المدارسة، وتعلمته من غيرك، وقرأته على غيرك وحفظت منه أخبار من مضى.
فكأن العلم الذي يحدث به النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يعزوه إلى العلم الكسبي، وحقيقة الأمر أن العلم الذي أوتيه الرسول هو علم وهبي وهبه الله سبحانه وتعالى له بالوحي، وعلمه الله إياه بالوحي، كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].
وهذه الآية هي كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن هؤلاء الكافرين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة: إذا أكثر قراءته وذل له حفظه.
قال ابن عباس: (وليقولوا درست) يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن يقولون: درست.
يعني: تعلمت من يسار وخير -وكانا عبدين من سبي الروم- ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله.
وقال الفراء: معنى (درست): تعلمت هذا العلم من اليهود.
وما زال الكفار إلى الآن -وكأنهم قد تواصوا بهذه الفرية- يقولون: إن القرآن عبارة عن صدى للتوراة والإنجيل.
وهذا من جهلهم وكذبهم على الله سبحانه وتعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يصوغ لهم الشيطان ما هم عليه من الكفر بالقرآن الكريم، فيتواصون بهذه العبارة، وينصح بعضهم بعضاً بها، ويرددونها كالببغاوات، لكن عند التمحيص بأدنى قدر من العقل والبصيرة يثبت أن هذا كذب وافتراء، والأمر بالعكس، فالقرآن مهيمن على ما في هذه الكتب وحاكم عليه، وشتان ما بين القرآن وبين هذين الكتابين المحرفين.
وقُرئ: (وليقولوا دارستَ) بالألف وفتح التاء، يعني: دارست غيرك ممن يعلم أخبار الأمم الماضية.
وهذا كقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، أي أنهم كانوا يزعمون أن الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن هو بشر أعجمي من الروم، فالله سبحانه أبطل قولهم بقوله: (لسان الذي يلحدون إليه) أي: هذا الشخص الذي يشيرون إليه ويميلون إلى أنه هو الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام هو رجل أعجمي عيي لا يعرف العربية الفصحى (وهذا لسان عربي مبين) فالقرآن في أعلى قمة الفصاحة والبلاغة، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان هذا أعجمياً عيياً لا يعرف العربية الفصحى فكيف يتسنى له أن يأتي بمثل هذا القرآن العربي المبين؟! وقُرئ أيضاً: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دَرَسَت) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع.
كما قالوا: (أساطير الأولين).
وهذه القراءات الثلاث متواترة، وهي (وليقولوا دَرَسْتَ) (وليقولوا دَارَسْتَ) (وليقولوا دَرَسَتَ) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع.
وقُرئ في قراءة شاذة: (وليقولوا دُرست) على البناء للمجهول.
أي: تليت وعفيت تلك الآيات.
وقرئ أيضاً: (درَّست) مشدداً معلوماً، وتشديده للتكثير أو للتعبية، يعني: درست غيرك الكتب.
وقُرئ مشدداً مجهولاً: (وليقولوا دُرِّسَت).
وقُرئ: (دورست) مجهول دارس، ودارست.
وقُرئ: (درُسَت) وكل هذه قراءات شاذة، أما القراءات المتواترة فهي الثلاث الأول.
وقوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: نبين القرآن الكريم.
وإن لم يجر له ذكر؛ لكونه معلوماً صريح السياق، فلم يرد فيه ذكر القرآن الكريم، لكن جاز التعبير عنه بالضمير (ولنبينه) لأنه يفهم من السياق أن الكلام إنما هو عن القرآن الكريم.
(لقوم يعلمون) أي: يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه.
وقيل: إن اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) لام العاقبة، واللام الثانية في قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) بمعنى (كي) أي: وكي نبينه لقوم يعلمون.
أي أنها لام تعليل.
أما اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) فهي لام العاقبة، أو لام الصيرورة، أي: لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا: (درست).
فيقول تعالى: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: لتكون الحجة على المخالفين، (وليقولوا) في ردها: (درست).
فهل الله سبحانه وتعالى يصرف الآيات لسبب أن يقولوا: (درست)؟
الجواب
كلا، بل هو يصرف الآيات ليبينها لقوم يعلمون، ولكن آل أمرهم إلى أن يقولوا: (درست)، وهذا مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] فهل آل فرعون حينما التقطوا موسى كانوا يريدون بذلك أن يكون لهم موسى عدواً وحزناً؟
الجواب
العكس هو الحاصل، فقد قالت زوجة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى عداوة موسى عليه السلام، فاللام هنا لام العاقبة أو لام الصيرورة، وليست لام التعليل.
فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: (درست) ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، فشبه به.
قال الخفاجي: وجوز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره.
أي أن اللام في (وليقولوا درست) هي على الحقيقة وليست لام الصيرورة أو العاقبة، يعني أنها لام تعليل.
قالوا: لأن نزول الآيات هو لإضلال الأشقياء وهداية السعداء، كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26].
وقال الرازي: حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز، وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز، ولأن المراد منه هو عين المذكور في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26].
قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: أنه ما بينه إلا لهؤلاء، فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بياناً لهم ثبت جعله ضلالاً لهم، فما لم يكن بياناً فإنه يكون ضلالاً لهم، ويضلون بأن يقولوا: (درست) ويكفروا به.
فقوله: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) اللام الثانية معروف أنها لام الحقيقة، أما اللام في: (وليقولوا درست) فمن قائل: إنها لام الصيرورة والعاقبة، ومن قائل: إنها لام الحقيقة كالتي في قوله تعالى: (ولنبينه لقوم يعلمون) فهؤلاء هم الذين يبين لهم الآيات، أما الأولون الذين سيقولون: (درست) فهم يضلون بهذه الآيات، ويزدادون بها كفراً وعناداً.(56/6)
تفسير قوله تعالى: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو)
قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
ولما حكى تعالى عن المشركين قبحهم في تصريف الآيات أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه تقوية لقلبه وإزالة لما يحزنه، فقال عز وجل: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
أي: أعرض عن هؤلاء الذين يقولون: (درست) ويردون الحق، واشتغل بما كلفت به.
قوله: (اتبع ما أوحي إليك من ربك) يعني: من تبليغ الرسالة التي هي الآيات المصرفة مبالغة في إلزام الحجة.
وقوله: (لا إله إلا هو) هذه الجملة اعتراضية أكد بها إيجاب الاتباع في قوله: (اتبع ما أوحي إليك من ربك) أو أنها حال مؤكدة.
وقوله: (من ربك) يعني: منفرداً في الإلهية، فكأن (لا إله إلا هو) حال من (ربك) يعني: منفرداً في الإلهية.
وقوله: (وأعرض عن المشركين) قال أبو مسلم: أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار وترك الموعظة، وليس المقصود من قوله: (وأعرض عن المشركين) أنك لا تنذرهم ولا تعظهم, وإنما المقصود: أعرض عنهم {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10] وليس معناها: أعرض عن نذارتهم وإبلاغهم الحق وإقامة الحجة عليهم، كلا؛ فإن هذا مستمر، لكن أعرض عن المشركين إما عن سفاهتهم وجهلهم وما يؤذونك به، وإما بهجرانهم ونبذهم، لكن لا يمكن حمل الآية: (أعرض عن المشركين) على معنى: لا تبلغهم الحق ولا تنذرهم.
قال المهايمي: (وأعرض عن المشركين) أي: لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر، فلا تحزن عليهم، ولا تهلك نفسك من الحسرة والحزن عليهم لإعراضهم عنك وعن الحق.
فهذه مواساة من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يقول له: إني أردت بقاءهم على الشرك والعمى؛ لأن استعدادهم يقتضي ذلك، فطينتهم طينة خبيثة ترفض الحق، واستعدادهم يميل إلى الشر، فلم يرد الله سبحانه وتعالى بهم خيراً، ولم ييسرهم اليسرى، فأعرض عنهم فإنه لا ينفع فيهم شفقتك وحرصك عليهم.(56/7)
تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً)
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107].
قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) يعني: مع وجود الاستعداد للكفر في قلوبهم، فلو أن الله شاء أن يهتدوا وأنلا يشركوا مع وجود الاستعداد للشرك فيهم فإن مشيئة الله نافذة، لكن الحقيقة أن سنة الله جرت لرعاية هذا الاستعداد الذي في قلوبهم.
وقوله: (وما جعلناك عليهم حفيظاً) أي: هم وإن كان لهم استعداد للإيمان في فطرتهم فقد أبطلوا هذا الاستعداد، فأنت وإن كنت داعياً إلى إصلاح الاستعداد الفطري فما جعلناك متولياً عليهم تحفظ مصالحهم حتى تكون مصلحاً لاستعدادهم الفطري.
وقوله: (وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل) أي: ما أنت بوكيل تدبر عليهم أمورهم، أو تغيرهم من استعدادهم إلى استعداد آخر، بل هذا مفوض إلى الله تعالى يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعي لهم من غير تغيير له، بل هو مفوض إلى اختيارهم.
وفي قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) دليل على أن الله تعالى لا يريد إيمان الكافر، لا بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يمنعه عن الإيمان مع توجهه إليه، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه؛ لعدم ترك اختياره الجزئي نحو الإيمان وإصراره على الكفر.
أي أن الله تعالى يكله إلى نفسه ويخذله ولا يمده بالتوفيق والهداية إلى الحق، فإذا وكل إلى نفسه لا يأتي منها إلا الشر.
وقوله تعالى أيضاً: (ولو شاء الله ما أشركوا) أي: كل ما يقع فإنما يقع بمشيئة الله، ولا شك في أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك وأسباب ذلك من تعليم الأذى والعادات وغيرها واقعة بإرادة من الله، وإلا لم تقع؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد، فإن آمنوا بذلك فبهداية الله، وإلا فهون على نفسك؛ فما جعلناك تحفظهم عن الضلال، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان.
وهل قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) يتنافى مع ما عيرهم به فيما بعد من قوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]؟ وهل هذا يتعارض مع ذاك؟
الجواب
مستحيل أن يتعارض القرآن بعضه مع بعض، وإنما المقصود بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] أنهم قالوا ذلك احتجاجاً بالقدر في منع الشرك؛ لأنهم لو قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] على سبيل الاعتراف أو الإقرار بالقضاء والقدر لكان هذا شيئاً حسناً منهم، فإن قصدوا ذلك فهذا معنى محمود وصحيح؛ لأن كل شيء يجري بمشيئة الله، لكنهم ما أرادوا هذا، وإنما ساقوا هذه العبارة (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) للاحتجاج بالقدر، وليس لإثبات القدر.
والقدر نحن نثبته ونقر به، لكن لا نحتج به على إبطال الشرع، وهذا كما في قوله تعالى في سورة يس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] أي: لو شاء الله أن يطعم هؤلاء الفقراء لأطعمهم، أي: أن ربنا شاء أن هؤلاء الفقراء يجوعون ويعرون ويفتقرون، فهل نغير ما شاءه الله؟! وكأنهم بهذا يثبتون القدر، لكن أليس الله قد شرع الشرائع وأمر بأوامر وتكليفات؟
الجواب
بلى، فقد أمركم أن تنفقوا على الفقراء، وأن تتصدقوا عليهم، فلماذا تضربون الشرع بالقدر؟ فالمؤمن يؤمن بالقدر لكن لا يحتج به، وإنما يحتج بالقدر في المصائب فقط، أي أن الاحتجاج بالقدر لا يكون إلا في المصائب التي تقع على الإنسان رغماً عنه بلا تسبب منه فيها ولا أسباب يستطيع أن يباشرها، فمثل هذا يحتج بالقدر، ولذلك تقول فيما فاتك مما لا سبيل إلى التفادي فيه: قدَّر الله وما شاء فعل.
أو: قَدَرُ الله وما شاء فعل.
فتأتي إلى مصيبة الموت فتقول: هذا قدر الله، ولكل أجل كتاب.
وتتعزى في مصيبة الموت بالقدر، لكن هل إذا خالفت الشرع بارتكاب ما حرمه الله تقول: قدر الله أني فعلت هذا الذنب؟ وقدر الله وما شاء فعل؟ الجواب: لا يجوز لك ذلك، وهذه سنة من سنن المشركين، أعني الاحتجاج بالقدر في تعطيل الشرع.
فإن تأملت الذنب الذي فيه مخالفة للشرع فستبقى طول عمرك تستغفر الله سبحانه وتعالى منه وتندم عليه، ولا يجوز لك أن تحتج بالقدر، فهؤلاء لو كانوا ساقوا هذه العبارة (لو شاء الله ما أشركنا) لإثبات القدر لكان هذا الكلام صحيحاً، لكن ما أوردوها إثباتاً للقدر، وإنما قالوها عناداً للشرع، وإبطالاً للشرع الذي يأمرهم أن يخرجوا من الشرك إلى التوحيد.
فقولهم ذلك وإن كان صدقاً في نفس الأمر لكنهم كانوا به مكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين -أيضاً- بإرادة الله، فلماذا نحتج بالقدر فقط فيما يوافق أهواءنا؟! فيرتكب أحدهم المعاصي ويقول: هذا مكتوب عليّ! فلماذا لم تؤمن ولم تصل ولم تتصدق وتفعل الطاعات وتقول: إن هذا -أيضاً- قدر قد كتبه الله عليك؟! ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين، بل لكانوا موحدين، لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم، فلذلك عيرهم به، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر، فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله.
فمن أين لك أن الله لم يشأ ذلك منك؟! وهل اطلعت على مشيئة الله وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق لم يرد إيمانهم الآن؟! فإنه ليس كلهم مطبوع القلب، بدليل إيمان من آمن منهم، فلو كان فيما مضى شاء الله أن تشرك فما يدريك الآن في هذه اللحظة أن الله شاء أن تقرأ أو تعمل عملاً ما؟ فربما يكون الله عز وجل شاء في هذا الزمان الحاضر أن تكون مؤمناً، بدليل أن من المشركين من أسلم بعد ذلك، فهل اطلعت على مشيئة الله لتعلم أن الله شاء منك أن تبقى على هذا الكفر؟! فلعله شاء منك أن تخرج من الكفر إلى الإيمان، كما قال جعفر الصادق: إن الله أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء -يعني: ما كتبه علينا من القدر والقضاء، وأراد منا الإرادة الشرعية التي كلفنا بها - فما أراده بنا كتمه عنا، وما أراده منا كشفه لنا، فما بالنا ننشغل بما أراده بنا عما أراده منا؟! يعني كونك من أهل الجنة أو من أهل النار وخاتمتك ومنزلتك عند الله ذلك شيء خبأه الله سبحانه وتعالى واستأثر بعلمه، لكن الله أراد منك شيئاً وأمرك بشيء، وهذا الشيء الذي أمرك به وضحه لك.
فأمرك بالصلاة وبالزكاة وبالتوحيد ونحو ذلك، وحرم عليك كذا وكذا وكذا، فأنت لم تطلع على ما غيب عنك، لكنك تعرف جيداً أن الله أمرك بهذه الطاعة، فلا يجوز أن تلتفت إلى شيء مخبأ عن شيء ظاهر كلفت به وسوف تحاسب عليه.(56/8)
تفسير قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)
قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:108].
قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) يعني: لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح؛ لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع.
أي: إذا كان الحال أن المشركين إذا سببتم آلهتهم بالشتم والتقبيح وتعرفون من أحوالهم أنهم يردون عليكم بسب الله عز وجل فمن باب سد الذرائع لا تشرعوا في سب آلهتهم حتى لا يردون بسب الله عز وجل، مع أن آلهتهم تستحق السب، لكن نظراً إلى هذا المنكر الذي يترتب على إنشاء هذا الفعل من أجل ذلك نهى الله عن سب آلهتهم، وإن كان سبهم حقاً.
روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهوا عنه لذلك.
وقال الزجاج: نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون.
وقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) جملة (الذين يدعون) صلة تفتقر إلى العائد الذي هو الضمير الذي يعود على ما مضى، والعائد هنا مقدر، تقديره: ولا تسبوا الذين يدعونهم من دون الله، يعني الأصنام، والتعبير بـ (الذين) على زعمهم أنهم من أولي العلم، أو بناءً على أن سب آلهتهم سب لهم، كما يقال: ضرب الدابة صفع لراكبها.
فإذا ضربت الدابة فكأنك تصفع من يركبها، وكذلك إذا شتمت الأصنام فكأنك تشتم عبَّادها، فمن ثمَّ قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله).
فإن قيل: إنهم كانوا يقرون بالله وعظمته، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون لهم شفعاء عنده فكيف يسبونه؟! أي: كيف يتوقع أن المشرك يسب الله سبحانه وتعالى ونحن نعلم أنهم كانوا يعظمون الله، وكانوا إذا عوتبوا فيما يأتونه من الشرك كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ويقولون: نحن نعلم أنها لا ترزق ولا تحيي ولا تميت، ولكن نحن نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى ونتوسل بها إلى الله سبحانه وتعالى؟ فإذاً: كيف يسبونه؟! وهل يتصور مع تعظيمهم لله بهذه الطريقة أنهم يسبون الله؟! فالجواب أنهم لا يفعلون ذلك صريحاً، بل يفضي كلامهم إلى ذلك، وكأن مثل هذا أنك إذا سببت آلهته يشتمك ويشتم من أمرك بذلك، والعياذ بالله! ويحصل هذا الكفر الشنيع من بعض الناس، فقد يسب أحد الإنسان ويسب الذي خلقه، والعياذ بالله! فيرتد من الإسلام في طرفة عين، ويخرج من الملة صراحة، فإذا سب الشخص الذي يكلمه وسب -أيضاً- الذي خلقه -والعياذ بالله- فهذا كفر صراح بواح لاشك فيه على الإطلاق، ومثل هذه العبارات الشنيعة ينطق بها السفهاء.
ولذلك فسرت كلمة (فيسبوا الله عدواً بغير علم) بأنهم لا يسبونه سباً صريحاً، وإنما يتلون في الكتاب بهذه الطريقة، أي: أنهم يأتون بكلام يفضي إلى سب الله، كشتمهم له ولمن يأمره بذلك أيضاً، فيشتمك ويشتم من أمرك بأن تشتم هذه الآلهة أو أمرك بأن تعظه به، وهذا تفسير حسن جداً، كما يقول القاسمي.
وقوله: (فيسبوا الله عدواً بغير علم) فيه احتمال آخر، وهو أن سب الله سبحانه وتعالى يقع منهم بالفعل، أي: يسبون الله مباشرة وهم يعلمون أنهم يحبون الله، مع أنهم في وقت آخر يزعمون تعظيم الله؛ لأن الغيرة والغضب ربما حملهم على سب الله صريحاً، ألا ترى المسلم الذي ينتسب إلى الإسلام قد تحمله شدة غضبه على التكلم بالكفر، وهذا شيء نراه، وهو يزعم أنه مسلم وأنه موحد وأنه يشهد الشهادتين، ومع ذلك ربما يتمكن منه الشيطان إذا غضب حتى إنه لينطق بكلمة الكفر الصريح ويسب الله عز وجل والعياذ بالله! فمن باب أولى أن المشرك الذي يعبد الأصنام إذا تملكه الغضب والحمية الجاهلية يسب الله سبحانه وتعالى صراحة، وإن زعم في وقت آخر أنه يعظم الله، وأنه إنما يعبد الأصنام لتقربه إلى الله زلفى.
وقوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (عدواً) هنا مصدر، يعني: ظلماً وعدواناً.
يقال: عدا عليه عدواً كـ (ضربه ضرباً)، ويقال: عدا عليه عُدُوَّاً وعداءً: إذا تعدى وتجاوز، وهو مفعول مطلق لـ (تسبوا) من معناه؛ لأن السب عدوان.
فقوله: (فيسبوا الله عدواً) أي: فيسبوا الله سباً، فعبر عن المفعول المطلق الذي هو السب بالعدوان؛ لأن السب نوع من العدوان، أو أنها مفعول له، أو حال مؤكدة، مثل (بغير علم).
قال ابن الفرج في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا ولا دينهم.
فمتى ما خفت وتوقعت من الكافر الذي تناظره أو تتعامل معه أنك إذا سببت آلهته أو أصنامه يرد عليك بأن يسب الله أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام أو يسب القرآن ففي هذه الحالة لا يجوز لك أن تسبهم، ولا أن تسب دينهم وآلهتهم.(56/9)
الاستدلال بهذه الآية على قاعدة سد الذرائع
وهذه الآية أصل في قاعدة سد الذرائع، فقاعدة سد الذرائع الدليل الأصلي لها الذي تقوم عليها هو هذه الآية الكريمة: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)).
وقال السيوطي: وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا يترك كل فعل مطلوب إذا ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن الحسن يصير قبيحاً إذا كان يحصل بفعله مفسدة.
فلا يدفع الإنسان في هذه الحالة حسن النية، بل لابد مع حسن النية من بصيرة وحسن تقدير للعواقب، فالإنسان الذي يهجم على فعل أشياء دون النظر إلى العواقب لا يمدح، وإنما يكون مقصراً، فالفعل -حتى لو كان أصلاً جائزاً- إذا كان يترتب عليه مفسدة أشد من الفعل الذي ينهى عنه فمن الفقه أن لا يرتكب هذا الفعل الذي يؤدي إلى المفسدة الأقوى أو الأكبر.
وقال الحاكم: نهوا عن سب الأصنام لوجهين: أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها.
يعني: أن الصنم جماد؛ لأنه من حجارة أو خشب أو عجوة أو نحو ذلك، فالأصنام جمادات، فإذا سببتها فأنت تسب جمادات.
الثاني: أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى.
وهذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفاً.
وهل معنى ذلك أن تسكت عن عبادة الأصنام؟
الجواب
لا، وإنما لا تسب آلهتهم إذا كان يترتب على السب أن يقابلوا سبك بسب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام أو سب القرآن، لكن لا يعني ذلك أن تسكت عن بيان أنه لا يجوز عبادتها، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تستحق العبادة، فهذا كله ليس بسب، وليس بداخل في السب.
ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم صفين: لا تسبوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم.
أي: اذكروا أفعالهم القبيحة.(56/10)
ترك النهي عن المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر
قال الزمخشري: فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها؛ لأنها معصية لا لأنها طاعة؛ لأنها متى ما علم أنه يترتب عليها مفسدة فتخرج من حيز الطاعة إلى حيز المعصية، فيجوز أن ينهى عنها.
يقول: كالنهي عن المنكر، بل هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، فوجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر.
فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة، فرأى محمد -يعني: ابن سيرين - نساءً خرجن مع الجنازة فرجع محمد بن سيرين، فقال: الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا يعني: هذا سيسقط علينا ديننا سريعاً، ويهلك ويضعف ديننا وإيماننا لو تركنا الطاعة لأجل المعصية.
وقال -كما روي عنه أيضاً-: لا ندع حقاً لباطل.
يعني: إذا كان أقرباء الميت -خاصة النساء- لا يراعون حرمات الله سبحانه وتعالى، فهل معنى ذلك أنك إذا مات أخوك المسلم الذي يرتكب أقاربه هذه المخالفات تقصر في حقه من اتباع جنازته أو الدعاء والاستغفار له؟! فهو ميت الآن وغير مكلف، وقد انتهى عمره، وطويت صحيفته، فبقي له عليك حق صلاة الجنازة وتشييعها والدعاء له والاستغفار إلى آخره.
فلو أننا -خاصة في مثل هذا الزمان- تركنا هذا الحق لأجل الباطل الذي طرأ، وهو خروج النساء أو حصول كثير من المنكرات في الجنائز الآن فمعنى ذلك أنه لن تشيع جنائز إلا في القليل النادر؛ لأن الناس الذين يلتزمون بالشرع قلة، وهل هناك أسرة تخلوا من أناس لا يلتزمون بالشرع؟ فيوجد من النساء من تخرج تصرخ أو تنوح، ويمكن أن يوجد من أقرباء الميت من يأتي بالزهور، وربما وقع أشد من ذلك من الأحوال المعروفة في الجنائز.
فالمقصود من الكلام أننا لو تركنا الطاعة لأجل معصية لأسرع ذلك في ديننا، كما قال الحسن.
فهذا الفعل الذي فعله ابن سيرين ليس مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل في الجنازة طاعة، وهل حضور مثل هذه الجنازة التي خرج فيها النساء يكون سبباً في خروج النساء؟ وهل علاقة الحضور بوجود النساء علاقة السبب بالمسبب؟ أي: هل كان وجود ابن سيرين في الجنازة هو السبب الذي أخرج النساء كي يشيعن الجنازة؟ وهل إذا تخلف ابن سيرين سيتخلف وجود النساء أم سيبقين في الجنازة؟ فإذاً: لا يجوز الربط بين هذه الحادثة وبين ما نحن بصدده الآن من كلام في معنى الآية؛ لأن سب المشركين نهي عنه؛ لأنه يكون سبباً في أن يسبوا الله، فإذا سكت عن سبهم سكتوا عن سب الله، وهل وجود هذا الرجل سبب في وجود النساء؛ بحيث إذا انتفى السبب ينتفي المسبب، بمعنى أنه إذا تخلف سينقطع هذا المنكر؟
الجواب
لا ينبغي قياس هذا على ذاك، ولا يقاس هذا الموقف على ما نحن بصدده في معنى الآية.
فمن ثمَّ يقول الزمخشري: فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر، فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنها حضرا جنازة فرأى محمد نساءً فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا.
قلت: ليس هذا مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل الجنازة طاعة، وليس سبباً لحضور النساء؛ لأنهن يحضرنهن، سواء حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة، وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله، حتى نبه عليه الحسن.
انتهى كلام الزمخشري.
فـ ابن سيرين اعتبر هذا الموقف مثل الموقف المذكور في الآية حتى نبه عليه الحسن وبين خطأه في ذلك.
ومنه قال بعض مفسري الزيدية: واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة سواء فعل الحسن أم لا لم يسقط الواجب، لا يقبح الحسن.
وقال الخفاجي: إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وكانت سبباً لها وجب تركها، بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها، وكثيراً ما يشتبهان، فلم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن للفرق بينهما.
وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها.
وهذا تنبيه مهم جداً، فليس معنى عدم سب الآلهة عدم بيان بطلان عبادتها، وأنها لا تستحق العبادة، وأنها لا تضر ولا تنفع، فهذا لابد منه، وهذا هو من التوحيد، وهذه هي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت، لكن السب شيء وبيان بطلانها وعدم استحقاقها العبادة شيء آخر، فالنهي هنا عن سب الآلهة إذا كان يؤدي إلى سب الله سبحانه وتعالى.
فإذاً: الذي يدعو الناس إلى الدين ينبغي أن لا يتشاغل بشيء لا يؤدي إلى فائدة مطلوب منه أن يحصلها.
لكن يصف الأوثان بأنها جمادات، وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم شيئاً، مما يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة إلى سبها مادام عندنا الأدلة والحجة على إبطال استحقاقها للعبادة، فنحن بعد ذلك لا نحتاج إلى شتمها.(56/11)
تزيين الباطل وسهولته على النفس
ثم قال تعالى: ((كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)) أي: كذلك زينا لكل أمة من الأمم الماضية الضلال.
وقوله: (ثم إلى ربهم مرجعهم) يعني: بالبعث بعد الموت.
قوله: (فينبئهم) يعني: يخبرهم بما كانوا يعملون في الدنيا، وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه.
وقوله: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) يعني أن كل ما يظهر في هذه النشأة في الدنيا من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة.
مثلاً: المعاصي هي سموم قاتلة، لكنها برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، كما نطقت هذه الآية (كذلك زينا لكل أمة عملهم).
فالمعاصي تظهر في هذه الدنيا بصورة غير صورتها الحقيقية عند هؤلاء العصاة، فأحدهم يعتبر أن تحصيل المعصية نوع من المكسب العظيم إن استطاع أن ينجز هذا الإنجاز وأن يحصل على هذا المكسب، مع أن المعاصي في الحقيقة هي سموم قاتلة، فبرزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة.
وكذا الطاعات، مع أن الطاعات هي أحسن المحاسن، لكنها ظهرت عند هؤلاء بصورة مكروهة مستثقلة، فيكره أحدهم العبادة والطاعة، ويرى فيها مشقة وعبئاً عليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) فقوله: (حفت الجنة بالمكاره) يعني الأشياء التي تشق على النفوس (وحفت النار بالشهوات) يعني أن دخول بابها سهل؛ لأن الشيطان يدعو إليه، والنفس تدعو إلى المعاصي والهوى.
فعوامل التردي والهدم كثيرة جداً، والهوى يساعد على ذلك، أما الجنة فتحتاج إلى نوع من المجاهدة والمقاومة، فحفت الجنة بالمكاره التي لا تخلو من مشقة على النفس، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] والتكليف شاق على المكلف، والتكليف الشرعي داخل في معنى المشقة، لكنها مشقة تدخل في طوق الإنسان وفي قدرته، وليست المشقة غير الاعتيادية؛ لأنه إذا كانت المشقة غير اعتيادية فإنه يأتي معها تخفيف عن المكلف.
لكن أي عبادة لا تخلو من مشقة، فالصيام فيه مشقة، والصلاة فيها مشقة، والوضوء فيه مشقة، لكن هذه المشقة تدخل في استطاعة الإنسان، فهو مكلف بأن يتحمل هذه المشقة وهذه المكاره.
فإذاً: الأعمال التي يعملها الكفرة برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة، وتستحبها الطغاة، لكنها في النشأة الآخرة ستظهر بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة، فعند ذلك يعرفون حقيقة هذه الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها.
قوله: (فينبئهم بما كانوا يعملون) يعني: يظهرها لهم في صورتها الحقيقية حتى يعلموا حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا، وأنها إنما زينت لهم هذه المعاصي، وهذا هو سبب عدم توبة أكثر الناس؛ لأنهم يرون الأشياء على غير حقيقتها.
كما قال تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37] وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، وهذا كحال الكافر والمبتدع، فأحدهما يرى الشيء القبيح حسناً، فإذا رآه حسناً هل يتصور أنه يتوب منه؟ لا يتصور؛ لأنه يراه حسناً، ولذا لن يفكر في التوبة.
فمن ثمَّ قال بعض السلف: ليس لصاحب بدعة توبة.
بمعنى أنه يستحسن البدع، ويراها بصورة حسنة، فكيف يتوب؟ فمن ثمَّ لا ترجى له توبة، بخلاف العاصي، فإن أمره أخف؛ لأن العاصي، الموحد يرى معاصيه فيبغضها، لكن الهوى يغلبه، فمن ثمَّ يرجى له التوبة، أما المبتدع فقد زين له سوء عمله فرآه حسناً.
وقد قال تعالى في اليهود الذين عبدوا العجل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] يعني: تغلغل حب العجل في قلوبهم على أنه هو إلههم، وتخلل في قلوبهم حبه حتى أشربوه، وتشبعوا به، فصاروا يحبونه حباً ملك عليهم كيانهم.
قيل لـ سفيان الثوري رحمه الله: ما بال أهل الأهواء شديدو المحبة لأهوائهم؟ فقال: ألم تر إلى قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]؟ فلا تعجب إذا رأيت صاحب مبدأ هدام أو مبدأ ضال أو عقيدة إلحادية أو شركية أو كفرية وهو سعيد جداً بما هو عليه؛ لأنه زين له سوء عمله، والشيطان يزين له هذه الأشياء، فهو يعتقد أنه على الحق، وأنه على الصواب، وأنه مستعد لأن يضحي بروحه في سبيل نصرة هذه الباطل الذي هو عليه.(56/12)
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها)
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109].
قوله: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) (جهد) مصدر وقع موقع الحال، أي: أقسموا بالله تعالى جاهدين في أيمانهم باذلين في توثيقها طاقتهم، يعني أنهم يقسمون ويجتهدون في توثيق اليمين المغلظة التي يحلفون.
وقوله: (لئن جاءتهم آية) يعني: خارقة، كالآيات التي يقترحونها.
وقوله: (قل إنما الآيات عند الله) أي: أمرها في حكمه وقضائه خاصة، يعني: إنما أنا عبد ورسول أبلغ ما أرسلت به؛ لأن التحكم في الآيات التي هي عبارة عن كشف لقدرة الله سبحانه وتعالى في المعجزات والخوارق ليس إلي، بل هذا إلى الله عز وجل يتصرف بها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة، فلا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته، وليست في قدرة أحد ولا في مشيئته حتى يمكنه أن يتصدى لاستنزالها للاستدعاء, وهذا سد لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه لبيان صعوبة منالها وعلو شأنها.
فاقتراح الآيات أمر ليس بالسهل، وليس أمراً موكولاً إليّ ولا إليكم، إنما هو مفوض إلى الله سبحانه وتعالى.
فهذا من أعظم الردود في سد باب الاقتراحات على الله سبحانه وتعالى أن ينزل كذا، وقولهم: لو أن الله فعل كذا وكذا لنؤمنن به.
وغير ذلك مما جاءت به كثير من الآيات.
ثم قال تبارك وتعالى: (وما يشعركم) يعني: أيها المؤمنون! والخطاب للمؤمنين لأن المؤمنين كانوا يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم، فالمؤمنون كانوا يسمعون المشركين يقترحون الآيات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فكانت قلوبهم تتطلع إلى أن يجيبه الله تعالى بهذه الآيات التي يقترحونها طمعاً في إيمان هؤلاء المشركين.
فالله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين ويقول لهم: (وما يشعركم) أيها المؤمنون (أنها إذا جاءت لا يؤمنون).
وقيل: الخطاب للمشركين، والمعنى: وما يشعركم -أيها المشركون! - أنها إذا جاءت لا تؤمنون.
لأنه جاء في قراءة أخرى: (لا تؤمنون) وإذا قلنا: وما يشعركم -أيها المشركون- أنها إذا جاءت لا يؤمنون سيكون فيها التفات، فقوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) هذا الخطاب متعلق بالمشركين، والخطاب -أيضاً- متعلق بالمشركين في قوله (يشعركم) لكن فيه التفات، ومما يؤيد هذا قراءة (لا تؤمنون).(56/13)
تفسير قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة)
قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) هذا عطف على قوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) أي أن هذه الآية داخلة في حكم (ما يشعركم)، والمعنى: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، لكن لا مع توجهها إليه واستعدادها لقبوله، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية؛ لأن قلوبهم -أصلاً- معرضة عن الحق، ولا تريد الحق، فبذلك لا ينتفعون بهذه الآيات، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر، دفعاً لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار.
وقوله: (كما لم يؤمنوا به) يعني: بما جاء من الآيات.
وقوله: (أول مرة) يعني: قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها.
وقوله: (ونذرهم) أي: ندعهم.
وقوله: (في طغيانهم يعمهون) أي: يترددون متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين.
يعني أن الإنسان إذا ارتفعت عنه عناية الله فلابد من أن يغرق في الضلال، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلو وكل الله سبحانه الإنسان إلى نفسه طرفة عين لفسدت عليه كل أموره، فالمقصود هنا بقوله: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) يعني: نحرمهم مما مننا به على المؤمنين من التوفيق والهداية؛ لأنهم إذا تركوا إلى نفوسهم وتركهم الله وودعهم فإنهم يعمهون ويتحيرون في العمى والضلال، فلا نهديهم هداية المؤمنين.
وفي الآية دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فإن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه، فيقيم ما شاء منها، ويزيغ ما أراد منها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك).
وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك.
فقلت: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء).
فالهداية والإضلال من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه قوله هنا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(56/14)
تفسير سورة الأنعام [111 - 121](57/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً)
قال تعالى: فقد انتهينا في تفسير سورة الأنعام إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109] * {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] بعدما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم اجتهادهم في الأيمان بقوله: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)) بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وأكده فقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111].
قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) يعني: فرأوهم عياناً، أي أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة، ولن نجيبهم فقط إلى آية واحدة يطلبونها، لكن سنأتيهم بجملة كبيرة من الآيات، ومنها أن ننزل إليهم ملائكة، كما قال تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21].
وحكى عنهم أن من اقتراحاتهم الطويلة أنهم قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92].
فيقول تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) يعني: بإحيائنا إياهم.
أي: نحيي الموتى فيكلمونهم.
كما قالوا: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36].
وقوله: (وحشرنا عليهم) أي: جمعنا (كل شيء) سواء من الحيوانات أو النباتات أو الجمادات، أو كل شيء من الآيات التي اقترحوها.
وقوله: (قبلاً) أي: مقابلة وعياناً حتى يواجهوهم قبلاً كما يكون الشيء في قبل الشيء، أي: في مقابلته في مواجهة ورؤية عينية حتى تحصل المواجهة، أو أن (قبلاً) جمع قبيل، وهو الكفيل والضمين.
فقوله: (وحشرنا عليهم كل شيء) يعني: كل شيء اقترحوه أو سألوه من الآيات، أو كل شيء من الحيوانات والنباتات والجمادات.
(قبلاً) أي: كفلاء، جمع كفيل، أي: بصحة ما بشروا به وأنذروا، بحيث تأتي هذه الأشياء كلها من النباتات والحيوانات والجمادات وينطقها الله سبحانه وتعالى، وتضمن لهم وتشهد بصحة ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البشارة والنذارة، فتضمن لهم صدق هذه الأخبار، وتنطق لهم بذلك (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) أي: ما كانوا ليؤمنوا لغلوهم في التمرد والطغيان.
وقوله: (إلا أن يشاء الله) يعني: إلا أن يشاء الله إيمانهم فيؤمنوا.
وقوله: (ولكن أكثرهم يجهلون) يعني أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون، أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.
قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري، والإيمان لا يكون إلا بالقلب، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] وهنا تنبيهان: الأول: يقرأ قوله تعالى: (وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً) بضم القاف والباء، وعلى هذه القراءة يكون لقوله: (قُبُلاً) وجهان: أحدهما: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل وضمين.
والقول الآخر أنه مفرد، كقبل الإنسان ودبره، وعلى كلا الوجهين هو حال من (كل).
ويقرأ -أيضاً- بالضم وسكون الباء، فبدلاً من أن نقول: (قُبُلاً) بضم الباء نقول: (قُبْلاً) بتسكين الباء.
ويقرأ -أيضاً- بكسر القاف وفتح الباء (قِبلاً) منصوباً على أنه ظرف، كقولهم: لي قَبِلَ فلان حق.
أي: عند فلان حق، أو أنه نصب على الحالية، وهو مصدر، أي: عياناً ومشاهدة.
فمعنى (قبلاً): أي: مقابلة وعياناً.
وهناك شاهد من القرآن الكريم على أن كلمة (قبل) تأتي بمعنى المشاهدة أو المعاينة، وهو قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:26] يعني: من أمام.
وقوله: (إلا أن يشاء الله) هذا الجزء من الآية حجة واضحة على المعتزلة، بدلالة أن جميع الأشياء بمشيئة الله تبارك وتعالى، حتى الإيمان والكفر، وقد اتفق سلف هذه الأمة على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية على مشيئة القصر والاضطرار، وإنما يتم لهم ذلك لو كان القرآن يتبع الآراء، فلو كان القرآن تابعاً لآرائهم وبدعهم لتم لهم هذا الاستدلال، بمعنى أنهم يحاولون تحريف آيات الله سبحانه وتعالى وتأويلها بما يوافق بدعتهم، فيجعلون بدعتهم وزبالة آرائهم هي الأصل، ثم بعد ذلك يحرفون معاني القرآن حتى توافق بدعتهم، فيجعلون معاني القرآن والسنة فرعاً على الأصول التي ابتدعوها، وإذا كان القرآن هو القدوة وهو المتبوع فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فإلى النار، وما بعد الحق إلا الضلال.
ولذلك قال تعالى هنا: (إلا أن يشاء الله) فهذه الآية مما يدحض حجج المعتزلة، فإن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكل شيء يجري في الكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.(57/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن)
ثم يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]، فهنا تسلية ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من هؤلاء الكافرين.
قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) شياطين بدل من (عدواً) منصوب، ويمكن فيه إعراب آخر، وهو: أنه مفعول به أول لـ (جعلنا)، وهنا حصل تقديم وتأخير بالنسبة للمفعول الأول والثاني في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) فالمعنى: وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس والجن عدواً، فـ (عدواً) مفعول ثانٍ، و (شياطين) مفعول أول، يعني: جعلنا شياطين الإنس والجن عدواً.
والعدو هنا بمعنى: أعداء، فظاهرها مفرد، لكن معناها أعداء، كما قال الشاعر: إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لم يضرهم بغضي فانظر كيف استعمل كلمة (عدو) في معنى الجمع! والعدو ضد الصديق والحبيب.
وكلمة عدو تطلق على المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى، كما قال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فهو يتكلم هنا عن جمع، ومع ذلك قال: (عدو لي إلا رب العالمين).
وكذلك هنا في نفس هذه الآية (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً) فـ (عدواً) هنا بمعنى الجمع، بدليل أنه أبدل منها (شياطين الإنس والجن) أي: مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك قد جعلناه لكل نبي.
يعني: هذه سنة الله سبحانه وتعالى فيمن سبقك من إخوانك من الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى يجعل لكل نبي عدواً من هؤلاء الشياطين.
فكلمة (كذلك) إشارة إلى أن مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك من وجود هؤلاء الأعداء الذين يكيدونك جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سبقوك أيضاً عدواً شياطين الإنس والجن، فحيث جعلنا لك عدواً يضادونك ولا يؤمنون قد جعلنا لكل نبي تقدمك عدواً من مردة الإنس والجن فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك، كما قال تبارك وتعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43].
وقال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، فهذه الآية بينت صفة أخرى لهؤلاء الأعداء شياطين الإنس والجن هي أنهم مجرمون.
وقد قال: ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزل إليه جبريل ثم جاءت به خديجة إليه: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك.
قال: أومخرجي هم؟! قال: نعم؛ لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً).
فالشاهد هنا من قول ورقة رحمه الله تعالى (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي) فمن كان صاحب حق فإنه يعادى، وانظر إلى كلمة (بمثل) الدالة على دعوة التوحيد، فمن كان داعية إلى التوحيد فلابد من أن يعادى.
وقد تزول العداوة إذا حصل تنازل عن الحق، وهذا لا يسلكه صاحب العقيدة الحقة؛ لأنه لا يقبل المساومة أبداً، ولا يحصل منه الالتقاء مع أعداء الدين في منتصف الطريق كما أراد المشركون، فالذين يتنازلون دائماً هم أصحاب الباطل، وهم الذين يتواضع بعضهم لبعض ويتنازل بعضهم لبعض ويتعايشون في سلام.
أما صاحب الحق فلأنه لا يملك أن يحور هذا الحق أو يغيره فلا يملك أن يتنازل عنه، أو أن يلتقي مع أعداء هذا الحق في منتصف الطريق، وحينما ساوم الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا إلهه شهراً ويعبد إلههم شهراً فإن كان الحق أحدهما اتبعوه نزل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:1 - 6] يعني الباطل {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] يعني الحق.
فلذلك لا يحصل مثل هذا الالتقاء أبداً، فالذي يعرض دائماً التنازل هم أصحاب الباطل، ولذلك نجد أهل المذاهب الباطلة كالمذاهب الديمقراطية ونحوها يقبلون التعايش فيما بينهم؛ لأن كل واحد يمكن أن يلتقي مع الآخر على أساس أن الكل يكون له فرصة متساوية وكذا وكذا من الكلام المعروف؛ لأنه باطل وصنع بشر، فلذلك يتنازل بعضهم لبعض، ويعطي بعضهم أصحاب المذهب الباطل أو الضال الحق في الحياة والحق في الوجود، وهذا إذا كانت المذاهب كلها متساوية في أنها أديان أرضية.
أما إذا كان دين الإسلام فلا يمكن أبداً أن يُسوى الإسلام بغيره من الأديان أو المذاهب.
وصاحب الحق إذا تنازل عن شيء من الحق فإنه يفقد بذلك عناصر قوته، ويستوي مع أهل الباطل في هذه الحال.
ولذلك انظر إلى قول ورقة بن نوفل: (لم يأت رجل قط بمثل) وما زلنا نتأمل كلمة (بمثل ما جئت به إلا عودي).
وقوله تعالى: (شياطين الإنس والجن) يعني: كما أن هناك شياطين من الجن فكذلك هناك شياطين من الإنس، وكلهم يطلق عليهم لفظ الشياطين، فمن الإنس -أيضاً- شياطين، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]، أي: شياطينهم من الإنس.
والعرب تسمي كل متمرد شيطاناً، سواء أكان من الجن أم من الإنس أم من غيرهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، فكل متمرد يسمى شيطاناً، سواء أكان من الجن أم الإنس أم من غيرهما.
وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض) أي: يلقي ويوسوس، وأصل الوحي هو الإشارة السريعة في خفاء، فمعنى (يوحي) يلقي ويوسوس.
وقوله (زخرف القول) القول المزخرف هو المزوق من الكلام الباطل.
فقوله: (زخرف القول) يعني: المزوق من الكلام الباطل من القول، وأصل الزخرفة الزينة المزوقة، ولذلك قيل للذهب: زخرف.
كما في قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:35].
وبعض علماء اللغة يرون أن أصل الزخرفة هو الزينة، ولأجل ذلك فرع عليه تسمية الذهب زخرفاً.
والبعض يقول: بل المعنى الأصلي هو أن الزخرف يعني الذهب، ولما كان الذهب حسناً في الأعين قيل لكل زينة: مزخرفة.
وقد يخص بالباطل، كما في هذه الآية (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) فزخرف القول هو القول المموه المزيف الباطل.
وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) يعني: ليغروهم بهذا الوحي، أو غارين إياهم بهذا الوحي.
ويكون هذا الغرور للضعفاء؛ لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب، وكذلك الغارين ليقهرهم بمقتضى استعدادهم، وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه؛ لأن هذا الجعل من الله، والجعل نوعان: جعل شرعي، وجعل كوني قدري.
وهنا الجعل كوني قدري، وقد جاء في القرآن الكريم استعمال كلمة جعل بمعنى (شرع)، كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: ما شرع لكم في الدين من حرج: وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103] يعني: ما شرع.
فهنا الجعل كوني قدري، أي أنه من قدر الله سبحانه وتعالى وكلماته الكونية.
قال المهايمي: حكمة أن جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن كي تظهر الحجج لمجادلتهم وترتفع شبهاتهم، ولئلا يقال: إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس، أو يتواصوا عليهم، لكن انقسم الناس عليه كما بين تبارك وتعالى.
وقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) يعني: ما فعلوا ذلك، والإشارة إلى معاداة الأنبياء وإيحاء الزخارف، وهذا -أيضاً- دليل على المعتزلة، فالله تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير؛ لقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) فهذا المحكي في الآية شر، والذي شاء أن يقع هذا الشر هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد سبحانه وتعالى.
وقوله تبارك وتعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) تعرض هنا لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، فقوله: (ولو شاء ربك) يعني: يا محمد.
عليه الصلاة والسلام، فهذا يعرب عن كمال اللطف في التسلية.
وقوله: (فذرهم وما يفترون) يعني: وما يفترون من الكفر.
وقوله: (فسوف يعلمون) أي: عاقبة هذا الافتراء.
ولاشك في أن قوله تعالى: (ولو شاء ربك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ما فعلوه) صريح في أن المراد بالكثرة هنا المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن الخطاب هنا للرسول نفسه عليه الصلاة والسلام، والسياق نفسه يتحدث عن سنة الله في الأنبياء.
فقوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) هو كالصريح في أن المراد الكفرة المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.(57/3)
تفسير قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون)
ثم عطف سبحانه وتعالى علة ثانية لذلك الإيحاء فقال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113].
قوله: (ولتصغى إليه) الهاء تعود إلى: (زخرف القول)، وقيل: الهاء تعود إلى الوحي في قوله: (يوحي بعضهم) أو إلى الغرور أو إلى العداوة؛ لأنها بمعنى التعادي.
وأصل الصغو هو الميل، يقال: صغت النجوم صغواً: أي: مالت، وصغت الشمس: أي: مالت للغروب، وصغت الإناء: أملته، وأصغيت الإناء: أملته ليجتمع ما فيه، وتقول: أصغيت إلى فلان، بمعنى: ملت بسمعي نحوه كي يحسُن الإنصات.
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى هنا: (ولتصغى إليه) أي: إلى الزخرف أو الباطل أو الوحي أو الغرور أو العداوة، يعني: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغرهم به، ولتميل إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لمساعدته لهم على أهوائهم، أي أنهم لا يؤمنون بالآخرة على الوجه الواجب من الإيمان به.
قوله: (وليرضوه) يعني: يرضوه لأنفسهم بعدما مالت إليه قلوبهم.
وقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له ما هم مقترفون، يعني: من الآثام ومن القبائح التي لا يليق ذكرها، فكأن القرآن أشار إلى أن هذا الذي يقترفونه من أمور قبيحة لا يليق ذكرها، حتى إنه أعرض عن ذكرها، وكنى بها بقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: الذي يقترفون بسبب العقيدة الفاسدة التي دخلت واستوطنت في قلوبهم واستقرت في أفئدتهم، فإنها تثمر أعمالاً قبيحة تصل إلى حد من القبح لا يليق أن نذكرها الآن في هذا السياق، ولذلك قال: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني أشاء من القبائح لا يليق ذكرها.
والاقتراف بمعنى الاكتساب، يقال: خرج يقترف أهله، أي: خرج يكتسب لهم، ومن العبارات المشهورة: الاعتراف يزيل الاقتراف.
فإذا اقترق إنسان ذنباً واعترف كما في الحديث: (أبوء لك بنعتك علي)، أي: أقر وأعترف فإن اعترافه يزيل الاقتراف، أي: يزيل ما اكتسبه الإنسان من الإثم.
قال الخشني: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] فتقوى غوايتهم ويتظاهرون بها، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغياناً وتعدياً على النبي صلى الله عليه وسلم، فتزداد قوة كماله، وأيضاً تهيج بسببه دواعي المؤمنين؛ لأن الاستفزاز حين يحصل من أعداء الدين يهيج قلوب المؤمنين، وتحمى قلوبهم بالغيرة على حرمات الدين، فهذه من الحكم المترتبة على أن سلط الله الشياطين على محاربة الدين، ففيها تهييج بدواعي الغيرة على الدين في قلوب المؤمنين، وكذلك الذين في قلوبهم حب للنبي صلى الله عليه وسلم، فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرهم إياه، فتظهر عليه كمالاتهم، فهذا فيما يتعلق بمعنى هذه الآية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113].
وقد ذكرنا أن الإصغاء هو الميل، يقول الشاعر: ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء أي: ميل وانحراف.
فالسفيه يزيغ عن المحكمات؛ لأنه يميل إلى الأمور المشتبهة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة -حيث قال تعالى: ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) - مع أن قبائحهم كثيرة إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم، فإن لذَّات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل.
وهذا فيه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى في سورة المعارج: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:23 - 28].
والشاهد قوله: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] فالتصديق بيوم الدين والإيمان بالآخرة يترتب عليه هذه الثمرة، فهو إيمان يثمر أنهم من عذاب ربهم مشفقون؛ لأنهم يؤمنون به، فكل ما يؤدي إلى العذاب حتى لو كان محبباً إلى أهوائهم في الدنيا فهم يحترزون منه؛ لأنهم ينظرون إلى العاقبة السيئة، كما قال الشاعر: أماني كانت لأهلها في الشباب عذاباً فصارت في المشيب عذاباً فالمؤمن لا ينظر إلى بادي الأمور، إنما ينظر إلى العاقبة.
فهذا التنبيه في الحقيقة في غاية الأهمية، وهو بيان الحكمة في عدم وصفهم بالإيمان بالآخرة خاصة دون ما عداه من الأمور التي يجب الإيمان بها؛ لأن الإنسان ما دام يؤمن بالآخرة فهو يزن أفعاله قبل أن يفعلها، حتى لو كان فيها آلام وفيها معاناة لكنها مما أمر به شرعاً فإنه يتحمل ذلك في سبيل اللذة الأخرى في الآخرة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا يصلح طريق الجنة إلا بالمكافحة وبالمجاهدة وبالمحاسبة، أما النار فطريقه سهل جداً، فمن أراد أن يدخل النار فما عليه إلا أن يتبع الشهوات ويطلق لنفسه العنان ويتبع الهوى، وفي هذه الحالة سهل جداً عليه أن يدخل النار، فالنار حفت بالشهوات، والشهوات حجاب يحجب النار، والشهوات كالفراش التي تحجب الضوء، فإذا اقترب أحد من الضوء تحرقه هذه النار، فلذلك جاءت الإشارة هنا في قوله: (الذين لا يؤمنون بالآخرة) إلى الذين يجترئون على اقتحام الشهوات؛ لأنهم بعدم إيمانهم بالآخرة يحجبون عن الخوف من سوء العاقبة في الآخرة، فهم لا يؤمنون بالنار ولا بالعذاب، فما الذي يردعهم؟! أما الذين يؤمنون بالآخرة فهم يتحملون المكاره؛ لأنه لا سبيل إلى الجنة إلا بتحمل هذه المكاره.
يقول: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم.
يعني: ما السر في أنهم يصغون ويميلون إلى ما توحيه إليهم شياطين الإنس والجن من زخرف القول؟ يقول: فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة -يعني: في الدنيا- بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فكانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات؛ لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها، أفاده أبو السعود العنبي.
والواقع هو أقوى ما يؤيد هذا الكلام، فأنت إذا تأملت أحوال الكافرين وتعظيمهم للدنيا واهتمامهم العظيم بها علمت أن الدنيا صارت إلهاً يعبدونه ويتبتلون وينقطعون لعبادته بأقصى ما يستطيعون؛ لأنهم لا يرون لهم حياة إلا في الدنيا فقط، ويرون أنه ما الحياة إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وبعد ذلك ليس هناك أي حساب، فمن يعتقد هذا فما الذي يجعله ينزجر عن شرب الخمر، أو فعل الفواحش، أو السرقة، أو الكفر، أو غير ذلك من الأفاعيل؟! وما الذي يردعه؟! فهو لا يؤمن من الأصل، وحينئذ ينعكس هذا في سلوكه.
فلذلك يتعجب الإنسان جداً إذا رأى المسلم الذي يؤمن بالآخرة يستوي مع الكافر الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة في تصرفاته! فهؤلاء القوم إذا وقعوا في الشهوات بهذه الطريقة وفي الفساد فالسبب في وقوعهم هو الذي ذكرناه؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]؛ لأنه ما دام لم يؤمن بالآخرة فلابد من أن يتبع هواه؛ لأن النفس فيها ميل إلى هذه الأشياء المحرمة وإلى هذه الشهوات التي عاقبتها النار، وهو قد لا يدرك أن عاقبتها النار، وقد لا يصدق بذلك، فما الذي يمنعه من أن يرتع كالحيوانات والبهائم في هذه الحياة البهيمية الحيوانية؟! فكيف بالمسلم الذي يؤمن بالآخرة ومع هذا يحرص على أن يتعاطى ما يسمى بالدش وبالفيديو ونحو ذلك من مظاهر الفساد؟! فهل الذي عنده إيمان بالآخرة لا يستحضر أنه إذا أنصت لهذه الأشياء تبعده عن الله؟! والذي يجعل الإنسان يجلس أمام الأفلام والمسرحيات وسائر أنواع الفساد هل هو دافع العقل والإيمان أم دافع الهوى؟! وكذب من يقول: إن دافعه هو العقل أو الإيمان أو التقوى.
بدليل أنك إذا سألته أن يصدقك في الإجابة ويبحث عن معدل إيمانه، وهل كان قبل أن يجلس أمام هذه الأفلام أو هذه الأشياء أعلى إيماناً أم بعدها، وسألته أن يقيس إيمانه قبل أن يجلس أمام الأغاني أو المسرحيات أو الأفلام ويقيس إيمانه بعدما ينصرف، وكيف كان حاله، وهل سيزيد إيمانه وخشيته وتقواه ويبكي من خشية الله أم أنه ربما يوصله ذلك إلى الكفر إذا كان في هذه الأشياء استهزاء أو هجوم على المتدينين وطعن في شريعة الله سبحانه وتعالى، أو كان فيها -على الأقل- ما يخدش إيمانه في الوقوع في المعاصي كزنا النظر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو غير ذلك من البلاء، كل ذلك لو سألته عنه لأجابك بأنه ينقص إيمانه بعد مشاهدة تلك الأمور، ويقسو قلبه، وتقل خشيته وتقواه.
فما الدافع الذي يدفعه إلى هذه الأشياء؟
و
الجواب
أنه الهوى، وبذلك ي(57/4)
تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب)
ثم يقول تبارك وتعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:114].
قوله: (أفغير الله) يعني: قل لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-: أأميل إلى زخارف الشياطين، وأعدل عن الطريق المستقيم؛ فأطلب حكماً غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق من المبطل؟! وقوله: (أفغير الله أبتغي حكماً) الحكم: هو الذي يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، وهنا يوجد تقدير للقول، أي: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل؟! والمعنى: أأطلب معبوداً غير الله؟! وقوله: (أبتغي حكماً) يعني: أطلب معبوداً.
لأنهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم.
يقول القاسمي: هذا عندي أظهر.
يعني أن المقصود بقوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) أي: أبتغي معبوداً؛ لأن من خصائص الإله أن يتحاكم إليه، فهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم، وأنا لا يمكن أن أتحاكم إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأني إذا تحاكمت إلى غيره فكأني اتخذته معبوداً من دون الله تبارك وتعالى.
ولذلك جاء في (تنوير المقباس) في قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) قال في تفسيرها: أعبد رباً.
أما كون الآيات واردة على قولهم: اجعل بيننا وبينك حكماً فلا يصح؛ لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك، ولأنهم لا يمكن أن ينصاعوا لشرع الله كحكم.
ثم قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)) (الكتاب) يعني القرآن المعجز (مفصلاً) يعني: فيه كل ما يصح الحكم به، أنزله مبيناً به الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون.
وكثير من أهل البدع والضلال يحاولون أن ينحرفوا بتفسير القرآن والسنة؛ لأنهم يجعلون البدع التي اخترعوها هي الأصل، ثم يجعلون القرآن والسنة فرعاً، ويستدلون بالأدلة بعد تحريف معانيها أو تفسيراتها للتمويه على الناس وإسناد باطلهم.
وآيات القرآن يمكن أن تكون طيعة، بمعنى أنه إذا لم يتكلم الإنسان عن علم فلا نملك أن نحجزه عن أن ينطلق بهواه بتفسير آيات القرآن بأي صورة فيها انحراف، ولذلك يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل ولذلك فإن المنهج السلفي يتميز بالأخذ بالقرآن والسنة على فهم السلف الصالح، ويضاف هذا الضابط حتى يتميز أهل السنة عن أهل البدعة؛ لأن كل الفرق تستدل على ضلالتها غالباً بالقرآن والسنة، لكن بفهم مخالف لفهم السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
قال الإمام السيوطي في (الإكليل): استدل الخوارج بهذه الآية ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) على إنكارهم التحكيم، وبذلك كفروا أمير المؤمنين علياًً رضي الله تعالى عنه لأنه قبل التحكيم.
قال -أي: السيوطي -: وهو مردود؛ فإن التحكيم المنكر هو أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى به.
ومن راجع كتاب: (تلبيس إبليس) في مناظرة ابن عباس مع الخوارج فسيجد التفاصيل في ذلك، فهم قالوا: لا حكم إلا لله.
وفهموا بعقولهم الضعيفة أن قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) يعني إبطال التحكيم مطلقاً، وإنما المقصود إبطال التحكيم الذي يصادم شرع الله، أو الذي فيه حكم بغير ما أنزل الله، أما أن تلجأ إلى حكم يحكم بينك وبين غيرك بما أنزل الله فما هذا إلا مظهر من مظاهر التوحيد والانقياد لشرع الله، وليس هذا مضاداً لشرع الله، ولذلك أفحمهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالآية التي في سورة المائدة، والتي فيها كفارة قتل المحرم الصيد، وهي قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فإذا كان هذا في دم أرنب أمر الله سبحانه وتعالى فيه بالتحكيم فكيف بما هو أعظم من ذلك من القتال الذي كاد أن يقع بين المسلمين؟! ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى (تلبيس إبليس) ففيه حكاية المناظرة بالتفصيل.
إذاً: فمعنى الآية ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) يرد به على الخوارج؛ لأن المراد بالتحكيم المذكور هو أن تريد حكماً يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهذا -للأسف الشديد- ينطبق على بعض الناس في كثير من المناطق التي يخير فيها بين الحكم بالشرع، وبين الحكم بالأعراف والقوانين الوضعية، أو بقول القبائل ونحو هذه الأشياء، فأي مسلم يعرض عليه مثل هذا لا يجوز له إلا أن يقول للشرع: سمعنا وأطعنا.
ولا يتصور أبداً أن المؤمن يقبل الخيار أصلاً كمبدأ.
والحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، فوصف الحكم أقوى من وصف الحاكم؛ لأنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم، بخلاف الحاكم.
وفي هذه الآية الكريمة تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين، ومغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيله، وهذه الآية مثل قوله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وتقدم أن قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم، وكذلك هنا.
وقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)) يعني: يتضمن كل شيء وهل معنى ذلك أن تستدل بالآية -كما فعل الضالون ممن يسمون زوراً بالقرآنيين- على عدم الاحتجاج بالسنة؟!
الجواب
كلا، بل نقول: إن مما دل على حجية السنة القرآن الكريم نفسه، فهو الذي دلنا على أن السنة حجة كالقرآن الكريم.
ثم يقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ))، قوله: (والذين آتيناهم الكتاب) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبلك.
والله لم يعطهم كتباً في أيديهم، وإنما أعطاهم علم الكتب المنزلة من قبل، كعلماء اليهود والنصارى، ولنتأمل كلمة (علماء) ولا نقول: مقلدة؛ لأن الكلام هنا في حق العلماء، أما غيرهم فقال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] وأي أنهم مقلدون.
أما الذين نتحدث عنهم هنا والذين يصفهم الله بذلك فهم الذين يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم علماء أهل الكتاب.
فقوله: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله صلى الله عليه وسلم، كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم، فهؤلاء العلماء يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق.
ولماذا خص بالذكر علماء أهل الكتاب؟ وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] والمقصود بالشاهد عبد الله بن سلام كبير أحبار اليهود، فلماذا خصهم بالذكر؟ والجواب أن بيان هذا الأمر من وجهين: الوجه الأول: أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، ونحن نتكلم عن علماء أهل الكتاب الذين يعلمون، وليس عن المقلدين؛ لأن العالم بالشيء هو الذي يستطيع أن يميز بين ما كان منتمياً إلى العلم الذي علموه وبين ما كان أجنبياً عنه، فمثلاً: لو ألف رجل كتاباً في الطب فسيكون الأطباء هم أعلم الناس بكونه طبيباً؛ لأنهم هم الذين يستطيعون أن يحكموا عليه.
ومن ألف كتاباً في النحو سيكون أعلم الناس بكونه نحوياً هم علماء النحو، لا عموم الناس ولا المقلدون.
وكذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله تبارك وتعالى على أنبيائه من هذا الوحي يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي، ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب في الحبشة على النجاشي سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
فمن جاء بسورة من القرآن الكريم حتى لو كانت ثلاث آيات وهو من العلماء يُعرف أن هذا ليس من كلامه، فكيف برجل أمي لم يقرأ من قبل ولم يكتب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197].
الوجه الثاني في سبب الإشارة إلى علماء أهل الكتاب: أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] ويقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) أي: لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم، وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله، كما قال سبحانه: ((يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ))، أي: أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بأحقيته ونزوله من عنده تعالى.
وقوله تعالى: ((فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فهذا من باب التهييج والإلهاب، وليس معنى ذلك أنه يحتمل أن يطرأ الريب أو الشك على النبي صلى الله عليه وسلم، حاش(57/5)
تفسير قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)
ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
قوله: (وتمت كلمة ربك) يقرأ أيضاً: (وتمت كلمات ربك) بالجمع، يعني: بلغت أخباره وأحكامه ومواعيده الغاية (صدقاً) في الأخبار وفي المواعيد (وعدلاً) في الأقضية والأحكام، أي: تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم وكفر من كفر، ومحبة من أحب وعداوة من عادى، قضاءً مبرماً وحكماً صادقاً مطابقاً لما يقع، عادلاً بمناسبة كل قول وكل كمال وحال لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له.
وقوله: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أي: لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) لا يستطيع أحد أن يبدلها بما هو أفضل منها، أو بما هو أصدق أو أعدل منها، أو بتفسير آخر: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) لا أحد يقدر على أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة.
وهذا على أن (كلماته) هنا المراد بها القرآن؛ لأنه لا يقوى أحد أن يحرف كلمات القرآن؛ لأن الله تكفل بحفظه، فقوله: (لا مبدل لكلماته) يعني: بذلك القرآن، لا كما حصل من التبديل في التوراة، فتكون هذه الآية ضماناً -أيضاً- لحفظ القرآن الكريم، وحينئذ تكون موافقة لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] أي: من التغيير والتحريف والتبديل.
وقيل: (لا مبدل لكلماته) أي: لأحكامه الأزلية التي سبق القلم القضائي والقدري بها.
وقال السيوطي في (الإكليل): يستدل به من قال: إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل، وإنما بدلوا المعنى؛ لأن كلمات الله لا تبدل.
وهذا إذا قلنا بالعموم في قوله: (لا مبدل لكلماته) كما أشرنا، فيكون معنى (لا مبدل لكلماته) أي: لأحكامه التي سبق بها قلم القضاء، أو (لا مبدل لكلماته) أي: القرآن خاصة، فتكون موافقة لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وإذا قلنا: (لا مبدل لكلماته) أي: كل كتب الله -سواء القرآن أو التوراة أو الإنجيل- فسيكون هذا التفسير دليلاً لمذهب من يرى: أن التوراة والإنجيل لم يحرفا تحريفاً لفظياً، وإنما التحريف الذي وقع فيهما هو تحريف معنوي، وبهذا قال ابن عباس، كما رواه عنه البخاري في صحيحه.
وقوله: (وهو السميع) أي: لما يظهرون من الأقوال (العليم) أي: بما يخفون.(57/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)
بعدما بين الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء الكافرين المعرضين عن الحق حذر وبين أن مثل هؤلاء لا يستحقون أن يطاعوا، ومثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين يصدون عن سبيل الله بهذه الصورة لا يستحقون أن ينقاد لهم المسلم، ولا أن يكون تابعاً لهم، فقال تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
قوله: (وإن تطع أكثر من في الأرض) يعني: أكثر من في الأرض من الناس، وهم الكفار؛ لأن أكثر من في الأرض هم من الكافرين، وهذا نستطيع أن نعرفه بمراجعة حديث: (إن الله سبحانه وتعالى يقول لآدم يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار) فحينما يستوضح آدم: ما بعث النار؟ يأتيه
الجواب
( من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) أي: يذهبون إلى النار، وواحد فقط هو الذي ينجو، فهذا دليل واضح جداً بجانب الأدلة القرآنية على أن أكثر أهل الأرض من الكفار، ولذلك يقول تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]، ويقول أيضاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، وقال أيضاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8].
وقوله: ((يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) يعني: عن الطريق الموصل إلى الله سبحانه وتعالى بتزيين زخارفهم عليك ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى، كما قال عز وجل: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) و (إن) هنا بمعنى (ما).
والمراد ظنهم أن آباءهم كانوا على حق، فهم يقلدونهم.
وقوله: ((وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) يعني: يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان صلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر إلخ.
((وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) من الخرص، والخرص هو الحزر والتخمين، ولا يستعمل إلا فيما يشك الإنسان فيه ولا يكون على يقين منه، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء.
وأحياناً تكون كلمة الخرص بمعنى الكذب، وأصل الخرص القول بالظن، وقول ما لا يستيقن ويتحقق منه، ومنه: خرص النخل خرصاً، وخرص النخل هو حزره ليأخذ منه الخراج أو الزكاة.
والمقصود من الآيات أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلا الظن، وهم كاذبون في ادعاء القطع؛ لأنهم في الحقيقة يزعمون أنهم يقطعون بأن ما هم عليه هو الحق، وأن هذا الدين الذي هم عليه حق وصدق، فنقول: إنهم في الحقيقة لا يتبعون إلا الظن، وهم كاذبون في ادعائهم القطع بصحة ما هم عليه من الباطل.(57/7)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:117].
في هذه الآية تقرير لمضمون الشرطية وما بعدها، وتأكيد لما يفيده من التحرير، يعني: هو أعلم بالفريقين، فاحذر أن تكون من الأولين الذين يضلون عن سبيل الله، كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] فإذا كان الله أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فاحذر أن تكون من هؤلاء المذكورين، فإن الله سيعلم ذلك.
وهاتان الآيتان تمسك بهما نفاة القياس، وفي ذلك نقاش مفصل يمكن الرجوع إليه عند القاسمي.(57/8)
تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)
ثم قال تبارك وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118].
قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ذكر الله هذا بعدما نهى في الآيتين السابقتين عن اتباع وطاعة الكثرة إذا كانت ضالة، وذلك في قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:116 - 117]، وكثيراً جداً ما يقترن في القرآن الأمر بالتوحيد مع النهي عن مظاهر الشرك في موضوع النسك والذبائح؛ لأن موضوع الذبائح من أجل مظاهر الشرك في العبادة التي مارسها المشركون مع أصنامهم، فلذلك نجد أنه بعد أن ذكر القضايا في الكلام على القضية الكبرى -وقضية صد هؤلاء عن سبيل الله وعن التوحيد والعقيدة- عقب مباشرة بربطها بالنهي عن هذه المظاهر.
وهذا معروف، فإننا نجد كل من يقع في الشرك يقع في الذبح لغير الله، ونجد الذين يعبدون البدوي ونحوه دائماً يمارسون مظاهر شركية فيها صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، بل يقع عندهم الحلق تشبيهاً بمناسك الحج والعياذ بالله! ويحسبون أنهم على شيء، فكما أنه يحلق الحاج أو المعتمر ويقصر في الحرم كذلك يفعل هؤلاء الضالون الضائعون، وعندهم مناسك، وترى الحلاقين موجودين في طنطا وفي نحوها من الأماكن، وفي الموالد يحلقون للناس رءوسهم في مناسك حجهم إلى البدوي -والعياذ بالله! - وكذلك الذبح معروف عندهم، وما زال موجوداً إلى الآن، والله المستعان.
وتجدهم يصحبون معهم الهدي من أطراف الأرض، ويأتون به لأجل البدوي، فلا يُركب ولا يُحلب ولا يُستعمل؛ لأن هذا من أجل البدوي في زعمهم، وهذا كالسوائب والبحائر التي ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة.
يقول تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118] وهذا أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين؛ لأن هؤلاء يضلونك عن سبيل الله.
ومن مظاهر الإضلال تحليل الحرام وتحريم الحلال، وذلك أنهم خاصموا وجادلوا المسلمين، فقالوا: ما ذبحتم أنتم تأكلونه.
وهذا من وحي الشياطين إليهم، وهذا أخرجه النسائي عن ابن عباس، وفيه: فنزلت هذه الآية: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118].
والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه؛ لرفعه تنجيس الموت إياه؛ لأنه هو المانع من الأكل، ولأنه لو مات حتف أنفه فإن الموت ينجسه، في حين أن الذبح بالسكين يزيل التنجيس بالموت عنه؛ لأن هذا التنجيس هو المانع من أكله.
أي: كلوا مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا مما مات حتف أنفه.
فإذاً النهي هنا هو عن أكل الذي لم يذكر اسم الله عليه، يعني: كلوا مما ذكر اسم الله عليه مما ذكيتموه، أي: بجانب الشروط التي في عملية التذكية نفسها؛ لأن هناك شروطاً في الذابح وشروطاً في المذبوح، فلابد -مثلاً- من أن يكون المذبوح حلالاً، فلا يكون خنزيراً، ولا يكون ذا ناب من السباع ونحو ذلك مما حرم الله تبارك وتعالى، والذابح لابد من أن يكون إما مسلماً وإما كتابياً، وعملية الذبح فيها شروط معينة.
فالمقصود: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه وكان الذابح مسلماً والمذبوح حلالاً، فلا يجوز أن تأتي بخنزير -مثلاً- وتسمي عليه وتذبحه، ولا يصح أن يأتي ملحد ويذبح، حتى ولو قال: بسم الله.
فإن ذبيحة المشرك والوثني لا تحل.
ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا تأكلوا أيضاً مما مات حتف أنفه.
وقوله: ((إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)) أي أن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله واجتناب ما حرمه الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يكفر بآيات الله، فإنه يحرم الحلال ويحلل الحرام.(57/9)
تفسير قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام:119].
قوله: ((وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) هذا إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب وأمثال هذه الأشياء لم يحرمها الله تعالى، فكلوها وهي حلال لكم ما دمتم قد ذكرتم اسم الله عليها، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] فما يمنعكم من ذلك (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) أي: أي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله؟! وما هو الذي يمنعكم عنه؟! وقوله: ((وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)) يعني: بين ووضح في الشريعة وفي القرآن الكريم ما حرمه عليكم، وهذا ليس مما حرمه عليكم.
وبعض المفسرين قالوا: إن المقصود بهذه الآية: الإشارة إلى ما نزل في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة:3] إلى آخر الآية، ولكن هذا القول قد رد.
فبعض المفسرين قالوا قولاً ضعيفاً، قالوا: إن قوله: (وقد فصل لكم) فيه إشارة إلى ما في سورة المائدة.
وهذا القول ضعيف؛ لأن سورة الأنعام سورة مكية، وسورة المائدة سورة مدنية، بل من آخر ما نزل في المدينة من القرآن الكريم سورة المائدة، وفيها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] كما هو معروف، فإذا كانت سورة المائدة من آخر ما نزل فكيف يحيل القرآن في سورة مكية على ما سينزل بعد في سورة مدنية؟! فقوله: ((وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ)) ظاهرها أن هذا التفصيل قد حصل في الماضي، فالصواب أن التفصيل يأتي فيما بعد في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145]، فتكون هنا الإشارة إلى التفصيل فيما يأتي من الآيات، فإنه ذكر بعد بيسير، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد، وتكون الآية التي أتت بالتفصيل في نفس السورة بعد شيء يسير؛ إذ لا مانع أن يكون المراد بقوله: (فصل لكم) يعني: فيما هو يأتي قريباً في نفس هذه السورة.
وقوله: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) يعني: فصل لكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم أنزل بعد ذلك في القرآن في سورة المائدة تفصيل ما حرم.
وفي قراءة: (وقد فَصل لكم ما حرم عليكم) والقراءة الأخرى: (وقد فُصل لكم ما حُرم عليكم)، ومعنى الآية: لا مانع من أكل ما ذكر، وقد بينا لكم المحرم أكله، وهذا ليس منه.
وقوله: (إلا ما اضطررتم إليه) يعني أن ما حرم عليكم يباح لكم عند الاضطرار، فإذا دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة فيباح لكم.
وقوله: ((وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ)) (ليَضلون) قُرئ بفتح الياء وضمها، وقوله: (بغير علم) يعني: من غير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ إن هؤلاء المجادلين من المشركين قالوا: ما ذبحتم أنتم حلال، وما ذبحه الله حرام! أي: الذي يموت حتف أنفه، فجادلوا المسلمين في هذا، فلذلك جاء الجواب هنا.
وقوله: ((وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ)) أي: في شأن الذبائح ((بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) فالعلم دائماً ضد الهوى، كما هو معلوم، فالهوى مقابل الوحي، والوحي هو العلم، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] يعني: وحياً.
فقوله تعالى: ((وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) يعني: من غير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ الحكمة في الذبح إخراج ما حرمه الله تعالى علينا من الدني، بخلاف الذي مات حتف أنفه؛ لأن الذي يموت حتف أنفه من هذه الأشياء ينحبس الدم فيه في داخل الجثة، فالحكمة من الذبح إراقة الدم وإخراجه، والله سبحانه وتعالى سخر لنا هذه المخلوقات، كما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فأباح لنا أكلها، وأباح لنا ذبحها لمصلحتنا، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا.
فالحكمة في الذبح إخراج الدم من جسد الذبيحة، بخلاف ما مات حتف أنفه فإن الدم يبقى فيه، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى الذكاة في محل مخصوص، وهو في الرقبة، ليكون الذبح فيه سبباً لجذب كل دم في الحيوان، بخلاف غيره من الأعضاء، والذبح لم يكن في الورك أو الفخذ أو في الجسد أو في الرأس، وإنما كان الذبح في العنق؛ لأن الوريدين والأوعية الدموية التي هي موجودة في الرقبة إذا قطعت في الذبح الشرعي يؤدي قطعها إلى استنزاف الدم من جسد الذبيحة، والحركات العضلية التي يحدثها المذبوح تدفع الذي يبقى من الدم إلى خارج الجسد، فهذه الحركات التي تحصل من الذبيحة الهدف منها أن تطرد الدم حتى يخرج وحتى يتطهر بدنها من وجود هذا الدم.
إنه إذا أراد أحد أن يعمل مزرعة فلابد من أن يحدد نوع البكتيريا التي قد تصيب هذه المزرعة؛ لأن البيئة صالحة جداً لنمو البكتيريا، فالخبراء يأخذون عينة ويضعونها على طبق فيه دم، وتترك حتى تتكاثر بسرعة، ولما يكثر عددها يستطيعون أن يعدوها وأن يعرفوا كثافتها، وفي نفس الوقت يعرفون نوع هذا الميكروب أو البكتيرياء، وحينئذ يستطيعون أن يأتوا بمضاد حيوي خاص بهذا النوع حتى يقتله.
فالشاهد أنه في المعامل الطبية أو معامل التحريك إذا أردنا أن تنمو البكتيريا الميكروبات وضعناها في الدم، وإذا قارنت عينة من بقايا الدم الموجودة في الذبيحة بعينة أخرى من بهيمة مثلها تموت حتف أنفها دون أن يخرج منها الدم فستجد نسبة هائلة جداً من البكتيريا الضارة في هذه التي بقي الدم فيها؛ لأن وجود الدم في داخلها سيؤدي إلى تكاثر البكتيريا والميكروبات بشكل سريع جداً، وهذا مما يسبب ضرراً على صحة الإنسان، فأين هؤلاء الذين أرادوا أن يقولوا: إنكم ترون أن ما أماته الله حرام، وما ذبحتموه أنتم حلال؟! فهؤلاء يجادلون ويضلون بأهوائهم من غير علم بالحكمة التي من أجلها شُرع الذبح، والحكمة هي إخراج ما حرمه الله علينا من الدم؛ لأن هذا الدم حرام علينا أن نأكله، بخلاف ما مات حتف أنفه، فإن الدم ينحبس فيه، ولهم اعتبارات تجارية، منها أن الدم إذا انحبس في الجثة يكون وزنها أكثر، وهذه نظرة تجارية، وحينئذ يضلون بترك إخراج ذلك الدم، وهؤلاء الجهلة من المشركين في الغرب يعتبرون الذبح جريمة ووحشية، ويتكلمون بجهلهم أحياناً على الذبح بأنه نوع من الوحشية والقسوة وغير ذلك، والذي نعلمه أن في أمريكا الآن منع في القانون أكل ما لا يذبح، ولكنه ليس تعبداً وطاعة لله، وإنما هو انقياد للقواعد الصحية؛ لأنهم اضطروا إلى هذا الأمر بسبب الضرر الذي ينتج من وجود الدم داخل الذبيحة.
قال الرازي: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام؛ لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام.
وقال بعض الزيدية: في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة، ولكن باتباع الهوى.(57/10)
تفسير قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون)
ولما بين تعالى تفصيل المحرمات أتبعه بما يوجب ترك هذه المحرمات بالكلية فقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120].
قوله: (وذروا ظاهر الإثم) أي: سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح، فهناك آثام يرتكبها الإنسان بالجوارح وتكون واضحة يراها الناس، وهناك آثام وكبائر باطنة يرتكبها بقلبه، فظاهر الإثم هو الذي يكون بالجوارح، (وباطنه) أي: ما يُسر منه بالقلب.
وباطن الإثم لا شك في أنه أشد وأخطر من ظاهره، وكبائر القلوب أشد من كبائر الجوارح، ويكفيك أن من ذنوب القلب العقائد الفاسدة، فلو أن رجلاً يشرب خمراً ويعتقد بقلبه أنها حرام فإنه مسلم عاصٍ، وإن كان ظاهره أنه يشرب الخمر ويعصي الله سبحانه وتعالى، ولو أن رجلاً آخر لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أن الخمر حلال فهذا أسوأ حالاً، بل هو كافر مرتد خارج من الملة؛ لأن الكفر هنا بالقلب، فهذا باطن الإثم، فباطن الإثم هو الذي يرتكب بالقلوب كالعقائد الفاسدة والعزائم والنيات الباطلة؛ لأن النية محلها في القلب، وعلى هذا فإن النيات والعزائم الفاسدة من بواطن الإثم.
أو أن معنى ((ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)) أي: ما يعلن من الذنوب وما يسر منها ويستتر فيه، أي: الذنوب عموماً، لكن بعضها يعلنها الإنسان أمام الناس وبعضها يرتكبها في خفاء.
قال السدي: (وظاهره): الزنا مع البغايا ذوات الرايات (وباطنه): مع الخليلة والصدائق والأخدان.
يعني: في السر.
ولا يخفى أن اللفظ عام في كل محرم، ولذا قال قتادة: (ظاهر الإثم وباطنه) يعني: سره وعلانيته، قليله وكثيره، صغيره وكبيره، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] فما ظهر وما بطن هو كقوله تعالى: (ظاهر الإثم وباطنه).
وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ)) (يقترفون) يعني: يكتسبون.
قال الشهاب: الاقتراف في اللغة: الاكتساب، وأكثر ما يقال في الشر والذم، ولذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف.
وقد يرد في الخير.
وأحياناً تستعمل كلمة (الاقتراف) في الخير، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] يعني: يكتسب.
لكن الغالب أنها تستعمل في الشر.
وقد روى مسلم وغيره عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) فجعل إتيان المعاصي في السر وحشة في الصدر، والحد الفاصل بين الإثم وبين البر أن البر هو حسن الخلق، والإثم ما حكاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب كما يؤاخذ بأفعال الجوارح.
وهذا على التفسير الأول في هذه الآية، وهو أن قوله: ((وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)) يعني سيئات الأعمال الظاهرة والعقائد والنيات الفاسدة.(57/11)
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
قوله: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))، يعني: عند ذبحه.
فقوله: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) أي: إن ذكر عليه اسم غير الله فلا تأكلوه، مثل أن يهل به لغير الله، وعلى هذا لا يكون في الآية تعرض لذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها؛ لأن ما ذكر عليه غير اسم الله لا يدخل فيما ذكر عليه اسم الله.
والآية تحتمل أن يكون المراد ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحتمل أن يكون المراد ما يذكر عليه اسم غير الله، وتحتمل أيضاً: أن مسلماً يذبح ذبيحة ولا يذكر اسم الله عليها، فإذا عممناها وجعلناها تشمل هذه الحالات ففي هذه الحالة لا يجوز الأكل من ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية، وفي المسألة تفصيل فيما إذا كان عامداً أو ناسياً.
وقوله: (وإنه لفسق) الفسق هو ما أهل لغير الله به، كما في الآية الآتية في آخر السورة، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنه في الآية التي في أواخر هذه السورة قال تبارك وتعالى فيها: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] فهنا -أيضاً- وصف هذا الفعل بأنه فسق، فمن ثمّ قال بعض المفسرين: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) أي: مما أهل به لغير الله.
يعني: لأن هذا هو نفس الفسق، فلا تتناول الآية -على هذا القول- ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية.
وقوله: (وإنه لفسق) الفسق هو الخروج عن الحسن إلى القبح بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره.
وقوله: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ))، المقصود: إبليس وجنوده، (ليَوحون) يعني: يوسوسون (إلى أوليائهم) يعني الذين اتبعوهم من الكفار (ليجادلوكم) يعني: بالوساوس الشيطانية، أو بما نقل من أباطيل المجوس، والمراد: ليجادلوكم في تحليل الميتة، يريدون أن تستحلوا الميتة وتأكلوها فيجادلوكم بهذه المناقشة التي سبق أن ذكرناها.
والمجادلة هي دفع القول عن طريق الحجة بالقوة، وكلمة (المجادلة) مشتقة من الأجدل، والأجدل طائر قوي، فالمجادلة هي دفع القول عن طريق الحجة، أي أنك تبطل قول خصمك عن طريق الحجة القوية بهذه القوة العلمية.
وقيل: مأخوذة من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة ويقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض.
وقيل: مأخوذة من الجدل، والجدل هو شدة الفتل، كالذي يفتل الحبال، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقاً في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل، فالمجادلة الصحيحة كقوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] والمجادلة المذمومة هي المجادلة في دفع الحق ونصرة الباطل، كقوله تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ)) أي: في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.
وقوله: ((إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) أي: مشركون لهم مع الله فيما يختص به من التحليل والتحريم.
وقوله: ((لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)) روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: إن المختار الذي ادعى النبوة يقول: (يوحى إلي)! أي: يزعم أنه يوحى إليه.
فقال عبد الله بن عمر: (صدق ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ))) أي أنه يوجد نوع من الوحي الباطل عن طريق الوساوس كما ذكرنا.
وكان مما يحكى في أوائل الثمانينات أنه كان هناك بدعة ضالة مشهورة عن الحرماوي، وقد ضل ضلالاً عجيباً، والقضية فيها كلام كثير لا نريد أن نفصل الكلام فيها، يقول الذين كانوا معه في الزنزانة: إنه كان يستيقظ بعض الإخوة في الليل -والزنزانة فيها سور يفصل بين دورة المياه وبين العنبر- فكانوا يجدونه بالليل وهو متسلق فوق هذا السور يقول: هات هات.
أي: كأنه يستقبل وحياً، ويمكن أن يكون يوحى إليه فعلاً، والذي يوحي إليه هم الشياطين، كما قال تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) ولا مانع من أن يسمى هذا وحياً؛ لأنه بمعنى الوسوسة بهذه الأوهام وهذه الأباطيل.
وهناك من يدعي أنه يحكم على الأحاديث بقلبه، فيحكم على الحديث هل يقبل أم لا يقبل بقلبه.
وهناك من يحرمون الاكتساب، ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يسعى في طلب الرزق أبداً، بل يعيش هكذا.
ولا يجوزون قتل أي نوع من الحشرات، لا الفئران ولا الصراصير ولا البراغيث ولا القمل ولا غيرها؛ لأنها تسبح الله، والجنون فنون! فهذا أيضاً من الوحي، ولكنه وحي من الشياطين، وهذا كالوحي الذي كان يأتي غلام أحمد القادياني، فإنه كان يقول: أتاني وحي في سورة رجل إنجليزي حسن الصورة وقال لي كذا وكذا.
ونحن نقول: نعم، إنه شيطان كان يوحي إليه.(57/12)
سبب نزول قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) الآية
هنا تنبيهات تتعلق بهذه الآية: الأول: روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتله الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى: ((فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)) إلى قوله: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))) أخرجه أصحاب السنن.
وفي رواية لـ أبي داود في قوله تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) أنهم قالوا: (ما ذبح الله فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا! فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))) وفي آية أخرى: ((فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5].
وعند النسائي قال: (خاصمه المشركون فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه!).(57/13)
مشروع التسمية عند الذبح
التنبيه الثاني: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح، وهذا من دقة القاسمي، حيث استعمل كلمة (مشروعية) فأتى بلفظ عام؛ لأنه ليس في مقام تحقيق حكم التسمية، فلذلك تخلص من الانحياز لأحد القولين بأن أتى بالمشروعية، فالمشروعية تشمل الواجب وتشمل المستحب أيضاً، فلذلك قال هنا: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح، فقيل: (باسم الله) بهذا اللفظ الكريم، وقيل: بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن وسائر أسمائه الحسنى، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].(57/14)
حكم الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها
التنبيه الثالث: ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، أي أن الآية ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) تساوي ما ذكر اسم غيره عليه، فـ القاسمي يميل إلى هذا، ويقول: هذا هو الأظهر في تأويل هذه الآية ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] يعني: لا تشمل ذبيحة المسلم الذي لم يسم، لقوله تعالى بعد: ((أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) وهذا من باب مراعاة النظائر في القرآن، فالنظائر القرآنية أولى ما يلتمس المراد بها.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، وذبائح المجوس.
وقد حاول بعضهم أن يقويه.
وقوله: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) لأن من أكل الميتة أو ما ذبح على النصب يفسق، وإذا استحلها يكفر، فلو أن رجلاً أكل الميتة وهو معتقد أنها حرام في غير حالة الضرورة فإنه يكون فاسقاً، لكن لو اعتقد أنها حلال حتى لو لم يأكلها فهذه ردة وكفر.
فقوله: (وإن أطعتموهم) يعني: في استحلال الحرام، أو تحريم الحلال (إنكم لمشركون).
يقول القاسمي: وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً.
واحتج البيهقي بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه.
قالت: -يعني: عائشة - وكانوا حديثي عهد بكفر)، رواه البخاري.
قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها؛ لأنهم لا يعرفون هل سموا أم لم يسموا، فلما قال لهم: (سموا عليه أنتم وكلوه)، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن التسمية شرط لذبيحة المسلم، ولذا لم يرخص لهم إلا مع التحقق من وجود التسمية.
يقول الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة؛ لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يُعلم هل وقع في الذكاة المعتبرة أم لا.
وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه (سموا أنتم) ومعنى (سموا أنتم) يعني أن هناك شكاً في نحوهم سموا أم لا، وكأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا.
وهذا من الأسلوب الحكيم، ومما يدل عليه -أيضاً- قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم هل سموا أم لا.
هذا وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، وأخذوا بظاهر هذه الآية.
يعني أنهم فسروا قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) إما بأن يكون قد أهل لغير الله به، أو بأن تترك التسمية عليه حتى لو كان الذابح مسلماً؛ لأنه يصدق عليه ظاهر الآية، وهو أنه مما لم يذكر اسم الله تبارك وتعالى عليه.
يقول: وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً عمداً ترك التسمية أو نسياناً، فالظاهر يدل على هذا، واحتجوا -أيضاً- بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] وهنا أمر بذكر (بسم الله).
واحتجوا -أيضاً- بالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي علي وأبي ثعلبة: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل) يعني صيد الكلب المعلم يباح، لكن صيد الكلب الجاهل لا يباح عند أهل العلم، وفي هذا بيان شرف الكلب المتعلم على الكلب الجاهل، فتباً لمن يحذرون الناس من طلب العلم ويزهدونهم فيه ويفيضون في ذكر فضائل الجهل، وأن الصحابة كان منهم من لا يعرف كذا ولا كذا ولا كذا، والعياذ بالله! فإذا كان بالعلم فُضل الكلب على أخيه الكلب، فكيف لا يُفضل الإنسان المؤمن المتعلم على الذي لا يتعلم؟! ولكن هنا شرطان: أن يكون الكلب معلماً، وأن تذكر اسم الله، فدل على أنه إذا لم يذكر اسم الله فلا يأكل، وفي حديث رافع بن خديج: (ما أنهر الدم -يعني: أراق الدم- وذكر اسم الله عليه فكلوه)، وهو في الصحيحين أيضاً، وفي حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه) وفي حديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، فمن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله)، أخرجاه.
ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصل ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصل، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(57/15)
تفسير سورة الأنعام [123 - 136](58/1)
تفسير قوله تبارك وتعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها)
قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123].
قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل وغمط الحق كذلك قد جعلنا مثل هذا في كل قرية أرسلنا إليها الرسل، فجعلنا أكابرها مجرمين، وكانوا متصفين بصفات المذكورين، وكانوا مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليفعلوا المكر على أتباعهم بالتلبيس ليتركوا متابعة الرسل، فغاية مكرهم هو أن يصدوا الناس عن اتباع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وأكابر المجرمين هم أهل الترف، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] وقال تبارك وتعالى مبيناً أن أكابر المجرمين هم أهل الترف: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وقال تبارك وتعالى مبيناً هذا المكر وحاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} [نوح:22 - 23] إلى آخر الآية الكريمة.
قال ابن كثير: المراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، ليزينوا لهم هذا الباطل الذي هم عليه، وكانوا يزخرفون لهم أفانين القول، كما قال عز وجل إخباراً عن قوم نوح: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22]، وكقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} [سبأ:31 - 33] أي: مكركم بنا بالليل والنهار.
وهذا يبين أن مكرهم مكر متصل في الليل والنهار، فكانوا يزخرفون لهم القول ويلبسون عليهم كي يصدوهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ)) في إعراب (أكابر مجرميها) قولان: الأول: أن (أكابر) مضاف إلى مجرميها، فـ (أكابر): مضاف، و (مجرميها) مضاف إليه، وعليه فيكون (أكابر) مفعولاً أول لـ (جعل) وأما المفعول الثاني فهو الجار والمجرور في قوله تعالى: ((فِي كُلِّ قَرْيَةٍ)) أي: وكذلك جعلنا أكابر المجرمين في كل قرية.
فهذا هو القول الأول في إعراب (أكابر مجرميها).
القول الثاني: أن (مجرميها) مفعول أول، و (أكابر) مفعول ثانٍ، والتقدير: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، و (أكابر) تُمنع من الصرف، فسبب عدم وجود التنوين في الإعراب الأول هو الإضافة، وفي الإعراب الثاني المنع من الصرف، والأكابر جمع الأكبر.
قال الزمخشري: خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، وهم الذين يحرضون الناس ويقودونهم إلى الضلال، بجانب أنهم غالباً الأقدر على الفساد، فهم الموجود عندهم القدرة، والمتمكنون من نشر الفساد في الناس، وهم الماكرون بالناس كافة، كما قال عز وجل: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16].
وقوله: ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) يعني: لا يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيط بهم، كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] وقال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
قال الزمخشري: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم.
وقوله: ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) يعني أن هذا الكيد والمكر يرتد في نحورهم؛ لأنهم حتى لو مرت بهم الدنيا دون عقاب فإنهم في الآخرة يتحملون أوزار كل من أضلوهم عن سبيل الله، يعني أن أصحاب الأوزار لا يتحملون أوزارهم وحدهم، لكن كل من أضلوهم عن سبيل الله يحملون من أوزارهم.(58/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124].
قوله: ((وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ)) أي: برهان وحجة قاطعة.
وقوله: ((قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)) يعني: كما نزل الوحي على الأنبياء بالمعجزات المصدقة لهم، فكذلك نحن لن نؤمن حتى يحصل معنا نفس هذا الشيء، وينزل علينا الوحي كما نزل على رسل الله تبارك وتعالى.
فمعنى (حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) أي: لن نؤمن حتى تأتينا الملائكة بالرسالة، كما فعلت مع رسل الله عز وجل، وهذا -أيضاً- كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21]، وكما قال تبارك وتعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52]، وكما قال -أيضاً- حاكياً عن اقتراحاتهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92].
ويحتمل أنهم يريدون أن يروا الملائكة عياناً يأتون ويشهدون له بالرسالة، أو أنهم أرادوا أن تأتيهم الملائكة بالرسالة وبالوحي كما جاءت إلى الأنبياء.
وقوله تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) هذا الجزء من الآية يصحح أنهم إنما طلبوا النبوة ولم يطلبوا مطلق نزول الملائكة لتشهد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجواب أتى من الله بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فالذي يستحق الرسالة يعلمه الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75].
إذاً: هذا هو الجواب عليهم على ما اقترحوا، فإنهم قالوا: ((لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)) أي: أما أن تنزل عليهم الملائكة ليشهدوا للرسول، وإما أن تنزل عليهم الملائكة بالوحي كما كانت مع الرسل، وهذا القول الثاني أرجح، بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ))، فهذا كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن الله لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، فيليق للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره مما لو انكشف لغيره انكشافه له لطابت له نفسه، أو ذهبت بعقله دلالته وعظمته، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم، والله سبحانه أعلم بالمحل الذي يليق به أن يصطفى ويختار نبياً ورسولاً لله عز وجل، وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل اصطفى -أي: اجتبى- من ولد إبراهيم إسماعيل) يعني: أن إسماعيل عليه السلام مصطفى من جميع ولد إبراهيم عليه السلام باختيار واصطفاء، قال: (واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ورواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً) صلى الله على نبيه وسلم.
ثم قال تبارك وتعالى: ((سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ)).
قوله: (صغار) أي: ذلة وهوان وضيم في مقابلة ما كانوا عليه في الدنيا من التكبر ومن التعاظم على خلق الله تبارك وتعالى والاستكبار عن الحق، ولذلك صح في الحديث أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذر الدقيق الذي يضعف عن شعاع الشمس، ولذا يمر في المكان الذي فيه ظل، فالمتكبرون يكونون على الصورة الإنسية، لكن في حجم الذر، يطؤهم الناس في الموقف تحقيراً لهم، ومعاملة لهم بنقيض ما قصدوا، فهم قصدوا في الدنيا التكبر والعلو، فعوقبوا بالذل والصغار يوم القيامة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: ((سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ)) أي: ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم.
وقوله: (صغار عند الله) يعني: صغار من عند الله، أو صغار عند الله ثابت لهم، يعني يوم القيامة جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته وتكذيب رسالته، كما صح في الحديث: (الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته).
فالكبرياء لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:37] فلا ينبغي لأحد أبداً أن ينازع الله سبحانه وتعالى في صفة الكبرياء، فهؤلاء لما نازعوه عز وجل في هذه الصفة، وردوا آياته وكذبوا رسله، واعترضوا على الله عز وجل لأنه اختص بالرسالة غيرهم عاقبهم بهذا الصغار الثابت لهم عند الله.
قوله: (وعذاب شديد) يعني: في الآخرة (بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) أي: بما كانوا يمكرون في الدنيا إضراراً بالأنبياء أو إضراراً بأتباع الأنبياء من الصالحين، وكانوا يأتمرون ويخططون من أجل إطفاء نور الإسلام وحرب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: لما كان المكر -غالباً- إنما يكون خفياً -وهو التلطف في التحيل والخديعة- قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً.
وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل، يركز في هذا اللواء ليفضح أمام أهل الموقف لأنه كان يكتم المكر في الدنيا، وكانت المؤامرات تعقد في الخفاء، ويتآمرون على المسلمين، ويمكرون بأهل طاعة الله سبحانه وتعالى، فيعاقبون بهذا الغدر يوم القيامة بأن يفضحوا ويكشف غدرهم، وكل غادر يكون يوم القيامة بهذه المثابة حتى يصير ذلك علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.(58/3)
تفسير قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)
قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].
قوله: (فمن يرد الله أن يهديه) يعني: للتوحيد (يشرح صدره) أي: يوسع ويفسح صدره (للإسلام) أي: يصبح ثقيلاً بنور الهداية، فيقبل نور الحق، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] وروى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ قال: (نور يقذف فيه، فينشرح له وينفتح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت)، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال ابن كثير: وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً.
وقوله: ((ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)) أي: شديد الضيق، فلا يتسع للاعتقادات كلها، ولا للأمور الأخروية، وأصل الحرج موضع الشجر الذي يكون كثيفاً وملتفاً، فكأن قلب الكافر كذلك.
وحين يكون الشجر كثيفاً وملتفاً على بعضه التفافاً شديداً جداً وكثيفاً يترتب على ذلك أنه لا ينفذ الضوء منه، ولا يمكن أن يسمح بنفاذ الضوء، فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره.
فقوله: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)) أي: شديد الضيق.
وقوله: ((كأنما يصعد في السماء)) أي: يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض، يعني: طبيعته الهبوط إلى الأرض، وإذا أراد أن يصعد إلى أعلى فإنه يعاني في ذلك أن طبيعته وخليقته وفطرته المنحرفة تجذبه إلى الأرض، فكلما أراد أن يصعد لا يستطيع أن يرقى إلى السماء، فشبه -للمبالغة- ضيق صدره بمن يزاول أمراً غير ممكن؛ لأن صعود السماء مما يمتنع ويبعد.
يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: الصعود إلى السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة.
والآن لم يعد الصعود في السماء أمراً ممتنعاً أو خارجاً عن حدود الاستطاعة، بل سخرت من الأسباب العلمية ما جعل الناس يصعدون في السماء.
وهذه الآية ذكرت الكتب المصنفة أنها مما وافق عليه الإعجاز العلمي القرآن الكريم، حيث يقول أولئك المصنفون: إن هذه الآية الكريمة تحوي إخباراً بأمر ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت الوحي أن يكتشفه بطبيعته البشرية؛ لأن الجبال في مكة ليست شديدة الارتفاع بحيث تظهر فيها هذه الظاهرة، لكن هذه الظاهرة تظهر عند الناس الذين يهوون التسلق في جبال مثل جبال الهملايا وقمة إفرست ونحوها، فمن الأشياء المعروفة جداً أنه كلما أراد الإنسان أن يصعد إلى أعلى يقل الأكسجين في طبقات الجو العلياء، وحينئذٍ يضيق صدره، ويضيق تنفسه لقلة الأكسجين، فلذلك يصيبه الإعياء والتعب الشديد، وهذا كما وصفه تبارك وتعالى هنا بقوله: ((يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنما يصعد في السماء)) فكلما ارتفع الإنسان إلى طبقات الجو العلياء يقل الأكسجين.
فهذه الأشياء التي اكتشفت سواء عن طريق المناظير، أو عن طريق أخبار هؤلاء الناس الذين يتسلقون إلى الجبال العالية لم يكن لها مصدر بشري في زمن الوحي كي يتلقى منه النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه المعلومة، وهي قلة الأكسجين كلما ارتفع الإنسان في طبقات الجو العليا، الأمر الذي يؤدي إلى ضيق الصدر والصعوبة في التنفس، فلذلك عدت هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي؛ لإخبارها عن هذا الأمر الذي ما كان يعرفه العرب في جزيرة العرب.
وقيل معناه: ((كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)) أي: نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه.
وقوله: ((كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) يعني: في الاعتقادات والأخلاق، والرجس هو ما استقذر من العمل، فسميت أخلاق الكفار واعتقاداتهم رجساً مبالغة في ذم ما هم عليه، فما عليه الكافر من الاعتقادات والأخلاق والشرك كله داخل تحت قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)).(58/4)
تفسير قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون)
ثم قال تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126].
أي: هذا البيان الذي جاء به القرآن الكريم، أو أنه إشارة إلى طريق التوحيد، وإسلام وجه العبد إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (وهذا صراط ربك) يعني: طريق الله الذي ارتضاه.
وقوله: (مستقيماً) أي: لا ميل فيه، بلا إفراط ولا تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، أو (مستقيماً) لا اعوجاج فيه.
وقوله: (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) يعني: بينا الآيات لقوم يتذكرون المعارف والحقائق التي هي مركوزة في استعدادهم فيسعدون بها.(58/5)
تفسير قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون)
ثم يقول عز وجل في مصير هؤلاء الذين يذَّكرون: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127].
قوله: (لهم دار السلام) يعني السلامة من المكاره، ودار السلام بهذا المعنى هي الجنة التي لا يصيب سكانها حزن ولا هم ولا نصب ولا أي مكروه، ولذلك توصف بأنها (دار السلام) أي: السلامة من المكاره، وهي الجنة؛ لكونهم في مقام القرب من الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (عند ربهم) يشير إلى قربهم عند الله عز وجل.
وقوله: (وهو وليهم) يعني: يتولاهم بمحبته، ويجعلهم في أمانه.
وقوله: (بما كانوا يعملون) أي: بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه المستقيم، أي: بسبب ما كانوا عليه من الاستقامة.(58/6)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)
يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].
قوله: (ويوم يحشرهم جميعاً) يعني: واذكر يا محمد -عليه الصلاة والسلام- فيما تقصه عليهم وتنذرهم به (يوم يحشرهم جميعاً).
وقوله: (ويوم يحشرهم) يعني: الجن.
وقوله: (أولياؤهم من الإنس) أي: الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.
وقوله: (يا معشر الجن) يعني: نقول لهم بعد أن نحشرهم: (يا معشر الجن) والمقصود بمعشر الجن هنا شياطين الجن.
قال المهايمي: خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر، فالمكر أساساً ينبع من شياطين الجن، ويتبعهم في ذلك شياطين الإنس؛ فلذلك خصهم بالنداء فقال: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) يعني: قد استكثرتم من إغواء وإضلال الإنس، أو: (قد استكثرتم من الإنس) بأن جعلتموهم أتباعكم وأهل طاعتكم، وسولتم وزينتم لهم الحطام الدنيوي واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستم لهم بالمعاصي، فحشروا معكم.
وهذا فيه التوبيخ والتقريع، يعني: أنتم استكثرتم من هؤلاء الأتباع فهاهم الآن يحشرون معكم بعدما أضللتموهم بمكركم ووسوستكم.
وقوله: (وقال أولياؤهم من الإنس) يعني الذين أطاعوهم وتولوهم، ومعروف أن أولياء الشياطين من الإنس هم الذين يطيعون الشياطين في وسوستهم وإضلالهم.
ومن ذلك مظاهر الشرك التي يقع فيها كثير من الإنس حينما يتولون الجن، حتى إنهم يخافون منهم الخوف الذي لا ينبغي أن يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، فيتعوذون بهم، ويذبحون لهم، وكم نرى أناساً يذبحون للجن كل ما يطلبونه منهم، فتراهم يطلبون ديكاً لونه كذا، ولون عنقه كذا، ولون ريشه كذا! وبعض الناس إذا افتتح مصنعاً أو شقة أو أي شيء من هذه الأشياء يأتي بالذبيحة فتذبح على عتبة هذا الباب للجن، والعياذ بالله! وغير ذلك من هذه الأفعال الشنيعة، فيقول الله تعالى لهم يوم القيامة: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ)) أي: الذين أطاعوهم وتولوهم من الإنس ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)).
قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس وعملت.
أي أن الجن كانت تأمر والإنس تعمل، كما قال عز وجل في حق الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، أي أنه لم يجبرهم على ذلك، لكن الجن تأمر وهؤلاء يطيعون وينقادون.
فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة، ولذا قال تعالى عنهم: ((اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)) فالجن استمتعوا بتعظيم الإنس لهم، والإنس استمتعوا باللذات الحاضرة، وآثروا هذه اللذات الحاضرة من الشهوات وغيرها بسبب وسوسة وتزيين الجن لهم.
وقوله: ((وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)) يعني: بالموت أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة وأسوأ عيشة.
قال أبو السعود: قالوا هذا الكلام: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا))، اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث، وإظهاراً للندامة عليها، وتحسراً على حالهم، واستسلاماً لربهم.
والله سبحانه وتعالى اقتصر على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة، فلم يقدروا على التكلم أصلاً، أي: أن الجن أنفسهم أفحموا تماماً، فلم يستطيعوا جواباً إلا ما أجاب به هؤلاء الأولياء من الإنس، حيث قال تعالى: ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ)) أي: على سبيل الندم والتحسر والتأسف ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)) ولم يحك عز وجل، ولم يقص علينا خبراً عن جواب المضلين الذين هم الجن إيذاناً بأن المضلين من الجن أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً.
وقوله: ((قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ)) يعني: منزلكم، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين.
وقوله: ((خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)) يعني: إلا وقت مشيئته أن تخفف، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركاً راسخاً في اعتقاده.
وهذا القول في الحقيقة غير متوجه؛ لأن الخطاب هنا للمشركين، فلا يتناول العصاة الموحدين، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقد أطال المفسرون الكلام هنا على قوله تعالى: ((إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)) وهو بحث طويل في الحقيقة، وهو أحد الموضعين اللذين ورد فيهما الاستثناء: (إلا أن يشاء الله): الأول: هو هذا الموضع.
والثاني في سورة هود، في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106 - 107]، وهذا هو بحث القول بفناء النار، ويستند القائلون بفنائها إلى هذه الآية، ولا شك في بطلان هذا المذهب؛ لأن الأدلة المتواترة تقطع بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فمن زعم أن النار تفنى فقد خالف عقيدة أهل السنة والجماعة.
يقول الناصر في الانتصار: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتاً قطعياً، فمن ثمّ اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة؛ لأنهم لا يخلدون، وهذا قول بعيد.
وبعضهم قال: إن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، يعني أنهم مخلدون في النار إلا أن يشاء الله، أي: لو شاء الله لأخرجهم من العذاب.
وفائدة هذا الاستثناء أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يوقف عنهم هذا العذاب، والإعلام بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاء أن يخلدوا، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل.
وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك، فجاءت جملة (إلا أن يشاء الله) إشارة إلى أنهم مخلدون إلا أن يشاء الله، ولو شاء عدم تخليدهم لم يخلدهم، ففائدة الاستثناء إظهار قدرة الله عز وجل، والإعلام بأن خلودهم في النار إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم أيضاً فمن الجائز أن لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى ومحض مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وفي الآية تأويلات أخر، منها ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه تعالى استثنى قوماً قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يعني أن قوله تعالى: (خالدين فيها)، معناه: أن الكفار الذين كان هذا شأنهم في الدنيا يستحقون أن يخلدوا في النار (إلا ما شاء الله) يعني: إلا من شاء الله منهم أن يسلم قبل موته ويحسن إسلامه، فيخرج عن استحقاق الخلود في جهنم، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي، وأن (ما) بمعنى: من.
ومن تأويلات الآية -أيضاً- أنهم يخرجون من النار، فإذا توجهوا لدخول الجنة أغلقت في وجوههم استهزاءً بهم، فقوله: (إلا ما شاء الله) أي: في هذه الفترة فقط التي يغرون فيها بدخول الجنة، حيث تفتح لهم أبواب الجنة، فإذا أرادوا أن يدخلوا بعدما يخرجون من النار تغلق في وجوههم استهزاءً بهم، وهذا معنى قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34]، يعني: حينئذٍ يضحك المؤمنون ويسخرون منهم كما كانوا يفعلون بهم في الدنيا جزاء وفاقاً.
فإن قيل: أي فائدة في هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟ فالجواب أن وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أشق على نفوسهم وأعظم في مكروههم، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه واشتد حرصه على ذلك ثم حيل بينه وبين الفرج ورد إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه، ولا شك أنهم يصدمون صدمة قوية حين ينتقلون من طرف إلى طرف.
وإذا صح هذا القول أنهم يخرجون من النار ثم تفتح لهم أبواب الجنة إغراءً لهم بالتوجه ناحية الجنة فإذا أرادوا أن يدخلوها أغلقت الأبواب في وجوههم وأعيدوا إلى العذاب فلا شك أن هذا تيئيس من الفرج، وهو نوع من العقوبة الشديدة التي تعظم وتضاعف حسرتهم.
وقوله: ((إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ))، يعني: لا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة، (عليم) أي: بمن يعذب بكفره فيدوم عذابه، أو يعذب بسيئة أعماله فيعذب على حسبها، ثم ينجو من هذا العذاب.(58/7)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون)
ثم يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين) يعني: من الإنس، (بعضاً) أي: نجعلهم يتولونهم بالإغواء والإضلال، كما فعل الشياطين وغواة الإنس.
وقوله: (بما كانوا يكسبون) يعني: بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي.
قال الرازي: لأن الجنسية علة الضم.
أي: لا تقع موالاة إلا بسبب وجود تناسب بين المتولين، لأن المحبة هي عبارة عن تناسب ومشاكلة وتجانس، فلذلك قال تعالى هنا: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي)) أي: نوجد الولاية والمحبة والنصرة.
وقوله: (نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) يفيد أنهم اتحدوا على غرض ومقصد واحد، وهو معاداة الله ومعاداة رسول الله وشرع الله عز وجل، فلذلك تجد أن أهواءهم سواء ومتناسبة، ويوجد بينهم من الوثائق الخبيثة ما يجعل بعضهم يأوي إلى بعض.
فالجنسية علة الضم، فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، والطيور على أشكالها تقع، والأسماك على أشكالها تقع، وأنت إذا نظرت إلى الطيور تجد كل القافلة التي تطير تكون كلها من نوع واحد، فإذا كانت قافلة غربان تكون كلها من الغربان، ولا تجد شيئاً يشذ، حتى الناس الذين يغوصون في البحار ويرون قوافل الأسماك وهي تمشي في الماء يرون أن الأسماك -أيضاً- على أشكالها تقع.
وكذلك بني آدم يأوي كل واحد إلى جنسه وإلى من يشاكله وإلى الشخص الذي يجد فيه نوعاً من التناسب والموافقة في الصفات وفي الطباع وفي الاستعدادات، فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، وكذلك القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية.
ولا شك في أن هذه الآية تعطينا نفس معنى الحديث الذي يروى ولا أظن أن أحداً صححه من العلماء وهو: (كما تكونون يولى عليكم).
يقول السيوطي في الإكليل: الآية معنى حديث: (كما تكونون يولى عليكم) أخرجه ابن قانع في (معجم الصحابة) من حديث أبي بكرة، وكذلك أسند في (الجامع الصغير) تخريجه إلى الديلمي في (الفردوس) عن أبي بكرة، وإلى البيهقي عن أبي إسحاق السبيعي، ورمز له بالضعف.
وعلى أي الأحوال فمعنى الحديث صحيح، وقد عبر بعض السلف عن هذا المعنى بقوله: أعمالكم عمالكم.
يعني أن العمال هم الحكام والولاة والأمراء، فعلى جنس وأنواع أعمالكم يكون هؤلاء الذين يتولون أموركم، فإذا كانت الشعوب ظالمة فاسقة متعدية لأمر الله عز وجل وتاركة دينها يعاقبها الله سبحانه وتعالى ويسلط الله عليها حكاماً ظالمين من نفس جنسهم.
فالله تعالى يولي بعض الظالمين بعضاً، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] يعطي نفس معنى: (كما تكونون يولى عليكم) ومعنى (أعمالكم عمالكم).
ومن يتتبع التاريخ يجد هذا الأمر، وقد روي أن بعض الناس في زمن أحد الخلفاء انتقد ذلك الخليفة بأنه لا يسير فيهم بسيرة عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: أما عمر فكان والياً علي وعلى مثلي من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما أنا فصرت والياً على أمثالكم.
وفي هذا إشارة إلى هذا المعنى: (كما تكونون يولى عليكم)، فهناك تفاعل بين الرعية الرعاة، فإذا كان الرعية ظلمة يسلط عليهم بسبب ذنوبهم هؤلاء الولاة الظالمون.
وأسند في (الدر المنثور) عن منصور بن الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أُمِّر عليهم شرارهم.
وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: ويقال في معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذله.
والآية لها معانٍ أخرى.
وقوله: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)) (نولي) بمعنى: نسلط، وهذا -أيضاً- من سنن الله سبحانه وتعالى التي نراها بين وقت وآخر، فنحن نرى أن الشخص الذي يعين الظالم ويتذلل له ويكون جندياً من جنوده ونصيراً من أنصاره وولياً من أوليائه إذا بالأيام تدور ثم ينقلب عليه، كما يقال: من أعان ظالماً سلطه الله عليه.
فبعدما يكون بينهم هذه الموالاة وهذه المناصرة تدور الأيام وتجري فيهم سنن الله سبحانه وتعالى، حتى إن هذا الذي أعانه ينتقم الظالم منه، ويذيقه من نفس الكأس، فالانقلابات العسكرية والخيانات والقتل والاغتيال ما هي إلا عبارة عن انتقام ينتقم الله به من ظالم بظالم، ثم ينتقم من الظالمين جميعاً، فسنة الله سبحانه وتعالى أنه لا تدوم للظلم دولة، لكن تجد الظالم ينتقم الله به من ظالم مثله، ثم ينتقم من الظالمين أجمعين، وتكون العاقبة للمتقين.
ولذلك يقول السمرقندي: معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذله.
قال: وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه، ويدخل في الآية جميع من يظلم.
فالآية عامة، وليست فقط كما نتحدث -في الولاة، ولكن في كل من يرتكب أي نوع من الظلم، سواءٌ أكان راعياً في رعيته، أم تاجراً يظلم في تجارته، أم سارقاً يظلم الناس بأخذ أموالهم، أم غير ذلك.
قال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجباً.
يعني: وتذكر هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي)) أي: نسلط ((بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)).
فمعنى (نولي) نسلط بالمعاقبة، أو (نولي) بمعنى: يقع بينهم التناسب والموافقة، وكل إنسان يختار الذي هو على شاكلته ويرضاه ويتولاه.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: معنى هذه الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم.(58/8)
تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)
ثم بين تبارك وتعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم؛ كما في الآية السابقة التي قال فيها تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:128 - 129].
فبين عز وجل ما يكون من توبيخ الكفار يوم القيامة بعدما بين توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم، وأعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بالكفر، وأنهم لن يعذبوا إلا بالحجة، فقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130].
قوله: (وينذرونكم) أي: يخوفونكم.
وقوله: (لقاء يومكم هذا) وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه الأهوال.
وقوله: (قالوا) الواو تعود إلى الجن والإنس.
وقوله: (شهدنا على أنفسنا) أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبتكذيب دعوتهم، كما فصل في قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9]، فيقرون ويعترفون بأن الحجة قد قامت عليهم، وأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليظلمهم، ولكن كانوا هم أنفسهم يظلمون، فيشهدون على أنفسهم، ويقرون بجريمتهم، وأن الرسل جاءتهم، وأقامت الحجج عليهم، ودعتهم إلى الحق، ولكنهم استكبروا واستنكفوا.
وقوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) يعني: غرهم ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أرداهم في الدنيا إلى الكفر، فالكافر يميل إلى الكفر؛ لأن الدنيا تجذبه إليها، وتشغله عن الآخرة.
وقوله: (وشهدوا على أنفسهم) أي: في ذلك الموقف في الآخرة.
وقوله: (أنهم كانوا كافرين) يعني: بعدما شهدت عليهم الجوارح؛ لأنهم في البداية ينكرون، وقد سبق في آيات أخرى في سورة الأنعام أنهم يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24]، لأن الكافر يجد الهلاك محققاً في الآخرة، فيقول: أحاول أي محاولة لعلي أنجو.
فيقول لله سبحانه وتعالى: يا رب! إنك حرمت الظلم، وأنا لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي.
فتأتي الملائكة فتشهد عليه والكتاب مفصلة فيه أعماله فيقول: ما أجيز إلا شاهداً من نفسي.
فيختم الله سبحانه وتعالى على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون.
وقوله: (وشهدوا على أنفسهم) يعني: في الآخرة بعدما شهدت عليهم الجوارح وقال الواحد منهم لجوارحه: سحقاً لكُنَّ؛ فعنكن كنت أناضل.
وقوله: (أنهم كانوا كافرين) يعني: في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.(58/9)
هل من الجن رسل؟
هنا بعض التنبيهات: أولاً: قوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ))، كلمة: (منكم) هل يفهم منها أن هناك رسلاً من الجن كما أن هناك رسلاً من الإنس؟
الجواب
كلا، فليس من الجن رسل، إنما من الجن نذر ودعاة فقط، فمن ذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى بعث إلى الجن رسلاً من الجن استدل بقوله تعالى هنا: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)) بعدما قال: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ)).
وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم.
والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط، نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف.
قال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر فقط.
يعني: دعاة يبلغون وينذرون، لكن لم يرسل الله رسلاً من الجن.
وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها مضافاً، فقوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) المقصود: رسل من أحدكم، وهم الإنس فقط، أو أنه من إضافة ما للبعض للكل، أي: إضافة ما للبعض الذي هو الإنس للكل، وهذه الإضافة تصح؛ لأنها إضافة إلى المجموع، فلا يتعارض أن يكون المقصود واحد من الفريقين فقط، مثل قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] بعدما قال عز وجل: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] فالمفسرون يقولون: وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما، وهو المالح دون العذب، وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله تعالى: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)) [الرحمن:19]، ثم قال بعد ذلك: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22].
وهو جائز في كل ما اتفق في أصله، فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس، وهذا قول الفراء والزجاج.
فمعنى الآية: يا معشر الجن والإنس! ألم يأتكم رسل من جملتكم؟! فاعتبر هنا معشر الجن والإنس المكلفين كأنهم شيء واحد، فحينما يقول الله: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)) يقصد المجموع كله، لكن حين نفصل نعلم أنه لم ترسل الرسل إلا من الإنس، ولم يكن في الجن رسل.
والمعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم؟! لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً، بل من الإنس خاصة.
وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم والإيذان بتقاربهما ذاتاً واتحادهما تكليفاً وخطاباً، وكأنهما من جنس واحد، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر.
وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فإذا حملناها على ظاهرها فالمقصود من قوله: (رسل منكم) ليس رسلاً فقط من الله سبحانه وتعالى، وإنما تحمل على رسل الرسل، كما قال تبارك وتعالى في سورة يس: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:13] أي: مرسلون من عند عيسى عليه السلام؛ لأنهم رسل رسول الله عيسى عليه السلام، فأطلق الرسل على رسل عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فإذاً: يكون المراد في قوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) -إذا قلنا: إن من الجن رسلاً- يكون المقصود رسل الرسل الذين ينذرون قومهم ويحملون إليهم رسالة رسل الله عز وجل.
وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم، حيث نطق به قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31] أي: الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الرسول كلامه في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامه ويأتون قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به، وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه، فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:14].
وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما وبخ الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر، فهذه الآية فيها توبيخ للكفار وإظهار أن الله أزال عذرهم وأقام عليهم الحجة، ولم يبق عندهم أي عذر.
فقوله: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) وأي أن الله سبحانه وتعالى أزال العذر بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلاً.
قال الحافظ ابن كثير: والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] إلى قوله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] وقال عز وجل عن إبراهيم: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] وذرية إبراهيم من الإنس، فامتن الله على إبراهيم بأن جاء حصر الأنبياء من بعده في ذريته فقط، سواء أكانوا من إسماعيل أم من إسحاق عليهما الصلاة والسلام.
فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم ثم انقطعت عنهم ببعثته.
وقال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] أي: لأنهم بشر.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب.(58/10)
وجه الجمع بين قوله تعالى: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)
قال عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]، فما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله عز وجل: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] ففي هذا الموضع حلفوا وأقسموا على أنهم ما كانوا مشركين، وفي الآية الأخرى: ((وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))؟ والجواب أنه ينبغي أولاً أن يكون السؤال أن تقول: ما الحكمة؟ أو ما السر في كذا؟ أو ما السبب في كذا؟ لكن أن تقول: هناك تعارض بين هاتين الآيتين فهذا من سوء الأدب؛ لأن كلام الله لا يضرب بعضه ببعض، وإنما من الأدب أن تقول: ما وجه الجمع؟ أو كيف يرفع الإشكال بين كذا وكذا؟ أو: غير ذلك من التعبيرات، لكن أن يزعم امرؤ -والعياذ بالله- أن بينهما تعارضاً، فهذا من سوء الأدب مع كلام الله عز وجل.
فبعد هذا السؤال يأتي
الجواب
بأن يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتخيل أنك يوم القيامة تحاول أن تمعن فهي بعقلك، فقدر يوم القيامة خمسون ألف سنة مما نعد، فالواحد منا يعيش ستين سنة إلى مائة سنة مثلاً، فتخيل يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يعمل الإنسان فيه شيئاً، ولا تستطيع أن تستدرك أو تستثمر هذه الخمسين ألف سنة حتى تنجو؛ لأنك انتقلت إلى دار الجزاء، فالإنسان إذا حاول أن يدرك مقدار هذا اليوم العظيم يستطيع أن يستشعر ما فيه من الأهوال والمعاناة، ويجتهد في العمل لأجل هذا اليوم، ثم إذا ترقى بعد ذلك وتخيل الحياة الدائمة الخالدة التي لا نهاية فيها ولا موت على الإطلاق -سواء في جنة أو في نار- يدرك -أيضاً- أن الأمر جد لا هزل فيه.
فالخمسون ألف سنة هذه تكون حافلة بالأحداث وبالوقائع وبالأحوال المختلفة، وتتنوع فيها الأحوال، فتارة يقر الخلق، وفي مناسبة معينة وفي ظروف أخرى يجحدون، وتارة يقولون: نشهد على أنفسنا أننا كنا كافرين.
ومرة أخرى يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
فهذا هو سبب التعارض في الأقوال وفي الإقرارات، فمرة يحلفون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
ومرة أخرى يعترفون ويقرون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين.
مثلاً: إذا كان وكيل نيابة يأخذ أقوال أحد فإنه يعترف بشيء، ثم بعد ذلك يتردد، ثم ينفيه، ثم يرجع فيثبته مرة أخرى، فهذا الاضطراب يدل على شدة الخوف والفزع واضطراب الأحوال، فلا شك في أن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه، حتى إنه لو حصل شيء من التضارب في الأقوال فإن التحقيق كله يلغى؛ لأن هذا يدل على أن الإنسان لم يكن في حالة نفسية مستقرة، فكونه يقول كلاماً ثم ينفيه، ويصدقه ثم يكذبه يدل على أن حالته النفسية غير مستقرة عند التحقيق لسبب أو لآخر، فبالتالي يُرفض التقرير كله.
فالشاهد أن هؤلاء يقرون مرة ويجحدون مرة أخرى، فمرة يحلفون ويقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) وهذه يمين مغلظة، ويتهمون الملائكة أنهم افتروا عليهم، وأنهم سجلوا في صحائف أعمالهم ما لم يفعلوه، ويقول أحدهم: لا أريد شاهداً إلا من نفسي.
ثم يفحهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك حينما يحاولون كل طرق الخلاص يعترفون، كما قال عز وجل: ((وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))، يعني: بالفعل.
وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) أن المراد: شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.
فإن قيل: لماذا كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم في الآية الكريمة: ((قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) فالأولى حكاية لقولهم، فكيف يقولون ويعترفون؟ فالجواب أن المتكلم في المرة الأولى في قوله تعالى: ((شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا)) هم الكفار أنفسهم، فهذه حكاية لما قالوه بحروفه.
وأما المتكلم في المرة الثانية في قوله تعالى: ((وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) فهو من كلام الله سبحانه وتعالى، يقصد به ذمهم وتخطئة رأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.
فما أعظم حجة القرآن الكريم! فإن كل هذه المحاورات من أجل مصلحتنا نحن، فيجب على كل إنسان مسلم وكافر أن يستحضر هذه المواقف، ويستعد لها من الآن؛ لأنه ليس هناك إقامة للحجة أكثر من هذا، فكل تفاصيل يوم القيامة، وحجج التوحيد، ومجادلة المشركين، وتنويع الخطاب بهذه السور إنما المقصود به أن تقوم الحجة على الناس، فلن يهلك على الله إلا هالك عاتٍ متمرد قاس يستحق عذاب الله سبحانه وتعالى.
فالله يقول له: لو كفرت ستخلد في جهنم وتعذب هذا العذاب الأليم، وهذه هي الحجج وهذه هي البراهين: ومع ذلك يصر، مع أنه أعطاه الله الفرصة، وأرسل إليه الرسل، وقامت عليه الحجج، فلا شك في أنه يستحق العذاب، وأن الله ما ظلمه؛ لأنه سبق أن أنذره بذلك.(58/11)
تفسير قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)
ثم يقول عز وجل: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131].
في هذه الآية إعلام بأنه تبارك وتعالى أعذر إلى الثقلين الجن والإنس بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتبيين الآيات وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد، وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لم تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة.
إذاً: ينبغي أن نضم هذه الآية إلى آية أخرى في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
فقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131] أي أن الله سبحانه وتعالى ما كان له أن يهلك أي قرية أو أي أمة بظلمهم، حتى لو كان هذا الظلم هو الظلم الأكبر وهو الشرك الذي هو الظلم العظيم.
وقوله: (وأهلها غافلون) يعني: لم تقم عليهم الحجة الرسالية، ولم تأتهم رسالة الرسل والأنبياء.
فالله سبحانه وتعالى كتب على نفسه أنه لا يعذب أمة حتى تقوم عليها الحجة وتصل إليها الرسالة، مع أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، والفطرة تهدي إلى التوحيد، فلو أنك تخيلت مولوداً صغيراً يعيش في حجرة مغلقة -بغض النظر عن توفير سبل الحياة كالرضاعة والطعام بصورة أو بأخرى- بدون أن يتصل بأي مخلوق آخر من أم أو أب أو أخ، ويظل منفرداً في حجرة وينمو وينمو إلى أن يشب ويبلغ ويصير مكلفاً فإنه سينطق بالتوحيد، وهذا كل واحد منا يحسه في نفسه؛ لأن أقوى دليل على وجود الله عز وجل وعلى توحيد الله هو الفطرة.
فلا ترهق نفسك إذا سمعت كلام الفلاسفة الدجالين الذين يقولون: إن الشك أول اليقين.
أو: ينبغي أن تبدأ بالشك.
أو نحو هذا الكلام الذي يقوله الدجالون، وغرضهم به هو الصد عن سبيل الله.
فأنت -أيها الإنسان- تولد على الفطرة التي تجعلك تفزع إلى الله سبحانه وتعالى، وتشعر بأنك تأوي إلى الله عز وجل، وتكون هناك صلة وثيقة بينك وبين الله.
وأي واحد منا إذا تذكر أيام صباه الأولى سيجد أن هذا الشعور كان مغروساً في أعمق أعماق قلبه، أي أن الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والفزع إلى الله واللجوء إلى الله في الشدائد شعور فطري مغروس في كل واحد منا لا يحتاج إلى أن يدلل عليه؛ لأنه موجود في قلبه، فالله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، كما قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تفسدوا فطرة الناس وتصدوهم عن التوحيد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: مهيأً لتقبل الحق.
فأولاد اليهود والنصارى ما لم يكلفوا ولم يبلغوا هم على هذه الفطرة النقية فطرة الإسلام وفطرة التوحيد.
ثم أعطى الله الناس العقول التي ميزوا بها على البهائم وعلى العجماوات كي يتدبروا في آيات الله عز وجل، ثم أرسل إليهم الرسل، وبث لهم الآيات الكونية في كل آفاق الدنيا، وكلها تدلهم على توحيد الله عز وجل فضلاً من الله ومنة، والله عز وجل تكفل بأنه لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، إذ لابد من أن تبلغه حجة الرسل، ولابد من أن تبلغه وتصل إليه دعوة الرسل، فإذا رفضها فحينئذٍ يستحق العذاب.
فهذه الآية فيها دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل، إنما الحكم للشرع والنقل، كقوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].(58/12)
تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون)
ثم قال عز وجل: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132].
قوله: (ولكل) أي: من المكلفين.
وقوله: (درجات) أي: مراتب.
وقوله: (مما عملوا) أي: من أعمالهم، يبلغونها ويثابون بها، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، واستدل بها -على هذا التأويل- على أن الجن يدخلون الجنة ويثابون، وهذه المسألة محل خلاف؛ لأن بعض العلماء يذهبون إلى أن مؤمني الجن ثوابهم أن لا يعذبوا، لكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن مؤمني الجن يدخلون الجنة مثل مؤمني الإنس، ودليل ذلك في سورة الرحمن، ففي سورة الرحمن الخطاب موجه إلى الجن والإنس، وذلك في قوله تعالى: ((يا معشر الجن والإنس)) وكذلك في آيات: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فالخطاب في سورة الرحمن كلها متوجه إلى الجن وإلى الإنس، كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47] وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الجنة نعيم يستحقه مؤمنوا الجن ومؤمنوا الإنس أيضاً.
ومما يدل على صحة هذا المذهب -أيضاً- قوله تبارك وتعالى هنا: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)) على أساس أن قوله: (لكل) يعني: لكل فريق من الجن والإنس (درجات مما عملوا) يعني أن مؤمني الجن يستحقون درجات الجنة تبعاً لأعمالهم.
قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود قوله: (ولكل درجات مما عملوا) لكافري الجن والإنس.
يعني: ولكل واحد درجة في النار بحسبه، كقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88].(58/13)
تفسير قوله تعالى: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم)
ثم قال عز وجل: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133].
قوله: (وربك الغني) أي: الغني عن خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.
وقوله: (ذو الرحمة) يعني: يترحم عليهم بالتكليف تسهيلاً لهم، ويمهلهم على المعاصي، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل ليس لأن إرسال الرسل يعود إلى الله سبحانه وتعالى بالمنفعة، معاذ الله! وإنما إرسال الرسل ما هو إلا رحمة لعباد الله تبارك وتعالى.
فقوله: (وربك الغني) أي: غني عنكم (ذو الرحمة) أي: يرسل الرسل ليرحمكم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فانظر إلى الربط هنا بين الغنى والرحمة، يعني أن الله سبحانه وتعالى غني عنكم، وغني عن عبادتكم، وأنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد، فما يرسل الرسل إلا لمنفعتكم أنتم دون أن ينتفع هو سبحانه وتعالى من ذلك بشيء.
وقوله: ((وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)) تمهيد لقوله بعد ذلك: ((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)) يعني: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدك ما يشاء من الخلق يعملون بطاعته كما أنشأكم أنتم من ذرية قوم آخرين ذهب بهم ثم بذريتهم، لكنه أبقاكم ترحماً عليكم، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة القتال: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: سيكونون أفضل وأطوع لله منكم.(58/14)
تفسير قوله تعالى: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)
ثم قال عز وجل: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
قوله: (إنما توعدون) يعني: من البعث وأحواله وأهواله.
وقوله: (لآتٍ) يعني: لكائن لا محالة.
وقوله: (وما أنتم بمعجزين) أي ما أنتم بفائتين، والله لا يعجز عنكم.
وهذا رد لقول هؤلاء المشركين: إن من مات فقد فات.
أي: لن يستطيع أحد أن يعيده إلى الحياة.
فرد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وبين أنه قادر على إعادتهم وإن صاروا رفاتاً، فقال: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، أي: لن تعجزوا الله؛ لأنهم زعموا: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] أي: إذا تهنا وضعنا في الأرض وصرنا تراباً فكيف نكون في خلق جديد؟ فقال الله عز وجل رداً عليهم: (إنما توعدون) أي: من البعث والنشور (لآتٍ) قطعاً (وما أنتم بمعجزين) أي: ما أنتم بفائتين، بل نحن قادرون على بعثكم ونشوركم وحسابكم.(58/15)
تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون)
ثم قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135].
قوله: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) يعني: على غاية تمكنكم واستطاعتكم، وابذلوا أقصى ما في إمكانيتكم في هذا العمل، يقال: مكن مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن.
أو أن معنى (اعملوا على مكانتكم) أي: على جهتكم وحالتكم.
من قولهم: مكان ومكانة كمقام ومقامة، والمعنى: أنتم رضيتم بالكفر فاثبتوا على هذا الكفر.
وهذا تهديد لهم، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] لأنه ليس المقصود به أن هناك اختياراً بين الكفر والإيمان، لكنه تهديد وتوعد، وهذا مثل قول جبريل في الحديث: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)، فقوله: (اعمل ما شئت) تهديد، وكذلك هنا يكون قوله: (اعملوا على مكانتكم) يعني: ابذلوا غاية ما تستطيعون وما تقدرون عليه.
أو: (اعملوا على مكانتكم) يعني اثبتوا على كفركم وسترون عاقبة هذا الكفر.
وقوله: (إني عامل) أي: ما أمرت به من الثبات على الإسلام.
وقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ))، أي: الدار التي بنيت لعبادته تعالى وحده دون غيره، فسوف تكون العاقبة للذي يضع العبادة في موضعها لا للظالم الذي يضع العبادة في غير موضعها.
والدار هنا المقصود الدنيا، كما قال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وقال عز وجل أيضاً: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
فالمراد بالدار الدنيا، وبالعاقبة في قوله: (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) عاقبة الدنيا، أي: عاقبة الخير؛ لأنها الأصل، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة وقنطرة المجاز إليها.
وقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) أي: الكافرون.
والظلم هنا المقصود به الظلم الأكبر، وهو الشرك، ووضع الظلم موضع الكفر، ولم يقل سبحانه وتعالى: إنه لا يفلح الكافرون، وإنما قال هنا: (إنه لا يفلح الظالمون) لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله وفي غير موضعه، فوَضع الظلم موضع الكفر إيذاناً بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم الظلم؟! أي: أن الشخص الذي يقع في أي نوع من أنواع الظلم حتى لو كان دون الظلم الأكبر الذي هو الشرك فإنه لا يفلح، ولا يمكن أن الظالم يفلح، فما بالك إذا كان هذا الظلم هو أكبر وأخطر أنواع الظلم الذي هو الشرك العظيم بالله سبحانه وتعالى؟!(58/16)
لطائف في قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) الآية
هنا بعض اللطائف: منها: إرادة التهديد بصيغة الأمر، فقوله تعالى: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) فهذه مبالغة في الوعيد، وكأن المهدِّد يريد تعذيبه مجمعاً عليه، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يبلغهم بما أمره الله به في قوله: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) كأنه يريد أن يعذب هؤلاء القوم، وأن النية والقصد ثابت وأكيد في أنهم سيعذبون، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه، وتسجيل بأن المهدِّد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه.
وقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) هنا لفتة طيبة جداً من اللطائف العظيمة في القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) ولم يقل: فسوف تعلمون أن العاقبة ستكون لنا.
وإنما قال: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) وهذا فيه معنى الإنذار، وفيه -أيضاً- إنصاف في المقال وحسن الأدب، حيث لم يقل: العاقبة لنا.
وإنما فوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] وهذا ليس فيه تنازل عن الحق، وإنما فيه نوع من التلطف بالخبر، حتى لو كان المخاطب كافراً؛ لأن المقصود هو جذبه إلى الحق، فلذلك حينما تقول له: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) يدفعه ذلك إلى حسن ظن بك أنك غير متعصب أو أنك منصف، وحينئذٍ يسهل جذبه إلى هذا الحق، فكذلك هنا قال: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) ولم يعين المقصودين الذين تكون لهم عاقبة الدار.
وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق، ومع ذلك فإن في الآية قطعاً بأن المنذر على يقين بأنه هو صاحب الحق.
فقوله: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ)) يعني: ثابت على الإسلام الذي هو دين الله سبحانه وتعالى.
وفيه تبشير أيضاً بأن العاقبة لمن يثبت على الحق، فقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ))، قال ابن كثير: وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد.
ولنعلم أن سورة الأنعام سورة مكية، ونزلت في الوقت الذي كان المسلمون يضطهدون فيه أشد الاضطهاد في مكة، وكان الصحابة يعذبون، وكان الإسلام غريباً، وكان هناك أذىً للرسول عليه السلام ولأصحابه، وعانى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه البلاء الشديد والاضطهاد في مكة المكرمة من كفار قريش، ومع هذا فإن هذه الآية نزلت عليهم في هذه الحال، فقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135]، فانظر كيف كان على ثقة من وعد الله سبحانه وتعالى بالتمكين في الدين، فهذا وعد الله له في فترة الاضطهاد والقهر، وقد أنجز الله له موعوده، فمكن له في البلاد، وحكمه في مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب بما في ذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:24 - 52]، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14].
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، ولله الحمد والمنة.(58/17)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً)
ثم بين عز وجل نوعاً من جهالات مشركي قريش ومكة وضلالاتهم، وهو أنهم كانوا يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تبارك وتعالى بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه، فقال عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136].
قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ) يعني: مما خلق.
وقوله: (من الحرث) أي: الزرع.
وقوله: (والأنعام نصيباً) جعلوه لله بأن كانوا يصرفونه إلى الضيوف وإلى المساكين والفقراء، فهذا هو نصيب الله سبحانه وتعالى الذي كانوا يجعلونه له.
وقوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) أي أنهم جعلوا لله نصيباً وللأصنام نصيباً، وكيف يجعلون للأصنام نصيباً وهي لا تأكل ولا تشرب؟
و
الجواب
كانوا يجعلونه للسدنة الذين يخدمون هذه الأصنام، وأيضاً كانوا يذبحون لها للتنسك.
فإذاً: النصيب الذي كانوا يجعلونه لله يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ونصيب الأصنام يصرفونه إلى الأصنام بالتنسك والتعبد وللسدنة الخدام، وإنما لم يذكرو اكتفاءً بما بعده.
وقوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم) أي: هذا مستقر له الآن من غير استقرار له في المستقبل العارض.
يعني: هذا لله الآن، لكن لا نضمن أنه في المستقبل سيكون لله، فإذا حصلت ظروف فسيتوجه لغير الله! وقوله: (وهذا لشركائنا) يعني: هذا مستقر لشركائهم، وليس هذا فحسب، بل يستقر لشركائهم ما ليس لهم أيضاً، فيأخذون ما كان لله ويدفعونه إلى نصيب الشركاء، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، وإذا سقط في نصيبها شيء من نصيب الله تركوه، كما قال تعالى: ((فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ))، أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من إكرام الضيفان والتصدق على المساكين.
أي: أن ما يتعلق بالأموال أو بالزرع أو باللحم أو بأي شيء مما هو لله سبحانه وتعالى إذا سقط مع النصيب الذي هو للأصنام يتركونه للأصنام، أما إذا سقط نصيب الشركاء مع ما هو لله يلتقطونه ويعطونه للأصنام، بل إن نصيب الله أصلاً يأخذونه ويعطونه للأصنام.
فقوله: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله أو هلاك ما هو لله، فلا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من إقراء الضيفان والتصدق على المساكين.
وقوله: (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو للأصنام أو هلاك ما لها، فينفقون عليها بذبح نسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك، وكانوا يفلسفون هذا الضلال وهذا الظلم بقولهم: إن الله غني، ولكن هذه الأصنام محتاجة، فنحن نأخذ ما كان لله -الذي كان من المفروض أن يأخذه الفقراء والمساكين- ونبذله للسدنة أو للذبح والتقرب لهذه الأصنام.
وقوله: (ساء ما يحكمون) يعني: ساء ما يقسمون، وذلك لأمور: أولاً: لأنهم عملوا ما لم يشرع لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع لهم هذه القسمة بينه سبحانه وتعالى وبين الأصنام.
ثانياً: لأنهم عملوا أولاً ما لم يشرع لهم ومع هذا ضلوا في القسمة؛ لأنه تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه، لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يعدلوا فيها، بل جاروا فيها؛ إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية على حق الله، فهذا التقسيم باطل وفاسد، ثم بعد ذلك لم يحترموا هذا التقسيم الفاسد الذي ألزموا أنفسهم به، وهذا يذكرنا بآية أخرى في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ويذكرنا بالكلام الذي يدور حول الديمقراطية، فالديمقراطية أصلاً مخالفة للدين ومخالفة للتوحيد؛ لأن الديمقراطية حكم الشعب للشعب، فالشعب هو الذي يشرِّع، وهو الذي يحل، وهو الذي يحرم، ومع أن هذا هو الدين الذي ارتضوه بديلاً عن الإسلام لم يحترموا قوانينه، والكل يعلم الأحوال التي تجري في بلاد المسلمين.
فقوله: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)) يعني: هذه الرهبانية ما شرعها الله لهم، ولا شرع لهم أن يحرموا الطيبات والزواج ونحو ذلك، وإنما هم الذين اخترعوها وابتدعوها.
وقوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ))، أي: ما فرضناها عليهم.
وقوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، هذا استثناء منقطع، بمعنى (ما كتبناها عليهم) أي: ما شرعناها لهم، لكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله عن طريق العبادات المشروعة لا العبادات المبتدعة.
وقوله: ((فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا))، أي: مع أنهم هم الذين ألزموا أنفسهم بالقوانين الرهبانية ونظام الرهبنة، لكنهم مع ذلك ما رعوها حق رعايتها، حتى الأشياء التي ألزموا أنفسهم بها لم يحترموها، فهذه الآية من نفس هذا الباب.
وقوله تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ)) أي أن الله هو الذي خلق، وهو الذي ذرأ، ومع ذلك انظر كيف يقسمون! وقوله تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، أي: في تعظيمهم للشركاء أكثر من تعظيم الله سبحانه وتعالى.
كحال هؤلاء الناس الذين حكي عنهم أن الواحد منهم إذا طلب منه أمام القاضي في المحكمة أن يحلف بالله عز وجل فإنه يحلف يميناً غموساً تغمسه في النار؛ لأنه كاذب فيها، لكن إذا قال له: احلف بالولي أو بالشيخ فلان أو بحياة أولادك أو بغير ذلك يتلعثم ويقر بالحقيقة، والعياذ بالله! وهذا شرك عظيم، فانظر كيف يستهزئ باسم الله ثم كيف يعظم هؤلاء الأولياء! فقوله: ((سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) يعني: من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته وعدم صلاحية الإلهية لغيره، وهم يعللون هذا القسمة الضيزى فيقولون: لأن ربنا غني، لكن هذه الأصنام محتاجة! وإذا كانت محتاجة فهل تصلح أن تتخذ آلهة؟! فإذاً: العلة نفسها التي اعتلوا بها واستندوا إليها هي نفسها تحمل في طياتها إبطال هذا الشرك الذي هم عليه، فهي محتاجة؛ والمحتاج لا يصلح إلهاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير، فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية الكريمة: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً، وللوثن جزءاً، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه الشيء فيما سمي لله سبحانه وتعالى الأحد الصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئاً جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا الوثن فقير، فيعطونه هذا الشيء، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة إلى الله تعالى، فقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام:136] إلى آخر الآية.(58/18)
تفسير سورة الأنعام [143 - 150](59/1)
تفسر قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين)
قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143].
قوله: ((ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) ثمانية بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، ويمكن أن يكون مفعولاً به لقوله: (كلوا) يعني: يباح لكم أكل (ثمانية أزواج).
وقوله: (أزواج) الأزواج: جمع زوج، والزوج هو ما معه آخر من جنسه يزاوجه، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم:45] وقد يقال بمجموعهما، والمراد الأول، أي أن كلمة الزوج تطلق أحياناً على المجموع، ويمكن أن يطلق على كل واحد منهما أنه زوج الآخر.
ثم فصل عز وجل فقال: ((ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)).
قوله: ((مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)) يعني: من الضأن زوجين اثنين.
أي: ذكراً وأنثى، وهو الكبش الذكر والنعجة الأنثى.
وقوله: ((وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)) وهما التيس والعنز، والتيس هو ذكر الماعز، والعنز هي الأنثى.
قال تعالى: (قل) تبكيتاً لهم وإظهار لانقطاعهم عن الجواب ((آلذَّكَرَيْنِ)) يعني: من الضأن والمعز ((حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ)) وقوله: (آلذكرين) المراد هنا الكبش والتيس، وهما من الضأن والمعز.
وقوله: ((حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ)) يعني: حرم الله عليكم -أيها المشركون- الأنثيين منهما، وهما النعجة والعنز؟! وقوله: ((أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ)) أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى، أي: الجنين، كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام:139].
وقوله: ((نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ))، أي: أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون: هذا ما أحل الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حرمه، فماذا فعلتم أنتم؟ وهذا تسكيت لهم.
وقوله: (بعلم) يعني: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين والنوعين الآتيين.
وقوله: (إن كنتم صادقين) يعني: في دعوى التحريم فائتوني بدليل.
وفي قوله تعالى: (نبئوني بعلم) تكرير للإلزام، وتثنية للتبكيت والإفحام.(59/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين)
وفي الآية التي بعدها أضاف الأربعة الأخرى، فالمجموع ثمانية أزواج، فقال: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144].
قوله: (ومن الإبل اثنين) عطف على قوله تعالى: (من الضأن اثنين) أي: وأنشأ من الإبل اثنين، يعني: زوجين، وهما: الجمل والناقة، (ومن البقر اثنين) يعني: ذكر البقر وأنثاه.
وقوله: (قل) يعني: قل لهم إفحاماً حتى في هذين النوعين أيضاً، كما سبق إفحامهم فيما مضى: (آلذكرين حرم) أي: آلذكرين من الإبل ومن البقر: ((حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ)) يعني: من ذينك النوعين، والمعنى: إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك، وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وتارة أخرى يحرمون إناثها، ويحرمون أولادها كيفما كانت الأجنة، سواء أكانت ذكوراً أم إناثاً، ويسندون هذا كله إلى تشريع الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أن الله هو الذي أمرهم بهذا، وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعه الصغار ونوعه الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التسكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة مبالغة في الرد عليه.
أي: لم يقل تبارك وتعالى: قل: آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث.
بل فصل؛ لما في التسمية والتكرير من المبالغة في التسكيت والإلزام، ومبالغة في الرد عليهم بإنكار كل مادة من مواد افترائهم، فلم يذكرها الله سبحانه وتعالى مجملة، بل فصلها؛ لما علم من أن في ذلك تسكيتهم وتوبيخهم وإظهار كذبهم.
ثم كرر الإفحام فقال عز وجل: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)) فقوله: (أم كنتم شهداء) يعني: حاضرين (إذ وصاكم الله بهذا) أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله؟! فهذا من التهكم، يعني: أنتم تزعمون أن الله حرم هذا، فهل شهدتم هذا؟! وهل كنتم حاضرين حينما شرع الله لكم ذلك كما تزعمون؟! وقوله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) يعني: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم.
أي: أنه نسب إلى الله وزعم أن الله حرم ما لم يحرمه الله عز وجل (ليضل الناس بغير علم) يعني: بغير دليل.
ثم ختم الله الآية بقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح، والحديث أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه-؛ كان أول من سيب السوائب)، أي أنه هو الذي سن هذه السنن السيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، والوصيلة هي الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعده بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى وليس بينهما ذكر، والحامي: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه، أي: تركوه للطواغيت، وعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئاً، وسموه الحامي، ولذلك قال أبو السعود في تفسير هذه الآية: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) المراد: كبراؤهم المقرون لذلك، أو: عمرو بن لحي؛ لأنه هو المؤسس لهذا الشرع، أو الكل سواء عمرو بن لحي وكل من اقتدى به فيما زعم؛ لاشتراكهم في الافتراء على الله سبحانه وتعالى.
قال السيوطي رحمه الله: دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود، وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.(59/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه)
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركي وتسكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145].
وقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً) يعني: طعاماً محرماً.
وهذا يفهم من قوله: (على طاعم يطعمه) يعني: قل: لا أجد فيما أوحي إلي طعاماً محرماً من المطاعم على طاعم يطعمه.
أي: على آكل يأكله، سواء أكان ذكراً أم أنثى، رداً على قولهم: (محرم على أزواجنا) فهم كانوا يفرقون بين الرجال والنساء، فرد تعالى عليهم بقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً).
وقوله: (على طاعم يطعمه) لفظ (يطعمه) لزيادة التقرير، وقوله: (إلا أن يكون ميتة) أي: إلا أن يكون ذلك الطعام ميتة؛ لأن الموت سبب الفساد، فهو منجس بالموت، إلا أن يمنع من تأثير تنجيس الموت لهذه الأطعمة مانع، مثل ذكر الله سبحانه وتعالى، أو إسالة الدم؛ لأنها تطهر الميتة، أو كونه من الماء، كالسمك، فإنه ميتة، لكنه مباح، كما قال صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فقوله تعالى: (إلا أن يكون ميتة) لأن الميتة منجسة، إلا ما استثني من الميتة، وكلمة الموت عامة هنا، تشمل ما ذكي، وتشمل ما ذبح.
أي: كأن الموت ينجس إلا أن يمنع من تأثير الموت بالتنجيس مانع، مثل ذكر اسم الله عليه، أو كونه من البحر أو من الماء؛ لأن البحر (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، أو غيرهما.
وقوله: (أو دماً مسفوحاً)، أي أن المحرم هو الميتة أو الدم المسفوح، والمسفوح هو السائل لا كبداً ولا طحالاً؛ لأنه وإن كان من الدم لكن ليس بسائل.
وقوله: (أو لحم خنزير فإنه رجس) لأن الخنزير يتعود أكل النجاسات.
وقوله: (أو فسقاً أهل لغير الله به) هذه الآية تفسير الآية في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، فإنه يترجح تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) بأنه لا يؤكل مما ذكر عليه اسم غير الله؛ لأن هذا فسق وهذا فسق، فيستويان.
فقوله: ((أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) أصل الفسق هو الخروج، والمقصود الخروج عن الدين، فقوله: (أو فسقاً) يعني: خروجاً عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة، وقوله: (أهل لغير الله به) أي: ذبح على اسم الأصنام، ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وإنما سمي ما أهل به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، فالإنسان إذا أكل ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فهذا كله أيضاً داخل في معاني الفسق والخروج عن طاعة الله وعن الشريعة، لكن هذه وصفها بالرجس، وخص ما أهل به لغير الله بوصف الفسق مع اشتراك كل ما مضى في وصف الفسق؛ لأن الذبيحة التي يذكر عليها غير اسم الله موغلة في الفسق؛ إذ إن ذلك من مظاهر الشرك.
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر.
وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] يعني: غير باغٍ على مضطر مثله تارك لمواساته، فهذا من البغي، (ولا عادٍ) يعني: متجاوز قدر حاجته من تناوله؛ لأن الضرورة تبيح ما يسد الرمق، فلو أن الإنسان أشرف على الموت وأمامه ميتة إن لم يأكل هذه الميتة سيموت وسيهلك، فإنه يباح له الأكل، لكن هل يباح له الأكل حتى يشبع؟
الجواب
لا، وإنما يباح له ما يسد رمقه، أي: ما يحفظ عليه حياته، لكن لا يأكل ويتمادى في الأكل حتى يشبع ويقول: قد أبيحت لي، وإنما يباح له من الضرورة ما يدفع الحاجة أو الضرورة التي أحلت له هذا الحرام؛ فلذلك قال تعالى: (ولا عادٍ) يعني: غير متجاوز حد الضرورة في تناول هذا المحرم، لكن يقتصر على قدر حاجته التي تحفظ عليه الحياة حتى لا يموت، ولا يتمادى في الأكل؛ فإن الضرورة تقدر بقدرها.
وقوله: (غير باغٍ) أي: غير باغٍ على شخص آخر، فقد يكون الاثنان مضطرين، فيعتدي الباغي على المضطر الآخر ويأكل -مثلاً- ما معه من الطعام الذي سينقذ به روحه، أو يكون معه طعام ثم يبغي على جاره المضطر أيضاً بأن يمنعه من المواساة ولا يواسيه فيما معه.
فقوله: (فمن اضطر) أي: أرغمته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر، (غير باغٍ) أي: على مضطر مثله تارك لمواساته، (ولا عادٍ) أي: متجاوز قدر حاجته من تناوله، ((فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) يعني: لا يؤاخذه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه الكفاية.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى آخره، فإن الذي حرمه الله سبحانه وتعالى بالوحي هو الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنه حرام؟! أي: أنتم تقولون بتحريم السائبة والوصيلة والحام وغير ذلك من عند أنفسكم، فإذا كنتم تزعمون ذلك فإني رجعت إلى الوحي الذي أنزله الله علي فلم أجد فيما أوحي إلي محرماً مما تذكرون إلا ما وجدت فيه من تحريم كذا وكذا وكذا مما ذكر الآن، فكيف تزعمون أنه حرام؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله تعالى؟! وهذا لا ينفي تحريم أشياء أخر بعد ذلك، أي: في هذا الوقت لم يكن قد حرم في الوحي غير هذه الأشياء، فهل معنى ذلك أن نأخذ بظاهر هذه الآية الكريمة ونقول: إنه لا يحرم أبداً من المطاعم إلا ما ذكر في هذه الآية؟
الجواب
لا؛ لأنه ثبتت نصوص -سواء في القرآن أو في السنة- بتحريم أشياء أخر غير الأشياء المذكورة في هذه الآية بعد ذلك، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية، ولحم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فهذه حرمت وهي غير مذكورة في الآية، فمعنى ذلك أنها لم تكن حرمت في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك جاءت النصوص بتحريمها، فلا تعارض.
وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيرها، فقوله: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)) أي: في ذلك، الوقت الذي كان يخاطبهم فيه فالوحي كان يشتمل على تلك المحرمات إلى تلك الغاية في ذلك الوقت الذي كان القرآن يحاور المشركين في هذه القضية، ففي ذلك الوقت لم يكن حرم إلا هذه الأشياء، فهل يتعارض هذا مع ما حرم بعد ذلك؟ الجواب: لا، بل هو مقيد بغاية زمنية معينة، ولا يمنع أن يأتي تحريم بعد ذلك في شيء آخر، كما قال تعالى في سورة المائدة: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة:3] وذلك لأن سورة الأنعام مكية، وسورة المائدة مدنية، فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم -أيضاً- هو طارئ، فالمحرمات غير المنصوص عليها في هذه الآية تحريمها طارئ نزل بعد ذلك، لكن في وقت نزول هذه الآية لم يكن حرم إلا ما وجده الرسول في الوحي.
وقيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحريم.
أي: أن بعض العلماء قالوا: إن معنى ذلك أنكم تقولون بالنسخ؛ لأن المنخنقة والموقوذة والمتردية طبقاً لهذه الآية التي في سورة الأنعام كانت مباحة؛ لأنها لم تكن حرمت، فمعنى ذلك أنه حينما نزل التحريم نسخ هذه الإباحة.
وجوابه أن ذلك زيادة تحريم، وليس بنسخ لما في الآية؛ لأن الآية نصت على أنواع محددة، وهذه الأنواع بقي حكمها كما هو؛ لأنه لم ينته هذا الحكم حتى يسمى نسخاً، وإنما حصلت زيادة في التحريم، وليس هذا بنسخ لما في الآية.
فإذاً: يصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير، ومن الناس من يسمي هذا نسخاً بمعنى أن النسخ يأتي بمعنى التوضيح، والتفصيل بعد الإجمال، ورفع إشكال بعد الإيهام، فهذا كله يطلق عليه نسخ، فالسلف يستعملون اصطلاح النسخ بمرادات كثيرة، وليس بالمعنى الأصولي الذي هو الإزالة ورفع الحكم تماماً.
واحتج بهذه الآية كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها، فمن ذلك الحمر الأهلية، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لـ جابر بن يزيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحمر الأهلية! فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر -أي: ابن عباس - وقرأ: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)) إلى آخره، يعني: ليس في الآية الحمر الأهلية.
وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه) وهذا الحديث ضعيف.
ونحن قلنا: إن هذا التحريم هو إلى غاية نزول قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً) أي: حتى الآن، والوحي كان ما يزال ينزل، فيحتمل أن يحصل تحريم بعد ذلك، فلا ينبغي الاستدلال بها على تعميم إباحة كل ما عدا ما ذكر في هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي(59/4)
تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر)
ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة تحقيقاً لافتراء المشركين فيما حرموه إذ لم يوافق شيئاً مما أنزله الله تعالى، يعني: ما حرمتموه لا الوحي الذي عندي حرمه، ولا الوحي عن الأنبياء السابقين حرمه، وذكر اليهود فقال سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146].
قوله: (وعلى الذين هادوا) يعني: على اليهود خاصة (حرمنا كل ذي ظفر) قال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع.
يعني: لا توجد له أصابع متميزة، لكن تكون أظفاره متميزة، كالجمل والوبر والأرنب، فإنها من ذوات الأظفار غير المشقوقة، أي: غير منفرجة، وأما ذو الظفر المشقوق -وهو البهائم- فلم يحرم عليهم، فقوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) يعني: الذي ليس منفرج الأصابع.
وقوله: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) يعني: لا لحومهما.
ففي البقر والغنم بالذات كان يحرم على اليهود أن يأكلوا شحوم البقر والغنم، لكن اللحوم كانت حلالاً لهم.
وقوله: (إلا ما حملت ظهورهما) أي: ما علق في الظهر من الشحوم، فما كان من الشحوم على الظهر فهو حلال، وما عدا ذلك من الشحوم في البقر والغنم فقد كان حراماً على اليهود.
وقوله: (أو الحوايا) يعني: الأمعاء والمصارين؛ لأن الأمعاء والمصارين تختلط بها الشحوم، فالمقصود أن الشحوم التي تختلط بالأمعاء كانت حلالاً لهم.
وقوله: (أو ما اختلط بعظم) يعني: كالمخ والعصب.
وقوله: (ذلك) يعني تحريم تلك الأطايب عليهم (جزيناهم ببغيهم) يعني: بسبب ظلمهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير الحق، فكانوا يعاقبون بهذه التشريعات التي فيها تشديد عليهم، وكان الله يشدد عليهم -لعنهم الله- لما كانوا يرتكبون من الجرائم.
وقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) هذا كما قال تبارك وتعالى في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161]، فالباء هنا سببية، يعني: بسبب ظلمهم وبغيهم وهذه الجرائم التي ارتكبوها عوقبوا بالتغليظ عليهم في شريعتهم وبهذه الأغلال وهذه الآصار، أما هذه الأمة المرحومة فرفعت عنها هذه الأغلال وهذه الآصار.
قال المهايمي: أي: ولم يكن لغيرهم ذلك البغي، فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها قائمة في أنفسهم.
يعني: لأنهم بغوا حرمت عليهم، أما الذين لم يبغوا فلم تحرم عليهم هذه الطيبات.
وقوله: (وإنا لصادقون) يعني: إنا لصادقون في كل ما نخبر به من الأخبار التي من جملتها هذا الخبر، وهذا الخبر هو تخصيص التحريم بسبب بغيهم، فالله سبحانه وتعالى حرم عليهم هذه الأشياء عقاباً لهم على بغيهم، لا كما زعموا بأن إسرائيل هو الذي حرمها على نفسه، وقد ألقمهم الله سبحانه وتعالى الحجر في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93].(59/5)
تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة)
قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:147].
قوله: (فإن كذبوك) الضمير إما لليهود؛ لأنهم أقرب ذكراً، وإما للمشركين، والأقرب أن الضمير في قوله: (فإن كذبوك) عائد على اليهود؛ لأنه جاء مباشرة بعد قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146].
فقوله: (فإن كذبوك) يعني: اليهود، والذي يؤيد ذلك أنه لما أراد أن يتكلم عن المشركين في الآية الثانية قال: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا))، فوصفهم بوصف الإشراك، فالضمير هنا إما لليهود، وهذا الأقرب، وإما للمشركين، وإما للفريقين معاً، يعني: فإن كذبتك اليهود وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ، وأصروا على ادعاء قدم التحريم، أو كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم، أو هما فقل: إن الله يمهلكم على التكذيب، فلا تغتروا بإمهاله، فإنه لا يهمل، فهذا معنى قوله: ((فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)) ومن رحمته الواسعة أنه يمهلكم رغم أنكم تكذبونه وتفترون عليه الكذب، لكن لا تغتروا بهذه الرحمة الواسعة؛ فإنه لا يهمل، فقوله: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) أي: سيمهلكم ويعطيكم مهله، لكن ((وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ))، يعني أنه مع رحمته وحلمه ذو بأس شديد، وفيه ترغيب في ابتغاء رحمة الله الواسعة، باتباع رضوانه، وترهيب من المخالفة.(59/6)
تفسير قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا)
قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].
ليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر تعالى عنهم بما سيقولون له من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا، فهنا أخبر الله سبحانه وتعالى مقدماً قبل أن يقولوا، أنهم سيقولون ذلك، فهذا من التسليح بالحجج قبل أن تقع مثل هذه المجادلة، فإنهم وقد ألقموا الحجر وقد أبطلت مزاعمهم في كل الآيات السابقة فزعوا إلى حيلة أخرى، أو إلى أسلوب آخر يتنكرون به مما فعلوه من الإشراك، فلما لزمتهم الحجة وبطل ما كانوا عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر تعالى أنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا، وفائدة الإخبار بما سوف يقولون له توطين النفس على الجواب، ومكافحتهم بالرد، وإعداد الحجة قبل أوانها، وهذه آخر حيلة عند المشركين.
فقوله: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) أي: كل شيء بقدر الله، وكل شيء بمشيئة الله، فنحن نشرك، وشركنا هو بإرادة الله.
فأبطل القرآن الكريم شركهم، وأبطل تحريمهم ما أحل الله، فقوله: (سيقول الذين أشركوا) يعني مشركي قريش والعرب (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)، أي أنهم فزعوا إلى الاحتجاج بالقدر، وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما حرمنا ما حرمناه أو ما حرمه آباؤنا من البحائر والسوائب والوصيلة والحامي وغير ذلك.
وقوله: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) يعني أنهم ظلوا يقولون ذلك حتى نزل عليهم عذاب الله.
وقوله: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) أي: هل عندكم أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا؟ وقوله: (إن تتبعون إلا الظن) أي: فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرمتم، (وإن أنتم إلا تخرصون) أي: تكذبون.(59/7)
تفسير قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)
قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
قوله: (الحجة البالغة) أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، ومنه قولك: أيمان بالغة، أي: أيمان مؤكدة، أو البالغة هي: التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه، فتكون من باب (عيشة راضية)، أي: مرضية.
وقوله: (فلو شاء لهداكم أجمعين)، ولكنه لم يشأ ذلك، ولم يشأ أن يهديكم، وإنما هدى غيركم، فشاء هداية بعض؛ فصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين، فصرف قلوبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاء، وهذه الآية في مشركي العرب، حيث قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة، وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء وأضافوا ذلك إلى الله، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول (لو شاء الله ما أشركنا)، وقصدهم الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال، فهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يشأ الترك، وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه خالق، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه، فهو حق.
وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جداً.
وقضية الاحتجاج بالقدر لها تفصيل واسع في بحثنا (القضاء والقدر)، والقاسمي، وقد عقد فصلاً كبيراً جداً في بيان هذا الأمر، فمن شاء فليراجعه في تفسير القاسمي، أو يراجع كتاب (القضاء والقدر) للدكتور عمر الأشقر.
ونقول هنا باختصار شديد: إن القدر لا يصلح حجة، فهذا الكلام الذي قالوه صحيح، لكن ما قالوه من أجل الإقرار بالقدر، وإنما قالوه من أجل الاحتجاج بالقدر، فالقدر نحن نؤمن به، لكن لا نحتج به، فيجب عليك أن تؤمن بالقدر، وأن كل شيء بمشيئة الله، وكل شيء يقع في الكون بإرادة الله عز وجل، لكن لا يجوز لك أن تحتج بالقدر على المعاصي، وإلا فلو كان القدر حجة لكان حجة لكل أحد، فمثلاً: الشخص الذي يسرق مالك ويقول لك: أنا سرقت بقضاء الله وقدره هو صادق في إثبات القدر، فكل شيء يجري بمشيئة الله، لكنه ضال في الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع؛ لأن الله حرم عليه السرقة ونهاه عنها، فلو كان القدر يصلح حجة له فيما فعل فهو حجة لك أنت أيضاً إذا ضربته، فاضربه وقل: وأنا أضربك -أيضاً- بقضاء الله وقدره.
ولذلك روي عن عمر أنه لما أراد أن يقطع يد سارق، قال له: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره).
فإذاً: القدر لو كان حجة لأحد لكان حجة لكل الناس، فغالب الناس الذين يحتجون بالقدر يحتجون بالقدر في صفهم فقط.
فهذه الآية تكرر مجيئها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، ومعلوم أن من عقيدة الفرقة الناجية: الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد، وخالف في ذلك عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم يقولون بخالقين، فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو سبحانه لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد.
فعندهم أن أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى، ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه.(59/8)
تفسير قوله تعالى: (قل هلّم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا)
ثم قال تبارك وتعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150].
قوله: (قل هلم شهداءكم) يعني: أحضروا شهداءكم، وقوله: ((الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا)) يعني: يشهدون على ما تقولون وما تزعمون تحريمه من الأنعام والحرث، والمراد بشهدائهم قدواتهم الذين ينصرون قولهم.
وإنما أمروا باستحضارهم لتلزمهم الحجة، ويظهر انقطاعهم وضلالتهم، وأنه لا متمسك لمن يقلدهم، فيحق الحق ويبطل الباطل.
وقوله: (فإن شهدوا) يعني: حتى لو حضر رؤساؤهم وقدواتهم وأتوا وشهدوا أن الله حرم هذا (فلا تشهد معهم) ولا تصدقهم ولا تسلم لهم ما شهدوا به؛ لما علمت من افترائهم على الله، ومشيهم مع أهوائهم.
وقوله: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) وضع المظهر موضع المضمر، أي: قال: (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) بدل أن يقول: ولا تتبع أهواءهم، وإنما وصفهم بأنهم (كذبوا بآياتنا) للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره -أي: سوى به الأصنام- فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى.(59/9)
تفسير سورة الأنعام [154 - 164](60/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن)
قال عز وجل: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:154].
قوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) أي: أعطينا موسى الكتاب، يعني التوراة.
وقوله: (تماماً على الذي أحسن) يقرأ بفتح النون في (أحسن) على أنه فعل ماض، وفاعله إما ضمير الذي، أي: تماماً لإكرام الله ولنعمة الله على هذا الشخص الذي يحسن ويكون من المحسنين.
يريد به جنس المحسنين، وتدل عليه قراءة عبد الله: (تماماً على الذين أحسنوا)، وإما ضمير موسى عليه السلام، ومفعوله محذوف، وعلى هذا فقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) يعني: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع؛ من (أحسن الشيء): إذا أجاد معرفته.
أي: زيادة على علمه على وجه التتميم.
فعلى القول الأول يكون قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) يعني: تمام الكرامة والنعمة على الذي كان محسناً صالحاً، وعلى هذا فيكون إعراب (تماماً) أنه مفعول له أو مفعول لأجله.
وعلى القول الثاني يكون قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) يعني: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو (تماماً على الذي أحسن)، أي: على موسى الذي أحسن العلم والشرائع، فتكون الجملة حالاً من الكتاب، أي: حال كون الكتاب تماماً على الذي أحسن.
وقرأ يحيى بن يعمر: (على الذي أحسنُ) بالرفع، أي: على الذي هو أحسن، أو: على الوجه الذي هو أحسن ما تكون عليه الكتب، قال ابن جرير: هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، يعني: قراءة (تماماً على الذي أحسنُ)، وإن كانت في العربية لها وجه صحيح فإن التفسير يعتبر هذه القراءة شاذة ولا يعتمدها.
وقوله: (وتفصيلاً لكل شيء) أي: وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين، (وهدى) يعني: هدىً لهم إلى ربهم في سلوك سبيله، (ورحمة) أي: عليهم بإفاضة الفوائد، (لعلهم)، أي: أهل الكتاب، (بلقاء ربهم يؤمنون)، أي: يصدقون بلقائه للجزاء.
ويلاحظ هنا أنه في الآية السابقة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
ثم قال تعالى: ((ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ))، فهل (ثم) في قوله تعالى: (ثم آتينا) هنا تفيد العطف مع الترتيب؟
الجواب
لا، ويؤيد هذا أن هذه الوصايا هي في هذا القرآن الكريم، فقوله تعالى: (ثم آتينا موسى) هل يفيد موسى أن أتى بعد القرآن الكريم؟!
الجواب
لا، وهذا شاهد قوي لمن قال: إن (ثم) أحياناً لا تفيد الترتيب؛ لأنه لا يتخيل أن يكون محمد هو الذي أتى أولاً ثم موسى بعده عليهما السلام، ولذلك قال السيوطي في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: (ثم آتينا) من قال: إن (ثم) لا تفيد الترتيب.
وقال ابن كثير: و (ثم) هنا لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب، يعني: أن (ثم) هي هنا لمجرد العطف وليست للترتيب، كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده ففي هذا البيت مجرد عطف الخبر بدون إرادة الترتيب؛ لأنه لا يسود الابن الحفيد وبعده يسود الأب وبعده يسود الجد، بل يسود أولاً الجد ثم الأب ثم الحفيد.
وقال أبو السعود: و (ثم) للتراخي في الأخبار، كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب.
يعني أن (ثم) هنا تفيد التراخي ولا تفيد الترتيب، وهي تفيد التراخي من ناحية أهمية الكلام أو مقدار ما يتعجب منه فيه، لكن ليس المقصود الترتيب الزمني، وإنما تفيد التراخي فيما يتعجب منه، أو التفاوت في الرتبة، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة؛ فإنها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها مما هو أعظم من التوصية بها فقط، ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن التوراة وإن كنت تماماً على النهج الأحسن فالقرآن أتم منها وأزيد حسناً، فهو أولى بالمتابعة، أي: أن الله سبحانه وتعالى أثنى هنا على موسى وعلى التوراة، لكنه أشار في الآية التي تليها مباشرة إلى أن القرآن أعظم وأشرف وأكمل، كما قال تبارك وتعالى في سورة المائدة: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44] إلى آخر الآية، ثم بعد ذلك قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة:46]، ثم قال بعد ذلك: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فالقرآن هو الحاكم على ما سبق من الكتب، وأشرف منها جميعاً.(60/2)
تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)
ثم قال عز وجل مبيناً أن القرآن أفضل من التوراة وأزيد حسناً، فالقرآن أولى بالمتابعة من هذه الكتب: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
قوله: (وهذا) أي: القرآن، (كتاب أنزلناه مبارك)، يعني: أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا، (فاتبعوه) أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام، (واتقوا) يعني: اتقوا مخالفته واتباع غيره؛ لأن القرآن نسخ ما قبله، (لعلكم ترحمون) أي: لعلكم ترحمون بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه، وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحب هذه المتابعة بلقاء ربه، فلو أن امرءاً يؤمن بالآخرة، وأنه يوجد يوم قيامة وحساب وجنة ونار، لكن لا يتبع القرآن، وإنما يتبع كتاباً منسوخاً كالتوراة أو الإنجيل فإنه لا يستحق أن يرحم، ولا تجوز عليه الرحمة، والدليل على ذلك قوله: (لعلكم ترحمون) فلا سبيل إلى الرحمة إلا باتباع القرآن، أما اتباع ما نسخه القرآن فلن ينجي من العذاب، حتى لو آمن بقضايا الإيمان الأخرى.
وتعلم القرآن فرض عين، أي أن الأمة كلها ينبغي أن تتعلم القرآن الكريم، لكن إذا قام بهذا الواجب طائفة بأن حفظوا القرآن وتعمقوا في علومه سقط الواجب عن الباقين، لكن ما الذي يتعين من القرآن؟
و
الجواب
هو ما لا تصح الصلاة إلا به، كقراءة الفاتحة.
وهنا ملاحظة يشير إليها ابن كثير كثيراً في لطائف تفسيره المباركة، وهي الربط دائماً بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، والربط باستمرار بين القرآن وبين التوراة، وعيسى عليه السلام وإن كان هو بين محمد وبين موسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، لكن عيسى إنما جاء مكملاً ومتمماً لما جاء في التوراة، وأوجه الشبه بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كثيرة، والشواهد على ذلك كثيرة، يقول ابن كثير: إنه تعالى كثيراً ما يقرن بين الكتابين: القرآن والتوراة، كهذه الآيات.
يعني: بعدما قال تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] قال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:154 - 155]، فذكر التوراة ثم عقب بالقرآن الكريم، وفي قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف:12] قرن عز وجل بين كتاب موسى وبين كتاب محمد عليهما الصلاة والسلام، وقوله تعالى في أول السورة: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91] ثم قال بعدها: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] إلى آخر الآيات.
وقال تعالى مخبراً عن المشركين: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48] فانظر إلى الربط -أيضاً- بين القرآن والتوراة.
وكذلك في صدر سورة الإسراء يوجد هذا الربط، وفي سورة القصص في مواضع كثيرة، وفي سورة الأحقاف قال تعالى حاكياً عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30].
والنجاشي كان نصرانياً، ومع ذلك لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم بكى وقال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، وورقة بن نوفل لما تلا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام سورة العلق، قال: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى)، وهذا ليس إهمالاً لشأن عيسى، لكن صاحب الرسالة الأساسية هو موسى عليه السلام، وعيسى جاء مكملاً، فرسالة موسى كانت فيها الشرائع، وكان فيها الجهاد ونحو ذلك، بخلاف رسالة عيسى عليه السلام، فإنما جاء عيسى عليه السلام ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وكان يغلب على دعوة عيسى عليه السلام الرحمة.(60/3)
تفسير قوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين)
ثم يقول تبارك وتعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156].
قوله: (أن تقولوا) علة لقوله: (أنزلنا) أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة.
أو: لئلا تقولوا يوم القيامة (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) فالله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على هذه الأمة، حتى لا يأتوا يوم القيامة فيقولوا: نحن ما جاءنا كتاب.
وقوله: (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) هم اليهود والنصارى لعنهم الله (وإن كنا عن دراستهم) أي: عن تلاوة كتابهم (لغافلين) أي: لا علم لنا بشيء منها؛ لأنها ليست بلغتنا.
قال أبو السعود: ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهم لا ينافي عموم أحكامه، فلمَ لم تعملوا بأحكامه العامة؟! والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم؛ إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا.
وبهذا يتبين أن معذرتهم هذه غير مقبولة، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، كما أنه قد قطعت تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله -أيضاً- عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.
وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156] أي: بلغة غير لغتنا، فلم نتمكن حتى من معرفة الأحكام العامة التي تشملنا وتشملهم، كالأمر بالتوحيد ومكارم الأخلاق وغير ذلك، فالآن ما بقي لكم حجة، فقد آتاكم الله هذا الكتاب المبارك لعلة أن لا تقولوا: إنما أنزل الكتاب -التوراة والإنجيل- على طائفتين من قبلنا.
فقد جاءكم الآن هذا الكتاب المبارك (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).(60/4)
تفسير قوله تعالى: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم)
ثم قال تبارك وتعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157].
قوله: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب)، يعني: كما أنزل عليهم (لكنا أهدى منهم)، أي: لكنا أسرع إلى الحق وأسرع إجابة للرسول صلى الله عليه وسلم لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل.
(فقد جاءكم بينة من ربكم) كأن كلمة (فقد) متعلقة بمحذوف تنبئ عنه هذه الفاء التي يسمونها بالفصيحة، يعني: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم.
وإما أن تكون واقعة في جواب الشرط، يعني: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما طلبتم وجاءكم ما كنتم تتعجلونه، (فقد جاءكم بينة من ربكم)، أي: كتاب حجة واضحة، (من ربكم) يعني: جاءكم من ربكم كتاب، أو (فقد جاءكم بينة من ربكم)، أي: بينة كائنة من الله تعالى لا يتوهم فيها السحر (وهدىً) أي: بإقامة الدلائل ورفع الشبه (ورحمة) أي: بإصابة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات.
وقوله: (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) أي أن مجيء الآيات المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه؛ فإن هذا القرآن مشتمل على أقصى درجة من الهدى والرحمة والبيان والحجة والبرهان، فإذا كان هو بهذه الحالة فهل يوجد أظلم ممن يكذب بمثل هذا القرآن الذي اشتمل على أقصى وأعلى وغاية الهدى والرحمة، فإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصرف عنها؟! أي: صرف الناس وصدهم عن اتباع القرآن الكريم، فجمع بين الضلال والإضلال، حيث كذب بآيات الله بنفسه، وصدف عنها، أي: صد غيره عن سبيل الله تبارك وتعالى، والمعنى: إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له.
وقوله: ((سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا))، يعني: يصدون ويصرفون الناس عن آياتنا التي لو لم يصرفوا عنها لعرفوا إعجازها، أي: أنهم هم الذين يحولون بين الناس وبين آيات الله ومعرفة إعجاز كلام الله.
وقوله: ((سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ))، يعني العذاب السيء، وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] أي: لأنهم كانوا فاسدين في أنفسهم ومفسدين لغيرهم، فكانوا كافرين في أنفسهم وصادين الآخرين عن سبيل الله، وكانوا يصدفون عن آيات الله، فحملوا وزرهم ووزر الذين أضلوهم بغير علم، فلذلك قال: (زدناهم عذاباً فوق العذاب)، فهم يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم، ولا يشترط أن يكون لهم في ذلك حجة، لكن المقصود المبالغة في إبطال كل المعاذير المحتملة التي يحتمل أن يعتذروا بها، وهذه المسألة متعلقة بمسألة أخرى، وهي حال المشركين قبل نزول القرآن الكريم قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فهل هم مسئولون عن الشريعة فهل هم من أهل النار، أم أنهم معذورون؛ لأنه لم يأتهم رسول؟ والظاهر أنهم كانوا على بقية من دين إبراهيم عليه السلام؛ لحديث: (إن أبي وأباك في النار).(60/5)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)
ثم قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158].
قوله: (هل ينظرون)، يعني: قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الرسالة، فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟ قال البيضاوي: أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين.
يعني أن هذا الشيء الذي سيقع يلحقهم تماماً كما يلحق الشخص الذي ينتظر الذي سيقع.
وقوله: (إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)، يعني: للحكم والفصل والقضاء بين الخلق يوم القيامة، قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة.
وهذه الآية هي كما قال عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210]، ومذهب السلف إمرار ذلك بلا كيف، أي: لا يتعرض الإنسان لتأويل قوله تعالى: (إلا أن يأتيهم الله)، أو قوله تعالى: (أو يأتي ربك)، ولا يقل: كيف الإتيان؟ ولا يقال: لله سبحانه وتعالى كيف.
لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت الصفة على ما يليق بالله عز وجل، ولا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعطل الصفة ولا ننفيها، هذا هو مذهب السلف.
وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) قيل: ملائكة الموت لقبض أرواحهم.
والتفسير المعتمد هو أنه تأتيهم الملائكة يوم القيامة.
وقوله تعالى: (أو يأتي بعض آيات ربك) وهذا كائن قبل يوم القيامة، وهو من أمارات الساعة وأشراطها، كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها)، لكن هذا الإيمان لن ينفع، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ورواه مسلم أيضاً، ولـ مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض).
وقوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) جملة: (لم تكن آمنت من قبل) صفة لـ (نفساً) وجملة (أو كسبت في إيمانها خيراً) عطف على (آمن)، والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء يؤمن الناس إذا رأوه؛ لأن هذه الآية حينئذٍ فيها إلجاء وفيها اضطرار إلى الإيمان؛ لأنهم إذا رأوا الشمس تطلع من المغرب علموا أن هذه الآية قاطعة على قدرة الله سبحانه وتعالى الذي أتى بها من المغرب، وحينما يعلمون أن القرآن أخبر بذلك وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وأن الساعة تكون قد اقتربت من هذه العلامة، فحينئذ يؤمنون، لكن هذا الإيمان لا ينفع؛ لأن أوان التكليف قد انتهى، ففي هذا الوقت يتوقف وينقطع أوان التكليف عند حصول هذه الآية، فلن ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور هذه الآية، فالإيمان الذي ينفع الإنسان هو الذي يكون قبل أن تظهر هذه الآية، أما إذا ظهرت فلا ينفع ذلك الإيمان.
وكذلك إذا كان الشخص مؤمناً قبل مجيء هذه الآيات كطلوع الشمس من مغربها، ولكن مع إيمانه لم يكتسب في إيمانه خيراً، ولم يستكثر من الأعمال الصالحة، فإنَّه في هذا الوقت لا يستطيع أن يستزيد، بل يتوقف أوان التكليف في هذه الحالة، فهي تشمل كل الناس، تشمل المؤمنين وتشمل الكافرين، تشمل الكافر الذي يؤمن حين تأتي الآية، وتكون الآية في حقه مثل الغرغرة، فلا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان ناشئ عن اضطرار وعن إلجاء بظهور هذه الآية العظيمة، وكذلك النفس المؤمنة التي لم تكسب في إيمانها خيراً لا تستطيع بعد ظهور هذه الآية أن تزيد في عملها شيئاً.
يقول: والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء -وهي آية ملجئة مضطرة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآية، أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فتوبتها حينئذ لا تجزئ.
يعني أن المؤمن أو المسلم الذي هو فاسق ولم يكتسب خيراً بالتوبة قبل ظهورها إذا جاءت هذه الآية وأراد أن يكتسب الخير ويعمل أعمالاً صالحة أو يتوب لا ينفعه ذلك.
قال الطبري: معنى الآية: لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذٍ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئاً، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85] فإذا أتى عذاب الله لا تقبل التوبة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
وبالجملة فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانه، ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وذلك لذهاب زمن التكليف.
قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك.
وكأنه يقول: إن هذه الحالة غير مذكورة هنا في الآية؛ لأن الآية سكتت عن الشخص الذي كان قبل نزول الآية مؤمناً يعمل صالحاً، فسكت عن كونه بعد طلوع الآية يتوقف -أيضاً- عمله ويتوقف التكليف في حقه، فـ الضحاك يذهب إلى أن هذه الحالة لا تستوي مع الحالتين السابقتين: حالة الكافر الذي يؤمن عند نزول الآية، فإنه لا ينفعه بعد ذلك أن يؤمن، أو المسلم الفاسق الذي لم يتب قبل نزول هذه الآية، فإنه لا تنفعه توبته عند طلوع الشمس من المغرب، وسكتت عن المؤمن الذي كان قبل الآية مؤمناً وكان يعمل الصالحات مستقيماً، فلذلك يقول الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك.
فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار، كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهي أنه إذا نزل عذاب الله لا يقبل التوبة من هؤلاء القوم؛ لأنهم رأوا من الآيات ما يجعلهم يوقنون ويؤمنون، لكن العبرة بالإيمان الاختياري، أما هذا فهو إيمان اضطراري، كإيمان الكفار يوم القيامة حين يقولون كما حكى الله عنهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12].
وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر يومئذ إيماناً لم يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث، وعليه يحمل قوله تعالى: (أو كسبت في إيمانها خيراً) أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن صاحبها عاملاً به قبل ذلك، أي: قبل مجيء الآية.
والأحاديث المشار إليها منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، وروى الترمذي عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (باب من قبل المغرب مسيرة عرضه -أو قال: يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة- خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه) أي: لا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من المغرب، ولـ أبي داود والنسائي من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، يعني نهاية التوبة في عمر الدنيا، لكن هناك توبة في حق كل واحد منا، وهي ما قبل الغرغرة، وحديث أبي داود والنسائي عن معاوية رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) قال ابن حجر: سنده جيد، والظاهر أن القاسمي يقصد ابن حجر العسقلاني، وإلا فبعض المصنفين -للأسف- أحياناً يعمل نوعاً من التدليس، فيقول: وصححه ابن حجر أو: وحسنه ابن حجر.
ويكون يقصد بذلك ابن حجر الهيتمي، بالتاء المثناة، وهذا يثبت التدليس، وهذا مثل الذي يقول مثلاً: رواه البخاري، وهو صادق في أنه رواه البخاري، لكن عند الإطلاق يفهم أنه رواه البخاري في الجامع الصحيح، ويكون الحديث في (الأدب المفرد) أو في (التاريخ الكبير) أو في غيرهما من الكتب التي هي للبخاري، فهذا -أيضاً- نوع من التدليس إذا تعمده الإنسان، فحين يقول: رواه البخاري ويسكت، ولا يقول: رواه البخاري في (الأدب المفرد) يعتبر كلامه إيهاماً، ولذلك تجد رموز الجامع الكبير للسيوطي أو الصغير تختلف، فـ (خ) للبخاري، و (خد)(60/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً)
ثم بين تبارك وتعالى أحوال أهل الكتاب إثر بيان أهل المشركين، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].
قوله: (إن الذين فرقوا دينهم) أي: اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه، فهو دين واحد أصلاً، لكن هم الذين تفرقوا فجعلوه أهواءً متفرقة (وكانوا شيعاً) أي: فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بحسب غلبة تلك الأهواء، وكل شيعة تناصر من اتخذته إماماً في هذه الأهواء، فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع.
وقوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي: من عقابهم، أو: أنت بريء منهم محمي الجناب عن مذاهبهم، أو المعنى: اتركهم؛ فإن لهم ما لهم.
قال القاشاني: أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء، لا تقدر أنت على هداية قلوبهم، وليست مسئوليتك أنت؛ إذ هم أهل التفرقة لا يجتمع همهم ولا يتحد قصدهم.
وقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ)، أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم لا إليك.
وقوله: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ)، يعني: إذا وردوا يوم القيامة.
وقوله: (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، أي: من السيئات والتفرقة لمتابعة الأهواء، ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم.
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.
وروى العوفي عن ابن عباس في الآية: أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا.
وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، وخاصة على الخوارج، ورووا في ذلك حديثاً رفعوه، ولا يصح إسناده كما قال ابن كثير.
ثم قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا اضطراب، فمن اختلفوا فيه وكانوا شيعاً -أي: فرقاً- كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13] إلى آخر الآية، والمقصود بذلك: وحدة الدين، وجميع الأنبياء دعوا إلى دين الإسلام، وفي الحديث: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، يعني: أولاد زوجات شتى لرجل واحد، فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، والرسل برآء منها، كما قال تعالى: ((لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))، فهذا التفرق والتشيع والتحزب ليس من الدين في شيء.
ثم قال: ((إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ))، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] وقد أخرج أبو داود عن معاوية رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)، ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا: (من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي).(60/7)
تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)
ثم بين لطفه سبحانه وتعالى في حكمه وعدله يوم القيامة، فقال عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160].
قوله: (من جاء بالحسنة) يعني: من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة، (فله عشر أمثالها) يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن.
قال المهايمي: كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب، يعطيه بما يليق بسلطنته لا قيمة العنقود، والعشر أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بالسبعين، وبسبعمائة، وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص؛ لأن المضاعفة أقلها عشر، الحسنة بعشر أمثالها، لكن هذا لا يمنع المضاعفة بأكثر من ذلك، أو أريد بعشر أمثالها مطلق الكثرة وليس عدد العشر بالذات؛ لأن من الأعمال ما يضاعف إلى سبعين، ومنها ما يضاعف إلى سبعمائة، ومنها ما يضاعف بغير حساب بلا حدود.
قوله: (ومن جاء بالسيئة) أي: بالأعمال السيئة، (فلا يجزى إلا مثلها) أي: في القبح.
قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره، كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله، ومن فعل معصية عذب بقدرها، كمن أساء إلى آحاد الرعية.
أي: لأن الشرك إساءة إلى الله سبحانه وتعالى، بخلاف الإساءة للخلق فهذه تكون معصية، لكن الإساءة إلى الله سبحانه وتعالى بالشرك بأنواعه ليست كغيرها من المعاصي.
والأحاديث كثيرة في معنى هذه الآية، منها قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تعالى: (إن ربكم تبارك وتعالى رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عنه، ولا يهلك على الله إلا هالك)، أي: لا يهلك على الله إلا إنسان موغل في الإجرام؛ بحيث يستحق أن يهلكه الله؛ لأن هذا الإنسان الذي يهلك معناه: أن آحاده غلبت عشراته، أي: آحاد المعاصي عنده غلبت عشرات الحسنات، فالحسنات تضاعف إلى عشر أمثالها أو إلى سبعمائة ضعف أو إلى ما شاء الله، فإن كان له حسنات وضوعفت هذه المضاعفة فإنه يتوقع أن تكون كثيرة، ثم السيئات إما أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنها، وإما أن يعطيه السيئة بمثلها آحاداً، لكن هذا إنسان غلبت آحاده مئاته، فكل هذه الأضعاف غلبتها آحاد السيئات، ومعنى هذا أنه هالك عن جدارة وعن استحقاق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ولن يهلك على الله إلا هالك).
وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة).
وروى الشيخان عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة) هذا لفظ البخاري، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله)، يعني أن اليوم يساوي عشرة أيام.(60/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً)
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه وتعالى عليه من إرشاده إلى دينه القويم، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].(60/9)
تفسير قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم)
ثم قال عز وجل مبيناً نعمته على نبيه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161].
قوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المخلصين (ديناً قيماً) النصب هنا على البدل؛ لأن قوله: (إلى صراط مستقيم) يعني: صراطاً مستقيماً، و (ديناً) نصب على البدل من محل (إلى صراط)؛ لأن معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175]، أو أنه مفعول لمضمر يدل عليه المذكور، فقوله: ((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا)) يعني: عرفني ديناً قيماً: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)) أو مفعول (هداني) فقوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً) يعني: هداني ديناً، فـ (هدى) يتعدى إلى مفعولين، و (قيماً) صفة (ديناً)، ويقرأ بالتشديد: (قيّماً)، أي: ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل، ولا يستطيع أحد أن يغيره ويبدله، ولا تنسخه الشرائع والكتب، يقوم ويعدل ويصلح أمر المعاش والمعاد، و (قيماً) أصلها: (قوماً)، كـ (عوض)، فأعل لإعلال فعله.
وقوله: (ملة إبراهيم حنيفاً) (حنيفاً) حال من إبراهيم، يعني أن إبراهيم كان حنيفاً مائلاً عن كل دين وطريق باطل إلى دين الإسلام ودين الحق، فـ (حنيفاً) يعني: مائلاً عن كل دين وطريق باطل فيه شرك ما.
وقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من اعتقاد وعمل، وفي قوله: (وما كان من المشركين) إشارة إلى أن إبراهيم بريء من هؤلاء الذين يزعمون الانتساب إلى إبراهيم مع أنهم واقعون في الشرك، سواء أكانوا من مشركي العرب أم من اليهود أم من النصارى، قال ابن كثير: هذه الآية كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها.
أي: هل يلزم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع إبراهيم أن معنى ذلك أن يكون إبراهيم أكمل عند الله من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لا يلزم ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له صلى الله عليه وسلم إكمالاً تاماً ولم يسبقه أحد إلى هذا الكمال، ولهذا قال: (أنا خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم).
وهو صاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى إبراهيم الخليل نفسه عليه السلام، كما في حديث الشفاعة، فإن جميع الأنبياء يحيلون الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (أنا لها أنا لها)، عليه الصلاة والسلام، فيظهر الله سبحانه على مشهد من جميع الأمم وجميع الأنبياء والمرسلين وجميع الخلائق يوم القيامة شرف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
عن ابن أبي أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: (أصبحنا على كلمة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قيل لرسول صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: (الحنيفية السمحة)، وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زخم الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم، وقالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة).(60/10)
تفسير قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
هذا المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق متعلق بأصولها.
أي: أن الأمر السابق أمر متعلق بأصول العقيدة، وهو قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)، فقرر الأمر هنا؛ لأنه يقصد هنا فروع الشريعة، والقضايا العملية، فقوله: (قل إن صلاتي) يعني: صلاتي إلى الكعبة (ونسكي) يعني: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة أو عبادتي كلها؛ لأن النسك يطلق إما على الذبح، وإما على العبادة كلها.
وقوله: (ومحياي ومماتي) يعني: ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، أو (محياي) يعني: طاعات الحياة و (مماتي) الخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات لله رب العالمين.
وقوله: (لا شَرِيكَ لَهُ) يعني: خالصة لله لا أشرك فيها غيره، (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: بذلك القول أو بذلك الإخلاص أمرت، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) يعني: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.
قال ابن كثير: يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.(60/11)
تفسير قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء)
ثم قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام:164].
قوله: (قل أغير الله أبغي رباً) يعني: فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، حيث يفهم من ذلك أنهم عرضوا عليه أن يشاركهم في عبادة آلهتهم، ودعوه إلى ما هم عليه من الشرك، فجاء الجواب عليهم: (قل أغير الله أبغي رباً)، أي: هل يصلح أن أبغي رباً غير الله سبحانه وتعالى كما تدعونني؟ وفي إيثار نفي البغية والطلب على نفي العبادة أبلغية لا تخفى، أي: أنه لا يفكر في مجرد أنه يطلب رباً أو يبغي رباً فضلاً عن أن يعبد هذا الرب.
فقوله: (قل أغير الله أبغي) يعني: أطلب رباً، ولم يقل: قل أغير الله أعبد رباً، أي: أن مجرد أن يتطلع إلى رب غير الله غير وارد، ولا شك في أن هذا من الأساليب البلاغية الرفيعة، فمجرد أنه يفكر في إله غير الله أمر مرفوض، فكيف يعبد غير الله؟! وقوله: (وهو رب كل شيء) أي: وكل ما سواه مربوب، يعني: مهما تدعونني لعبادة أي إله تدعونني إليه فهو مربوب لله ومخلوق، والذي خلق هذا الإله هو الله سبحانه وتعالى، فكيف أعدل عن عبادة الرب الخالق إلى عبادة المربوبين؟! وكيف أعبد مخلوقاً؟ وقوله: (وهو رب كل شيء) حال في موضع العلة للإنكار والتدليل على هذا الإنكار.
وقوله: (أغير الله) أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلن أكون عبداً لعبده، قال ابن كثير: أي: فلا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر.
ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة لله تعالى لا شريك له، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً، كقوله تعالى مرشداً عباده إلى أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(60/12)
تفسير سورة الأعراف [1 - 9](61/1)
الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور
سورة الأعراف هي: (طولى الطوليين) والطوليان: هما الأنعام والأعراف.
وقد أخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: الأعراف مكية إلا آية: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] فمدنية، وآياتها مائتان وست آيات.
وقد افتتحت سورة الأعراف بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {المص} [الأعراف:1].
ولأننا نحتاج بين وقت وآخر إلى الكلام في فواتح السور، فسنقف هنا وقفة يسيرة مع فواتح سور القرآن، كي نحيل عليه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.(61/2)
ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور وأشكالها
هذه الحروف المقطعة وردت في أوائل تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، وأخذت أربعة عشر شكلاً بعد حرف الفواتح المكررة وهي: {ص} [ص:1]، {ق} [ق:1]، {ن} [القلم:1]، {حم} [غافر:1]، {طه} [طه:1]، {طس} [النمل:1]، {يس} [يس:1]، ((الم)) [البقرة:1]، ((الر)) [يونس:1]، {المص} [الأعراف:1]، {المر} [الرعد:1]، {كهيعص} [مريم:1]، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2].
فجاءت: (ص)، (ق)، (ن) على حرف واحد.
(حم)، (طه)، (طس)، (يس) على حرفين.
و (حم) جاءت في غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.
و (طس) جاءت في النمل فقط.
وأما (الم) ففي البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة.
وأما (الر) ففي يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر.
وأما (طسم) ففي الشعراء، والقصص.
وأما (المص) ففي سورة الأعراف فقط.
وأما (المر) ففي سورة الرعد فقط.
وأما (كهيعص) ففي مريم فقط.
وأما (عسق) في سورة الشورى فقط.(61/3)
القول بأن الحروف المقطعة من المتشابه
وقد قسم العلماء آيات الذكر الحكيم إلى قسمين: قسم المحكم والمتشابه، وهذا التقسيم قائم على أساس قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
أما فيما يتعلق بالحروف المقطعة فقد انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين: فريق توقفوا عن أن يدلوا فيها بأي رأي اجتهادي تورعاً، وفوضوا العلم بها إلى الله سبحانه وتعالى.
أما الفريق الآخر: فحاولوا أن يؤولوا ليدركوا معانيها، ومع ذلك فلم تتفق كلمتهم على رأي قاطع في هذه المسألة، بل تعددت أقوالهم.
فالفريق الأول اعتبروا هذه الفواتح من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا الأساس تكون هذه الفواتح من الأسرار المحجوبة التي لم يطلع الله عليها أحداً من خلقه، فهي: كالساعة والغيث وعلم ما في الأرحام وغير ذلك، فواجب المؤمن التصديق بها حتى ولو غاب عنه تأوليها، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (عجزت العلماء عن إدراكها)، أي: عن إدراك سر هذه الحروف المقطعة في أوائل كتاب الله عز وجل، فهي لها معنى بلا شك، وهناك حكمة من إيرادها، لكن العلم بالمراد منها موكول إلى الله سبحانه وتعالى.
قال الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين: هي -أي الفواتح- سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت؛ ولذلك لما سئل الشعبي عنها قال: (سر الله عز وجل فلا تطلبوه).
وقال أبو حاتم: (لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بها).
وبعض العلماء جمع هذه الحروف، وحذف منها المكرر، وكوَّن منها جملة مفيدة، فخرجت هذه الجملة: (نص حكيم قاطع له سر!!).
وهذه ليست طريقة علمية في الاستنباط، لكن هذا مما يستأنس به، ومما يستملح.
وقال الربيع بن خثيم: (إن الله تعالى أنزل هذا القرآن، فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما كل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون).
وعلق أبو بكر الأنباري على مقولة الربيع قائلاً: (فهذا يوضح أن حروفاً من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختباراً من الله وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد).
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (من تكلم في بيان معاني هذه الحروف، جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسره به راجعاً إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك)، فهذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره الشوكاني في حق من يدلي بدلوه في هذه القضية.
أنه: إن كان يزعم أن له سلفاً من العرب في هذا الفهم وهذا التفكير لهذه الحروف المقطعة، فنقول: هذا كذب بحت وافتراء محض؛ لأن العرب لم تعرف هذا الأسلوب على الإطلاق في الكلام من قبل.(61/4)
ذكر قول من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات عربية
وهنا نتوقف قليلاً -قبل أن نستطرد في ذكر بقية كلام الشوكاني رحمه الله تعالى- ونتعرض لشبه قد يقولها بعض الناس، وقد يطالعها بعض الإخوة في كتب التفسير: فإن الملاحظ أن بعض العلماء ذكروا عن بعض العرب الاقتصار على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، وهذا هو الذي دفع بعض الناس إلى أن يقولوا: إن هذا أسلوب -أي: فواتح السور- كان للعرب عهد به من قبل، فالقرآن خاطبهم بنفس العهد، ومن ثم بدءوا يقولون: إن هذه الحروف هي عبارة عن حرف من كلمة حذف باقيها، يستشهدون بقول شعراء العرب مثلاً: (فقلت لها قفي فقالت قاف) أي: وقفت، فاقتصر على التعبير عن كلمة (وقفت) بحرف قاف.
وقال زهير: بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا (بالخير خيرات) يعني: أجزيك بالخير خيرات (وإن شراً فا) بألف يعني: فشر، فحذف كلمة فشر أو اقتصر منها على حرف الفاء فقط ومده.
(ولا أريد الشر إلا أن تا) يعني: إلا أنت تشاء، فاختصر كلمة تشاء إلى حرف التاء.
وقال آخر: نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا (نادوهم ألا الجموا ألا تا) يعني: ألا تركبون، فاقتصر من كلمة تركبون على حرف التاء.
(قالوا جميعاً كلهم ألا فا) يعني: فاركبوا.
وكما قيل أيضاً: (كفى بالسيف شا)، يعني: شافياً أو شاهداً.
ويبرزون في هذا حديثاً ضعيفاً، وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله)، لكن من ناحية اللغة قد يعتبره العلماء شاهداً بفرض صحته، على أساس أن الإنسان يعين على قتل أخيه بقوله: اقـ، بدل كلمة اقتل، فهي من هذا الباب.
فعلى أساس هذا الاستعمال العربي ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الأسلوب في القرآن الكريم أسلوب معهود من ذي قبل، وممن انتصر لذلك الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، فقد ذهب إلى أن هذه الحروف كانت شائعة الاستعمال في الأدب العربي في الحقبة التي نزل فيها القرآن، وقد استخدمها الشعراء والكتاب على السواء، ولأن معناها كان مفهوماً لديهم آنذاك لم يعترض عليه أحد قط، أي: لا أحد من الصحابة ولا من العرب اعترض على وجود هذه الحروف في أوائل السور، بل لم يستفهموا عنها ولا عن استعمالها إذ لم تكن عندهم ألغازاً ولا طلاسم يلزم حلها وتفسيرها.(61/5)
الرد على من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات
والجواب على كلام الإمام العلامة المودودي رحمه الله أو من ذهب إلى مذهبه هو: أن هذه الحروف المقطعة لم تأتِ إلا في فواتح السور، بخلاف استعمالات العرب، فإن الحرف يأتي في جواب كلام أو في سياق جملة، فيفهم معناه من السياق كله، فالقاف في قوله: (قلت لها قفي فقالت قاف)، تقدمها كلام دل على معناها.
ومثلها: (بالخير خيرات وإن شراً فا) بل لو قلنا لتلميذ في الابتدائية أكملها فسيقول: فشر، لأن الشر جزاء الشر، وإن لم تذكر الفاء، وكذلك: (نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا).
أو: (كفى بالسيف شا).
فإذاً يوجد سياق للكلام قبل هذا الحرف يدلنا على المعنى المراد بهذا الحرف، لكن أين ذلك في آيات القرآن في فواتح السور؟ فليس من الصحيح أن نقول: إن فواتح السور هي من جنس استعمالات العرب لهذه الحروف، بل الصحيح منع هذه الشبه، وأن هذا الأسلوب لم يكن معروفاً عند العرب من قبل.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن يتقدمه ما يدل عليه ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه، كما في الشواهد التي ذكرناها من قبل، ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم) يعني كما في قولهم: (يا صاح!) والمقصود: يا صاحبي! (يا مال!) يعني يا مالك! وكذلك: (عم صباحاً) فيها حذف، وأصلها: أنعم صباحاً).
وقال ابن قتيبة: وكما يحذفون من الكلام البعض، إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا، كقول ذي الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح يعني: من حين أقبل، ومن ذلك أن هذا النوع من الحذف، يعني: هذا النوع من الحذف موجود في القرآن الكريم، لكن ليس له علاقة بموضوع فواتح السور، وأنتم تلاحظون في التفسير أن كثيراً ما نجد السيوطي -رحمه الله- وغيره من المفسرين، يقول مثلاً: هذه الآية لم تذكر فيها النتيجة لأن النتيجة معروفة وهي كذا، أو هذا شرط والجواب محذوف، وكل هذا من أساليب العرب، فمثلاً قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31]، جواب الشرط فيها محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، فحذف الجواب.
وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف أو الشطر، والأكثر يرتجزون به، كما يقولون: في لجة أمسك فلاناً عن فل منه تظل إبلي في الهوجل يعني: فلاناً عن فلان.
وقال العجاج: قواطناً مكة من ورق الحم.
يعني: الحمام.
إذاً هناك فارق كبير بين اقتصار العرب على حرف أو أحرف من الكلمة، وبين الفواتح في أوائل السور، وإذا كان الكلام العربي قد زخر بأدوات استفتاح وتنبيه كثيرة، لكنها لا تشبه هذه الفواتح التي أتى بها القرآن الكريم لأول مرة في تاريخ العرب، ولم يعثر أحد عليها لا في شعرهم ولا في نثرهم، فأين ألا مثلاً أو (أما) في قول لبيد بن ربيعة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل وقول صخر الهذلي: أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر نرى هنا أدوات الاستفتاح: ألا وأما، أين هي من (حم عسق) و (الم) و (الر)، لا شك أن هناك فارقاً شاسعاً بين هذه وتلك، فهذا هو الجواب على من زعم أن هذه الفواتح هي من نفس الأسلوب الذي استعمله العرب.
يقول الشوكاني: وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادعوه من لغة العرب وعلومها، لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين: الأول: إما أنهم يفسرون ما يفسرون بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه والتنكب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه وتعالى من أن يجعلوا كتاب الله ملعبة يتلاعبون بها.
وإما أنهم يفسرون ما يفسرون بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو الطريق الواضح والسبيل القويم، بل الجادة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا فغير ملوم أن يقوله بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل: لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه، مع كونه ألفاظاً عربية وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك -المتشابه- صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟! قال: وهذا في السور متشابه المتشابه -يعني: أشد الآيات تشابهاً- فهي أولى ما يمسك عن الخوض فيه بغير علم.(61/6)
دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية
هنا دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية للدكتور/ محمد محمد أبو فراخ، أستاذ التفسير والتجويد وعلوم القرآن المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود، يتكلم فيها على هذا الموضوع.
وقد ذكر أن فريقاً من العلماء رأى أن هذا علم مستور ومحجوب عنا لا نستطيع إدراكه، وذكر الدكتور أن بعض العلماء ذهبوا مذهباً آخر، فاجتهدوا في محاولة تأويل فواتح هذه السور، فاتجه جمع كبير من العلماء إلى محاولة الكشف عن أسرار هذه الحروف والوقوف على معانيها ومدلولاتها والانتفاع بها، تحقيقاً للهدف الذي رمى إليه القرآن من ذكرها، قالوا: إن القرآن أنزل كي يتدبر: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، فعلينا أن نعمل عقولنا في محاولة فهم ما وقف عنده الفريق الأول الذي فوض العلم في هذه الأحرف إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يرى الوقف لازماً عند قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، ثم يستأنف الكلام: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} إلى آخر الآية، فالوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وما بعده استئناف لكلام آخر، وهو قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به).
فالعلماء آمنوا بالمتشابه الذي لا يعلم تأويله أحد غيره تعالى، ومن أجل ذلك الإيمان والتفويض أثنى الله عليهم.
والفريق الثاني الذي ذهب إلى تفسير هذه الفواتح، جعل قوله تعالى: (والراسخون في العلم) معطوفاً على ما قبله، أي: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) يعني: لا يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهة إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم.
فإذاً يكون الوقف على قوله تعالى: (والراسخون في العلم) يعني ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) وقوله: ((يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) جملة جديدة.
وقد روي عن ابن عباس: أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به: (يقولون آمنا به)، وقال بهذا الرأي: الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم.
وروي عن مجاهد أنه عطف الراسخون على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه، واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناها: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: (آمنا به كل من عند ربنا)، وزعم أن موضع (يقولون) نصب على الحال.
لكن القرطبي لا يقبل هذا الرأي ولا يقف على قوله تعالى: (والراسخون في العلم) ولا يجعل الواو للعطف، وينكر نصب جملة (يقولون) على الحال؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فلا يجوز أن تقول: عبد الله راكباً بمعنى: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل، كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فيصلح هنا إعرابها حالاً.
فكان قول عامة العلماء بالابتداء بقوله تعالى: (والراسخون في العلم) مستقيم مع مذاهب النحويين، وهو أولى من قول مجاهد الذي جعل الواو للعطف وزعم أنهم يعلمونه.(61/7)
ذكر قول من جعل فواتح السور تدرك بحساب الجمل ونحوه
ويزعم بعضهم أنه يعلم فواتح السور بحساب الجمل!! وهذه الطريقة تنسب لليهود، ومعنى حساب الجمل التي هي: أبجدهوز إلخ: أن كل حرف منها يساوي عدداً معيناً، ويبدأ العد على حسب ترتيبها: واحد اثنين ثلاثة أربعة إلى حد العشرة، ثم بعد ذلك يقول: عشرة عشرين ثلاثين أربعين إلى حد المائة، ثم يقول: مائة مائتين إلى آخرها.
فكل حرف من الكلمة يساوي عدداً معيناً، فيجمعونها ويحاولون أن يستخلصوا منها بعض المعلومات، فهذه طريقة يهودية ليست من الإسلام في شيء.
ومن هذه الضلالات ضلالة فرسان خليفة الذي ذهب إلى عمل حسابات معينة بالكمبيوتر أو الحاسب الآلي الجديد، ومن خلال إعطاء أوامر للكمبيوتر يعطيه العلاقات، وما أدري رقم تسعة عشر يتكرر كم مرة في القرآن؟! وتقديسٌ للرقم تسعة عشر بصورة تذكرنا تماماً بمنهج الباذيين والبهائيين!! وهذا موضوع يستحق في الحقيقة الكلام عليه، لكنه هنا أمر عارض فلن نفصل فيه.(61/8)
القول بأن الحروف المقطعة ليست من المتشابه
على أي حال من الأحوال فهذا الفريق الثاني من العلماء رأى أن الفواتح ليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قالوا: لو كانت هذه الحروف من المتشابه لجاز أن يرد في كتاب الله ما لا يكون مفهوماً للناس، والله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فكيف يأمرنا الله بتدبر القرآن كله وبعضه غير مفهوم؟! قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، فالقرآن نزل ليفهمه الناس ويتدبروه؛ ولذلك نزل بلسان عربي مبين، كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28].
وعن عمرو بن مرة قال: ما مرت بي آيات لا أعرفها إلا أحزنني؛ لأني سمعت الله يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وهكذا ذكروا عن بعض السلف آثاراً تدل على الحرص على فهم القرآن الكريم كله، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله سبحانه وتعالى لم يقل في المتشابه: لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، إنما قال: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، فالله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو.
والوقف هنا على ما دلت عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على كلمة: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، فكان مذهب الصحابة وجمهور التابعين وجماهير الأمة.(61/9)
ذكر أقوال الذين أولوا فواتح السور
وهذا الفريق الثاني بعدما اتفقوا على ضرورة التكلم في فواتح السور لإدراك معانيها وتلمس فوائدها، بناءً على أنها ليست من المتشابه في مذهبهم، تشعبت آراؤهم واختلفت أقوالهم في بيان المعنى المقصود منها!(61/10)
قول من جعلها أسماء للسور
فأول فريق: قالوا: إن هذه الفواتح هي أسماء للسور، وإن هذا الحرف هو عبارة عن اسم للسورة التي افتتح بها، وهذا منقول عن زيد بن أسلم، ونسبه صاحب الكشاف إلى الأكثر، ونقل القرطبي عن زيد بن أسلم قوله: هي أسماء للسور، يعني: أن كل سورة تعرف بما افتتحت به منها.
قد يرد إشكال هنا: وهو أن هناك بعض السور افتتحت بنفس الحروف فكيف تميز؟ كـ (الم) مثلاً و (حم).
قالوا: يمكن تمييزها بإضافتها إلى اسم آخر، كأن تقول: (حم السجدة) لتميزها عن (حم الدخان) مثلاً أو الزخرف أو غيرها، أو (الم البقرة)، و (الم العنكبوت) و (الم تنزيل) وهذا يكون مثل ما يحصل من الوفاق في الأسماء، فلو أن أحداً اسمه محمد والثاني محمد والثالث محمد، فيمكن أن تقول مثلاً: محمد أبو علي، محمد أبو الحسن، محمد أبو بكر، فتميزه بالكنية أو باللقب.
قال صاحب المنار: (الم) هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به، ولا يضر وضع الاسم الواحد كـ الم لعدة سور؛ لأنه من المشترك الذي يعين معناه اتصاله باسمه، كأن تقول: الم البقرة، تقصد بذلك سورة البقرة، وقد نقل عن سيبويه مثل هذا الرأي، ويعتضد هذا بمثل ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم السجدة)، و ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ)) [الإنسان:1]).
وذكر أبو السعود: أن الذي عليه الأكثر كونه أسماءً للسور المصدرة بها، وإليه ذهب الخليل وسيبويه، هذا هو المذهب الأول من مذاهب الذين قالوا بالخوض في تأويل هذه الفواتح.(61/11)
قول من جعل فواتح السور أسماء للقرآن
المذهب الثاني: أن الفواتح أسماء للقرآن الكريم نفسه مثل: الفرقان ومثل الذكر والكتاب وغير ذلك.
فقد نقل القرطبي عن قتادة في قوله: (الم) قال: اسم من أسماء القرآن.
وعن قتادة قال: كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن، وقوله: كل هجاء يعني به حروف التهجي التي تليت في أول السور.(61/12)
قول من جعل فواتح السور مأخوذة من أسماء الله وصفاته
المذهب الثالث: أن الفواتح حروف مأخوذة من أسماء الله وصفاته, فبعضهم قال: إنها تدل على اسم الله الأعظم، فعن شعبة قال: سألت السدي عن (حم) و (طس) و (الم) فقال: قال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم! ونحن نحتاج في مثل هذا إلى تحقيق الأسانيد؛ لأن ابن عباس قد كذب عليه، وكثير من الأقوال روِّجت بنسبتها إلى ابن عباس.
وروي أيضاً عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنها سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يا كهيعص! اغفر لي، ومن هنا استنبطوا أو ادعوا أن هذه الفواتح هي أسماء لله عز وجل، وهذا أيضاً مما يحتاج إلى أن يثبت بسند صحيح.
ومن ذلك أيضاً ما روي عن الربيع بن أنس في قوله: (كهيعص) قال: يا من يجير ولا يجار عليه! وأخرج ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سألت مالك بن أنس أينبغي لأحد أن يتسمى بيس؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2]، يعني: بناءً على أن الحروف أسماء لله عز وجل، فمن ثم لا يجوز لأحد أن يتسمى باسم الله، فهذا الفريق قال: إن (يس): اسم من أسماء الله، (طه): اسم من أسماء الله، (الم): اسم من أسماء الله.
وعن ابن عباس وغيره (الم) حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله.
ونلاحظ أن من الممكن بسهولة جداً أن نجد في أغلب المذاهب من ينسب قوله إلى ابن عباس، وذلك لأن علوم القرآن ما خدمت الخدمة الواجبة على الأمة إلى الآن، بخلاف السنة فإن الأمة ولله الحمد تيقظت لأهمية التحقيق فيها، ولكن ما زالت علوم القرآن تحتاج لكثير من التحقيق.
وروي عن أبي العالية في قوله تعالى: (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه.
وهذه طريقة أخرى تلتقي مع نفس الطريق، يقولون: إن كل حرف من هذه الحروف رمز لاسم من أسماء الله، أو جزء منه، كما قيل: الألف من الله، فالألف يعني: الله، واللام: مأخوذة من جبريل، والميم: من محمد عليه الصلاة والسلام.
وعن ابن عباس في قوله: (كهيعص): أن الكاف من كافٍ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، والهاء: من هادٍ، والياء من: حكيم، والعين من: عليم، والصاد من: صادق، فهذه الفاتحة في مريم يجتمع بها صفات كثيرة؛ لأن كل حرف منها مفتاح اسم أو صفة من صفاته تعالى.
ولا يبعد أن يستدلوا لهذا بما صدرنا به الكلام في موضوع استعمال العرب للحروف، وقد ذكرنا الفرق بين استعمالات العرب للحروف المقتصرة عليها وبين فواتح السور.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الم: أنا الله أعلم، ألف: أنا، لام: الله، ميم: أعلم، وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السدي عن أبي مالك.
وقيل: إنها صفات الأفعال، أي: (الم) مثلاً: الألف: آلاؤه، واللام: لطفه، والميم: مجده وملكه، نقل ذلك أبو السعود.
وهذا الكلام غير منضبط من الناحية العلمية، فما الذي يمنع أن تكون الياء من حكيم، أو من خبير أو من لطيف أو من أي اسم من أسماء الله؟!(61/13)
قول من جعل فواتح السور أيماناً
المذهب الرابع: أن الفواتح أيمان أقسم الله سبحانه وتعالى بها، فعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (الم) هو قسم أقسم الله به، فيجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال: (الم) وهو يريد جميع الحروف، كما يقول القائل: تعلمت: ألف باء، وهو يقصد تعلمت الحروف الأبجدية، فبدل أن يقول: ألف باء إلى الياء يختصر ويقول: تعلمت (ألف باء)، فكذلك هنا، وكأن الله أقسم بجميع الحروف الهجائية، لكن اقتصر على أجزاء من هذه الحروف المقطعة، فلما طال أن يذكرها كلها اكتفى بذكر بعضها، والناس يدلون بأوائل الأشياء عندما يقولون: قرأت {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] يعني: قرأت فاتحة الكتاب، وإنما أقسم الله بحروف المعجم لشرفها وفضلها؛ ولأنها مبادئ في كتبه في المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله عز وجل ويوحدون.
وقد أقسم في كتابه العزيز: بالفجر، وبالطور، وبالعصر، وبالتين، وبالقلم إعظاماً لما يسطرون، ووقع القسم بها في أكثر السور على القرآن، يعني: أقسم بهذه الحروف التي هي رمز للحروف الأبجدية.
قالوا: إنه يلاحظ في أكثر سور القرآن أن هذه الحروف تأتي في فاتحة السورة، ثم يغلب وجود إشارة إلى القرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، كأنه قال: أقسم بحروف المعجم إن هذا لهو الكتاب الذي لا ريب فيه.(61/14)
بيان تناقض تفسيرات الحروف المقطعة وذكر الصواب في ذلك
وهناك تفسيرات الصوفية لهذه الأشياء، لكن لا نريد أن نفصل في ذلك، ولا في ضلالات الباطنية وتأويلاتهم، وأنهم يستعملون القرآن في الناحية الرمزية التي توصلوا بها إلى أهوائهم ومآربهم.
وقد استنكر الباقلاني وغيره من العلماء التفاسير المتناقضة التي لم تحدد المراد من الفواتح تحديداً دقيقاً، والمنسوبة للصحابة والتابعين، مثل الإشارة بهذه الحروف إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفه من صفاته، أو اسم الله الأعظم، فلماذا لا تكون القاف مثلاً الحرف الأول من القاهر بدل من القدوس؟! ولماذا تدل النون على الناصر لا على النور؟! ويقولون: ص: الصمد، فلماذا لا تكون من الصادق؟! وهكذا، إلى غير ذلك من الأقوال المختلطة الفاسدة المتناقضة في التفاسير الإشارية والباطنية في الفواتح، وكذا التفاسير العصرية ذات الأرقام العددية، والتي لا يجوز الأخذ بها في تفسير كلام الله رب العالمين.
ولذا قال بعضهم: من ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.
يقول الشوكاني: إن المروي عن الصحابة في الفواتح مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر، كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ولا يجوز.
ثم هاهنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه، كسائر ما هو مأخوذ عنه.
أي أنه لو صح هذا الكلام عن الصحابة، فهو من الأقوال المختلفة، فلا يمكن أن يكونوا قد تلقوها عن النبي عليه السلام وهي متناقضة، إذ لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمهم ذلك لما اختلفوا ولا اتفقت كلمتهم، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لاسيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.
يقول الشوكاني: والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة، ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليها أفهامنا، فكم في الكون من أسرار تنقضي الدنيا ولا ندركها! وكم في التكاليف والعبادات من أسرار لا يملك العبد أمامها إلا أن يمتثل أمر ربه! ولم يكتشف العلم إلا قطرة من بحر خلق الله الذي لا يعرف مداه سواه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
ليست الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية سوى حروف قرآنية موحىً بها من عند الله عز وجل، ويجب ألا نقول فيها شيئاً من عند أنفسنا، أو ندخل في تفسيرها بظن لا يستند إلى دليل صحيح من كتاب أو سنة، فلا نرمز بها إلى أعداد معينة كأصحاب الحاسب الآلي، أو نشير بها إلى معاني الباطنية الفاسدة كأقوال بعض الصوفية، إننا لسنا أمام تاريخ حادثة حربية، أو تقليد نظرية فلكية، أو مناقشة قضية مدنية، ليتذكر الجميع أننا نقف أمام كتاب رب العالمين الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]؛ ولذا يجب الوقف في هذه الفواتح على الظاهر منها، وهو أنها حروف من حروف المعجم، تنطق بأسمائها ويمد كل حرف منها مداً مثقلاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها حرف ساكن مدغم فيما بعده، ويمد كل حرف منها مداً مخففاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها ساكن غير مدغم.
فليست لهذه الحروف المقطعة معان غير مسمياتها حتى يتكون منها الكلام.
أما من حيث القطع في معانيها الحقيقة في أنفسها وبيان المراد منها في أوائل السور، فلم يرد في ذلك شيء صحيح من كتاب أو سنة؛ لذا نقول: الله أعلم بمراده، ومن الكف عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه إذا لم يرتبط بذلك حكم أو تكليف، فيكفي تدبر هذه الفواتح على الأسلوب الذي جاءت به في المصحف الشريف.
نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بالكلام على الفواتح، وإنما أطلت النفس فيه، باعتبار أن هذا سنحتاجه فيما بعد إن شاء الله، فسنحيل على هذا البحث الذي ذكرناه هنا.(61/15)
تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)
قال تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2].
((المص)) تقدم الكلام عليه.
((كتاب)) أي: هذا الكتاب، ((أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه)) أي: لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه.
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه وأذاهم له، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، لأن في الحديث: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً قلت: يا رب! إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة).
فهذا يدل على أنه عليه السلام كان يشفق من أذى قومه ويضيق صدره لذلك، ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود:12].
والشنقيطي رحمه الله تعالى قال في تفسير قوله: ((فلا يكن في صدرك حرج منه)): قال مجاهد وقتادة والسدي: حرج أي: شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً.
وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:94] وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:94]، يقرن إثبات أحقية القرآن وأنه من عند الله بالنهي عن المراء.
وعلى هذا التفسير لا يكون الخطاب حقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الشاعر: إياك أعني واسمعي يا جاره وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً، لكن المقصود غيره، وقد يصرح به أحياناً في القرآن والمراد غيره مثل: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1].
وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، فالرسول عليه السلام معصوم من الذنوب ومن الآثام، فكيف لا يعصم من الشرك عليه الصلاة والسلام؟! فهو لا يمكن أبداً أن يصدر منه شرك، وكذا قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة:120]، وهو معصوم من ذلك أيضاً عليه الصلاة والسلام، ولكن الله يخاطبه؛ ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الاحتمالالذي ذكره الشنقيطي في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) أي: مرية أو شك.
أما جمهور العلماء فمذهبهم أن المراد بالحرج في الآية هو: الضيق، كما بينه القاسمي رحمه الله؛ لأن تحمل عداوة الكفار والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات، مما يضيق به الصدر، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود:12]، وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، ويؤيده أيضاً: أن الحرج في لغة العرب: الضيق، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: ضيق، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] حرجاً أي: شديد الضيق.
إلى غير ذلك من الآيات.
قال تعالى: ((لِتُنذِرَ)) أي تنذر المشركين، ((به)) يعني: بهذا الكتاب المنزل، ((وذكرى للمؤمنين)) أي: عظة لهم.
ولا ينافي ما ذكرناه من أن الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11] لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً على المؤمنين صار خصهم بالذكر؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم، ومن أساليب العرب أنهم يعبرون عن قليل النفع بأنه لا شيء، فالذي لا ينتفع بالسمع يعتبره العرب أصم، والذي لا ينتفع بالنظر يعتبره العرب كالأعمى، وهذا سر نفي هذه الحواس عن هؤلاء الكفار.
والإنذار يطلق في القرآن إطلاقين: أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] أي: كل الناس.
وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11]، وإنما قصر على المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالذكر دون غيرهم.
النوع الثاني من الإنذار: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، فهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وقوله هنا: ((لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)).
والإنذار في اللغة العربية هو: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً.(61/16)
تفسير قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون)
قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
خطاب منه تعالى لكافة المكلفين باتباع ما أنزل وهو القرآن الكريم.
وفي قوله تعالى: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم)) عموم، فيشمل كلّ ما أنزل من الله سبحانه وتعالى في الوحي، والوحي وحيان: قرآن وسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه).
والأدلة على أن السنة وحي كثيرة جداً، وحيثما وردت الحكمة مقترنة بالقرآن في سياق الامتنان على هذه الأمة، فالمقصود بها السنة، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:142 - 143].
فهذه الآية يؤخذ منها أن الذي شرع استقبال بيت المقدس في الصلاة هو الله سبحانه وتعالى لكن بواسطة الوحي لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولم ينزله في القرآن؛ لأن ربنا يقول: ((وما جعلنا)) وليس المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن، كما يقول ملحد ليبيا وأذنابه: إن المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن!! والله المستعان، اللهم أرح المسلمين من هؤلاء الأشرار.
فلنفترض إن المصدر الوحيد هو القرآن الكريم، فأين في القرآن الكريم الآية التي تأمر المسلمين باستقبال بيت المقدس في الصلاة؟! فتشوا فلن تجدوا هذا في القرآن، ولم يوجد هذا إلا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وهنا لم يقل: (وما ينطق بالهوى)، وإنما قال: ((وما ينطق عن الهوى)) لتنزيه المصدر نفسه، فدل على أن كلّ ما يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين وحي من الله عز وجل.
قال السيوطي في الإكليل: استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به؛ لأنه من جملة ما أنزل الله وقد أمرنا باتباعه بقوله ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)) قال: إن معناها أن المباح مأمور به؛ لأنه مما أنزله الله، وقد أمرنا الله باتباعه فهو مأمور به، يقول القاسمي: وهذا غلو في الاستنباط وتعمق بارد، وهذا من التكلف المرفوض، ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار برصاً، فينبغي عدم التنطع والتعمق في الاستنباط بهذه الصورة.
((وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) أي: لا تتبعوا أولياء غيره تعالى من الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع.
((قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) أي: ما تتعظون إلا قليلاً، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تبارك وتعالى وتتبعون غيره.(61/17)
تفسير قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا إنا كنا ظالمين)
قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:4 - 5].
((وكم من قرية أهلكناها)) أي: أردنا إهلاكها ودليل ذلك سياق الآية: ((فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون)) فلو كانت كلمة (أهلكناها) تعني أن قد أهلكناها؛ لكانت أهلكت بالفعل وانتهت، لكن المقصود هنا: أردنا إهلاكها بسبب أنهم خالفوا ما أنزل إليهم من ربهم، وهو المشار إليه في الآيات السابقة.
((فجاءها بأسنا)) أي: فجاء أهلها عذابنا.
((بياتاً)) أي بائتين في الليل، والبيتوتة: الدخول في الليل، يعني أهلكناها ليلاً قبل أن يصبحوا.
((أو هم قائلون)) يعني: نصف النهار، لأن هذا وقت القيلولة، كقوم شعيب، والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له، ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة، وكل ذلك وقت الغفلة، والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار، كأنهم قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة، ونظيرها قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] إلى آخر الآية ثم بعد ذكره تعالى لعذابهم الدنيوي أتبع ذلك ببيان عذابهم الأخروي، فقال عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4]: خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أهلك كثيراً من القرى؛ بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتاً يعني: ليلاً، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار، يعني: فاحذروا تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثلما أنزلت بهم.
أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10]، وقال عز وجل: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، وقال عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]، وقال أيضاً: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] فقوله تعالى بعدها: (وللكافرين أمثالها) بيان للغاية التي من أجلها سيق هذا الأمر، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10]، فبعد أن يبين أنه يريد من هذا تهديدهم قال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] يعني: إن فعلتم مثلهم كانت لكم نفس العاقبة.
وقد هدد تعالى أهل القرى بإتيان عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحىً في حالة اللعب، قال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47]، ومعنى (معجزين): فائيتن، أي: لن تفوتوا ولن تهربوا من عذاب الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]، فهذه القرى الكثيرة التي أهلكها الله في حال البيات أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين، أوضح هذا المعنى في قوله عز وجل: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:11 - 12]، يركضون: أي يحاولون أن يهربوا منها {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15]: يعني: جعلوا يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، حتى استأصلهم العذاب.
قال الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى: في هذه الآية دلالة واضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، قال الراوي: قلت لـ عبد الله بن مسعود: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: ((فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)) يعني: هذا العذاب نحن نستحقه عن جدارة واستحقاق، وليس ظلماً من الله سبحانه وتعالى، بل نحن الظالمون، فلا يهلكهم الله حتى يصرحوا هم بأنفسهم أن هذا بسبب ظلمهم.(61/18)
تفسير قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)
قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].
((الذين أرسل إليهم)) المرسَل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا به رسلهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].
((ولنسألن المرسلين)) عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، والمراد ب
السؤال
توبيخ الكفرة وتقريعهم.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، لم يبين هنا الشيء المسئول عنه المرسلون ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم؟ وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]؟ وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، وبين في موضع أخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون يقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
وهنا إشكال معروف وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92] وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39].
فهذه من الآيات الكريمة التي توهم الاضطراب في ظاهرها، فما الجواب عن هذا؟ يقول: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخف من السؤال المثبت فيها، فالسؤال المنفي السؤال عن الذنب: ((ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)) ((فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان)) فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل ليس عن ذنب فعلوه، فلا مانع من وقوعه، وكذلك الموءودة فإنها كانت مظلومة، فستسأل لكن لا عن ذنب والمنفي إنما هو خصوص السؤال عن ذنب، مع أنه ورد في أدلة عامة عن السؤال؛ لكن لا عن الذنوب.
ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]، وبعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، قال سبحانه وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات المراد به: سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن علمه جل وعلا محيط بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه، وهو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع، كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] فهذا سؤال المقصود به: التوبيخ، والتقريع، والتبكيت، والإيلام، والإهانة: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} ومثله أيضاً قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] فهذا سؤال مقصود به التوبيخ والتقريع إلى غير ذلك من الآيات.(61/19)
تفسير قوله تعالى: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)
قال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7].
أي: نقص على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم، (بعلم) أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة.
((وما كنا غائبين)) أي: عنهم وعما وجد منهم.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)) بين تعالى فيها اطلاعه عليهم في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط بكل ما فعلوه، من صغير وكبير، وجد هزل، وهذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] إلى آخر الآية.
وفي هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة، القائلين إنه تعالى عالم بذاته لا بصفة قامت بذاته وهي صفة العلم.
وهكذا في قولهم: قادر ومريد وحي وسميع وبصير ومتكلم، فيقولون: إنه تعالى عالم بذاته، قادر بذاته، دون أن يتصف بصفة العلم أو القدرة أو السمع أو الحياة أو التكلم إلى آخره، ففي هذه الآية يثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه صفة العلم، فيقول عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف:7]، ونظيره قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.(61/20)
تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق بما كانوا بآياتنا يظلمون)
قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9].
((والوزن يومئذ الحق)) أي: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، وذلك يوم يسأل الله الأمم ورسلهم.
((فمن ثقلت موازينه)) أي: من ثقلت حسناته في الميزان.
((فأولئك هم المفلحون)) أي: الناجون من السخط والعذاب.
((ومن خفت موازينه)) يعني: من خفت حسناته في الميزان.
((فأولئك الذين خسروا أنفسهم)) يعني: بالعقوبة ((بما كانوا بآياتنا يظلمون)) أي: يكفرون.
قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية ذكر الميزان والإيمان به، هذه من العقائد التي يجب الإيمان بها، ووزن الأعمال، معناه في الميزان يوم القيامة، قيل: الأعمال نفسها هي التي توزن، وإن كانت الأعمال أعراضاً إلا أن الله سبحانه وتعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً توزن.
قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح: (أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة).
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح في قصة القرآن، عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يشفع لصاحبه فيقول: أنا الذي أسهرت ليله واظمأت نهاره).
وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: (فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح)، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.
فالذنوب والمعاصي تتجسد هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: (إنه إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، ولا بُعد في ذلك، ألا يرى أن العِلْم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن -لعله يقصد بذلك تأويل اللبن في المنام بالعلم، من حديث عمر حينما وسقاه النبي في المنام لبناً فأول ذلك بالعلم- فهذا هو القول الأول: أن الأعمال هي التي توزن.
والقول الثاني: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال التي كتبتها الملائكة، ويبينه حديث البطاقة، وهو الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب! فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، وإنه لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم) فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال؛ لأن هذا الرجل وزنت سجلاته التي فيها أعماله وفيها الشهادة.
والقول الثالث: أن الذي يوزن هو صاحب العمل، فالإنسان نفسه هو الذي يوزن، كما في الحديث: (يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ قوله تعالى: ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)) [الكهف:105]).
وفي مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد)، فمعنى ذلك أن ساقي ابن مسعود رضي الله عنه ستوزنان في الميزان.
قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارة يوزن الأعمال، وتارة يوزن محلها، وتارة توزن فاعلها.
والله تعالى أعلم.
يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في فتح البيان راداً على الذين أولوا وقالوا: المقصود بالميزان الفصل في القضاء والحكم بالعدل إلى آخر هذه العبارات التي يقولها من استبعدوا هذه الأقوال المدعمة بهذه الأدلة؛ يقول: وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقيقتها، فلم يأت في استبعادهم شيء من الشرع يرجع إليه.(61/21)
تفسير سورة الأعراف [31 - 46](62/1)
تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد إنه لا يحب المسرفين)
قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]: ((يا بني آدم خذوا زينتكم)) المقصود هنا: الزينة من اللباس.
((عند كل مسجد)) إذا قلنا: إن المسجد يعني اسم مكان، فسيكون معناها: خذوا زينتكم عند كل بيت بني للعبادة، وإذا قلنا: إن المسجد مصدر فسيكون المقصود من قوله: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) أي: عند كل سجود، أي: كلما هممتم بالصلاة والعبادة فخذوا زينتكم، فإن العبادة أولى أوقات التزين.
((وكلوا واشربوا)) يعني: أيام الحج لتتقووا على العبادة.
((ولا تسرفوا)) يعني: إسرافاً يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو: لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم.
((إنه لا يحب المسرفين)) أي: المعتدين.(62/2)
سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة تطوف في البيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها) والتطواف هو: ثوب تلبسه المرأة تطوف به.
وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبداً، بل يتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، ويسمى: اللقاء، حتى جاء الإسلام، فأمر الله سبحانه وتعالى بستر العورة فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يطوف بالبيت عريان).
فالمقصود هنا: ستر العورات إبطالاً لما كان عليه الجاهليون من الطواف عراة.
يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول: (اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله) فنزلت هذه الآية الكريمة: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
وفي رواية أخرى عن ابن عباس: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا.
وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً في هذه الآية قال: كان رجال يطوفون في البيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من زينة البز والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أمروا بلبس الثياب.
وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة من الزينة.
وقال مجاهد: كان حي من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجاً أو معتمراً يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فكان يقول الواحد منهم: من يعيرني مئزراً، فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً، فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)).
وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس هم: قريش وأحلافهم، فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عرياناً، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، يعني: إذا قضى طوافه جعلها حراماً عليه؛ فلذلك قال تعالى: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) والمراد من الزينة: لبس الثياب التي تستر العورة.
قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة.
وقال ابن كثير: هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها، إنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة.
انتهى كلام ابن كثير.
يقول القاسمي: فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة؛ لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه.
وذلك أن أول ما يتبادر للذهن من كلمة (زينة) أن الزينة تعني الرياش أو الأشياء التي يتجمل بها الإنسان وهي من قبيل الكماليات أو التحسينيات؛ لكن إذا رجعنا إلى سبب النزول، نعرف أن هذا ليس هو المقصود، وإنما المقصود بصفة أصيلة ما يواري العورات؛ لأن المستفاد من قوله: (خذوا) هو وجوب الأخذ، فهو أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فالذي يجب أن يلبسه الإنسان هو ما يستر به العورة.
ولباس التجمل مستحب وليس واجباً، قاله الشهاب.(62/3)
الزينة لفظ يطلق على كل ما يستر العورة
وأقول: دلت الآية بما أفاده سبب نزولها، على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من الثياب كما توهم كلمة الزينة، التي تستعمل كرياش أو للتجمل فقط، لكن الزينة لفظ يطلق أيضاً على ما يستر به العورة.
وفي التهذيب: الزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به.
وقال الحرالي: الزينة تحسين الشيء بغيره، من لبسة، أو حلية، أو هيئة.
وقال الراغب: الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا لا في الآخرة.
ونقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة: لبس الثياب التي تستر العورة، قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، قال: وأيضاً فإنه تعالى قال في الآيات المتقدمة: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، فبين أن اللباس الذي يواري السوءة من قبيل الرياش والزينة.
ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية، وهي قوله: ((قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا))، ما وظيفته؟ ((يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)).
وأيضاً فقوله: خذوا زينتكم: أمر، والأمر للوجوب فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان.(62/4)
من الزينة في الصلاة لبس النعال إذا أمنت الفتنة
وقد روى بعض المفسرين ما يدل على أن الآية نزلت في الصلاة في النعال، هذا روي عن أنس رواه الحافظ ابن مردويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً، وعن أبي هريرة مثله، وقال ابن كثير: وفي صحته نظر، والله تعالى أعلم، يعني أنه من حيث السند غير صحيح وفيه نظر، أما من حيث المعنى فالمعنى صحيح؛ لأن النعال مما تشمله الزينة، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم: نزلت في كذا لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به، بل مخصوص بنوعه، فتعم ما أشبهه.
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعال كثيرة جداً، منها: حديث سعيد بن يزيد قال: (سألت أنساً أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم)، وهذا متفق عليه.
وقال العراقي في شرح الترمذي: وممن كان يفعل ذلك -يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي، وذكر عدداً كبيراً من التابعين كانوا يصلون في النعال.
وقد ثبت أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما)، وكذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً).
فإذاً يمكن على هذا الأساس إدراج لبس النعال على أنه من الزينة التي يتخذها الإنسان عند الصلاة، والمقصود بالصلاة في النعال أن الإنسان يصلي حسبما يتيسر له الحال، فإن كان منتعلاً يصلي منتعلاً، ولا يتكلف خلع النعل من أجل الصلاة، وإن كان حافي القدمين فلا يتكلف لبس النعلين لأجل الصلاة، وهذا بشرط ألا يؤذي من في المسجد، فإذا كانت المساجد -كما هو الحال الآن- مفروشة بالبسط والسجاجيد، وكثرة توارد الأقدام بالأحذية عليها مما يؤذي الناس ويلوث ثيابهم، فهنا: (لا ضرر ولا ضرار)، وفي مثل هذه الحالة ليس من الحكمة أن يتعمد الإنسان لبس النعل ويصلي فيها، ويستفز مشاعر الناس ويؤذيهم، لكن على الأقل ينبغي عليه أن يعلم الناس أن هذه سنة.
وأحياناً يحتاج الإنسان إلى الصلاة في النعال، كأن يكون المسجد مزدحماً، والصفوف موجودة في خارج المسجد، وهو يريد أن يلتحق بها بسرعة، وليس هناك شيء مفروش على الأرض، ففي هذه الحالة يصلي بدون أن يتكلف خلع النعل حتى لا يفوته جزء من الصلاة، فيصلي بالنعلين، والناس الآن بسبب شدة غربة الإسلام، وشدة تفشي الجهل بينهم، يستقبحون أن يصلي الإنسان في النعل، وهذا بسبب جهلهم بالسنة، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح.(62/5)
الاستدلال بالآية على اشتراط وجوب ستر العورة عند الطواف
دلت الآية أيضاً على وجوب الستر عند الطواف؛ لأنه سبب النزول، خلافاً لبعض المذاهب ممن يرى أن ستر العورة ليس بواجب في الطواف، ولكن هذه الآية؛ لأن سبب نزولها هو حال المشركين الذين كانوا يطوفون عراة، فنزلت الآية توجب ستر العورة في أثناء الطواف؛ لأن الطواف صلاة، والفرق بين الطواف وبين الصلاة: أن الله سبحانه وتعالى أباح فيه الكلام.
قالوا: واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) فيستدل بنفس هذه الآية -أيضاً- على أحد شروط الصلاة وهو ستر العورة، فهذه الآية يصح الاستدلال بها على اشتراط ستر العورة في الطواف وفي الصلاة.(62/6)
مشروعية التجمل عند الصلاة استدلالاً بالآية
وقد حاول بعض العلماء استنباط التجمل عند الصلاة من هذه الآية، حيث قال: لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة في الصلاة، فهم منها في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها.
هذه الآية هي أساساً في الأمر بالزينة الأساسية التي هي ستر العورة، لكن يفهم من روح الآية أيضاً أنها تندب المسلم إلى أن يحسن هيئته إذا أراد أن يصلي أو أن يذهب إلى المسجد، خاصة في الجماعات وفي صلاة الجمعة والأعياد وغير ذلك.
قال الكيا الهراسي: ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد للفضل الذي يتعلق به، تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه، فالإنسان إذا لقي صديقه، أو قريبه، أو صاحب وجاهة أو سلطة، فإنه يتزين ويهتم بمظهره، فأولى أن يهتم الإنسان بمظهره وزينته إذا أراد أن يقف بين يدي الله عز وجل، وكان بعض السلف يختار أحسن وأفضل ما قدر عليه من الثياب حينما يلقى الله سبحانه وتعالى في الصلاة.
وقال ابن الفرس: استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية.
وهذا يعني أن الزينة مسألة نسبية، خاضعة لحال المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، فينظر كيف تكون زينتهم فلا يتعمد أن يشذ عن ملابس القوم الذين يعيش فيهم، لكن بشرط أن يكون هؤلاء ملتزمين بالشرع، وملابسهم على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن غرائب الغلو في انتزاع المعاني من الآيات، ما ذهب إليه بعض الناس من أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين! باعتبار أن هذه زينة.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأن الطيب من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم)، وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداءً بألف وكان يصلي فيه.(62/7)
وجه الربط بين الأمر في قوله: (خذوا زينتكم) وقوله بعدها: (وكلوا واشربوا)
وهنا سؤال وهو: لماذا أتبع الله سبحانه وتعالى الأمر في قوله: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ))، بقوله: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا))، فما وجه الربط بين هذين الأمرين؟ يقول: إن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماًً، يعظمون بذلك حجهم، أي أنهم كانوا يعتبرون الامتناع عن أكل الشحوم والدهون من تعظيم الحج، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)).
وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم -يعني الشحم- فقال الله تعالى لهم: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل، وذلك بتحريمه.(62/8)
وجوه الإسراف
وقيل: تدل الآية على المنع من الإسراف، وهو على وجهين: أولهما: إنفاق في معصية، كأن يصرف الإنسان أمواله في القمار واللعب والزنا والخمر ونحوها.
وثانيهما: أن يتعدى الحدود، وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار، أي: أن موضوع الإسراف فيما أباحه الله سبحانه وتعالى بتعدي الحدود المعقولة، أمر نسبي يتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فمثلاً الإسراف في حق الرجل الذي عنده قدر يسير من المال، أن ينفقه في ضيافة أو في طيب أو في ثياب خز، فهذا ترف محرم؛ ولذلك فإن قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، بينه قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما فضل عن النفقة الأساسية، وهي نفقة الأهل والأولاد وغير ذلك من أنواع النفقة الواجبة، ولهذا لا يكون التصدق إلا بعد أداء الفريضة أولاً، لأن التطوع يكون بعد الفريضة، فكذلك الإنسان الذي عنده مال محدود يحتاجه هو وعياله وأطفاله، فإذا أنفقه في إكرام الناس بالضيافات أو بالطيب أو بثياب فخمة فهذا بلا شك إسراف؛ لأنه هو نفسه وأولاده ومن يعولهم يحتاجون إلى هذا المال.
ومثل هذا القدر من المال الذي ينفقه في الطيب أو في الملبس الجيد رجل موسر، نسبة هذا المال إلى ماله نسبة قليلة، لا تفقره ولا تضره، فمثل هذا في الموسرين لا يقبح، وإذا اشترى هذا الموسر طيباً أو ثياباً جيدة فهذا لا يكون في حقه من الإسراف.
فإذاً موضوع الإسراف موضوع نسبي، والعبرة بأن يؤدي الإنسان ما عليه، خاصة من الزكاة.
وتدل الآية على أن الأشياء على الإباحة: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا))، والعقل يدل على ذلك؛ لأنه تعالى خلقه لمنافعهم، والسمع ورد مؤكداً، ولذلك قال: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)) يعني: معناها أنه لا يطالب بدليل سمعي، فكلمة: (من حرم) يعني: ائتونا بدليل سمعي يدل على أن الله سبحانه وتعالى حرم ما تذكرون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)، وقال البخاري: قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف أو مخيلة.
هذا هو الضابط في النفقة: (كل ما شئت والبس ما شئت) ما لم تقع في إحدى هاتين الاثنتين، وهما الإسراف أو المخيلة، والتكبر على عباد الله عز وجل.
وقال الشهاب: هذا لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء: أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس.
نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبسن ما اشتهته الناس ((إنه لا يحب المسرفين)) وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء؛ لأن من لم يحبه الله سبحانه وتعالى لم يرض عنه.
ثم ذكر القاسمي هنا كلاماً مفصلاً في الربط بين قواعد الصحة الغذائية في قوله تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فذكر أن هذه الآية الكريمة جمعت الطب كله، ثم نقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما يدل على اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب واشتمال السنة المطهرة على بدائعه في كتابه زاد المعاد، فتكلم بالتفصيل عن أمراض القلوب وعلاجها من القرآن الكريم والسنة، فبين أن أمراض القلوب إما مرض شبهة وشك، وإما مرض شهوة وغي، وبين أيضاً أمراض الأبدان، وتكلم عنها بالتفصيل، ثم تكلم عن الحمية التي هي الوقاية، ثم فصل بعد ذلك في الكلام على طب القلوب، وذكر كلاماً كثيراً جداً، لكن لضيق الوقت لن نفصله.
ونحن الآن حالنا في الحقيقة من أعجب الأحوال، يعاني كثير من الناس الآن من أمراض السمنة التي تنشأ من كثرة الأكل وعدم الانضباط في تناول الطعام والشراب، أو الإسراف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، ثم ينفقون من الأموال القدر العجيب في سبيل أن يحافظوا على نظام غذائي معين، من أجل أن يوقف وزنه! ولو أن الواحد منهم التزم بالهدي القرآني: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) ما احتاج إلى ما وقع فيه من هذه السمنة، ولا ما وقع فيه من الكلفة التي تكلفها في سبيل التحرر من هذه الأوزان الزائدة، فهذا أيضاً من الحيدة عن الاعتدال: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).(62/9)
تفسير قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)
قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32].
((قل)) أي: لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وبطباعهم.
((من حرم زينة الله)) يعني: من الثياب وسائر ما يتجمل به، (التي أخرج لعباده) يعني: أخرجها من النبات كالقطن والكتان، وأخرجها من الحيوان: كالحرير والصوف، ومن المعادن كالدروع، هكذا عمم المفسرون هنا.
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) أي: من المستلذات من المآكل والمشارب.
قال المهايمي: إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل -الذي هو العبادة- فيحرمان معها فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته، ليتزينوا بها حال العبادة.
وهذا طبعاً كان مفهوماً طارئاً على الإسلام، وإن كانت الصوفية قد اقتبسته من الرهابنة ومن نساك النصارى، وهو أن كل ما يتمتع به الإنسان من ملاذ الدنيا، فهو مضاد لعبادة الله سبحانه وتعالى، فيزعمون أن التزين والتلذذ ينافي ويضاد التذلل والعبادة، ولهذا حرموا هذه الطيبات لأنها تنافي عبادة الله سبحانه وتعالى.
فهذه الآية ترد على هؤلاء، حيث أعلمهم سبحانه وتعالى فيها أنه قد أخرج هذه الطيبات لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، ولذلك أمرنا بالتزين: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)).
((قل من حرم)): ائتونا بدليل ((من حرم زينة الله التي أخرج لعباده))، فهذه الزينة أخرجها لعباده الأتقياء العباد ليتزينوا بها حال العبادة، فعبيد الملوك يحرصون على التزين وأن يظهروا بمظهر لائق أمام سادتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهؤلاء الملوك، ولله المثل الأعلى، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده، فهي نعمة على عباده الموحدين ليشكروه، والشكر عبادة، ويكون على التنعم بنعم الله سبحانه وتعالى، فلا ينافي الشكر العبادة لأن الشكر في حد ذاته عبادة يحبها الله سبحانه وتعالى.
بل قد يكون الشكر مدعاة إلى هذه العبادة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والشكر ليس بالكلام، إنما الشكر بالعمل، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، وذلك بأن تصرف النعمة في مرضاة مهديها ومعطيها وهو الله سبحانه وتعالى.
وفسرت الطيبات في قوله: ((وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)): بالحلال، وفسرت أيضاً: باللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت: بالبحائر والسوائب كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس:59]، إلى آخر الآية.
والعبرة بعموم اللفظ، فكل ما ذكر يدخل في الآية دخولاً أولياً.
وقوله: ((قل من حرم زينة الله)) هذا اللفظ يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن؛ لأن العرب كان عندها مثل مشهور يقولون: أطيب الطيب الماء، يعني: الإنسان يهتم بنظافة بدنه بالماء نظافة جيدة، ثم بعد ذلك يضع الطيب، وإنما اشتهر الغربيون بالعطور لأنهم ما كانوا يعرفون عادة الاغتسال، وحتى الآن قد يمكث الواحد مدة طويلة قد تزيد على سنة لا يقرب الماء، فلما كانت تتراكم على أجسادهم الروائح الخبيثة والعرق كانوا يجتهدون في اختراع العطور التي تحاول أن تغطي هذه الروائح المنتنة التي تنبعث من أجسادهم، وهم ما عرفوا الاستحمام إلا من المسلمين عندما كانوا في الأندلس، فكان الطلبة يفدون للتعلم من المسلمين، فإذا عادوا نقلوا من المسلمين هذه العادات، حتى إنه لما كان أيام نفي المسلمين من الأندلس وكان من المسلمين من ينكر أنه مسلم بسبب المذابح التي حصلت في محاكم التفتيش، فكانوا يلجئون إلى التعرف على هؤلاء الناس، هل هم مسلمون أم غير مسلمين بأن يفتشوا البيوت، فالبيت الذي فيه حمام هو بيت مسلم، فيقتلون من فيه أو يجبرونه على التنصر، فكانت علامة الإسلام وجود حمام في البيت.
فالأوروبيون ما برعوا في صناعة العطور -وبالذات العطور الفارسية المشهورة- إلا بسبب أنهم كانوا يجتهدون في اصطناع العطور التي تغطي الروائح المنبعثة من أجسامهم، وهذا إلى الآن موجود، ومن عاش مع القوم يعرف هذه الروائح الخبيثة التي يكاد الإنسان أن يختنق منها، وهذا كلام حقيقي ليس مجازياً، وفي وقت من الأوقات توقف المصعد ودخل بعض هؤلاء الكفرة، فما وجدت حيلة سوى أني أتوقف تماماً عن التنفس، وإلا فالإنسان يكاد يختنق من خبث روائحهم.
فالإسلام دين النظافة، وأهم النظافة هو ما يزيل هذه الروائح، فالإنسان يهتم أولاً بتطييب بدنه بالماء، ثم بعد ذلك يضع العطور ويضع الروائح الطيبة.
فالزينة تشمل جميع أنواع التزين ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي، يعني: حلي النساء، ويدخل تحت الطيبات: كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ما دام يصادف ما أحل الله سبحانه وتعالى للمؤمن، ويروى الحديث بلفظ موضوع: (حبب إلي من دنياكم ثلاث)، فكلمة (ثلاث) معناه: إن الصلاة تكون من الدنيا، وفي هذا المعنى نكارة إلى جانب عدم ثبوته.
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، حيث هم عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه بالتبتل والاختصاء كي يتقي الشهوة، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأن هذا ليس من هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
وذهب ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها لما أخبروا بها، فكل واحد أراد أن يسلك مسلكاً من الاجتهاد في العبادة والامتناع عن الطيبات، يظن أنه يقربه إلى الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب وقال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، أي: ليس على هديي، وليس على طريقي، وليس على ديني، فانظر كيف زجر بهذا الزجر الشديد الذي يقال غالباً في الكبائر من الذنوب، وذلك لأجل إبطال هذه العادات المقتبسة من الرهابنة ومن غير المسلمين.
ودلت الآيات على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة؛ لأن الاستفهام في قوله: (قل من حرم) لإنكار تحريمها على وجه بليغ؛ لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.
وفي الآية رد على من تورع في أكل المستلذات ولبس الملابس الأنيقة، ويمكن أن تراجع التفاصيل في كتاب: تلبيس إبليس، أو نقد العلم والعلماء للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.
فبعض الناس حكي عنه كما في بعض الكتب أنه كان يتورع عن أكل اللحم، فلما سئل، قال: لا أستطيع أن أؤدي شكره، فأنكر عليه العالم الجليل وقال له: هل تؤدي شكر شربة الماء؟! فالمسألة ليست مقايضة، بمعنى أن تأتي النعمة ونحن نشكر شكراً مكافئاً لها، وإلا فلا يمكن للإنسان أن يتعاطى أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإطلاق، فأيهما أهم قطعة اللحم، أم الماء الذي تشربه؟ الماء أهم؛ فلذلك هذا المتفلسف لما امتنع عن أكل اللحم بحجة أنه يخشى ألا يؤدي شكرها، أفحمه ذلك العالم بقوله: هل أنت تؤدي شكر نعمة الماء؟! يعني: إذاً لا تشرب الماء، وإلا فكيف ستؤدي شكر نعمة الماء؟ وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، يعني: ما دام الإنسان يستطيع أن يلبس القطن ويلبس الكتان، وأيضاً أخطأ من أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة.
وبعض الناس أخطأ أيضاً فاستدل بالآية على تجويز الحرير والخز للرجال، فأخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز، فقال له الناس: مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج، ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه.
وعلى أي الأحوال: فهذه الآية لا تشمل الحرير، وهذا أمر غني عن البيان؛ لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العام ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، هذا عام، لكن أتى ما يخصص هذا العام في تحريم الذهب والحرير على الرجال، فاستنباط حله من الآية مردود على قائله.
وقوله: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) يعني: زينة الله والطيبات، مخلوقة للذين آمنوا في الحياة الدنيا.
أي: هذه الزينة ما خلقها الله سبحانه وتعالى إلا للذين آمنوا في الحياة الدنيا بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع.
أما في الآخرة فلا تحصل هذه المشاركة، بل تكون الطيبات خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، أي: لا يشاركهم فيها غيرهم؛ لأن الله حرم الجنة وما فيها من النعيم على الكافرين.
وانتصاب (خالصةً) على الحالية وقرئ بالرفع: (خالصةٌ) خبر بعد خبر.
قال المهايمي: إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، وما خلق الله سبحانه وتعالى في الدنيا شيئاً إلا لجعله أمارة على الآخرة، حتى الحر والقر إنما هو أمارة وعلامة كي يعرف الإنسان إذا أخبر عن الزمهرير، وعن حر جهنم، لأنه إذا لم يذق ذلك ويعانيه فلن يستطيع أن يتخيل هذا العذاب؛ فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى من حكمة خلق النعيم والآلام في الدنيا أن تكون(62/10)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
((قل)) لا تحرموا من تلقاء أنفسكم ((إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) يعني: ازهدوا في هذا الحرام، وهي أعلى وأهم درجات، ولاشك أن الزهد يمدح ويستملح حتى في الطيبات، لكن هذا موضوع آخر، فنحن الآن بصدد بيان الزهد الواجب وهو الزهد عن الحرام وليس الزهد عن التمتع بالطيبات.
فالطيبات والزينات من المنافع لا تستلزم الوقوع في التكبر أو الانهماك في الشهوات، فهذا أمر غير متحقق، فإذا أفضت إلى ذلك فالحرام هو المفضى إليه بالذات؛ لأنه (إنما حرم ربي الفواحش) يعني: ما تفاحش قبحه من الذنوب وتزايد كالكبائر، والفواحش هي ما تعلق بالفروج: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) يعني: ما جاهر فيه بعضهم بعضاً، وما ستره بعضهم عن بعض، وما ظهر من أفعال الجوارح، وما بطن من أحوال أو أفعال القلوب.
((والإثم)) يعني: ما يوجب الإثم، وهو عام لكل ذنب، وذكر هنا التعميم بعد التخصيص: وقال بعض المفسرين: إن الإثم هو الخمر، قال الشاعر: نهانا رسول الله أن نقرب الزنا وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا يعني: أن نشرب الخمر.
وأنشد الأخفش: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول ويصدقه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، وقال ابن الأنباري: لم تسم العرب الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام، والشعر المذكور موضوع، ورد بأنه مجاز؛ لأنه سببه سبب الإثم، وقال أبو حيان: هذا التفسير غير صحيح هنا، لأن سورة الأعراف سورة مكية، وإنما نزل تحريم الخمر في المدينة بعد غزوة أحد، فلم تكن الخمر قد حرمت وقت نزول هذه الآيات حتى يقال إن الإثم هو الخمر.
كذلك الحصر يحتاج إلى دليل، والإثم عام لكل ذنب، فحصره في نوع واحد من الذنوب -وهو الخمر- يحتاج إلى دليل.
((وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) البغي الاستطالة على الناس وظلمهم، وإنما أفرده بالذكر مع دخوله فيما قبله للمبالغة في الزجر عنه.
وقوله: (بغير الحق) متعلق بالبغي، يعني: البغي بغير الحق، وقيل: البغي قد يخرج عن كونه ظلماً إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص، إلا أن مثله لا يسمى بغياً حقيقة بل مشاكلة، أي: فإذا أطلق البغي بحق على مثل القصاص فهذا ليس حقيقة، وإنما هذا نوع من المشاكلة، كما في قوله تعالى مثلاً: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وكما في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].
((وأن تشركوا بالله)) يعني: وقد حرم الله أن تشركوا به (ما لم ينزل به سلطاناً) أي: برهاناً، والمعنى: ما لم يقم عليه حجة.
قال الزمخشري: فيه تهكم، فالله سبحانه وتعالى هنا يتهكم هؤلاء المشركين الذين يشركون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً.
لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره، وليس من المحتمل أن إنساناً يعبد غير الله أو يشرك بالله ويكون عنده برهان على هذا الباطل، بل هذا مستحيل.
وهذا كما في قوله تبارك وتعالى في آخر سورة المؤمنين: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فهذه الآية ليس لها مفهوم معتبر، فكل ما عبد من دون الله لا يمكن أن تقوم حجة أو دليل أو برهان على صحة عبادته.
قال الرازي: وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل، وتبعه البيضاوي فقال: في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان.
((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) يعني: وحرم عليكم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: أن تتقولوا عليه الكذب في التحليل والتحريم أو في الشرك.
وهذه الآية ذكرت فيها هذه المحرمات من باب التدرج من الأدنى إلى الأعلى.
فأكبر الكبائر أن يقول على الله بغير علم، وقد وضح ذلك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في: إعلام الموقعين، وبينه بياناً شافياً.
وتدل هذه الآية على تحريم جميع الذنوب؛ لأن قوله الفواحش والإثم يشتمل على الصغير والكبير والأفعال القبيحة والعقود المخالفة للشرع والأقاويل الفاسدة والاعتقادات الباطلة.
فدخل في قوله: ((ما ظهر منها وما بطن)) أفعال الجوارح وأفعال القلوب والخيانات والمكر والخديعة.
ودخل تحت قوله: ((والبغي)) كل ظلم يتعدى فيه على الغير، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج والأمراء إذا انتصروا بغير حق.
ودخل تحت قوله: ((وأن تشركوا)) تحريم كل شرك وعبادة لغير الله.
ودخل تحت قوله: ((وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق وشهادة زور ونحو ذلك.
فالآية جامعة في المحرمات كما أن ما قبلها جامعة في المباحات، وهي قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32].
أما هذه فجامعة في المحرمات: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
وفيها تعليم للآداب ديناً ودنيا، وتدل على بطلان التقليد؛ لأنه أوجب اتباع الحجة لقوله: (ما لم ينزل به سلطاناً) والسلطان: الحجة.(62/11)
تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
وهذه الآية تدل على أن لكل أحد وقت حياة ووقت موت لا يجوز فيه التقديم والتأخير، فيبطل قول من يقول: المقتول مات قبل أجله.
ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه وتعالى كما نزل بالأمم فقال عز وجل: ((ولكل أمة أجل)) أي: مدة أو وقتاً لنزول العذاب بهم.
((فإذا جاء أجلهم)) أي: ميقاتهم المقدر لهم.
((لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) أي: لا يُتركون بعد الأجل شيئاً قليلاً من الزمان، ولا يهلكون قبله كذلك، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان، وليست الساعة الستين دقيقة التي نعرفها.(62/12)
تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلاً يهدونهم وبشر وأنذر بقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:35 - 36].
قوله تعالى: ((يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي)) ذكره بحرف الشرط، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب، وضمت إليها ما: (إما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة فقال: ((إما يأتينكم)).
والمراد ببني آدم جميع الأمم، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم، ولا يدخل في المراد بالرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا خلاف الظاهر.
وجواب الشرط قوله تعالى: ((فمن اتقى)) أي: اتقى التكذيب ((وأصلح)) أي: عمله، ((فلا خوف عليهم)) من العذاب ((ولا هم يحزنون)) في الآخرة، لأن سياق الكلام في الرسل السابقين: ((يَا بَنِي آدَمَ)) يعني: الأمم الأخرى، ((إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) * {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} [الأعراف:36] أي: تكبروا عنها، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:36].(62/13)
تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)
ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم بقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف:37].
(من أظلم) يعني: لا أحد أظلم، ممن تقول على الله كذباً بالتحليل والتحريم، أو بنسبة الولد والشريك، أو كذب بآيته المنزلة.
((أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)) يعني: يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك، مع أنهم ظلموا وافتروا على الله الكذب وكذبوا الرسل، ولكن لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم.
وفي الآية وجوه أخر، هذا أظهرها وأقواها في المعنى، وتتمة الآية تدل عليه، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} [يونس:69 - 70] والمتاع هو نصيبهم من الكتاب يتمتعون به ((أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ))، أي: يصل إليهم رزقهم وعمرهم ومتاعهم؛ ولذلك قال هنا: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [يونس:69] * {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:70]، وهذه الآية نظير قوله هنا: ((أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا))، وهذه مثل قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس:70].
ونظير هذه الآية أيضاً قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23 - 24].
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف:37]، أي: ملائكة الموت تقبض أرواحهم.
((قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء، فلا نراهم يخلصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد؟ وفائدة السؤال وجهان: توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غماً إلى غم.
ولطف بالمكلف؛ لأنه إذا استحضر ذلك صرفه عن التكذيب، لأنه يتذكر أنه سوف يسأل هذا
السؤال
(( أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)).
((قالوا ضلوا عنا)) أي: غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء.
((وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)) أي: عابدين لما لا يستحق العبادة، واعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.(62/14)
تفسير قوله تعالى: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس)
قال تعالى: ((قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:38].
((قال ادخلوا في أمم)) أي: قال الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة: ((ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ))، يعني: في جملة أمم قد مضت.
((من قبلكم من الجن والإنس)) يعني: كفار الأمم الماضية من النوعين من الجن والإنس ((في النار)) أي: انضموا إليهم في جملة واحدة في النار.
((كلما دخلت أمة)) يعني: كلما سقطت وهوت أمة في النار -والعياذ بالله- ((لعنت أختها)) التي قبلها لضلالها بها، تنزل أمة ثم تأتي الأمة التي بعدها فتلقى في النار فتلعن التي قبلها؛ لأنها هي التي دعتها إلى الضلال، كما قال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25] هذا ما نراه اليوم في كثير من الشعارات كقول: بالروح والدم نفديك يا فلان! وغير ذلك من هذه العبارات التي فيها المودة والارتباط والتحزب.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].
قوله: ((حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا)) أي: تداركوا، بمعنى: تلاحقوا وراء بعض واجتمعوا في النار، فكل الأمم المهلكة دخلت النار واستقرت فيها واجتمعوا جميعاً بعد تتابعهم ولعن بعضهم بعضاً.
وفي هذه الحالة بعد الاستقرار معاً في جهنم والعياذ بالله: ((قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ))، والأوائل هم الرؤساء المقدمون، كما قال الله سبحانه وتعالى عن فرعون أنه {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود:98] أي: يسوق قومه إلى النار وهو في مقدمتهم، فالذي يدخل العذاب أولاً هم الرؤساء والوجهاء والسلاطين ورؤساء البدع والضلالات والكفر والطواغيت، ثم يتبعهم الأتباع.
و ((أخراهم)) الذين هم في الذيل وهم الأتباع.
((قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ)) أي: لأجل أولاهم؛ لأن الخطاب ليس لأولاهم إنما الخطاب هو لله سبحانه وتعالى، والمعنى: قالت أخراهم لأجل أولاهم مخاطِبةً الله عز وجل.
قال ابن كثير: أي ((قالت أخراهم)) دخولاً وهم الأتباع، ((لأولاهم)) وهم المتَّبَعون؛ لأنهم أشد جرماً من أتباعهم فدخلوا قبلهم، وهؤلاء الأتباع الذين يشكون الرؤساء إلى الله يوم القيامة؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون: ((رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا)) يعني: سنوا لنا الضلال ودعوا إليه فاقتدينا بهم، ((فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)) يعني: مضاعفاً؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، وكفروا وصدوا عن سبيل الله.
((قال)) الله تعالى: ((لِكُلٍّ ضِعْفٌ)) أي: لكل عذاب مضاعف، أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال، عذاب على الضلال وعذاب على الإضلال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، وأما الأتباع والسفلة فبالضلال وبتقليد أهل الضلال مع ظهور الحق بالبراهين القاطعة، عذاب على الضلال في أنفسهم، وعذاب لأنهم قلدوا الضالين وأعرضوا عن الأنبياء وما جاءوهم به من الحجج والأدلة والبراهين القاطعة.
((قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون)) أي: لا تعلمون ما لكل فرقة منكم، وقرئ بالياء ((ولكن لا يعلمون)) وعليها فهو تذييل لم يقصد إدراجه في جواب.(62/15)
تفسير قوله تعالى: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)
قال تعالى: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:39].
يعني: أن الرؤساء يردون على الأتباع بعد الشكوى التي شكوها.
فيقولون: ((فما كان لكم علينا من فضل)) يعني: أنتم لستم أحسن منا ولا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال، حتى يكون عذابنا مضاعفاً دونكم، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب.
((فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)) وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى للفريقين، وهو أظهر.
وهذه الآية تدل على أن الكفار والضلال والأتباع وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم وتوادوا في الدنيا، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم.
كما أن الآية تدل على فساد التقليد وفساد الاغترار بقول علماء السوء؛ فبعض المنسوبين للعلم وللفتوى يتكلم كما يتكلم السوقة والرعاع، فتصدر عنه فتاوى مضادة تماماً لكتاب الله ولسنة رسول الله ولإجماع المسلمين، وفيها تحليل لما حرم الله، ومع ذلك يتكلم كما يتكلم الرعاع والسوقة فيقول: اتبعوني وأنا سأتحمل عنكم الوزر! وهذا هو منطق السوقة والغوغاء من الناس، وليس منطق من ينتسب إلى العلم الشريف؛ لأنه يأتسي في ذلك بمن قالوا: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت:12].
ثم ألم يسمع قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38]، فالإنسان لا يعد معذوراً في متابعة علماء السوء الذين وقفوا يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، وكثير من الناس يستند إلى كلام هؤلاء الناس ويقول: "اجعلها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أو: "من قلد عالماً لقي الله سالماً" وينسبون ذلك جوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هذه الآية بعكس قولهم، فهي تذم التقليد وتذم الانقياد لعلماء السوء، خاصة أن الله سبحانه وتعالى يطفئ نورهم ويجعل على كلامهم ظلمة، ولا يقبلها حتى عوام الناس الذين لا يفقهون ولا يعلمون، ويكون الضلال في كلامهم بحيث لا يفتن به إلا صاحب هوىً له في نفسه غرض، فيسوغ الباطل كتعاطي الربا والتعامل مع البنوك، بحجة أن المفتي قال كذا والعياذ بالله.
فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول علماء السوء.
وتدل الآية على أن الداعي إلى الضلال مضل، كما تدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له، وتدل أيضاً على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة، بخلاف الاشتراك في محن الدنيا.
فإن الناس يقولون: إن المصيبة إذا عمت طابت، وكما تقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فإذا شملت المصيبة عدداً كبيراً هانت على الإنسان، وهذا نحسه حتى في أشياء دقيقة، فلو أن أحداً وهو ذاهب إلى الكلية أو إلى العمل وتأخر قليلاً ثم رأى ناساً معه متأخرين، فالمصيبة تخف عليه، وإحساسه بالتقصير يخف؛ لأن ناساً معه في نفس هذا الشؤم، فالمصيبة إذا عمت طابت.
فلا يظن ظان أن الحال سيكون كما كان عليه في الدنيا، بأنهم إن اشتركوا جميعاً وتوحدت الآلام والمحن سيحصل نوع من المواساة، فإنهم سيحرمون من هذا الشعور، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
وتدل الآية على أن ذلك الإضلال فعلهم، وهذا يبطل قول المجبرة في المخلوق والهدى والضلال.(62/16)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
((لا تفتح لهم)) أي: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، أي لا يقبل ذلك منهم؛ لأنه ليس صالحاً ولا طيباً، ومن شرط العمل الصالح أن يبنى على الإيمان، وأن يقتدى فيه بالرسول عليه السلام، وأن يراد به وجه الله، وما علق على أكثر من شرط لا يتحقق بشرط واحد، بل لابد أن تجتمع فيه كل الشروط، وإلا عدم الفعل.
فالعمل الصالح الذي يقبله الله لابد أن يكون صاحبه أولاً موحداً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، فلابد أن يكون موحداً، ثم لابد أن يكون مخلصاً خالياً من الرياء.
والثالث: لابد أن يكون عمله موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فلا يرفع هذا العمل إلى السماء؛ لأن الله قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] قال ابن عباس: أي لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء.
أو أن المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة ولا يغاثون؛ لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11].
أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء، ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة.
على ما روي أن الجنة في السماء.
أو المعنى: لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا أبواب السماء كما تفتح لأرواح المؤمنين، وقد ورد في ذلك حديث طويل عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.
والشاهد منه أنه ذكر في قبض روح الفاجر: (وأنه يصعد بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه فيأتون بها إلى السماء فيستفتحون فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ))) إلى آخر الآية، فكون السماء لها أبواب وأن هذه الأبواب تفتح للدعاء الصالح وللأعمال الصالحة أو للأرواح وارد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويلها ولا ينبغي أبداً أن يؤول قوله تعالى: ((لا تفتح لهم أبواب السماء)) بل يقال: هي أبواب حقيقية تفتح كما ذكرنا.
كذلك التضعيف في قوله: ((تفتَّح)) ليس لتكثير الفعل وإنما هو لتكثير المفعول مناسبة للمقام، كذلك قرئ بالتخفيف في: (تفتح)، وبالياء: (يفتح)، وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب يعني: لا يفتح الله لهم.
وقوله: ((وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) هذا من باب تعليق الأمر على شيء مستحيل، كأن تقول مثلاً: أزورك عندما يشيب الغراب، والغراب لا يشيب.
((حتى يلج الجمل)) يعني: يدخل الجمل ((في سم الخياط)) يعني: في ثقب الإبرة، وهل من الممكن أن يمر الجمل من ثقب الإبرة؟! هذا غير ممكن، فكذلك دخولهم الجنة غير ممكن؛ لأنه علق على شيء لا يقع.
وقد قرأ الجمهور: ((الجمل)) بفتح الجيم والميم: وفسروه بأنه الجمل المعروف، وهو البعير، قال الفراء: الجمل زوج الناقة، وقال شمر: البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة، وقرئ في الشواذ: (الجُمَّل)، كسكّر، و (الجُمَلِ) كسُرَر، و (الجُمْل) كقفل، و (الجُمُل) كعنق.
والجمّل كسكر هو حبل غليظ جداً من الحبال التي يستعملها الملاحون، فهذه الحبال الكثيفة في السفينة لا يمكن أن تمر من ثقب الإبرة، لكن هذه القراءة الأخيرة شاذة.
وقال أبو البقاء: يقرأ في الشاذ بسكون الميم الجَمْل، والأحسن أن يكون لغة؛ لأن تخفيف المفتوح ضعيف، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها الذي هو: الجُمّل وهو: الحبل الغليظ، وهو جمع مثل: صوّم وقوّم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل: أَسَد وأُسُد، ويقرأ كذلك بها إلا أن الميم ساكنة.
وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة لغات في البعير ما عدا جمّلاً كسكّر وجملاً كقُفْل، ونوقش في ذلك.
قال الزمخشري: وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله سبحانه وتعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، لأن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه.
إلا أن قراءة العامة التي هي (الجمَل) أوقع؛ لأن سم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، والمقصود من ثقب الإبرة مجرد التشبيه، يقال: أضيق من خرق الإبرة، وقالوا للدليل الماهر الذي يكون خبيراً بالطرق والدروب والمسالك في الصحراء (خريت) لأنهم إذا أرادوا أن يمروا في المضايق والطرق الملتوية أو غير المعلومة يبدأ هو أولاً ثم يقود من معه، فقالوا للدليل الماهر (خريت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخراق الإبر، والجمل مثَل في عظم الجرم وعظم الجسم، وسم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، كما يقول حسان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير وفي رواية أخرى في الديوان: (جسم البغال وأحلام العصافير) وأحلام: المقصود بها العقول.
فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان في ثقب الإبرة، فالجمل المقصود به ضرب المثل في ضخامة الجثة، وثقب الإبرة المراد به ضرب المثل في ضيق المسلك أو المنفذ.
وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: (زوج الناقة) استجهالاً للسائل.
وإجابة ابن مسعود بهذه الإجابة فيها أولاً: الاستجهال للسائل وثانياً: إشارة إلى أن البحث وتطلب معنىً آخر غير هذا المعنى المتبادل نوع من التكلف غير حميد.
وخلاصة الكلام أن الجمل لما كان مثلاً في عظم الجسم لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب، وخرق الإبرة مثلاً في الضيق، ظهر التناسب، على أن في التفسير بالجمل وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.
وعكس هذا الكلام حكاه الزمخشري عن ابن عباس قال: الجُمَّل أنسب من الجَمَل؛ لأن الجُمَّل هو الخيط الغيلظ؛ لكن بين القاسمي رحمه الله تعالى أن إيثار الجَمَل أفضل، ومعلوم أنه ليس من شأنه أن يمر من ثقب الإبرة، فكذلك الكفار ليس من شأنهم أصلاً أن يدخلوا الجنة، فهنا ظهر التناسب بهذه الصورة، فهذه فيها مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.
أما السم فهو الثقب الضيق، قال أبو البقاء: بفتح السين وضمها، ويقال أيضاً في القاتل المعروف: السُّم، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنبيه، والأفصح فيما يشرب ليقتل أنه بالضم (السُّم).
وقال الزبيدي: لم أر من تعرض لكسرهما وكأنها عامية: وهي فعلاً عامية، والأفصح أن تقول في الثقب السَم، وفي القاتل السُم.
وقال الزمخشري: وقرأ في سم الخياط بالحركات الثلاثة.
وكفى به مرجعاً.
"الخياط" ككتاب ما خيط به الثوب والإبرة، قال الزمخشري: وقرأ عبد الله (في سم المخيط) وهي قراءة شاذة.
قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: ((حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) جواز فرض المحال والتعليق عليه كما يقع كثيراً للفقهاء، والتعليق على المحال معروف في كلام العرب، كقوله: إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب يعني: فلن يأتيهم أبداً؛ لأن الغراب لا يشيب.
(وصار القار) وهو الزفت الأسود الذي ترصف به الشوارع أبيض (كاللبن الحليب).
((وكذلك نجزي المجرمين)) مثل هذا الجزاء الفظيع.(62/17)
تفسير قوله تعالى: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين)
قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41].
((لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ)) يعني: فرش من تحتهم.
((وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)) أي: أغطية، إذ أحاطت بهم جهنم كما أحاطت بهم الخطيئة من كل جانب: ((وأحاطت به خطيئته)) وهي الشرك يحيط به من كل جانب، كذلك العذاب يحيطه من كل جانب.
((وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)) أصلها الغواشي: أغطيه، إذ أحاطت بهم الخطيئة.
((وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)) أي: بالكفر، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين، وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور، تنبيهاً على أنه أعظم الجرائم.(62/18)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها هم فيها خالدون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42].
ثم أتبع الله سبحانه وتعالى وعيده بوعده على طاعته سبحانه عز وجل في تنزيله الكريم فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42] الذين آمنوا: مبتدأ والخبر فيه وجهان، إما الخبر لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني: فحذف العائد كما حذف في قوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
القول الثاني: إن الخبر {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [البقرة:82]، (ولا نكلف) هذه معترض بينهما، والوسع ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويسر، أما أقصى الطاقة فيسمى جهداً لا وسعاً، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.(62/19)
تفسير قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون)
قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
((ونزعنا ما في صدورهم من غل)) أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة أو نطهرها منها، حتى لا يكون بينهم إلا الثواب والتعاطف؛ لأن أهل الجنة كما في الحديث يدخلون الجنة ووجوههم مثل البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد، لا يوجد بينهم نزاع ولا غل ولا أحقاد ((ونزعنا ما في صدورهم)) وهنا عبر عن المستقبل بالماضي إيذاناً بتحققه وتقرره.
((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)) هدانا لما جزاؤه هذه الجنة، أي لأسباب هذا العلو بإرسال الرسل والتوفيق للعمل.
((وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)) أي: ما كنا لنصل لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته.
وهم يقولون ذلك: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به، لا تقرباً ولا تعبداً؛ لأن الجنة ليست دار تكليف وعمل، كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك ألا يقوله للفرح والتوبة.
((لقد جاءت رسل ربنا بالحق)) يعني: فاهتدينا بإرشادهم.
((وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا، فالميراث مجاز عن الإعطاء، إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجباً وإن كان سبباً بحسب الظاهر، أي أن الأعمال ليست أسباباً موجبة لدخول الجنة، لكنها أمارات مخيلة، لأن من وفق إليها فإنه يكون من أهل الجنة، كما أن الإرث ملك بدون كسب، وإن كان النسب مثلاً سبباً للإرث، وعلى ما تقرر فلا يقال: إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ولا يحتاج إلى الجواب عنه، ولا أن يقال: الباء للعوض لا للسبب، وهذا تمجيد للوعد بإثابة المطيع، لا بالاستحقاق والاستيجاب، بل هو بمحض فضله تعالى كالإرث، فالباء هنا: (بما كنتم تعملون) ليست باء العوض، كما تشتري ثوباً وتقول: اشتريته بكذا، أي أن الثمن مقابل للسلعة، والعمل الذي تعمله في الدنيا لا يساوي الخلود في جنات النعيم، والفارق شديد، وفي شرح هذا الحديث يطول الكلام، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مفصلة ومفيدة فيه، نرجو أن تأتي فرصة أخرى ونفصل فيها.
وروى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً)، فذلك قوله عز وجل: ((ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)).(62/20)
تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار وهم بالآخرة كافرون)
قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:44 - 45].
((وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)) الكلام هنا عن أصحاب الجنة بعدما استقروا في منازلهم في الجنة، ((أَصْحَابَ النَّارِ)) توبيخاً وتحقيراً لهم ((أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا))، حيث نلنا هذه المراتب العالية.
((فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا))، يعني: من تنزيلكم أسفل سافلين لاستكباركم على الآيات والرسل ((قَالُوا نَعَمْ))، يعني: وجدناه حقاً.
((فَأَذَّنَ)) أي: نادى ((مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ)) أي: بين الفريقين ليسمعهم، زيادة في شماتة أحد الفريقين، وزيادة في ندامة الآخر.
((أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) من هم هؤلاء الظالمون؟ ((الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم الذي بينه على ألسنة رسله لمعرفته وعمارة الدارين، ((الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)) [الأعراف:45] أي: يبغون لها زيغاً وميلاً عما هي عليه حتى لا يتبعها أحد.
((وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ)) أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون فيأتون المنكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يرجون حساباً عليه ولا عقاباً فهم شر الناس.
وقد سبق أن بينا حكمة وصف الكافرين بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، لأن الإيمان بالآخرة ينعكس في سلوك المؤمن، أما إذا كان لا يؤمن بالآخرة فلن يخشى عقاباً ولن يرجو ثواباً، وما أحسن ما صدر الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أحد مصنفاته، حيث كان يهدي في الصفحات الأولى من الكتاب إلى والده، فيقول ما معناه: إلى أبي الذي علمني أن أقول دائماً لمن يظلمني ومن يتجنى علي: إنه لولا الإيمان باليوم الآخر لكان لنا معه شأن آخر.
إيمان المؤمن باليوم الآخر يجعله إذا ظلم ينتظر أن ينصفه الله في الآخرة، وينتظر ثواب الله عز وجل، فيعزيه ذلك على ما يلقاه من الآلام، أما إن كان لا يؤمن باليوم الآخر فإنه يتغير مسلكه تماماً، كما يفعل هؤلاء الملاحدة والمجرمون من الكافرين الذين لا يحرمون حراماً ولا يحلون حلالاً، وإنما يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، هذه ثمرة الإلحاد وثمرة الكفر، وثمرة العقيدة الفاشلة، فلذلك قال عز وجل هنا: ((وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ))، فبالتالي لم يخافوا عقاباً ولم يرجوا ثواباً.(62/21)
تفسير قوله تعالى: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال)
قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.
((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ)) أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار؛ ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى، وقد سمي هذا الحجاب سوراً في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
((وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ)) أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، والأعراف: جمع عرف مستعار من الشيء العالي فيقال: من عرف الفرس لأنه عال، وعرف الديك لأنه عال، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض، يعرف لأنه ظاهر مما انخفض فكان أسفل، فالأعراف هذا جمع عرف وهو: السور الذي يكون بين الجنة والنار أو بين أهل الجنة وأهل النار.
وقد حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في رجال الأعراف عن التابعين وغيرهم: فقال بعض المفسرين: هم فضلاء المؤمنين، أو: هم الشهداء أو: هم الأنبياء، وأن الحكمة من وجودهم على سور الأعراف أن يرقبوا مصير المؤمنين ومصير الكافرين ويشهدوا نعمة الله عليهم.
أو: هم قوم أوذوا في سبيل الله فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم فعرفوهم بسيماهم وسلموا على أهل الجنة، واللفظ لإبهامه يحتمل ذلك، فقوله تعالى: (رجال) مبهم، لم يقطع القرآن الكريم بهوية هؤلاء الرجال، إلا أن السياق يدل على سمو قدرهم لاسيما لجعل منازلهم الأعراف؛ لأن الأعراف هي الأعالي والشرف كما تقدم.
((يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)) يعني: يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه في المؤمنين، وسواد الوجه في الكافرين، والسيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيماء بكسرهن: العلامة، من سام إبله إذا أرسلها في المرعى، أو من وسم -على القلب- كالجاه من الوجه.
((وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)) والذين نادوا هم رجال الأعراف، (نادوا أصحاب الجنة) وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة.
((أن سلام عليكم)) بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره، والوجه الأول -الذي هو الدعاء والتحية- مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة؛ ليعرفوا من في الجنة، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله من أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام.
((لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ))، الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية: حال من فاعل يدخلوها، أي: نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين.
فإن قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟! قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم لظهور فضلهم وجلالة طريقهم إلى منازلهم.
فهذا هو الجواب الذي قاله الجشمي.
يقول القاسمي: ولا يبعد عندي أن تكون جملة (لم يدخلوها وهم يطمعون) حالاً من أصحاب الجنة، أي: نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة، يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة وعلو منازلهم على سواهم، والله تعالى أعلم.
وذهب أبو مجلز: إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيد، فالجملة الأولى: حال من المفعول وهو أصحاب الجنة، والثانية: حال من فاعل يدخلوها.(62/22)
تفسير سورة الأعراف [47 - 54](63/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار)
قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47].
(وإذا صرفت أبصارهم) يعني: إذا صرفت أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة.
(تلقاء أصحاب النار) لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم، فأما أهل الجنة فوجوههم متوجهة إليهم سروراً بهم، فلا يحتاجون إلى تكلف؛ لأن الأصل أنهم مقبلون على أهل الجنة ومقبلون على النظر إلى الجنة- فهذا هو الوضع الأصلي لهم، لكن إذا نظروا إلى أهل النار فإنهم يحتاجون إلى أن تصرف وجوههم إلى أهل النار، ففيها نوع من التكلف، لأن هذا نظر عداوة.
وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار.
وهذه الآية تدل على وجوب اجتناب الظلمة في الدنيا كي لا يكون المرء معهم في الآخرة، وذلك لقوله: ((وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) ففيها إرشاد إلى تجنب كلّ ما يجعل الإنسان محشوراً أو مرتبطاً أو متواجداً مع القوم الظالمين.
قوله عز وجل: (تلقاء أصحاب النار) يعني: إلى جهة أصحاب النار، (قالوا) من شدة خوفهم تعوذاً بالله: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) في النار.
وقال أبو السعود: في وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء، إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم.
أي: لم يقولوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم المعذبين) إشارة إلى السبب الذي أداهم إلى سوء العذاب.(63/2)
تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون)
قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48].
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) يعني: من عظماء أهل الضلالة (يعرفونهم بسيماهم) بعلاماتهم التي تدل على أعيانهم وعلى أشخاصهم، حتى وإن تغيرت صورهم.
(قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي: كثرتكم، والمقصود بها إما الجمع العددي، وهي الكثرة الكاثرة، أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات، فالإنسان إذا كان معه مال يدفع الآفات عن نفسه بالعلاج وبغيرها من الأسباب.
(وما كنتم تستكبرون) عن الحق أو على الخلق، والمعنى: ولم ينفعكم استكباركم على الحق أو على خلق الله عز وجل، وقرئ: (وما كنتم تستكثرون) من الكثرة، يعني تستكثرون من الأتباع الذين يستعان بهم أيضاً في دفع الملمات.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، أي: ماذا نفعكم جمعكم؟ ثم نظروا إلى الجنة فرأوا فيها من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم ويحتقرونهم ويزدرونهم في الدنيا لفقرهم وضعفهم، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)).
أي: أهؤلاء الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم وأنتم في الدنيا لا ينالهم الله برحمة، وهذا لأنكم قلتم: كما قد أعطانا الله المال والبنين في هذه الدنيا، فلابد أنه سيفضلنا في الآخرة؛ لأنه ما أعطانا ذلك إلا لكرامتنا عليه عز وجل، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، هكذا كان الكافر يمني نفسه ويغرها {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] يعني: ليس الأمر كما تزعمون، فإن الدنيا يعطيها الله سبحانه وتعالى من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا من أحب.
ويكفي من هوان الدنيا على الله سبحانه وتعالى أنه ترك أحب الخلق إليه وأفضلهم وأكرمهم عليه وهم الأنبياء والرسل يبتلون فيها ويؤذون ويقتلون ويجرحون ويضطهدون من قومهم، فدل على أن الدنيا ليست دار جزاء، لكن العبرة بالآخرة؛ فلذلك يقول أصحاب الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)) أي: بأن لا يرفع درجاتهم في الآخرة، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون.
((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ)) (لا خوف عليكم) أي: من العذاب الذي ينزل بالكفار، (ولا أنتم تحزنون) كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف بعضهم لبعض بعدما يبكتون أهل النار ويوبخونهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:47 - 48].
والاحتمال الثاني: هو أنه من كلام أهل الأعراف للمؤمنين الضعفاء، حيث إنهم قالوا للكفار: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ثم يلتفت أصحاب الأعراف إلى المؤمنين فيقولون لهم: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
والاحتمال الثالث: أنه من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، أي: كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة، كيف نالوا هذه الرحمة؛ حيث قيل لهم من قبل الله تعالى: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
وعلى كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً للعلم به، والعلم به من السياق: فإما أن أصحاب الأعراف يتآمرون بينهم، ويدعون بعضهم بعضاً لدخول الجنة.
أو إما أن أهل الأعراف يقولون ذلك للمؤمنين.
وإما أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول ذلك للمؤمنين.(63/3)
تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء)
قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم -بعد التكبر عليهم، وبعدما أقسموا لا ينالهم الله برحمة- وأنهم لا يجابون إلى ذلك.
(أن أفيضوا علينا من الماء) أي: الذي رحمكم الله سبحانه وتعالى به ليسكن حرارة النار والعطش.
وإنما قالوا (أفيضوا) لأن الإفاضة تكون من أعلى إلى أسفل، وأهل الجنة أعلى مكاناً، والمعنى: أنزلوا علينا، (من الماء أو مما رزقكم الله) من الأطعمة والفواكه؛ لأن أهل النار يعذبون بكل أنواع العذاب، وبما لا يعلمه على حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، سواء كان الجوع أو العطش أو الضيق والزحام أو الظلمة أو النار أو العقارب والحيات وغير ذلك من أنواع العذاب.
والحقيقية أن الإنسان إذا تخيل هذا العذاب الذي يكون في جهنم والتي نارها ضعف نار الدنيا سبعين مرة، فإنه لا يهنأ عيشاً ولا يطيب له طيب ولا يقر له قرار!.
وهذه الآية مما يدل على أنهم يعانون العطش والجوع، وإذا قدر للإنسان أن يدخل عنبر الحرائق في أي مستشفى عمومي؛ لوجد العناء الذي يعني يلاقيه من يحرق حرقاً، وكيف يصرخ هؤلاء المرضى طلباً لرشفة ماء واحدة فقط من شدة تعطشهم إلى هذا الماء.
فكيف يكون الحال إذا كان الحريق أضعافاً مضاعفة؟! فهؤلاء يعانون الجوع ويعانون العطش: (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) هاهم الآن يتذللون لهم، ويؤملون أن يفيضوا عليهم مما أتاهم الله سبحانه وتعالى من الأطعمة والفواكه.
(قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) يعني منعهما عنهم؛ لأنه أنعم عليهم في الدنيا فلم يشكروه، فمنعهم نعمه في الآخرة وحرمها عليهم، فالتحريم هنا هو تحريم منع وليس تحريماً شرعياً؛ لأن الآخرة ليس دار تكليف.(63/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا)
ثم وصف الكافرين بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:50 - 51].
(الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً) يعني: مما زينه لهم الشيطان، واللهو: كل ما صد عن الحق، واللعب: كل أمر باطل، أي: ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك، فبدل الدين الذي هو عبادة الله عز وجل وتوحيده، إذا بهم يتخذون اللهو واللعب ديناً، إذ هو دأبهم وديدنهم.
(وغرتهم الحياة الدنيا) أي: بزخارفها العاجلة، فلم يعملوا للآخرة.
(فاليوم ننساهم) أي: نتركهم ترك المنسي، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة.
(كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي: كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به.
قوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)) أي: وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تبارك وتعالى.
روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: (قالوا يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟)، يعني: إذا نظر الناس وقت الظهيرة إلى السماء وليس هناك سحاب فهل يضار بعضهم بعضاً إذا أرادوا أن يروا الشمس؟! ومعلوم أن الشيء إذا كانت رؤيته غير واضحة فمن الممكن أن يزدحم الناس عليه، فهذا يدفع هذا وهذا يدفع ذاك لعدم وضوح الشيء المرئي، فيؤذي بعضهم بعضاً من شدة المدافعة أو الزحام أو عدم وضوح الرؤية؛ لكن هل يتصور أن يحتاج الناس إلى المضارة بينهم حتى يتحققوا من وجود الشمس في السماء وقت الظهر؟! لا شك أنهم لا يضارون في ذلك، ولا ينضم بعضهم إلى بعض، كما في بعض الروايات: (لا تضامون)، من شدة وضوح الرؤية.
(هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، قال: فيلقى العبد فيقول: أي فل -اختصار لفلان- ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى.
فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي ربي، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، أمتني بخير ما استطعت، فيقول: هاهنا إذاً، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله؛ وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه).
فالشاهد هنا في الحديث قوله: (فاليوم أنساك كما نسيتني).(63/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدىً ورحمة لقوم يؤمنون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52] ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأن الحجة قامت عليهم، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، فذكر أن سبب هذا الشقاء هو من عند أنفسهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، يقول تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ)) أي: بينا فيه الاعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلاً مبيناً.
(على علم) أي: عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء محكماً قيماً غير ذي عوج، هذا كقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء:166].
(هدى) أي: دلالة ترشدهم إلى الحق وتنجيهم من الضلالة.
(ورحمة) أي: ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه.
(لقوم يؤمنون): لأن المؤمنين هم المغتنمون لفوائده.(63/6)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله)
قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف:53]: (هل ينظرون إلا تأويله) يعني: ما ينتظرون إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب الذي جئناهم به من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، ومعنى التأويل هنا: عاقبة الأمر، وما يئول إليه هذا الأمر، وذلك حين يتبين صدقه بأن يظهر ما نطق به القرآن من الوعد والوعيد، لهؤلاء الذين يسمعون القرآن في الدنيا.
والمعنى: ما الذي يمنعهم من الإيمان بالقرآن الكريم؟ هل ينتظرون إلا وقوع أخبار هذا القرآن من الوعد والوعيد يوم تقوم الساعة وتأتي القيامة؟ فالنظر هنا بمعنى الانتظار، وليس من الرؤية.
والتأويل بمعنى: العاقبة وما يقع في الخارج، وهذا هو أصل معنى كلمة التأويل، ويطلق على التفسير أيضاً، كما كان يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: كذا وكذا، وذكر القاسمي في تفسيره أن التأويل هو: التفسير، لكن أصل معنى التأويل هو العاقبة وما يئول إليه الشيء.
والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق كانوا منتظرين له؛ لأن كل آت قريب، فهم على وشك ملاقاة ما وعدوا به، فلا يقال: كيف ينتظرونه مع جحدهم، فإنهم وإن جحدوه إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة، فسواء آمنوا أم جحدوا، فإنهم في الحقيقة ينتظرون هذا الأمر القريب منهم جداً.
(يوم يأتي تأويله) يعني: يوم القيامة لأنه يوم الجزاء، فهو اليوم الذي تئول إليه أمورهم، وعاقبة ما فعلوه في الدنيا، (يقول الذين نسوه من قبل) يقول الذين تركوه ترك المنسي حين كان ينفعهم الذكر، فتركهم كان كترك الشخص الناسي للشيء تماماً؛ لأنهم بالغوا في عدم الاستعداد للآخرة، وعدم الانتفاع بالذكر الذي أنزل عليهم وكأنهم نسوه، وكأنهم ما كانوا على ذكر منه على الإطلاق، فهم تركوه في الوقت الذي كان ينفعهم الإيمان به وينفعهم فيه التذكر، وينفعهم فيه اليقين، وهو دار الابتلاء، فلم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب.
((يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))، فمعنى ذلك: أنهم لم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب، فالكفار يؤمنون إيماناً صادقاً عند معاينة العذاب، ومثل هذا الإيمان لا ينفع ولا يجدي، فحينئذ يقولون كما أخبر الله عنهم: ((قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))، وهذا كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] أي نحن مصدقون الآن، لكن هذا لا ينفع في دار ظهور النتيجة، إنما العبرة بذلك في دار الابتلاء ودار الامتحان وهي الدنيا.
(قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي: أننا الآن نشهد بذلك، فهم لما عاينوا العذاب، ولما رأوا أهوال يوم القيامة قالوا: ((قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))، يعني: بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد، فهم أنفسهم سيعترفون ويقولون: إن الرسل قد أتوا وأخبرونا بالحق، وهذا الذي نراه مطابق تماماً لما قالوه ونحن مؤمنون بهم ومصدقون ((فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)) يعني: في إزالة العذاب ((أَوْ نُرَدُّ)) إلى الدنيا من جديد، ((فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ))، من الجحود واللهو واللعب وأعمال الدنيا، قال عز وجل: ((قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) يعني: أنهم صرفوا أعمالهم في الكفر، ((وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله سبحانه وتعالى، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
فانظر إلى رحمه الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث أقام عليهم الحجة من كل جانب، وتفاصيل الحوار والمناظرة والشبهات وما يقولونه يوم القيامة كله موجود الآن في القرآن الكريم، وهذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى رحمة وتلطفاً بعباده؛ لأنها ستقع.
لو فرض أن الإنسان اعوج عن صراط الله المستقيم، وأصر على ذلك إلى أن مات والعياذ بالله، ثم جاء يوم القيامة وبعث ونشر فإنه سيقول: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، فهو يطلب العودة إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فليفترض أنه قد وقع ذلك، وأنه الآن قد رجع إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فعليه أن يعمل الصالحات ولا يفرط في أوامر الله، ولا يفرط الإنسان حتى يموت، فيكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
وهذا أمر واقع نشاهده في أحوال الناس، فالذي تنزل به الملمة والمصيبة يستيقظ رصيد الفطرة في قلبه، ويضل عنه كلَّ ما كان يدعو من دون الله، ويفرد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد وبالدعاء وبالإخلاص، ويعاهد الله سبحانه وتعالى أن سيتوب إذا فرجت عنه هذه الكربة، وبعدما تفرج يعود إلى ما كان عليه من قبل، وينسى ذلك العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى!! ((قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)).(63/7)
كلام الشنقيطي على مساءلة الكفار وندمهم
يقول العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} ذكر تعالى في هذه الآيات الكريمة أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار يعرفونهم بسيماهم: لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا، وبين في مواضع أخر وجه ذلك، وهو أن الإنسان يوم القيامة يحشر فرداً لا مال معه ولا ناصر ولا خادم ولا خول، وأن استكباره في الدنيا يجزى به عذاب الهون في الآخرة، كقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]، وقوله عز وجل: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80]، فلا حشم ولا حرس ولا أي شيء من هذا، وقوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، وقال عز وجل: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20].
أما قوله تعالى: ((يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)).
فيقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة، يقرون بأن الرسل جاءت بالحق ويتمنون أحد الأمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ فهي ثلاثة أسئلة لم يبينها القرآن الكريم في هذا الموضع، لكن بينتها مواضع أخر من القرآن الكريم.
فبين أنهم لا يشفع لهم أحد لقوله عز وجل: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، كقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وهذا مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، فهذا نص على أن الكافر ليس ممن ارتضاه الله سبحانه وتعالى فلا شفاعة له وقوله عز وجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:12 - 13]، فقوله عز وجل: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم) هذا دليل على أن النار وجبت لهم فلا يردون ولا يعذرون، ومنها قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، وذلك يوضحه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أخره حتى بلغ ستين سنة)، فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدة يتذكرون فيها، وإنزال الرسل هو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: جواباً لقولهم لما قالوا: ((أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل)) فجاءهم
الجواب
بأنه قد فاتت الفرصة، ((أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال)) فمعنى ذلك أن الله لن يقبل عذرهم.
وقال عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر:12]، وهذا جاء بعد قوله تبارك وتعالى حاكياً عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11].
وقال عز وجل أيضاً: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44].
وقوله هنا: (قد خسروا أنفسهم) بعدما قال عز وجل: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) إلى آخره، يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه.
وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان، وهو قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28].
وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد، كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى، وهذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: (قد جاءت رسل ربنا بالحق) لا ينفعهم، كقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11]، وقوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، ونحو ذلك من الآيات.(63/8)
تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام)
قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] لم يفصل هنا في ذلك، ولكنه فصله في سورة فصلت، فقال عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:9 - 12].
فقوله هنا عز وجل: (إن ربكم الله) أي: إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس هو الله الذي أنشأ أعيان السماوات والأرض في مقدار ستة أيام، وكلمة (اليوم) في اللغة هي: مطلق الوقت، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أيام يعني: في ستة أوقات كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال:16] يعني: وقتئذ، فعبر عن الوقت باليوم، وإن أريد اليوم المتعارف وهو الزمن الذي بين طلوع الشمس وغروبها، فالمعنى في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسماوات، كما في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، ثم قال عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11]، إلى آخر الآيات.
وفي شرح القاموس: أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والثاني هو تعريف شرعي عند الأكثر.
ويستعمل (اليوم) أيضاً بمعنى: مطلق الزمان كما قال سيبويه ومثل لها بقوله: أنا اليوم أفعل كذا، فهم لا يريدون يوماً بعينه، إنما يريدون الوقت الحاضر فقط، وبه فسروا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] يعني: في هذا الوقت أكملت لكم دينكم، وكما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة أيام الهرج يزول فيها العلم ويظهر فيها الجهل)، وأيام الهرج تعني: وقت وأزمنة الهرج، وبالتأكيد أن اليوم في هذه الحالة لا يختص بالليل ولا بالنهار، إنما يقصد به الوقت، وأيام الهرج يعني: زمان الهرج.
وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام: الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كلهم، وفيه خلق آدم عليه السلام، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، يعني: هل هي من أيام الله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أم أنها كأيام الدنيا المعروفة، فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت ومعناه: القطع.
أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل).
فهذا الحديث رواه مسلم والنسائي من غير وجه، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: ((فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ))؛ ولذلك تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وذلك أن في خلق الأشياء بهذا التدرج حثاً على التأني في الأمور، مع أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلقها كلها بقوله: كن فتكون، لكن في ذلك حث على التأني في الأمور.(63/9)
الكلام على الاستواء
((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، اعلم أن الاستواء ورد على معانٍ اشترك لفظه فيها، فجاء الاستواء بمعنى: الاستقرار، ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] يعني: استقرت على جبل الجودي، ويأتي بمعنى: القصد، ومنه قوله عز وجل: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)) [فصلت:11]، وذلك إذا تعدى بحرف إلى.
وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له واستوى إليه، قال الفراء: تقول العرب: استوى إلي يخاطبني يعني: أقبل إلي يخاطبني، ويأتي الاستواء بمعنى: الاستيلاء كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق لكن يقطع بعض العلماء المحققين بأن هذا البيت مصنوع وليس صحيحاً، لكن نحن نتعرض له لأنه يكثر استدلال بعض الناس به.
فإذا كان البيت مصنوعاً فلا يبقى هناك شاهد لهذه اللغة، وهو استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقال آخر أيضاً: فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر وإن كان هذا الشعر لم يعرف قائله.
ويأتي الاستواء بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:28]، ومنه هذه الآية فهي من الاستواء بمعنى: العلو، أي: قوله تعالى: (ثم استوى على العرش).
قال البخاري في آخر صحيحه، في كتاب الرد على الجهمية في باب قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] قال مجاهد: استوى: علا على العرش.
وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرحمن على العرش استوى أي: ارتفع.
ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى: علا وارتفع.
وأقول: لا حاجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولاً، فالكيف يقال للشيء الذي سبق أن تعرفت عليه من قبل أو رأيته، فترسم صورة في ذهنك لهذا الشيء، بحيث إنك إذا غبت عنه فقيل لك مثلاً: كيف شكل السيارة؟ فإنك تتذكر هذه الصورة، ولو فرض أن إنساناً من يوم أن خلقه الله لم ير شيئاً اسمه سيارة، فلن يعرف أية سيارة؛ لأنه ما رآها، لكن إذا كان قد رآها من قبل وارتسمت لها صورة في ذهنه، فإنه إذا قيل له: سيارة يقفز إلى ذهنه السيارة، إذا قيل: طائرة يعرف ما هي الطائرة وهكذا، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيف لنا الاستواء على العرش؟! هذا مما لا أمل فيه على الإطلاق، قد آيسنا الله سبحانه وتعالى أن نطلع على هذه الكيفية؛ فلذلك لا يقال لله عز وجل: كيف؟ فلا يعرف كيفه إلا هو سبحانه وتعالى {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
وكما ضربنا المثال مراراً على أننا نعجز عن معرفة كثير من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وذكرنا لكم قصة ذلك الرجل أو ذلك الشاب الذي كان يقع في التشبيه والتجسيم والعياذ بالله، فأتاه أحد العلماء الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية وله ستمائة جناح، فقال هذا العالم لذلك الشاب: أخبرني عن خلق من خلق الله له ستمائة جناح؟ فحار وما استطاع أن يقول كلمة، فقال له: فأنا أضع عنك سبعة وتسعين وخمسمائة جناح، ويبقى الثلاثة الأجنحة، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ كيف تركب هذه الأجنحة فحار، فقال له: نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، والجنة مخلوق من مخلوقات الله، فكيف بالخالق عز وجل؟! ونحن قد أكثرنا من الكلام من قبل في هذا الأمر، وأننا لا نطمح في أن نعرف كيف استوى؟ كيف يد الله؟ كيف عين الله؟ فهذه الأشياء كلها قد توقع الإنسان في التعطيل، حيث إنه أولاً يشبه إذا سمع يد الله يعني: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فإذا وقع من البداية في التشبيه فإنه يفر من التشبيه إلى التعطيل والنفي -والعياذ بالله-.
لكن المؤمن الموحد الذي يسلك مسلك السلف الصالح لا يشبه أصلاً، بل يقول: (أمروها كما جاءت)، يعني: لا نكيف ولا نشبه الله سبحانه وتعالى بخلقه، مع القطع والجزم الأكيد واليقين بأن الله ليس كمثله شيء أبداً، ولا يشبه الله سبحانه وتعالى شيء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] يعني: أنت تثبت لله صفة السمع، فهل سمع الله كأسماعنا؟ وهل بصر الله كأبصارنا؟! فأنت تثبت هذه الصفة مع نفي الكيفية ومع نفي المشابهة، فكذلك سائر صفات الله عز وجل.
وقد فصلنا في هذا عند دراسة كتاب العقيدة في الأسماء والصفات للدكتور الأشقر، وتكلمنا في هذا أيضاً في درسنا من قبل كتاب مختصر كتاب العلو.(63/10)
تفسير سورة الأعراف [65 - 72](64/1)
تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون)
قال تبارك وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]: قوله تعالى: ((وإلى عاد)) متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى: (أرسلنا)، في قصة نوح، فالمعنى: وأرسلنا إلى عاد.
وعاد قبيلة كانت تعبد الأصنام، وكانت ذات بسطة وقوة، قهروا الناس بفضل هذه القوة، وفي كتاب الأنساب، عاد هو: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، كان يعبد القمر، ويقال: إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف، وأنه نكح ألف جارية، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن، وهي من عمان إلى حضرموت.
ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة، كذا في تاج العروس.
وقال ابن عرفة: قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي: الأحقاف، جبال من الرمال المستطيلة، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]، في جنوب الجزيرة العربية، ما بين عمان إلى حضرموت.
وقال ابن إسحاق: الأحقاف: رمل فيما بين عمان إلى حضرموت.
((وإلى عاد أخاهم هوداً)) يعني: أخاهم في النسب، وليس أخاً لهم في العقيدة وفي الإيمان، ولكنه أخاهم في النسب؛ لأنه منهم في قول النسابين.
وقيل: الناس كلهم إخوة في النسب؛ لأنهم ولد آدم وحواء، فالمراد أخاهم هوداً يعني صاحبهم هوداً، وواحد من جملتهم، كما يقال: يا أخا العرب! والمقصود واحد من العرب، وإنما قال: ((وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسولاً منهم من أنفسهم، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله، وأرغب في اقتفائه، فربما إذا كان من قبيلة أخرى يستنكفون عن أن ينقادوا إليه.
وأشار الحافظ ابن كثير إلى أن مساكنهم كانت في اليمن، فإن هوداً عليه السلام دفن هناك، وقال: إنهم كانوا يأوون إلى العمد في البر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6 - 7] يعني: مدينة إرم، {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:8] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15].
ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه كما قال تعالى: ((يَا قَوْمِ)) أي: قال هود: يا قوم! أي: ما دمت أنا منكم وأنتم مني وما دمتم أنتم قومي فحقكم أن تكونوا مثلي في الإيمان وأن توافقوني.
(اعبدوا الله) أي: وحده.
(مالكم من إله غيره أفلا تتقون) أي: أفلا تخافون عذابه.(64/2)
تفسير قوله تعالى: (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين وأنا لكم ناصح أمين)
قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:66 - 67].
(في سفاهة) يعني: خفة علم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً (في سفاهة) على طريق المجاز، يعني: كأنه غرق ودخل في هذه السفاهة، يريدون أنه عليه السلام متمكن من هذه الصفة، غير منفك عنها، حتى كأنها تحيط به وهو في داخلها.
(وإنا لنظنك من الكاذبين) أي: في ادعائك الرسالة، إذ استبعدوا أن يرسل الله أحداً من أهل الأرض إليهم، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:67] يعني: رسول من رب العالمين إليكم، لإصلاح أمر نشأتكم يعني: هذه النشأة في الدنيا، وأيضاً في النشأة الآخرة.
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] أي: ناصح لكم فيما آمركم به من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأمين على تبليغ الرسالة لا أكذب فيها.(64/3)
تفسير قوله تعالى: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم لعلكم تفلحون)
قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69].
يقول هود عليه السلام لقومه: ((أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ)) يعني: ينذركم أيام الله ولقاءه عز وجل، يعني: لا تعجبوا من هذا، ولكن احمدوا الله على هذه النعمة.
((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)) أي: خلفتموهم في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم.
إما خلفاء بمعنى: كما يخلف الملك الملك الآخر، فأنتم الملوك بعد قوم نوح عليه السلام، أو خلفاء بمعنى: خلفتموهم في مساكنهم، كما قال تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].
((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) أي: قامة وقوة.
((فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ)) يعني: اذكروا آلاء الله في استخلافكم وبسطة أجرامكم -يعني: أجسامكم- وما سواهما من عطاياه لتخصصوه بالعبادة ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)) أي: تفوزون بالفلاح.
قال الزمخشري: في إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم: أدب حسن وخلق عظيم، إشارة إلى حسن خلق الأنبياء عليهم السلام، وصبرهم على أذى قومهم، وعظم حلمهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد سبق ما ذكره الله في مسلك نوح مع قومه، لما دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فكان
الجواب
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61] وما قال لهم: أنتم أهل الضلال، وإن كان يعلم أنهم الضلال، ومتمكنون في صفة الضلال، لكن قال: ((وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:61 - 62].
كذلك هنا قال قوم هود لهود عليه السلام: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68].
ففي جواب الأنبياء بالكلام الصادر عن الإغضاء والحلم، وترك المقابلة بما قالوا لهم بالمثل، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، في ذلك كله أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم، يعني: أن تستر على السفيه حتى وإن آذاك وتتغاضى، كما قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني لأن الانشغال بالدفاع عن الذات وبرد هذه السفاهات، وهذه السباب والشتائم، ليس من شأن صاحب الحق، فإنه يريد التمكين لحقه وتوضيحه وبيانه، ولا يريد الانتصار لنفسه، بل لا يفكر في الانتصار لنفسه، وإنما يتألم لما هم عليه من الضلال.
وفي ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، فإذاً كأن الله سبحانه وتعالى بحكاية هذا الكلام وهذه المواقف بين الأنبياء وقومهم يعلمنا أنه ينبغي لكل ناصح ألا يثأر لنفسه، أو يغضب لنفسه، وإنما يكون كل همه وجل ما يعنيه هو تبليغ الرسالة وإيضاح الحق.
وهذا أوضح ما يكون أيضاً في مناظرة موسى مع فرعون، خاصة في أوائل سورة الشعراء، ترى العجب من إغراق فرعون في السفاهة والجهالة والضلالة والكفران، وتمكن موسى عليه السلام من العلم والحجة والبصيرة، فكلما رد بحجة قابله فرعون بالسفاهة أو بالتهديد أو بالأذى، كما هو معلوم لمن يراجع أوائل سورة الشعراء.(64/4)
الكلام على ما ينقل من ضخامة عاد ومدينتهم
أيضاً هنا تنبيه يتعلق بقول الله تبارك وتعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، دون أن يضعوا هذه الأخبار على محك النظر والنقد والتمحيص، كالمبالغة في طول قوم عاد، لأن الله سبحانه وصف قوم عاد بقوله عز وجل: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً))، فترى بعض هؤلاء يحكون حكايات غريبة في ضخامة أجسام قوم عاد وطول قامتهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعاً.
فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي وهو وهم.
لكن عندنا دليل حسي على ذلك، وسنبينه إن شاء الله.
فقوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)): لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها.
ونحن الآن في هذا العصر الذي نعيشه، نرى أن الإنسان القصير لا تنقص قامته عن مقدار معين، ومهما زاد الإنسان في عظم خلقته، فبعض الأجناس وبعض الشعوب مشهورون بضخامة جثثهم، لكن لها حد محدود، فلا نرى الرجل الآن طوله مثلاً خمسة أمتار، فإن هذا لا يقع، ولكن نرى حدوداً معينة للأطوال بحد أقصى لا يزيد عنها، فمهما زاد الإنسان في الجسم بسطة ومد الله له في قامته فإن له حداً لا يزيد عليه، فمثل هذه المبالغات مما لا يقبل، فمجرد قوله تعالى: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) لا يسوغ لنا أن نقبل أي شيء يروى فيما يتعلق بضخامة أجسام هؤلاء القوم.
فالتفاوت بين الشعوب والأمم في أطوال الجسم وأحجامها من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً، ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً: مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وقوم ثمود مقاربين لقوم عاد، ومساكن قوم ثمود ما زالت حتى الآن ماثلة ومعروفة في ديار ثمود قوم صالح في الطريق الذاهب إلى تبوك في الجزيرة العربية، وهي كتل من الجبال منحوتة من الداخل، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، فالجبل وهو كتلة من الصخر ضخمة جداً، أو كتل متلاصقة، فكانت الجبال تفرغ من الداخل عن طريق النحت، وليس مجرد نحت الزخارف كما كان يفعل قدماء المصريين، فإنكم ترون في صور معابد أبي سنبل وغيرها، أنهم ينحتون التماثيل في الجبل، لكن هؤلاء كانوا يجوفون البيت من الداخل، فالسلالم والحجر والدواليب والأرفف، كلها أشياء لا تركب، وإنما هي منحوتة في الجبال! فهي مناظر تدل على عظم بأس هؤلاء القوم، وشدة تمكنهم في هذه الأشياء، لكن مع ذلك نلاحظ أن قاماتهم تدل عليها الحجرات وارتفاعاتها، وهذه الأشياء تدل على أن قامتهم كانت معتدلة، وليست بالطول البالغ إلى الحد الذي سنحكيه الآن.
ومثله في الكذب، بل أعرق منه في الوهم: ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجب بالسحاب، يعني: إذا وقف فإن جسمه يحجب بالسحاب، أي أن السحاب يصل إلى صدره إذا وقف!! يقف فيصل للسحاب ويشرب منه مباشرة!! ويتناول الحوت من أعماق البحار فيشويه بعين الشمس!! فهذا كله كلام لا يصدق، وهو من الغلو، والسبب في انتشار مثل هذا الكلام ما أولع به بعض المؤرخين من الحكايات الغريبة التي يأنس لها جهلة الناس وعوامهم دون نقد ودون تمحيص.
ثم إنه لو كان يريد أن يشوي السمكة فإن درجة الحرارة تكون على سطح الأرض أعلى منها على الجبال؛ ولذلك تجد دائماً أن الجليد يكون في قمم الجبال.
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في مقدمة تاريخه، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين، هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسيمة، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك.
والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره.
وأنكر أيضاً ما ينقلون من قصة جنة عاد، وأنها مدينة عظيمة، قصورها من ذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحاري عدن بناها شداد بن عاد، ولما تم بناءها أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسم هذه المدينة: إرم ذات العماد، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8].
ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن، وإنما حجبت عن الأبصار، وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه ولا نلتفت إليه.
صحيح أنه إذا لم يرد شيء في مثل هذا عن الصادق الأمين عليه السلام فلا نعول عليه، لكن لا يمنع أن يكتشف شيء من هذه الأشياء التي كانت محجوبة، ولا يمنع في مثل هذا المقام أن ننقل عن مجلة نيوزويك سبعة عشر فبراير، سنة اثنين وتسعين، صفحة ثمانية وثلاثين، نشرت خبراً غريباً جداً، يقول: إن القرآن يصف كيف أن الأرض ابتلعت مدينة مترفة أو باذخة فيها ترف جامد، ولكنها مدينة مهدمة أو مخربة، وهي مدينة الأبراج، وتدعى إرم، هذا نص عبارة مجلة النيوزويك، وهذا جزء كان من تحليل كبير يتكلمون فيه على اكتشاف، يقولون إنه عن طريق الأقمار الصناعية، استطاع الخبراء ومجموعة من الأخصائيين والمتمرسين في التكنولوجيا الحديثة، ومجموعة من علماء طبقات الأرض، أن يكتشفوا هذه المدينة القديمة في عمان، في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، ورجل يدعى نيكولاس كلاس عمل فيلماً وثائقياً عن البعثة التي ذهبت إلى هناك، والتي درست هذه المنطقة، سواء عن طريق الأقمار الصناعية أو الطبقات الجيولوجية.
فيقول في النيوزويك: فالزيجرد -وكأنه يذكر طريقة تصوير ببعض الأجهزة الحديثة تكشف عما تحت الأرض- كان يرى حالياً مركز المدينة المرتطمة أو المحطمة، كما وصفها القرآن، هذه عبارتهم: كما وصفها القرآن؛ لأنها كانت بنيت فوق كذا وكذا وحقيقة المقالة كلها فيها أن القرآن أعطانا الحق عن هذه المدينة التي تدعى: عاد، وبقيت هناك علامات كثيرة حتى تأتي لهؤلاء، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أبقى آثار هذه المدينة لمن يتفكرون ويؤمنون بوحدانية الله سبحانه وتعالى.
وهذا يعني أنهم ربطوا بين هذا الاكتشاف الحديث وبين آيات القرآن الكريم التي تثبت وجود هذه المدينة، التي كانت بهذه الضخامة، التي حكاها الله سبحانه وتعالى في القرآن، واقتبسوا من القرآن الكريم تراجم لمعاني القرآن الكريم، يجمعون بينها وبين هذا البحث، وهي موجودة في النيوزويك مجازيم، سبعة عشر فبراير، سنة ألف وتسعمائة واثنين وتسعين، صفحة ثمانية وثلاثين.
يقول: وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصطنعة هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.(64/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد أباؤنا فانتظروا إني معكم من المنتظرين)
ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم على هود عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:70 - 71].
((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ)) أي: لنخصه بالعبادة.
((وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)) يعني: من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) لأنه كان يتوعدهم: فهنا قالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، والذي تأمرنا بأن نتقيه من عذاب الله.
((إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) يعني: في الإخبار بنزول العذاب.
((قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)) أي: عذاب.
والرجس بالسين والرجز بالزاي بمعنىً، حتى قيل: إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد، وأصل معنى الرجس أو الرجز: الاضطراب، يقال: رجست السماء يعني: رعدت رعداً شديداً وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم يعني: في اختلاط والتباس.
ثم شاع استعمال الرجس أو الرجز في العذاب؛ لأن العذاب إذا حل بقوم اضطربوا وماتوا.
وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز؛ لأنه حقيقته في الشيء القذر فاستعير لجزائهم، وظاهر اللغة أنه حقيقة وليس بمجاز، ووجه التعبير بالمضي عما سيقع: تنزيل المتوقع كالواقع، أي: كأنه قد وقع بالفعل وصار يخبر عنه بصيغة الماضي، كما في قوله تبارك وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1].
((وغضب)) أي: سخط؛ لإشراككم معه من هو في غاية النقص في أعلى كمالاته التي هي الإلهية.
((أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) [الأعراف:71] يعني: في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، وليس لها حقيقة؛ لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:42] يعني: هي كالعدم.
وقال الشهاب: جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، فعبر عن الأصنام بكلمة أسماء، كما يقال لما لا يليق: ما هو إلا مجرد اسم، فالمعنى أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها، فتوجه الذم للتسمية الخالية عن المعنى، والضمير حينئذ راجع إلى أسماء.
((مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) أي: حجة ودليل، يعني: لم يقم دليل وحجة على تسميتها آلهة؛ لأن المستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة، وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه.
((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) أي: لو كانت تستحق الإلهية وليست مجرد أسماء عارية عن الحقيقة؛ لأنزل الله آية أو دليلاً أو حجةً أو برهاناً يؤكد إلهيتها، فلما لم يقع شيء من ذلك، بل مستحيل أن يقع، تحقق بطلان ما أنتم عليه.
ودلت الآية على كساد التقليد حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم: ((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) أي: تقليداً لآبائكم.
وتدل على أن المعارف مكتسبة.
وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه لقوله: ((مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)).
ويدل قوله: ((أَتُجَادِلُونَنِي)) على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق، وأن يتأمل ويتحرى ويبحث عن الحق بتجرد وإنصاف، لا أن يجادل عن الباطل الذي هو عليه.
وبين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة، من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهار لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم.
((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) هذا إشارة إلى غاية الجهالة وفرط الغباوة منهم وآبائهم.
((فَانتَظِرُوا)) أي: نزول العذاب الذي استعجلتموه وطلبتموه بقولكم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف:70] لأنه وضح الحق، وأنتم مصرون على العناد، فلم يبق إلا انتظار العذاب الذي تستعجلون، ولذلك قال لهم: {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:71] أي: لما يحل بكم، فجاء منتظرهم بحيث لم ينجُ منهم بمجرى العادة أحد، وجعل هلاكهم بالريح التي تتقدم الأمطار لكفرهم برياح الإرسال.(64/6)
تفسير قوله تعالى: (فأنجيناه والذين معه)
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:72] أي: ممن آمن به على خرق العادة ((بِرَحْمَةٍ مِنَّا)) ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة كما رحمناهم في الدنيا، فإنهم يرجون ويؤملون في أن يرحمهم الله أيضاً من عذاب الآخرة.
((وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) أي: استأصلناهم، فقطع الدابر كناية عن الاستئصال وإهلاك الجميع، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمر على غيره، فإذا أردت أن تأتي بكلام يثبت أنهم كلهم قد هلكوا ولم ينج منهم أحد، فإنك تأتي بالأول فالثاني وهكذا، فإذا قلت: أهلكت آخرهم، فهذا تعبير يبين أنهم جميعاً قد هلكوا واستؤصلوا، والدابر بمعنى الآخر.
((الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) يعني: كذبوا ولم يؤمنوا.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: ((وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم كـ مرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه السلام، يعني كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم، ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين ونجى الله المؤمنين، وفي هذا إشارة إلى حسن عاقبة المؤمنين.(64/7)
تفسير سورة الأعراف [103 - 137](65/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين فأرسل معي بني إسرائيل)
قال تبارك وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:103 - 105].
((وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين)) أي: أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه سبحانه وتعالى.
((حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)) أي: جدير بذلك وحري به؛ لما علمت من حالي، وهناك قراءة أخرى: ((حقيق عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق)) بمعنى: واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، أو ((حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)) أي: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.
والباء وعلى يتعاقبان، تقول: جاء على حال حسن، وتقول: جاء بحال حسن، فحقيق على يعني: حقيق بألا أقول، وقرأ أبي رضي الله عنه: (حقيق بأن لا أقول).
وقوله: (قد جئتكم ببينة من ربكم) أي: آية قاطعة وواضحة تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة.
((فأرسل معي بني إسرائيل)) روي أن الله تبارك وتعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرية ونقرب له قرابين ونعبده، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى عليه السلام ويهلك عدوه، فلما أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله، هذا سيؤثر على الإنتاج وسيؤثر على الاقتصاد، كيف نتركهم يخرجون معك يتعبدون ويتعطلون عن الأعمال التي سخرهم فرعون من أجلها؟ فقد كانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر حينئذ بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون.(65/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فإذا هي بيضاء للناظرين)
ثم طلب فرعون من موسى آية كما قال تعالى: {قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:106 - 107].
((فألقى عصاه)): التي هي جماد، من غير سترة ومن غير معالجة سبب، فكان الأمر لا لبس فيه على الإطلاق، لا كما يفعل المهرة من الحواة أو السحرة وغير هؤلاء، يخبئ شيئاً في فمه ويظهره من الجانب الآخر إلى آخر هذه الحيل التي تعتمد على خفة اليد، فيظهر شيئاً خلاف الشيء الذي كان ظاهراً من قبل، أو يستر الشيء الذي يتعامل معه ثم يظهر منه شيئاً آخر، وغيرها من الحيل المعروفة عند الحواة.
فيقول تبارك وتعالى: ((فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ)) أي: بدون سترة فلم تكن العصا مستورة، وبدون معالجة سبب من الأسباب كي تتحول إلى هذه الآية.
وكلمة: (فإذا) فجائية، والثعبان هو: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات، أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه.
((مبين)) يعني: ظاهر لا متخيل.
((ونزع يده)) يعني: أخرج يده من جيبه بعدما أدخلها فيه.
((فإذا هي بيضاء للناظرين)) يعني بيضاء بياضاً خالياً من البرص، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]: لأن البياض أحياناً يكون بسبب مرض البرص، فقوله: ((فإذا هي بيضاء للناظرين)) يعني: بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة، يجتمع عليه النظار تعجباً من أمره فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية وتتقوى بها الحياة بالله.(65/3)
تفسير قوله تعالى: (قال الملأ من قوم فرعون فماذا تأمرون)
قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:109] ((الملأ)) الأشراف الذين يكرهون شرف الغير عليهم، قالوا: في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق، ومحاولة إبطال ما أظهره موسى عليه السلام من الآية والمعجزة: ((إن هذا لساحر عليم)) أي: ماهر في السحر.
وبين تعالى في سورة الشعراء أن فرعون قال أيضاً نفس هذا القول: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34 - 35] أي: يخرجكم من أرض مصر بسحره، ليتملك عليها.
فهذا فرعون وملؤه يقولون إن موسى عليه السلام يريد أن ينازعهم، وتكون له الكبرياء والملك في الأرض، وذلك بالتستر وراء الدين للحصول على مآرب سياسية.
((فماذا تأمرون)) أي: ماذا تشيرون في أمره، وهذا القول من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو هو مستأنف من فرعون، ويدل على هذا الوجه الثاني: قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111] في الرد والجواب عليه.(65/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه ساحر عليم)
{قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:11 - 112] وقولهم ((أرجه وأخاه)) أرجه أو أرجئه بالهمز، يعني: أخر أمرهما وأصرفهما عنك الآن حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما؛ لئلا تنسب إلى الظلم الصريح، فحسن صورتك حتى لا يظن بك أنك ظلمتهم ظلماً صراحاً، لكن أظهر أنك تعطيهم الفرصة، وأنك كما يقال الآن: ديمقراطي وكذا وكذا.
مع أنه تقدم منه أمر آخر يفهم من هذا، وهو أن فرعون هم بقتل موسى عليه السلام أولاً، ثم أشار عليه هؤلاء المستشارون بأن يؤخره كي يتبين حاله للناس.
((وأرسل في المدائن)) أي: في مدائن الصعيد من نواحي مصر، ((حاشرين)) أي أرسل من يأتيك بكل ساحر عليم وقرئ: (يأتوك بكل سحّار عليم) أي: ماهرين في باب السحر، ليعارضوا موسى بنظير ما أراهم من البينات، قال الجشمي: تدل الآية على عظيم علم موسى، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله سبحانه وتعالى، ويستحيل أن تشتبه معجزة النبي بالسحر.
فلا يمكن أن تنقلب العصا إلى حية حقيقة، فهؤلاء لشدة جهلهم لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله سبحانه وتعالى، حتى نسبوا ذلك إلى السحر، كما تدل الآية على أن عادة البشر أن من رأى أمراً عظيماً يسعى إلى أن يعارضه، لذلك لما رأوا تحول العصا إلى حية، فزعوا إلى استنفار فرعون، وجعلوا يحصدون له السحرة ويجمعونهم له.
فيقول: تدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيماً أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن أيضاً لعارضوه، وهذا معروف، فقد تحداهم الله سبحانه وتعالى به، ومع ذلك ما استجابوا للتحدي، وهم أفصح البشر.
وتدل الآية على أن الطريق في المعجزات: المعارضة؛ ولذلك قال تعالى في القرآن: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] إذا صدق الإنسان في المعارضة فليأت بمثل هذه المعجزة، وهيهات أن يفلح في ذلك! ولذلك فإن فرعون وقومه حينما رأوا آية موسى عليه السلام ما استطاعوا أن يأتوا بمثلها، لكن حاولوا المعارضة بجمع السحرة، وإلقاء الشبه، فلما بان عجزهم لجأ فرعون إلى التهديد.
وتدل الآية أيضاً على أنهم أنكروا أمر الرسالة خوفاً منهم على الملك والمال، كما يقال: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والذي يدل على ذلك قوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء:35]، فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين هي المحافظة على الرئاسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن.
ثم تسابقت شرط فرعون ينتشرون في الآفاق، يحشرون له أمهر السحرة كي يعارضوا موسى عليه السلام.(65/5)
تفسير قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون وإنكم لمن المقربين)
قال عز وجل: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114].
يعني: إن لكم أجراً عظيماًَ معلوماً ومضموناً على هذا، ثم زادهم على ما طلبوا من الأجر فقال: ((وإنكم لمن المقربين)).
والإنسان إذا كان يعبد الله سبحانه وتعالى واستحضر هذه الآية، حرص بعبادته على أن يكون من المقربين، ولذلك فإن أعلى درجات أهل الجنة هم المقربون، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولما توثقوا من فرعون، يعني ضمن لهم هذا الأجر وهذا التقريب:(65/6)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين وجاءوا بسحر عظيم)
قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:115 - 116].
كان السحرة كفاراً، لكنهم هنا تأدبوا مع موسى عليه السلام، وقد نفعهم هذا الأدب حتى قال القرطبي رحمه الله تعالى: تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم، ((قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)) أي: أن نكون نحن أول من ألقى، كما في الآية الأخرى.
قيل: خيروا موسى إظهاراً للجلادة فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره، وقال الزمخشري: تخييرهم إياه أدب حسن، وهذا من المجاملة، فإنهم التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع.
((قَالَ أَلْقُوا)) أي: قال موسى لهم: ألقوا يعني: ألقوا ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً.
يقول ابن زيد: كان الاجتماع بالإسكندرية، فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة، يعني كانت الحية ضخمة جداً، ولا أدري بالضبط ماذا يقصد بالبحيرة إذا صح هذا الكلام.
((فلما ألقوا سحروا أعين الناس)) أي: خيلوا لها ما ليس في الواقع، إذاً ما ألقوه من الحبال هي في الحقيقة بقيت كما هي! وإنما السحر أثر على أبصارهم؛ ولذلك قال عز وجل هنا: ((سحروا أعين الناس)) لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي أو يؤثر في المرئي، فهذه الآية تدل على أن هذا النوع من السحر كان مما يؤثر في عين الرائي، فيرى الشيء على خلاف ما هو عليه.
((واسترهبوهم)) يعني: أفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما قال في الآية الأخرى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:66 - 69].
ومثل هذه الآية لا يصح الاستدلال بها على نفي تأثير السحر؛ لأن السحر أنواع كثيرة ولا ينحصر في نوع واحد، فسواء كان السحر هنا نوعاً من الحيل بحيث إنهم وضعوا في الحبال أو في التجويف زئبقاً، والزئبق جعل هذه الحبال تلتوي، أو أن السحر إنما كان بالأعين، وهذا هو الأكيد قطعاً بنص القرآن.
فالاستدلال على نفي السحر بمثل هذه الآية استدلال بها على غير وجهها، فيستدل بعض الناس على نفي السحر وأنه مجرد تخييل، بأن هذا السحر إنما كان في أعين الناس، {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] أي: عظيم في باب السحر وفي مجال السحر، فمن رآه عده سحراً عظيماً، فإنه ألقى كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين.
قال الجشمي: تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، بما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر، وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله، وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وليس ذلك في وسع طبيب، وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به.(65/7)
الفرق بين السحر والمعجزة
وتدل -أي الآيات- على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة، حتى أوهموا أنها أحياء، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدوراً لكل من يتعاطى صناعتهم علم أنه شعبذة، ولهذا تفترق المعجزة عن الشعبذة.
ويمكن أن نميز بين المعجزة والشعبذة بما يلي: أولاً: الشعبذة يوقف على أصلها، كما يصنع الحاوي أحياناً في بعض الأشياء التي يفعلها والناس يعتبرون ذلك شيئاً خارقاً للعادة، لكن في نفس الوقت يمكن أن يشرح لهم كيف فعل هذا الشيء، فيأتي بأصل هذا الأمر، فيقول مثلاً: سوف أخبئ الشيء مثلاً في كمي وبخفة يد سأخرج الأشياء المعروفة هذه إلخ.
أما المعجزة فلا يمكن أن تقف على أصلها، إلا أن تنسبها إلى قوة الله سبحانه وتعالى الذي يخرق الأسباب متى شاء وكيف شاء.
فهؤلاء السحرة كانوا يعرفون ما أصل حكاية السحر التي قلبت الحبال إلى ثعابين، وذلك إما أنهم عملوا نوعاً معيناً من السحر يؤثر في أعين الناس، أو أن عملهم للسحر كان حيلة حيث وضع الزئبق في الحبال بحيث تلتوي، فبهذا يكونون قد سحروا أعين الناس حين رأوا الشيء على غير ما هو عليه.
الفارق الثاني: أن الشعبذة يمكن الإتيان بمثلها، يمكن أن تعارض ويؤتى بمثلها، وكل من عنده خبرة بهذا الفن يستطيع أن يأتي بمثلها، لكن المعجزة يستحيل أن يأتي بشر بمثلها إلا نبي من أنبياء الله.
الفارق الثالث: أن الشعبذة يخفى أمرها بخلاف المعجزة، وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه، وبلا شك أن مثل هذا لا يصلح إلهاً، فكيف يكون إلهاً، ثم إذا أصابه هذا المكروه فزع إلى مرهوبيه الذين يفترض أنهم أضعف منه، كي ينصروه على من يخاصمه أو يتحداه، فهذا يدل على اعتراف فرعون بالذل وبالعجز وبالضعف.(65/8)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون وتوفنا مسلمين)
قال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:117 - 126].
((تلقف)) أي: تبتلع، ((ما يأفكون)) يعني: ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وأصل الإفك الكذب، ((فوقع الحق)): ظهر الحق وثبت الإعجاز، ((وبطل ما كانوا يعملون)) أي: من السحر لإبطال الإعجاز.
((فغلبوا هنالك)) يعني: في مكان وعر، وهو المكان الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوة فرعون لهم لظنه غلبة السحرة، ففرعون حشر الأقباط وحشر السحرة {قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] أي: في وقت واضح في النهار، بحيث لا يلتبس الأمر على أحد.
((فَغُلِبُوا هُنَالِكَ)) يعني: في هذا المكان، ((وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ)) أي: رجعوا ذليلين، ((وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)) وفي الحال: ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) ((رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)).
قال الجشمي: دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال.
((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ))، وهذا وعيد شديد من فرعون، ثم فصله فقال: ((لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين)) أي: لأقطعن من كل جانب عضواً مغايراً للآخر، كأن تقطع اليد من اليمين والرجل من الشمال والعكس.
قال الشهاب: ((من خلاف)) حال يعني: مختلفة، وهنا تفسير ضعيف وهو أن: ((من خلاف)) يعني: لأجل خلافكم.
وهذا بعيد.
((ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)) أي: فضيحة لكم وتمثيلاً وزجراً لأمثالكم.
((قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ)) يعني: فلا نبالي بما تهددنا به من الموت؛ لأن هذا الموت الذي تخوفنا به هو وسيلة انتقالنا إلى الدار الآخرة، حيث نحيا حياة هي خير من هذه الحياة الأولى، فما تهددنا به وهو الموت أو القتل هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا حياة هي خير من الحياة الدنيا.
((وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا)) أي: ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، وأعظم شيء نعتز به؛ لأنه خير الأعمال وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك.
وهكذا المؤمنون المضطهدون في كل زمان، جريمتهم التي تنقم عليهم هي إيمانهم بالله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) الإفراغ: هو الصب، أي: ربنا اصبب علينا صبراً، فشبهوا الصبر بسائل أو مطر سينزل عليهم، أي يصبه الله سبحانه وتعالى عليهم ويكثر من هذا الإفراغ، أي: أفض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك، وذلك عند القطع والصلب.
((وتوفنا مسلمين)) أي: ثابتين على الإسلام، فيقصدون هنا حسن الخاتمة.(65/9)
تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى)
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
((وقال الملأ من قوم فرعون)) أي: خوفاً من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا السحرة جاهروا بالإسلام ولم يبالوا بالتوعد.
((أتذر)) يعني: أتترك ((موسى وقومه ليفسدوا في الأرض)) بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل، وقوله: ((ليفسدوا في الأرض)) أي: في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك.
((ويذرك وآلهتك)) الآلهة: جمع إله بمعنى: المعبود.
وكان للمصريين آلهة كثيرة منها الإله الذي كانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور الذي كانوا يعبدونه أيضاً، وكانوا يعبدون الظلام أيضاً، ويعبدون صنماً يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان، وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر وللنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض، هكذا حكى عنهم بعض المدققين.
وقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل: أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام.
وقال بعض المفسرين: (ويذرك وآلهتك) يعني: وطاعتك، أو (ويذرك وإلهتك) يعني: عبادتك، الإلهة أو الألوهة هي العبادة.
وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة: لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا هاهنا لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر وإلهاب قلب فرعون على موسى وإثارة غضبه.
والأظهر ما قدمناه أولاً: (ويذرك وآلهتك) جمع إله وهو المعبود.
((قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ)) والقراءة الأخرى: (قال سنقتل أبناءهم) أي: المولودين.
((وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)) أي: نستبقي نساءهم للاستخدام.
((وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)) أي: بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فلما فعل بهم هذا الوعيد من قتل الأبناء، واستحياء النساء، شكا بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
وهنا: ((قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)) ولم يقل: سأقتل موسى؛ لعلمه أنه لا يقدر عليه، وقال سعيد بن جبير: كان فرعون قد ملئ من موسى رعباً، فكان إذا رآه يبول كما يبول الحمار.
فالله أعلم بصحة ذلك.(65/10)
تفسير قوله تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا فينظر كيف تعملون)
قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} * {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:128 - 129].
((قال موسى لقومه)) لما شكوا إليه ما لقوه من فرعون، (استعينوا بالله) يعني: عليكم أن تفزعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأن تستعينوا به على هذا البلاء، ((واصبروا)) يعني: على أذاهم.
((إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا)) أي: يعطيها ((مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) يعني: أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم، وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أصلهم ويهلكهم، وينجي قومه من عذابه لآل فرعون؛ فلذلك بشرهم بهذا: ((إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)).
وعاقبة كل شيء: آخره، ولكنها إذا أطلقت فهم منها في العرف: الخير كما في هذه الآية، وهنا لم يقل: العاقبة الحسنى ولا العاقبة السوء، فهي تأتي بهذه الاستعمالات، لكن إذا أطلقت انصرفت عرفاً إلى الخير.
قال الجشمي: تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته عدلوا إلى إغراء فرعون وتحريضه واستعدائه على موسى، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وعند ذلك أوعده.
وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى؛ لأن هذه حيلة العاجز.
فهروب فرعون إلى التهديد وإلى التخويف وإلى التوعد، مع أنه قد أتى بالمعجزة، ومع أنه تحداهم، ومع أنهم عجزوا عن أن يستجيبوا للتحدي، فهذا من أعظم الأدلة عند العقلاء على صحة نبوة موسى عليه السلام؛ لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ما دام أنهم قد عجزوا عن الإتيان بمثلها؛ ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن إلى القتال دل ذلك على عجزهم.
يقول: وهكذا حال كل ضال مبتدع إذا أعيته الحجة عدل إلى التهديد والوعيد.
وتدل الآية على أنه عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعانة به والصبر، ولا نفزع إلا بهذين الأمرين، وهما: الانقطاع إلى الله عز وجل بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر.
وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي.
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فبماذا أجاب قوم موسى؟ {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].
أي: هؤلاء القوم الأقباط فعلوا بنا الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها، ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة، لأن موسى حين مضى رمز إليهم بالبشارة، حينما قال: ((إن الأرض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين)) يعني أن هذه سنة كونية من سنن الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، كذلك أتى بها في كلمتين فقال: (والعاقبة للمتقين)، فكان ينبغي أن يفهموا من ذلك أنه بشرهم بأن النصر والظفر لهم، فحينما قالوا له: ((أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)) صرح لهم بما رمز إليه فقال: ((عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ)) يعني: فرعون وجنوده، ((وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) يعني: فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها؛ ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.(65/11)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] يعني: لما امتنعوا عن إجابة موسى وإرسال قومه معه أخذهم بالسنين، أي: بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون أي: يتعظون فيرجعون عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى.
و ((لعلهم يذكرون)) لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42].
قال الجشمي: تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفاً وصلاحاً في الدين؛ لذلك قال: ((لعلهم يذكرون)) فالإنسان لا يدري ما يصلح قلبه وما يصلح حاله كما جاء في الحديث الصحيح: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له).
فعلى المرء أن يثق بأن ما يقدمه الله سبحانه وتعالى له هو الخير، فرب مصيبة تلم بالإنسان تكون سبباً في رقة قلبه وانكسار كبريائه واختياله والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يؤخذ من هذه الآية: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، فالحكمة من ذلك: رجاء أن يتذكروا وأن يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذاً الشدائد يقدرها الله على عباده لهذه الحكمة العظيمة ((لعلهم يذكرون)) أي: يتذكرون ويتبصرون ويصلحون حالهم مع الله سبحانه وتعالى.(65/12)
تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه)
قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131] ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم والشدائد لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً، فقابلوا عقاب الله سبحانه وتعالى بالسنين ونقص الثمرات الذي كان يرجى أن يكون من ورائه تضرع وتذلل ورقة في قلوبهم، بأن تمردوا وازدادوا عتواً وكفراً.
قوله تعالى: ((فإذا جاءتهم الحسنة)) أي: الصحة والخصب، ((قالوا لنا هذه)) أي: هذا لأننا نستحق هذه النعمة، فهي لأجلنا واستحقاقنا كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ولم ينسب الفضل إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك هؤلاء إذا جاءتهم الحسنة قالوا: لنا هذه، أي: نحن نستحق هذه وهي أتت لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه.
((وإن تصبهم سيئة)) شدة ((يطيروا بموسى ومن معه)) يعني: يتشاءموا وأصله (يتطيروا) يعني: أنهم عندما تأتيهم المصيبة أو العذاب أو نقص الثمرات والجدب والقحط يقولون: هذه بشؤم موسى وهؤلاء المؤمنين معه -والعياذ بالله-.
فأبطل الله سبحانه وتعالى كلامهم بقوله عز وجل: ((أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ)) أي: شدتهم وما صار إليهم من القضاء والقدر، ((عند الله)) لا عند غيره، يعني: هذا إنما هو من قبل الله عز وجل بقضائه وقدره، ((ولكن أكثرهم لا يعلمون)) أن ما أصابهم من الله تعالى فيقولون ما يقولون مما حكى عنهم.
وقوله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله) يعني: أن شؤمهم، وما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم هو عند الله سبحانه وتعالى، وأصل كلمة الطائر أو التطير: التفاؤل بالطير؛ لأن العرب في الجاهلية كان إذا أراد أحدهم أن يفعل شيئاً أو يمضي في سفر، فإنه كان ينفر الطير، فإن اتجه إلى اليمين سموه السانح، وإن اتجه إلى اليسار سموه البارح، فإن اتجه يميناً تيمنوا وتفاءلوا وسافروا، وهي استخارة شركية، وإذا اتجه شمالاً تشاءموا وتركوا السفر.
ثم بعد ذلك استعمل لفظ التطير في كل ما يتفاءل به ويتشاءم، ولذلك روي في الحديث -وفيه ابن لهيعة والكلام فيه معروف-: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك).
وأيضاً قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] يعني: عمله الذي صدر عنه من خير أو شر، ألزمناه إياه في عنقه.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)): ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي: قحط وجدب ونحو ذلك تطيروا بموسى وقومه، فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] كما تقدم في سورة النساء، وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47]، وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس:18].
وبيَّن تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم ومعاصيهم، لا من قبل الرسل، فقال عز وجل: ((أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ))، وقال في سورة النمل في قوم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، وقال في يس: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19].(65/13)
تقسير قوله تعالى: (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين)
{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:132 - 133] أخبر تبارك وتعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، وأنهم لم يكتفوا بالتكذيب بموسى مع كل ما مضى، بل جاءهم العذاب فلم يتذكروا ولم يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ازدادوا عتواً، وكانوا إذا أصابهم الخير قالوا: لنا هذه! فلم يشكروا الله سبحانه وتعالى، وإذا أصابهم الشر تشاءموا وقالوا: هذه بشؤم موسى ومن معه، تمادوا في ذلك حتى تجاسروا وتكبروا بقولهم: ((وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: بمصدقين بالرسالة، فجاءت العقوبة مباشرة: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133].
((فأرسلنا)) أي: على آل فرعون ((الطوفان))، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم فلم ينلهم ولا حل بهم سوء من الطوفان ولا غيره.
والطوفان لغة هو: المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، وتواصلت الرعود والبروق ونيران الصواعق في جميع أرض مصر، وعلينا أن نتفكر في هذا لقوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45]، فكل من سكن مساكنهم مخاطب بهذه العبرة وبهذه العظة فهذه سنة الله سبحانه وتعالى في الدنيا أنها دار ابتلاء كما كررنا مراراً، فالله عز وجل قادر بكلمة من حرفين: ((كن)) على أن يكون البشر كلهم على أتقى قلب رجل واحد، وهو قلب رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، ولكننا لسنا ملائكة في الدنيا، فهذه مجرد فترة امتحان في دار امتحان.
فالعزة التي كانت والعتو والتمرد والاستكبار الذي أصاب فرعون وقومه، ومقابلة آيات الله عز وجل بمزيد من التمرد والعتو، تدعونا لننظر إلى العاقبة لمن كانت؟ فالدنيا دار ابتلاء، فنفس هذه الأشبار أو الأمتار التي نعيش عليها عاش عليها من قبلنا، والإنسان أحياناً يغفل عن تدبر هذا الأمر، فلسنا أول من يطأ هذه الأرض، بل وطأ نفس هذه البلاد قرون وقرون وقرون كانوا أعظم منا وأشد قوة، ومع ذلك لما كفروا مكر الله سبحانه وتعالى بهم؛ فلذلك {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] العتو والاستكبار إنما هو جولة ليست هي النهاية، فالنهاية والعاقبة حتماً ستكون للتقوى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] كما أخبر الله عز وجل.
فالله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزل صاعقة من السماء على كل من يعادي الإسلام أو يعادي أولياء الله سبحانه وتعالى، والناس ينظرون إليه، لكن هذا سينافي حكمة الابتلاء، فلو أن كل من يكفر بالله، وكل من يحارب الإسلام، تنزل عليه صاعقة وتأخذه أمام الناس، فهنا سيبطل اختيار الناس وسيؤمنون كرهاً وليس طواعية، وحكمة الله سبحانه وتعالى: أن يكون الإيمان المعتبر هو الإيمان الاختياري وليس الإيمان الذي يأتي بالإجبار؛ فلذلك تستمر سنن الله سبحانه وتعالى، وتنتهي فصول بعض الأحداث في الدنيا والتي قد تكون بنهاية غير سارة، لكن ليست هذه هي العبرة، العبرة أنهم صاروا من أهل النار، فعلينا أن نستحضر هذا التعاقب بين عتو قوم فرعون ثم العذاب الذي يأتيهم.
ومن رحمه الله سبحانه وتعالى: أنه يأتينا بهذه النذر لعلنا نتذكر أو لعلنا نتضرع، إنعاماً في إقامة الحجة عليهم، فانظر أتتنا من قبل الزلازل وأتتنا الفئران وأتانا الجدب والقحط من سنوات إذا كنتم تتذكرون، ومن قبل أشياء كثيرة جداً، والآن حينما عم وانتشر هذا البلاء المسمى بجنون البقر، انظر كيف كان رد فعل الناس لمثل هذا الأمر، حتى أنهم بالغوا في هذه الردود بمقاطعة لحم البقر حتى إن الجزارين تأثروا بذلك.
يخبرنا الله سبحانه وتعالى به وهو أصدق القائلين من أن هذا حلال، وأن هذا حرام، وأن هذا يغضب الله، وأن هذا يرضي الله، ونحن لا نبالي بأوامر الله عز وجل ولا بشرع الله عز وجل، ولا نبالي بمحاربة دين الله.
وقد انتشر الآن جنون البقر، والناس خافوا من هذه الأشياء، ألا ينبغي علينا حينما يخبرنا الله بشيء: أن فيه هلاكنا وأن فيه دخول النار أن نحذر؛ لأننا عصينا الله وحاربنا دين الله، فتكون عاقبتنا كذا وكذا، فأولى أن نصدق خبر الله سبحانه وتعالى ونعمل به.
والآن وزير الصحة اليمني أو اليماني أعلن أن الآلاف من اليمنيين يموتون بالسرطان الذي ينشأ عن مضغ القات، ويحتمل أنهم الآن يرتدعون، ومن قبل كان العلماء ينصحونهم أن القات فيه كذا وكذا من المضار، أو أنه محرم شرعاً، فلا يبالون، والقات منتشر هناك أشد من التدخين هنا، بين النساء والرجال والأطفال والكبار والصغار بصورة مقززة وسيئة، فهم يتعاطون هذا القات ويمضغونه ويكومونه في أشداقهم فيما يسمونه تخزين القات، ومع ذلك لم يبالوا بكلام العلماء حينما زجروهم عن ذلك، لكن يحتمل الآن أن ينفعلوا ويبدءوا في تصحيح أوضاعهم إذا أذيع لهم أن الآلاف منهم يموتون بالسرطان؛ بسبب مضغ القات.
فحينما تأتينا الأخبار أو التحذيرات من بشر مثلنا نقبلها، حينما يأتيك الطبيب ويقول لك: لا تأكل السمك ولا تأكل كذا، وربما منع عليك أشياء معينة بسبب مرض معين تنصاع، بل تسلم له نفسك كي يفتح بطنك بالمشرط ويجري لك عملية جراحية، فإذا أخبرك الله سبحانه وتعالى أن في ذلك شراً لك أو أن في ذلك خيراً لك لا تبالي بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا تسارع إلى طاعته والخوف مما حذرك الله عز وجل منه.(65/14)
تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل)
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133].
((فأرسلنا عليهم)) أي: على آل فرعون ((الطوفان)) كما قلنا: هو المطر الغالب، فعم الطوفان الصحراء وأتلف عشبها وكسر شجرها وتواصلت الرعود والبروق ونيران الصواعق في جميع أرض مصر.
((والجراد)) فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، يعني: الذي بقي من الثمار بعد الطوفان جاء الجراد بعد ذلك فقضى على ما تبقى من هذه الثمار والأعشاب، حتى لم يبق شيء من ثمرة، لا خضرة في الشجر ولا عشب في الصحراء.
((والقُمَّل)) فعم أرض مصر، والقمل هو: صغار الذباب، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد على وزن كلمة: سُكَّر، فالقمل، قيل: هو صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبا الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار، وتقرأ: القُمَّل والقَمْل قيل: هما لغتان، وقيل: هو القَمْل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد القُمَّل يكون في الطعام.
ورد ابن سيده وتبعه المجد في القاموس القول: بأن المراد به قمل الناس، والقمل من الحشرات المعروفة.
((والضفادع)): جمع ضفدع، فطلعت الضفادع من الأنهار والخلج والمناقع وغطت أرض مصر.
((والدم)) فصارت مياه مصر جميعها دماً عبيطاً أحمر، ومات السمك فيها وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئاً.
((آيات)) حال ((مفصلات)) أي: مبينات، لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو ((مفصلات)) أي: مفرقات بعضها إثر بعض، تأتي آية ثم تليها التي تليها وهكذا.
((آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا)) أي: رغم كل الضنك والعذاب الشديد الذي أنزله الله بهم، أصروا واستكبروا فلم يؤمنوا لموسى ولم يرسلوا معه بني إسرائيل.
((وكانوا قوماً مجرمين)) أي: عاصين.
قال الجشمي: تدل الآية على عناد القوم وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد أنهم لا يؤمنون بها، {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:132]، وليس هذا عادة من غرضه الحق، فالشخص الذي غرضه الحق لا يحلف ولا يعاهد بمثل هذا العهد، أنه مهما تأته البينات والحجج فلن ينقاد، هذه طبيعة المجرم المتكبر كما وصفهم الله سبحانه وتعالى.
وتدل هذه الآيات على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات.
ولما وقع عليهم الرجس أي: نزل بهم العذاب المفصل آية تلو آية: {قَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49] يعني: بعهده عندك، وعهد الله عند موسى هو النبوة، فما: هنا مصدرية.
قال الشهاب: سميت النبوة عهداً؛ لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا عليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقاً تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى.(65/15)
تفسير قوله تعالى: (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك)
قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134].
أي: لنرسلن معك الذين أُرسِلْتَ لطلبهم ليعبدوا ربهم تبارك وتعالى، فنلاحظ أن كل مطلب موسى من فرعون أن يسلِّم بني إسرائيل فقط؛ لأن موسى أرسل إلى بني إسرائيل؛ لأن القاعدة أن كل الأنبياء نبي قبل رسول الله عليه السلام كان يبعث إلى قومه خاصة، وأنه عليه الصلاة والسلام اختص من بين سائر الأنبياء بأن بعثه الله عز وجل إلى العالمين كافة.
وهذه الآية تدل على أن قوم فرعون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وعلى أن فرعون كان كاذباً في إنكار ذلك، فبعض الآيات ظاهرها أن فرعون كان ينكر وجود الله عز وجل، لكن لا يوجد دليل من القرآن الكريم كله، على أن هناك طائفة أنكرت وجود الله، فإنكار وجود الله عز وجل لم يقل به أحد، حتى فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] والذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قد قص الله سبحانه وتعالى علينا في آخر سورة الإسراء قصته وفيها: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:101 - 102] فموسى يخبر عما في قلب فرعون لأن الله أعلمه بذلك.
((لقد علمتَ)) يعني: يا فرعون! ((مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ))، فإذاً فرعون حتى لو كان قد أعلن أنه ينكر الله سبحانه وتعالى، فقد كذب في هذه الدعوى.
وكذلك قوله تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:13 - 14]، فهذا الكفر الذي كانوا عليه هو عبارة عن جحود، لكن في قلوبهم كانوا يعرفون صدق موسى عليه السلام وأنه مرسل من عند الله عز وجل.
والدليل الثالث: هو هذا الموضع، ونظائره في القرآن الكريم من أنه كان إذا نزل عليهم العذاب من الله سبحانه وتعالى يفزعون إلى موسى: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فيطلبون منه أن يشفع لهم عند الله أن يوقف عنهم هذا العذاب.(65/16)
تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم الرجز وكانوا عنها غافلين)
قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:135 - 136] يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم، ((إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ)) أي: ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم أتتهم النقمة القاضية.
ونلاحظ أن كل النقم الماضية كانت مؤقتة، تأتي البلية ثم تنكشف، ثم تأتي الحسنة، ثم تليها سيئة، ثم أتتهم الآيات التي ذكر الله سبحانه وتعالى، فحينما لم يتعظوا بما شاهدوه أتتهم النقمة القاضية فأخذوا بالإهلاك الذي قضي عليهم، فقال عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:135 - 136].
((فأغرقناهم في اليم)) أي: في البحر، بسبب ((أنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)) أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم وعدم مبالاتهم بها.
وقد روي أن فرعون بعدما أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاءوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلاً بكل ما معهم من غنم وضأن ومواشٍ، ولما سمع فرعون بارتحالهم ندم على ما فعل من إطلاقهم، فجمع جيشه ومراسله الحربية ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر، حينئذ خاف الإسرائيليون وأخذوا يتذمرون على موسى، فقال لهم: لا تخافوا إن الله معنا، قال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] على يقين، ثم أمر تعالى موسى فمد يده بعصاه إلى البحر الأحمر فانشق ماؤه وصار فيه طريقاً واسعاً، وأرسل الله ريحاً شرقية شديدة فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده بإذن الله على البحر فارتد ماؤه سريعاً وغمر فرعون وجنوده ومراكبه فغرقوا جميعاً، ثم طفت أجسادهم على وجه الماء وانقذفت إلى الساحل فشاهدها الإسرائيليون عياناً، هذا ملخص ما روي هنا.
قال الجشمي: تدل الآيات أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم في الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث والإعراض فعلهم، فلذلك عاقبهم عليهما.(65/17)
تفسير قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها)
قال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
قوله تعالى: ((وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون)) أي: بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة.
((مشارق الأرض ومغاربها)) أي: الأرض المقدسة أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا في أكنافها.
وقوله تعالى: ((التي باركنا فيها)) أي: بالخصب وسعة الأرزاق.
((وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل)) أي: مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين.
((بما صبروا)) أي: بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.
قال الزمخشري: وحسبك به حاثاً على الصبر، فمن قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج.
وعن الحسن قال: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله تعالى وتلا الآية، ومعنى خف: طاش جزعاً وقلة صبر ولم يرزن رزانة أولي الصبر.
((ودمرنا)) أي: خربنا وأهلكنا ((ما كان يصنع فرعون وقومه)) أي: ما كانوا يعملون من العمارات وبناء القصور، ((وما كانوا يعرِشون)): أو (وما كانوا يعرُشون) بكسر الراء وضمها، أي: من الجنات، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان.
وهذا كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28].
قال الزمخشري: اقتص الله من ملأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملك فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر، من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه {لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، جهول كنود إلا من عصمه الله {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة، فقال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:138 - 140].(65/18)
تفسير سورة الأعراف [138 - 155](66/1)
تفسير قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر)
قال عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138].
قال الزمخشري فيما مضى من الآيات التي انتهت بقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] قال: وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه باقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر، من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهراً وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي؛ ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه ((لظلوم كفار))، جهول كنود إلا من عصمه الله {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة من الكيد والتآمر والغدر والخيانة.
ثم شرع عز وجل في بيان سلوك بني إسرائيل مع نبيهم مع ما رأوه من قبل من آيات الله عز وجل العظام، وكيف أنهم سرعان ما بدلوا وغيروا! فبمجرد أن جاوز الله بهم البحر وقعوا في هذا الأمر العظيم.
وقوله تعالى: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)) يعني: نفس البحر الذي أغرق الله فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم، وهو ما يسمى الآن بالبحر الأحمر، كما يقول القاسمي كان في شرقي مصر قرب جبل الطور، أضيف إليه لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس، فالقلزم أصلاً هي اسم لمدينة السويس، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر فقد أخطأ، ولا شك أنه لا يصح أبداً تفسير البحر بأنه النيل، وإنما هو البحر الأحمر المعروف الآن بهذا الاسم.
وقوله: ((فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ)) قرئ: (يعكُفون)، وقرئ (يعكِفون)، بضم الكاف وكسرها، أي: يواظبون على عبادتها ويلازمونها.
وقوله: ((قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ))، أي: اجعل لنا صنماً نعكف عليه، كما لهم أصنام يعكفون عليها.
وقوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) أي: تجهلون شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله سبحانه وتعالى.
قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه: اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله سبحانه وتعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكل ذلك لشدة جهلهم.(66/2)
تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)
ثم قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139].
قوله: ((إن هؤلاء)) يعني: أن عبدة تلك التماثيل ((متبر ما هم فيه)) أي: مهلك ما هم فيه من الشرك، ((وباطل ما كانوا يعملون)) أي: من عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض.
قال الرازي: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي خلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب ألا تليق العبادة إلا به عز وجل.
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم)، أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي رحمه الله: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البر والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها.
يعني أن ذلك يعتبر أنموذجاً أو صورة من صور ذوات الأنواط التي ينبغي أن تقطع؛ قطعاً لذريعة الإشراك بالله عز وجل.
وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتابه (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد.
يعني: دهنها بالخلوق وبالطيب، كما يحصل الآن تماماً في بعض المقامات والأضرحة وغير ذلك؛ حيث يعطرون حجارتها بالعطور، ويعظمون هذه الأشياء، ويتمسحون بها، ومنها ما يزعمون أنها آثار كف النبي عليه الصلاة والسلام أو قدمه، كما في مسجد البدوي في طنطا، فإنه يوجد ركن معين يوجد فيه أثر قدم مطبوعة يزعمون أنها قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ولنفرض جدلاً أن هذا أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ماذا؟! هل يقتضي ذلك التعبد أو إرادة هذا الحجر من دون الله عز وجل والتمسح به وتخليقه وحث الناس على تعظيمه؟! وكذلك يقبلون المقصورات النحاسية أو الذهبية التي حول هذه القبور، وهذا كله ليس من دين الإسلام في شيء، بل هذا كله تشبه وإحياء لسنة بني إسرائيل مع هؤلاء القوم الذين قالوا لموسى: ((اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)).
يقول: وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه.
يعني: أنك تجد عامتهم يفعلون ذلك وأكثرهم ربما لا يصلون، ومتوقع أنهم لا يصلون؛ لأنه إذا كانت الصلاة ثاني أركان الإسلام فإن التوحيد أول أركان الإسلام، وهم لا يحسنون التوحيد، فإذا كانوا لم يصححوا عقيدتهم ولم يفهموا أصلاً معنى لا إله إلا الله، فهل أمثال هؤلاء يكونون مصلين؟! فكثيراً ما تجد هؤلاء لا يصلون، بل ربما يرتكبون أفحش الأشياء في هذه الموالد والاحتفالات، كتعاطي المخدرات، والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء! وتجد النساء يجلسن يتعاطين الشيشة في الخيام التي ينصبونها، وكل هذه الأشياء لا مناسبة ولا ربط لها بالدين؛ فما علاقة كل هذا بالإسلام وبالتوحيد وبالمساجد والعبادات؟! وإنما هؤلاء من أهل الفسق والفجور، وليسوا من أهل الذكر، بل هم من أهل الغفلة، ومجالسهم ليست ذكراً لله، ولكنها غفلة عن الله سبحانه وتعالى، وغفلة عن حقوق التوحيد.
يقول أبو شامة: فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر.
ثم شرح الإمام أبو شامة شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث! وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة، ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لـ ابن القيم فلتنظر.
والآن أيضاً ظهرت أشياء جديدة من نفس هذا الباب، كاتخاذ التمائم للوقاية من السحر ومن الحسد وغير ذلك من الشرور، لكن بصورة مزركشة أكثر، فبدل الكف الذي كانوا يصنعونها من قبل أصبحوا الآن يستعملون هذه الخرزات ذات اللون اللبني أو الأزرق، وهذه الحجارة أصبحت مشهورة تعلق في كل مكان، فتعلق في السيارات وفي العيادات وفي المنازل، وكأنها نوع من الزينة، وكثير منهم يقصدون بها دفع الشر، وحتى لو كتبوا عليها المعوذتين أو كتبوا القرآن إذا اتخذت لأجل دفع السوء فهذا نوع من اتخاذ التمائم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تعلق تميمة فقد أشرك، أو: فلا أتم الله له).
وكذلك يعلقون آية الكرسي سواء في السلاسل على الصدور كالنساء مثلاً، أو غير ذلك مما يتخذ من أجل أن هذه القماشة التي كتب عليها ذلك هي التي ستحفظه، فإن أردت أن تعتصم بالله عز وجل فارق نفسك أو أولادك أو بيتك أو الشيء الذي تريد رقيته بالرقية الشرعية، فكثير من هؤلاء الناس أصلاً لا يصلون ولا يوحدون الله، فكيف يقال: إن هذه المعوذات سوف تحميهم؟! فإذا أردت أن تتعوذ بالله عز وجل فاقرأ أنت المعوذات، واقرأ القرآن، وعليك أن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتتجه إلى الله عز وجل، لا إلى هذه الأحجار.(66/3)
تفسير قوله تعالى: (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين)
قال تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140].
أي: قال موسى مذكراً قومه نعم الله تعالى عليهم الموجبة لتصديقه تعالى بالعبادة: (أغير الله أبغيكم إلهاً)، أي: أغير الله أطلب لكم معبوداً؟ يقال: أبغاه الشيء: طلبه له، كبغاه إياه، ويتعدى إلى مفعولين، كما في قوله هنا: (أبغيكم إلهاً)، وفي الحديث: (ابغني أحجاراً أستطيب بها).
والاستفهام في الآية للإنكار والتعجيز والتوبيخ، فقوله: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) يعني: والحال أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وكل آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة ليست على إطلاقها، وإنما المقصود: فضلهم على العالمين في زمانهم فقط، وليس على الإطلاق؛ لأن الأمة المفضلة على العالمين أجمعين على الإطلاق هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(66/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)
قال تعالى: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف:141].
((وإذ أنجيناكم من آل فرعون)) أي: من فرعون وقومه، ((يسومونكم سوء العذاب)) أي: بالعمل الذي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه: كلفه إياه وجشمه وألزمه، أو أولاه إياه.
وقوله: ((يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)) أي: فنجاكم وحده دون شفاعة من أحد، وهذه الآية تدل على أن هلاك الأعداء نعمة من الله سبحانه وتعالى يجب مقابلتها بالشكر، وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس ويجري مجراه.(66/5)
تفسير قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)
ثم قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142].
روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر نزلوا في برية طور سيناء، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهراً ونصفاً، ولما نزلوا تلقاء الجبل صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه، ثم انحدر موسى عليه السلام إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضباباً وصوت رعود وبروقاً، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل، وكان مغطىً بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام، وأقام في الجبل أربعين يوماً لم يأكل ولم يشرب لما أمد به من القوة الروحانية والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه كان على وجهه أشعة نور مدهشة، حيث كان موسى عليه السلام إذا رجع من تكليم الله تعالى إياه كان يرجع وعلى وجهه نور مدهش، لا يقوى أحد أن ينظر إلى وجهه من شدة النور الذي على وجهه، يقول: ولما رجع إلى قومه كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعاً، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة رفعه وإذا أتاهم وضعه.
والله تعالى أعلم.
((وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ)) يعني حينما توجه للمناجاة: ((اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)) أي: كن خليفتي فيهم، ((وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)) يعني: لا تتبع سبيل من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.
قال الجشمي: تدل الآيات على أنه استخلف هارون عند خروجه لما رأى أنهم أشد طاعة له وأكثر قبولاً منه، ومخاطبة موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]، وقول هارون: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طه:94]، وقوله: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف:150] كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية وإن اشتركا في النبوة، يعني: أن هذا يدل على أن مرتبة موسى كانت أعلى من مرتبة هارون، كما هو واضح أن السياق كله هنا أنه استخلفه لما أراد أن يخرج إلى المناجاة، والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع؛ لأنه هو المعقول من الاستخلاف عند الغيبة.
وتدل الآية على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله؛ عظة له واعتباراً لغيره، وتأكيداً ومصلحة للجميع.(66/6)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
قوله: ((ولما جاء موسى لميقاتنا)) أي: حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا، ((وكلمه ربه)) أي: خاطبه من غير واسطة ملك.
((قَالَ رَبِّ أرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) أي: لن تطيق رؤيتي؛ لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية لا طاقة لها بذلك؛ لعدم استعدادها له، بل ما هو أكبر جرماً وأشد خلقاً وصلابة وهو الجبل، لا يثبت لذلك، بل يندك.
فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعلم موسى عليه السلام ذلك، فأولاً قال له: ((لن تراني))، ثم بين أن المقصود: لن تراني بهذه الهيئة التي أنت عليها، يعني: البنية الآدمية في هذه الحياة الدنيا، لأنها غير مؤهلة لرؤية الله عز وجل، ولا تطيق ذلك أبداً، فليس من شأن أهل الدنيا أن يروا الله تبارك وتعالى، وبين له في درس عملي أن الجبل الذي هو أقوى منك جرماً وحجماً وصلابة لا يثبت لرؤية الله سبحانه وتعالى ولتجليه عز وجل، فكيف يثبت الآدمي الضعيف؟! ولذلك قال له تعالى: ((لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ)) يعني: انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك.
((فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) يعني: إن ثبت مكانه حين أتجلى له ولم يتزلزل فسوف تراني، أي: سوف تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة لك، وفيه من التلطف بموسى والتكريم له والتنزل القدسي ما لا يخفى.
وقوله تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)) أي: ظهر له وبان، ((جَعَلَهُ دَكًّا))، يعني: جعله التجلي دكاً، أي: مفتتاً، فلم يستقر مكانه، فنبه تعالى على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بألا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى عليه السلام، وتطمين لموسى عليه السلام أن الذي منعني من التجلي لك هو أنك لا تطيق ذلك بهذه البنية التي أنت عليها الآن في الدنيا، وليس المانع من التجلي أن الرؤية مستحيلة، فرؤية الله ليست مستحيلة، لكن الله عز وجل لا يقوى أحد على رؤيته في هذه الدنيا.
((وخر)) أي: سقط ووقع ((موسى)) عليه السلام ((صعقاً)) أي: مغشياً عليه من هول ما رأى من اندكاك الجبل وانفعاله لرؤية الله سبحانه وتعالى له لما تجلى له، ((فَلَمَّا أَفَاقَ)) موسى عليه السلام، ((قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ)) من الإقدام على سؤال الرؤية، ((وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: أنا أول المؤمنين بأنه لا يستقر ولا يثبت لرؤيتك أحد فيه هذه النشأة الدنيوية.
قال الناصر في الانتصاف: إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله أن سبق في علم الله عز وجل أن الله قضى أنه لا يراه أحد، ولا يقوى أحد أن يراه في الدنيا.
وقوله: ((قال سبحانك)) يعني: لا مبدل لكلماتك ولا لعلمك بأنه لا يستطيع أحد أن يراك في الدنيا، وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب؛ لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرءاً من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل، وقد ورد: (سيئات المقربين حسنات الأبرار)، يعني: لا شك أنه كان الأولى في حق موسى ألا يسأل، أو يستأذن؛ لكنه لم يفعل ذلك، فكان عدم الاستئذان كأنه ذنب، ولذلك قال: ((تبت إليك)) يعني: لا أعود إلى سؤال الرؤية مرة ثانية.
وقوله: ((وأنا أول المؤمنين)) هل هو أول المؤمنين بالله؟
الجواب
لا؛ لأنه قد سبقه أنبياء آخرون كثيرون ومؤمنون من المسلمين، لكن المقصود: أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد في هذه الحياة الدنيا بهذه النشأة.(66/7)
وجه إثبات رؤية الله من قوله: (رب أرني أنظر إليك)
قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين: الوجه الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها؛ لأن العاقل فضلاً عن النبي لا يطلب المحال، ولا مجال إلى القول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة؛ فإن الجاهل بما لا يجوز على الله لا يصلح للنبوة، يعني: أن موسى عليه السلام كان يعلم أن رؤية الله ممكنة وليست مستحيلة، لكنه كان لا يعلم أن هذه الرؤية لا تكون في الدنيا إنما تكون في الآخرة.
الوجه الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه.
أي وإذا علق الشيء على أمر ممكن فهذا يدل على أنه ممكن، وإذا علق على أمر مستحيل فهذا يدل على أنه مستحيل، وأقرب مثل لذلك هو: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فعلق دخولهم الجنة على دخول الجمل في سم الخياط، سواء قلنا: إن المقصود هنا بالجمل: الحبل الضخم الذي يستعمل في السفن، أو الحيوان المعروف، فهو مستحيل، ومثله قولك: لن أفعل كذا حتى يبيض القار، مع أن القار لا يبيض! وكذلك: حتى يشيب الغراب، والغراب لا يشيب.
أما إذا علق على أمر ممكن فيدل على أنه ممكن، فعندما يقول مثلاً: سوف آتيك إذا طلعت الشمس، فهذا معناه: أنه يمكن أن يأتيك.
فالله سبحانه وتعالى علق الرؤية هنا على استقرار الجبل، واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه، والمعلق على الممكن ممكن؛ لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.(66/8)
الرد على الذين ينكرون رؤية الله عز وجل يوم القيامة
وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، وأن معنى قوله: ((أرني أنظر إليك)) أي: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً.
وبهذا وقع المعتزلة في إشكال؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطعنوا فيما ذكرناه آنفاً من أن النبي أعلم بالله من أن يسأله ما يستحيل عليه سبحانه وتعالى.
فالآية واضحة: ((رب أرني أنظر إليك))، لكنهم أولوا الآية كعادة أهل البدع والضلال حينما تصادم النصوص أهواءهم، فإذا كان حديثاً كذبوه، وإذا كانت آية أولوها وأفسدوا معانيها، وجعلوا أهواءهم هي الأصل، فلذلك قالوا في قوله: (رب أرني أنظر إليك): يعني: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً، وهذا التأويل خلاف ظاهر القرآن الكريم، فقوله: (رب أرني أنظر إليك) ظاهر، وانظر إلى كلمة: (أنظر إليك)، فهل هذه معناها: اجعلني أعلم بك علماً ضرورياً؟!
الجواب
لا؛ لأن النظر الموصول بـ (إلى) نص في الرؤية البصرية، فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروري بمن يخاطبه ويناجيه غير معقول.
وكذا يبطل زعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه، يعني: يوجد مخرج آخر أراد المعتزلة أن يخرجوا به من هذه الورطة، فقالوا: موسى كان يعلم أن رؤية الله سبحانه وتعالى مستحيلة، لكنه سأل الله عز وجل أن يراه، وليس المقصود أن يراه هو، لكن لأن قومه قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فهو سأل رؤية الله استجابة لطلب قومه، وأراد بذلك أن يعلم قومه أن الرؤية مستحيلة، فزعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه حيث قالوا: ((لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)) وهذا الزعم خلاف الظاهر، وهو تكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية.
وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وأما السنة فلا تحصى أحاديثها، ولكن إذا أصيب المرء بداء المكابرة في الحق الصراح عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة، وهذه آفة المعتزلة فإنهم يكذبون الأحاديث الواردة في الرؤية، ويؤولون الآيات التي تثبت الرؤية في الآخرة.(66/9)
الرد على الزمخشري المعتزلي في إنكاره لرؤية الله عز وجل يوم القيامة
قال في (فتح البيان): رؤيته تعالى في الآخرة ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه أباه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق؛ غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع! فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح انتهى.
ويقول القاسمي: وهذا تعريض بالمعتزلة،, في مقدمتهم الزمخشري، وقد انتقل -عفا الله عنه- أخيراً إلى هجاء أهل السنة، أي: أن الزمخشري من أئمة الاعتزال، ورغم اعترافنا بما للزمخشري من باع عظيم جداً في إظهار بلاغة القرآن وإعجاز القرآن الكريم اللغوي والبياني، لكن ما أكثر ما أطال لسانه في علماء أهل السنة! فقد هجاهم وتطاول عليهم تطاولاً قبيحاً، ومن ذلك أنه هجا أهل السنة والجماعة أهل الحق بقوله: لجماعة سموا هواهم سنة اعتبر أن كلمة (أهل السنة والجماعة) يعني: أهل الهوى.
لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة يصفهم -والعياذ بالله- بأنهم حمر.
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة ويعني بالبلكفة قولهم: (بلا كيف) وهذا هو ما يسميه علماء اللغة النحت، فمثلاً: بدل أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، تقول: البسملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة، وحي على الصلاة أو حي على الفلاح: الحيعلة، فهذا يسمى نحتاً، فهو يقول هنا في ذم أهل السنة والتطاول عليهم: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة يشببهم بالحمير التي عليها الإكاف الذي يوضع عليها.
وقوله: (قد شبهوه بخلقه) يزعم أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه، فهو يعني بزعمه أنهم لما أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة فكأنهم شبهوا الله بخلقه، والمعتزلة لهم ضلال مبين في فهم الأحاديث، والعوج هو في فهمهم هم وليس في النصوص؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتواتر -يعني: نقل بنفس الطريقة التي نقل بها القرآن-: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب أو القمر ليس دونه سحاب)، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سيرون الله سبحانه وتعالى كما يرون الشمس أو القمر ليس دونها سحاب، وهنا أركان التشبيه موجودة، لكن هل معنى هذا أن الحديث يشبه الله سبحانه وتعالى بالشمس أو بالقمر؟!
الجواب
لا، بل التشبيه للرؤية بالرؤية، وليس للمرئي بالمرئي، ووجه شبهه شدة وضوح الرؤية فقط، وليس معنى ذلك أنك تشبه المرئي هنا بالمرئي هنا، معاذ الله! فهذا مستحيل.
فلذلك أثبت أهل السنة الرؤية على أنها رؤية حقيقية، وتكون واضحة أشد الوضوح لا ريب فيها، لكن الله أعلم بكيفيتها، فأهل السنة قالوا: بلا كيف، وهذا شأن أهل السنة في سائر هذه الأشياء، والزمخشري يقول في أهل السنة: (قد شبهوه بخلقه)، أي: أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه، (وتخوفوا شنع الورى)، أي: وخافوا أن يشنع الناس عليهم بالتجسيم وبالتشبيه، فوضعوا ستاراً يستترون وراءه، وهو البلكفة، يقصد كلمة (بلا كيف)، فيذم أهل السنة بأنهم يسترون عقائد التجسيم والتشبيه وراء عبارة (بلا كيف)، هذا هو معنى قوله: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة قال في (الانتصاف): ولولا الاستنان بـ حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية: سلاماً.
ويعني بالعدلية: المعتزلة؛ لأنهم يسمون أنفسهم أهل العدل، أي: العدل في التوحيد، ويسمون أنفسهم بالناجين، أي: الذين هم أهل النجاة بضلالهم وانحرافهم.
فيقول: كان الأصل أن نقول لهم: سلاماً؛ يريد أن يصفهم بالجهل، والله سبحانه وتعالى مدح المؤمنين بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فيقول: الأصل أن مثل هذا الشخص المتطاول الذي يسب أهل السنة هذا السب الشنيع كان ينبغي أن نقول: سلاماً؛ لأنه جاهل.
ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم.
أي: أن حسان كان ينافح عن رسول الله، والإمام الناصر يقول: ونحن نرد أيضاً بالشعر على هذا المعتدي الظالم، وننافح عن أصحاب سنة رسول الله الذين هم أهل السنة والجماعة، فنقول: وجماعة كفروا برؤية ربهم حقاً ووعد الله لنا لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه فانتصر لأهل السنة بهذا الشعر الجميل.
وقوله: (وجماعة كفروا برؤية ربهم) يقصد به المعتزلة كـ الزمخشري وأمثاله.
وقوله: (ووعد الله لنا لن يخلفه)، يعني: أن الله وعد المؤمنين بالرؤية، والله لن يخلف وعده.
وقوله: (وتلقبوا عدلية)، أي: أنهم لقبوا أنفسهم أنهم أهل العدل، قوله: (قلنا: أجل)، أي: أنتم عدلية، لكن لا نسبة إلى العدل، وإنما نسبة إلى العدول عن الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (وتلقبوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه) يعني: أنهم إن لم يكونوا بالفعل دخلوا لظى فهم على شفها جهنم.
وقال أبو حيان في الرد على الزمخشري: شبهت جهلاً صدر أمة أحمد وذوي البصائر بالحمير الموكفه وجب الكفار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفه أترى الكليم أتى بجهل ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه إن الوجوه إليه ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم هذا سفه نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفه وتلاحظون أنهم يردون عليه بنفس الوزن وبنفس القافية، فيقول له هنا: (شبهت جهلاً صدر أمة أحمد).
أي: شبهت السلف الصالح وعلماء أهل السنة والجماعة بالحمير الموكفة.
وقوله: (وجب الكفار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفة) أي: تأمل في آية الأعراف، وهي هذه الآية التي نحن بصددها، ثم بين فقال: (أترى الكليم أتى بجهل ما أتى).
أي: هل الكليم عليه السلام كان يجهل ربه؟! وهل موسى ما كان يعرف ربه وهو نبي من أولي العزم من الرسل؟! فحينما قال: ((رب أرني أنظر إليك)) كان لا يعلم أن هذا مستحيل وأتى به، أو أنه أتى بذلك جهلاً؟! وقوله: (وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة)، يعني: هل شيوخك المعتزلة هم أصحاب العلم، وموسى عليه السلام كان جاهلاً بربه؟! وقوله: (إن الوجوه إليك ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم هذا سفه) يشير إلى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وقال العلامة الجاربردي أيضاً في الرد عليه قال: عجباً لقوم ظالمين تستروا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة قوله: (عجباً لقوم ظالمين تستروا بالعدل)، أي: أنهم يتسترون وراء العدل، وسموا أنفسهم بالعادلين، وهم في الحقيقة ظالمون.
وفي الحقيقة القصائد كثيرة جداً على نفس هذا السياق من علماء أهل السنة، وكلهم يردون على الزمخشري عدوانه وتطاوله، وكتاب (الانتصاف لبيان ما في الكشاف من الاعتزال) للإمام ناصر الدين أخذ بثأر أهل السنة، وتتبع الزمخشري في كل موضع تطاول فيه على علماء أهل السنة والجماعة.(66/10)
تفسير قوله تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس)
ثم ذكر الله تعالى أنه خاطب موسى باصطفائه، فقال سبحانه وتعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].
((قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس)) أي: اخترتك على أهل زمانك، وليس أيضاً على إطلاقه؛ فإن الذي اصطفي على الناس أجمعين، هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وآثرتك عليهم ((برسالاتي وبكلامي))، أي: وبتكليمي إياك.
((فخذ ما آتيتك))، أي: خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة، ((وكن من الشاكرين)) أي: على النعمة في ذلك.(66/11)
تفسير قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء)
ثم قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145].
((وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء))، يعني: من الحلال والحرام.
((فخذها بقوة)) أي: بعزم على العمل بما فيها، يعني: خذ الألواح وخذ الشريعة بقوة، كما قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، يعني: تمسكوا به، واعزموا على العمل بما فيه.
((وأمر قومك يأخذوا بأحسنها)) أي: يأخذوا بأحسنها الذي أمروا به دون ما نهوا عنه.
((سأريكم دار الفاسقين)) وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر، وبقائهم في البرية، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]؛ فإن موسى عليه السلام لما مات خلفه يوشع بن نون، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان، وفتح بلادهم، وصارت ملكاً لبني إسرائيل، والكنعانيون هم الفلسطينيون، فالعبرة في الانتماء في كل الأزمنة المختلفة في مثل هذه المواقع هي: من هم أهل الإيمان والتوحيد وأهل الإسلام، فمثلاً: في سورة البقرة قصة جالوت وطالوت، وداود عليه السلام، قال عز وجل: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251]، وجالوت كان من الفلسطينيين؛ لأنهم لم يكونوا على التوحيد، فكان الحق مع بني إسرائيل، وكذلك نحن في هذا الزمان؛ فلو بعث موسى عليه السلام فإنه سيكون مع المسلمين؛ لأنهم هم أهل العقيدة الصحيحة، ولو بعث سليمان عليه السلام فلن يسعى إلى إعادة بناء الهيكل؛ لأن بيت المقدس الآن هو مكان يعبد فيه الله سبحانه وتعالى، وسليمان إذا بعث سوف يكون تابعاً لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويدخل في دين الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، أي: ما كان يجوز له أبداً إلا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، بل عيسى عليه السلام حينما يأتي في آخر الزمان سيحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصلي خلف المهدي إماماً أول ما ينزل.
ولو بعث علي عليه السلام هل سيكون معنا أم مع الشيعة الذين يزعمون حبه والتشيع له؟
الجواب
قطعاً سيكون مع أهل السنة، فكذلك لو بعث موسى وعيسى وسليمان وجميع أنبياء بني إسرائيل سوف ينحازون إلى أهل التوحيد وأهل الإسلام، ويحاربون من يزعمون أنهم على ملتهم ظلماً وزوراً.
ويدل قوله: ((وكتبنا)) على أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، فموسى عليه السلام أعطي التوراة مرة واحدة مكتوبة في الألواح التي آتاها الله عز وجل لموسى؛ لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، وليقع لهم العلم ضرورة، وهذا يدل على أن في التوراة شرائع ما يحتاج إليه.
ويدل قوله: ((بقوة)) على أن العبد قادر على الفعل، وأنه يفعل بقدرة.(66/12)
تفسير قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق)
ثم قال عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمة الشريعة والأحكام عن قلوب المتكبرين عن طاعتي والمتكبرين على الناس؛ لأنهم كما استكبروا على خلق الله أذلهم الله بالجهل، فحرمهم من فهم آيات الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ((سأصرف)) يعني: سأمنع.
((عن آيتي)) أي: عن فهم وتدبر آياتي.
((الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق))، أي: ما داموا تكبروا بغير الحق في الأرض فسيعاقبهم الله سبحانه وتعالى بالجهل، وكفى بالجهل ذلاً! وهذا من باب مقابلة كبرهم.
وهذا كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وكقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
((بِغَيْرِ الْحَقِّ))، أي: يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل، أو (بغير الحق) حال، يعني: يتكبرون غير محقين.
وقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ)) أي: حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم.
((لا يُؤْمِنُوا بِهَا)) يعني: تكبراً عليها.
وقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ)) أي: حين يرون طريق الحق والهدى والاستقامة واضحاً ظاهراً.
((لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا))؛ لأنه يتنافى ويتعارض مع أهوائهم.
وقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ)) أي: الضلال عن الحق والهلاك.
((يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)) أي: طريقاً يميلون إليه، ((ذَلِكَ)) إشارة إلى الصرف عن الآيات، أو (ذلك) يعني: لاتخاذهم الغي سبيلاً، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ))، أي: لاهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها، أو غافلين عما ينزل بهم.(66/13)
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم)
ثم بين عز وجل وعيد المكذبين بقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:147].
((والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة)) يعني: القيامة، وهي الكرة الثانية، وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، و (الآخرة) صفة لمحذوف، ولقاء الدار الآخرة.
وقوله: ((حبطت أعمالهم)) أي: بطلت فلم تعقب نفعاً، والمراد: حبط جزاء أعمالهم؛ لأن الحابط إنما يصح في المنتظر دون ما تقضى، وهذا كقوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، يعني: يروا ثواب أعمالهم.
((هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)) أي: إلا جزاء عملهم من الكفر والمعاصي.
وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: ((سأصرف عن آياتي)) إلى آخره كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ} [الأعراف:100] إلى آخره، وإيراد قصة موسى وفرعون إنما هو للاعتبار، وإلا فالسياق أصلاً مع الكفار من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال الكعبي وأبو مسلم الأصبهاني: إن هذا الكلام كلام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم: إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا عن منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة.(66/14)
تفسير قوله تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار)
ثم قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148].
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلاً جسداً لا روح فيه، وقد احتال بإدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خوار، أي: صوت كصوت البقر، وقد أعلمه الله بذلك وهو على الطور؛ حيث قال إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85].
قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ قيل: ((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا)) والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم؛ لأن رجلاً منهم باشره، فوجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا، وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه؛ لأن الذي يقر على المنكر شريك فيه، كما نسب عقر الناقة إلى ثمود، مع أن الذي عقرها واحد منهم، بدليل قوله تعالى: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12].
الوجه الثاني: أن يراد أنهم اتخذوه إلهاً وعبدوه.
ثم قال: فإن قلت: لم قال: (من حليهم)، ولم يقل: الحلي لهم، وإنما كانت عواري في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها في أيديهم عواري كفى بها ملابسة، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59].
قال النسفي: وفيه دليل على أن من حلف ألا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث، وأن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها.
والحلي جمع حلية، كثدي وثدي، وهو: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة، كما قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من ناقص يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا إشارة إلى أن المرأة فيها نقص ظاهري في هيئتها، فهي تحاول تكميل هذا بالزينة، ولذلك أباح الله لهن الحرير والذهب والزينة.
وقوله تعالى: ((أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا))، هذا تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر والتفكر والتدبر، والمعنى: ألم يروا حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر، فهو جماد لا ينفع ولا يضر، يعني: أن العجل أحط من البشر؛ لأنه لا عقل عنده، ولا ينفع ولا يضر، فكيف يصلح أن يكون إلهاً؟! وقوله: ((اتَّخَذُوهُ)) هذا تكرير لتأكيد الذم، أي: اتخذوه إلهاً وعبدوه.
((وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها، والجملة إما استئنافية، وإما اعتراضية تذييلية للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم، أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم.
قال الجشمي: تدل الآية على صحة الحجاج على الدين، وأنه تعالى دلهم في بطلان اتخاذ العجل إلهاً بأنه لا يتكلم ولا يهدي، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفذ فيه الحيلة، ولا تنفذ في الكلام، وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى، وتدل على أن القوم كانوا جهالاً غير عارفين بحقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكاً لبني إسرائيل، لذلك قال: (حليهم)، فإن ثبت أنهم استعاروه فيدل على زوال ملكهم وانتقال الملك إلى بني إسرائيل، كما تملك أموال أهل الحرث، وتدل على أن الاتخاذ فعلهم.(66/15)
تفسير قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149].
قوله: ((ولما سقط في أيديهم)) يعني: ندموا على عبادة العجل.
((ورأوا أنهم قد ضلوا)) يعني: علموا وأيقنوا أنهم قد ضلوا، عن الهدى وعن الحق.
((قالوا لئن لم يرحمنا ربنا)) يعني: بقبول توبتنا.
((ويغفر لنا)) أي: ما قدمنا من عبادة العجل، ((لنكونن من الخاسرين)) أي: بالعقوبة، يعني: لنكونن من الخاسرين الذين خسروا أعمالهم وأعمارهم، يقال للنادم على ما فرط منه: قد سقط في يده، أو أسقط في يده.
قال الفراء: يقال: سقط في يده، وأسقط في يده من الندامة، و (سقط) أكثر وأجود.
ويكفي في ذلك أن القرآن الكريم آثرها: (ولما سقط في أيديهم) وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش.
قال الزمخشري: من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها، هذا أصل تعبير (سقط في يده)؛ لأنه يلزم من الندم الشديد أن يحصل العض على يده بفمه، فكأن فمه وقع وسقط في يده، فهذا العض مرتبط بالندامة، واستعير لأجل ذلك.
وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى في العين.
وقال الفارسي: (سقط في أيديهم) أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم.
أي: أن الإنسان إذا ندم قد يضرب كفاً على كف، فمعنى سقط في أيديهم: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذاً من السقوط.
وقال في (العباب): هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن -أي: هذا التعبير البليغ لم يستعمل قبل القرآن الكريم- ولا عرفته العرب، والأصل فيه: نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام: سقط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} [الكهف:42]، فقوله: (يقلب كفيه) فيه تعبير عن الندم والحسرة، فتقليب الكفين يعكس ما في القلب، وأنت إذا رأيت إنساناً يفعل ذلك فإنه يعكس لك الشعور الذي في قلبه ونفسه؛ لأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10]، ولا يشترط أن تكون المعصية ارتكبت باليد، يعني: الإنسان إذا أكل حراماً وعوقب عليه يقال له: ذلك بما قدمت يداك، وإذا استعمل أي جارحة أخرى غير اليدين في المعصية فإنه يقال كذلك، فتنسب إلى اليد؛ لأنها أعظم جارحة في البدن، وعلى هذا يكون سقط من السقاط وهو كثرة الخطأ، كما قال: كيف يرجون سقاطي بعدما لفع الرأس بياض وصلع وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضعه على يده معتمداً عليها، وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه، على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطاً فيها، لتمكن السقوط فيها، ويكون قوله: (سقط في أيديهم) يعني: سقط على أيديهم، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: عليها.
و (سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرئ: (سَقط في أيديهم) بالبناء للمعلوم يعني: سقط الندم أو العض أو الخسران، وكله تمثيل، وقرئ: (أُسقط) رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، كما قدمنا.(66/16)
تفسير قوله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً)
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150] ثم بين تبارك وتعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات، وكان قد أعلمه تبارك وتعالى بفتنة قومه فقال: ((وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا))، أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزيناً على ما فاته من مناجاة ربه، فاشتد غضبه لما رأى قومه قد عبدوا العجل واتخذوه إلهاً، وأما كونه كان أسفاً حزيناً فلأن هذا الذي حصل هو الذي أدى إلى أن يسرع إليهم، فإنه أسرع إليهم لما علم ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85] * {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86]، وكذلك قال هنا: ((وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا))، أي: غضبان لما قاموا به من عبادة العجل، أسفاً لأنهم تسببوا في قطع مناجاته لربه، فبدل أن يستمتع بالمناجاة مع الله سبحانه وتعالى تسببوا في قطع هذه المناجاة؛ لأنه تعجل الرجوع إليهم، فحزن على ما فاته من مناجاة ربه.
وقوله تعالى: ((قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي))، أي: بئسما عملتم خلفي أو قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي، والخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجود بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه، ويدل عليه قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف:142]، فكأن موسى عليه السلام أدخل هارون في ضمن من خاطبهم بقوله: ((بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي))، فالتقدير الأول هو: أن الخطاب لعبدة العجل، يعني: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى.
وقوله: ((أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)) أي: ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمام الأربعين يوماً، وكانوا استبطئوا نزوله من الجبل، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه وينضمون إليه، ففعلوا ذلك، وجعلوا يغنون ويرقصون، ويأكلون ويشربون، ويلعبون حوله، ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر.
والعياذ بالله! وقال أبو مسلم: (أعجلتم أمر ربكم) يعني: سبقتم أمر الله فعبدتم ما لم يأمركم به.
وقوله: ((وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ)) يعني: من شدة غضبه عليهم طرح الألواح، وهذه الآية تدل على المثل المعروف: ليس المخبر كالمعاين؛ لأن موسى عليه السلام كان معه الألواح عند أن أبلغه الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:85 - 86] حتى الآن كان خبراً، لكن لما عاين كان رد الفعل عند المعاينة أشد، ولذلك غضب هذا الغضب، وألقى الألواح، مع أنها كانت معه من قبل ولم يلقها.
وأيضاً نفس هذا المثل يستنبط من موضع آخر في القرآن، وذلك من قوله تبارك وتعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، فهذا لم يقع من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يطلع عليهم، لكن لو اطلع: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18].
وقوله: ((وألقى الألواح)) أي: طرحها من شدة الغضب وفرط الحزن بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها عليه السلام لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فتأمل نعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؛ كم نعمة أنعم الله عليهم بها! فقد أنجاهم من فرعون، وشق لهم البحر، ثم قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! ثم بعد ذلك هاهم الآن يعبدون العجل! فتخيل حال موسى حين يرجع فجأة ويرى قومه فرحين بعبادة العجل ملمين به عاكفين حوله! لذلك غضب وانفعل، واشتدت دهشته؛ حتى ألقى الألواح، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ودنا من محلتهم ورأى العجل ورقصهم حوله استشاط غضباً، فألقاها غضباً لله وحمية لدينه، ولم يكن غضب موسى عليه السلام هو غضب الشخص العصبي الحاد المزاج، وإنما كان غضباً لله، وغيرة على توحيد الله، وحمية لدين الله، وكان هو في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً، ولذلك كان محبباً إلى قومه.
وقوله: ((وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ)) أي: وأخذ بشعره، يجره إليه، ويمكن أن يفهم أيضاً أنه أخذ بما في الرأس؛ إما برأس الشعر أو رأس اللحية أيضاً؛ لأنه قال في الآية الأخرى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وهذا يدل على أن هارون كان ذا لحية عظيمة؛ بحيث إن موسى كان يمسكه منها، وأخذ برأس أخيه، ولذلك لما سئل بعض أهل العلم وقيل له: أريد دليلاً على وجوب إعفاء اللحية من القرآن الكريم، ففتح الله عليه بهذه الآية -وهو الشيخ محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله- إذ قال: إن قوله تعالى: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] يدل على أن هارون كان له لحية، ثم إذا رجعنا إلى سورة الأنعام نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر جملة من الأنبياء، وبعدما ذكرهم أمر نبيهم أن يقتدي بهم، فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
إذاً: رسولنا عليه الصلاة والسلام مأمور بالاقتداء بهؤلاء الأنبياء الذين من جملتهم هارون عليه السلام، وهارون كان ذا لحية عظيمة كما تدل الآية، ثم نحن مأمورون بالاقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم، وأمر القدوة أمر لأتباعه، كما قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] فالخطاب للنبي، لكن المقصود: أتباعه وأمته.
لكن يتوقف الأمر هنا على إثبات المشروعية، وهل يثبت الوجوب؟ ينبغي أن يثبت بدليل آخر أن إعفاء اللحية كان واجباً على هارون عليه السلام، وهذا له بحث آخر، لكن هذا من لطائف التفسير والاستنباط من القرآن الكريم.
وقوله: (وأخذ برأس أخيه) أي: بشعره، (يجره إليه) ظناً أن يكون هارون قصر في نهيهم عن عبادة العجل، كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:92 - 94]، وقال هاهنا: ((ابن أم)) بالفتح، ويقرأ أيضاً بالكسر: (يا ابن أم)، وأصلها: يا بن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم كي يرقق قلبه، وليذكره أنه أخوه، فالأم بالذات تكون أشد حناناً وعطفاً.
وقوله: ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي))، فهنا هارون عليه السلام أجاب بهذا الجواب إزاحة لتوهم التقصير في حقه؛ ليبين له أنه لم يكن مقصراً في نهيهم، لكنهم استضعفوه، وكادوا أن يقتلوه، والمعنى: بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي، أي: لما نهاهم عن عبادة العجل، فهنا بين أنه لم يقصر، وأنه فعل كل ما عليه، وأنهم استضعفوه وقهروه حتى كادوا أن يقتلوه عليه السلام.
وقوله: ((فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ))، يعني: بالإساءة إلي، فأنت إذا أسأت إلي سوف تشمت بي الأعداء، والشماتة: سرور الأعداء بما يصيب المرء، ومن أشد الأشياء على النفس شماتة الأعداء، كما يقول الشاعر: كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الأعداء ويكفي أن نبياً من الأنبياء هنا يحذر شماتة الأعداء.
((وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) أي: في عقوبتك لي، لا تجعلني في عدادهم، أو لا تجعل أحداً يعتقد منهم أني مقصر مع براءتي وعدم تقصيري.
وتدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون: (استضعفوني)، وتدل الآية على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين، فالله سبحانه وتعالى يحب الغيرة والحمية والغضب لدينه ولحرماته عز وجل.(66/17)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين)
ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151].
أي: قال موسى عليه السلام متضرعاً إلى ربه استنزالاً لرحمته وتعوذاً بمغفرته من سخطه، ولا يخفى اقتضاء المقام ذلك: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)).
لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء قال: ((رب اغفر لي ولأخي))؛ ليرضي أخاه؛ لأنه تبين له أن هارون لم يقصر، فلذلك استغفر لأخيه هارون؛ وليظهر لأهل الشماتة رضاه عن أخيه هارون، فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، فدعا أن يغفر له ما فعل مع أخيه من جذب رأسه وشدته عليه، وأن يعفو لأخيه؛ لأنه قد يكون فرط في حسن الخلافة.
وطلب ألا يتفرقا عن رحمته فقال: ((وأدخلنا)) مجتمعين غير متفرقين، ((في رحمتك)) ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة، عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.(66/18)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم)
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152].
يعني: من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه، وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري)، فبقدر مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام يصيب الإنسان ذل وصغار، فكلما خالفت هديه وقع عليك من الذل ما يوافق حجم هذه المخالفة التي ارتكبتها، فمن خالف أمره بالكفر فيكون حظه من الذل أعظم، وهكذا.
قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين.
وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: (وكذلك نجزي المفترين) فقال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة.
وقوله: ((كذلك)) معناه أنها ليست خاصة بهم.
وقوله: ((إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا))، بين تعالى أن هذه سنة مطردة من سنن الله: ((وكذلك نجزي المفترين))، فإن كل من افترى على الله، وكل من ابتدع في دين الله عز وجل لابد أن يعاقب بهذه المذلة، ولذلك قال سفيان بن عيينة: ليس من صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، وتلا: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، فقيل له: هذه في بني إسرائيل أصحاب العجل، فرد عليهم بقوله تعالى: ((وكذلك نجزي المفترين)).
فقوله: (وكذلك) إشارة إلى تعميم هذه العاقبة لكل من افترى على الله الكذب وابتدع في دين الله سبحانه وتعالى، وهذا كما قال عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:87 - 88]، ثم قال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، ففي هذا إشارة إلى أن من فعل مثلما فعل موسى ودعا بدعاء يونس عليه السلام فإن الله ينجيه؛ لأنه سبحانه قال: ((وكذلك ننجي المؤمنين)).(66/19)
تفسير قوله عز وجل: (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:153].
ثم قال عز وجل: ((وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا)) يعني: إلى الله ((آمَنُوا)) أي: أخلصوا الإيمان، ((إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) أي: محاء لذنوبهم، منعم عليهم بالجنة.(66/20)
تفسير قوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154].
((ولما سكت عن موسى الغضب)) يعني: لما سكن عن موسى الغضب ((أخذ الألواح)) التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت، ((وفي نسختها)) يعني: فيما نسخ منها أو كتب، والنسخة فعلة، بمعنى مفعول، كالخطبة بمعنى مخطوب.
وقوله: ((وفي نسختها هدى ورحمة)) يعني: بالشرائع والوصايا الدينية الربانية المرشدة لما فيه الخير والصلاح، ((للذين هم لربهم يرهبون)) أي: يخشون، قال أبو السعود: في هذا النظم الكريم من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلة الآمر بذلك المغري عليه بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت ما لا يخفى.
يعني: أنه تعبير في قمة البلاغة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يبين شدة تمكن الغضب من موسى عليه السلام شبه الغضب بإنسان يحرض موسى على ما صدر منه من الفعل بإلقاء الألواح، ومن القول باشتداده على أخيه هارون عليه السلام، فكأن هناك رجلاً اسمه الغضب كان هو الذي يغريه لأن يفعل ذلك، فلما سكت وتوقف الغضب عن هذا الإغراء حينئذٍ أخذ موسى الألواح.
وأصل هذا الكلام للزمخشري حيث قال: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك.
يعني: أن كل إنسان عنده تذوق بلاغي يستطيع أن يتذوق عظمة القرآن وبلاغته يستعظم ويقدر هذا التعبير في القرآن الكريم: ((ولما سكت عن موسى الغضب))، أي: لم يقع في قلبه التعظيم لهذه البلاغة العظيمة ولم يستفحصها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لأنه فهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى بين مثل الغضب كأنه إنسان يغري موسى عليه السلام ويأمره، ويقول له: قل لقومك كذا، ألق الألواح، جر برأس أخيك إليك، فسكت الغضب بعد ذلك وحينئذٍ أخذ موسى الألواح وفي نسختها إلى آخره.
وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي: من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكأن الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، كما تقول: خرق الثوبُ المسمارَ، قال في (الانتصاف): والتحقيق أنه ليس منه.
وقوله: ((ولما سكت عن موسى الغضبُ)) بالرفع؛ لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكناً من موسى، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره، وقرئت: (سكن) و (سكت) و (أسكت) أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه.
واللام في ((للذين)) متعلق بمحذوف صفة لرحمة، أي: كائنة لهم، أو هي لام لأجل، أي: هدىً ورحمة لأجلهم.
واللام في ((لربهم)) لتقوية عمل الفعل المؤخر، كما في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]؛ فلما أخر الفعل قوى كلمة الرؤيا باللام، وأصلها: إن كنتم تعبرون الرؤيا، فلما أخر الفعل أضاف اللام لتقوية عمل الفعل المؤخر، فقال: ((إن كنتم للرؤيا تعبرون))، كذلك هنا قال عز وجل: ((وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ))، وأصلها: للذين هم يرهبون ربهم، فلما أخر الفعل قوى عمل الفعل المؤخر بإضافة اللام إلى قوله: (لربهم يرهبون)، أي: يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء ولا للسمعة.(66/21)
تفسير قوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا)
ثم قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} [الأعراف:155].
روى محمد بن إسحاق: أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، توبوا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقت له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا.
فهم ذهبوا من أجل أن يتوبوا، ثم أيضاً يطلبون هذا الطلب: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، نريد أن نسمع كلام ربنا سبحانه وتعالى، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، يعني: شيء كالسحاب كان يغطي الجبل بمجرد دخول موسى إلى الجبل، ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا في سجود فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا لموسى: ((لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)) فأخذتهم الصاعقة، وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد، فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: ((رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي)) يعني: أتهلك من ورائي من بني إسرائيل، وفي رواية السدي: فقام موسى يبكي ويقول: يا رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ وقال ابن إسحاق: اخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر أرجع إليهم وليس معي رجل منهم واحد؟ ماذا أقول لبني إسرائيل؟ فما الذي يصدقونني أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، يعني: قبل أن يأتوا معي للقاء الله سبحانه وتعالى، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني بأني تسببت في موتهم.
وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم.
قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر -والله تعالى أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم مع ما فعلوه، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل -يعني: من عفوك ومغفرتك- وهذا كمن واخذه بسيده بجرم، فيقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، فعلت من قبل ما هو أعظم من هذا الذنب ومع ذلك سامحتني، ولكن وسعني عفوك أولاً فليسعني اليوم.
ثم قال نبي الله: ((أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)) هذا استفهام على معنى الجحد، يعني: أنت لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا هم عبدة العجل.
قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) من عبادة العجل، وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153].
وفي معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي: ثم أحيوا.
وقال وهب بن منبه: لم تكن الرجفة موتاً، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة فرجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم، فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمئنوا وسمعوا كلام الله.
والله تعالى أعلم.
وقوله: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ)) يعني: ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك لعبادك، فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لا يمتحن به ويختبر إلا أنت، فنحن عائذون بك منك، ولاجئون منك إليك.
وقوله: (وتهدي من تشاء) قال الواحدي: هذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر، يشير إلى قوله تعالى: ((إن هي إلا فتنتك تضل من تشاء وتهدي من تشاء)).
وقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا)) أي: أنت متولي أمورنا القائم بها.
ثم ختم بقوله: ((فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)).(66/22)
تفسير سورة الأعراف [156 - 159](67/1)
تفسير قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة)
قال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156].
قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) أي: أسس لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة والتوفيق للطاعة، (وفي الآخرة) أي: حسنة أيضاً، وهي: المثوبة الحسنى والجنة، (إنا هدنا إليك) أي: تبنا إليك، يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد، ولبعضهم: يا راكب الذنب هد هد واسجد كأنك هدهد فقوله: (يا راكب الذنب هد) يعني: ارجع وتب، (هد) كرر الفعل للتأكيد.
وقوله: (واسجد كأنك هدهد) الهدهد: الطائر المعروف.
وقال آخر: إني امرؤ مما جنيت هائد يعني: راجع وتائب.
قال أبو البقاء: المشهور ضم الهاء، يعني: (هُدنا إليك)، وهو على هذا من (هاد يهود) إذا تاب، وقرئ بكسرها، يعني: (إنا هِدنا إليك)، من (هاد يهيد) إذا تحرك أو حرك، وعلى هذا فقوله تعالى: (إنا هدنا إليك) يعني: إنا حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين: (هُدنا) و (هِدنا) يحتمل الوجهين: البناء للفاعل وللمفعول، فقوله: (إنا هدنا إليك) يحتمل أنها بمعنى: إنا ملنا إليك، أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، فعلى القراءتين تحتمل البناء للمفعول والبناء للفاعل؛ وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، فاتحاد الصيغة (هُدنا) و (هِدنا) تصلح في البناء للمعلوم والمجهول، وكذلك يصح المعنى وإن اختلف التقدير.
وقوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلام، وكأنه قيل: هذا دعاء موسى وقومه؛ لأنه قد قال موسى في الدعاء: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك)، فكأن سائلاً سأل وقال: فماذا قال تبارك وتعالى في جواب دعاء موسى؟ فقيل: قال: (عذابي أصيب به من أشاء)، أي: من أشاء تعذيبه من العصاة.
وقوله: (ورحمتي وسعت كل شيء)، تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان والجنة، كما قال تعالى: (يدخل من يشاء في رحمته)، يعني: في جنته، فتطلق الرحمة على الجنة، ولعلها هي المرادة هنا: والمعنى: جنتي وسعت كل شيء؛ بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما جاءت المقابلة أيضاً في قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31].
والله تعالى أعلم.
وقوله: (فسأكتبها)، أي: هذه الرحمة، (للذين يتقون) أي: يتقون الكفر والشرك والمعاصي، (ويؤتون الزكاة) أي: يعطون زكاة أموالهم، (والذين هم بآياتنا) يعني: بكتابنا ورسولنا (يؤمنون) أي: يصدقون.
قال الجشمي: تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص؛ لأنه قرن التوبة والرجوع بقولهم: (إنا هدنا إليك).
قرنوه بالدعاء، وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل فقال تبارك وتعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها) أي: هذه الرحمة إلى آخره، وكما قال تبارك وتعالى من قبل في أوائل السورة: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، فهي لهم في الحياة الدنيا، لكن يشاركهم فيها الكافرون، وأما يوم القيامة فستكون: خالصة للمؤمنين دون أن يشاركهم فيها المشركون كما كان الحال في الدنيا، ومن تأمل هذا السؤال والجواب عرف عظيم محل هذا البيان؛ لأنه عليه السلام سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها.
وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قول المرجئة؛ لأنه قال: (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ولم يقتصر على التصديق حتى أضاف إليه العمل، فهذا يبطل قول المرجئة في زعمهم أن الإيمان مجرد المعرفة ولا يدخل في مسماه العمل.(67/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
ثم أبدل تبارك وتعالى من الموصول الأول هذا الموصول أيضاً فقال: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ))، فالذين بدل كل من الموصول الأول، وهو منصوب على المدح أو مرفوع عليه، يعني: أعني الذين، أو هم الذين.
وقوله: (يتبعون الرسول) أي: الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم.
(النبي) يعني: لم الذي نبئ بأكمل الاعتقادات والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي.
(الأمي) يعني: لم يحصل علماً من بشر.
(الذي يجدونه مكتوباً) أي: باسمه: محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا نعته، ففي التوراة والإنجيل إما التصريح بأسماء الرسول عليه الصلاة والسلام، كمحمد وأحمد، أو بصفته ونعوته، (عندهم) زيد هذا لزيادة التقرير والتأكيد، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلاً، يعني: أن أي يهودي أو نصراني عنده وبين يديه هذا الكتاب الذي يقدسه فعنده صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو اسمه في كتابه، ولكن التحريف والتبديل أدى إلى عدم وجود لفظ صريح باسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كانت صفاته ما زالت حتى هذه اللحظة موجودة بين أيديهم رغم باعهم الواسع العظيم في التحريف والحذف والتبديل، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ))، وأعرف المعروف: الإيمان بالله ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، وجميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع.
وقوله: ((وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ))، أي: الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق؛ لأن العقل والشرع ينكرانه.
وقوله: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)) يعني: التي حرمت عليهم لمعاصيهم، كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161]، فعقوبة لهذه المعاصي حرمت عليهم أشياء كانت حلالاً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
فقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) يعني: التي كانت قد حرمت عليهم عقوبة لهم من قبل في كتبهم.
وقوله: ((وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)) أي: التي كانوا يتناولونها، كالخنزير والميتة والدم، وهذا في باب المأكولات، أما في باب التكاليف فقال: ((وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)).
والإصر هو: الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة، فهناك شرائع شاقة وعسيرة أيضاً كانت عليهم، والأغلال جمع غل، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، أي: العهود الحرجة والمواثيق الشديدة.
والمقصود من قوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم): أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء يخفف عنهم ما كلفوه من هذه الشرائع الحرجة والشديدة، وهذا في باب العبادات.
وقوله: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)) أي: بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَعَزَّرُوهُ)) يعني: عظموه ووقروه ((وَنَصَرُوهُ)) أي: على أعدائه في الدين فمنعوه منهم، ((وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ)) وهو القرآن الكريم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه.
ومعنى (أنزل معه) أنزل مع نبوته؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به؛ فكما نزل الوحي بالقرآن نزل أيضاً بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا أول تفسير لمعنى قوله: (واتبعوا النور الذي أنزل معه) يعني: أن النور هو القرآن الذي أنزل مع نبوته؛ لأن القرآن اقترن بتنبيئه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: (معه) تتعلق بـ (اتبعوا) القرآن المنزل مع اتباع النبي؛ لأن الآية فيها: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ))، أي: اتبعوا النور (القرآن) مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هنا إشارة إلى العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمراً بالعمل بالكتاب والسنة.
أو: هو حال، يعني: اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه، وفي التعبير عن القرآن بالنور إنباء عن كونه ظاهراً بنفسه لإعجازه، ومظهراً لغيره من الأحكام لمناسبة الاتباع.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة.(67/3)
الرحمة تخص المؤمنين دون غيرهم
وهنا تنبيهات: الأول: يقول القاسمي: يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] إلى آخره، أن هذا جواب لموسى عليه السلام؛ وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، وطلب أيضاً حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب: أولاً: أن ذلك لا يحصل لقومه كلهم براً أو فاجراً؛ لما سبق من تقدير الله سبحانه وتعالى العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلاً، ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا: (قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء) وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة هو من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم.
وثانيها: أنه لا يستأهل كتابة الحسنتين: في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إلا المتقون المؤمنون بالآيات، المتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذه الشرائط كتب له ذلك، ولا يقال على هذا: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنكم لو تأملتم هذه الآيات، لوجدتم أنها عبارة عن دعاء من موسى عليه السلام لقومه.
ثم أتى الجواب يكشف لنا عظمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هذا الحوار والإجابة جاءت قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بمئات السنين، فانظر كيف عظم الله عز وجل قدره، ونوه به فيما أوحاه إلى موسى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]؟ ثم استطرد عز وجل في وصف هؤلاء المؤمنين فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، فلا يقال: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ فإنا نقول: الاتباع أعم؛ هناك اتباع بالقوة، وهو: الإيمان به عليه الصلاة والسلام إجمالاً، فكل من تقدم على زمن بعثته، يجب عليهم أن يؤمنوا به إيماناً مجملاً، وأن يصدقوا بأخباره التي وردت على ألسنة رسلهم تبشيراً به صلى الله عليه وسلم، فهناك اتباع بالفعل، وهو اتباع فعلي وحقيقي وليس بمجرد القول، وهذا لمن لحق زمان بعثته صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية الكريمة تثبت أن موسى عليه السلام بشر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم بشأنه؛ لأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه، وذلك في قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون)، فذكر صفات هؤلاء الذي يستحقون الرحمة، ومن صفتهم الأساسية أنهم يؤمنون بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم.
وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهي إلى قوله تعالى: (والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ثم استأنف تبارك وتعالى بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) إلى آخره، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المذكور.
ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقاً، وعليه فيكون قوله: (الذين يتبعون) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: (أولئك هم المفلحون)، وتكون القصة تدعو بني إسرائيل بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي كانوا هم المفلحين.
وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم، وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين ما لا يخفى.(67/4)
إطلاق الرحمة على العطف والمغفرة والإحسان
التنبيه الثاني: أن الرحمة تطلق على العطف والمغفرة والإحسان، يقول القاسمي: وعندي أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة كما قال عز وجل: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:31] يعني: الجنة، بدليل أنه قابلها بقوله: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا: (ورحمتي وسعت كل شيء) بمعنى: الجنة، بدليل أنه قابلها أيضاً بالعذاب، فقال: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي) يعني: الجنة.
وقال أبو منصور: ما من أحد مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعايشون ويؤاخون ويوادون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، وذلك قوله: (فسأكتبها للذين يتقون) يعني: يتقون معصية الله وخلاف أمره عز وجل، (ويؤتون الزكاة)، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]، جعل طيبات الدنيا مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها، فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة.
والله تعالى أعلم.
ويحتمل أيضاً في قوله عز وجل: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته، ومع أن الزكاة تدخل في التقوى (الذين يتقون) لكنه أفردها: لعلوها وشرفها؛ فإنها عنوان الهداية؛ ولأنها كانت أشق عليهم فذكرها لئلا يفرطوا فيها.(67/5)
وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي
أما وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ فهذا أمر مقرر مشهور، ولا شك أن هذا من أعظم علامات الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل كتب النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أم لا؟ الراجح: أنه لم يكتب قطعاً؛ لأن قوله: (فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوضحه في الرواية الأخرى: (فأمر علياً فتكب)؛ لأن علياً هو الذي كتب، كما يقال: كتب السلطان إلى الولاة يأمرهم بكذا وكذا، مع أنه يكون له كاتب يكتب، لكن هو الذي أمر بذلك، فيصح أن ينسب إليه.
وقوله تعالى: (الأمي) نسبة إلى أمة العرب؛ لأن الغالب عليهم أنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، كما جاء في الحديث: (إنا أمة أمية؛ لا نكتب، ولا نحسب)، وطبعاً لا يقصد بقوله: (إنا أمة أمية) الدعوة إلى الأمية، أو تحبيب الأمية، وإنما المقصود: أن شريعتنا شريعة سهلة ميسورة لكل الناس ابتداءً من الأمي الذي لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب؛ حيث إنه يستطيع أن يقيم شعائر هذا الدين عن طريق معرفة العلامات الظاهرة، فمثلاً: في مواقيت الصلاة ودخول الشهر العربي لمعرفة الصيام أو الحج وغير ذلك من المواقيت، فيعتبر فيها ما هو معهود عند الأميين، ولا يخاطب طبقة خاصة من المؤهلين بالنظر في الفلك والحسابات والجداول، لأن شريعتنا شريعة أمية سهلة تخاطب بما هو معروف ومعهود عند الأميين، فالإشارة هنا إلى لطافة الشريعة وسهولتها.
وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك.
وقيل: الأمي ينسب إلى أمه؛ لأن العلم أمر مكتسب، فعلم القراءة والكتابة وغيرها من العلوم المكتسبة، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، فإذا بقي الإنسان على أصل الخلقة التي خرج بها من بطن أمه فإنه ينسب إلى أمه، يعني: أنه بقي على الحالة التي خرج بها من بطن أمه لم يكتسب علماً، فيوصف بأنه أمي، فإذا تعلم خرج عن هذه الحالة، وإذا بقي عليها من حيث القراءة والكتابة وصف بأنه أمي.
وطبعاً لا يعني كون الإنسان أمياً لا يقرأ ولا يكتب أنه ليس بعالم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم آتاه الله علماً عظيماً، فعلم الأمم بأكملها، وتحدى العرب الفصحاء البلغاء، ووصف الأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم مدح له عليه الصلاة والسلام.
وقيل: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي منسوب إلى الأم، بمعنى: القصد، كما في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، ويؤيده قراءة يعقوب: (الذين يتبعون الرسول النبي الأَمي)، من القصد؛ لأنه مقصود.
ووصف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي تنبيهاً على أن كمال علمه مع كونه أمياً هو إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب؛ لأنها معجزة له، كما قال البوصير ي: كفاك بالعلم في الأمي معجزة فكما أن صفة التكبر لله ممدوحة وفي غيره مذمومة، فصفة الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام مدح له؛ لأنها من كبريات معجزاته، فمع كونه أمياً إلا أنه أوتي هذا العلم من عند الله سبحانه وتعالى، وأما في حق غيره فقد تذم تماماً.
وأما قوله تبارك وتعالى: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) إلى آخر الآية، ففيه إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة): إن لله تعالى عوناً على أوامره وإغناءً عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، أي: أن الأنبياء حينما يأتي أحدهم ويدعي النبوة فإن الله سبحانه وتعالى يسهل لهم هذا الأمر؛ لأنهم إذا خرجوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان بنبوتهم يكون قد سبق ذلك نوع من الإرهاصات والبشارات السابقة التي تسهل وتؤسس لهم بناء النبوة، حتى قبل أن يبعثوا.
يقول: فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة بما تقدمه من بشائرها، وتبديه من أعلامها وشعائرها؛ ليكون السابق مبشراً ونذيراً، واللاحق مصدقاً وظهيراً، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله على غيبه؛ ليكون عوناً للرسول وحثاً على القبول، فمنهم من عينه باسمه صلى الله عليه وسلم، ومنهم -أي: الأنبياء السابقين- من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال ويقيناً بعد الارتياب ثم سرد المارودي البشائر من نصوص كتبهم.(67/6)
الأمور التي يستدل بها على صحة النبوة
وقد سبق من قبل أن بينا الاستدلال على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن الاستدلال على صحة النبوة يقوم على أمور خمسة: الأمر الأول: الصفات الشخصية لصاحب الرسالة؛ فإن الأنبياء لهم صفات لا يشركهم فيها غيرهم من البشر، فهناك صفات خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، تتعلق بنسبهم وبملامحهم الخلقية: قوة البدن، وسلامة الحواس، وجمال الصورة، وشرف النسب وغير ذلك من الصفات التي يختص بها الأنبياء، لذلك لما سمع عبد الله بن سلام -وكان كبير اليهود وعالمهم الأكبر في المدينة- بوصول النبي صلى الله عليه وسلم أسرع إليه، فماذا كان تعليقه أول ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب)، عليه الصلاة والسلام، كما قال بعض الشعراء: كانت بديهته تأتيك بالخبر أي: حتى لو لم يكن معه من الآيات سوى شكله فإن من يراه يعرف أن هذا لا يمكن أن يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل لابد أن يكون صادقاً فيما يقول عليه الصلاة والسلام.
فصفات الأنبياء البدنية والخلقية والخلقية ونسبهم وملامحهم وتكوين أجسادهم تكون في أكمل الحالات في كل هذه الخصال.
الأمر الثاني: الآثار؛ لأن الأنبياء يتركون بصمات وآثاراً في الدنيا لا تشتبه بآثار غيرهم من المصلحين؛ فالأنبياء حينما يوجدون في أمة من الأمم أو في عصر من العصور يتركون من الآثار ما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أيدهم ونصرهم، وأي عاقل لا يمكن أن يتصور أن يكون رسول كمحمد عليه الصلاة والسلام يمكنه الله سبحانه وتعالى هذا التمكين، وينشر دينه في الآفاق، ويظهر في كل الأزمان والأعصار بهذه الصورة، ثم يكون مع ذلك كاذباً، بل سنة الله سبحانه وتعالى أنه يفضح كل من ادعى النبوة كاذباً، ويجعلهم آية لمن يعتبر، كما فعل بغلام أحمد القادياني وبـ مسيلمة الكذاب وغير هؤلاء من المتنبئين، فلا بد أن يظهر الله فضيحتهم، وهذه سنة من الله ماضية؛ حتى لا يلتبس الحق بالباطل، فـ مسيلمة تسمى برحمان اليمامة، وادعى النبوة، وسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بصق في بئر ففاض ماؤها، وبورك في مائها، فذهب هو إلى بئر فبصق فيها فغار ماؤها، فهذه لا تسمى كرامة، إنما تسمى إهانة، وهي خرق للعادة، لكن يقصد بها إهانته، وكذلك لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على رأس الغلمان ذهب ليمسح على شعر صبي فسقط الشعر من على رأسه، حتى لما حاولوا أن يستجيبوا للتحدي ويأتوا بقرآن مثل القرآن ما استطاعوا أن يتخلصوا من أسر القرآن، وما استطاع أحد أن يبتكر أسلوباً جديداً، لكن كان دائماً يحاول أن يحاكي القرآن، فكان يأتي بأمور مضحكة، كقوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين! إلى آخر هذه الكلمات المعروفة التي يضحك منها العقلاء إذا سمعوها، فجعلهم الله ضحكة للعقلاء.
وغلام أحمد القادياني أهانه الله سبحانه وتعالى في آخر لحظات حياته، وأظهر كذبه فيما كان يدعيه من أنه لن يموت إلا بعد كذا وكذا من السنوات إلى آخره، فالسنة ماضية من الله تعالى أنه لا يمكن أن يلتبس المحق بالمبطل والصادق بالكاذب.
فمن صفات صاحب الرسالة: الآثار التي يتركها في الأرض، وبالذات نحن المسلمين لا يوجد أبداً نبي أيد بهذه الصفة مثلما أيد نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: انظر في آثار النبي عليه الصلاة والسلام في الصحابة الذين تربوا على يديه مباشرة رضي الله تعالى عنهم، وانظر كيف كانوا رجالاً ونساءً بل صبياناً وأطفالاً، فقد كانوا جبالاً تمشي على الأرض أو بحاراً من العلم تمشي على الأرض، والرجل الواحد منهم صار أمة في ذاته في كل أبواب الخير، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا عمالقة وجبالاً، ثم تأمل في التابعين وتابعي التابعين، وتأمل في سير الصالحين والحكام العادلين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، وتأمل أخبار العباد والصالحين، وكل هذا ما هو إلا من آثار بعثته صلى الله عليه وسلم.
وتأمل العدل مع الخصوم، وانظر إلى المسلمين لما سادوا العالم كيف رفقوا بالأمم ورحموها، وأحسنوا إلى الناس، واتقوا الله سبحانه وتعالى فيهم، وكل هذه المحاسن التي هي محاسن الإسلام في الناحية العملية التطبيقية والعملية النظرية كلها من آثار بعثته الشريفة صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث الذي يستدل به على نبوة النبي: المعجزات التي أيده الله بها.
الأمر الرابع: البشارات، والبشارات هي إخبار الأنبياء السابقين ببعثة من يأتي بعدهم.
الأمر الخامس: النبوءات، وهي: الإخبار عن أشياء تقع في المستقبل ثم تقع تماماً كما أخبر، وهذا مما عندنا فيه مئات من البشارات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مقطوع بها، فوقعت كما أخبر، وما لم يقع حتى الآن سوف يقع بإذن الله، كما قال عز وجل: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].(67/7)
البشارات في الكتب السابقة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم
والذي يناسب تفسير هذه الآية الكريمة هنا قصر الكلام على البشارات التي وقعت في الكتب السابقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول صاحب كتاب (إظهار الحق): إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم توجد كثيراً إلى الآن أيضاً، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولاً طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر، ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات وقابلها بالإخبارات التي نقلها بإنجيله أو في حق عيسى عليه السلام جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة.
وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشر به الأنبياء السابقون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفاً رفع كل احتمال؛ حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته، غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه -يعني: من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعاً، أي: أنهم لما رأوا المسلمين يستدلون على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام بوجود اسمه في كتبهم هربوا من ذلك بأن حذفوا هذه البشارات، ولكن لم يجدهم ذلك الحذف نفعاً؛ لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة، وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف، لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات؛ ليبعد صدقها على النبي صلى الله عليه وسلم، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع اختلافاً لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليه؛ لانتشار النسخ بالطبع وتيسر المقابلة بينها، فالآن اتضح القول جداً جداً في إثبات التحريفات المقررة بين نسخ كتبهم التي يسمونها بالمقدسة، وها نحن نورد شذرة من البشائر:(67/8)
البشارة بمحمد في سفر التكوين
فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر، هكذا: (وقال لها ملاك الرب: أنت حبلى ستلدين ابناً، وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن).
وهذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم لا بجده إسماعيل؛ لأن إسماعيل عليه السلام لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص، بل في التوراة: أن إسماعيل وأمه هاجر أخرجا من وطنهما مكرهين.
ولم يلد إسماعيل مع إسحاق، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش في الصحراء، ولم يسمع أن الأمم دانت لأولاد إسماعيل حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل أحد تحت أيديهم، فكان ذكر إسماعيل مقصوداً به ولده، كما أنه في مواضع كثيرة من التوراة ذكر يعقوب والمقصود بالذكر ولد يعقوب، فمن ذلك: قوله في السفر الخامس: (يا إسرائيل ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له)، وهذا الخطاب لإسرائيل، لكن هو في الحقيقة لبني إسرائيل، فهو خطاب لهم باسم أبيهم، كما قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود هو وأمته، وهذا معروف، وله نظائر كثيرة في القرآن الكريم، فكذلك قوله لقوم موسى: (اسمع إسرائيل ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكبر وتنعم)، ونظائره كثيرة.
إذاً: معروف في لغة كتابهم أنه يذكر اسم الأب ويراد الابن، وإنما يذكر مجازاً بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.(67/9)
البشارة بمحمد في سفر التثنية
ومنها: -أي من هذه البشارات-: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية، هكذا: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته).
فقبل أن يموت موسى عليه السلام بشر قومه بني إسرائيل بهذه البشارة، فقال: (جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم).
ولا غموض بأن مجيء الله تعالى من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، هكذا يفسره أهل الكتاب، فيجب أيضاً أن تفسر باقي البشارة بنفس الأسلوب، وكان يجب أن يطرد التفسير؛ فيفسروا أيضاً (وأشرق لهم من ساعير) بأن المقصود به: إنزال الإنجيل على المسيح عليه السلام؛ لأن ساعير هي الناصرة، التي ينسب إليها النصارى، والتي ولد فيها المسيح عليه السلام، فيجب أن يكون إشراقه من ساعير عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح، حيث كان المسيح يسكن أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة، واسم النصارى مأخوذ منها.
أما قوله: (وتلألأ من جبل فاران) (وتلألأ) أي: الرب، (من جبل فاران) كما فسروا: (جاء الرب من سيناء) بإنزال التوراة، (وأشرق لهم من ساعير) يجب أن تفسر بأنها إنزال الإنجيل، فالثالثة هذه لا تحتمل بأي حال إلا إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وتلألأ من جبل فاران)، تلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، وفاران هي: مكة، وهذا باتفاق أهل الكتاب أيضاً، ولا يخالفه أهل الكتاب؛ لأن كلمة (فاران) هي جبال مكة أو بلدة مكة، ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: (وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو إسماعيل رامي قوس، وسكن -أي: إسماعيل- في برية فاران -يعني: في مكة- وأخذت له أمة زوجة من أرض مصر)، ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، فإن كلمة فاران يقصد بها: جبال مكة، فقوله: (وتلألأ من جبل فاران) يدل على إنزال القرآن في مكة المكرمة.
ونفس هذه البشارة هناك إشارة إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3].
فقوله: (والتين والزيتون) التين والزيتون مشهور في القدس في فلسطين حيث بعث المسيح عليه السلام، وقوله: (وطور سينين) أي: جبل سيناء، وفي هذا إشارة إلى نزول التوراة في سيناء في الطور، وقوله: (وهذا البلد الأمين) أي: مكة، فهذه متطابقة تماماً مع قوله: (جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران)، فلا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، وفيها عاش، وبها دفن، وهذه البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهرة لا تخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر، فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد صلى الله عليه وسلم، وانتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها كما يقتضيه الاستعلان المذكور في البشارة؟ لأن قوله: (وتلألأ من جبل فاران) في ترجمة أخرى: (واستعلن من جبل فاران).(67/10)
البشارة بنبي مثل موسى والدليل على أنه محمد لا يوشع
ومن هذه البشارات: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا: (قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وصف إخوتهم مثلك -يعني: مثل موسى- وأجعل كلامي في فمه)، وفي هذا إشارة إلى أميته عليه الصلاة والسلام، وأنه ينطق بالقرآن، وفيه إشارة إلى أنه يعطيه عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، قال: (وأجعل كلامي في فمه، سيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)، يعني: من لا يستجيب لشريعة هذا النبي أنا أطالبه وأعاقبه.
فهذه البشارة هي في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعاً؛ لأنه من ذرية إسماعيل، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم، فقوله: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك) أي: أن هذا النبي يكون شبيهاً بموسى عليه السلام من وسط إخوتهم، يعني: أنه ليس من بني إسرائيل، لكن من إخوتهم الذين هم أولاد إسماعيل عليه السلام، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل، وأنه قبالة إخوته ينصب المضارب، وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام عن بعد بعيد إخوة، كما دعي في القرآن هود وصالح إخوة لعاد وثمود، مع أنهم على بعد بعيد من أولاد الأعمام، كما قال تعالى إخباراً بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكما قال في خطاب بني إسماعيل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128].
وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى فهو باطل من وجوه: أولاً: أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل، لا من نفس بني إسرائيل، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل.
ثانياً: أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام؛ لما في آخر سفر التثنية في الإصحاح الرابع والعشرين: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجهاً لوجه)، يعني: أنه لم يوجد بعد موسى في بني إسرائيل مثل موسى عليه السلام، في حين أن البشارة تقول: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك)، وما عرف بعد موسى أبداً نبي مثل موسى عليه السلام، حتى المسيح لما أتى قال: (ما جئت لأنقض موسى، ولكن جئت لأتمم) أي: أنه جاء مكملاً للرسالة، فالذي يستحق وصف (مثلك) ليس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا نلاحظه في القرآن الكريم، حيث نجد الربط المستمر بين موسى وبين محمد عليهما السلام، وبين أمة محمد وأمة موسى عليهما السلام، فمثلاً: في بداية سورة الإسراء قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:1 - 2]، وفي سورة القصص كثير جداً من الآيات، وفي سورة الأحقاف قال عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30].
وجاء ورقة بن نوفل لما نزل الوحي على النبي عليه السلام في القصة المعروفة في باب الوحي، وفيها أنه قال: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى)، وقال النجاشي: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، فانظر كيف يأتي الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لأنه مثله! وأيضاً في قصة المعراج جاء الربط بين الأمتين كما بينا، فالشاهد: أن عندهم نصّاً في آخر سفر التثنية: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه)، ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهٍ، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى، وأيضاً يوشع عليه السلام كان حاضراً هناك، وقد أشير إليه بالعبارة الصريحة قبل هذه، ففي الباب الأول من هذا السفر: (يسوع بن نون الواقف أمامك وهو يدخل إلى هناك أنه هو يختمها لإسرائيل.
ولا يحتمل بحال من الأحوال أن يكون قوله في هذه البشارة: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به).(67/11)
الأدلة على أن المبشر به أنه مثل موسى هو محمد لا عيسى
وأما ما زعمه النصارى من أن المراد به عيسى فهو أيضاً باطل لوجوه: أولاً: أن عيسى من بني إسرائيل، والمبشر به هنا من غيرهم، أي: من إخوتهم وليس من بني إسرائيل أنفسهم، وعيسى من بني إسرائيل، وأيضاً موسى بشر بنبي مثله، والنصارى يدعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبياً مرسلاً، وإلا لزم اتحاد المرسل والمرسل، وهو غير معقول، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما السلام أقوى من مشابهته لعيسى؛ لاتحادهما في كونهما ذوي والدين وأزواج، فموسى له أبوان، ومحمد له أبوان، أما المسيح فله أم فقط ولا أب له.
ثانياً: من أوجه المشابهة بين موسى ومحمد: كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام، وقد أشار في هذه البشارة بقوله: (ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي أتكلم به باسمي أنا أطالبه)، وفي هذا إشارة إلى أن هذا النبي مأمور بجهاد من كفر بما جاء من عند الله والانتقام منه بسيفه البتار، وكذلك كون شريعتيهما مشتملتين على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذه كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام على ما تقول النصارى، ونظائر ذلك كثيرة.
وفي هذه البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أمياً لا يقرأ، حيث قال: (يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي)، وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)، وهي الآية التي نحن بصددها.
من هذه البشارات: في الإنجيل في الباب الرابع عشر في إنجيل يوحنا هكذا: (المسيح عليه السلام كان يقول لتلامذته قبل أن يرفع إلى السماء: إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب، - الأب: اصطلاح لهم- فيعطيكم فارقليد آخر؛ ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه؛ لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم).
وهذه بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه وينوب في تبليغ رسالته وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبداً، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟! والأب هنا بمعنى: الرب والإله؛ لأنه اصطلاح أهل الكتابين، وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه روح الحق إلى أن الحق قبل مبعثه يكون كالميت لا حراك به ولا انتعاش، وأنه إذا بعث هذا النبي يعيد الروح للحق، فيصدع حينئذٍ قائماً في الأرض، ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي أحيا الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعدما اندرس ولم يبق منه شيء.
ثم قال: (الفارقليد روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم)، ولا شك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عباد الله تعالى قربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدع سوى عبادة الله وتوحيده وتنزيهه وتمجيده.
وقوله: (باسمي) أي: بالنبوة، ثم أبان لهم سبب البشارة به قبل أن يأتي فقال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون؛ حتى إذا كان تؤمنون).(67/12)
البشارة بالفارقليد في الإنجيل
وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور أيضاً: (فأما إذا جاء الفارقليد الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من الاتباع).
وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق -يعني: أرفع إلى السماء- لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة وعلى بر وعلى حكم، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم فارقليد، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم بجميع ما هو للأب)، ومن أمعن النظر في هذه العبارات ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحاوى والإشارات جزم بأن (الفارقليد) هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده، وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحراً كذاباً، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم -سيما اليهود- على الخطايا، ولاسيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق الذي علم جميع الحقائق، وهو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، صلى الله عليه وسلم.
وفسر العلامة ابن قتيبة قوله: (روح الحق الذي من الأب ينبثق) بقوله: أي: يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، والمراد به هنا: القرآن الكريم؛ لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعين أن يكون هو المراد.
أي: أن القرآن هو الكتاب الذي جاء بعد المسيح عليه السلام ينزه المسيح عن الربوبية، وينزهه عن السب الذي سبه إياه اليهود لعنهم الله وسبوا أمه به، فالقرآن هو الكتاب الذي أفاض في شأن عيسى، وفي بيان أنه كان نبياً رسولاً، وأفاض في مدح مريم عليها السلام، ولم تثبت شهادة أي كتاب بعد الإنجيل بذلك سوى القرآن الكريم.
ثم تأمل قول المسيح عليه السلام: (إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد) فستجد فيه إشارة إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام؛ لأنه يقول لهم: (إنه خير لكم أن أنطلق)؛ لأنه لا يبعث محمد حتى يرفع المسيح عليه السلام، ففي هذا إشارة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام.
وأما لفظ (فارقليد) فهو يوناني الأصل، قيل: أصله فاركليد، وألـ (ف) تكتب أحياناً فا، ومعناه: المعزي والمعين والوكيل أو الشافع، وقيل فاركليثود فيكون قريباً من معنى محمد وأحمد.
وطبعاً هناك عشرات من العلماء النصارى الذين أسلموا ألفوا في هذا الموضوع، منهم يدعى عبد الأحد داود، حيث كان من كبار علمائهم المتبحرين جداً في علومهم، ثم أسلم لله سبحانه وتعالى، وألف كتباً اشتهر منها كتابان: (محمد في التوراة والإنجيل) وأيضاً (الرد على أهل الصليب)، وكان يدعى: الأب عبد الأحد الأشوري أو الإلداني، وكان له شأن رفيع عندهم، ولكنه أسلم وانتصر للتوحيد، وله بحوث قيمة جداً في هذا الموضوع.
وأيضاً كما حكينا لكم من قبل عبد الله الترجمان، كان أكبر علماء النصارى، وكذلك الهجري أسلم بسبب هذا النص الذي تلوناه عليكم الآن، وله قصة معروفة.
ومما يذكر في هذا المقام أن الشيخ عبد الوهاب النجار حكى في كتابه (قصص الأنبياء) أنه تقابل مع عالم كبير جداً من علماء النصارى ومن علماء اللغة اليونانية القديمة، يدعى كارلن لينو، فسأله فقال: ما معنى كلمة (الفارقليد) التي تكلم بها المسيح عليه السلام؟ فقال له: إن الكتب والآباء يقولون: إنها بمعنى المعزي أو المعين أو الوكيل أو الشافع، فقال له: إني لست أسأل قسيساً، ولكنني أسأل الدكتور كارلن لينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، أي: أنا أسألك لا كقسيس، لكن أسألك كعالم في اللغة اليونانية، أخبرني بالاشتقاق اللغوي عندكم لكلمة (الفارقليد) ما معناها؟ فقال: إنه الذي في اسمه حمد كثير، قال: يعني الذي يوافق أفعل تفضيل من حمد؟ قال: نعم، فقال له: أليس هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام؟ لأن من أسمائه: أحمد، فقال: يا أخي! أنت تعرف كثيراً، وسكت على هذا! فالشاهد: أن هذه حقيقة لغوية معروفة، فإذا رجع الإنسان إلى لغتهم عرف هذه الحقيقة، وعلم أن كلمة (فارقليد) هي عبارة عن أفعل تفضيل من الحمد، يعني: أحمد، وهذا كما قال عز وجل: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، عليه الصلاة والسلام، فالأمر واضح غاية الوضوح، ولكنهم لما ترجموا لم يذكروا كلمة أحمد، ولكن ترجموها بالمعنى؛ لأن المسيح تكلم بها بالعبرية، ولم يتكلم بها باليونانية؛ لأنه كان يتكلم باللسان العبراني، كقومه بني إسرائيل، فلما ترجمت إلى اليونانية ترجموا معنى العلم، فجعلوها الفارقليد بمعنى أحمد، وقد كانت هذه البشارة سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان كما بينه في كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، وقد كتم النصارى بعض الأناجيل المصرحة باسم محمد؛ لكونها شجىً في حلوق أهوائهم كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله: (إلى أن يجيء محمد رسول الله)، كما نقله في (إظهار الحق)، وإذا كان هذا حالهم في تراجمهم في لقب إلههم ولقب خليفته ما علم، فكيف يرجى منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد، إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصواب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة والوسائل الصحيحة ما لا يبقى معه وقفة لحائر.
هذا وفي كتبهم بشائر كثيرة تعرض لذكرها جلة من العلماء يزيد عددها عن العشرين، قال الماوردي: لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر.
وقد اقتصرنا على ما قدمنا؛ روماً للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية في مثل (أعلام النبوة) للماوردي و (إظهار الحق) وغيرهما.(67/13)
شهادة أهل الكتاب الذي أسلموا بوجود البشارات في كتبهم
وقال صاحب (برهان الحق) الشيخ رحمة الله عليه رحمة الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل: عبد الله بن سلام وابن سعنة وبنيامين ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم من علماء اليهود، ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي والأسقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود والنجاشي والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى.
وقد اعترف بصحة نبوته وعموم رسالته هرقل قيصر الروم، والقصة موجودة بطولها في أول صحيح البخاري في كتاب (بدء الوحي)، وهرقل لما جمع أبا سفيان ومن معه وسأله عدة أسئلة في نهاية هذه الأسئلة قال: فإن يكن الذي قاله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.
وبين أنه كان يتمنى أن يتجشم ويتكلف لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا قومه إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلما حاصوا حيصة الوحوش وثاروا قال لهم: أنا كنت أمتحن إخلاصكم ووفاءكم وثباتكم على دينكم، فحينئذٍ سجدوا له وأقروه، لكنه في الحقيقة آثر الملك على الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان عنده فقه ووعي وفهم لتأمل في قول النبي عليه الصلاة والسلام في الرسالة التي بعث بها دحية الكلبي إليه يقول له فيها: (أسلم تسلم)، فوعده بالسلامة، لكنه لم يفقه أن هذا رسول الله، وقد وعده بأنه إذا أسلم سوف يسلم من السوء ولن يصيبه أحد بشر، فما فقه ذلك، وآثر الدنيا على سعادة الآخرة.
وكذلك المقوقس صاحب مصر، وابن صوريا وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا.
ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، فإذا كنتم واثقين أنكم على الحق فتعالوا نبتهل، فخافوا وأشفقوا ونكصوا على أعقابهم خوفاً من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].(67/14)
تفسير قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات)
وقوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف) يحتمل أن يكون مستأنفاً، وأن يكون مفسراً لقوله: ((مَكْتُوبًا)) يعني: أنه يأمرهم بالمعروف إلى آخره.
وقوله تعالى: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)) الطيبات أعم من الطيبات في المأكل، يعني: ليست فقط الطيبات في المأكل، ولكن أيضاً تعم، كالشحوم تعم أيضاً البحائر والسوائب والوصائل والحامي، والطيبات في حكم الشريعة كالبيع وما خلا كسبه عن سحت، وكذا الخبائث هي ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة.
وقوله تعالى: ((يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة، ومعروف أن الإسلام هو دين اليسر ودين السماحة، وهذه حقيقة تعلم من دين الإسلام بالضرورة، كما قال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، وقال عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين متين)، (وإن هذا الدين يسر) وغير ذلك من النصوص القاطعة بأن هذا الدين دين اليسر والسماحة، بل إن التيسير من القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال عليه الصلاة والسلام لأميريه: معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا).
والإصر والأغلال استعارة لما كان في شرائعهم من التكاليف الشاقة، فمنها: تحريم طبخ الجدي بلبن أمه.
ومنها: نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة، وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظالم، وكذلك عيد كل سنة لا يعمل فيه أدنى عمل، وكذلك سبت المزارع، ففي كل سابعة سبت للأرض لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عقلاً وغلات الكروم مأكلاً لفقراء شعبهم ووحوش البرية.
ومنها: أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما يقتل حداً، وكذا من يعمل يوم السبت يقتل، ومن كان به جن يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة ثم تبين كذبه يقتلان جميعاً، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور، ولا يؤكل لحمه، ومن اضطجع مع امرأة صامت يقطعان من شعبهم، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر وطلقها أو مات عنها فلا يجوز لزوجها الأول أن يتزوجها، وغير ذلك من الآصار التي تقدم ذكر بعضها في آخر سورة البقرة.
قال الجشمي: تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم السابقة، وذلك نعمة عظيمة على هذه الأمة.
وتدل على وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توليد ما يتصل بذلك؛ لأن جميع ذلك من باب النصرة، وهذا لا يختص بعصره، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف.
يعني: أن كل مسلم مطالب أن يكون من أنصار السنة، ومطالب أن ينصر النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وينصر سنته بعد وفاته، ولعل الجهاد بالبيان وإيراد الحجة ووضع الكتب وحل شبه المخالفين يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا: منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل.
وقال العلامة البقاعي: لما تراسلت الآي وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً وأعظمهم رتبة، ساق سبحانه وتعالى هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وإكراماً له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته في قصته مع قومه في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورة الأنفال وبراءة بأكملها، فكلها في بيان شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه.
ثم قال البقاعي: لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حث على الإيمان به؛ إيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف.
يعني: أن السياق والآيات طالت في شأن موسى عليه السلام والثناء عليه، فربما ظن ظان أن موسى أشرف الأنبياء، فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة في أثناء خطاب موسى عليه السلام مع قومه أن محمداً أشرف فقال: ((وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ))، فانتقل السياق إلى مدح محمد عليه الصلاة والسلام، حتى الذين في زمن موسى كان عليهم أن يؤمنوا بمحمد؛ لأنه نزل في كتبهم بشارات بنبوته، فهم يؤمنون به بالقوة، يعني بغير العمل لكن بالقلب فقط، وبالتصديق، فأهل الكتاب مطالبون بالإيمان به إما بالقوة -يعني: بالتصديق بالبشارات التي أخبرت بنبوته قبل أن يوجد في هذا الوجود عليه الصلاة والسلام- وإما بالفعل إذا كانوا أحياءً بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فيجب عليهم الإيمان به، فلذلك نوهت الآيات بهذا الوصف العظيم للنبي عليه الصلاة والسلام إشارة إلى دفع هذا التوهم الذي قد يتوهمه بعض الناس من أن موسى أشرف رسل الله، فبين عز وجل أن أكمل وأعظم وأشرف رسل الله هو محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول: ثم لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حث على الإيمان به إيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه.
يعني: الإيمان كان واجباً على كل مكلف، سواء كان في الزمن الماضي أو في الزمن الآتي، فكل من كان قبل في الزمن الماضي من اليهود والنصارى مطالبون بالإيمان به، وذلك بالتصديق بالبشارات التي جاءت بوصفه في التوراة وفي الإنجيل، أو بالفعل بعد بعثته.
وهذا تلويح، ولكن أتى عز وجل مباشرة في الآية التي تليها بالتصريح بهذه الحقيقة وهو أنه رسول الله إلى الناس كافة عليه الصلاة والسلام، فصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه؛ تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته.(67/15)
تفسير قوله عز وجل: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)
قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
قوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) أي: كافة، (الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت) هذه كلها نعوت للفظ الجلالة، أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء، وربه، ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة.
والآية نص في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود والعرب والعجم، وفي الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخراً: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً)، رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ مني رعباً، وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها -كانوا يحرقونها- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، وقيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن يشهد أن لا إله إلا الله)، قال الحافظ ابن كثير: إسنادهما جيد قوي، والحديث ثابت بمعناه في الصحيحين وغيرهما.(67/16)
سهولة الاهتداء إلى الدين الحق
أخرج مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار)، وهذا يشمل الرجل والمرأة.
والأمة هنا المقصود بها: أمة الدعوة، فكل من بلغه أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد بعث يجب عليه وجوباً متأكداً، بل هذا أوجب من أي شيء آخر في حياته، أن يتحرى ويجتهد، ولا يقال: اجتهد فلان فوصل في اجتهاده إلى أن محمداً ليس رسول الله، فيكون معذوراً في ذلك، بل يجب عليه الاجتهاد أولاً، ويجب عليه أن يصيب الحق ثانياً؛ لأن أدلة صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يحتمل فيها أن من تحراها يخطئ؛ لشدة وضوحها وظهورها؛ بحيث إنه يطالب بالاجتهاد في البحث عن الحق، ثم ثانياً يجب عليه أن يصل إلى الحق؛ لأن أدلته أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولا يمكن أن يشك عاقل أبداً إذا أعمل عقله وكان مخلصاً في البحث عن الحق في أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، وإنما آفة القوم الحسد؛ فإنهم يعرفون أنه رسول من عند الله، ثم يتكبرون عن الانقياد للمسلمين أو الانقياد لشريعته عليه الصلاة والسلام، كما قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وإما أنهم يعرضون عن تحري مثل هذه القضية.
وإذا راجعنا الحديث الذي فيه سؤال القبر: (أما الكافر فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ها ها! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فهذا غاية ما عنده أنه سمع الناس يقولون شيئاً على النبي عليه السلام فردد خلفهم كالببغاء دون أن يعقل هذا الكلام، ودون أن يتحرى صدق هذا الكلام، في حين أننا نلاحظ أن هؤلاء القوم انقطعوا لخدمة الدنيا كأنها إلههم ومعبودهم من دون الله سبحانه وتعالى، ففي أمور الدنيا نجد أن هناك من يعمل رسالة دكتوراه بأحسن طريقة في أمور تافهة، فهذا يعمل رسالة دكتوراه في تكوين قشر السمكة، وهذا في نشاط الغدة الفلانية، أو في كذا أو كذا من الأمور، وينفق عمره وماله ووقته وجهده في تحري هذه الدقائق، ثم يعرف أسماء جميع فرق الكرة ولاعبيها، وهذا الدوري حصل كذا، والأولمبي الفلاني غلب الفلاني، والنادي الفلاني عمل كذا! ويعرف أسامي وأنواع السيارات، وأنواع الخشب، وأنواع القماش، وأنواع الملابس، وأنواع الأشجار والأسماك، ولا يعرف لماذا خلق! ولا يعرف ربه الذي خلقه! فهل هذا المخلوق إذا أراد أن يبحث عن الحق يجد هناك سلاسل ستقيده؟!
الجواب
لا؛ بل الحق موجود، والقرآن موجود ومحفوظ، كما وعد الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فلم يحصل فيه تحريف، ولا يقوى أحد أن يغير حرفاً واحداً من القرآن الكريم، وهكذا سنة النبي عليه الصلاة والسلام لم تندثر؛ بل من أراد أن يعرف هدي محمد عليه الصلاة والسلام ليتبعه كما أمر هنا: (واتبعوه لعلكم تهتدون) فإنه يستطيع أن يصل بغاية السهولة.(67/17)
العلوم الحديثة تدعو إلى التوحيد
وقد أعطى الله البشر العقول لأجل التفكر بالآيات التكوينية وآيات التوحيد في الآفاق وفي أنفسهم، وهؤلاء وقفوا على آيات لم يقف المسلمون على عشر معشارها؛ لأنهم أوغلوا في هذه العلوم التي تكشف أسرار مخلوقات الله سبحانه وتعالى، لكن حولوا العلم الذي هو خادم للتوحيد إلى علم جاحد، ولا يكون الإنسان عندهم متبعاً للمنهج العلمي إلا إذا أعرض تماماً عن ذكر الله سبحانه وتعالى، فالواحد إذا كان في كلية الطب أو الصيدلة أو العلوم وجاء في قضية من القضايا العلمية فاستدل بآية أو بحديث فإنه يكون قد خرج عن المنهج العلمي! فالدين عندهم لابد أن يكون معزولاً على جنب، وممكن أن يتركوه يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يتكلم في المقدمة أو الخاتمة بشيء فيه ذكر الله، لكن الذي يربط في صلب البحث بين هذه الآيات التي يجعلها الله حجة عليه وبين التوحيد هذا يكون قد خرج عن مجال العلم؛ لأن العلم لا يعترف إلا بما هو محسوس، أما الغيب فلا.
فهذه نظرتهم إلى علم الغيب، مع أن كل آية تصرخ بتوحيد الله سبحانه وتعالى.
ومن درس هذه العلوم وتأمل فيها بعلم وبصيرة يجد أن فيها آيات من آيات التوحيد، ونحن مطالبون بالتفكر فيها؛ لأنها تدل على توحيد الله عز وجل، وتدل على صفة الله عز وجل، كالخلق والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات الكمال، ومع ذلك يعطلون هذا العلم عن دلالته على خالقه، والله عز وجل يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
فالشاهد: أن هؤلاء خاضوا في كل هذه العلوم، ولذلك يجعل الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه (عقيدة المؤمن) من الدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار الذين يقفون على هذه العلوم يكفرون بالله، يقول: لأنه لا يوجد تفسير لهذا أبداً غير أن هناك أقفالاً على قلوبهم، فكونهم يطلعون على هذه الآيات العجيبة الباهرة التي تدل على توحيد الله سبحانه وتعالى ثم لا ينقادون للتوحيد، هذا يدل على أن هناك قوة هي التي حالت بينهم وبين الهداية، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة أليست وإن أصغت تجيب المناديا فلا يوجد تفسير للناس الذين يطلعون في الشرق والغرب من الكفار على آيات الله سبحانه وتعالى في كل العلوم بلا استثناء ثم لا يؤمنون إلا هذا؛ فحينما تتأمل في الذرة التي هي أصغر وحدة في المادة -كما يقولون- تجد أن نظامها هو نفس نظام المجرة، يعني: أن التركيب فيها هو نفس التركيب في المجرة، فمعنى ذلك: أن الصانع واحد سبحانه وتعالى، ولكن القوم لا يعقلون، فليس هناك تفسير لكفرهم سوى أن في قلوبهم أقفالاً هي التي تمنع قلوبهم من التدبر، فمن يسمع القرآن الكريم لا يتصور أن هذا الكلام يمكن أن يقوله بشر، فالإنسان العاقل الذي نور الله بصيرته لا يمكن أن يتخيل أن هذا القرآن بهذه الروعة يمكن أن يقوله بشر، ولكن كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].(67/18)
قيام الحجة على كل من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم
فالشاهد أنهم لا يفقهون، وقد أعطاهم الله العقول كي يهتدوا بها إلى التوحيد فاستعملوها في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا له، وأنا أطيل في هذا لأن هناك من يقول: إن اليهود أو النصارى بمجرد أن يسمع أن محمداً قد بعث وأن القرآن قد نزل، وأنه يوجد دين اسمه الإسلام تكون الحجة قامت عليه، وأقول: نعم، تكون الحجة قد قامت عليه؛ لأنه لو أراد البحث عن الحق لما وجد هناك عائقاً أمامه؛ فالقرآن موجود، ولو بذل عشر معشار الجهد الذي يبذله في أمور الدنيا وتتبع المباريات والأغاني وموديلات السيارات ومتاع الدنيا لاهتدى إلى الحق، لكنه هو الذي عطل هذه القوى وهذه القدرات التي آتاه الله سبحانه وتعالى إياها، فهو مسئول، والعقل موجود، والآيات موجودة، والقرآن موجود، والحجة قائمة، والحق أقرب إلى أحدهم من عنق راحلته، فلا غرابة بعد ذلك أن نسمع قول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
وقوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ)) أي: الذي نبئ بما يرشد الخلائق كلهم مع كونه أمياً، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين.
وقوله عز وجل: ((الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)) أي: ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه، ثم ختم تعالى الآية بقوله: ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)).(67/19)
تفسير قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)
ثم قال تبارك وتعالى مباشرة بعد هذه الآية الكريمة: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159].
عاد إلى السياق الأول من جديد؛ لأنه قد يفهم من هذا السياق الذي مضى ذم قوم موسى، فعادت الآيات إلى مدح طائفة من بني إسرائيل، وهم الفرقة الناجية من بني إسرائيل؛ لأن كل أمة فيها فرقة ناجية، والدليل هو هذه الآية: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، ففي قوله: (ومن قوم موسى) تبعيض، فكما أن هذه الأمة انقسمت إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، فكذلك هناك فرقة ناجية حتى في قوم موسى، وكل نبي يكون له طائفة من أمته يكونون هم الفرقة الناجية.
وقوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) أي: موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة، ويرشدونهم، فيهدون بالحق، وبالعلم، يعني: الحق في الأمور العلمية.
(وبه يعدلون) في الأمور العملية التطبيقية، فبالحق يعدلون في الحكم، ولا يجورون، والآية سيقت لدفع ما عسى أن يوهمه تخصيص كتابة الرحمة والتقوى والإيمان لمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، إذ قد يتوهم بعض الناس أن تخصيص الرحمة في قوله تعالى: ((فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)) أن أسلاف قوم موسى يحرمون من هذه الرحمة ومن كل خير، فبين تعالى أنهم ليسوا كلهم كما حكيت أحوالهم من التمرد والعتو والكفر والعناد، فلذلك قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
وقيل: هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف.
وهذه الآية هي كقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199].(67/20)
تفسير سورة الأنفال [12 - 24](68/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم)
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12].
((إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ)) أي: يوحي الله إلى الملائكة ويخبرهم أن الله مع المؤمنين، ويحتمل أن معنى قوله: ((أَنِّي مَعَكُمْ)) أنه مع الملائكة إذ أرسلهم ردءاً للمسلمين، فكأنه قيل: أوحى الله إلى الملائكة أني مع المؤمنين، فانصروهم وثبتوهم، وكونوا أنتم معهم أيضاً.
((فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))، أي: ثبتوا الذين آمنوا بدفع الوسواس، وبالقتال معهم، والحضور مدداً وعوناً.
((سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)) أي: الخوف، ولا شك أن هذا مظهر من مظاهر المدد الرباني الذي يمد الله سبحانه وتعالى به المؤمنين في جهادهم، حتى وإن كانوا أقل عدداً، فإنه سبحانه يمدهم بأسلحة كثيرة ومتنوعة، كما قال عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، ومن هذه الأسلحة أن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والوهن والخوف والفزع، فهذا بلا شك مما يرجح كفة المؤمنين في الجهاد، والأمر ليس مقتصراً على الأسباب الظاهرة التي يراها الناس، ولكن هناك أسباب خفية وجنود من جند الله سبحانه وتعالى لا يعلمهم إلا هو.
وقوله: ((سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ))؛ أي: أنه من جهة يمدهم بالملائكة ومن جهة يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب.
((فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ)) هنا علمهم الله سبحانه وتعالى كيفية الضرب، وقوله تعالى: ((فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ))، إما أنها أمر للمؤمنين، وإما أنها أمر للملائكة.
وإذا قلنا: إن الأمر موجه إلى الملائكة فإنه يكون فيه دليل على أن الملائكة قد قاتلوا بالفعل مع المؤمنين، لأن الملائكة لابد أن يطيعوا أمر الله سبحانه تعالى.
وقوله: ((فَوْقَ الأَعْنَاقِ)) يعني: أعالي الأعناق؛ لأن أعالي الأعناق هي المذابح، وإذا حصل الذبح في أعالي الأعناق فإن الرءوس تطير.
أو أن المراد: اضربوا الرءوس؛ لأن الرءوس هي التي فوق الأعناق.
((وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ))، البنان هي الأصابع، ومفردها بنانة، والمعنى: كل الأصابع، وقيل: المراد بالبنان مطلق الأطراف، أي: ليس فقط أطراف الأصابع، وإنما مطلق أطراف البدن، سواء في اليدين أو في الرجلين، فتكون من تسمية الكل بالجزء؛ لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل، والمعنى: اضربوهم كيفما اتفق، سواء ضربتموهم في الأماكن التي هي من المقاتل كفوق الأعناق أو على الرءوس، أو في غير المقاتل كالأطراف، فالمهم أن تصيبوهم بما استطعتم من النكاية.(68/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13].
ثم قال تعالى: ((ذَلِكَ)) يعني: ذلك الضرب أو ذلك الأمر بالضرب.
((بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي: خالفوهما فيما شرعا.
((وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) وهذا تقرير لما قبله إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا، أو هو وعيد لما أعد لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدنيا، وبيان لخسرانهم في الدارين.(68/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:14].
((ذَلِكُمْ)) هذا خطاب للكفرة على طريقة الالتفات؛ لأن الخطاب في الآية السابقة موجه إلى الملائكة أو إلى المؤمنين: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}، الكفار {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13]، ثم التفت لمخاطبة الكفار أنفسهم فقال عز وجل: ((ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ)) يعني: أيها الكفار! في الدنيا.
((وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ)) يعني: في الآخرة.(68/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار)
ثم نهى تبارك وتعالى عن الفرار من الزحف، مبيناً وعيده بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15].
((إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)) والزحف هو الجيش الكبير أو الكثير العدد، ويسمى زحفاً تسمية له بالمصدر، كما تقول: هذا رجل عدل، والجمع: زحوف، مثل: سلس وسلوس، ويقال: زحف إليه، أي: مشى، وزحف الصبي على استه، أي: قبل أن يقوم، شبه مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان؛ لأن الجيش إذا كان عددهم كبيراً وضخماً فإنه مهما أسرع فإنه يبدو للرائي البعيد كأنه يزحف كما يزحف الوليد؛ فلكثرته يرى كأنه يزحف، أي: يدب دبيباً قبل الالتقاء للضراب أو الطعان، فمعنى قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)): إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل.
وقوله: ((فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ))، أي: لا تولوهم أدباركم، نهاهم عن أن يعطوهم ظهورهم، فضلاً عن أن يفروا أصلاً، يعني: إذا كان هذا الواجب عليكم وإن كنتم قلة وهم كثرة، فكيف إذا كنتم قريبين منهم عداً أو مثلهم عدداً؟ فأولى أن تثبتوا، وألا تولوهم الأدبار، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار، فلم يقل: لا تولوهم الظهور، تقبيحاً للانهزام، وتنفيراً عنه.(68/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة)
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].
قوله: ((إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ)) مستثنى من قوله: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ))، أي: فيكون له هذا الوعيد: ((فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)).
قوله: ((مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ)) يعني: مائلاً لقتال، يقال: تحرف وانحرف واحرورف، أي: مال وعدل، ومثل هذا يحدث عندما يقاتل المسلمون أكثر من طائفة، وهناك طائفة أشد خطراً على المسلمين، فقتالها أهم، فيترك قتال الأولى ويوليها دبره؛ لأنه يريد أن يلحق بالطائفة الأخطر على المسلمين والأهم، فهذا لا يعد فراراً من الأعداء، وليس من التولي المنهي عنه في الآية، وإنما هو مستثنى، وهو نوع من أنواع التحرف لقتال.
والنوع الآخر يكون بالفر والكر؛ لأن الحرب خدعة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيخيل للعدو أنه منهزم؛ كي يغتر العدو بذلك فيلحقه، حتى إذا خرج من بين أعوانه ومن بين الجنود الذين معه وانفرد عاد المسلم فكر عليه وحده أو مع كمين آخر من أصحابه المختبئين مثلاً، والذين يخططون لمثل هذا، فهذا باب من أبواب مكايد الحرب، والحرب خدعة، فهذا في الحقيقة ليس فاراً، وإنما فر في الظاهر ليخدع عدوه ويغره، ثم يقتله وحده أو مع الكمين الذي أعده له.
وقوله: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)) أي: منضماً إلى جماعة أخرى من المسلمين؛ ليستعين بهم، فهو يفر في الظاهر؛ لكنه يريد أن يتجه إلى مجموعة أخرى من المؤمنين، فينحاز إليهم؛ ليستعين بهم في القتال.
وقوله: ((فَقَدْ بَاءَ)) أي: رجع، ((بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) أي: بئس ما صار إليه من عذاب النار.
وقد دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي: وجوب الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الفرار يوم الزحف من الكبائر؛ لأنه توعد عليه وعيداً شديداً، وينضم إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها التولي يوم الزحف).
وظاهر الآيات العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف أو التحيز، وهذا هو المروي عن ابن عباس، واختاره أبو مسلم، وقال الحاكم: وعليه أكثر الفقهاء, فأكثر الفقهاء أن هذه الآية عامة لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف أو التحيز.
وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم بدر؛ لقوله تعالى: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ))، قالوا: فقوله: ((يَوْمَئِذٍ)) يعني: يوم بدر.
و
الجواب
أن الراجح أن الإشارة في قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ)) تعود إلى يوم لقاء الزحف، لا إلى يوم بدر؛ لأن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)) , و ((إِذَا)) صيغة شرط تفيد العموم، فقوله: ((إِذَا)) أي: في أي مرة تحت أي ظرف وفي أي مكان، فقوله: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ)) فيه إشارة إلى يوم لقيا الذين كفروا زحفاً.
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة)) يعني: إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الجماعة التي هو فيها سواء قربت تلك الفئة أو بعدت، وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس؛ لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: (لو تحيز إليَّ لكنت له فئة)، يعني: ما الذي جعله يثبت أمامهم مع كثرة عددهم وانحصار المسلمين في هذا الجسر؟ أما إنه لو أوى إلى أمير المؤمنين لما عد فاراً، بل يدخل تحت قوله تعالى: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)).
والمعنى أنه إذا كان يولي من أمام العدو ليعود إلى الأمير أو إلى المسلمين ليتجهز من جديد ويخرج للقتال، فهذا ليس بالفرار المذكور، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: (لو تحيز إليَّ لكنت له فئة) وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه: (أيها الناس! أنا فئتكم)، فأمير المؤمنين هو فئة هؤلاء المجاهدين.
وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة: الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أي: أنه ما دام يفر ويرجع إلى النبي وإلى الصحابة رضي الله عنهم، ليتجهز للقتال ويعود من جديد فهذا ليس بفار.
وحتى لو كان فراراً في الصورة فهو فرار مستثنى، لقوله سبحانه: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا))، أي: أو يفر متحيزاً إلى فئة، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، وجنح إلى هذا ابن كثير رحمه الله تعالى حيث قال: من فر من سرية إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة.
ثم أورد حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم، قال: (كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟! ثم قلنا: لو دخلنا المدينة) ثم دخلوا المدينة وهم يشعرون بالخجل وبالخزي؛ لأنهم في نظرهم قد حاصوا، أي: فروا من أمام الأعداء، وبعدما دخلوا المدينة حدثتهم أنفسهم أن يعرضوا أنفسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بحكمه فيهم.
قال: (ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا نهيم، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين).
والعكارون هم الكرارون، يعني: أن هذا ليس بفرار، لكنه كر، فهذا ليس من الفرار، وإنما هو فرار في الظاهر بصورة مؤقتة؛ كي يكروا ويعودوا من جديد إلى قتال هؤلاء الأعداء؛ لأنهم إذا انضموا إلى الإمام الأعظم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم ليسوا فارين؛ لأنهم داخلون في قوله تعالى: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ))، والخليفة فئة كل مسلم، فضلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: (فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، ثم قال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده)، صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.
وقال الحاكم في مسألة الفرار: إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده، فإن ظن المقاومة لم يحل له الفرار، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد.
يعني: لا يشترط أن الفئة تكون في منطقة قريبة من ساحة القتال، بل يجوز ولو كانت بعيدة، ما دام سينحاز إلى فئة من المسلمين، إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد، وحمل عليه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكور.
وعن الكرخي أنه قال: إن الثبات والمصابرة أمر واجب على المقاتل إلا في ثلاثة أحوال: أولاً: إذا لم يخش الاستئصال.
بمعنى: أنه إذا خشي أن المسلمين يستأصلون تماماً وليس هناك أي ثمرة من القتال فهنا يجوز له الفرار، كما حصل من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في سرية مؤتة.
ثانياً: أو عرف عدم نكايته في الكفار.
ثالثاً: أو التجأ إلى مصر أو جيش للمسلمين.
وكان ينبغي أيضاً الإشارة إلى اعتبار شرط العدد الآتي بيانه، فإذا زاد عدد الكفار عن ضعف عدد المسلمين، فهذه من الحالات التي يجوز فيها الفرار.
وربما يكون قد أشار إليها ضمناً في قوله: إذا لم يخش الاستئصال، والله تعالى أعلم.
وروي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ؛ لقوله تعالى: ((الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)) [الأنفال:66]، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ.
ولكن لا نحتاج إلى هذا الجواب؛ لأن اصطلاح النسخ عند السلف ليس كاصطلاح المتأخرين، فالسلف قد يطلقون النسخ يريدون به عدة معانٍ، أما الخلف فاقتصر النسخ عندهم على أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، هذا عند الأصوليين، لكن النسخ يأتي في البيان، والإفهام بعد الإيهام، كما سبق أن بينا.
يقول القاسمي: كنا أسلفنا أن السلف كثيراً ما يعنون بالنسخ تقييد المطلق أو تخصيص العام، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها، قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة وإن تضاعف عدد المشركين أضعافاً كثيرة، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في هذه السورة: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:65]، فأوجب الله المصابرة على الواحد بالعشرة، فلما شق ذلك على المسلمين، رحمهم الله تعالى وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال عز وجل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر)، يعني: يجب عليه أن يثبت أمام الاثنين.
وبالجملة: لا منافاة بين هذه الآية وآية الضِعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله تعالى في آية الضِعف، فقوله عز وجل: {(68/6)
تفسير قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)
ثم بين تبارك وتعالى أن نصرهم يوم بدر مع قلتهم كان بحوله تعالى وقوته، فقال عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:17].
قوله: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)) أي: بقوتكم.
يعني: ما وقع من النصر يوم بدر مع قلتكم ليس بفعلكم أنتم.
وقوله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) يعني: سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنكم الفزع والجزع.
وقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ))، يعني: أنت يا خاتم النبيين مَا رَمَيْتَ، أي: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، ((إِذْ رَمَيْتَ)) بالحصباء؛ لأنك أتيت بالسبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من الحصباء وألقاه وقال: (شاهت الوجوه)، فابتداء الرمي هو من فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ بدليل أن الله نسب إليه الرمي فقال: ((إِذْ رَمَيْتَ))، لكن هذه كانت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الإلقاء من كف واحدة ليس من شأنه في العادة أن يصل إلى عيون الكفار واحداً واحداً؛ فالله هو الذي أوصل هذه الحصباء إلى عين كل واحد منهم، فأشغله بنفسه.
فهذه معجزة كانت من فعل الله سبحانه وتعالى في الحقيقة، وإن كان تسبب بها ابتداءً النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ))، يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، فالرمي المنفي غير الرمي المثبت، فالرمي المنفي هو نفي إيصاله إلى وجوه المشركين؛ لأن هذا النوع من الرمي الذي أدى إلى وصول الحصباء إلى عيون المشركين واحداً واحداً هو فعل الله تعالى، وهو المراد بقوله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)).
وأما رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو رمي مثبت ذو حدود، أما الرمي المنفي عن الرسول فإنه من فعل الله سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت بالحصباء؛ لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، ولذا قال سبحانه: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))، يعني: بلغ في إيصال ذلك إليهم؛ ليقهرهم.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: أي: ما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم، وقد روى غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، أي: أن يكونوا صادقين في الحملة على المشركين عقب هذه الرمية مباشرة، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، فانهزموا.
يقول الجشمي: تدل الآية على أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، فما دام الذي أعان ومكن هو الله سبحانه وتعالى، فينسب الفعل إلى الله عز وجل؛ إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))، ولذلك يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه، وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر صارت أقوى، فلذلك قال: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ))؛ لأن الله هو الذي أعانكم على قتلهم؛ سبحانه وتعالى.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة.
وهذا غلط من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع، ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال؛ لأنه لا يقال في لغة العرب: رمى، إلا إذا حصل أنه ضرب بالسهم، والسهم أصاب الهدف، ولا تطلق كلمة الرمي على الحذف الذي لا يترتب عليه الإصابة، يعني: قبل الإصابة لا يطلق عليه رمياً، إنما يطلق العرب الرمي على أن يوجه السهم أو الضربة وأن تصيب، فإن لم تصب فلا يطلق عليه رمي، ولذلك قال تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))، فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ)) يعني: ما وصلت وبلغت، وقوله: ((إِذْ رَمَيْتَ)) أي: حذفت.
وقوله تعالى: ((وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ)) أي: ليمنحهم من فضله ((بَلاءً حَسَنًا))، أي: منحاً جميلاً بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه سبحانه وتعالى ويشكروه.
وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))، أي: سميع لدعائهم واستغاثتهم، عليم بمن يستحق النصر والغلب.(68/7)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين)
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18].
((ذَلِكُمْ)) الإشارة إما إلى البلاء الحسن المذكور في قوله: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} [الأنفال:17]، وإما إلى القتل المذكور في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:17]، وإما إلى الرمي المذكور في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
وإعراب ((ذَلِكُمْ)) على الرفع خبر، أي: الأمر ذلكم، أو المقصود ذلكم.
وقوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ))، أي: مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي: أن المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، فإنه قال: ((وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا))، ثم قال: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، وهذه بشارة أخرى، فمع ما حصل من النصر فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، وأن كيدهم في تبار ودمار، وقد وجد المخبر على وصف الخبر، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة.(68/8)
تفسير قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)
ثم قال عز وجل مخاطباً المشركين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19].
قوله: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))، هذا خطاب للمشركين، يعني: إن تطلبوا الفتح وأن يفصل يبنكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم القضاء بما سألتم.
روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن ثعلبة: أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة.
يعني: أهلكه الغداة، فكان هو المستفتح؛ ليستعجل فصل القضاء من الله سبحانه وتعالى.
وروي أيضاً في بعض الآثار: أنهم تعلقوا بأستار الكعبة، وأخذوا يدعون الله سبحانه وتعالى أن ينزل العذاب والهلكة، وأن يهزم أظلم الفريقين، وأقطعهم للرحم، وأفسدهم في الأرض، وأبعدهم عن الله سبحانه وتعالى.
فهم استفتحوا، بمعنى: أنهم سألوا الله سبحانه وتعالى أن يفتح بين الفريقين، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: أنتم جلبتم ذلك لأنفسكم، ألستم أنتم الذين استفتحتم؟ ألستم الذين قلتم: اللهم أهلك أظلمنا وأقطعنا للرحم، وأبعدنا منك؟ فلذلك جاءت الآية: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))، أي: أنتم الذين استفتحتم وطلبتم أن يقضي الله سبحانه وتعالى بينكم.
وعن السدي: أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال تعالى: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)).
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا؛ لأنهم أيضاً استفتحوا في الآية الأخرى، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
وقيل: إن في هذا الخطاب تهكماً بهم.
أي: أنتم الذين استفتحتم، ودعوتموني أن أنصر أعز الفريقين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين! فتهكم الله سبحانه وتعالى بهم بقوله: ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))؛ لأن الذي جاءهم هو الهلاك والذلة، وهذا كما في كلمة (بشر) في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3]، فإن الكافر عندما يسمع كلمة (بشر) ينشرح، فإذا صدم بكلمة (عذاب أليم) يعرف أن المقصود بها التهكم، فكذلك قوله تعالى هنا: ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) المقصود بها التهكم؛ لأن الذي جاءهم كان الذلة والهلاك والصغار.
والقول بأن المقصود من قوله تعالى: ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) التهكم يصح إذا قلنا بأن الفتح بمعنى النصر.
لكن له معنىً آخر فسرت به الآية أيضاً، وهو: أن الفتح هو الحكم والفصل بين الخصمين والقضاء بينهما، فقوله: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا))، أي: أنتم طلبتم القضاء والحكم، ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) أي: حكمي وقضائي.
وقوله: ((وَإِنْ تَنتَهُوا))، يعني: إن تنتهوا وتتوبوا عن الكفر وعن عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
((فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)) في الدنيا وفي الآخرة.
((وَإِنْ تَعُودُوا)) لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نَعُدْ)) لنصره عليكم.
((وَلَنْ تُغْنِيَ))، أي: لن تدفع ((عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)) بالنصر، وقرئ: (وإن الله مع المؤمنين) استئنافاً.
وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا)) للمؤمنين، أي: إن تطلبوا الفتح، ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))، فيكون هذا بشارة للمؤمنين بالنصر، والمعنى: إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم فقد حصل لكم ذلكم، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته.
وقوله: ((وَإِنْ تَنتَهُوا)) يعني: عن المنازعة في أمر الأنفال -على أن الخطاب للمؤمنين- وعن طلب الفداء عن الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68].
فقوله تعالى: ((وَإِنْ تَنتَهُوا))، أي: عن مثله، ((فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا))، أي: إلى تلك المنازعات ((نعد)) عليكم بالإنكار، وتأييد العدو؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم، وهذا الوجه قرره الرازي، ونقله عنه البيضاوي.
قال البيضاوي: ويؤكده الآية بعد؛ فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن الإعراض عنه.
يعني: أن البيضاوي يرجح هذا التفسير الأخير، وهو أن الخطاب للمؤمنين.
((وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ))، أي: الكاملي الإيمان الذين لا يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المنازعات.(68/9)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون)
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20].
قوله: ((وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ))، أي: لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره، ((وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ))، أي: تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته.
والواقع الذي يعيشه الآن المسلمون بعدما وضعت راية الجهاد واقع مؤلم؛ ذاقوا فيه الذل والصغار على يد أحقر خلق الله سبحانه وتعالى، فلماذا يخاف أعداء هذه الأمة من يقظة روح الجهاد في المسلمين؟ وأتذكر واقعة حصلت في بداية حرب أفغانستان، وطبعاً الأوضاع كانت مختلفة تماماً عما نحن عليه الآن، فالسعودية كانت متحمسة جداً، كما كان الحال هنا أيضاً في مصر لجهاد الأفغان ضد الروس، ثم عقد مؤتمر لمناصرة أفغانستان في السعودية، وكان الملك فهد ولي العهد في أيام الملك خالد رحمه الله، فالمهم أن فهداً ارتفعت حرارته قليلاً، فتحمس في المؤتمر، وأعلن الجهاد، فقامت الدنيا كلها ولم تقعد، وحصلت ضغوط شديدة بصورة لم تكن متوقعة، ونحن نعرف عندنا أن هؤلاء عندما يعلنون الجهاد في مثل هذه المؤتمرات لن يكون هناك أي شيء، ومع ذلك ارتعدت جميع الدول الكافرة، فاضطر إلى أن يصدر تصريحاً آخر بعد ذلك، ويعلن أنه إنما كان يقصد جهاد النفس، وهذا يدل على الضعف والخور الذي نحن فيه، وأننا لا نستطيع حتى أن نقول: جهاد، وأصبح الحال كما يقول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع! هذا هو حال جهادنا الآن، ومع ذلك ما تحملوا حتى مجرد هذه الإشارة الخفيفة؛ لأنهم فقهوا مكامن القوة في الإسلام أكثر مما يفقهها كثير منا، وعرفوا أن هذا فقط هو الذي يعيد للمسلمين عزهم، أما إذا تركوا الجهاد فلابد أن يلزمهم الذل والصغار، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فصحح كلامه تحت الضغط مع أنه كلام في الهواء.
ونقول: فلماذا تعلن عن الجهاد؟! فإن جهاد النفس معلن منذ زمان عند الصوفية وعند غيرهم، والله المستعان! فالشاهد: أننا ونحن نتعامل مباشرة مع الوحي الإلهي نحس بهذه الروح، وفعلاً حُقَّ لأعداء الإسلام أن يخافوا من القرآن، وحُقَّ لهم أن يخافوا من بعث روح الجهاد في المسلمين، ومهما راحوا أو جاءوا فلن يرفع شأن المسلمين إلا الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، لا في سبيل أرض، ولا وطن، ولا مبادئ مفسدة، كما بين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن القتال سيعود مع اليهود في آخر الزمان، وأن الحجر سينطق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لتقاتلن اليهود، حتى إن اليهودي يختبئ وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود).
فلا يصفه ولا يقول له إلا: يا مسلم! يا عبد الله! قال عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، وبخلاف هذا لن نذوق إلا الذل والصغار والهوان أكثر مما نحن عليه الآن، والله المستعان.(68/10)
تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21].
قوله: ((كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا)) يعني: كالذين ادعوا السماع.
وقوله: ((وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ))، يعني سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون، فالمنفي هنا سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، وإلا فإن السماع الذي هو سماع الحاسة موجود حتى عند البهائم، فلو أن واحداً أتى بالمعلقات السبع ووقف أمام بقرة أو حمار أو عنزة وظل يقرأ أمامها المعلقات السبع، فإنها ستسمع الحروف، لكن لا تفقه المعاني، وهذا هو السماع المنفي عن هؤلاء الكفار؛ حيث نفى الله عنهم السمع والبصر والعقل.
والمقصود أن عندهم عقولاً لكنهم لم ينتفعوا بها في الهداية والتدبر والاتعاظ، وكما قال عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، فالحمار إذا ظللت تناديه أو تتلو أمامه قصيدة أو خطبة وتكلمه، فهو يسمع الحروف سماع دعاء ونداء، فيقول له صاحبه ألفاظاً معينة ويحفظها، فينفذ الأوامر، لكنه إذا كلمه وخاطبه لا يعقل، فهذا هو حال الكفار بالضبط، بل هم أضل من البهائم، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، أثبت للمؤمنين فيها سماع القرآن، وهو التدبر والفهم، ثم أردف ذلك بقوله: ((وَلا تَكُونُوا))، أي: إياكم أن تكونوا ((كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا))، أي: ادعوا أنهم يسمعون، لكن في الحقيقة ((وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ))، أي: سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون.
فالمنفي سماع خاص، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً، وذلك بجعل سماعهم بمنزلة العدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاك السمع والبصر والعقل لأجل أن تستعمل هذه الآلات في توحيده وفي فهم آياته، وهذه هي الغاية من خلق هذه الحواس، فإذا عطلتها عن وظيفتها فلم تستعملها فيما خلقت له، فكأنك لم ترزق، وأنت بهذا ما انتفعت الانتفاع المطلوب بهذه الحواس.
قال الزمخشري: ((وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)) والمعنى: أيها المؤمنون! إنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
هذا قول آخر للزمخشري.(68/11)
تفسير قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22].
ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم، وذلك بعد أن بين أنهم إن لم يسمعوا ويطيعوا فسيكونون مثل الكفار، فقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21]، فمبالغة في التحذير وتقريراً للنهي بيَّن سوء حال المشبه بهم، فقال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22].
الدَّوَاب جمع دابة، والمقصود: ما يدب على الأرض.
وبهذا المعنى العام يعتبر الإنسان من الدواب؛ لأنه يدب ويتحرك على الأرض، أو يقصد بها البهائم، فالمعنى: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ))، يعني: إن شر البهائم، ((عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ))، أي: عن سماع الحق ((الْبُكْمُ))، يعني: الذين لا ينطقون به، ((الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))، أي: الذين لا يفهمونه، فجعلهم الله تعالى من جنس البهائم؛ لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، وليس هذا فحسب، فإن الله سبحانه وتعالى لم يقل: إن هؤلاء الكفار دواب أو بهائم، وإنما قال: هم شر البهائم، فنظمهم في سلك البهائم والعجماوات التي لا تعقل، ثم وصفهم بأنهم شر هذه البهائم جميعاً، وهذا شيء منطقي وشيء مقبول؛ لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وهذا غاية في الذم، وقد كثر في التنزيل تشبيه الكافرين بنحو هذا، كقوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171].
وهنا تنبيه مهم: وهو أن بعض الناس قد يحصل منه -ومنا عموماً- عدم دقة في استعمال بعض التعبيرات، فنسمع من يصف الكافر الفلاني بأنه خنزير، وهذا قرد وهذا كذا وكذا، وربما ظن أن هذا جائز، وأنه إذا شتم أحداً بمثل هذه الألفاظ لم يأثم، وإذا قيل له قال: إن في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176]، وقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فنقول: أنت إذا ضبطت كلامك فهمت أن الآيات الكريمات لا تدل على ما تذهب أنت إليه؛ فالقرآن لم يقل: هم حمير، ولم يقل: هم كلاب، وإنما قال: (مثل) فشبه؛ وأنت إذا قلت: فلان كذا، وذكرت حيواناً من هذه الحيوانات فهذا كذب وفحش من القول، والأصل أن المسلم يتنزه عن هذا، إلا في حالات قليلة، لأنك إذا قلت: فلان خنزير فهو ليس بخنزير، لكن ممكن أن تشبهه بالخنزير، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، وقال أيضاً: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176].
فالله سبحانه وتعالى أكثر في القرآن الكريم من تشبيه الكفار بنحو ذلك، كقوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة:171]، أي: يدعو بصوت عالٍ، {بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، أي: يسمع الصوت لكن لا يفهمه.(68/12)
تفسير قوله تعالى: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم)
ثم يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
قوله: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ)) أي: في هؤلاء الصم البكم، ((خَيْرًا)) أي: صدقاً ورغبة في الحق، ((لَأَسْمَعَهُمْ)) الحجج والمواعظ، ولذلك ممكن أن تجد إنساناً موغلاً في الكفر ثم يمن الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية؛ لأن الله علم في قلبه خيراً، أي: هذا المعدن علم الله سبحانه وتعالى أن فيه خيراً، فلذلك أسمعه، ونزع القفل من على قلبه، وفتح قلبه للإيمان، فهداه الله سبحانه وتعالى، وأما الذين يحرمهم الله من نعمة الإيمان فإنه سبحانه علم أن هؤلاء ليس في قلوبهم خير، ولذا قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
فالإنسان أحياناً يقف من أحوال بعض الكفار الذين هداهم الله سبحانه وتعالى للإسلام على شيء عجيب جداً، من شرح الصدر لنور الحق، الأمر الذي يتفوقون فيه على كثير ممن يحملون أسماء المسلمين وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام، وقد سمعت عن أخت أمريكية أو بريطانية أتت مع زوجها المسلم الذي التزامه ليس بذاك، فأتت معه إلى مصر، لكنها لما أسلمت صارت ملتزمة التزاماً متيناً بالدين، وتزوجت هذا المسلم، فلما أتت معه إلى شوارع الإسكندرية كانت طول ما هي ماشية في الشوارع تقول: ما شاء الله، الحمد لله، كل المسلمات في بيوتهن! يعني: أنها كانت تحمد ربنا سبحانه وتعالى على أن اللاتي في الشوارع المتبرجات هؤلاء كلهن غير مسلمات، وأن المسلمات المحجبات قارات في بيوتهن؛ لأنها فهمت أن كل المتبرجات يهوديات أو نصرانيات غير مسلمات، فهي تحمد الله أن المسلمات قارات في البيوت، ولا يخرجن في هذه الفتن، والله المستعان! وقوله: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)) يعني: لأسمعهم الحجج والمواعظ سماع تفهم وتدبر، أي: لجعلهم سامعين؛ حتى يسمعوا سماع المصدقين، ولكن لم يعلم الله فيهم شيئاً من ذلك؛ لخلوهم عن الخير بالمرة، ولم يسمعهم كذلك لخلو السماع عن الفائدة وخروجه عن الحكمة، وإليه أشير بقوله تعالى: ((وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا))، يعني: ولو أسمعهم سماع تفهم وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية لتولوا عما سمعوه من الحق، ((وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) أي: عن قبوله جحوداً وعناداً.(68/13)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)
ثم ذكر تبارك وتعالى آية من الآيات التي من المفروض أن كل واحد منا لا أقول: يعلقها على كل متر من بيته، لكن يثبتها في قلبه، ويجعلها دائماً نصب عينيه، خاصة في هذا الزمان، وهي قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) الاستجابة هنا بمعنى الإجابة.
أي: أجيبوا الله والرسول، وكلمة: ((إِذَا دَعَاكُمْ)) تحتم أن يكون (استجيبوا) بمعنى: أجيبوا؛ لأن من دعاك فأجبه، كما تقول: من دعاك استجب له، وعلى هذا يكون معنى قوله: (استجيبوا) يعني: أجيبوا؛ لأنها تقابل الدعاء، قال الشاعر: وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب فقوله: (فلم يستجبه) يعني: لم يجبه، فمعنى الاستجابة الإجابة، والمراد بها الطاعة والامتثال، وإنما وحد الضمير في قوله تبارك وتعالى: ((إِذَا دَعَاكُمْ))، ولم يقل: إذا دعياكم أو دعواكم -أي: الله والرسول- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو المباشر للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ولأن استجابته صلى الله عليه وسلم كاستجابته تعالى، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، كقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59].(68/14)
معنى استجابة المؤمنين لما يحييهم
وقوله: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) قال عروة بن الزبير فيما رواه ابن إسحاق: أي: للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل.
أي: وقواكم به بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وإنما سمي الجهاد حياة لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة، ولأن الجهاد يضعف العدو، فإذا ضعف العدو فهذا يعطي المسلمين الحياة والقوة، أو لأنه سبب لحصول الشهادة التي توجب لهم الحياة الدائمة، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169].
فقوله: ((إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) على هذا التفسير أي: إلى الجهاد الذي يترتب عليه أن تنالوا الحياة الدائمة في جنات الفردوس.
أو أن قوله: ((إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: إلى الجهاد الذي هو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، يعني: لهي الحياة الدائمة، فيكون مجازاً مرسلاً بإطلاق السبب على المسبب.
وقيل: إن قوله: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: لما يحييكم من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب كما أن الجهل موته.
إذاً: في قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) أقوال: القول الأول هو: الطاعة والامتثال.
القول الثاني: هو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لأن في وهن عدوكم بسبب الجهاد حياة لكم وقوة، أو لأنه يكون سبب الحياة الدائمة بعد الشهادة، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة.
القول الثالث: العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب، كما أن الجهل موته.
قال الشهاب: وإطلاق الحياة على العلم والموت على الجهل استعارة معروفة ذكرها الأدباء وأهل المعاني، وأنشد الزمخشري لبعضهم: لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن يعني: أن الزينة هي زينة العلم، ولذا لم يأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يسأله الاستزادة إلا من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، يعني: وحياً، فالجهل يعبر عنه بالموت.
وقول الشاعر: (لا تعجبن الجهول حلته)، يعني: أن الجاهل الذي يلبس حلة نفيسة وجميلة لا تغني عنه شيئاً، وإنما هذه الحلة بالنسبة له مثل الكفن على جسد الميت، وهل يغني الكفن الحسن عن الميت شيئاً؟! فكذلك الجهل.
فهذا كله مما يرشح هذا القول بأن قوله: ((إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: العلم الذي يحييكم، والذي بدونه تكونون موتى، وقد جاء هذا في قول أبي الطيب من قصيدته التي أولها: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن ومنها: لا تعجبن مضيماً حسن بزته وهل تروق دفيناً جودة الكفن أي: هل الميت المدفون ينبسط؛ لأن الكفن الذي عليه جيد وحسن؟! والأظهر أن معنى قوله تعالى: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)): ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة، أي: أنه عام؛ لأن الصيغة هنا تعم جميع أعمال البر والطاعة، فيدخل فيه ما تقدم وغيره، فالجهاد منها، والشهادة في سبيل الله منها، والعلم الشرعي منها، والطاعة منها، والصلاة منها، والزكاة منها وهكذا.
وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحداً وهو في الصلاة، فقد روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلا رضي الله عنه قال: (كنت أصلي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟! ألم يقل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))).(68/15)
معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه
وقوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يحتمل وجوهاً من المعاني: الوجه الأول: أنه تعالى يملك على المرء قلبه، يعني: اعلموا وتذكروا أن قلوبكم ليست ملكاً لكم، ولستم أنتم الذين تصرفونها وتوجهونها، وإنما مالك القلب هو الله سبحانه وتعالى وحده يصرفه كيف يشاء، فيحول بينه وبين الكفر إذا شاء له الهداية، ويحول بينه وبين الإيمان إذا أراد ضلالته.
وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس وصححه، وقاله غير واحد من السلف، ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقيل: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها)، رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس، وفي لفظ مسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد؛ يصرفها كيف شاء)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)، وفي رواية: (إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه).
إذاً: المقصود من قوله تبارك وتعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) أن الله سبحانه وتعالى يملك القلب، ويتمكن منه، ويصرفه كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبه، فصاحب القلب نفسه الذي قلبه في بدنه لا يملك أن يوجه قلبه، لولا أن يتولى الله سبحانه وتعالى توجيهه.
فقوله تبارك وتعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يعني: إذا علمتم ذلك فخافوا على أنفسكم، واستعينوا بالله سبحانه وتعالى على أن يثبت قلوبكم على الإيمان؛ لأنه يحول بين المرء وقلبه.
وتخيل أنت الفرق الذي يكون بين الإنسان وقلبه الذي هو فيه، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه، فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى وتمام ربوبيته وتصريفه لأحوال الخلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما سمي القلب قلباً لتقلبه)، وقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (مثل القلب كمثل القدر إذا استجمعت غلياناً -أو- للقلب أشد اضطراباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً)، فالقدر بعد الغليان تتحرك فيه كل أجزاء السائل الذي يغلي، فكذلك القلب لا يعرف الثبات إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ومثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تحركها الرياح)، فكلمة القلب مأخوذة من التقلب، فالقلب لو رفعت عنه عناية الله لا يثبت، بل يتقلب، إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني في تفسير قوله عز وجل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)): أنه حث على المبادرة إلى الطاعة قبل حلول المنية، أي: بادروا إلى التوبة وإلى الطاعة قبل أن يأتيكم الموت، فمعنى يحول بينه وبين قلبه: يميته، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، فالآن لم يحل الله بينك وبين قلبك؛ لأنك ما زلت حياً، والقلب يدق وينبض بالحياة، فإذا تبت قبلت توبتك، فبادر الآن لإصلاح حالك مع الله سبحانه وتعالى قبل أن يحول بينك وبين قلبك؛ لأن أصل التوبة وأساس التوبة هو القلب، ويحال بينك وبين قلبك بالموت.
فهذا معنى قوله عز وجل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، يعني: بحلول الموت، فلا تملك التوبة إذا حل الموت، فاستدرك واغتنم الفرصة الآن وقد وجدتها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، فأي إنسان إذا أصيب بمرض في عضلة القلب يفزع فزعاً شديداً، وهل يكون انفعال الإنسان بالمرض الذي في قلبه -العضلة نفسها- مثل أي ألم في أصابعه أو جلده أو في أي جهاز آخر؟ فأفزع ما يكون الإنسان إذا علم أن في قلبه مرضاً، فإنه يفزع ويخاف من الموت، ويهرول إلى الأطباء يلتمس عندهم الشفاء، فأولى ثم أولى أن الإنسان إذا أحس أن في قلبه مرضاً أن يهرول إلى علاجه قبل أن يحول الله بينه وبين هذا القلب بموته.
وكما أن البدن له أدوية يتعاطاها الإنسان فيشفى بإذن الله، فكذلك القلب أمراضه لها دواء، وعلى الإنسان أن يسارع بالتفتيش عن هذه العلاجات؛ ليطهر قلبه، ويرده إلى الصحة والعافية من جديد قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت، فلا يستطيع إصلاحه بعد الموت؛ فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلفوها لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه.
الوجه الثالث: أن المقصود التعبير بها عن غاية القرب من العبد، فقوله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يعني: أن الله قريب منك جداً؛ لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما.
وانفصال أحدهما عن الآخر معناه: كأن القلب في جهة والإنسان نفسه في جهة، والله سبحانه وتعالى يحول بين الاثنين، فمن الأقرب إلى الإنسان؟ ومن أقرب إلى قلبه؟ هل القلب أقرب إلى المرء، أم أن الله أقرب إلى الإنسان من قلبه وأقرب إلى القلب من الإنسان؟ فهذا المعنى يفيده قوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) فيحول معناها: يقرب، وهذا المعنى نقل عن قتادة؛ حيث قال: إن قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فيه تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنها صاحبها.
وقوله: ((وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) أي: فيجزيكم بأعمالكم.(68/16)
تفسير ابن القيم لقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم)
وهنا كلام طيب جداً للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد نختم به الكلام على هذه الآية، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: قول الله تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، تضمنت هذه الآية أموراً: أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
يعني: لا يحصل الإنسان الحياة النافعة إلا إذا استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وكل من لم يستجب لله ورسوله فهو كالميت، وإن كانت له حياة بهيمية، فمثله مثل الطيور والأسماك والضفادع والبرمائيات والزواحف وهكذا، كل هذه الأعضاء في المملكة الحيوانية هو مثلها، يشترك معها في الحياة البهيمية الحيوانية.
فقد تكون للإنسان حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، لكن ليس له هذه الحياة الحقيقية التي هي حياة روحية، ولا تحصل إلا بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، حتى بعد أن يموتوا فهم أحياء، وأقرب مثال: هذا الرجل الذي ألف هذا الكتاب ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الذي يخاطبنا الآن، فهو في الحقيقة حي، يعني: أن الحياة الحيوانية ذهبت بخروج روحه، لكنه حي معنا إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وكم ممن يعيش بيننا هو والميت سواء؟! فرغم أن الحياة البهيمية موجودة، لكن لا خير فيه، وإذا مات تستريح منه البلاد والعباد.
فمن الحياة الحقيقية أن نتذكر هؤلاء الصالحين، في عبادتهم، وفي علمهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي تضحيتهم في سبيل الدين، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ، كما يقولون.
وأكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما زادت استجابة الإنسان للشرع المطهر وطاعة الله ورسوله قويت فيه هذه الحياة، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، بقدر ما يفوته من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال مجاهد: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: للحق، وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاح والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال السدي: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر.
قال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم، وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)): هو الجهاد، وهو قول ابن إسحاق، واختيار أكثر أهل المعاني.
قال الفراء: ((إِذَا دَعَاكُمْ)) إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.
قلت - ابن القيم -: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة.
يعني أن الجهاد من أعظم ما يحييهم الله سبحانه وتعالى به، فالجهاد يحيي المؤمنين في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة: أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد؛ لأن العدو إذا لم يقهروه سوف يقتلهم ويبيد حياتهم، فإذا قهروا عدوهم استبقوا حياتهم.
وأما في البرزخ فقد قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، ولهذا قال ابن قتيبة: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: الشهادة، وقال بعض المفسرين: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: الجنة، فإنها دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة، حكاه أبو علي الجرجاني.
والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة.(68/17)
حياة البدن بالعافية وحياة القلب بالإيمان
قال: والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك، فليست حياة الذي يحيا حياة ضنكٍ مثل حياة المعافى من هذا الضنك.
ثم قال: وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل، فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم.
يعني: كما أن البدن إذا كانت الشبكة العصبية فيه سليمة فإنه إذا أحس بوخزة دبوس أو بنار تلسع يتألم؛ لأن الشبكة العصبية سليمة، لكن لو أن الشبكة فيها قطع، أو فيها فساد، فممكن أن لا يتألم الإنسان، وقد تدخل فيه الشوكة أو المسمار ولا يحس بذلك؛ لضعف الحياة فيه.
فالبدن كلما كان أتم حياة كان إحساسه بالشيء المؤلم والضار أكثر من غيره، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم، وكذلك القلب إذا بطلت حياته بطل تمييزه، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، فطاعة الله وطاعة الرسول عليه والسلام لها ثمرة، وهي أن يلقي الله في قلبه نوراً يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، ولا يقع في الشبه والضلالات والوساوس.
فكلما زادت حياة الروح بالقرآن وبالعلم النافع ازداد اتضاح الأمور أمامه، فيرى الأبيض أبيض والأسود أسود، والتميز بين الحق والباطل يكون حداً فاصلاً بدون اختلاط، فإذا بطلت حياته بطل تمييزه، وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار.
يعني: إما أن يفقد حياة القلب تماماً فبالتالي لا يميز، كحال الكفار، فالكافر لا يمكن أن يرى الحق، وإما أن يكون عنده تمييز، لكن ليس عنده همة بأن يؤثر النافع على الضار وقد علم النافع من الضار، كما أن الإنسان لا حياة له، حتى ينفخ فيه الملك -الذي هو رسول الله- من روحه.
وهنا في الحقيقة تعبير من أروع تعبيرات الإمام الجليل ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وخلاصة الكلام أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يلخص هذا الكلام الذي ذكرناه كله في أن الإنسان إذا أراد أن تتم حياته واستنارته فلابد أن يتوقف هذا على نفختين: نفخة من الرسول الملكي، ونفخة من الرسول البشري عليه الصلاة والسلام.
ويقصد بالنفخة من الرسول الملكي: نفخة الملك عندما يأتي الجنين في بطن أمه وينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات، كما هو معلوم، فهذه النفخة تحدث للإنسان حياة البدن الدنيوية، وهذه الحياة هي الحياة البهيمية؛ لأنها مشتركة بين الكائنات كلها، وبين المؤمن وبين الكافر.
وحتى تتم له حياة القلب لابد من نفخة من الرسول البشري، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يؤمن به، ويتبع هديه صلى الله عليه وسلم، فتتم له الحياتان هنا.(68/18)
النفخة الملكية والنفخة النبوية لحياة الإنسان
يقول ابن القيم: كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حياً بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى الله تعالى إليه.
أي: القرآن الكريم، فإذا انتفعت بالقرآن الكريم وارتبطت بالقرآن الكريم فهذه هي النفخة التي تعطيك حياة القلب، وكلما ضعف ارتباطك بالقرآن الكريم ضعف هذا الإيمان في قلبك.
يقول: فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى الله إليه، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، ويقول تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
فأخبر أن وحيه روح ونور، فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان، ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى، فالكافر حصل نفخة الملك لأن فيه روحاً؛ لكن فاتته نفخة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يؤمن به، وبالتالي لن ينتفع بهدي القرآن الكريم، وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] بالإسلام، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فجمع للمؤمن بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة.
وقال ابن عباس وجميع المفسرين: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] يعني: كان كافراً ضالاً فهديناه.
وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] هذا يتضمن أموراً: أحدها: أنه يمشي وسط الناس هم في ظلمة وهو في نور، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل، فضلوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها.
وثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره، فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور، هذا حال المؤمن المستقيم الداعية في وسط الذين يمشون في الظلام، ويتيهون ويعمهون ويترددون ويتحيرون، فهم محتاجون إلى هذا النور الذي معه؛ كي ينجوا في هذه الطريق.
وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات حقدهم ونفاقهم.(68/19)
معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه عند ابن القيم
وقوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته.
وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين.
وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه وتعالى قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية، فهو بينه وبين قلبه.
ذكره الواحدي عن قتادة، وكأن هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه وتعالى بين العبد وقلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
وعلى القول الأول فوجه المناسبة: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن يحول الله بينكم وبين قلوبكم.
فإذاً هنا تهديد: لا تأمنوا، وإياكم أن يعاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة.
فإذا لم تبادروا فلا تأمنوا أن يعاقبكم الله بالحيلولة بينكم وبين الاستجابة، وبين الحق واستبانته، فيكون هذا كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، لأنهم لم يبادروا، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:101]، ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب.
كما أن الاستجابة لا تقتصر على الاستجابة بالجوارح، لكن تكون أيضاً بالقلب.
فالله سبحانه وتعالى يحول بينكم وبين قلوبكم، ويطلع على قلوبكم، وهو أقرب منكم إلى قلوبكم.
وفي الآية سر آخر: وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به -وهو الاستجابة- وبين القدر والإيمان به، فجمعه بين الشرع والقدر في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))، فهنا أمر شرعي طلبي، ثم قال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، فيكون كمثل قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، هذا شرع، ثم قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وكقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:55 - 56].(68/20)
تفسير سورة الأنفال [25 - 34](69/1)
تفسير قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
قال عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
ختمنا الكلام في الدرس الماضي بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، ثم يقول تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)).
والفتنة إما بمعنى الذنب، وعلى هذا فقوله: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) يعني: اتقوا الذنب الذي تترتب عليه هذه العقوبة، والذنب يكون مثل إقرار المنكر، وافتراق الكلمة، والتكاسل في الجهاد.
وإما أن تكون الفتنة بمعنى العذاب، وعلى هذا فقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) أي: اتقوا العذاب.
فإن أريد بالفتنة الذنب فقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) يعني: اتقوا ذنباً أو معصية، وقوله: ((لا تُصِيبَنَّ)) أي: لا يصيبن أثره أي: العذاب، ((الذين ظلموا منكم خاصة)).
وإذا قلنا: إن الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: اتقوا إصابة العذاب بنفسه.
وقوله: ((لا تُصِيبَنَّ)) هذا جواب للأمر: ((وَاتَّقُوا))، أي: إن أصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، لكن شؤمها يتعدى إلى الجميع، فتشمل الظالمين المذنبين وغيرهم؛ بشؤم صحبتهم؛ لأنهم عاشوا معهم، وخالطوهم، وتعدت رذيلتهم إلى من يخالطهم، فإن الأشرار والفساق يتعدى شؤمهم إلى من يساكنهم ويركن إليهم، فيصيبه شؤمهم بسبب مصاحبتهم، وذلك كقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
وقد روى الإمام أحمد عن جرير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب).
قال الكرخي: ولا يستشكل هذا بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادراً على ذلك، فإذا سكت الجميع فكلهم عصاة؛ هذا بفعله وهذا برضاه.
وقدر الله تعالى بحكمته أن الراضي بمنزلة العامل، فانتظما في العقوبة، ودخل فيها الراضي؛ لأن السكوت علامة الرضا، ولذلك فإن العذاب يعم الجميع، وهذا لا يتعارض مع قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؛ لأنهم ما داموا قادرين على التغيير ولم يغيروا فإن سكوتهم يعني الموافقة والإقرار والرضا، فاستووا مع الذين عصوا.
فإنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، أما الإنكار باليد وباللسان فعلى التفصيل المعروف في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وليس بعد ذلك عذر لمعتذر، فالإنسان قد يكون للناس سلطان عليه بالقهر، فيمنعه ذلك من التغيير باليد أو باللسان، لكن لا سلطان لأحد على القلب، فإذا كان القلب لم ينكر المنكر فلا شك أن صاحبه راض بهذا المنكر وآثم بسبب ذلك.
فإذاً: علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل، لكن ما دام قلبك يستقبح المنكر ويكرهه ويبغض أهله فلا وزر عليك، وإن كنت عاجزاً عن تغييره باليد أو باللسان، المهم أن القلب يكون مطمئناً بالإيمان ومتألماً بسبب هذه المعاصي.
وذكر القسطلاني أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهاً له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن متألماً فهو راضٍ بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، يعني: لمن يخالف أوامره.(69/2)
تفسير قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)
فقال عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
ثم نبه تعالى عباده المؤمنين من السابقين الأولين على نعمه عليهم؛ لأن الراجح أن الخطاب في الآية إنما هو للمهاجرين الأولين خاصة، فقد ذكرهم عز وجل بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، ورزقهم من الطيبات؛ ذكرهم بذلك ليشكروه بدوام طاعتهم واستمرارهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.
((وَاذْكُرُوا)) أي: يا معشر المهاجرين! فالخطاب -على الراجح- للمهاجرين.
((إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)) يعني: إذ كنتم قليلي العدد، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ)) أي: مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش.
وقوله: ((تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)) إذا قلنا إن الخطاب للمهاجرين الأولين فالناس هم أهل مكة، وتخطفه واختطفه بمعنى: استلبه وأخذه بسرعة، فإذا أخذ أحد الشيء بسرعة يقال: تخطفه أو اختطفه.
((فَآوَاكُمْ)) أي: بعد هذا الاضطهاد والاستضعاف آواكم إلى المدينة المنورة دار الهجرة.
((وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)) يعني: أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره، وأما كيف قواكم؟ وكيف أتاكم نصره؟ فبمظاهرة الأنصار؛ لينصروا الدعوة، وبإمداد الملائكة، وبالتثبيت الرباني.
((وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) الطيبات هنا الغنائم؛ لأن الغنائم كانت من قبل محرمة على الأمم كلها، ولم تحل لأحد إلا لهذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي).
((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) المولى على ما تفضل به وأولى.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة هو أنسب للمقام، والسياق يشعر به.
وهناك قول آخر: أن الخطاب للعرب كافة، فقوله: ((وَاذْكُرُوا)) يعني: أيها العرب! ((إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)) يعني: بالنسبة للأمم الأخرى كالفرس والروم، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، والناس المقصود بهم الأمم من حول العرب.
وقد أيد هذا التفسير بقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية، قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل.
هذه عبارة قتادة بن دعامة في تأييد أن المقصود بهذه الآية الكريمة العرب عامة بالنسبة لغيرهم من الأمم في ذلك الزمان.(69/3)
تأثير البيئة على التوجه الشخصي إذا لم توجد عقيدة
وفي ذلك إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، وأيضاً فهناك عوامل كثيرة تؤثر على الإنسان وعلى توجهه، ومن هذه العوامل عامل البيئة المحيطة بالإنسان، ودليله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
فالإنسان يتأثر بالبيئة من حوله، وهي مما يجعله ينحرف عن فطرة الإسلام.
ولا يدفع تأثير البيئة إلا عامل أقوى من كل العوامل، وهو عامل العقيدة، فإذا وجدت العقيدة فهي التي تطغى على تأثير البيئة.
فالعقيدة هي التي تحول الأمم والأفراد من حال إلى حال مغاير تماماً، وآية ذلك العرب مع الإسلام، فقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله سبحانه وتعالى)، فالمنطقة التي كان يسكنها العرب منطقة متخلفة جاهلة في ذيل الأمم كسولة إلى آخر ما شئت من هذه الصفات.
فلا يقوى على رفع تأثير البيئة إلا العقيدة، فإذا زالت العقيدة رجع تأثير البيئة من جديد، وهذا هو الوضع الذي نعيشه الآن؛ فالوضع الذي نعيشه الآن أننا في مؤخرة الأمم، حتى إن هتلر وضع العرب قبل اليهود، واعتبر اليهود أخس الأمم، لكن قبلهم مباشرة وضع العرب! ونحن لا نقول: إننا معشر العرب أخس من الأمم الأخرى، بمعنى: أن لا خير فينا، فالحمد لله نحن مسلمون، ولكن اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه كما أنعم علينا بنعمة الإسلام، ولم يجعل لنا سبباً إلى العز والنصر والتمكين إلا هذا الدين وهذا القرآن، فإذا كفرنا بنعمة الله فمن عدله سبحانه وتعالى أن يعاقبنا بأن يسلط علينا أخس الأمم، وأن نعود من جديد إلى تأثير البيئة، فهذه البيئة هذه طبيعتها، بخلاف البيئات الباردة؛ حيث طبيعة الناس أنه إذا لم يحصل نوع من النشاط والحركة والجدية في الحياة فإن الثلوج تدهمهم، أعني أن طبيعة الحياة وطبيعة البيئة في البلاد الأخرى تجعل الناس في حالة يقظة ونهضة وتقدم مستمر.
أما نحن إذا تركنا الإسلام فإننا سوف نرجع للوضع الذي كنا عليه من قبل، ولا يزول عنا الذل إلا بالإسلام.
وهذه الحقيقة الآن يعرفها الكفار أنفسهم قبل المسلمين، ولذلك هم حريصون دائماً على فصلنا عن الإسلام، وإلهائنا بعقائد غريبة جاءت بإفساد الأخلاق، وبإثارة الشبهات، ويحاولون إشغالنا بكل ما يلهينا عن هذه العقيدة؛ لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين إذا رجعوا إلى عقيدتهم سيكونون أقوى قوة على ظهر الأرض؛ لأن الذي نحن فيه من التخلف ليس ناشئاً عن تخلف عقلي، ولله الحمد، فالمسلمون عندهم كل الطاقات، حتى الطاقات النووية، فهناك قدرات تمتلكها الشعوب الإسلامية، ويكفي فقط الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتتي، فأغلبها عندها الطاقة النووية أو القوة النووية، والموارد الطبيعية، والعدد البشري الهائل، فالأمة الإسلامية وجميع الدول الإسلامية إذا توحدت فإن أمريكا بجوارها ستكون صفراً، ولا أقول: صفراً بالضبط، ولكن قطعاً سيكونون أقوى من أمريكا.
فالتخلف الذي نحن فيه هو في جزء كبير منه تخلف مفروض علينا، حيث يحرم علينا نوع معين من التكنولوجيا حتى لا نتقدم، وتحرم علينا حتى محاولة الأخذ بأي أسباب القوة، في الوقت تكون حلالاً لأعداء الله اليهود، ويكفي أن نعلم ذلك في قضية هذه الصواريخ البسيطة التي من أجلها أقامت أمريكا الدنيا ولم تقعدها، وواضح أنها كانت صفقة مع كوريا الشمالية، ولكن أمريكا لم تستح من أن تعلن أنها ستفرض عقوبات اقتصادية على مصر بسبب شرائها هذه الصواريخ، ومع ذلك فقد تكفلوا بأن يحتفظوا بالتفوق العسكري لليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد من هذا الكلام: أن التخلف الذي نحن فيه هو تخلف مفروض علينا في جزء كبير منه.(69/4)
إعراض المسلمين عن الدين هو سبب حرمانهم من التمكين
هذا في هذه الناحية من نواحي النهضة المادية، وأما من ناحية أسباب التقدم والتمكين في الأرض فهي موجودة في أمة المسلمين، ولكننا مع هذه الكثرة غثاء كغثاء السيل؛ فمع هذه الكثرة توجد فينا آفات هي السبب في تخلفنا، وأعظمها على الإطلاق هو أننا نبذنا هذا الدين الذي هو سبب عزنا وراءنا ظهرياً، وليس نبذاً فحسب، بل نحن نحاربه، بل نحن ليل نهار نسلط أعداء الله من العلمانيين والزنادقة ليطفئوا نور الله عز وجل، ويشككوا الناس في الدين، ويلهوا الشباب بالشهوات وبالفتن والشبهات.
فبذنوبنا دامت بليتنا، والله يكشفها إذا تبنا، فالقرآن يدلنا على دائنا ويدلنا على دوائنا، فداؤنا راجع إلى أنفسنا، أما دواؤنا فهو في هذا القرآن، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، ليس لأننا أحقر الأمم، فقد شرفنا الله بالإسلام؛ لكننا نبذنا هذا الإسلام، وطلبنا العزة في غيره.
فإذاً: هل من رفعه الله سبحانه وتعالى بالقرآن يستوي مع من لم يرفعه بالقرآن؟ فمن امتن الله عليه بالقرآن وباللغة العربية وبالإسلام وبالتوحيد ومع ذلك رفض النعمة، فلابد أن تكون عقوبته أشد، وتلك سنة الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، وقانون من قوانين الله سبحانه وتعالى في الكون، وسنة من سننه، وهي التي عبر عنها أمير المؤمنين بقوله: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
فهذا قانون، فكلما بحثنا عن العزة في غير الإسلام فلابد أن تكون العاقبة هي عاقبة الذل بكل ما تحويه كلمة الذل من معانٍ، فكلما أردنا أن نبتغي العزة في الاشتراكية وفي الرأسمالية والتبعية للغرب، أو في التطبيع مع اليهود؛ أذلنا الله! فما لم نعد إلى الإسلام فلن نحصد سوى الذل، وهذا أمر مقطوع به، وتؤيده النصوص الشرعية، وتؤيده الوقائع التاريخية الماضية والحاضرة، المستقبلة وإن شاء الله أيضاً، وذلك ما لم نعد إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً.
أي: أنهم كانوا في ضلال وذل وضياع في كل مجال من المجالات، ولم يرفع عنهم ذلك إلا بالإسلام، فبعد ما كانوا بهذه الصورة المذكورة في هذا الأثر عن قتادة أعزهم الله بالإسلام، وحققوا الإسلام، وانتصروا للإسلام، ورفعوا رايته، فمكنهم الله سبحانه وتعالى من أقوى إمبراطوريتين على ظهر الأرض في ذلك الوقت، وهما الروم وفارس، وفي أقل من نصف قرن امتدت الدولة الإسلامية من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، أي: ما بين الهند والصين شرقاً إلى المغرب غرباً، وهذا البطل الإسلامي الفاتح يقف على أقصى غرب ما كان يعرف بالعالم القديم وهي بلاد المغرب، ويخوض بفرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لغزوتها في سبيل الله تبارك وتعالى.
يقول قتادة: والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم؛ حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه؛ فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فإذا شكرنا نعمة الله سبحانه وتعالى بإقامة الإسلام، وإقامة حدود الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى يعطينا ما أعطى من قبلنا من السابقين الأولين، وإذا كفرنا بهذه النعمة عدنا إلى تأثير البيئة الأولى، وعدنا إلى الذل والهوان والضياع.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعد ما حكى قول قتادة: أن الأمر في العرب: وهذا وإن كان كما ذكر قتادة، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآيات عليه تكلف لا يخفى، فالظاهر ما ذكرنا.
يعني: مع أن كلام قتادة حق، لكن الراجح هو أن الآية تختص بالمهاجرين الأولين، فقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، فحمل كلمة ((النَّاسُ)) على من عدا العرب من الأمم فيه تكلف، ولذلك فهو قول بعيد، والأقرب أن تحمل كلمة ((النَّاسُ)) على كفار مكة.
وقوله: ((فَآوَاكُمْ)) يعني: إلى المدينة، وهذا أقرب، ((وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)) في بدر، ((وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) بإباحة الغنائم لأول مرة، ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)).(69/5)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)
ثم قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه، وكان من شكره الوقوف عند حدوده، بين لهم ما يحذر منها، فبين أن من شكره عز وجل الكف عن المعاصي والوقوف عند حدود الله عز وجل، ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه، ومجاوزة حدوده، ويدخل في خيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رفض سنته، وإفشاء سره للمشركين.
وقوله: ((وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ)) من خيانة الأمانة الغلول من المغانم، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر، وكل ما تعبدوا به.
وقد روي في نزول الآيات شيء مما ذكرنا، ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره، ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فاستشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول على حكم سعد.
وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم.
أي: كانت تجارته وأمواله وأولاده وأهله مع اليهود، وله مصالح عندهم.
يعني: أشار إلى حلقه، يعني: أنه الذبح، قال أبو لبابة: (ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله عليه الصلاة والسلام).
يعني: أنه ما تحول عن موضعه الذي كان فيه حتى أفاق إلى نفسه وانتبه، وعرف أنه بهذه الإشارة قد خان الله ورسوله؛ لأنه أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخان الأمانة، ثم حلف فوراً في الحال ألا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى المسجد، فربط نفسه بسارية، فمكث أياماً حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد، ثم أنزل الله توبته، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فحله، فقال: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة)، يعني: تكفيراً عن هذه المعصية، وشكراً لله أن تاب الله عليه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث أن تصدق به)، أي: لا تتصدق بكل مالك.
قال بعض المفسرين: دل هذا السبب -سبب نزول الآية- على جواز إظهار الجزع على المعصية، أي: أنه يجوز للإنسان إذا وقع في معصية أن يظهر الجزع والتألم الشديد لهذه المعصية، وإتعاب النفس وتوبيخها، ويجوز أيضاً أن يعاقب الإنسان نفسه بأن يلزمها بما فيه مشقة عليها، توبيخاً لها على المعصية، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة رضي الله تعالى عنه ما فعله بنفسه.
ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة، فالإنسان إذا بدرت منه معصية وفرط منه ذنب فيستحب أن يبادر بأن يتبعه بالحسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، بل كما قال الله عز وجل في سورة هود: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فمن كفارة السيئات أن يتبعها الإنسان بأعمال صالحة، ومن هذه الحسنات الصدقة، كما في قصة أبي لبابة رضي الله تعالى عنه.
وفي هذه الآية: نهي عن أي معصية، فأي معصية هي خيانة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فتضييع الزكاة خيانة لله والرسول وللأمانة، وتضييع الصلاة، وإطلاق البصر إلى الحرام، كل هذه تدخل في الخيانة؛ لأن الأمانة هي التكاليف الشرعية، كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] إلى آخر الآية، فتضييع هذه الأمانات من الخيانة، كما أوضحت هذه الآية الكريمة.
وفيها دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لقوله: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))، يعني: لا يستوي من علم أن هذا حرام مع من لم يعلم أن هذا حرام، فإذا قامت حجة الله سبحانه وتعالى عليك بالعلم والهدى من الوحيين الشريفين، فعليك أن تعمل بما علمت، وإلا فلو تجاسرت على انتهاك حدود الله سبحانه وتعالى، وارتكاب المعاصي وأنت تعلم، فالتوبيخ في حقك يكون أشد؛ لأن من يأتي المعصية عن علم ليس كمن يأتيها عن جهل.
ففي قوله تعالى: ((لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لأن المعنى: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) أي: تعلمون تبعة ذلك ووباله.(69/6)
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)
ثم قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد.
فما الذي يدفع الناس إلى أن يسوغوا ما يرتكبونه من معاصٍ إلا الخوف على الأولاد والأهل؟ وما الذي يدفع المرتشي إلى الرشوة؟ يريد أن يرضي زوجته وينفق على أولاده.
وما الذي يدفع الكذاب إلى الكذب؟ حب الأهل والأموال والأولاد.
وما الذي يدفع إلى اقتحام الشبهات وتعاطي الشهوات؟ وما الذي يزين للناس هذه الخيانة التي نهي عنها في هذه الآية؟ إنه حب الأولاد وحب الأموال.
قال الرازي: فلما كان الداعي إلى الإقدام على خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو حب الأموال والأولاد، نبه تعالى أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب، فرب عدو يلبس ثياب الصدق، قال عز وجل: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28].
فقوله: ((فتنة)) يعني: محنة من الله سبحانه وتعالى ليبلوكم؛ لأننا في الدنيا في دار الابتلاء وفي دار الامتحان، والآخرة هي دار ظهور النتائج، فقد يخفى علينا حقيقة أو عاقبة ما نفعل من أعمال؛ لأننا مازلنا في دار الابتلاء والامتحان، ولذلك يختبرنا الله سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
وكلمة (فتنة) مأخوذة من الفتن، يقال: هذا دينار فتين، أي دينار محروق، وذلك أن خام الذهب يكون مختلطاً بشوائب كثيرة جداً، ولذلك فإن بعض الأماكن قد يكون فيها ذهب، لكن تصنيع الذهب وتنقيته من الخامات يكلف أكثر من قيمة الذهب، فلذلك يعرضون عن محاولة استخراج الذهب من هذه الأماكن.
فإذاً: المعدن الخام الذي تخالطه الشوائب إذا أردنا أن نستفيد منه، ونستخرج منه الذهب نصهره في الفرن؛ لأنه إذا صهر يتميز، قال عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، فعملية صهر الذهب تسمى عملية الفتن، فالفتن هو: صهر الذهب الخام كي يتميز الذهب الخالص عن الشوائب التي تخالطه، ومن ذلك أخذت كلمة (الفتنة) في الشرع، كما قالوا في الإمام أحمد: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر.
أي أن الإمام أحمد أدخل في فتنة القول بخلق القرآن فما زادته الفتنة إلا صلابة وإيماناً وثباتاً.
فالفتنة هي اختبار، وهي كالفرن تماماً؛ لأن الله عز وجل يميز بها الخبيث من الطيب، فكل ما يعرض للإنسان من بلاء من أجل اختباره وامتحانه فهو فتنة، قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، أي: دون أن يبتلوا ويمتحنوا.
ومن هذه الفتن الأموال والأولاد، فحب المال والولد فتنة، بمعنى: أن العداوة عداوتان: عداوة ظاهره وعداوة باطنة، فالعداوة الظاهرة كالشخص الذي يكاشحك ويظهر لك العداوة، وهذا يقال له العدو الكاشح، فأنت تعرفه، وهناك عدو أخطر، وهو شخص تحبه، لكنه يفتنك، بمعنى: أنه بسبب حبه يصرفك عن حب الله ورسوله، ويوقعك في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن ثمَّ يفسد عليك دينك، فيلتقي في النتيجة التي تترتب على محبته مع العدو الظاهر؛ لأن هذا يؤذيك وهذا أيضاً يؤذيك في دينك.
فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((وَاعْلَمُوا))، وها اللفظ دليل للشعار الذي يرفعه الناس دائماً: اعرف عدوك.
فإن الإنسان قد يكون له عدو شديد الإيذاء له وهو لا ينتبه لعداوته، كما قال عز وجل عن المنافقين: {لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]، فلذلك حذرنا الله سبحانه وتعالى منهم؛ لأن العدو الخفي أشد في نكايته من العدو الظاهر؛ لأنك تتقي العدو الظاهر وتحذر منه.
وهكذا عداوة الأهل والأولاد للإنسان من حيث إفساد دينه عليه، فلذلك نبه الله سبحانه وتعالى أن كثيراً من الناس لا يتفطنون لهذه العداوة، ولذلك صدرت الآية بقوله: ((وَاعْلَمُوا))؛ لأن كثيراً من الناس لا يعلمون، ولا يستحضرون أن الأموال والأولاد فتنة.
فهذا من باب: اعرف عدوك، وكثير من الناس يتمادون في طاعة إبليس وهم لا يشعرون أنهم جنود لإبليس ومطيعون لإبليس، مع أن الله سبحانه وتعالى لخفاء هذه العداوة بيّن أننا لا نرى إبليس أمامنا عدواً، فقال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فبلا شك أن مثل هذا العدو خطير.
فمثلاً: سمعنا كثيراً عن أسطورة وخرافة طاقية الإخفاء، فتخيل لو وجدت حرب بين المسلمين واليهود، وافترضنا -جدلاً- أن من لبس طاقية الإخفاء اختفى، فأي نكاية يمكن أن يحدثها هذا باليهود، فإنه يدخل في صفوفهم دون أن يروه، ويفعل بهم ما يفعل وهم لا يرونه، فتكون النكاية شديدة؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه.
فاستحضر أنت إذاً أن هذا العدو الخفي لابس طاقية إخفاء، والله سبحانه وتعالى قد حكم وقضى فقال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فانظر إلى إبليس وجنوده إلى أي مدىً يستطيعون أن يوقعوا الأذى بالإنسان، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى ومن بركة الوحي الذي أنزله أن أعلمنا بعداوته، فهو عدو لا نراه، ولكنه شديد العداوة لنا، وإن أي عدو آخر يمكن أن تعقد معه عقداً للمصالحة، أو تحسن إليه، فالإحسان له أثر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن علينا معشر المؤمنين أن نيأس من أن يكون هذا الحال هو حالنا مع إبليس، فلا يوجد سبيل على الإطلاق للصلح مع إبليس، ولا يمكن عقد مهادنة معه ولا مصالحة، فالإحسان إليه لا يمكن أن يؤثر فيه، بل يزيده عداوة وحسداً، فبين الله سبحانه وتعالى أن مثل هذا العدو لا يوجد حل معه سوى أن نتخذه عدواً، فقال عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]، وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]؛ لأنه عدو خفي.
ومن الأعداء الأخفياء: الأهل والأموال والأولاد، فالولد في الظاهر هو ثمرة فؤادك وفلذة كبدك، لكنه إذا فتنك عن الدين وكان سبباً في ركوب الشبهات والمحرمات وخيانة الله ورسوله فإنه عدو، كما فعل أبو لبابة رضي الله عنه؛ فإنه كانت له مصالح عند اليهود؛ حيث كان عندهم الأولاد والأموال، فخشي عليهم، وكما فعل حاطب بن أبي بلتعة في القصة المعروفة، فهذه عداوة خفية، وهي شديدة النكاية؛ لأنها غير ظاهرة، وأغلب الناس لا يلتفتون إليها، فأحدهم يعتبر أن هذا عذر مقبول، وأنه حين يقبل الرشوة سوف يؤكل الأولاد، فبسبب ذلك يقبل الرشوة، ويسافر إلى بلاد الكفار، ويقول: سوف نأتي بمال ليأكل الأولاد منه، وأنا سوف آتي بمال وأثمره.
ويغفل عن أن هذا المسوغ الذي يذكره قد حذرنا الله سبحانه وتعالى من أن نضعه في اعتبارنا حينما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
فقوله: ((فِتْنَةٌ)) يعني: محنة من الله، ليبلوكم هل تقعون بهما في الخيانة أو تتركون لهما الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا تلهون بهما عن ذكره، فسموا فتنة اعتباراً بما ينال الإنسان من الاختبار بهم.
ويجوز أن يراد بالفتنة: الإثم والعذاب.
وذلك باعتبار أن الأولاد والأموال سبب لحصول العذاب إن أدوا إلى خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الحاكم: قد أمر الله بالعلم بذلك.
يعني: أن هذه الحقيقة أمرنا الله بأن نعلمها، وأنها مما ينبغي أن نتعلمه، ونتنبه له، ونتفطن إليه.
فكيف نحصل هذا العلم؟ نحصل هذا العلم بالتفكر في أحوالهما وزوالهما، ونعلم أن المال غادٍ ورائح، وضيف زائل، والأولاد كذلك، ولا ينفعك إلا عملك الصالح.
فطريق العلم بما أمرنا الله بأن نعلمه في هذه الآية: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، بالتفكر والتأمل في أحوالهما وزوالهما وقلة الانتفاع بهما، وكثرة الضرر منهما، وأنه قد يعصى الله بسببهما، صحيح أن هناك محبة فطرية للمال وللأولاد، لكن هذه المحبة إذا كانت على حساب الدين فهي تتحول إلى فتنة وإلى سبب من أسباب العذاب.
وقوله سبحانه: ((وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) يعني: لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد، فلم يورط نفسه من أجلهما، وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة، في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، قيل: هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.(69/7)
تفسير قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)
نهانا الله تعالى عن خيانة الله ورسوله، ثم حذرنا من فتنة الأموال والأولاد، ثم بشر من يحصن نفسه من هذه الفتنة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
قال المهايمي: أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه.
فالله عز وجل قال: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم بعد ذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، ثم بشر من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه، فأنت إذا تركت الرشوة -مثلاً- أو تركت الشبهات، مع أنك تريد المال لتثميره ولحاجات أولادك، اتقاء لله وخوفاً من عذابه، فلا تظنن أن الله يضيعك، بل أبشر إذا نجحت في هذه الفتنة بما ذكره هنا: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ))، يعني: بعدم الخيانة ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).
فلا تخافوا على أهل ولا مال ولا عرض كما خاف أبو لبابة، فإن من اتقاه تعالى لم يجترئ أحد على أهله وحوزته؛ لأنه يؤتى فرقاناً يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز؛ لأنك إذا حققت تقوى الله سبحانه وتعالى فإن نور التقوى يضيء على أركانك وعلى كيانك، بحيث ينزل الله عليك من المهابة ومن عزة الإيمان والتقوى ما يجعل أعداءك يحجمون عن أذيتك.
وقيل: إن معنى قوله: ((فُرْقَانًا)) أي: نصراً.
فعلى التفسير الأول يعطيك مهابة وإعزازاً تتميز به عن غيرك، فلا يجترئ أحد عليك أو على أهلك وولدك، وعلى التفسير الثاني يعطيك نصراً؛ ومن كان معه فرقان فإنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41]، يعني: يوم النصر.
وقيل: إن معنى قوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) يعني: بياناً وظهوراً يشهر أمركم، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم: بت أفعل كذا حتى طلع الفرقان.
يعني: حتى طلع الفجر.
وقيل: إن معنى قوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) أي: فصلاً بين الحق والباطل، ومخرجاً من الشبهات، على أن الفرقان هنا مخرج علمي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا استغلقت عليه مسألة من مسائل الفقه يبادر إلى المساجد العتيقة، ويترب وجهه بالسجود لله سبحانه وتعالى ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني.
فيبادر إلى التقوى، وإلى التذلل، وإلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، فيفتح الله عليه ما انغلق من المسائل، وكان أحياناً يكثر من الاستغفار، فيفتح الله عليه بإجابة هذه المسائل.
إذاً: هذا مخرج ليس إلا لأهل الإيمان، فأنت كلما ضاق عليك الأمر في تحقيق التقوى كوفئت في الجانب الآخر، بأن يجعل الله لك مخرجاً، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]، وإذا لم يجعل لك مخرجاً فارجع وابحث؛ فأنت لم تتق الله، وعندك خلل هو السبب في عدم حصول المخرج؛ لأن وعد الله لا يخلف.
ولذلك نقول: إن هذه الآية هي الدليل الصحيح لهذا المعنى الذي ذكرنا، ويخطئ بعض الناس في الاستدلال لهذه المسألة بقوله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282]، حيث يشيع الاستدلال على ألسنة كثير من الخطباء والناس على أن التقوى سبب في حصول العلم، وهي حقيقة صحيحة، فالتقوى سبب حصوله، لكن المناقشة هنا ليست في المدلول، فنحن متفقون على المدلول، وإنما المناقشة في الدليل، هل يدل على ذلك أم يدل على أمر آخر؟ فلو كانت هذه الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] كما يقولون لجزم الفعل (يعلمْكم) وحذف الواو، كما تقول: كل تسمنْ، ذاكر تنجحْ، اتق الله يعلمْك الله، فالفعل الذي يقع في جواب الأمر يكون مجزوماً.
لكن هذه الحقيقة نفسها ثابتة، فإن التقوى سبب من أسباب حصول البصيرة والعلم.
وليس دليلها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، وإنما دليلها قوله تعالى هنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، أي: نوراً وبصيرة وعلماً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك كلما ازداد الإنسان في التقوى وفي العلم زال عنه الاشتباه في كثير في الأمور، وكلما زاد علم الإنسان نتيجة التقوى كلما كان عنده بصيرة وتسديد، فلا تختلط عليه الأشياء، فالحلال يكون واضحاً والحرام واضحاً، والشبهات كثيراً ما تكون بسبب الجهل، ولهذا من كان عنده علم فإن الأمور تتضح له اتضاحاً جلياً، فعنده فرقان يفرق به بين الحق والباطل، ولا تلتبس عليه الأمور، وإنما تلتبس على من قل حظه من العلم والبصيرة اللذين ينتجان عن التقوى.
وكذلك يدل على هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؛ لأن المخرج لا يكون في المسائل المادية وفي قضية الرزق فقط، بل يكون أيضاً في المسائل العلمية في معرفة الشبه والبدع والضلالات والعقائد، وهذه الأشياء يجد الإنسان فيها مخرجاً بالنور الذي يهديه الله به إلى الحقائق في هذه المسائل.
فقوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) (فرقان) مصدر فرق، أي: فصل بين الشيئين، سواء كان بما يدركه البصر أو بما تدركه البصيرة، فالفرقان إما يتعلق بالبصر وإما بالبصيرة، فبالبصر كمعاينة النصر مثلاً أو النور، كما يقال: طلع الفرقان، أي طلع الفجر، أو الفرقان بمعنى: ما تدركه البصيرة وليس البصر، إلا أن الفرقان أبلغ من الفرق؛ لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وبين الحجة والشبهة.(69/8)
تفسير قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)
ثم قال عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ذكَّر الله تعالى المؤمنين بنعمه عليهم عموماً بقوله تعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ))، فقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، فذكَّر نبيه صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه خاصة في حفظه من مكر قريش به؛ ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار، وأخذ نور الإسلام في الانتشار، فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار بناها قصي بن كلاب؛ ليصلح فيها بين قريش، ثم صارت لمشاورتهم، والندوة: هي الجماعة من القوم، وندى في مكان، أي: اجتمع فيه، ومنه النادي، يعني: مجتمع الناس.
المهم أنهم اجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم، فقال أبو البختري بن هشام: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، والمنون: الدهر، وريب المنون يعني: إلى أن يموت ويهلك، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: ((لِيُثْبِتُوكَ))، وقد استدل البعض على هذا بقوله تعالى في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30].
فقوله: ((لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)) هذا حصل قبل الهجرة مباشرة، كما يدل عليه سياق هذه القصة، وسورة الطور مما نزل قبل ذلك، فلا يصح أبداً أن تكون الآية: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، مقصود بها ما جاء في هذه القصة، فهذا من أسباب ضعفها.
وقوله: ((لِيُثْبِتُوكَ)) يعني: ليحبسوك ويوثقوك؛ لأن كل من حبس شيئاً وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة.
ثم اعترض رأي أبي البختري شيخ نجدي دخل معهم، ففي بعض الروايات: أن شيخاً أتى عليه مهابة ووقار فزعم أنه شيخ نجدي، وهم لا يعرفونه، فحضر معهم هذه المشورة، فلما اقترح بعضهم هذا الاقتراح الأول -وهو أن يحبسوه ويوثقوه- اعترض هذا الشيخ النجدي الذي كان هو إبليس، -إذا صحت هذه الرواية- فقال: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم! أي: إذا حسبتموه فإن قبيلته لن تسكت، وسيأتون ويقاتلونكم ويخلصونه من أيديكم.
ثم قال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع.
أي: ينفونه، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: ((أَوْ يُخْرِجُوكَ))، يعني: من مكة، فاعترض هذا الشيخ النجدي، فقال: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم، ويقاتلكم بهم.
أي: إن أخرجتموه من بينكم ونفيتموه فسوف تنتشر دعوته في مكان آخر، فيتقوى بهؤلاء الذين يؤمنون به، ثم يعود إليكم فيهزمكم.
فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، وهذا ما ذكره تعالى بقوله: ((أَوْ يَقْتُلُوكَ)).
ثم قال النجدي اللعين: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن الله له بالهجرة، فأمر علياً فنام في مضجعه، وقال له: (اتشح ببردتي؛ فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه).
ثم خرج صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله بأبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2] إلى قوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، ومضى مع أبي بكر إلى الغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه، فرأوا علياً! فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاتبعوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر، فخيب الله سعيهم، وأبطل مكرهم، ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثاً، ثم خرج إلى المدينة.
وهذه القصة فيها كلام من حيث سندها، فموضوع العنكبوت والبيض والحمام وغير ذلك من الكلام المشهور ضعيف، والكلام في ضعف الحديث يصدم عواطف بعض الناس، ولكن ليس بأمانيكم، وإنما بحكم أهل الحديث وأهل الصنعة.
وقوله: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ)) أي: يدبر ما يبطل مكرهم.
وقوله: ((وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))، أي: أعظمهم تأثيراً، قاله المهايمي، وهو علي بن أحمد بن علي المهايمي ويقال المهائمي، توفي سنة (835هـ) وهو رجل هندي، كنيته أبو الحسن علاء الدين، ويعرف بلقب: المخدوم؛ لأنه يكثر ذكره في تضاعيف التفسير، فلذلك نذكر عنه هذه الثغرة، وهو من النوائف، والنوائف: قوم في بلاد الدكن من الهند.
قال الطبري: هم طائفة من قريش خرجوا من المدينة خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي، فبلغوا ساحل الهند، وسكنوا فيه.
وهو باحث مفسر، وللأسف الشديد كان يقول بوحدة الوجود! وولد وتوفي في الهند في مكان اسمه مهائم، وذلك نسب المهايمي أو المهائمي، وهي بلده مجاورة للبحر المحيط أو على حدوده، له مصنفات عربية نفيسة، منها: تفسير الرحمن، وتيسير المنان ببعض ما يشير إلى إعجاز القرآن في مجلدين، ولعله هو الذي يستقي منه القاسمي دائماً، وله كتب في شرح فصوص الحكم وغير ذلك، لكن للأسف الشديد والأمر المؤلم أنه كان يقول بوحدة الوجود.
يقول الله: ((وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))، هذه الآية تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقاناً يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهراً، يحفظه من مكر من مكر به، بل يمكر له على ماكره، قال سبحانه: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))، ثم أشار في الآية التي تليها إلى أن لا تخش الناس؛ فمن مكر بك مكر الله به، وأبطل كيده الذي يكيدك به.(69/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا)
أخبر تعالى عن كفار قريش وعتوهم وتمردهم، ودعواهم الباطلة عند سماع آياته تعالى، فقال عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31].
قوله: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا)) يعني: هذا الكلام ليس جديداً علينا؛ فقد سمعنا مثل هذا القرآن.
وقوله: ((لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا)) أي: مثل هذا القرآن المتلو، وهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن الكافر يتحلى بصفة الغباء والإيغال في هذا الغباء، ومثال ذلك فرعون؛ فإن الواقع كان يكذبه تماماً ومع ذلك كان لا يستحي من المكابرة.
ومثال ذلك أيضاً المسيح الدجال الذي يخرج بهذه الأشياء التي يفعلها، ويدعي أنه هو الله سبحانه وتعالى، مع أن شكله الظاهر يثبت للناس كذبه، فإنه: أولاً: أعور العين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كأن عينه عنبة طافية)، وجاء في الحديث: (وإن الله ليس بأعور)، ومعاذ الله أن يشبه الله بخلقه، لكن المقصود أن العور عيب ظاهر، وهل الخالق الذي أعطى الخلق هذا الجمال الذي وزعه فيهم يعجز عن أن يجمل نفسه؟! نحن نتكلم من حيث الرد على المسيح الدجال، فهو أعور العين ويدعي أنه هو الله! لو كان هو الله -جدلاً- لدفع هذا العيب الخلقي عن نفسه.
ثانياً: أن المؤمن يقرأ على جبين المسيح الدجال كلمة (ك، ف، ر)، حتى المؤمن الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وكذلك فرعون عيي غبي جاهل ركيك، ومع ذلك يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، فيصف موسى الذي هو أفصح الفصحاء أنه يحسن الكلام، ويقول: أنا الخطيب، ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
ففرعون مع الدلائل الواضحة على هزيمته وضعفه وخيبته وقصوره البشري يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، بل إن هذا الكبر والاستنكاف إنما قاله بعد ظهور الآيات التي تفضح كذبه، وتؤيد صدق موسى عليه السلام, ومع هذا يصل به الأمر إلى أن يتبع موسى وبني إسرائيل داخل البحر، مع أنه يرى هذه الآية! فالكافر دائماً يتحلى بالغباء، وممكن أن يكون عنده قدر من الذكاء، لكن يغلب عليه الغباء، وعمى البصيرة، فما عنده نور البصيرة ولا نور الإيمان.
فكذلك هؤلاء الذين يتكلمون هنا، كما قص الله سبحانه وتعالى خبرهم في هذه الآية: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا))، فهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن القرآن الكريم يتحداهم من بداية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، وإلى نهاية البعثة المحمدية والقرآن الكريم يتحدى هؤلاء المشركين الذين كانوا أفصح العرب على الإطلاق وأفصح الأمم، ولكن لم يستجب واحد منهم لهذا التحدي، وكل من تجاسر وحاول أن يستجيب للتحدي أتى بكلام يضحك منه العقلاء: الفيل ما الفيل، ذو ذنب قصير، وخرطوم طويل إلى غير ذلك من السخافات التي إذا سمعها الإنسان لم يتماسك من الضحك والاستهزاء بها.
فهذا منهم أيضاً من باب المكابرة، فهم مهزومون، والقرآن يتحداهم ليل نهار، ثم يقول أحدهم: أنا لو أريد أن أكتب مثل القرآن لفعلت، فهذه غاية المكابرة والعناد، كيف لا، ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من أن يشاءوا ويفعلوا وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله؟ وليس هذا فحسب، بل قال عز وجل: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، فانظر التحدي والإعجاز، ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24].
فقد كانت هذه فرصة حتى يثبتوا كذب الرسول عليه السلام، لكنهم لم يفعلوا وهذه من أوضح أدلة إعجاز القرآن الكريم، فإنه ذكر عجزهم عن فعل ذلك حتى في المستقبل، فلا شك أنهم لو قدروا على ذلك لاستجابوا للتحدي، لكن وقع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، فكان أعظم آية على أن القرآن كلام الله عز وجل.
يقول: فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله، وقُرِّعوا على العجز، وذاقوا من ذلك الأمرين، ثم قورعوا بالسيف، فلم يعارضوا بما سواه مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا، خصوصاً في باب البيان الذي هم فرسانه المالكون لأزمته، وغاية اجتهادهم به، أي: بالبيان والبلاغة والفصاحة، ومع ذلك عجزوا.
وقوله: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: ما سطروه وكتبوه من القصص، فالقرآن هذا -في زعمهم- عبارة عن أساطير الأولين، كما يحاول كثير من المنصرين إشاعة أن القرآن عبارة عن قصص مؤلفة عن التوراة والإنجيل، وهذا كذب صراح، ولا يقوله إلا إنسان جاهل جهلاً فاحشاً؛ لأن القصص القرآني مهيمن على ما عداه، فالقرآن لا يحاكي أبداً في قصصه ما وجد في التوراة والإنجيل، وإنماهو مهيمن ومصحح لما افتراه اليهود والنصارى على الله سبحانه وتعالى، وما افتروه على أنبياء الله، فالقرآن ليس محاكياً، وإنما هو مهيمن على ما سبقه من الكتب.
وقوله: ((أَسَاطِيرُ)) جمع لا واحد له، وقيل: هو جمع أسطر وسطور وأسطار، وهي جموع سطر، وكأنه جمع الجمع، وقيل: هو جمع أسطورة، كأحدوثة، والأصل في السطر الخط والكتابة، يقال: سطر، أي: كتب، ويطلق على السطر من الشيء، كالكتاب والشجر.
وقوله: ((قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، روي أن قائله النضر بن الحارث بن كلدة، وأنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وجاء منها بنسخة حديث رستم واسفنديار ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس ما قصه الله تعالى من أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، فزعم أنه مثل الأساطير التي أتى بها من هناك، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته، ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر، وأسره المقداد، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به فضربت عنقه.
وإذا صح هذا الأثر الذي فيه أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث، فاللفظ الكريم فيه نسبة الكلام إلى المجموع لا إلى واحد، وإسناد قوله إلى الجميع، إما لرضا الباقين به، أو لأن قائله كبير متبع، فهو رمز لمن يتبعونه.
وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ويغرهم بمثل هذه الجعجعة.(69/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء)
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
هذا أسلوب من الجحود بليغ، وهو غاية في الجحود، وأيضاً كما قلنا: فيه غاية الغباء وضعف العقل بالنسبة للكفار؛ لأنهم عدوا أحقية القرآن محالاً؛ فنتيجة الإيغال في الجحود قطعوا بأن القرآن مستحيل أن يكون حقاً؛ بدليل أنهم علقوا على أحقية القرآن أن ينزل الله عليهم العذاب، والمعنى: إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر.
وفي إطلاقهم الحق عليه: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)) ليسوا مفوضين الأمر لله، وإنما هذا تهكم، فهم وصفوا القرآن بأنه حق من باب التهكم بمن يقول ذلك، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين.
وقوله: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ))، ليست هذه صيغة دعاء، لأن الداعي بإخلاص يقول: يا رب! إن كان هذا هو الحق فاهدني إليه، لكن قولهم: (إن كان هذا هو الحق من عندك) تهكم واستهزاء بمن يزعم أن القرآن حق.
ونفهم من كلمة (أمطر) أنها تأتي من السماء؛ لأن الإمطار لا يأتي إلا من السماء، فما فائدة قوله عز وجل: ((مِنَ السَّمَاءِ))؟
الجواب
كأن القائل يريد أن يقول: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع سجيل، يعني: أن كلمة (حجارة من السماء) تساوي سجيل.
والمعروف أن السجيل: عبارة عن حجارة مسومة للمعذبين تمطر من السماء، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، وأنت تريد درعاً، فبدل كلمة درع تقول: مسرودة من حديد، من قوله عز وجل: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11]، أي: الدرع.
وقوله: ((أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) يعني: إما أن تمطر علينا حجارة من السماء، أو تأتينا بعذاب أليم من نوع آخر، أو هو من عطف العام على الخاص.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك -يعني: الذين كنت تنسب إليهم قبل الإسلام- حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ))، ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه.
أي: الذي هو الأصلح لهم، ولا يخفى أنه يوجد فرق بين القولين، بين القول: إنه تهكم، وبين القول: إنه دعاء.
والذي اعتمده القاسمي أن وصفهم القرآن بالحق نوع من التهكم، فقولهم: (إن كان هذا هو الحق من عندك) يعني: كما يزعم محمد وأصحابه (فأمطر علينا حجارة من السماء)؛ فلتمكنهم من الجحود علقوا نزول الحجارة على أن يكون القرآن حقاً، والمعروف أن العاقل لا يطلب أن ينزل عليه العذاب أو الحجارة من السماء.
وهذه الآية كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53]، وكقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]، أي: أنه يطلب أن ينزل عليه العذاب بسرعة.
{لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:2 - 3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:187].
وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث.
قال عطاء: لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر.
يعني: هو الذي قال: ((قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، وأيضاً قال تبارك وتعالى: ((قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))، وعلى القول بأنه النضر فقد أجاب الله دعاءه، وأتاه ما سأله من العذاب يوم بدر.
وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل.
أي: أنه هو الذي قال: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)).(69/11)
تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
وهنا يبين موجب إمهالهم، فإنهم استفتحوا وطلبوا العذاب، وقالوا: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ))، والواقع أن القرآن هو الحق من عند الله، فما الذي أوجب أن يمهلهم الله ولا يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بالعذاب الأليم؟!
الجواب
هو كرامة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن ينزل العذاب وهو في وسطهم.
ففي قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، بيان للموجب لإمهالهم، وعدم إجابة دعائهم.
واللام في قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)) لتأكيد النفي، وفي هذا دلالة على أن تعذيبهم والنبي بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، فحكمة الله تقتضي حصول الفصال قبل نزول العذاب، كما حصل للأنبياء عموماً؛ حيث كان يأمرهم الله سبحانه وتعالى بأن يزايلوا قومهم، وأن يفارقوا قومهم، فسنة الله سبحانه وتعالى وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها؛ لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه.
وتشعر هذه الآية بأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا انفصل عنهم وتركهم فحينئذ ينزل عليهم العذاب.
وقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))، ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين.
قال الطيبي: وهذا الوجه أبلغ؛ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.
وهذا معنىً لطيف جداً، فقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ))، أي: المشركين ((وَهُمْ)) أي المؤمنون ((يَسْتَغْفِرُونَ)) فالضمير (هم) لا يعود على المشركين، وإنما يعود على المؤمنين المستضعفين الذين كانوا موجودين بين ظهرانيهم، فهذا الوجه سر بلاغته أن فيه دلالة على أن بركة المؤمن متعدية، حتى إنها لتطال من يستحق نزول العذاب، فوجود الصالحين يكون مانعاً من نزول العذاب.
الوجه الثاني: أن المراد به: دعاء الكفرة بالمغفرة؛ لأنهم كانوا في الطواف يقولون: غفرانك غفرانك، كما رواه ابن أبي حاتم، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعاً من عذابه ولو من الكفرة.
الوجه الثالث: أن المراد بالاستغفار التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره، فيكون القيد منفياً في هذا.
فقوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) يعني: أن المقصود من الاستغفار: التوبة، والتوبة ينبغي أن تكون من الكفر، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا} [الأنفال:38] يعني: بالتوبة {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة:5] يعني: تابوا إلى الإسلام والتوحيد.
قال القاشاني: العذاب ثورة الغضب وأثره، فلا يكون إلا من غضب النبي أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان صورة الرحمة، والله تعالى قال في شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلهذا لما كسروا رباعيته قال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26]، فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، فهو رحمة حتى على الكفار، وكذا وجود الاستغفار، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب، فالاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته، بل الاستغفار يوجب زواله، فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الله علي أمانين لأمتي: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة).
وعلى أي الأحوال يقول: ابن كثير: يشهد لها ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك! لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله تعالى: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)، وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال: (العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله).
ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم، فالله سبحانه وتعالى قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)) وفي هذا تأمينهم من نزول العذاب الذي استفتحوا وطلبوه.
فالأمة كان فيها أمانان لنزول العذاب: الأمان الأول: وجود الرسول عليه السلام الذي هو رحمة للعالمين.
الأمان الثاني: فإذا مضى الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ربه بقي الأمان الآخر الذي ينبغي لنا جميعاً أن نتشبث به، وهو كثرة الاستغفار؛ لقوله عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)).(69/12)
تفسير قوله تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام)
ثم بين تعالى أنه لولا هذا المانع -وهو الاستغفار أو وجود الرسول عليه السلام بين ظهرانيهم- لنزل عليهم العذاب؛ لأنهم أهل لأن يعذبوا، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34].
قوله: ((وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ))، أي: كيف لا يعذبون وهم أهل للعذاب؟ وإنما منع العذاب منهم ما ذكرنا.
وقوله: ((وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، يعني: أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم وحالهم الصد عن المسجد الحرام، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة، ولاشك أن هذا صد للمؤمنين وللنبي عن المسجد الحرام.
قال القاشاني: أي: ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم، بل إنهم مستحقون بذواتهم لصدودهم وصدهم غيرهم، وعدم بقاء الخيرية فيهم، ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم.
ثم قال: فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان الخير فيهم غالباً، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب، وأما إذا تفرقوا وتزيلوا فما بقي إلا شرهم خالصاً، فوجب تدميرهم، كما وقع في وقعة بدر، ومن هذا يظهر تحقيق المعنى في قوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً))؛ لغلبة الشر على المجموع حينئذٍ.
وقوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت الحرام؛ نصد من شاء، وندخل من شاء.
فالله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، يعني: ما كانوا يستحقون ولاية المسجد الحرام، ((إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ)) أي: الذين يتقون الشرك، والله تعالى أعلم.(69/13)
تفسير سورة الأنفال [35 - 47](70/1)
تفسير قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35].
هذه الآية وردت بعد قوله تبارك وتعالى: (وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:32 - 35] فكأن هذه الآية واردة في سياق بيان سبب استحقاقهم للعذاب.
فقوله: ((وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) هذا سبب لاستحقاقهم العذاب، وقوله: ((وما كان صلاتهم إلخ)) سبب آخر، أي: وما لهم ألا يعذبهم الله وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية، فتكون الجملة معطوفة على قوله: ((وهم يصدون)).
والمكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق بالأكف، روى ابن أبي حاتم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حكى فعلهم فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضاً قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفرون، ويصفقون.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون، ويصفقون.
وعن مجاهد: أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته.
يعني: أن بعض كفار قريش كانوا يصفرون ويصفقون؛ حتى يشوشوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المسجد الحرام.
وقال الزهري: يستهزئون بالمؤمنين.
يعنى: بدل أن يصلوا لله عند المسجد الحرام كانوا يفعلون هذه الأفاعيل ليؤذوا المؤمنين.
فإذاً: تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: ((وَهُمْ يَصُدُّونَ))، في سياق تقرير استحقاقهم العذاب، أو تكون معطوفة على قوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ)).
وعلى هذا تكون تقريراً وبياناً لأسباب عدم استحقاقهم ولاية البيت الحرام.
وقوله: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، أي: لأنهم ليسوا من المتقين، ولأن صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، فمن ثمَّ لا يستحقون ولاية المسجد الحرام.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قول الفرزدق: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً فـ (أخشى) هنا بمعنى: أعلم؛ فالخشية تطلق على العلم كثيراً؛ لأن العلم سببه الخشية.
فقوله: (وما كنت أخشى) يعني: ما كنت أعلم أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً.
والأداهم: جمع أدهم، وهي الحيات السود، لكن المقصود هنا القيود، وكأنه يقول: بدل أن يكافئني أعطاني القيود وأوثقني.
والمحدرجة السمر هي السياط، أي: جلدني وقيدني بدل أن يعطيني عطاءً ويهبني هبة.
وكذلك هؤلاء بدل أن يصلوا لله حول الكعبة بالركوع والسجود والتسبيح، إذا بهم جعلوا صلاتهم التصفير والمكاء والتصدية، فقول الفرزدق: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، وكفار قريش وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، فهذا من نفس هذا الباب، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته؛ لكي يخلطوا عليه.
قوله تعالى: ((فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، أي: بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت والذي فيه استهزاء بالكعبة وبالصلاة وبالمؤمنين كفر؛ لأنه عقب قوله تعالى: ((وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية)) بقوله: ((فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)).
ولا يفهم من هذا أن المكاء والتصدية يمكن أن تكون صلاة أو يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، وإنما المقصود ذم التشويش على المصلين أو السخرية والاستهزاء؛ ولذلك قال: ((فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، وهذا فيه إشعار بأن هذا الفعل كفر؛ لأنه استهانة بشعائر الله سبحانه وتعالى وسخرية بها.
والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل ومن السبي، كما قاله غير واحد من السلف، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
قال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه هؤلاء المشركين.
ومن خصائص الصوفية أنهم وضعوا ما يسمونه ذكراً وليس ذكراً، إنما هو غفلة عن الله سبحانه وتعالى، ونسيان له وليس ذكراً، وإلا فهذا كان شأن المشركين، وهاهو القرآن الكريم يعاتبهم على ذلك.(70/2)
حكم الغناء وذكر تحريمه من القرآن الكريم
وهذه الآية أحد أربعة مواضع في القرآن الكريم تكلم المفسرون -خاصة من يميلون إلى الاستفاضة في البحوث المتعلقة بالآيات- عندها عن المعازف والغناء وما إلى ذلك.
والثانية قوله تعالى في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6].
والثالثة قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64]، وصوت الشيطان هو المزامير والأغاني والموسيقى.
والرابعة قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59 - 61] والسموء بلغة حمير هو الغناء.
وموضوع المعازف والأغاني والموسيقى تحتاج إلى بحث مفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي ظهر فيه الغناء ظهوراً فاحشاً، وصار فناً جميلاً معترفاً به، وفتن به كثير من الناس، وصد كثيراً من الناس عن القرآن الكريم، وسمم قلوب كثير من الشباب، حتى صدقت فيه مقولة الخميني الهالك: الموسيقى أفيون الشعوب.
ولكن نظراً لمنهجنا في استعراض التفسير بسرعة فنحن نضطر إلى تجاوز هذه النقطة مع قليل من التنبيهات، ولعل الله سبحانه تعالى ييسر فيما بعد محاضرة مفصلة، أو سلسلة من المحاضرات حول هذا الموضوع بكل جوانبه.(70/3)
ذم ما يفعله الصوفية من العزف والغناء عند الذكر
يقول ابن القيم: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقرآن والقراءة أشباه هؤلاء المشركين.
قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة.
يعني: حذار أن يفهم واحد أن هذه الأشياء يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، ويأخذ ذلك من قوله: ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً))؛ فهي ليست صلاة، لكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، واستبدلوا بالصلاة والركوع والسجود والتوحيد والذكر المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي.
يعني: جعل الجفاء والغلظة مكان الصلة والإحسان إليَّ، والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، لكن لهم قسط من الذنب.
فنحن لا نقول: إن هؤلاء الصوفية كفار بنفس ذلك الفعل، لكننا نقول: هم متشبهون بالكفار؛ لأنهم يماثلونهم في هذا الجزء من الانحراف وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه وتعالى لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر؛ كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه في صلاته شيء فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)، وكلمة (إنما) تفيد الحصر، فالرجال لا يصفقون.
فعجباً ممن ينتسبون للإسلام كيف يكون التصفيق شائعاً في احتفالاتهم أو مجالسهم أو مؤتمراتهم بهذه الصورة تشبهاً بالكفار! وإذا أعجبوا بشيء من الشخص الذي يخطبهم -مثلاً- فإنهم يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق، وهذه ليست سنة المسلمين؛ لأن في شرعنا أن التصفيق إنما هو للنساء في الصلاة، وأما الرجال فقد أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه كما يفعل المشركون لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً! وانحراف الصوفية بالذات في هذا الباب انحراف عجيب! ومع ذلك يريدون بشتى الحيل الشيطانية أن يسوغوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها؛ حتى إن الأمر يصل بهم إلى الاختلاط الفاحش مع النساء في الموالد ونحوها من المناسبات، ويحصل عندهم تعاطي الشيشة وتعاطي المخدرات ونحو ذلك، إضافة إلى أنها تكون مواسم للقمار والشعائر الكفرية مثل حلق رءوس الصبية، كما يفعل في مناسك حج البدوي، والطواف بالقبر والسجود له، والنذر والذبح للبدوي وكل هذه الأشياء التي ضاهوا فيها المشركين، وهذه لا شك شرك وكفر بالله سبحانه وتعالى، فعلى أي الأحوال هذه من مكائد الشيطان التي أضل بها القوم.
وربما تجدهم بعد ذلك كالجثث الميتة لا حراك بها، لا يعرفون صلاة ولا إجابة مؤذن ولا عمارة للمساجد، وإنما هو موسم تجارة ولهو شبيه بكثير من مواسم الجاهلية، فهذا ليس ذكراً لله، وإنما يخدعون أنفسهم بتسمية هذا الضلال وهذا النسيان ذكراً، ويسمون الأشياء بضد ما تستحق، لأنه ما يفعلونه غفلة عن الله، ونسيان لله سبحانه وتعالى، وهو صد عن سبيل الله عز وجل.
يقول: ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين؛ سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.
فالإنسان الذي يمتلئ قلبه بالإيمان وباليقين ويعمر بقراءة القرآن، إذا سمع الغناء أحس أنه يتعاطى سماً يسمم قلبه.
فالمشكلة أن بعض الناس قد يصفون من يصرخون فيهم بحكم الله في الأغاني والمعازف ونحوها بأنهم متشددون؛ حتى إن بعض المشاهير من المشايخ قبل فترة قريبة كتب شعراً أو نثراً، يقول ما معناه: من لم يستمتع بالأوتار تحت الأشجار فهو من جنس طبع الحمار، يعني: أنه يجعل طبع الذين لا يستحسنون الغناء والمعازف من جنس طبع الحمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فنحن لا نقول: إن سماع الموسيقى ليس فيه متعة، بل فيه متعة، لكنها متعة محرمة، فمتعاطيها كالذي يستمتع بشرب الخمر أو يستمتع بغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى، فإنه يجد في ذلك متعة، ويجد ميلاً طبعياً في نفسه لهذا الشيء.
وأما المؤمن فإنه لا ينقاد وراء هذه المتعة دون أن يحكم شرع الله فيها.(70/4)
القلب السليم يستمتع بالقرآن ويكره الغناء
فالإنسان إذا كان قلبه سليماً عامراً بالتوحيد وبالذكر، وكان وثيق الصلة بالقرآن، فبلا شك أن هذا يجعل قلبه سليماً صادقاً في حكمه على الأشياء، فإذا سمع موسيقى حتى دون أن يعرف الحكم الشرعي فيها فإنه يشعر أن فيها سماً ينفذ إلى قلبه، ومثل هذا الشعور لن يتأتى إلا إذا كان قلب الإنسان عامراً بالقرآن الكريم، فإنه يحس أن هذا قرآن الرحمن، والأغاني والموسيقى قرآن الشيطان، فقلبه يتسمم منها.
أما الشخص الذي غمرت قلبه محبة هذه الأشياء فمن الصعب أن يعطينا حكماً صادقاً، فمثلاً: أنت إذا أتيت شخصاً يتعاطى الدخان والسجائر فأخبرته بأضرار الدخان فإنه يقول لك: أنا لا أحس بشيء من هذا، بل بالعكس أنا أجد فيها متعة! في حين أن هذا الشخص لا يعد مقياساً سليماً؛ لأنه حصل له نوع من التطبيع مع المعاصي، وطبيعته السليمة قد تغيرت مع المعاصي، فلما حصل له تطبيع تلاقى في منتصف الطريق مع الباطل، وذاب فيه، وانسجم معه.
لكن العبرة بكل إنسان سليم متحرر من هذا القيد، فلو أتيت بإنسان سليم لم يتعاط في حياته شيئاً من هذا الدخان وأعطيته سيجارة، فستجد بعض الآثار الصحية عليه في الحال، كأن يسعل ويشعر بالدوار والدوخة وغيرها، وكل هذه الأعراض نتيجة لأنه سليم.
فكذلك القلب السليم إذا سمع الموسيقى يشعر بأنها سهام تطعن قلبه وتسممه، أما الشخص الذي هو غارق ليل نهار في الموسيقى مع هجره القرآن الكريم فلا يحس بحلاوة القرآن، ولا شك أن هذا يحجب عن قلبه الإحساس بالقرآن الكريم.
ولذلك ننصح كل من ابتلي بشيء من هذا أن يمر أولاً بمرحلة انتقالية يجاهد فيها نفسه بأن يمتنع من سماع هذه المعازف، وفي نفس الوقت يوثق صلته بالقرآن، فكلما زادت صلته بقرآن الرحمن فإنه يحس بالكراهية لقرآن الشيطان، وهذه نتيجة طبيعية، ولكن ربما لا تتأتى عند كثير من الناس نتيجة المواعظ والبحوث والكلام الكثير، لكن إذا ملأ الإنسان قلبه بحب القرآن ووثق صلته بالقرآن فإنه هذا أنجح علاج؛ لأن الصحة والسلامة ستعود إلى قلبه، ويبغض هذه المعاصي، فضلاً عن أن يميل إليها ويتأثر بها.(70/5)
ذم الأئمة لاتخاذ التصفيق والغناء قربة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ديناً وطريقاً إلى الله وقربةً؛ فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة.
ولهذا قال الشافعي لما رأى ذلك: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير؛ يصدون به الناس عن القرآن.
وسئل عنه أحمد رحمه الله فقال: أكرهه وهو محدث.
قيل: أتجلس معهم؟ قال: لا.
وكذلك كرهه سائر أئمة الدين، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه.
ويقول شيخ الإسلام: وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه من إحداث الزنادقة من كلام إمام خبير بأصول الإسلام؛ فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كـ ابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه؛ فهو للروح كالخمر للجسد.
يعني: أن الموسيقى والمعازف خمر للروح، وما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا من شيء يبعد عن النار إلا وقد حدث به، ولو كان هذا السماع لمصلحة شرعها الله ورسوله لحدث به؛ فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، كما أن الفقيه إذا رأى قياساً لا يشهد له الكتاب والسنة لم يلتفت إليه.
وقد سبق أن الإمام القاسمي رحمه الله تعالى تكلم بشيء من التفصيل في بحث ماض في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].(70/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله)
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
هذه الآية نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عُني بها المطعمون منهم يوم بدر؛ حيث كان هناك في طائفة المشركين اثنا عشر رجلاً من قريش يتطوعون بإطعام الذين خرجوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشرة جزر.
يعني: عشرة جمال.
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يخفى شمول الآية لأي كافر ينفق ماله ليصد عن سبيل الله، وليحارب دعوة الله، فكل من فعل ذلك فهو داخل في هذه الآية.
واللام في قوله تعالى: ((ليصدوا)) هي لام الصيرورة أو لام العاقبة.
ويصح أيضاً أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع، فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يعني: الذي هو في الحقيقة سبيل الله وإن كانوا هم لا يعتقدون أنه سبيل الله.
أي: فإذا قلنا إنها للتعليل فهم يصدون عن سبيل الله بحسب الواقع، وإذا قلنا إنها لام الصيرورة ولام العاقبة؛ فلأنهم ينفقون هذا المال ويعتقدون أنهم على حق، وأن محاربة الدين أو محاربة الإسلام لإعزاز دينهم الباطل الذي يرونه حقاً، فهم لا يقصدون الصد عن سبيل الله، لكن فعلهم يئول إلى الصد عن سبيل الله؛ لأنه دين الله في الحقيقة.
يقول: واللام في: (ليصدوا) لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وسبيل الله: طريقه، وهو دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ))، المعنى: أن الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله والصد عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم سيعلمون عما قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق وانقلابه إلى أشد الخسران من القتل والأسر في الدنيا والنكال في العقبى.
وقوله: ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)) جعل نفس الأموال تصير عليهم حسرة.
يعني: ندماً وتأسفاً، وإنما الندم والتأسف هو عاقبة أمرها، وليست هي ذاتها؛ فهذه مبالغة.
وقوله: ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ))، المراد الغلبة التي استقر عليها الأمر، فإن كانت الحرب قبل ذلك سجالاً فإن العاقبة تكون للمتقين.
قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين، فكل من يبيع سلاحاً لحرب المسلمين أو سلاحاً في الفتنة فإنه يدخل في هذه الآية.(70/7)
تفسير قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب)
ثم قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37].
((ليميز الله الخبيث من الطيب)) أي: يميز الله الكافر من المؤمن، أو يميز الفساد من الصلاح.
((ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جنهم)) يعني: يركمه ويجمعه، ويضم بعضه إلى بعض؛ حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم.
وقيل معناه أنه يضم إلى الكافر ما أنفق من المال ليصد عن سبيل الله، فيؤتى به وبماله ويجعله الله فوقه؛ ليزيد به عذابه، كما أن الذين يكنزون أموالهم يعذبون بها، وتقرن معهم هذه الأموال.
وقوله: ((أولئك)) إشارة إلى الخبيث؛ لأنه مقدر بمعنى الفريق الخبيث، أو أن الإشارة إلى هؤلاء المنفقين أموالهم ليصدوا عن سبيل الله.
وقوله: ((أولئك هم الخاسرون)) أي: لأنهم خسروا أنفسهم، وخسروا أموالهم التي أنفقوها.(70/8)
تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
ثم قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].
قوله: ((قل للذين كفروا)) يعني: أبا سفيان وأصحابه، فالتعريف فيه للعهد، أو يكون التعريف للجنس، فالمراد بها كل الكفار، فيدخل فيهم دخولاً أولياً أبو سفيان وأصحابه.
((إن ينتهوا)) أي: إن ينتهوا عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم.
((يغفر لهم ما قد سلف)) أي: من الكفر والمعاصي.
((وإن يعودوا)) أي: إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم.
((فقد مضت سنة الأولين)) يعني: الذين تحزبوا على الأنبياء، فقد عرفتم كيف كانت سنتنا فيهم، وكيف دمرناهم تدميراً.
أو أن المقصود بقوله: ((فقد مضت سنة الأولين)) الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.
وقوله تعالى: ((فقد مضت)) فيه دليل لجزاء الشرط؛ لأن تقدير الكلام: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا) انتقمنا منهم.
وقد استدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، يعني: يقطع ما قبله، كما جاء في الحديث، وفيها أن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم، أو إتلاف مال أو نفس.
وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب، حيث قالوا: إن هذه الأحكام في كل الكفار، سواء كان الكفر أصلياً أو طارئاً ككفر المرتد؛ فإن تاب لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس؛ لعموم الآية.
واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه أي: فلو أن رجلاً ذمياً وجبت عليه جزية ثم أسلم ولم يؤد هذه الجزية فإنه لا يطالب بها بعد إسلامه؛ لظاهر هذه الآية: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا)) يعني: عن الكفر، ((يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)).
وعن مالك قال: لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم؛ لأن الله تعالى قال: ((إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) و (ما): عامة تعم كل ما سلف.(70/9)
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ونعم النصير)
ثم قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:39 - 40].
((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)) فتنة: فاعل؛ لأن (كان) هنا تامة، لأنها إذا أتت بمعنى الوجود والحصول تكون تامة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فذو هنا فاعل؛ لأن كان تامة.
((حتى لا تكون فتنة)) أي: شرك أو إضلال لغيرهم وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم، أو أن قوله: ((حتى لا تكون فتنة)) يعني: حتى لا تبقى فتنة، وحتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بالله سبحانه وتعالى، وهذه هي غاية الجهاد.
((ويكون الدين كله لله)) أي: حتى يخلص التوحيد لله، فلا يعبد غيره سبحانه وتعالى.
((فإن انتهوا)) يعني: عن الكفر والمعاصي ظاهراً.
((فإن الله بما يعلمون بصير)) يعني: بما يعملون ببواطنهم بصير، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، أي: في البواطن؛ لأن البواطن لا نستطيع أن نطلع عليها، لكن نقبل منهم ما يظهرون.
فقوله: ((فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير)) يعني: سيجازيهم، وعليه حسابهم، فكفوا عنهم وإن لم تعلموا ببواطنهم، واقبلوا منهم ما يظهرون، وهذا كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).
وفي الصحيح: (أن أسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال: لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـ أسامة: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يكرر عليه: كيف تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ)، يعني: من شدة غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
وقيل: ((ويكون الدين كله لله))، أي: حتى يكون الخضوع كله لله.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40].
فقوله: ((وإن تولوا)) يعني: إن أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الشرك.
وقوله: ((فاعلموا أن الله مولاكم)) يعني: أن الله ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.
وقوله: ((نعم المولى)) أي: فلا يضيع من تولاه.
وقوله: ((ونعم النصير)) أي: فلا يُغلَبُ من نصره.(70/10)
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول)
ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به من الغنائم فقال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41].
قوله: ((واعلموا أنما غنمتم من شيء)) يعني: ما قل أو كثر من الغنيمة التي أخذتموها من الكفار.
وقوله: ((فإن لله)) أي: لله الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة.
وقوله: ((خمسه)) أي: شكراً له على نصره وإعطائه الغنيمة.
وقوله: ((وللرسول)) الذي هو الأصل في أسباب النصر.
وقوله: ((ولذي القربى)) وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
وقوله: ((واليتامى)) أي: من مات أبوهم ولم يبلغوا؛ لأنهم ضعفاء.
وقوله: ((والمساكين)) لأنهم ضعفاء كاليتامى.
وقوله: ((وابن السبيل)) وهو المسافر الذي انقطع في الطريق، ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ به.
والغنيمة هي: المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب.
أي: ما ظهر عليه المسلمون بقتال.
وكلمة: ((من شيء)) قصد بها الاعتناء بالغنيمة، ومعناها: أنه ينبغي ألا يشذ عنها شيء، فما غنمتموه كائناً ما كان يقع الإثم على من يأخذه حتى الخيط والمخيط.(70/11)
كيفية قسمة الغنائم
وينبغي أن تقسم الغنائم بين المجاهدين بهذه الكيفية المذكورة في الآية.
((فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) بضم الميم وسكونها قرئ بهاتين اللغتين، وأفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكرهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، ثم بعد ذلك يقسم ما بقي بين الغانمين بالعدل والسوية، للراجل سهم وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه؛ هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر.
ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان.
لكن القول الأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة؛ ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه الذي يسوسه، وغناء الفارس به أعظم من غناء راجلين في الحرب، فمنفعة الشخص الذي يجاهد على الفرس أكثر من منفعة رجلين.
ومنهم من يقول: تقسم عليهم بالسواء.(70/12)
وجوب العدل في قسمة الغنائم
ويجب قسمتها بالعدل، فلا يحابي أحداً لقرابته ولا لنسبه ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها، وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟).
وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال (قلت: يا رسول الله! الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وأسهم غيره سواء؟ قال ثكلتك أمك ابن أم سعد! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟).(70/13)
مصارف خمس الغنيمة
وقوله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)): قال الجمهور: الخمس يصرف على خمسة وجوه، وقال البعض: ستة.
والذي قال إنها ستة: قال: هي لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
والذي قال إنها خمسة قال: هي للرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
قال: أما ذكر الله سبحانه في قوله: ((فأن لله خمسه)) فإنما هو للتعظيم، يعني: لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، أو لبيان أنه لابد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى.
وتمسك المخالف بظاهر الآية، فأوجب سهماً سادساً لله تعالى.
قال: لأن كلام الحكيم لا يعرى عن الفائدة.
فلابد أن يكون لذكر لفظ الجلالة هنا فائدة، وهذه الفائدة هي أنه مصرف مستقل من مصارف الخمس؛ ولأنه سبق اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، فكذا هنا أيضاً يكون هناك مصرف أو وجه ينفق فيه لله سبحانه وتعالى.
ويصرف هذا السهم على هذا المذهب قيل: في وجوه الخير، وقيل: يؤخذ للكعبة المشرفة.
وما رواه البيهقي يؤيد مذهب الجمهور؛ فإنه روى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرساً، فقلت: يا رسول الله! ما تقول في الغنيمة؟ فقال: لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش، قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم).
ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؟(70/14)
كيفية التصرف في خمس النبي صلى الله عليه وسلم
أما خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له فكان أمره في حياته مفوضاً إليه، يتصرف فيه بما شاء، ويرده في أمته كما شاء صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لـ عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا عبادة! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ - يعني ذكرني بما قال -فقال عبادة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة -من بعير- بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط.
وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله بالحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم).
قال ابن كثير: هذا حديث حسن عظيم.
وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يصرفه في مصالح المسلمين.
أما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا: فمن قائل: إن سهم النبي عليه الصلاة السلام يكون لمن يلي الأمر من بعده.
ومن قائل: بل يصرف في مصالح المسلمين، كالسلاح وغير ذلك.
ومن قائل: إنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم.
ومن قائل: إنه يرد على بقية الأصناف: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، واختاره ابن جرير.
وللمسألة حظ من النظر.(70/15)
من يصرف لهم سهم ذوي القربى
أما قوله تعالى: ((ولذي القربى)) فأجمعوا على أن المراد بذوي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم.
وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية، وكذلك في أول الإسلام، حتى إنهم دخلوا معهم الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما حاصرت قريش بني هاشم مسلمهم وكافرهم بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبنو المطلب دخلوا معهم الشعب حمية، وطبعاً المسلمون منهم دخلوا الشعب طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما كفار بني المطلب فإنهم دخلوا معهم الشعب حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لـ أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ابني عبد مناف وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم، بل حاربوهم ونابذوهم ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذمهم أبو طالب في قصيدته التي يقول فيها: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجلاً غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضاً بنا والغياطل يعني: عوضاً بنا، والغياطل هم بنو سهم.
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصي في الخطوب الأوائل يعني: أنه يذم هؤلاء الذين لم يناصروهم.
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة منك؟ فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، رواه مسلم.(70/16)
كيفيةالتصرف في سهام اليتامى والمساكين وابن السبيل
أما سهم اليتامى فقيل: يخص به فقراء اليتامى؛ لأنه يشترط أن يكون اليتيم فقيراً.
وقيل: يعم الأغنياء والفقراء، فما داموا يتامى فلهم سهم منه.
والأظهر الثاني، يعني: أنه يعم الأغنياء والفقراء.
وأما المساكين فهم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ويكفيهم.
وأما ابن السبيل فقد ذكرنا معناه أولاً.(70/17)
وجوب الإيمان بالله عز وجل والانقياد لأوامره
وقوله تعالى: ((إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)) يعني: اعملوا بما ذكر من توزيع الغنيمة بهذه الكيفية، وارضوا بهذه القسمة، فالإيمان يوجب العمل بالعلم والرضا بالحكم.
وقد جاء في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (وآمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، ثم قال: هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان.
وقوله: ((إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا)) يعني: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل.
((عَلَى عَبْدِنَا)) أي: محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر.
((يَوْمَ الْفُرْقَانِ)) أي: يوم بدر؛ فإنه فرق فيه بين الحق والباطل.
((يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)) جمع المؤمنين وجمع الكافرين، فالتعريف للعهد، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، والمؤمنون يومئذٍ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فيقدر على نصر القليل على الكثير، كما فعل بكم يوم بدر.(70/18)
تفسير قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى)
ثم يقول تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42].
قوله: ((إذ أنتم)) هذا بدل من ((يوم الفرقان)) في قوله: {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41].
والمعنى: ((إذ أنتم)) يا معشر المؤمنين ((بالعدوة الدنيا)) يعني: الوادي الذي حده وشفيره أقرب إلى المدينة.
وقوله: ((وهم)) أي: المشركون أبو جهل وأصحابه ((بالعدوة القصوى)) يعني: بوادٍ آخر قاصٍ في الجهة الأخرى، فهو أقرب إلى مكة وأبعد من المدينة، فالعدوة القصوى هي البعدى عن المدينة مما يلي مكة.
وقوله: ((والركب أسفل منكم)) أي: العير التي فيها أبو سفيان بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها، فإنها كانت أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر.
ومن لطائف الزمخشري في استخراج إعجاز وأسرار القرآن الكريم أنه قال هنا: فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ أي: ما الفائدة التي نجنيها من هذا التوقيت بقوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) يذكرهم بيوم الفرقان، (يوم التقى الجمعان) ثم قال: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) ذكر المكان (وهم بالعدوة القصوى) ثم قال: ((وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ))؟ قال: قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه وتعالى.
فذكرهم بهذه الأحوال كلها ليعلمهم أن الأسباب المادية كانت مع المشركين، فكانوا أولى بالنصر من حيث الأسباب الظاهرة.
أما أنتم أيها المسلمون! فكنتم أولى بالهزيمة، فإذا كان الله قد نصركم فهذا ليس بكسب منكم، وإنما هو فضل من الله سبحانه وتعالى، فقد كان العدو شديد القوة شديد الشوكة من حيث العدد والعدد المتكاملة، ومهدت له أسباب الغلبة، وأيضاً المسلمون لم يخرجوا للقتال، فلذا كانوا قلة في العدد، وكانوا في ضعف، وكانت غلبتهم في مثل هذه الحال ليست أمراً عادياً، وإنما هو من أعاجيب صنع الله سبحانه وتعالى، ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحول الله وقوته وباهر قدرته.
يقول: وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار- أي: أرض مسترخية لينة- تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة.
فالعدوة القصوى التي كان فيها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً متماسكة لا بأس بها، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم؛ لأن العير كان فيها الأموال وفيها النساء، وكانت العرب تخرج إلى الحرب بالنساء وبالأموال؛ حتى يكون ذلك نوعاً من المدد المعنوي في الحرب، فتشتد حميتهم؛ لأنهم إذا هزموا سيتعرض النساء للأسر، ويصرن سبايا، فكانوا يصحبون معهم في حروبهم في مؤخرة الجيوش الأموال والنساء؛ ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على النساء على بذل جهيداهم في القتال، ولا يتركون وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم؛ لأنهم لو كان أولادهم ونساؤهم وأموالهم في المحلة التي خرجوا منها ربما زين لهم ذلك الفرار من القتال والرجوع إلى ما ينحازون إليه من الأموال والأهل، فإذا كان معهم أهلوهم وطنوا نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، وبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم.
وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر واقعة بدر؛ ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، ولم يبين هل هي العير أم هي الجيش؟ فإنهم خرجوا ليأخذوا العير، راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبَّب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عنها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان.
قال الناصر في الانتصاف: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
ثم قال تعالى: ((وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ))، يعني: لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم، أي: لأنكم قلة تخشون أن يستأصلوكم فثبطتكم هذه القلة وكثرة الأعداء بالنسبة إليكم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله سبحانه وتعالى وسبب له.
وفي حديث كعب بن مالك قال: (إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد).
وعن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء؛ حتى التقى السقاة، ونهد الناس بعضهم إلى بعض.
وقوله تعالى: ((وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)) يعني: ولكن جمع الله بينكم على غير ميعاد ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم.
وقوله: ((كان مفعولاً)) يعني: كان حقيقاً بأن يفعل، وقيل: (كان) بمعنى صار.
أي: ليقضي الله أمراً صار مفعولاً بعد أن لم يكن.
وقوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) أي: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم، ويرفع حجة الحق على الباطل؛ ليصير الأمر ظاهراً والحجة قاطعة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئدٍ يهلك من هلك، يعني: يستمر في الكفر من استمر فيه ((عن بينة)) أي على بصيرة من أمره أنه مبطل؛ لقيام الحجة عليه.
وفي هذا إشارة إلى أن نصر المؤمنين في بدر كان منه سبحانه، فمع أن الأسباب الظاهرة كلها كانت في كفة المشركين نصر المسلمين على قلتهم وضعف عددهم وعددهم، فهذه آية وحجة لتثبيت الحق في قلوب المؤمنين.
ومن الحكم أيضاً: ((ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)) وهو نصرة الإسلام وإعزاز أهله وإذلال المشركين.
وقوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ)) يعني: ليهلك بالبقاء على الكفر، فمن رأى هذه الآية -وهي نصر الله للمؤمنين مع قلتهم وضعفهم- فينبغي أن يسلم لله سبحانه وتعالى، فإذا اختار البقاء على الكفر والاستمرار عليه فقد قامت الحجة عليه، ولا عذر له في استمراره على الكفر الذي سيئول به إلى الهلكة في الدنيا والآخرة.
وقوله: ((وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ))، عبر عن الإيمان بالحياة، يعني: ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن ما كان في وقعة بدر آيات بينة، فمن كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.(70/19)
تفسير قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم)
ثم قال الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43].
((إذ يريكهم الله في منامك قليلاً)) (إذ) منصوب باذكر، أي: اذكر إذ، أو بدل آخر من يوم الفرقان في قوله: ((وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)) [الأنفال:41].
وقوله: ((إذ يريكهم الله في منامك قليلاً)) وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم.
وقوله: ((ولو أراكهم كثيراً لفشلتم)) يعني: أن الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أرى نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين في منامه قليلاً هي أن يجترئ عليهم المسلمون ويتشجعوا على قتالهم.
قال تعالى مبيناً أن هذه هي الحكمة المقصودة من هذه الرؤيا: ((ولو)) كان الله سبحانه وتعالى ((أراكهم كثيراً لفشلتم)) يعني: لجبنتم ولهبتم الإقدام، ((ولتنازعتم في الأمر)) أي: أمر الإقدام والإحجام، وبالتالي سيقول فريق: نقدم، ويقول فريق: نحجم، وبالتالي تتنازعون.
وقوله: ((ولكن الله سلم)) أي: عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته.
وقوله: ((إنه عليم بذات الصدور)) أي: يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع؛ ولذلك دبر ما دبر.(70/20)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً)
ثم قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:44].
((وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً)) انظر كيف جعل الله سبحانه وتعالى كل هذه الأسباب تمهد لإعجاز الإسلام في بدر؛ لكي يحصل القتال! فإنه أغرى كل فريق بالآخر؛ كي يحصل القتال، ثم يعز الله المؤمنين ويعز الإسلام.
ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل المؤمنين يرون الكفار قليلاً، وجعل الكفار يرون المؤمنين قليلاً.
وقوله: ((إذ التقيتم)) يعني: تصديقاً لرؤيا رسول الله عليه السلام المنامية عاينتموهم أنتم، وجعل الله سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين في أعينكم قليلين؛ إغراء لكم على الإقدام.
والمعنى: ((وإذ يريكموهم إذ التقيتم)) عند القتال، ((في أعينكم قليلاً)) وذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به، فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا.
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفاً.
وقوله: ((ويقللكم في أعينهم)) يعني: في اليقظة، وهذا أيضاً إغراء للكافرين بمقاتلة المؤمنين؛ حتى يحصل القتال، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً، فكما قلل الكفار في أعين المؤمنين كذلك قلل المؤمنين في أعين الكفار، حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وهذا مثل يضرب في القلة، يعني: قليلي العدد جداً كأكلة رأس.
وقوله: ((ليقضي الله أمراً)) أي: من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام، وكذب دين الكفر، فإن الإسلام هو دين الحق، والكفر دين باطل.
وقوله: ((كان مفعولاً)) أي: كالواجب فعله على الحكيم لما فيه من الخير الكثير.
قال الزمخشري: فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده؛ ليجترئوا عليهم قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم؛ وذلك قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران:13].
يعني: أنهم في البداية رأوا المؤمنين قلة، ثم بعد ذلك رأوهم مثليهم رأي العين، وهذا بلا شك يوقع الصدمة في قلوب الكفار والفزع والجبن عن مقاتلتهم؛ وإنما رأوهم أولاً قلة لئلا يستعدوا لهم؛ لأنهم لو رأوا المؤمنين كثرة أو على عددهم الحقيقي لاستعدوا وتهيئوا لهم، لكن إذا رأوهم قلة فإنهم لا يبالون بالاستعداد الشديد لقتالهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم آخراً.
قال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً؟ قلت: بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين.
وطبعاً لا يقال لشيء صنعه الله سبحانه وتعالى: كيف فعل؟ لأن الله على كل شيء قدير، وهذا أمر ليس مستحيلاً على الله سبحانه وتعالى، بل هو في عالم الممكن، فلا ينبغي أن يقال لله سبحانه وتعالى: كيف؟ لكن هنا الزمخشري يحاول أن يقرب الأمر إلى عقولنا بأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق من الأسباب ما يجعلهم يرون هذه الأشياء.
قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يدي هذا الرجل الذي ذهبوا إليه ديك واحد، فقال: هذا الكلام غير صحيح، كيف تقولون: إن الأحول يرى الواحد اثنين؟ ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة؟! فمعناه: أنه كان أحول.
وقوله: ((وإلى الله ترجع الأمور)) هذا فيه تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذاتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد.(70/21)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا)
ثم أرشد تبارك وتعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ومبارزة الأعداء، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
يعني: إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم، واصبروا على مبارزتهم، فلا تفروا ولا تجبنوا.
((إذا لقيتم فئة فاثبتوا)) عبر عن الحرب باللقاء، تغليباً على النزال، ولم يصف الفئة بأنها كافرة؛ لأن هذا معلوم غير محتاج إليه، والمؤمنون لا يقاتلون إلا في سبيل الله، فمتى حاربوا فئة فهم يحاربونها في سبيل الدين، ولذا لابد أن تكون كافرة.
وقوله: ((فاثبتوا واذكروا الله كثيراً)) يعني: فاثبتوا في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم، فذكر الله سبحانه وتعالى يعطي قوة للأرواح، ويعطي قوة للأبدان أيضاً، وأدلة ذلك كثيرة.
وقوله: ((لعلكم تفلحون)) يعني: إن ثبتم واستعنتم بذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً في مثل هذا الموقف فإنكم تنصرون، ومتى ما تخلى المسلمون عن ذلك فأنى لهم النصر؟! ففي نكسة عام (1967م) كان أمراً طبيعياً جداً أن يحصل ما حصل من الهزيمة؛ لأنه لم يكن هناك شيء اسمه ذكر الله سبحانه وتعالى، بل كانوا يوزعون على الجنود في ثكنات القتال صور الممثلات وصور الفنانات! ويقولون للجندي: اضرب فـ أم كلثوم معك في المعركة! اضرب ففلانة معك في المعركة! وكانت أولاء وكان هؤلاء الفاسقات يذهبن إلى صفوف الجبهة لرفع الروح المعنوية! فقوله: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)) يعني: تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم).
وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال.
وكما قلنا مراراً: العبادة الوحيدة التي لم تقيد بوقت هي ذكر الله سبحانه وتعالى، والتي حرضنا على الإكثار منها في كل وقت وفي كل حال، فقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله وفي كل أحيانه.
وقال عز وجل: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، فالإنسان لا يخرج عن حالة من هذه الحالات: إما قائم، وإما قاعد، وإما نائم، فالمقصود بذلك ذكر الله على أي حال كنت، لا كما يفهمها الصوفية أن كونها قياماً أو قعوداً هو القفز والنط، بأن يكون واقفاً ثم يرمي نفسه في الأرض ثم يميل وهكذا، فهذا التلوي وهذه الأفعال إلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى وانحراف في فهمها، إنما المقصود: اذكروا الله على كل حال تكونون عليه من الوقوف أو القعود أو الرقود.
فلو كان الاشتغال والهم والمشاغل عذراً في الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى لكان القتال كذلك، لكن انظر كيف يحرضهم الله سبحانه وتعالى على كثرة الذكر في أشد الأحوال وفي أعظم الأهوال، وهي حالة الاقتتال والالتحام المسلح بأعداء الله سبحانه وتعالى، فعلى العبد ألا يفتر عن ذكر ربه، لقوله عز وجل: ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا))، وقال عز وجل: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].(70/22)
تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا)
ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
قوله: ((وأطيعوا الله ورسوله)) يعني: في كل ما يأمران به وينهيان عنه، وهذا عام، والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد.
وقوله: ((ولا تنازعوا)) يعني: باختلاف الآراء، أو فيما أمرتم به.
وقوله: (فتفشلوا) أي: تجبنوا إذ لا يتقوى بعضكم ببعض؛ لأن التنازع سيذهب بالقوة، فإن المسلمين حين يتنازعون ويكونون قوى متضادة ستكون المحصلة ضعيفة أو لا محصلة.
وقوله: ((فتفشلوا وتذهب ريحكم)) يعني: قوتكم وغلبتكم ونصرتكم ودولتكم.
وشبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته بالريح وهبوبها، يقال: هبت ريح فلان، يعني: إذا دامت له الدولة، ونفذ أمره، قال الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون وقوله: ((واصبروا)) يعني: على شدائد الحرب، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع؛ فالصبر مستلزم للنصر.
وقوله: ((إن الله مع الصابرين)) يعني: بالنصر.
قال ابن كثير: وقد كان للصحابة رضي الله تعالى عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد من بعدهم رضي الله تعالى عنهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((ولا تنازعوا)) أي: لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد، بل ليتفق أمركم.
قال: ولقائل أن يقول: يستفاد من هذا وجوب نصب أمير على الجيش؛ ليدبر أمرهم، ويقطع اختلافهم؛ لأن هذه الوسيلة هي التي تؤدي إلى عدم التنازع؛ لأنهم إذا اتفقوا على طاعته فيما يؤمرهم به لم يبق مجال للتنازع، وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا وقال: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي).(70/23)
تفسير قوله عز وجل: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً)
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء أمرهم بالإخلاص فيه بنهيهم عن التشبه بالمشركين في انبعاثهم للرياء، فبعد ما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46] قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47].
((ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً)) أي: لا تكونوا كالمشركين الذين خرجوا من ديارهم فخراً بالشجاعة.
((ورئاء الناس)) أي: طلباً للثناء بالسماحة والشجاعة، فهم إنما خرجوا كي يقال إنهم: شجعان ومقاتلون ونحو ذلك.
وقوله: ((ويصدون عن سبيل الله)) أي: ولا تكونوا كـ أبي جهل وأصحابه وقد أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبوا وقالوا: لا نرجع حتى نأتي بدراً، فننحر بها الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا فيها القيان -القينة هي الجارية المغنية- وتسمع بنا العرب.
فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
أي: فلا يكن أمركم رياءً ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس، وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم ومؤازرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، لا تعملوا إلا لذلك، ولا تطلبوا غيره.
والرئاء: مصدر راءى، إذا أظهر العمل للناس ليروه، والمرائي يطلب نظر الناس إلى عمله؛ غفلة عن الخالق سبحانه وتعالى.
وقد يقال: راياه مراياة ورياءً على القلب.
ونصب: ((بطراً ورئاء)) لأنها مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال.
وجملة ((ويصدون)) منصوبة لأنها حال بتأويل اسم الفاعل، أو بجعله مصدر فعل هو حال، أو مرفوعة على الاستئناف.
ونكتة التعبير بالاسم (بطراً ورئاء) أولاً ثم بالفعل (ويصدون) الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم، بخلاف الصد؛ فإنه تجدد لهم في زمن النبوة، أي أنه إنما ذكر البطر والرياء بالاسم باعتبار أن ذلك غير مرتبط بزمان، وأنه دأبهم في كل الأوقات قبل الإسلام وبعد الإسلام، ذحالة العرب في قتالهم، أما الصد عن سبيل الله فإن هذا ما تجدد إلا بعد زمن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.(70/24)
تفسير سورة التوبة [1 - 6](71/1)
أسماء سورة التوبة
هذه سورة التوبة لها عشرة أسماء، قيل: إنه لا توجد سورة أكثر أسماء من الفاتحة وهذه السورة -سورة التوبة-، فهما أكثر السور من حيث الأسماء الكثيرة لهما، فالمشهور من أسماء هذه السورة: الاسم الأول: سورة (براءة) سميت بها لافتتاحها بالبراءة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1]، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها؛ لأن أكثر ما ذكر في الآية راجع إلى صدرها، وهو قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1].
الاسم الثاني: وهو أشهر أسمائها سورة: (التوبة)، لتكرر ذكر التوبة في هذه السورة الكريمة، كقوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة:3]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة:5]، وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27]، وقوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74]، وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة:117]، وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة:112] إلى آخره، فهذان الاسمان أشهر أسماء هذه السورة: سورة براءة، وسورة التوبة.
الاسم الثالث: (الفاضحة) فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة، قال: التوبة هي الفاضحة، السورة التي فضحت المنافقين، ما زالت تنزل ومنهم: ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها، ما زالت تنزل في السورة: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] ومنهم من كذا، تفضح أخبار المنافقين، وتهتك سترهم؛ ولذلك سميت: الفاضحة، حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها، فكانوا يشتكون من نزول مزيد من الآيات لأنها تفضح وتكشف وتهتك أستار المنافقين.
الاسم الرابع: (سورة العذاب)؛ وذلك لتكرر ذكره فيها.
الاسم الخامس: (المقشقشة) والقشقشة معناها: التبرئة، وهي مبرئة من النفاق، عندما تصف المنافقين بأفعال فمن تنزه عنها فإنه يبرأ من النفاق ويكون من المؤمنين.
الاسم السادس: (المنقرة)؛ لأنها نقرت عما في قلوب المشركين أي: كشفت وأخرجت ما في قلوبهم، والمنقرة يعني: التي بحثت، كما قال تعالى: {غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة:31] أي: ينبش ويحفر؛ فلذلك سميت المنقرة؛ لأنها بحثت وفتشت في قلوب المنافقين.
الاسم السابع: (البحوث) صيغة مبالغة من البحث أي: في قلوب المنافقين.
الاسم الثامن: (الحافرة)؛ لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، يعني: بحثت عنها.
الاسم التاسع: (المثيرة)؛ لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم، أي: أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
الاسم العاشر: (المبعثرة)؛ لأنها بعثرت أسرارهم، يعني: كشفت وأظهرت أسرار المنافقين.
الاسم الحادي عشر: (المدمدمة) يعني: المهلكة.
الاسم الثاني عشر: (المخزية).
الاسم الثالث عشر: (المنكلة) يعني: المعاقبة للمنافقين.
الاسم الرابع عشر: (المشردة) يعني: الطاردة لهم والمفرقة لجمعهم.
فليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة.(71/2)
سبب ترك كتابة البسملة في سورة التوبة
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال: يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) في سورة براءة، وهذا في المصاحف العثمانية، خلافاً لقراءة ابن مسعود ففيها البسملة؛ لكن في المصاحف العثمانية، لم يكتب الصحابة رضي الله تعالى عنهم سطر (بسم الله الرحمن الرحيم).
واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال: الأول: أن البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف، فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي رضي الله تعالى عنه وسفيان بن عيينة، وقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لِم لم تكتب في براءة البسملة؟ قال: لأنها أمان؛ أي: لأن البسملة أمان فيها اسم الله تعالى، وفيها الرحمة العامة والخاصة.
ويقولون: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فنزولها لرفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر بقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعاً بوصف الرحمة، فلم يناسب ذكر اسم الرحمن الرحيم والبسملة لما في ذلك من نقض الأمان وتوعد المشركين؛ ولذا قال ابن عيينة: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة.
فهذه الآية تعلن نبذ العهود، وإعلان الحرب على المشركين بعد المهلة التي سنبينها -إن شاء الله- فهذا يتنافى مع ذكر البسملة التي فيها الرحمة، وفيها لفظ الجلالة واسم الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، فلما كتب إلى أهل الحرب كـ كسرى وقيصر كتب: (بسم الله الرحمن الرحيم).
قال: إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، كانت مرحلة دعوة، فابتدأ هو بالدعوة، ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول: (سلام على من اتبع الهدى)، فمن دُعي إلى الله عز وجل فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق، أما هنا: فالسياق بخلاف ذلك، وكذا قال المبرد: إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود؛ فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
الثاني: أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتاباً فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم، علياً رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم -يعني: الحج- قرأها ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم ولا يخفى ضعفه.
الثالث: أن الصحابة لما اختلفوا هل البراءة والأنفال سورة واحدة أم سورتان، تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الحاكم يقول: استفاض النقل أنهما سورتان، ويقول أبو السعود في تفسيره: اشتهارها بهذه الأسماء -يعني: إذا كانت السورة اشتهرت بأربعة عشر اسماً- يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضاً من سورة الأنفال، ومعنى ذلك أن سورة هي أكثر سورة من حيث عدد أسمائها، فكيف بعد ذلك يشك هل هي سورة أم سورتان مع الأنفال؟! فطبعاً اشتهارها بأربعة عشر اسم يؤكد أنها سورة مستقلة، وليست امتداداً لسورة الأنفال؛ لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا، كما سنبين إن شاء الله تعالى فيما يأتي، هل هي امتداد لسورة الأنفال؛ بسبب وجود بعض التشابه بينهما أم أنها سورة مستقلة؟ فلما اختلفوا إلى فريقين: فريق يرى أنها امتداد لسورة الأنفال، وفريق يرى أنها سورة مستقلة، كان هناك نوع من الحل الوسط، يرضي الفريقين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فتركوا بينهما فرجة، ففي المصحف العثماني ختمت سورة الأنفال ثم تركت مسافة تكفي لكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذه الفرجة لا توجد بين أجزاء السورة الواحدة، إنما من شأنها أنها توجد بين السورتين، وفي نفس الوقت لم يكتبوا في الفرجة (بسم الله الرحمن الرحيم) إشارة إلى اختلافهم على مذهبين: ترك البسملة بناءً على قول من ذهب إلى أنهما سورة واحدة، وإيجاد الفرجة للدلالة على قول من قال: إنهما سورتان، وشأن السورتان أن يفصل بينهما بهذه الفرجة.
يقول الشنقيطي: ومنها أن الصحابة لما اختلفوا: هل البراءة والأنفال سورة واحدة أو سورتان؟ تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وثبتت حجتاهما بالمصحف.
الرابع: أن سورة براءة نسخ أولها، فسقطت معه البسملة، وهذا القول: رواه ابن وهب وابن القاسم، وابن عبد الحكم عن مالك، كما نقل القرطبي عن ابن عجلان وسعيد بن جبير: أنها كانت تعدل سورة البقرة.
الخامس: قال القرطبي: والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة؛ لأن جبريل لم ينزل بها فيها، قاله القشيري.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن استعرض هذه الأقوال: وأظهر الأقوال عندي في هذه المسألة: أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة: هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لـ ابن عباس، فقد أخرج النسائي والترمذي وأبو داود والإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه، ولم يخرجاه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـ عثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموهما في السبع الطول، فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهةً بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها)، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطول.
هذا الحديث يؤخذ منه: أن ترتيب آيات القرآن الكريم في السورة الواحدة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآية في الموضع الفلاني يليها كذا، هذا تم بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وبلا شك أن ترتيب الآيات توقيفي، ليس عن اجتهاد من الصحابة، وإنما هو بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يفهم منه أيضاً: أن ترتيب سوره بتوقيف أيضاً، ما عدا سورة واحدة، هي سورة التوبة، وهذا هو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة.
التنبيه الثاني: قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، وقال: إن سورة الأنفال تشبه سورة التوبة، فعند افتقاد النص من النبي عليه الصلاة والسلام على موضع سورة براءة، لجأ الصحابة إلى القياس من حيث الشبه من حيث المعنى، فوجدوا التوبة أشبه من حيث المعنى بسورة الأنفال.
يقول: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهةٌ بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن الكريم فما ظنك بسائر الأحكام، يعني: الأولى أن يعتد بالقياس الصحيح فيها.(71/3)
شرح أثر عثمان في بيان سبب حذف البسملة من سورة التوبة
وهنا نحتاج لشرح بعض الألفاظ في هذا الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـ عثمان ما حملكم -يعني: ما هو الباعث لكم- على أن عمدتم -أي: قصدتم- إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، فوضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ يقول بعض العلماء: القرآن يقسم على تقسيم معين، فأول القرآن السبع الطوال، ثم ذوات المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، فالسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وستأتي السابعة، يلي هؤلاء ذوات المئين وهي السور ذوات المئات التي فيها مائة آية، ثم المثاني، ثم المفصل.
قوله: (الأنفال وهي من المثاني) يعني: من السبع المثاني، وهي السبع الطوال، وقال بعضهم: المثاني من القرآن ما كان أقل من المئين، وهي السور التي تقل عن مائة آية.
وإذا نظرنا إلى عدد آيات سورة الأنفال نجد أنها خمس وسبعون آية، وهي أقل من مائة؛ فلذلك اعتبرها من المثاني؛ لأن المثاني هي ما كانت أقل من مائة آية؛ ولذلك قال: وهي من المثاني، وأنتم تعرفون أيضاً: أن القرآن جميعه أحياناً يسمى مثاني: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23].
وقال في النهاية: المثاني السور التي تقصر عن المئين، يعني: تقل عن مائة آية، وتزيد عن المفصل: كأن المئين جُعلت مبادئ، والتي تليها مثاني؛ كأن المئين: أول شيء يبدأ بها، والمثاني: ما يثنى به؛ ولذلك قيل: مثاني، فالقرآن كأنه يقسم إلى ما كان فوق المائة وهي المئين والسبع الطوال وما كان دون المائة، وهي المثاني؛ ولذلك سميت الأنفال من المثاني، لأنها أقل من المائة.
وقوله: (عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين) لأن سورة التوبة (129) آية، (فقرنتم بينهما) يعني: مع أن الأنفال ليست من السبع الطوال لقصرها عن المئين؛ لأنها خمسون وسبعون آية، وليست غيرها؛ لعدم الفصل بينها وبين براءة فيقول هنا: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تفصلوا بينهما بسطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ قال الطيبي: دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، يعني: السبع الطوال متفق على ست منها، وبعض الناس يعد السبع الطوال ابتداء من الفاتحة، فيقول: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، وعلى هذا القول تنتهي السبع الطوال بالأعراف، وبعضهم يقول: تبدأ بالبقرة، وبعضهم يقول: سابعة السبع الطوال هي الأنفال، وبعضهم يقول: بل السابعة هي مجموع الأنفال والتوبة، وبعضهم يقول: بما أن هناك اختلافاً ما بين الأنفال والتوبة، فالسابعة هي: يونس، وهو قول غريب! فهذا بالنسبة لخلاف العلماء، يقول الإمام الطيبي: دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا -أي: الأنفال والتوبة- منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، وعلى هذا فالسورة السابعة من السبع الطوال، هي: التوبة والأنفال، مجموعهما، عوملتا كسورة واحدة.
ومن ثم قيل: السبع الطوال هي البقرة، وبراءة، وما بينهما، وهذا هو المشهور؛ لكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنها البقرة والأعراف وما بينهما، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، وهو يحتمل أن تكون الفاتحة، فإنها من السبع المثاني، ونزّلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها، أو بانضمام ما بعدها إليها.
وصح عن ابن جبير: أنها يونس، فهذا وجه الخلاف في تحديد السبع الطوال.
المهم: أن ابن عباس لما قال لـ عثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أُنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده من كتبة الوحي -كـ زيد بن ثابت ومعاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما- فيقول: (ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا)، وهذه إشارة إلى ترتيب الآيات داخل السورة الواحدة، وأن هذا الترتيب للآيات كان توقيفياً، قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن) والتعبير هنا بقوله: (من آخر) دقيق، يعني: كأنه لم يقطع بكونها آخر، باعتبار أن سورة النصر هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، قال: (وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها) أي: لم يبين لنا أن التوبة امتداد للأنفال، بخلاف سائر سور القرآن؛ لأنهم كانوا يعرفون ترتيب سورة القرآن بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام، ما عدا هذا الموضع بالذات.
يقول: (ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها -بناءً على قياس الشبه لما لاحظوا الشبه بين الأنفال وبين التوبة- فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال).(71/4)
تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)
قال تبارك وتعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1].
(براءة) خبر لمحذوف، يعني: هذه براءة، فالمحذوف هو خبر مقدم تقديره: هذه براءة، وتنوين (براءةٌ) للتفخيم.
والبراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علاقة ولا رابطة، وانقطعت العصمة والعهد الذي بيننا.
يقول ابن إسحاق: (نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك) والعهود كانت كثيرة مع قبائل العرب، فمنهم من عوهد إلى أجل معلوم، فصلح الحديبية كانت مدته عشر سنوات، ومن سنة ست من الهجرة بدأ تنفيذ صلح الحديبية، وكانت هناك عقود أخرى مع بعض القبائل، لكنها عهود غير مؤقتة، وبعضها كانت عقود مؤقتة، إما أقل من أربعة أشهر، وإما أكثر من أربعة أشهر، فهذه السورة نزلت لبيان انتهاء نوع من هذا العقود كما سوف نبينه إن شاء الله تعالى.
قوله: (فكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك) أي أن أي شخص يريد البيت الحرام فلا يصده أحد؛ كذلك لا يخوف ولا يعتدى على أحد في الشهر الحرام، وكانت هناك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب إلى آجال مسماة، فنزلت فيهم وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله تعالى سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
وقال ابن كثير: وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهَمّ بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، ولهم عادة سيئة وقبيحة من بدع الجاهلية أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة بلا ثياب، فكره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج معهم، وهم يطوفون حول البيت بهذه الهيئة القبيحة، فكره صلى الله عليه وسلم مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة؛ ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادى بالناس: ((بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، فلما قفل أتبعه بـ علي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما يأتي؛ لأن علي بن أبي طالب من عصبة النبي عليه الصلاة والسلام وابن عمه، فبعدما بعث أبا بكر لذلك أكد بإرسال علي ليبلغ باسمه المشركين بانقضاء هذا العهد: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.(71/5)
تفسير قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)
قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:2].
((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) فقولوا لهم: سيحوا في الأرض، أي: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، فلكم مدة أربعة أشهر، وهذا الخطاب موجه لطائفة معينة من المعاهدين سوف نبينهم إن شاء الله، أي: لكم أن تسيروا في الأرض بحرية لمدة أربعة أشهر، وقد بيَّن الله تعالى في سورة الأنفال أن المسلمين بينهم وبين المشركين عهد: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فهذا نبذ للعهد، وإعلان لانقضاء العهد، وهناك مهلة زمنية لكم تتحركون فيها بحرية لمدة أربعة أشهر لا يتعرض لكم أحد، لكن بعد انتهائها، لا يوجد عهد بيننا وبينكم.
وتبدأ هذه الأربعة أشهر من يوم النحر؛ لأنه بعد ذلك قال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] أي: يوم النحر، فهي من أول أيام عيد الأضحى إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر.
والمقصود من هذا الأمر: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) أي: أنتم آمنون، فسيروا في الأرض حيث شئتم، فالمقصود تأمينهم من القتل وتفكرهم واحتياطهم ليعلموا أنه ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم، وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر فأتمت له، فإن من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت لقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4]، ويوضح هذا العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:1 - 2]، فيقول الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ) فقوله: (الذين) تفيد عموم أي فئة من المعاهدين من الكفار: ((إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))، فظاهر الآية يفيد العموم، عموم كل من عاهده المسلمون، فَيُفهم منها أنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) أنه لا عهد لكافر، فمعناها: بعدما تمر أربعة أشهر، لا يبقى لأي كافر على الإطلاق مهما كانت مدة عهده عهد، وتكون نبذت ونقضت جميع العهود، وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء، والذي يبينه القرآن الكريم ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده المؤقت أقل من أربعة أشهر، يعني: هذه البراءة وهذا الكلام بلفظ العهود، يتناول طائفتين من الناس، الأولى: هي طائفة أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، فهؤلاء أول من يقصدون بهذه البراءة، الذين هم أصحاب العهود المطلقة التي لم يحدد لها أجل أو نهاية، هذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: من كانت مدة عهده مؤقتة ومؤجلة لأقل من أربعة أشهر.
وقد روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة فيما يتعلق بنزول هذه السورة المباركة، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد الحج -أراد أن يحج في هذه السنة- ثم قال: (إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج)، أبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج، والحال أن المشركين على عادتهم القبيحة، فلم يحب أن يحج ولا أن يذهب إلى البيت إلا بعد أن يقضي على هذه العادة القبيحة، فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد أن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يؤمنوا، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فهو له إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج الذي كانوا عليه في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته.
فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، يعني: يعلنون للناس في منى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، يعلن عليهم هذه البراءة، وقال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منىً يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وإنما قيل: (يوم الحج الأكبر)؛ لأن الناس عادتهم أنهم يسمون العمرة: الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام إلى آخره.
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه في رواية أخرى: فكنت أنادي حتى صحل صوتي، -بالصاد- يعني: بح صوتي من كثرة ما كان يعلن في الموسم هذا البيان.(71/6)
تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)
قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]، من أقبح أنواع اللحن هنا أن يقال: أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ -والعياذ بالله- ولو قصدها رجل ربما كفر، لأن عطف الرسول على المشركين (بريء من المشركين ورسوله) معناه: أن الله بريء أيضاً من الرسول عليه الصلاة والسلام! وهذا من أقبح ما يقع من اللحن، فيجب أن ينتبه إلى ذلك.
{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة:3] أي: إن تبتم -أيها المشركون- من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد فهو خير لكم من الإقامة على الشرك والضلال والفساد.
{وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [التوبة:3] يعني: عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة:3] أي: غير فائتين أخذه وعقابه، لن تفوتوا الله سبحانه، بل الله قادر عليكم وإن أمهلكم.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:3] وكلمة (بشّر) هذه فيها نوع من التوبيخ والتهكم الشديد (وبشر الذين كفروا) يعني: الذين جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] فالشخص إذا سمع كلمة (بشّر) يفرح ويتوقع كلاماً يكون بشرى، وأن هذه بشارة فإذا سمع: (بعذاب أليم) يصدم بصدمة عكسية؛ لأنها عكس ما تؤديه كلمة البشارة، فهذا فيه تهكم بهم.
(وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) أي: موجع يحل بهم، وفيه من التهكم والتهديد ما فيه، كي لا يظن أن عذاب الدنيا لو فات وزال خلصوا من العذاب، فإن العذاب الشديد معد لهم يوم القيامة.(71/7)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً إن الله يحب المتقين)
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر: من له عهد مؤقت، فكل ما مضى يتعلق بطائفتين: الأولى: من كان له عهد مدته أقل من أربعة أشهر فهذه المدة تكمل إلى أربعة أشهر.
الثانية: من كان له عهد مطلق غير مؤقت بوقت، فإنه يرد إلى أربعة أشهر.
ويبقى هنا استثناء فيمن كان له عهد مؤقت مؤجل إلى مدة مضروبة عوهد عليها تزيد على مدة الأربعة الأشهر، فقال سبحانه وتعالى: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] يوجد شرط {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4].
قوله: (ثم لم ينقصوكم شيئاً) يعني: لم ينقصوكم شيئاً من شروط هذا الميثاق والعهد الذي بينكم وبينهم، فلم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط، وفي قراءة: (ثم لم ينقضوكم شيئاً) يعني: ثم لم ينقضوا عهدكم شيئاً، من النقض، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمام المدة، يعني: مع أن المدة تتطاول وتمر، لكن ثبت أنهم مواظبون وملتزمون بالعهد، فكلمة (ثم) تفيد أنهم ثابتون على العهد محترمون الميثاق مع تمادي المدة؛ لأن هذا التمادي تدل عليه كلمة (ثم لم ينقصوكم شيئاً).
(ولم يظاهروا) يعني: لم يعاونوا عليكم أحداً أي: عدواًَ من أعدائكم (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ما هي هذه المدة؟ التفسير الأرجح -والله أعلم- أن المدة هي المدة الثابتة في الاتفاق، وقد تزيد على أربعة أشهر، لكن هناك قول لـ مجاهد أن (أل) هنا للعهد، فالمدة هي إشارة إلى أربعة أشهر.
ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك منبهاً على أنه من باب التقوى فقال عز وجل: (إن الله يحب المتقين) يعني: فاتقوه في المحافظة على العهود وعدم نقضها.(71/8)
تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم إن الله غفور رحيم)
قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5].
(فإذا انسلخ) يعني: انقضى، (الأشهر الحرم) والأشهر الحرم هي مدة الإمهال، هذا هو الراجح، فلا تفسر بقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]؛ لأن هذه الأربعة الحرم هي عبارة عن شهر رجب، ثم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وهذه الأشهر الحرم ليست متصلة؛ لأن شهر رجب منفرد لوحده، ثم هذه الشهور الثلاثة الأخرى التي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم متصلة؛ لكن سياق الكلام هنا واضح في أن المقصود بقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) أنها أشهر متصلة بعضها ببعض، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فلذلك فإن الراجح هنا: تفسير الأشهر الحرم بأنها أشهر الإمهال الأربعة، وليست الأشهر الحرم التي ذكرت في موضع آخر في هذه السورة الكريمة.
(فإذا انسلخ) يعني: إذا انقضى، (الأشهر الحرم) أي: أشهر الإمهال التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي: في أي مكان في حلّ أو في حرام.
قال ابن كثير: هذا عام والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، يعني أن: بعض المفسرين قالوا: (حيث وجدتموهم) هذه عامة في أي مكان تجدوهم فيه حتى لو كانوا داخل الحرم الشريف، لكن الإمام ابن كثير يقول: هذا وإن كان ظاهره أنه عام، لكن المشهور أنه يخصص، فلا ينبغي أن يقتل الكافر داخل الحرم لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191].
((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ)) يعني: ائسروهم أسراً (واحصروهم) أي: احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتخبطوا في سائر البلاد، (واقعدوا لهم) اقعدوا لقتالهم (كل مرصد) يعني: في كل طريق وممر، (فإن تابوا) أي: عن الكفر، (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) يعني: اتركوا التعرض لهم.
(إن الله غفور رحيم) أي: يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
يوضح الشنقيطي رحمه الله تعالى هنا المقصود من قوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ))، وقد بينا أن الأشهر الحرم تبدأ من يوم النحر؛ لأنه هو يوم الحج الأكبر على الراجح، وقيل: يبدأ من يوم عرفة باعتبار قول من يذهب إلى أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة، قال رحمه الله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)، اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية، فقال ابن جرير: إنها المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، قاله أبو جعفر الباقر.
لكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))، قال ابن كثير: والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها: الأشهر الأربعة المشار إليها بقوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)).
ثم قال: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ)) أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ومعنى هذا الكلام أن قوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ)) فالأشهر هنا (أل) فيها للعهد، وهذا العهد يعود على مذكور وهو قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))، فالعهد يعود هنا إلى مذكور، وهو أولى من أن يعود إلى مقدر وهو الأشهر التي في قوله: (منها أربعة حرم) مع أن هذه الأشهر الأربع الحرم سيأتي حكمها فيما بعد في آية أخرى.
ولذلك يكرر الشنقيطي هنا قول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى فيقول: ما ذكرناه من أن المراد بالأشهر الحرم، أشهر العهد، هو الذي اختاره الأكثرون، سماها حرماً لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم، فسميت حرماً هنا؛ لتحريم الدماء في هذه الفترة التي هي: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)، فسميت حرماً لتحريم التعرض للمشركين فيها وتحريم قتالهم خلال هذه الأربعة الأشهر، فالألف واللام للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة.
ومعنى قوله: وضع المظهر موضع المضمر، يعني أنه تعالى قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ومقتضى السياق أن يقول الله سبحانه وتعالى (فإذا انسلخت) يعني: الأربعة أشهر التي سبق ذكرها من قبل في قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))؛ لكنه عدل عن التعبير عنها بسياق الغيبة إلى قوله: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ))، لأنه إذا عبر عنها بالغائب، فلن يمكن وصفها بكونها حرماً، لكن لما قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) أمكن هنا: أن توصف بكونها حرماً، بخلاف ما لو استعمل المضمر، فإنه لن توجد كلمة (الحرم) والمقصود بوصفها حرم أنه يحرم فيها قتل المشركين والتعرض لهم خلالها؛ فلذلك يقول هنا: فالألف واللام: للعهد، يعني: الأشهر التي سبق الكلام عليها آنفاً قريباً، ووضع المظهر، وهي كلمة الأشهر، موضع المضمر فلم يقل: فإذا انسلخت، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) تأكيداً لما ينبه عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم؛ لأن قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) أي: قولوا لهم: سيحوا وسيروا في الأرض آمنين أربعة أشهر، فهنا وصفها تأكيداً لهذا المعنى، الذي هو الأمان لهم في خلال أربعة أشهر، بأن قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) فهذا تأكيد؛ لأن دماءهم يحرم التعرض لها في خلال هذه الأشهر، مع ما فيه من مزيد من الاعتناء بشأن هذه الأشهر، وقيل: المراد بالأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير وضعِّف، أي: ضعف هذا القول؛ لأنه لا يساعده النظم الكريم، لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ))، فهذا مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشياء: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) يعني: مجرد أن ينقضي تواليها حينئذ تنتهي، فالترتيب بالفاء يدل على التوالي، والأشهر الحرم المذكورة في الآية الأخرى: (منها أربعة حرم) غير متوالية، فرجب مفرد، ثم بعد ذلك: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، على طرد ونسق واحد.
قال ابن القيم: (الحرم هنا، هي أشهر التسيير: فسيروا في الأرض أربعة أشهر، أولها: يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]، فإن تلك واحد فيها فرد هو رجب، وثلاثة فرد هي ذو القعدة وتالياه، ولم يسير المشركون في هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن؛ لأنها غير متوالية، وهو إنما أجزأ لهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم) وبالعقل: لو أن المقصود: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) الأشهر الحرم التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فإن عندنا الأشهر التي بين رجب وذو القعدة وهي شعبان، رمضان، شوال، وعلى هذا تكون سبعة أشهر، فالأشهر الحرم في قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) يكون معناها: عدوا سبعة شهور وليس أربعة شهور، فالأقرب هنا والراجح: أنها أربعة أشهر كما ذكرنا.
ثم قال تبارك وتعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))، الأمر بتخلية السبيل معلّق على شروط ثلاثة: الأول: (فإن تابوا) أي: عن الشرك، ووحدوا الله سبحانه وتعالى ودخلوا في الإسلام.
الثاني: إقام الصلاة.
الثالث: إيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل هذه الشروط جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر؛ ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه! يعني: قتال أبي بكر رضي الله تعالى عنه لمانعي الزكاة، وليس كل قتال أبي بكر كان قتالاً للمرتدين، وقد أطلقت كلمة: حرب الردة تغليباً؛ لأن من امتنع من أداء الزكاة قاتلهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه باعتبارهم ممتنعين عن شريعة من شرائع الإسلام، ولا يلزم من هذا تكفيرهم، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل، ولكن سأشير إليه هنا إشارة عابرة، وذلك لأن بعض الإخوة يتعاملون مع المراجع الفقهية بطريقة تحتاج لنوع من التحذير، فحينما ينقلون إجماع العلماء على أنه يجب على الإمام مقاتلة الطائفة التي تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام، كما هو مشهور ومعروف من كلام ابن تيمية وغيره من الأئمة، حتى لو ا(71/9)
تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)
قال عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6] يعني: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، وهذا يكون بعد انقضاء مدة العهد التي هي الأربعة أشهر.
(وإن أحد من المشركين استجارك)؛ لأنك تقدر على قتله، فلو كان لفترة العهد يكون غير وارد أصلاً أن يقتل؛ لوجود عهد، ووجود مدة المهلة التي هي أربعة أشهر؛ لكن الكلام هذا بعد انقضاء الأربعة أشهر، ويمكن أن يكون هذا في المشركين الذين لم يكن لهم عهد، وهم الذين نقضوا العهود وأمر بقتالهم.
فالمعنى: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي: استأمنك، فاستجارك: يعني طلب الجوار والأمان، واستأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجره إلى طلبته (حتى يسمع كلام الله) أي: القرآن الذي تقرأه عليه ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه، فلا تتعرض له، بل لا بد أنك توصله إلى المكان الذي يأمن فيه مثل قبيلته أو بيته أو بلدته، فإذا دخل بيته وداره وأوصلته بأمان فبعد ذلك يمكن أن تقاتله؛ لكن لا بد أن تبلغه إلى المكان الذي يأمن فيه، فانظر إلى عظمة الإسلام، وكيف أنه يحترم العهود حتى مع الكافرين! (ثم أبلغه مأمنه) تقيم عليه الحجة أولاً، وتعلمه القرآن، وتفهمه التوحيد، ثم بعد ذلك إن أجابك فهو مسلم، له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، أما إن أبى فإنه يجب عليك أن توصله إلى مكان الأمان الخاص به إما بيته أو قبيلته التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت بعدما يأمن ويصل إلى مأمنه.
(ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (ذلك) يعني: أن هذا الأمر بالإجارة وبإبلاغه المأمن بسبب (أنهم قوم لا يعلمون) أي: أنهم جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.
وقد دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، فالمشرك إذا طلب منك الأمان وأعطيته الأمان يجب أن تحترم هذا العهد وهذا الأمان ولا تتعرض له بسوء، فمن الغدر أن الإنسان بعدما يؤمن شخصاً يقتله.
ومن قلة الفقه ما سمعناه أن بعض الجنود الأفغان الذين يؤمرون بالخروج في جيوش الشيوعيين، وكان هناك بعض المجاهدين الجهلة الذين لم يكن عندهم فقه، يقول لهم الرجل من هؤلاء: لا إله إلا الله، ويبين لهم أنه مسلم، وأنه أكره على الخروج في حرب المجاهدين ومع ذلك فإنهم -هداهم الله- يقتلونه بمنتهى البساطة! فهذا من الجهل، ونظائر ذلك تحصل كثيراً في أماكن أخرى ولا داعي لأن نفجر الجراح من جديد؛ ولكن من أقسى ما سمعناه ما أذيع بالأمس، ونرجو أن يكون هذا الخبر كاذباً؛ لأنه لا يتصور أن يصدر من مسلم على الإطلاق، وأنا لا أكاد أصدق أن إنساناً عنده دين أو ينتسب إلى الإسلام -حتى لو كان فاسقاً أو شارب خمر- يفعل هذه الأشياء؛ فقد أذيع بالأمس أنه في الجزائر، ومعلوم أن الذي يذيع هذه الأخبار وكالات إعلام وأنباء أجنبية، يحتمل أن تكذب وتقصد بذلك التشهير، أن بعض الشباب المسلم في الجزائر أوقفوا سيارة وانتقوا منها من هم في سن التجنيد شباب، وذبحوهم ذبحاً بالسكاكين! وأرجو أن يكون هذا الكلام كاذباً؛ لأنه ليس من الممكن أن مسلماً يفعل هذا الفعل أبداً بأي صورة، وأن تراق الدماء بهذه الطريقة.
إذا كان الله سبحانه يضع للمشرك نفسه هذه الحرمة أنه إذا استأمنك فإنك تؤمنه، فما بالك بما يحصل الآن؟! وأنا أستبعد أن يوجد من الإسلاميين في الجزائر من يصل جهله إلى هذا الحد، أشياء مؤلمة جداً نسمعها؛ ولكن الذي يخفف عنا أن بعض من يتبع المخابرات الحكومية في الجزائر هرب إلى فرنسا، وأعلن هناك في الجرائد أنه أكره على أن يقوم بقتل بعض المدنيين، ثم يدَّعون بعد ذلك أن المسلمين هم الذين قتلوا هؤلاء، فلعل هذا هو الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان يستريح، وأن تكون يد المسلمين نظيفة من مثل هذه الحماقات وهذا التجرؤ على حرمات المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فكيف بلا إله إلا الله؟!) كما في قصة أسامة بن زيد.
الوصية الأبدية التي نوصي بها أنفسنا وكل أخ: إياك وإراقة دم مسلم بغير حق، إياك وإراقة الدماء، فإن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، أما إذا أراق دماً حراماً فهذه من الورطات التي لا يكاد يوجد مخرج لمن أوقع نفسه فيها، فالإنسان يجبن عند دماء المسلم، مهما يكن الأمر لا يتأول ولا يجترئ على هذه الحرمات المقطوع بحرمتها، والمحرمة يقيناً، فلا ينبغي أن تزول هذه الحرمة إلا بيقين مثله.
أما ما يحصل من المهاترات والجهل، جهل هؤلاء الناس بالفقه وبحدود الله سبحانه وتعالى، فإنهم يسيئون من حيث يزعمون الإحسان، فحرمات المسلمين ليست بهذه الخفة وبهذه الحقارة حتى تنتهك بهذه الصورة التي نشهدها.
يقول القاسمي: دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة؛ ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر، فروى البخاري في تاريخه والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً)، لأن هذا غدر، والمسلم لا يغدر.
وروى أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)، وقال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء الرسالة أو التجارة أو طلب صلح، أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
يعني: أن أي كافر حتى لو كان المسلمون في حالة حرب مع دولة كافرة -وهذا كلام أهل الفقه وأهل السير والجهاد- فدخل الكافر بعهد وبأمان إلى بلاد المسلمين، فيجب على جميع المسلمين أن يحترموا العهد، أعرف أن هذا الكلام قد يصدم عواطف كثير من الناس؛ لكن المسألة ليست بأمانيكم، وليست بعواطفنا؛ لكنها حدود الله سبحانه وتعالى، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: أنه ينبغي ما دام دخل بعهد وبأمان أن يحترم هذا المعاهد ولا يتعرض له بسوء إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه؛ لأن التعرض لشخص أعزل ليست بطولة، ليست بطولة أن الإنسان يتعرض لرجل أعزل ما معه سلاح وما دخل ليقاتل، دخل لسبب من الأسباب بغض النظر عن هذا السبب، فلا يقتل ما دام أنه قد أمّن، وفي هذا العصر الأمان يعتبر: (الفيزة) والتأشيرة، فهذا يعتبر عهد أمان، وكما ينبغي أن يفعل ذلك في ديارنا، فنحن أيضاً لا نخلو من مئات وآلاف المسلمين يذهبون إلى بلاد هؤلاء الكفار للأمان، فهل نقبل أن المسلم يدخل بلادهم بأمان ثم ينقض عهده وأمانه ويتعرض له بسوء في داخل بلادهم؟! فنفس الشيء إذا دخل الكافر بلاد المسلمين بعهد وبأمان فلا ينبغي أن ينقض عهده، وسبق أن نبهنا على هذا المعنى في مناسبة سابقة.
يقول ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
وقال القاسمي: وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، يعني: لا يعطى العهد إلا لشخص نأمن أنه يريد الخداع والمكر؛ لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله: (حتى يسمع كلام الله) لكن لو شككنا في أن أحداً يتجسس، فهذا أصلاً لا يعطى الأمان، والذي يعطي الأمان الآن هي السفارات والقنصليات كما تعلمون.
وقال: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله لإقامة الحجة عليه، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن كلام الله بحرف وصوت قديمين وهم الحنابلة ومن وافقهم كـ العضد، قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق (حتى يسمع كلام الله) فالذي يسمع كلام الله المشرك، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام الله هو هذه الحروف والأصوات، وهنا خطأ مطبعي، يبدو أن كلام القاسمي هو: فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات، فأعتقد أن كلمة (ليس) هذه غير صحيحة.
والقول: بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله: كلام الله، إلا لها، وقد اعترف الرازي -مع أنه أشعري- بقوة هذا لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] بسط لهذه المسألة.
التنبيه الأخير: يقول الرازي دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال؛ وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب ألا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنة؛ علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل؛ فلهذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال: (فأجره حتى يسمع كلام الله) وتقوم عليه الحجة وتصله البراهين، كما أن النقاش مع الكافر أو دعوته إلى الإسلام لا يشمل دخول: أسلم وإلا أقتلك، لكن إن استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، فيعطى فرصة ليفهم، وليس هذا فحسب، بل وتبلغه مأمنه.(71/10)
تفسير سورة التوبة [7 - 28](72/1)
تفسير قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله)
قال الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7]، في هذه الآية وما بعدها يبين الله سبحانه وتعالى الحكمة في البراءة من المشركين، وإنظاره إياهم أربعة أشهر، ثم بعدها السيف المرهف، فقال عز وجل: ((كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ)) أي: أمان.
قوله: ((عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ)) يعني: وهم كافرون بهما، فهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد.
قوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) يعني بذلك: أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين.
ثم قال: ((فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)) يعني: إذا لم يزالوا مستقيمين على عهدهم مراعين لحقوقكم فاستقيموا لهم على عهدهم.
((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) يعني: فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على العهد الذي ثبت بينكم وبينهم.
قال ابن كثير: وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون، فاستمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد، ومالئوا حلفاءهم -وهم: بنو بكر- على خزاعة، فقتلوهم في الحرم، وخزاعة كانوا أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله على يديه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريباً من ألفين.
أما من استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بعث إليه بالأمان والتسليم في أربعة أشهر، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] أي: يذهب حيث شاء، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام.(72/2)
تفسير قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة)
قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة:8] أي: كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم -بعدما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق- لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة؟! (إلاً) أي: قرابة، (ذمة) أي: عهد.
وهذه الجملة مردودة على الآيات الأولى، فإنه قال أولاً: (كيف يكون للمشركين) ثم قال رداً عليهم ثانياً: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة؟!) كيف يكون لهم عهد وحالهم ما ذكر؟! وفي هذا تحريض للمؤمنين على التبرؤ منهم؛ لأن من كان أسير الفرصة، مترقباً لها، لا يرجى منه دوام العهد، وهذه طبيعة المشرك الذي لا يخشى الله ولا يتقيه، وديدنه الغدر ونقض العهود والمواثيق.
ثم استأنف تبارك وتعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد، فقال عز وجل: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8]، (يرضونكم بأفواههم) أي: بالكلام المعسول والكلام الطيب.
(وتأبى قلوبهم) يعني: وتنفر قلوبهم.
(وأكثرهم فاسقون) متمردون لا عقيدة تسعهم، ولا مروءة تردعهم.
وقال: (وأكثرهم) ولم يقل: وكلهم فاسقون؛ لما في بعض الكفرة من التجافي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء، وقد كان كثير من المشركين يتصون ويتعفف عن كثير من الخصال المذمومة كالكذب والغدر والخيانة، كما قال أبو سفيان أيام كفره لما قابل هرقل: فوالله! لولا أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه.(72/3)
تفسير قوله تعالى: (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً)
قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة:9] (اشتروا) أي: استبدلوا بآيات الله.
(ثمناً قليلاً) يعني: من متاع الدنيا، والمقصود: أهويتهم الفاسدة.
{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [التوبة:9] أي: فعدلوا عنه أو صدوا غيرهم، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:9].(72/4)
تفسير قوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة)
قال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] يعني: المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ، وهذه هي طبيعة الكفر، وطبيعة الشخص الذي لا يؤمن بالله ولا يتقي الله سبحانه وتعالى إذا أمكنته الفرصة، وفي هذه السنوات الأخيرة تتجلى لنا هذه الطبيعة بصورة فاجرة لم يسبق لها مثيل تقريباً، فأنت ترى العالم كله يتنادى بما يسمونه حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية وقرارات مجلس الأمن إلى آخر هذه الخزعبلات، ثم هذه الأشياء تطبق على كل الناس إلا مع المسلمين، يستثنى المسلمون فيها، فحينما تنتهك حرماتهم وتسفك دماؤهم فلا حقوق إنسان ولا قوانين ولا معاهدات دولية ولا أي شيء من هذا، مادام هؤلاء مسلمين! كان ياسر عرفات يتحدث مع بعض الصحفيين ومنهم يهود، فكانوا يقولون له: ما هذا الذي تفعله السلطة الفلسطينية من القتل والتعذيب، وإهانة الشعب الفلسطيني، واعتقال الناس وتعذيبهم، حتى أن كثيراً منهم يموت في السجون من التعذيب؟! فرد عليهم ياسر عرفات قائلاً: لا تنسوا أننا نتعامل مع الإرهابيين، يعني: يريد أن يذكرهم بهذه القاعدة المتفق عليها بينهم، وكان يقصد حماس! فهؤلاء المنافقون واليهود لا يتذكرون حقوق الإنسان إلا مع غير المسلمين، أو مع أهوائهم، أما مع المسلمين فيستعملون الغدر والخيانة ونقض العهود، وما رأيناه في البوسنة والهرسك، وما نراه الآن في الشيشان، وما يحصل في فلسطين من غدر اليهود ونقضهم العهود، كل ذلك مما يجعل لمثل هذه الآيات الكريمات وقع خاص في نفوسنا الآن بعد التجارب المريرة التي ذقناها، فكأنها تتحدث فيما نعيشه اليوم!(72/5)
تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة)
قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:11] يعني: إن تابوا عما هم عليه من الكفر.
قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] يعني: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم مالا مزيد عليه.
قوله: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11]، هذه جملة معترضة؛ للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.(72/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم)
قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة:12] أي: إن نقضوا أيمانهم.
قوله: {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] يعني: فقاتلوهم، وإنما أوثرت هذه الصيغة وهي قوله تعالى: ((فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ))، للإيذان بأن الذين قاموا بذلك ذوو رياسة وتقدم في الكفر، فهم أحقاء بالقتل والقتال.
وقيل: المراد بالأئمة: رؤساؤهم وصناديدهم، وتخصيصهم بالذكر: إما لأهمية قتلهم لكونهم مظنة لها، أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم، لأنه لا يوصل إلى الرءوس إلا بعد هلاك من دونهم من الحراس ومن حولهم كما هو معروف في الحروب، فإنه يصعب أن يوصل للقائد حتى يهلك من حوله.
{إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12] (إنهم لا أيمان لهم) جمع يمين، يعني: لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدون نقضها محذوراً، فهم وإن نطقوا بها لا عبرة بها، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم) يعني: لا إسلام ولا تصديق لهم حتى يرتدعوا عن النقض والطعن، فإن كان عندهم إيمان وإسلام فدين الإسلام يردع ويزجر الإنسان من الغدر والخيانة.
(لعلهم ينتهون) يعني: عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.(72/7)
تفسير قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم)
ثم حض الله على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه وتعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13] (نكثوا أيمانهم) يعني: الأيمان التي حلفوها في المعاهدة.
(وهموا بإخراج الرسول) يعني: من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، فهذا نعي عليهم بجنايتهم القديمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى أيضاً: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]، وقال أيضاً: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]، وقال عز وجل أيضاً: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء:76].
قوله تعالى: ((وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) يعني: بالقتل يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم، فلما نجت العير وعلموا بذلك استمروا في السير طلباً للقتال بغياً وتكبراً وقالوا: كلا، لابد أن نمكث، ونشرب الخمر، وتعزف القيان، وينتشر بين العرب أننا لا نخاف أحداً.
وقيل: وهم بدءوكم أول مرة بنقض العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وكان ما كان.
وقال الزمخشري: قوله تعالى: ((وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) يعني: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة -البداية لحن من حيث اللغة والفصيح البداءة- لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادي أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟! ((أَتَخْشَوْنَهُمْ))، أهذا هو المانع من قتالهم؟! يعني: أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟! ((فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، فالله أحق أن تخشوه لمخالفة أمره وترك قتالهم.
((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))؛ لأن الإيمان الصحيح هو الإيمان الذي يجعل صاحبه لا يخشى إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39].(72/8)
تفسير قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)
ثم أمر تعالى المؤمنين بالقتال مبيناً حكمته فقال سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، (قاتلوهم يعذبهم الله) يعني: بآلام الجراحات والموت.
(بأيديكم) يعني: ينصركم الله عليهم، ويغلبكم عليهم.
(ويخزهم) بالأسر والاسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي: بالجراحات والموت، والمعنوي: بالرق.
(وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) يعني: يشفي صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال، فإنه إذا علم ذلك شفي صدره.
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:15]، (ويذهب غيظ قلوبهم) يعني: بما كابدوا من المكاره والمكايد.
(ويتوب الله على من يشاء) أي: فيحصل لكم أجرهم.
(والله عليم حكيم) أي: في أفعاله وأوامره.
وقد أنجز الله سبحانه وتعالى لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة، دالة على صدقه وصحة نبوته.
وفي هذه الآيات بيان لبعض الحكم من تشريع الجهاد في الإسلام، (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ولم يكن قبل موسى عليه السلام قد شرع الجهاد، وإنما كان العذاب يأتي على الكفار من السماء: إما بالصاعقة، وإما بالصيحة، وإما بالزلازل والخسف وغير ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص:43]، (من بعد موسى) يعني: كانت القرون قبل موسى تهلك بعذاب من عند الله، لكن في شريعة موسى شرع الجهاد، لماذا؟ لما فيه من هذه الحكمة؛ لأن المؤمنين إذا أمروا بمقاتلة الكفار بأيديهم، فهذا يكون أشفى لصدورهم؛ حين ينتقمون من هؤلاء الذين أذاقوهم العذاب، وحاربوا دين الله سبحانه وتعالى، فهذه من حكم الجهاد.(72/9)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم)
قال تعالى مبيناً حكمة تشريع الجهاد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} [التوبة:16] يعني: تتركوا على ما أنتم عليه دون أن تؤمروا بالجهاد، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16]، قوله: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) يعني: بطانة، يفشون إليهم أسرارهم، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، ولما يتبين الخلص من المجاهدين من غيرهم، بل لابد أن تختبروا حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ولوجه الله، (ولم يتخذوا وليجة) لم يتخذوا بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، وهذه من الأساليب الفصيحة عند العرب وهو: الاكتفاء بذكر أحد القسمين والإعراض عن الآخر؛ لوضوح الدلالة على وجوده، كما قال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، ولم يذكر البرد؛ لأن هذا مفهوم.
كذلك هنا قال عز وجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)، ولم يقل: من غيرهم وهم المقصرون، واكتفى بذكر أحد القسمين ولم يتعرض للمقصرين؛ لأنهم بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني أي: أريد الخير أو الشر، وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، وكلها تفيد أن الجهاد شرع لاختبار المطيع من غيره.(72/10)
تفسير قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله)
قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]، (ما كان للمشركين) يعني: ما صح لهم ولا استقام.
(أن يعمروا مساجد الله) أي: المساجد التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ما كان لهم أن يعمروا شيئاً منها، ولا شك أن هذا يدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أولياً، إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية.
وقرئ: (ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله) بالتوحيد، تصريحاً بالمقصود، وهو: المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن.
قوله: (أن يعمروا مساجد الله) إما أن العمارة هنا بمعنى: حفظ البناء، أو من العمرة؛ لأن العمرة معناها: الزيارة، يعني: يزوروا مسجد الله، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا، يعني: أقمت به.
(شاهدين على أنفسهم بالكفر) يعني: بلسان الحال وبلسان المقال.
(أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون)، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34].(72/11)
تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)
قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، قوله: (ولم يخش إلا الله) يعني: ولم يعبد إلا الله.
(فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) يعني: من المهتدين إلى الجنة، وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات الحسنة في معرض التوقع والذي عبر عنه بكلمة عسى؛ لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محصلون الكمالات، مع أن المؤمنين متصفون بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهم متعلقون بالرجاء، ولا يقطع بنجاتهم أو اهتدائهم، فماذا يصنع الكافرون الذين لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ولم يخشوا الله سبحانه وتعالى؟! وفي هذا تنبيه للمؤمنين على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الاغترار بالله تبارك وتعالى.
والمقصود: أن حال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة، والعاقبة عند الله معلومة: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، والأعمال بالخواتيم، ولا يدري المؤمن -حتى لو تحلى بكل صفات الإيمان- بما يختم له! والأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان هي إمارة تشير إلى أنه يرجى له أن يكون من أهل الجنة، لكن لا يقطع بذلك، فليست علة موجبة، لماذا؟ لأن الأعمال بالخواتيم، والخواتيم مغيبة.
قال الزمخشري: العمارة تتناول رم ما استرم منها، والرم: الإصلاح.
وقمها -أي: جمع القمامة- أيضاً من عمارة المساجد، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد كالبيع والشراء فيها، فينبغي على المؤمنين أن يراعوا حرمات بيت الله عز وجل، وكل ما يرغب الناس في الإتيان إلى المسجد للصلاة والذكر وحضور مجالس العلم فهو من عمارة المساجد، وكل ما ينفر من حضور المسجد وتعميره فهو من تخريب بيوت الله سبحانه وتعالى، وصد الناس عنها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح).
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنة).(72/12)
تفسير قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر)
قال تبارك وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19]، روى العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، أي: نحن نعمل أعمالاً صالحة خير من الإيمان الذي تدعوننا إليه، فنحن نعمر مساجد الله ونسقي الحجيج، فكانوا يفخرون بالحرم ويتعالون على الناس بخدمة الحجاج، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، وكانوا يزعمون أنهم أولياء بيت الله، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34]، فخير الله سبحانه وتعالى الإيمان والجهاد مع رسوله على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وفضل الله سبحانه وتعالى هذا على ذاك، فقال: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ))، أجعلتم أيها المشركون.
((سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))، فبين عز وجل أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، ولا تغني عنهم عمارتهم شيئاً، فالكافر قد يعمل أعمالاً حسنة لكن مع عدم الإيمان لا يمكن أن تنفعه في الآخرة أبداً.
فشرط العمل الصالح الذي ينتفع به في الآخرة: أن يكون صاحبه وفاعله مؤمناً، هذا أولاً.
ثانياً: أن يكون مخلصاً لله، لا مرائياً.
ثالثاً: أن يكون موافقاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والسقي هو الموضع الذي يعد فيه الشراب في المواسم وغيرها، وسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله تعالى عنه في الجاهلية والإسلام.
روى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، أي: بإسلامي وإعماري للمسجد الحرام أكون حزت الخير كله، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلته، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى آخر الآية}، وعلى هذا يكون الخطاب هنا للمؤمنين حينما اختلفوا في ذلك، كما في صحيح مسلم.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه، ولفظه: أن رجلاً قال: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام إلى آخره.
فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين الذين كانوا يؤثرون السقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية الثابتة عن ابن عباس تنافيه، لأنها تفيد أن هذا كان في حق المشركين، ومما يؤيد أنها نزلت للمفاصلة بين مؤمنين بالله وغير مؤمنين -كما هي رواية ابن عباس - قوله: (كمن آمن بالله)، فلو كان الفريقان مسلمين لما قال ذلك؛ لأن كليهما قد آمن.
هذا أولاً.
ثانياً: وصفهم بالظالم لأجل هذه التسوية المذكورة، ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))، مما يؤيد رواية ابن عباس.
يقول القاسمي -مبيناً أنه لا منافاة بين ما رواه ابن عباس، ولا بين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير -: حديث النعمان يظهر أنها نزلت في اختصام المسلمين في المفاضلة بين الأمور المذكورة، ورواية ابن عباس تدل على أنها في المخاصمة بين المشركين والمسلمين.
وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وأن الآية أول ما نزلت نزلت في المخاصمة بين المشركين والمسلمين، حينما فضل المشركون سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام على الإيمان بالرسول عليه السلام، والجهاد في سبيل الله عز وجل.
وقوله تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ))، هل المقصود المفاضلة هنا بين السقاية والعمارة -وهما مصدران- وبين من آمن، أم هناك تقدير؟ هناك محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، (كمن آمن بالله واليوم الآخر)، ومثله ما جاء في سورة القتال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد:15]، فإما أن نقدر: مثل أهل الجنة كمثل أهل النار، أو نقدر: حال أهل الجنة كحال من هو خالد في النار.
كذلك هنا في هذه الآية الكريمة: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ)) المقصود: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر؟ أو أجعلتم من سقى الحاج كمن آمن بالله؟ فيقول هنا: لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلابد من تقدير مضاف في أحد الجانبين، أي: أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو أجعلتموهما كإيمان من آمن.(72/13)
تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله)
ثم بين تعالى مراتب فضل المؤمنين إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم، فقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20]، (أعظم درجة عند الله) أعظم من أهل السقاية والعمارة، وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله -إذا قلنا أن الآية السابقة في الكافرين- فالتفصيل جائز هنا، وإن كان الأصل في أفعل التفضيل اشتراك الطرفين في الصفة، أحدهما يفوق الآخر فيها، كأن تقول: محمد أقوى من علي، فكلاهما مشترك في صفة القوة، لكن محمد أكثر من علي قوة، هذا هو الأصل.
لكن أحياناً تأتي صيغة أفعل التفضيل مع عدم اشتراك الطرفين في الصفة، كما قال تبارك وتعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، يعني: من أصحاب النار، فهل معنى ذلك أنهما يشتركان في الحسن، ولكن أهل الجنة أحسن؟!
الجواب
لا.
إذاً: توجد هناك حالات لا تقتضي صيغة أفعل التفضيل وجود قاسم أو قدر مشترك في الصفة بين طرفي المفاضلة، كما في هذه الآية، على قول من يرى أن الخطاب إنما هو في حق المفاضلة بين المشركين والمسلمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
(أعظم درجة عند الله) يعني: أعظم من أهل السقاية والعمارة، وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله، لكن السياق هنا جاء على زعمهم ومدعاهم، على زعمهم أن لهم درجة عند الله، ودعواهم أن لهم درجة عند الله، فلذلك قال عز وجل: ((أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ)) في المؤمنين.
(وأولئك هم الفائزون) هذا أسلوب حصر عن طريق المبتدأ والخبر، بمعنى: أنه لا أحد غيرهم يفوز، هم فقط الذين يفوزون، فهم مختصون بالفوز دونكم، فهم الفائزون لا أنتم، {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21 - 22].(72/14)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء)
نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين عن موالاة المشركين، وإن كانوا أقرب الأقربين، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23]، (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم) يعني: أقرب الأقربين إليكم من الآباء والإخوان، لا تتخذوهم أولياء وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم وتمدحونهم وتذبون عنهم.
(إن استحبوا الكفر) يعني: إن اختاروا وفضلوا الكفر عن الإيمان.
(ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) أي: لوضعهم الموالاة في غير موضعها؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن والى أباه أو أخاه الكافر، واتخذه صديقاً وأحبه ودافع عنه، فهذا يكون وضع الموالاة في غير موضعها، والموالاة إنما تكون في الدين، فوصفهم فقال: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، لتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله سبحانه وتعالى به.(72/15)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم)
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعاً من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه، والمحبة محبتان: محبة طبعية ومحبة شرعية، أما المحبة الطبعية الفطرية فكمحبة الأب لابنه أو الابن لأبيه، أو الرجل لزوجته، وكمحبة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابن أخيه، فهذا نوع من المحبة الطبعية أو الجبلية، لكن الإيمان يقتضي أن يترك المؤمن الميل الطبيعي إذا كان هذا الميل مانعاً وحائلاً دون محبة الله، ودون محبة واسطة الوصول إلى الله، وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون محبة ما يعلي دينه وهو الجهاد في سبيل الله، فإذا كان محبة هذه الأشياء المذكورة -خاصة محبة الآباء والإخوان- تحول دون محبة الله ومحبة رسول الله ومحبة الجهاد في سبيل الله، فالإيمان يقتضي ترك هذا الميل الطبيعي وتقديم الميل والحب الشرعي عليه.
فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة:24] يعني: أقاربكم الأدنون أو قبيلتكم، قال أهل اللغة: عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، أقرب الناس إليه من حيث أبيه، أو قبيلته، والعشير مأخوذ من العشرة أو المعاشرة؛ من العشرة -الذي هو العدد- لأنها عدد كامل، ومن المعاشرة؛ لاختلاطهم وتقاربهم من بعض.
قوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة:24] يعني: اكتسبتموها.
قوله: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة:24] أي: فوات وقت نفادها بفراقكم لها.
قوله: {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} [التوبة:24] منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين.
قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:24] الذي هو المنعم لكم بكل هذه النعم، من الولد والمال والمسكن وغير ذلك، فإن كانت هذه الأشياء المنعم بها تتعارض مع محبة المنعم بها، فلا ينبغي أن تسترسلوا مع الميل إليها، وتؤثروها على مرضات الله عز وجل.
قوله: {وَرَسُولِهِ} [التوبة:24] وهو واسطة نعمه.
قوله: {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] أي: مما يعلي دينه.
قوله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] أي: انتظروا.
قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] يعني: بقضائه، وهو العذاب العاجل، أو العقاب الآجل، أو هو فتح مكة، وهذا أمر فيه تهديد وتخويف، يعني: فارتقبوا قهر الله؛ لأنكم تدعون محبة الله، ولكن في نفس الوقت واقعكم يكذب هذه الدعوى؛ لأنكم ترجحون محبة غيره على محبته سبحانه وتعالى.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] أي: الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين، والمؤثرين لما ذكر على رضاه تبارك وتعالى.
وفي الآيتين الكريمتين تحريم موالاة الكفار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]، فيحرم موالاة الكفار ولو كانوا أقرباء، وهذه الموالاة كبيرة؛ لوصف متوليهم بالظلم، في الآية أيضاً وجوب الجهاد وإيثاره على كل المشتهيات المعدودة، طاعةً لله ورسوله.
قال الرازي: الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
ونحن نحتاج هذه الآية كثيراً في هذا الزمان؛ لكثرة ما يتعرض له الإنسان من مواقف فيها موازنة بين الدين والدنيا، كما تأتي أسئلة كثيرة من هذا القبيل مثل: ما حكم بناء الشاليهات لهؤلاء الذين يأتون ليفسقوا فيها؟ أو ما حكم من يعمل في وظيفة فيها إعانة للعاصي على عصيانه؟ أو ما حكم بيع ملابس للمتبرجات؟ وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل كل أعراض الدنيا هذه في كفة، وجعل محبة الله ورسوله في كفة، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
فنحن نحتاج في الحقيقة إلى تدبر هذا، والإنسان ينبغي عليه أن يستحضر أنه في حالة امتحان وابتلاء في هذه الدنيا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان خلق ليبتلى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، فأنت إذا تركت شيئاً لله لا يمكن أن يضيعك الله، والله سبحانه وتعالى يعوضك، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فينبغي للإنسان أن يقدم الدين ولا يبالي بالدنيا؛ لأن الدنيا إذا فاتت تعوض، لكن الدين إذا جرح فلا عوض له أبداً، كما قال الشاعر: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض إذا فقد الإنسان الولد رزق غيره، وإن مرض زال المرض وأتته العافية، وإن ذهب المال فالمال غاد ورائح، لكن إذا خسرت الله فقد خسرت كل شيء، وإذا كان الله معك فإن معك كل شيء، فنحن نحتاج في هذا الزمان أن نعي هذا الكلام جيداً؛ لنحسن الموازنة والمفاضلة بين الدين والدنيا.
لأننا نجد -وهذا كمثال- بعض الناس إذا أخذ منه شيء من أمور الدنيا فإنه مستعد أن يقاتل جميع من على وجه الأرض كي يستخلص حقه، فينكر هذا المنكر بالقلب وباللسان وباليد، وربما بغى على من يخاصمه، لكن في المقابل إذا رأى حدود الله سبحانه وتعالى تنتهك، أو رأى حرمات الله عز وجل يعتدى عليها؛ فلا يحرك ساكناً، ولا يتمعر وجهه غضباً لله سبحانه وتعالى! فهذه الآية تمتحن التزامنا وتمتحن تعظيمنا للدين؛ لأن أغلب الناس يميلون إلى ترجيح الدنيا على حساب الدين، ويغترون بحال أكثر الناس، ويقول لك: الناس كلهم يفعل هكذا، ويغتر بحال هؤلاء الذين لا يبالون بدينهم، وينبهرون بدنياهم، ولو أن إنساناً وجد الناس جميعاً يقفون في الحر الشديد، وأمامهم مكان آخر فيه ظل، فهل تراه سيقف معهم في ذاك الحر الشديد، ولا يأوي إلى ذلك الظل؟! فإذا لم يتابعهم في حر الشمس فكيف يتابعهم في حر جهنم والعياذ بالله؟! والدنيا ما هي إلا أيام تعد، وأنفاس تذهب {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، والعد التنازلي في عدد الأنفاس المكتوبة لك يبدأ منذ ولدت، فأنت كل يوم أقرب إلى القبر من الذي قبله، في كل لحظة أنت أقرب إلى القبر من اللحظة السابقة عليها، فعلى الإنسان أن يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، وألا يؤثر شيئاً على دينه؛ لأن من هان عليه دينه لم يعز عليه شيء، فعلى الإنسان أن يقدم دينه على كل شيء وإذا كان لابد أن يضحي فليضح بأي شيء ما عدا الدين، فإنه أعز ما ينبغي أن يعز عليه.
يقول الرازي: في هذه الآية دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جمع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
وفي هذه الآية وعيد وتشديد؛ لأن كل أحد قلما يخلص منها، وقيل: إنها أشد آية نعت على الناس ما هم عليه من رخاوة في الدين، نبه على ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والإخوان والعشائر والمال والمساكن، وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي، كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟! يعني: أننا في مصائب الدين نتهاون بها جداً كأن ذباباً وقع على أنف أحدنا فقال به هكذا يطيره، وهذا كحال من يأتي بالدش -الستالايت- أو التلفاز أو الفيديو إلى منزله؛ ليفسد أولاده وزوجه ومن في البيت جميعاً، ثم لا يبالي بذلك الفساد العظيم، بل قد يكون مسروراً به، وهو يرى أهله وذويه يتلقون ما يفسد العقائد والأخلاق، والانحلال والفجور، ولا يحرك ساكناً، ولا يبالي بهذه المصيبة الكبيرة! لكن انظر إلى هذا إذا جرح في دنياه، كأن يتنازع مع شخص ما على قطعة أرض، أو إذا صدم رجل سيارته فأتلف له شيئاً منها، فتراه يثور ويهيج ولا يتركه حتى يصلح له ما أفسده، في الدنيا حاضر بقلبه وسمعه وبصره، ينافح عنها بكل ما يملك، أما جرح الدين فلا يبالي به، أولاده لا يصلون لا يبالي، بناته متبرجات لا يبالي!(72/16)
تفسير قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة)
قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) يعني: في مواقف وحروب كثيرة ووقعات شهيرة، كغزوة بدر وقريضة والنظير والحديبية وخيبر وفتح مكة، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم -على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم - تسع عشرة غزوة، زاد بريدة في حديثه: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة في ثمان من هذه التسع عشرة غزوة، ويقال: إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون، وقيل: ثمانون.
يقول تعالى: ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)) يعني: لما أعجبتكم كثرتكم اعتمدتم على هذه الكثرة حيث قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، ((فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا))، هذه الكثرة لم تغن عنكم شيئاً من أمر العدو مع قلتهم، ((وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)) يعني: مع أنها واسعة لكنها ضاقت عليكم، والباء للملابسة والمصاحبة، إما لأنهم لم يجدوا مكاناً يقرون فيه آمنين مطمئنين من شدة الرعب، أو لأنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق.
قوله: ((ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)) يعني: منهزمين مع هذه الكثرة.(72/17)
تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)
قال سبحانه: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] (ثم أنزل الله سكينته) يعني: ما تسكنون به وتثبتون برحمته ونصره، (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) يعني: على المؤمنين الذين انهزموا، وإعادة حرف الجر -على- للتنبيه على اختلاف حاليهما، (ثم أنزل الله سكينته على رسوله) هذا جانب الوحي، (وعلى المؤمنين) لأن المؤمنين انهزموا، فمن أجل ألا يجمع الرسول عليه السلام مع المؤمنين الذين انهزموا، فصل بينهما بتكرار حرف الجر، فقال: ((ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ))، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حاشاه من أن يكون مقراً لهذا أو حاله كحالهم.
والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال، يعني: رفق الله بكم وتلطف بكم؛ لأنكم مؤمنون، (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) ولم يقل: وعليهم، وإنما تعرض لوصف الإيمان، فالإيمان هو علية إنزال هذه السكينة وإنزال الملائكة.
(وأنزل جنوداً لم تروها) وهي الملائكة.
(وعذب الذين كفروا) بالقتل والأسر والسبي.
(وذلك جزاء الكافرين) يعني: لكفرهم في الدنيا.(72/18)
تفسير قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء)
قال تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27] يعني: على من يشاء منهم لحكمة تقتضيه، والمقصود أن الله يوفقه للإسلام.
((وَاللَّهُ غَفُورٌ))، يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي.
((رَحِيمٌ)) أي: يتفضل عليهم ويثيبهم.
وقصة غزوة حنين تبدأ بخروج الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة والتي تسمى بغزوة هوازن أو أوطاس أو حنين، وكان في الجيش جمع كبير من الطلقاء الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، وفي الطريق وقعت حادثة ذات أنواط، وهي واقعة معروفة.
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت لهم هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وقد كانوا قالوا من قبل لما رأوا كثرة عددهم وقلة المشركين: لن نغلب اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، وناداهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، يعني: بعدما فروا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحارث والفضل وقثم بن العباس وجماعة سواهم، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء (دلدل)، والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي الأنصار وأصحاب الشجرة -قيل: والمهاجرين-: فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، ويعودوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتناولوا سيوفهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة، فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون، واشتدت الحرب وحمي الوطيس، ولما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه) فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب، فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم؛ لأنهم كانوا خرجوا بالعيال وبالأموال، واستمر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذٍ سبعون رجلاً، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة، وانهزم المشركون، وانفضت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذٍ أربعة، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين، ونفل كثيراً من الطلقاء يتألفهم على الإسلام.
وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد فصلاً حول غزوة حنين أجاد فيه، فقال: كان الله عز وجل قد وعد رسوله -وهو صادق الوعد- أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا هوازن ويتألبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ ليظهر الله أمره وتمام إعجازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه لرسوله وعباده قهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدوا للمتوسمين.
فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعدتهم وقوة شوكتهم، ليخفض رءوساً رفعت بالفتح -كي يتعلموا التواضع، وينزع من قلوبهم العجب والخيلاء-، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد أن تمس فرسه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته، واستكاناً لعزته أن أحل له حرمه وبلده، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وليبين الله لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئاً فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليهم خلع الجبر مع بريد النصر، ((ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)).
وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار، وعلى أهل التواضع، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
ومن فوائد هذه الغزوة: أن الله سبحانه وتعالى لما منع الجيش غنائم أهل مكة، فلم يغنموا منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً ولا أرضاً؛ فحرك سبحانه وتعالى قلوب المشركين لغزوهم، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشياههم وسبيهم معهم نزلاً وضيافة، وكرامة لحزبه وجنده، وتمم تقديره بأن أطمع المشركين في الظفر، فلذلك خرجوا بالأموال والأولاد والنساء وكل ما يملكون، وألاح لهم مبادئ النصر، حينما انهزم المسلمون في البداية {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42].
فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبرزت الغنائم لأهلها؛ وجرت فيها سهام الله ورسوله، قيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاءوا مسلمين، فقيل: إن من شكران إسلامكم وإتيانكم أن رد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم، {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70].
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى افتتح غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال دائماً: بدر وحنين، وإن كان بينهما سبع سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزوتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت شعلة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، الأولى: غزوة بدر خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية: استفرغت قواهم تماماً، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بداً من الدخول في دين الله.
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جبر بها أهل مكة بما نالوه من النصر والمغنم، وكانت كالدواء لما نالوا من كسرهم وإن كان عين جبرهم، وعرفهم تمام نعمه عليهم لما صرف عنهم من شر هوازن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين؛ ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تبارك وتعالى.
قال بعضهم: دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى والاتكال عليه.
ودل ما حكي في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصى حالة الحرب، والأصوات التي يرهب بها.
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين -مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر- تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فالآيات السابقة حذرت من موالاة المشركين، فبعدما بين الله سبحانه وتعالى أن موالاة المشركين لا يأتي منها فائدة، بين هنا أنه يأتي منها ضرر، ولا يحصل بها التقوي والنصر على المشركين، بل تضر ضرراً أخطر، وهو سريان النجاسة التي في بواطن المشركين إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28].(72/19)
تفسير سورة التوبة [30 - 40](73/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)
قال تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
قوله تبارك وتعالى: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) هذا الجزء من هذه الآية يصح أن يكون عنواناً لبحث مستفيض جداً، وهو بيان هذه المضاهاة وتفاصيل المشابهة بين قول اليهود والنصارى في زعم الولد لله سبحانه وتعالى، وبين الذين كفروا من قبل (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل)، فإن الشخص الباحث سواء في تاريخ الأديان أو في تاريخ البشر والملل سيرى من ذلك ما لا ينقضي منه العجب.
فإذا ردت هذه العقيدة الفاسدة إلى أصلها سنجدها تعود إلى أصول وثنية ومشركة، وأن شياطين الإنس الذين حرفوا النصرانية في الدرجة الأولى ثم اليهودية، لم يكونوا مؤسسين، وإنما هم مقتدون بمن سبقهم من أهل الشرك والوثنية من قدماء المصريين، ومن ملاحدة وزنادقة الهند من البراهمة والبوذيين إلى آخره، وقد صدر كتاب اسمه: (العقائد الوثنية في الملة النصرانية)، هذا الكتاب يرجع كل ركن من أركان العقيدة النصرانية إلى أصله المقتبس منه من عقائد قدماء المصريين والبراهمة وغيرهم من الهنادكة والكفرة والمشركين في بلاد شرق آسيا خاصة الهند.
فهذه العقيدة بالفعل هي مقتبسة من نفس هذه الاعتقادات، وفيها تتحقق هذه المضاهاة التي يخبر الله سبحانه وتعالى عنها هنا في هذه الآية (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) نفس فكرة الصلب والفداء في تكفير خطايا البشر، ونفس الآلهة التي تعرف بالصليب، ومن المعروف أن من رموز قدماء المصريين المحفورة في معابدهم علامة تشبه الصليب تماماً كانوا يمسكونها! وهذا الكتاب كنت استعرت منذ سنوات طويلة نسخة قديمة جداً منه، وهو كتاب: (العقائد الوثنية في الملة النصرانية)، لكني تعجبت من الفرق الشاسع بين الطبعتين القديمة والحديثة، فالطبعة القديمة كانت مطعمة بصور ملتقطة من الحسيات ومن الحجارة والآثار التي تثبت هذه العقائد.
أما الطبعة الحديثة فلا يوجد فيها هذه الصور، وما أدري ما هو السبب! لكن الطبعة القديمة موجودة عند أخ هنا في الإسكندرية وفيها صور الحفريات والآثار الحسية التي تثبت هذا الشبه وهذه المضاهاة الصارخة.
فعقيدة النصارى ليست عقيدة عيسى عليه السلام، وإنما هي مقتبسة من عقائد الوثنيين من قبل، وأقحمت إقحاماً في الملة النصرانية، وحرفتها من عبادة توحيد الله سبحانه وتعالى إلى صورة من صور الشرك والوثنية.(73/2)
تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)
قال تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، هذه زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تبارك وتعالى، ووصفهم بنوع آخر من الشرك.
((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم)) الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، الأحبار علماء اليهود جمع حَبر أو حِبر بكسر الحاء وفتحها، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه، والتحبير بمعنى: التحسين كقول أبي موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيراً) أي: حسنته وزينته، فكذلك الحبر هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه.
وقال بعضهم: الحبر أعظم الأشراف بين الإسرائيليين، ويكون عندهم وسيلة للتقرب إلى الله، وهي مرتبة وراثية في آل هارون، يكون الحبر أشيخ من في هذه الطائفة.
والرهبان جمع راهب بمعنى: المتعبد الخاشع المتزهد أو الزاهد، وأصل الترهب عند النصارى هو التخلي عن شهوات الدنيا وترك ملاذها، والزهد فيها والعزلة عن أهلها، وفي الحديث: (لا رهبانية في الإسلام).
قال الرازي عند قوله عز وجل: (أرباباً من دون الله): الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، وأنهم يخلقون ويرزقون أو غير ذلك، لكن المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم؛ وذلك لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) فقلت: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم! فقال صلى الله عليه وسلم: بلى عبدوهم إنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه).
وهذا مما يخرج من الملة، ومن أسباب الردة طاعة من يحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى.
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: (أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها عدي بن حاتم فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة -وكان رئيساً في قومه طيء وأبوه حاتم الطائي هو المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! -أي: أن اليهود والنصارى لم يكونوا يسجدون ويركعون ويصومون للأحبار والرهبان- فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي! ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم إلهاً غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق).
وأي إنسان عاقل إذا سأل نفسه هذه الأسئلة، وتأمل في دين الإسلام؛ لما وجد أي سبب منطقي يعيقه عن الدخول في دين الإسلام، فشعار الإسلام هو (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، ولا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، فهل أي إنسان عاقل أو عنده بقية من رصيد الفطرة يرفض أن يقال: لا إله إلا الله؟! حتى إن كبار طواغيت النصارى إذا أراد أحدهم أن يتكلم في هذا الجانب فإنه يلبس على العوام ويقول: نحن أيضاً نقول: لا إله إلا الله، فكثير من المسلمين يجهلون ويقولون: النصارى يقولون: لا إله إلا الله، مع أنهم في الحقيقة يؤمنون بثلاثة من الآلهة، ويقولون: الثلاثة واحد + واحد =واحد، ولا يقولون: تساوي ثلاثة! فهم يحاولون أن يهربوا من الشرك الصراح الذي يقعون فيه؛ لأنهم يختمون الإيمان بقولهم: إله واحد أمين، الابن والأب وروح القدس، وهم يعترفون بهذا الكفر الصراح الذي ينافي العقل وينافي الفطرة، ويهدم دعوة الرسل عليهم السلام، فهكذا يقال لكل كافر: ما الذي يزعجك من دين الإسلام ومن الذي يقول لك: لا إله إلا الله، أو لا تعبد إلا الله، أو لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى؟! هل يضرك أن تقول: يا رب! أنا نزهتك عن الصاحبة، ونزهتك عن الولد، ونزهتك عن الشريك، وقلت: لا إله إلا الله؟! هل ترى الله سبحانه وتعالى معذبك؛ لأنك تقول له يوم القيامة: أنا نزهتك عن أن يكون لك ولد، وأنك تحتاج، ونزهتك عن أن يكون لك شريك؟! هل يوجد إنسان عاقل يرتاب في أن هذا هو الطريق الوحيد للنجاة، وهو أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟! ما أعظم الأدلة والبراهين الساطعة على صدق كلمة التوحيد المكونة من هاتين الشهادتين!!! فانظر كيف سلك النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عدي هذا المسلك! إنه مسلك في منتهى اليسر وفي غاية السهولة: (يا عدي! أيضرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يا عدي! أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم إلهاً غير الله؟! ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت وجهه استبشر صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون).
ونحن في كل صلاة ندعو الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين حيث نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] وهم اليهود {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وهم النصارى.
قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً): إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر في تفسير اتخاذهم أرباباً فقال: إنهم أطاعوهم بالسجود لهم سجوداً حقيقياً.
قال الشهاب: والأول هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي الاقتصار عليه.
فإذا فسر النبي عليه الصلاة والسلام آية من كتاب الله، فلا ينبغي المصير إلى غيره؛ لأنه لما أتاه عدي بن حاتم وهو يقرؤها قال له: (إنا لم نعبدهم فقال: ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم؟؟) والناس يقولون: فلان يعبد فلاناً إذا أفرط في طاعته.
قال الرازي: قال الربيع: قلت لـ أبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تبارك وتعالى.
وحكى الرازي عن بعض شيوخه قال: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء وقرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي متعجبين! يعني: كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟! ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل المدينة.
انتهى.
على أي الأحوال الكلام ينبغي أن يمحص وألا يأخذ بظاهره حتى ينظر في تفاصيل الاستدلال الذي يذكره العلماء؛ لأننا لا نقبل أن يشيع الاستدلال كما يحصل من بعض الغلاة السلفيين، حيث يكثرون من الاستدلال بهذه الآية الكريمة في الرد على المذهبيين، فيشبهون عموم الناس من مقلدة الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقلدين المشهورة مذاهبهم بالأحبار والرهبان! وهذا لا يقبل في ملة الإسلام أبداً؛ لأن أئمتنا ما أحلوا الحرام ولا حرموا الحلال، ولا يظن بإمام من أئمة المسلمين أبداً أنه تعمد ذلك، غاية ما في الأمر أن يكونوا ما بين مجتهد مصيب حصل على أجرين ومجتهد مخطئ حصل على أجر واحد.
لكن بلا شك هناك علماء سوء فعلاً في كل زمان وفي كل مكان، يفعلون مثل فعل هؤلاء الأحبار والرهبان، ويفعل معهم نفس الذي حدث مع اليهود والنصارى، ففي حق هؤلاء الذين يحلون الحرام، أو يحرمون الحلال، وينتهكون حرمات الله سبحانه وتعالى، يمكن أن يحذروا بهذه الآية تخويفاً وموعظة وزجراً لهم، أما في المسائل الخلافية الفقهية التي هي محل خلاف سائغ معتاد بين الفقهاء، فلا يأت أحد المتناظرين يستدل على الآخر بقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فهذا مما لا يليق أن نستعمله في حق أئمة المسلمين.
(وما أمروا) هذه الواو حالية، أي: والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم (إلا ليعبدوا إلهاً واحداً) إلا ليطيعوا أمره ولا يطيعوا أمراً غيره بخلافه.
(لا إله إلا هو) صفة ثانية (إلهاً) أو استئناف مقرر للتوحيد.
(سبحانه عما يشركون) أي: به في العبادة والطاعة.
وهذه اللفظة دليل على أن ما عليه اليهود والنصارى شرك؛ لأن أحياناً الآيات القرآنية تأتي تفرق بين المشركين وبين أهل الكتاب، بمعنى أن المشركين هم الوثنيون، أما أهل الكتاب فهم كفار أيضاً من نوع آخر غير الوثنيين، لكن باعتبار آخر يجوز أن يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون بدلالة هذه الآية الكريمة (لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)، فهذه الواو تعود على اليهود والنصارى كما هو معلو(73/3)
تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم)
قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] أي: يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد، أو (يريدون أن يطفئوا نور الله) القرآن الكريم، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأقوال لا تتعارض في الحقيقة.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] أي: بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] أي: الكافرون بدلائل التوحيد.
وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافاً إلى الله عز وجل زيادة اعتناء بشأنه، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}، ولم يقل: ويأبى الله إلا أن يتمه، لكن أظهر كلمة نوره مما يدل على زيادة الاعتناء بشأنه.(73/4)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33].
إذا تأملنا قوله تعالى في الآية الأولى: (ولو كره الكافرون) وقوله أيضاً في هذه الآية: (ولو كره المشركون) فنتذكر أن كراهية المشركين لدين لإسلام، وحرصهم على إبطاله هذا أمر متوقع أخبرنا الله به، فلا يمكن أبداً أن نطمع في رضاهم عن ديننا، وبعض الناس يزعمون أنهم يعملون عملية تحسين وتجميل في الإسلام كي يقبله هؤلاء المشركون أو هؤلاء الكافرون، وهذا لا يكون كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، قبل الوصول إلى هذه الغاية فلن يرضوا عنا، فلا نطمع على الإطلاق؛ لأن هذا الأمر ليس بجديد عليهم؛ لأنهم يكرهون إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، ودأبهم العدوان والشنآن كما هو معلوم من سيرتهم ومن أحوالهم.
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي: بالقرآن الذي هو هدى للمتقين.
(ودين الحق) الحق هو التوحيد الثابت الدائم الذي لا يزول.
(ليظهره) أي: يظهر الدين الحق.
(على الدين كله) أي: على سائر الأديان.
(ولو كره المشركون) أي: ولو كرهوا أن يكون ذلك، لكن الله قضى ولابد أن يقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله زوى لي الأرض -أي: ضم لي الأرض- فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها).
وعن قبيصة بن مسعود أو مسعود بن قبيصة قال: (صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة).
وأخرج الإمام أحمد في المسند عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز وبذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وكان تميم الداري نصرانياً، وسبب إسلامه قصة الجساسة كما في صحيح مسلم، وكان يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية).
وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها).
وأخرج الإمام أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عدي! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال عليه الصلاة والسلام: يا عدي! أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟! قلت: بلى).
(الركوسية) قوم لهم دين متوسط بين النصارى والصابئين.
وقوله: (وأنت تأكل مرباع قومك) المرباع الربع مثل المعشار بمعنى العشر، وذلك أنهم كانوا يغزون في الجاهلية فيغنمون، فيأخذ الرئيس ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً له، فلذلك سمي ذلك الربع المرباع.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب -يعني: أهذا الذي يمنعك من دخول في الإسلام- تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها).
انظر إلى اليقين والتصديق؛ (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها) هكذا كان شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان أيضاً شأن الصديق الأكبر، لما أخبره المشركون عما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج، فقالوا له: (انظر ما يقول صاحبك يزعم أنه كذا وكذا، فقال: إن كان قد قالها فقد صدق صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم).
قال بعض المفسرين: معنى الآية: ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها، وهو ألا يعبد الله إلا بدين الإسلام.
روي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بأن يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام، وكذلك قال الضحاك والسدي: لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام.
وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه.
قال: فهذا هو ظهوره على الدين كله؛ لأن النصارى وأهل الكتاب إذا أعطوا الجزية فهم في الحقيقة في حالة خضوع لدين الإسلام.
يقول القاسمي: ما ذكره الشافعي هو نوع من أنواع الظهور، والأدق ما تقدم من أنه سوف يعتنقه كل فرقة، فإنما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً.
وهذا فيه نظر في الحقيقة، ولا يصح أن نسمي هؤلاء الناس بطوائف الإصلاح، فأي شخص من طوائف الإصلاح أو من أي فرقة من هذه الفرق مادامت نصرانية فما يسمى مصلحاً، بل هو من المفسدين في الأرض، لكن هذا التعبير شاع في زمن القاسمي ربما تأثراً بالشيخ رشيد رضا ومحمد عبده باستعمالهم تعبيرات الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي إلى غير ذلك من العبارات.(73/5)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)
لقد بين تبارك وتعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يطيعونهم في الأوامر والنواهي، فالآية السابقة كانت في حال الأتباع، (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) ثم بين حال المتبوعين أنفسهم فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].
قوله تعالى: (ليأكلون أموال الناس بالباطل) أي: بالطريق المنكر من أخذ الرشوة في الأحكام فإذا حكم هؤلاء الناس فإنهم يأخذون الرشوة، وكذلك مقابل التخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك.
ولا شك أن من صور ذلك أيضاً شراء الأماكن في الجنة، وهذا موجود حتى الآن، فتجد هؤلاء الأحبار والرهبان يضحكون على عوام النصارى، ويحجزون لهم الأماكن في الجنة، ويعطونهم صكوك الغفران، وقصوراً في الجنة، ويصدقون هذا الكلام، ويأخذون منهم الأموال المقابل لغفران الذنوب وغير ذلك كما هو معلوم من أحوالهم! (ليأكلون) أي: ليأخذون، لكن بما أن الغرض الأعظم من أخذ الأموال هو الأكل، أطلق على ما يغلب استعمال المال فيه وهو الأكل.
(ليأكلون أموال الناس بالباطل) فيه تقبيح لحالهم وتنفير السامعين عنهم.
(ويصدون عن سبيل الله) أي: عن دين الإسلام وحكمه، أو عن المسلك المقابل في التوراة والإنجيل بما اشتروه وحرفوه.
ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله عز وجل، وتناسيهم وعيده في الكنز؛ لقوله سبحانه وتعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي: يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض، وهذا إشارة إلى سبب كنز وحفظ الذهب والفضة؛ لأنهما العملة التي كانت تستعمل.
(ولا ينفقونها في سبيل الله) أي: في الزكاة.
(فبشرهم بعذاب أليم) أي: مؤلم.(73/6)
تفسير قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم)
قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} [التوبة:35] أي: يوقد عليها.
{فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} [التوبة:35] أي: يقال لهم ضماً إلى ما هم فيه من الكي: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [التوبة:35] أي: أنتم كنزتموه في الدنيا؛ لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبكم.
{فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35] أي: ذوقوا وبال هذا الكنز وهو ألمه وشدته بالكي.
وفي هذه الآية فوائد: الأولى: قال بعضهم في قوله تعالى: (ليأكلون أموال الناس بالباطل): فيها دلالة على تحريم الرشوة على الباطل، وقد ورد: (لعن الله الراشي والمرتشي)، وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف، هل يجوز أن يدفع الإنسان مالاً؛ ليتوصل إلى حقه، إن كان لا يؤدى إليه ذلك؟ الراجح الجواز ليتوصل إلى الحق كالاستفداء.
قال الحاكم: الاستفداء هو أن يدفع مالاً لمن أخذ الأسير مقابل أن يطلق سراحه.
وقال الحاكم أيضاً: يدخل في تحريم الرشوة الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرف شيئاً لغرض الدنيا.
الثانية: في الآية كما قال ابن كثير: تحذير من علماء السوء وعباد الضلال، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى.
وفي الحديث الصحيح: (لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة قالوا: اليهود النصارى؟ قال: فمن؟!).
وفي رواية (قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا هؤلاء؟).
وقال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها(73/7)
حكم كنز المال وحفظه مع تأدية زكاته وعدمها
قوله: (والذين يكنزون) (الذين) مبتدأ و (يكنزون) خبر، أو يكون التقدير: وبشر الذين يكنزون.
والتعريف في كلمة (الذين) للعهد، والمعهود هو إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون ويحتمل أنها في الأحبار والرهبان، وفي الكانزين من المسلمين فهي تعم الجميع، وإنما قرنوا باليهود والنصارى تغليظاً بمعنى: أنهم يفعلون فعل الكفار الذي لا يليق بالموحدين وبالمسلمين، ولما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين هذا الوعيد فذكر عمر رضي الله عنه ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم)، رواه أبو داود والحاكم وصححه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أدي زكاته فليس بكنز)، والأصل في المال أن ينمى ويستثمر؛ كي يستفيد منه صاحب رأس المال، والمسلمون الذين يحتاجون إلى العمل، وتنشط التجارة، لكن لو أن رجلاً ترك المال دون أن يستثمره فإن لم يؤد زكاته فإنه يستحق هذا الوعيد؛ لأنه كنز، (وما أدي زكاته فليس بكنز).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)، فالمراد منه ما لم يؤد حقها؛ لما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره).(73/8)
خلاف أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية
اشتهرت محاورة معاوية لـ أبي ذر رضي الله عنهما في هذه الآية، فقد روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بـ أبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية رضي الله عنهما في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لـ عثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل.
وسيأتي تفصيل هذه الحادثة.
يقول أبو ذر: ولو أمر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت.
ولـ ابن جرير في رواية بعد قول عثمان له: تنح قريباً، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول، فأثبت عليه.
وروى أبو يعلى أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه كان يحدث ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريب، وهذا كان مذهب أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فكان لا يجوز لأحد أبداً أن يبيت وعنده دينار أو درهم، إلا إذا كان عنده مبلغ يرصده لأجل سداد دين، أما غير ذلك فيوجب عليه أن ينفقه أولاً بأول في سبيل الله تبارك وتعالى أو في مصالح المسلمين.
فكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم؛ لذلك فيما مضى كان بعض الشيوعيين يفرحون جداً بسيرة أبي ذر رضي الله تعالى عنه.
فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر، فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي، فقدم.
قال ابن كثير: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله تعالى عنه في خلافة عثمان.
وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك، فأخطأت فهات الذهب فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.
وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، قال: وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً إنما يجمعون الدنيا.
رواه مسلم وللبخاري نحوه.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين).
قال ابن كثير: فهذا -والله تعالى أعلم- هو الذي حدا بـ أبى ذر على القول بهذا.
فـ أبو ذر أخذ مذهبه من قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين).
وأخرج الشيخان عنه قال: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة! قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم).
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه: (أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري بها فلوساً قال: قلت: لو ادخرته لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل، أو حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغاً).
قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد في الآية على مانعي الزكاة.
وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: (هل عليّ غيرها قال: لا، إلا أن تطوع).
وبالجملة فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته، وقد ترجم لذلك البخاري وقال في صحيحه: باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) حسنه الترمذي وصححه الحاكم.
هذا؛ وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز، فقد روى البخاري في صحيحه أن أعرابياً قال لـ ابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) إلى آخر الآية، قال ابن عمر: من كنزها ولم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال.
زاد ابن ماجة: ثم قال ابن عمر: ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.
فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز -وهو حبس ما فضل على الحاجة عن المواساة به- إنما كان في أول الإسلام، ومذهب أبي ذر هو على ما كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح وقدرت أنصبة الزكاة.
ويشعر هذا أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في تاريخه.
وهذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة بعد غزوة تبوك، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً.
قال ابن حجر: والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما فضل وزاد عن الحاجة، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ثم نسخ.
وزعم بعضهم أن الذي حدا بـ أبى ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء، وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يعتبرون الفيء لكافة المسلمين يأخذه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين، فكلهم داخل تحت ذلك الحكم.
قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام والوالي عليها من قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال؛ أنكر عليه ذلك.
ولا يظن أن معاوية كولاة هذا الزمان يأخذ المال له ولأولاده، لا يظن هذا به أبداً، لكن كان أبو ذر يخالف معاوية؛ لأن معاوية كان يخزن المال في بيت المال للدولة وللمسلمين، بحيث يصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع، شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه، فأخذ أبو ذر يتكلم بهذا الأمر بين الناس، وظل يعلنه وهو في الشام، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على الإنكار على معاوية؛ لكي يرد المال للمسلمين، ولا يخزنه في بيت المال ويأخذه للمصالح، وإنما ينفقه فوراً.
فكون له هذا الحزب أو التكتل، وظل يتكلم ويبين عدم الرضا بكنزه في بيت المال لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين؛ لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين، وتابعهم على قولهم أناس كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سراً وجهراً، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه، فنفاه إلى الربذة؛ خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه.
وهذا التصرف من معاوية ومن عثمان رضي الله عنه يعتبر حسماً للافتتان بين المسلمين، وإلا فإن كثيراً من الكتاب الذين لهم ميول للاشتراكية والشيوعية كانوا يتكلمون عن مذهب أبي ذر على أنه المذهب المعتمد، وأن هذه هي الشيوعية، وأن أبا ذر كان شيوعياً مع أن أبا ذر لم يسمع كلمة الشيوعية! فهذا من تمحلهم وكذبهم، وقد أخذهم الله، فالشيوعيون كانوا يلبسون على المسلمين ويخدعونهم بموقف أبي ذر، وأبو ذر كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر، وهم ملاحدة يقولون: لا إله والحياة مادة، فأين هذا من ذاك؟! فالشيوعيون يظهرون موقف أبي ذر على أنها حركة ثورية ضد الحاكم أو الأمير أو الوالي، وهذا ليس بصحيح، فإ(73/9)
الحكمة من تخصيص الجباه والجنوب والظهور لكانزي المال بالكي
قوله: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم) ما الحكمة في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي دون غيرها؟ قيل: إن هؤلاء الذين جمعوا وكنزوا الذهب والفضة جمعوها كي ينالوا الوجاهة عند الناس بأنهم أغنياء، وكي يتنعموا بالمطاعم الشهية، وبالملابس البهية، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم كان الكي بجباههم.
أما كي جنوبهم؛ فلأن الجنوب كانت تمتلئ من الطعام الذي يحصلونه بهذا المال، وبهذا كويت الجنوب.
أما كي ظهورهم؛ فلأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع، فتكلح وجوههم وتقطب وتعبس في وجه السائل، ثم إذا كرر الفقير الطلب أعرضوا عنه وتركوه جانباً، ثم إذا ألح ولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، وهي النهاية في الردع والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل، وهذا دأب مانع البر والإحسان وعادة البخلاء، فكان ذلك سبباً لكي هذه الأعضاء.
وقيل: لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقادم البدن ومآخره وجنباه، فيكون كناية عن جميع البدن.(73/10)
تفسير قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله)
لما بين تبارك وتعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى؛ إيثاراً لحظوظهم، أتبعه بما تجرأ عليه المشركون من تغيير أحكام الله؛ إيثاراً لحظوظهم ولأهوائهم، فهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، وذلك من تغيير الأشهر الحرم التي حرمها الله تعالى لغيرها وهو النسيء الآتي، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
(إن عدة الشهور) أي: عدد الشهور.
(عند الله) أي: في حكم الله.
(اثنا عشر شهراً) أي: الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية.
(في كتاب الله) أي: في اللوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه، والكتاب يأتي بمعنى: حكم أي: حكم الله عليكم.
(يوم خلق السماوات والأرض) أي: أن هذا استقر في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة.
(منها أربعة حرم) أي: من تلك الشهور الاثني عشر أربعة حرم، ثلاثة متتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد وهو رجب.
(ذلك الدين القيم) إشارة إلى تحريم الأشهر الأربعة.
(الدين القيم) أي: المستقيم.
(فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وذلك بهتك حرمتها بالقتال فيها.
وقال ابن إسحاق: أي: لا تجعلوا حرمها حلالاً، ولا حلالها حرماً، كما فعل أهل الشرك.
(وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) أي: جميعاً.
(واعلموا أن الله مع المتقين) أي: بالنصر والإمداد.(73/11)
تفسير قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر)
ثم بين تعالى بعد ذلك ثمرة هذه المقدمة وهو تحريم تغيير ما عين تحريمه من الأشهر الحرم، وإبقاؤها على ما سبق في كتابه، ناعياً على المشركين كفرهم بإهمالهم ذلك، فقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37].
(إنما النسيء) النسيء تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، مصدر نسأه إذا أخره.
(زيادة في الكفر) لأنه تحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم، وهذا يدل على أن الكفر يزيد بقدر ما يزداد الإنسان في محاربة الله سبحانه وتعالى، فكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك الكفر يزيد أيضاً.
(يضل به الذين كفروا) أي: يضل به الذين كفروا بالله عن أحكامه إذ يجمعون بين الحل والحرمة في شهر واحد، سنة يحلونه وسنة أخرى يحرمون نفس الشهر.
(يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً) أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهراً آخر، ويتركونه على حرمته القديمة، ويحافظون عليها سنة أخرى، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم.
والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم له في العام الماضي، والجملتان تفسير للضلال أو حال.
قال الزمخشري: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، ولذلك قال عز وجل: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) يعني: من غير زيادة زادوها.
فهذا هي الحكمة من قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) أي: أنها غير قابلة للزيادة كما كانوا يفعلون.
(فيحلوا ما حرم الله) بتركهم التخصيص بالأشهر لعينها.
(زين لهم سوء أعمالهم) فاعتقدوا قبيحها حسناً.
(والله لا يهدي القوم الكافرين) في هاتين الآيتين مسائل منها أن جميع الأحكام الشرعية تتعلق بالأشهر العربية، ولا يمكن أبداً اعتبار غير الشهر الهلالي العربي، مثل: قضاء الكفارات ودوران الحول في الزكاة وغيرها من الأحكام المتعلقة بالشهور.
قال ابن كثير: إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهراً آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين؛ وحرم رجب في وسط الحول؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً.
واستنبط بعضهم من قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أي: في هذه الأشهر المحرمة، فالمعاصي فيها أبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قتل في الحرم، أو قتل ذا محرم.
وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة: إنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء.
وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
ويستدل جماعة من العلماء بقوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ؛ وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، وقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5].
وذهب آخرون: إلى أن تحريم القتال فيها منسوخ بآية السيف لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36].
يقول القاسمي: المحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، بحيث لو دخل المسلمون في قتال قبل دخول الأشهر الحرم فلا يحرم إتمامه في الأشهر الحرم، وبهذا يحصل الجمع.
وقال ابن جرير: لقد حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها، أي: في حالة الدفاع.
وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) استدل بها من قال: إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين.(73/12)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله)
حرض الله تعالى على قتال الكفرة إثر بيان قبائحهم الموجبة لذلك، وأشار إلى توجه العتاب والملامة على المتخلفين عنه، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] أي: تثاقلتم وتباطأتم، والاستفهام في قوله: (مالكم) للتوبيخ والإنكار.
(اثاقلتم إل الأرض) كلمة (اثاقلتم) تضمنت معنى الميل إلى الأرض والإخلاد إليها.
أي: اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية، وكرهتم مشاق الغزو، وملتم إلى الراحة الخالدة؛ كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] أو اثاقلتم مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم.
وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة تسع بعد رجوعهم من الطائف، حيث استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ، حين طابت الثمار والظلال، ومع بعد الشقة وكثرة العدو؛ فشق عليهم، قال الله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:38] أي: الحقيرة الفانية، والدنيا مأخوذة من الدناءة.
(من الآخرة) (من) هنا بمعنى: بدل الآخرة.
ويوجد في القرآن الكريم استعمال كلمة (من) بمعنى بدل، وهو استعمال شائع موجود، كما في سورة الزخرف: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون، فكذلك هنا (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي: بدل الآخرة ونعيمها الدائم.
(فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة) كلمة (في) هي التي تسمى (في) القياسية؛ لأن المقيس يوضع بجنب ما يحاط به.
(إلا قليل) أي: مستحقر لا يؤبه له.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع! وأشار بالسبابة).(73/13)
تفسير قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم)
لقد توعد تعالى بعد ذلك من لم ينفر إلى الغزو بقوله عز وجل: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39].
قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم) أي: لنصرة نبيه وإقامة دينه.
(ولا تضروه شيئاً) لأنه الغني عن العالمين، وإنما تضرون أنفسكم.
وقيل: الضمير في قوله: (ولا تضروه) يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأن الله وعده النصر بكم أو بغيركم، ووعده كائن لا محالة.
(والله على كل شيء قدير) أي: من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم، وفي هذا التوعد على من يتخلف عن الغزو من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره.(73/14)
حالات تأكيد الجهاد وتحوله إلى فرض عين
قال بعضهم: في الآية لزوم إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد، وكذا دعاء الأئمة إليه، ومثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات، وفي ذلك تأكيد للوجوب.
وكما هو معلوم أن هناك حالات يصير الجهاد فيها فرض عين على كل مسلم منها: حالة النفير العام، فإذا استنفر الإمام المسلمين وجب على جميع المسلمين أن ينفروا، فالنفير العام من الإمام يوجب تحول الجهاد إلى الوجوب العيني، ويتأكد ذلك من وجوه: الأول: ما ذكره من التوبيخ في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا))، فهذا يؤكد الوجوب.
الثاني: في قوله تعالى: ((اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)) أي: ملتم إلى المنافع والدعة واللذات.
الثالث: في قوله {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهذا زجر.
الرابع: في قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} [التوبة:38] فهذا تحقير لرأيهم.
الخامس: ما عقب من الوعيد بقوله: ((إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)).
السادس: ما بالغ فيه بقوله: ((عَذَابًا أَلِيمًا)).
السابع: في قوله: ((وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)).
الثامن: في قوله: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ففيه تهديد.(73/15)
تفسير قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا)
قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
قوله تعالى: (إلا تنصروه) أي: إلا تنصروه بالخروج معه في تبوك (فقد نصره الله) (إذ أخرجه الذين كفروا) أي: كفار مكة حين مكروا به فصاروا سبب خروجه، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
(ثاني اثنين) حال من ضميره صلى الله عليه وسلم، أي: أحد اثنين.
(إذ هما في الغار) بدل من أخرجه، والغار نقب في أعلى جبل ثور، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسير ساعة، مكث فيه ثلاثاً؛ ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما، ثم يسيرا إلى المدينة.
(إذ يقول) هذا بدل ثان أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(لصاحبه) أي: أبي بكر رضي الله عنه.
(لا تحزن) وذلك أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما، فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى.(73/16)
عقيدة الرافضة في أبي بكر والصحابة
كان حزن أبي بكر وخوفه من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن أبداً ما يقول أعداء الله الشيعة الخبثاء الضالين: إن أبا بكر كان يشفق على نفسه هو، ولم يكن يشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام! فهؤلاء المجرمون الشيعة يأتون إلى مناقب الصحابة بشيطنتهم ويحولونها إلى عداوات لله وللإسلام، فيأتون إلى هذا الموضع الذي هو من أعظم مناقب أبي بكر، فيقول هؤلاء الظالمون المعتدون -قبحهم الله-: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم بأن أبا بكر منافق، وأنه غير صادق في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم خشي إن تركه في مكة أن يدل المشركين عليه، فقال له جبريل: اصطحبه توقياً من أن يدل عليك والعياذ بالله! فانظر هذه القلوب المنكوسة لأعداء الله الرافضة، وما زال هناك من المخدوعين من يقول: هم إخواننا وهم مثل المذهب الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي! فالرافضة يضللون ويلبسون على الناس ويظهرون أنهم على ديننا، وهم يعادون أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ويكفرونهم ويقولون بردتهم، ويزعمون في خرافاتهم وهذيانهم أن أبا بكر تعرف على كاهن في الجاهلية، وأن هذا الكاهن قال له: سوف يظهر رجل ويكون نبياً، وأنت ستصحبه وتكون خليفة من بعده، فصوروا حياة أبي بكر على أنها عبارة عن تخطيط لنيل الإمارة والخلافة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام!! فالشيعة الرافضة في عدوانهم على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما بلغوا الغاية في الخبث، حتى إنهم يسمون أبا لؤلؤة المجوسي قاتل عمر رضي الله عنه: بابا شجاع الدين، وعندهم عيد يدعى عيد بابا شجاع الدين؛ يحتفلون فيه بقتل عمر، ويمثلون عملية القتل وكأنهم يمتصون دمه، وهم يشربون العسل! وخرافاتهم وعدوانهم لا تنتهي في الحقيقة، وهم أعداء الدين في الحقيقة، ليسوا منا ولسنا منهم.
إننا الآن نسمع عن حركة شيعية هنا في مصر في بعض المحافظات في الزقازيق والمنصورة وطنطا، وأخيراً ظهرت دار نشر تسمى دار الهدف للقبيح المدعو صالح الهرداني، ولا نتحرج بالتصريح باسم هذا المنتكس الذي كان ينسب فيما مضى على أنه من شباب أهل السنة، وظل يتجول بين الجماعات التكفيرية إلى أن استقر به المقام أن انتكس إلى المذهب الشيعي، والآن يؤلف كتباً مشحونة بالطعن والسب للصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويدعو إلى إحياء مذهب الإمامية بصورة أو بأخرى، وله مطبوعات دار الهدف تقوم بنشرها هنا، ولهم جمعية أهل البيت، ومن ذهب إلى معرض القاهرة للكتاب يجد الجناح حافلاً بالكتب العدوانية الظالمة التي تهاجم الإسلام وتهاجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم! لا يتبعن أي مسلم عنده بصيرة وعلم هؤلاء القوم، هؤلاء دجالون يستعملون بعض الشعارات التي تخدع الجهلة والطغام الرعاع مثل: الموت لأمريكا، مثل المظاهرات التي عملوها في مكة في مواطن الحج، ويشوشون على المسلمين عبادتهم، وكل هذا استغلال سياسي لنيل مآرب سياسية، وإلا فهم أكبر من يتآمر مع أمريكا على المسلمين في كل عصر وفي كل مصر، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بالتفصيل، ولكن يبدو أنه يحتاج إلى تذكير.
إن هؤلاء المجرمين أعداؤنا وأعداء الإسلام وأعداء الدين وأعداء الصحابة، والحديث يطول، وبعض الناس ربما لم يكن قد طرق أمامه هذا الموضوع من قبل فيستغرب، ونرجو أن تكون هناك فرصة لنفصل في هذا الموضوع الخطير.
هذه الآية هي منقبة وفضيلة لـ أبي بكر فقد كان أبو بكر يفدي الرسول عليه الصلاة والسلام بدمه وروحه وماله، صدقه إذ كذبه الناس، وضحى بكل ماله في نصرة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فكيف بهؤلاء الظالمين يحولون مناقب أبي بكر إلى أسوأ ما يمكن أن يظن بإنسان؟!(73/17)
فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ابن القيم له في كتاب (الفوائد) عبارات طيبة في غاية الجمال والروعة في بيان جمال هذه العبارة (إن الله معنا).
قال عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! إن الله معنا)، فكان الله معهما في الغار بالنصر والتأييد، كان الله معهما؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هو الوحيد الذي حظي بلقب خليفة رسول الله، فاجتمع في هذه الإضافة (إن الله معنا) الله ورسوله وخليفة رسول الله، وشاء الله أنه عندما تولى عمر الخلافة أرادوا أن يقولوا خليفة خليفة رسول الله، فقالوا: إن هذا يطول، فمن ثم رأى عمر الاقتصار على أن يسمى بأمير المؤمنين، فشاء الله أن يحتفظ أبو بكر بهذا اللقب؛ كي يبقى مستأثراً بهذه الفضيلة (إن الله معنا) فيقال: خليفة رسول الله، فالخليفة بجانب رسول وبجانب الله سبحانه وتعالى.
وفضائل أبي بكر رضي الله تعالى عنه كثيرة، فسورة الفاتحة فيها فضيلة أبي بكر وذلك في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] فنحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم، وفي مقدمتهم بعد الأنبياء أبو بكر.
وبين الله في آية أخرى صفة الذين أنعم عليهم فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، والأمة مجمعة على تسمية أبي بكر بـ الصديق رضي الله تعالى عنه.
وفي هذه الآية دليل على إمامة أبي بكر وأنه ممن يؤتسى ويقتدى به.
ومن فضائله قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، فهنا رغبهم الله سبحانه وتعالى في طاعة من يأمرهم بقتال الأعراب المرتدين، فمن الذي قاتل هؤلاء؟ إنه أبو بكر، والله عز وجل هنا يأمر بطاعته، وهذا حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!).
نفس اليقين ونفس الجزم بنصرة الله سبحانه وتعالى، كما وقع من موسى عليه السلام لما أدركهم آل فرعون عند ساحل البحر الأحمر فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، البحر أمامنا والعدو خلفنا (إنا لمدركون) ماذا قال لهم موسى؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، ثقة ما بعدها ثقة، وتوكل على الله سبحانه وتعالى، وحسن ظن بالله، ويقين صادق، وهو لا يعرف كيف سيكون المخرج، لكن مع ذلك هو واثق من أن الله سبحانه وتعالى الذي وعده بالنصر والنجاة سينجز وعده، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا) (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] أي: أمانته التي تسكن عندها القلوب.
(عليه) أي: على النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] أي: أنزل الملائكة؛ ليحرسوه في الغار، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله: (نصره الله).
وقوى أبو السعود الوجه الثاني بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:40] أي: المغلوبة المقهورة.
والكلمة هي الشرك أو دعوة الكفر، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر.
{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40] أي: التوحيد أو دعوة الإسلام التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة.
(وكلمة الله) بالرفع على الابتداء.
(هي العليا) مبتدأ وخبر، أو تكون (هي) ضمير فصل.
وقرئ بالنصب أي: (وجعل كلمةَ الله) والأول أوجه وأبلغ؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، وأما الجعل لم يتصرف لها؛ لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها، كلمة الله عالية في كل حال.
ولذلك في هذه القراءة: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:40]، اقتصر على جعل (كلمة الذين كفروا السفلى) لكن ابتدأ بداية جديدة فقال: (وكلمة الله هي العليا) ولم يقل: وكلمةَ الله هي العليا، وهذا أوجه كما رجحه القاسمي، فـ (كلمة الله هي العليا) تكون جملة من مبتدأ وخبر؛ لأنها تدل على الثبات والدوام، وعدم تعرضها للتغيير والتبديل.
وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها، وتنويه لشأنها.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [التوبة:40] أي: غالب على ما أراد.
{حَكِيمٌ} [التوبة:40] في حكمه وتدبيره.
قال بعض المفسرين: استدل على عظيم محل أبي بكر رضي الله عنه من هذه الآية من وجوه: منها: قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن).
وقوله: (إن الله معنا).
وقوله: (فأنزل الله سكينته عليه) قيل: على أبي بكر؛ لأنه كان خائفاً، وهو المحتاج إلى الأمن، وقيل: على الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال جار الله الزمخشري: وقد قالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر؛ لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هنا قال: (إذ يقول لصاحبه)، فالآية هنا تثبت صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: أنا والله صاحبك، فمن هنا قالت المالكية: من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل بخلاف غيره من الصحابة لنص القرآن على صحبته.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: (أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار).
أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجهاً من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه فأطال وأطاب.(73/18)
تفسير سورة التوبة [41 - 59](74/1)
تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً)
قال الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41].
لما توعد الله تبارك وتعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر؛ أتبعه بهذا الأمر الجازم، فقال سبحانه وتعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله).
(خفافاً وثقالاً) إعرابها: حالان من ضمير المخاطبين من الواو، أي: انفروا على أي حال كنتم، خفافاً لنشاطكم لهذا النفور، وثقالاً عنه لمشقته عليكم.
أو: انفروا خفافاً: لقلة عيالكم وأذيالكم، أو ثقالاً: لكثرتها.
أو: خفافاً: من السلاح، وثقالاً منه.
أو: خفافاً وثقالاً: ركباناً ومشاة.
أو: خفافاً وثقالاً: شباباً وشيوخاً.
أو: خفافاً وثقالاً: مهازيل وسماناً.
واللفظ الكريم يعم ذلك كله، والمراد: انفروا حال سهولة النفر وحال صعوبته.
وقد روي عن ثلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط، ويستشهدون بهذه الآية، وفريق من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن هذه الآية محكمة، وأنها تفرض الجهاد والغزو فرضاً عينياً على كل مسلم، ولم تعذر أحداً في التخلف عن الجهاد، ولذلك كانوا لا يتخلفون أبداً عن غزوة من الغزوات.
ولما كانت البعوث إلى الشام قرأ أبو طلحة رضي الله تعالى عنه سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية فقال بمجرد أن سمع هذه الآية: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بني! مع أنه كان شيخاً كبيراً، فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: ما سمع الله عذر أحد يعني: ما استجاب الله عذر أحد؛ لأن الله قال: (خفافاً وثقالاً)، فشملت جميع المسلمين، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.
وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ويقول: فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً.
وقال أبو راشد الحراني: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فطن عنها يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث: (انفروا خفافاً وثقالاً).
وعن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً من أهل دمشق على راحلته فيمن أراح، قد سقط حاجباه على عينيه، يعني: رآه على راحلته مع أنه كان شيخاً كبيراً، وسقوط الحاجب على العينين يكون في حالة الشيخوخة المتأخرة جداً.
يقول: فأقبلت عليه، فقلت له: يا عم! لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله.
فرحم الله تلك الأنفس الزكية! وحياها من بواسل باعت أرواحها في مرضاة ربها وإعلاء كلمته، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية! أيها الإخوة! الحديث ذو شجون في هذا الموضع بالذات، ولولا أننا نلتزم بالاجتهاد بالاختصار حتى ننجز القدر المطلوب إنجازه، لأفضنا في تفصيل الكلام، ومقارنة أوضاع المسلمين التي ما كان أي مسلم من قبل يتصور أو يحلم مجرد حلم في المنام أننا سنصل إلى هذا المستوى الذي نحن فيه الآن، ليس فقط من ناحية التقاعس عن الجهاد والاستسلام والتخاذل أمام أعداء الله سبحانه وتعالى وأعداء الدين، وإنما أيضاً تغيير المفاهيم لدى الناس حتى صارت قضية الجهاد قرينة لرمي الناس بالتطرف والعنف والإرهاب.
إلى آخر هذه المسميات.
روى الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أن بعض الملوك عاهد كفاراً على ألا يحبسوا أسيراً من أسرى المسلمين، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: إني أسيرة، صرخت هذه المرأة من وراء هذا البيت وقالت له: إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري، فلما عاد إلى الأمير، واستطعمه عنده، وتجاذبا أطراف الحديث، ففي أثناء الكلام انتهى الخبر إلى هذه المرأة المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه، وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر، حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع -رحمه الله تعالى- وحرر هذه الأسيرة!! ومواقف المسلمين في ذلك معروفة، لا أقول في الصدر الأول ولكن حتى إلى عهد قريب، فالدولة العثمانية رغم أنها كانت في حالة ضعف شديد، إلا أنه كان لها من الهيبة والصولة والجولة ما هو معلوم، حتى كان المندوب العثماني إذا نزل في إحدى العواصم الأوروبية يمتنعون عن دق أجراس الكنائس احتراماً له، وفي نفس الوقت خوفاً من أن يغضبوه إذا سمع صوت الأجراس فيؤدبهم.
وقرأت في كتاب تاريخ الدولة العالية لـ محمد فريد في أحد الخطابات: أن مندوب إحدى الدول الأوروبية -لعلها المجر أو نحوها- ذهب للخليفة العثماني، وطلب منه طلباً معيناً: أن يحمي بلاده، أو أن يحسن إليهم، أو شيء من هذا، فمقدمة الرد السلطاني أو الباب العالي -كما كانوا يسمونه- بدأ بذكر مقدمة طويلة من الجواب يقول فيها: إن الغازي ابن الغازي ابن سليل المجد كلها مجد وتفخيم واستعلاء من هذا الكاتب، وفي النهاية جملة قصيرة، بعد أن مدح الخليفة بهذه المدائح الطويلة جداً، انتهت بقوله: فقد رأى -يعني: جلالة السلطان المعظم- أن ينظر إلى طلبكم بعين الشفقة، واستجاب لهذا الطلب، وأنعم عليكم بتلبيته.
هذا موجود في تاريخ الدولة العالية.
فالشاهد: أننا بعد هذا العز انظر كيف حولوا تركيا التي كانت مركز خلافة الإسلام إلى بؤرة فساد، وشر على مجاوريها من البلاد الإسلامية، المهم أن واقعنا في الحقيقة مؤلم إلى حد يجب فيه أننا نتحسر على هذا الواقع، تماماً كما تحسر القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى حين قال: ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه -نصح الحاكم والرعية-: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، يعني: أراد أن يشجع الوالي والرعية، فقال لهم: أي فرصة أحسن من هذه الفرصة، صار الأعداء موجودين داخل دياركم في الشبكة، والإمام القاضي أبو بكر بن العربي رجل أديب، على أرقى مستوى من الأدب، فانظر كيف كان تناوله مثل هذه القضايا بأسلوبه العذب البليغ.
يقول: فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس، حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، -الوجار هو: جحر الضبع- وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم رغب تبارك وتعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبعدما قال: (انفروا خفافاً وثقالاً) قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41].
وفي اسم الإشارة: (ذلكم) إشارة إلى النفير والجهاد، وفي معنى البعد الإيذان بأن منزلته رفيعة لبعد منزلته بالشرف، والمراد بكونه خيراً: أنه خير في نفسه أو: خير من الدعة والتمتع بالأموال.(74/2)
تفسير قوله تعالى: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك)
صرف الله تعالى الخطاب عن المتخلفين، ووجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معدداً لما صدر عنهم من الإهانات قولاً وفعلاً، ومبيناً لدناءة هممهم في هذا الخطب، فقال عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].
(لو كان عرضاً قريباً) يعني: لو كان هذا الذي تدعوهم إليه عرضاً قريباً ونفعاً سهل المأخذ، (وسفراً قاصداً) أي: سفراً وسطاً ليس كهذا السفر البعيد إلى تبوك؛ (لاتبعوك)، لا لأجلك ولكن لموافقة أهوائهم، (ولكن بعدت عليهم الشُقة) أو (الشِقة) قرئ بالضم وبالكسر، يعني: بعدت عليهم الناحية التي ندبوا إليها، وسميت الناحية التي يقصدها المسافر الشقة؛ للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها، والناحية التي يقصدها المسافر غالباً تكون بعيدة، ولذلك هذه الناحية التي تقصدها تسمى الشقة، مأخوذة من المشقة التي تلحقه في الوصول إليها.
(وسيحلفون بالله): هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك (سيحلفون بالله) (بالله) متعلق بكلمة (سيحلفون) يعني: سيحلفون بالله أو سيحلفون قائلين: بالله، يعني: كأنه من جملة كلامهم يعني: سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين بالعجز ويقولون: بالله لو استطعنا لخرجنا معكم إلى تلك الغزوة.
ثم بين تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم؛ لأن المنافق دائماً من شأنه الاستجنان بالأيمان الكاذبة ويتخذها جنة ووقاية يحتمي وراءها.
(يهلكون أنفسهم) أي: بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز.
(والله يعلم إنهم لكاذبون)؛ لأنهم بالفعل كانوا يستطيعون الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم.(74/3)
تفسير قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)
قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف حين اعتلوا بعللهم؟! (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم بالقعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزوة، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة:44]، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)؛ لأنهم يؤمنون بالله، فالإيمان يمنعهم من مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالخروج مع وجود القدرة، فالمؤمن إذا وجد في قلبه الإيمان والقدرة لا يتخلف عن الطاعة.
(لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)؛ لأن الإيمان بالله يمنع عن التخلف مع القدرة.
(واليوم الآخر): لأن الشخص الذي يؤمن بالله واليوم الآخر يمنعه ذلك من ترك استبدال الثواب والحياة الأبدية إذا أغروه بعرض من الدنيا قليل.
(أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم)؛ لأنهم يعتبرون الجهاد بها قربة، ويضحون بها في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فيبذلونها في سبيله.
(والله عليم بالمتقين) أي: فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم، ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء، ووعده لهم بأجزل الثواب.
((إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) أي: إنما يستأذنك في ترك الجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله: الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ لا يرجون ثوابه، وهم المنافقون، ولذا قال تعالى: (وارتابت قلوبهم)، فيما تدعوهم إليه، ورسخ فيها الريب والشك، (فهم في ريبهم يترددون) أي: ليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.(74/4)
علو مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل
اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة؛ ما لا يخفى على أولي الألباب، وهذا في غاية التلطف والعناية من الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى علم أنه لو جابه خليله صلى الله عليه وسلم بالعتاب ربما ذهبت نفسه شفقة من هذا العتاب، لو قال له: لماذا أذنت لهم؟ لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم فزعاً وجزعاً، فمن لطف الله سبحانه وتعالى به، ومحبته لنبيه صلى الله عليه وسلم، طمأنه أولاً فقال: (عفا الله عنك)، يعني: ما سيأتي من العتاب معفو عنك فيه فلا تجزع؛ تلطفاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورعاية لجانبه عليه الصلاة والسلام.
(عفا الله عنك لم أذنت لهم)، كي يطمئنه أولاً، كي لا يجزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (عفا الله عنك)؛ فبشره أولاً بالعفو دون أن يأتي بما يوهم العتاب.
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف! بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو، وهذه الآية من المواضع التي يتكلم فيها المصنفون في الخصائص النبوية، والتي يتحدثون فيها عما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصائص في القرآن والسنة، فهذه من خصائص القرآن الكريم، وفيها بيان علو مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل.
وقال بعض المفسرين: (عفا الله عنك) في افتتاح الكلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك.
وقال الداودي: إنها تكرمة، ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم وهو يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة تعود بعفوك أن أبعدا ألم تر عبداً عدا طوره ومولى عفا ورشيداً هدى أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب؛ غير صحيح، فهذه من المواضع التي زل فيها الزمخشري، بل ضل، وبنى كلامه على أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، فالواجب تفسير كلمة العفو في كل مقام بما يناسبه.
قال الشهاب: وعبارة: (عفا الله عنك) تستعمل حيث لا ذنب، ولا تعني وقوع ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ هذا شخص تعظمه ومع ذلك تقول له: عفا الله عنك، فلا يستلزم ذلك أنه يكون قصر في حقك أو أذنب، وإنما هذه تكون في المخاطبات، وفي الحديث: (عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له)، يقول المحقق: لم أقف على هذا الحديث.
وقال السخاوندي: هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، يعني: المقصود من هذا السياق: تعليم الأمة كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان ربه عز وجل يخاطبه هذه المخاطبة، ويتلطف به هذا التلطف؛ فعلينا أيضاً أن نلزم هذا الأدب في مقامه وجنابه صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب.
وقال القاضي عياض في الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، وهذا كتاب من الكتب الأساسية، ولا يليق أبداً بطالب علم أن يفرط فيه، كما أن طالب العلم لا يليق به أنه لا يقرأ في رياض الصالحين، والأذكار النووية، وزاد المعاد، وهذه الكتب من الطبيعي جداً لطالب العلم أن يمر عليها، ولا يليق به أبداً أن يمر عمره دون أن يطلع على هذه المجموعة من الكتب.
يقول القاضي عياض: وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي فلا يعد معصية، ولم لا يعد معصية؟ لأنها لا تكون معصية إلا إذا تقدم فيما مضى نهي خالفه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وكون هذا الفعل لم يتقدمه نهي فيبعد أن يكون معصية، والله سبحانه وتعالى لم يعدها عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك، وحتى القول بأنها معاتبة اعترض عليه بعض العلماء وقالوا: هذه ليست معاتبة.
قال نفطويه: وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيراً في أمرين، وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، فما دام لم ينزل وحي ينهاه عن الإذن لهؤلاء المنافقين فهو بالخيار في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف وقد قال تعالى: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62]؟! فأيدوا بهذه الآية القول بأنه لا عتاب، حتى العتاب غير مقصود في هذه الآية، كيف ولم يتقدم وحي ينهاه؟ ثم أيضاً الله سبحانه وتعالى خيره فقال: (فأذن لمن شئت منهم)، فلما أذن لهم أعلمه الله سبحانه وتعالى بما لم يطلع عليه من سرهم، ولو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، فالآن هم يتسترون وراء إذن النبي عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى بين لنبيه أنهم أضمروا شراً، وعزموا بالفعل على التخلف، فلو لم تأذن لهم لافتضحوا وظهر هذا الذي معهم، وهم في الحالتين سواء أذنت لهم أو لم تأذن لهم ما كانوا ليخرجوا، وقد عقدوا قلوبهم على التخلف.
يقول: فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، وأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، ولم تجب عليهم قط، يعني: لم يلزمهم ذلك، وهذا الحديث رواه ابن ماجة.
ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب.
من لم يعرف كلام العرب، وهذا تعريض بـ الزمخشري؛ لأنه هو الذي قال هذه العبارة، قال: ومعنى عفا الله عنك أي: لم يلزمك ذنباً، وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته، ومن عورات الكشاف للزمخشري في هذه الآية أنه عبر هذا التعبير الذي رفضه العلماء حينما قال: إن العفو لا يكون إلا عن ذنب.
وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة، قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأ وبئسما فعل، هب أنه كناية، أليس إيثاره على التصريح بالكناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العتاب؟! يعني: حتى لو كانت جناية ألا تلاحظ التلطف هنا في هذا، فكيف يعبر هذا التعبير القبيح؟ لأن هذا لا يليق في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبيح، واستتباع اللائمة، بحيث هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما -وهو في التفسير قال: بئسما- أيجوز استعمال هذه العبارة المنبئة عن بلوغ القبح إلى ردة يتعجب منها؟ لأن بئس هذه يتعجب فيها بالذم، فأين هو في قوله: بئسما ما فعلت، من تعظيم الله سبحانه وتعالى نفسه لنبيه وتلطفه معه في الخطاب؟! ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47]، وقد كرهه الله سبحانه وتعالى، أي: أن خروجهم كان مبغوضاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فقد كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير يعني: أول كل شيء، كان يبدو من الأول، ويفتضحون من أول كل شيء، نعم كان الأولى تأخير الإذن، حتى يفتضحوا على رءوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش بالأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم؛ لأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب، على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان.
قال الخفاجي: وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك.
بعضهم يحاولون أن يخففوا من الخطأ الذي ارتكبه الزمخشري فقالوا: إنه يقصد أن الأصل في استعمال هذا التعبير: (عفا الله عنك) أنه يكون فيما يكون فيه جناية، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه، وإذا قدم العفو على ما يوجب الجناية فلا خطأ فيه، قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجه موضع التهم كان أولى وأحرى.(74/5)
غائلة الاستئذان والتثاقل في الخروج للجهاد
استدل بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالاجتهاد، كما قال الرازي.
وقال السيوطي في الإكليل: استدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ، ولكن ينبه عليه بسرعة.
قال الرازي: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب والإبعاد.
وقيل: نفي الفعل للمستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى: (لا يستأذنك) معناه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر).
قال الناصر: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:44] إلى آخره، فهذا بيان أن هذا شأن المؤمنين، وأنه لا يقع منهم هذا الفعل، فهو ينفي هذا الأمر ووقوعه في المستقبل، وواضح أن هذه الصيغة تفيد الاستمرار.
فهذا الأدب ينبغي أن يتحراه ويقتفيه المؤمن مطلقاً، فلا يليق المرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، إذ ليس من الأدب ولا المروءة أن تقول للضيف: هل أكلت أم لا؟ لكن تحضر الطعام، هذا هو الكرم، وهذه هي المروءة الإسلامية، يحضر له الطعام ما دام يملكه؛ لأنه قد يحرج ويقول لك: لا، لكن الأصل أن الإنسان يقدم الطعام دون استئذان.
وعندما نراجع أخلاق الخليل إبراهيم عليه السلام، فإنه ما قال لهذا الوفد الذي أتاه: هل أحضر لكم طعاماً؟ أو: هل أنتم محتاجون إلى طعام؟ لا، المقصود من أدب الأخوة: ألا يحوج أخاه أن يطلب منه شيئاً، يعني: إذا انتظرت حتى يطلب منك أخوك الإعانة على معروف أو على أمر يحتاجه، فهذه درجة متدنية من الأخوة، ومن التقصير أن يحوج أخاه إلى أن يطلب منه، والمقصود: أنه يتوخى ويتحرى حاجة أخيه، وكيف يسدها له قبل أن يلجئه إلى الطلب منه.
يقول هنا: فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، أي: أنه لم يكن يظهر أمامهم استعداداً بأنه يهيئ نفسه للضيافة، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تبارك وتعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] (فراغ) أي: اختفى وما أظهر لهم أنه يستعد وليس بمرأى من ضيوفه، فلا يتصل بالتليفون بالمحل أمام الضيوف أحضر كذا وكذا، ولا يظهر أنه يعد طعاماً، لا، بل اختبأ يعد في السر، ثم يعرضه عليهم، والمهتم بأمر ضيفه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، إن كان معك ضيف وفي الطريق تشتري له كذا وكذا من المشروب والأكل، هذا أيضاً فيه إظهار التهيؤ للضيافة، وكأنك تستأذنه: هل أضيفك أم لا؟! والكريم يعرض الطعام على الضيف ثم إذا شاء أكل، وإن شاء امتنع عن الطعام، لكن لا يستأذن الضيف، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو القوة.
وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين: التثاقل عن المبادرة إليه، وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شأنهم لعلو كعبهم في الإيمان وشرفهم وعلو هممهم، لا يمكن أن يقع منهم أبداً استئذان في الخروج عن الجهاد، ولا يمكن أن يستأذنوا أبداً، فهذا ليس من شأن المؤمنين: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:44].
وأشد من ذلك ليس فقط الاستئذان كما فعل المنافقون، بل أشد من ذلك أيضاً: التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، فقد حضهم الرسول عليه السلام وناداهم وكلفهم، ثم بعد ذلك اعتذروا واستأذنوا في الخروج! وأسوأ أحوال المتثاقل وقد دعي الناس إلى الغزاة: أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق، نعوذ بالله من التعرض لسخطه!(74/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)
بين الله تعالى جلياً شأن أولئك المنافقين المستأذنين بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة، ولذلك خذلهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
(ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) يعني: قوة من مال وسلاح وزاد، ونحو هذا.
(ولكن كره الله انبعاثهم) أي: نهوضهم للخروج، (فثبطهم) كسلهم وضعف رغبتهم، (وقيل اقعدوا مع القاعدين) يعني: مع النساء والصبيان.
ودل قوله تعالى: (لأعدوا له عدة) على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح، وجميع ما يستعان به على العدو هو من جملة الجهاد، فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك، يعني: الزكاة مثلاً إذا أخرجت في سبيل الله تصرف أيضاً في العدة من السلاح وغيره، وهذا جلي فيما يتقوى به من العدة كالسلاح، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك مما يضعف به قلب العدو فهو داخل في الجهاد، يعني: دخول السلاح دخول جلي، أما هذه الأشياء فالظاهر أنها أيضاً تدخل فيه، وقد قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ويكون ذلك كلباس الحديد حالة الحرب، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى الترف.
((وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ))، للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين أن يخرج للجهاد، فإذا علم من شخص أنه مثبط مخذل، أو يخرج لأجل الإضرار، أو يتجسس على المسلمين؛ فللإمام أن يمنعه من الخروج، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذل.
(وقيل اقعدوا مع القاعدين) قيل: إنه تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، يعني: نزل خلق داعية القعود فيهم منزلة الأمر والقول؛ كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]، قال: موتوا يعني: أماتهم ثم أحياهم.
أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود.
وقوله: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا)، كان يمكن أن يقول: وقيل: كونوا مع القاعدين، لكن قال: (اقعدوا مع القاعدين).
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: (مع القاعدين)؟ قلت: هو ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى، الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87]، وهذا وصف لهم بدناءة وخفة الهمة أن يرضوا بأن يكونوا مع النساء والصبيان وهؤلاء الخوالف.
قال الناصر: وهذا من تنبيهاته الحسنة -أي: الزمخشري -، ونزيده بسطاً فنقول: لو قيل: اقعدوا مقتصراً عليه لم يفد سوى أمرهم بالقعود، وكذلك لو قال: كونوا مع القاعدين، فإن كلاهما يفيد الأمر بالقعود وحسب، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، لكن لما قال: (اقعدوا مع القاعدين) أي: رضيتم لأنفسكم أن تندرجوا في وسط النساء والصيبان، واستويتم بالنساء والصبيان والمرضى الذين أمراضهم مزمنة؟! ولعن الله فرعون لما بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، ولم يقل: لأجعلنك مسجوناً، لمثل هذه النكتة من البلاغة: (لأجعلنك من المسجونين) يعني: من المسجونين الذين تعرف حالهم، وما يعانونه من كذا وكذا، وهذه الفائدة لا تظهر لو قال: (لأسجننك)، أو لأجعلنك مسجوناً، لكن قال: (لأجعلنك من المسجونين).(74/7)
تفسير قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً)
ثم بين تعالى سر كراهته لخروجهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) أي: إلا فساداً وشراً.
(ولأوضعوا خلالكم) لأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد.
قال الشهاب: الإيضاع: إسراع سير الإبل، يقال: وضعت الناقة تضع إذا أسرعت، وأوضعتها أنا، والمراد هنا: ولأوضعوا خلالكم: أسرعوا وتحركوا في وسط صفوفكم بالنمائم -جمع: نميمة- ينشرون النميمة والإفساد بين صفوف المسلمين، ولذلك قال تعالى هنا: (ولأوضعوا خلالكم) يعني: أوضعوا، كأنهم يركبون الإبل ويتحركون بها وسط المسلمين ليشيعوا النميمة والإفساد.
فقيل: المفعول مقدر وهو النمائم، ولأوضعوا خلالكم، يعني: النمائم، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها، وأثبت لها الإيضاع، ففيه استعارة تخييلية أو مكنية، وقيل: شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة بسرعة سير الركائب، ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل.
(ولأوضعوا خلالكم) جمع خلل.
(يبغونكم الفتنة) يطلبون لكم ما تفتنون به لإيقاع الخلاف فيما بينكم، وإلقاء الرعب في قلوبكم، وإفساد نياتكم.
(وفيكم سماعون لهم) منقادون لقولهم، مستحسنون لحديثهم، وإن كانوا لا يعلمون حالهم لضعف عقولهم؛ فيتوهمون منهم النصح والإعانة، وهم يريدون التخذيل والفتنة، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: أي: فيكم عيون وفيكم سماعون لهم؛ وقيل: فيكم عيون يسمعون لهم أخباركم وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة للسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
(والله عليم بالظالمين) يعني: لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وفيه شمول للفريقين: القاعدين والسماعين.(74/8)
تفسير قوله تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل)
ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة، أي: أن هذا مجرب، وهو ديدنهم ودأبهم فيما مضى، قال الله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:48] أي: طلبوا الشر بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول حين انصرف بثلث الجيش يوم أحد عن المسلمين.
(وقلبوا لك الأمور) يعني: دبروا لك الحيل والمكائد، ودوروا الآراء في إبطال أمرك.
قال الشهاب: المراد من الأمور المكايد، فتقليبها مجاز عن تدبيرها، أو تقليبها: تفتيشها وإزالتها، (وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق) وهو تأييدك ونصرك وظفرك.
(وظهر أمر الله) أي: علا دينه.
(وهم كارهون) أي: على رغم منهم.
قال ابن كثير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال ابن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه، يعني: هذا أمر قد أقبل، فدخلوا في الإسلام ظاهراً ثم لما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم.(74/9)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
(ومنهم من يقول ائذن لي) في القعود، (ولا تفتني) أي: لا توقعني في الفتنة.
روي عن مجاهد وابن عباس: أنها نزلت في الجد بن قيس أخي أبي سلمة، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في الاستعداد للجهاد: (هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟! -يعني: في جهاد بني الأصفر وهم الروم- فقال: يا رسول الله! أوتأذن لي ولا تفتني؟ عافني من ذلك، ائذن لي ألا أذهب ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قد أذنت لك).
قال الشهاب: كان يخشى العشق لهن، أو مواقعتهن من غير حل.
وبنو الأصفر هم: الروم، وقيل في وجه التسمية وجوه، منها: أنه ملكهم بعض الحبشة فتولد بينهم أولاد ألوانهم ذهبية.
والجد بن قيس هذا من بني سلمة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوأ من البخل؟! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض؛ بشر بن البراء بن معرور).
((أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) قال أبو السعود: أي: في عينها ونفسها، فرغم أنهم يخافون الذهاب لجهاد الروم فيقعوا في الفتنة، والذي فعلوه هو نفسه الفتنة وعينها.
قال: وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به.
(سقطوا) لا في شيء مغاير لها، فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً منها.
يعني هذا القعود وهذا التخلف ليس مهرباً أو مخلصاً من الفتنة، وإنما هو عين الفتنة التي يزعمون أنهم يريدون أن يهربوا منها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف، والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة، ومن القعود بالإذن المبني عليه، وعلى الاعتذارات الكاذبة.
وقرئ بإفراد الفعل، محافظة على لفظ (من) - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]- وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه مع تقديم الظرف - (ألا في الفتنة) - إيذان بأنهم وقعوا فيها، وهم يحسبون أنها منجىً من الفتنة، زعماً منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن.
وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين.
((وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)) أي: يوم القيامة، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا.(74/10)
تفسير قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم)
بين تعالى عداوة المنافقين زيادة في تشهير مساوئهم فقال سبحانه وتعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
(إن تصبك حسنة) يعني: فتح وظفر وغنيمة (تسوءهم) أي: يسيئهم ذلك؛ لشدة عداوتهم لك.
(وإن تصبك مصيبة) يعني: نوع من الشدة.
(يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) نحن قد احتطنا، وأخذنا بالقعود.
(من قبل) أي: من قبل إصابة المصيبة، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين لآرائهم، أي: كنا أذكياء، وكنا نحسن التفكير حينما حزمنا أمرنا، ولم نخرج إلى الجهاد، وهم قد أظهروا الفرح برأيهم (وهم فرحون) برأيهم، وبما أصابكم.(74/11)
تفسير قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)
ثم أرشد تعالى إلى جواب المنافقين ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم، فالسبب الذي سروا به وفرحوا من أجله سبب باطل لا يستوجب ذلك، فقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، هذا احتجاج بالقدر في موضعه؛ لأن القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به على المعائب والذنوب.
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أي: ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية والأخروية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهذا الفرح لرضانا بقضائه في تلك المصيبة، نحن في هذه المصيبة نقوم بنوع آخر من أنواع العبودية، وهو: الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، ونحمده في الضراء كما نحمده في السراء، فهذا الأمر لم يسؤنا في الحقيقة، ولكننا نرضى بقضاء الله عز وجل، كيف والله سبحانه وتعالى لم يكتبها علينا ليضرنا بها؛ إذ هو مولانا؟! فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو مولانا الذي يتولى أمورنا ويوقع الأمور على وفق مصلحتنا الدينية والأخروية، فكيف نُساء بما يبتلينا به من المصائب والأقدار؟! (هو مولانا) يتولى أمورنا، فإنما كتبها علينا ليوطننا على الصبر عليها والرضا بها، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون)؛ لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره، (وعلى الله)، وحده، (فليتوكل المؤمنون)؛ لأن التوكل لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى.
((قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا))، هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنين؟ وكم أكلت هاتان الآيتان من قلوب أعداء الدين؟ لأنهم يمعنون في إغاظة المسلمين وكيدهم ثم إذا بالمسلمين يظهرون عدم المبالاة لهذا الكيد ويستدلون بهذه الآية الكريمة! (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، علام تشمتون؟ وعلام تفرحون والله لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا، ويكتب لنا ليوفقنا للصبر ثم للجزاء بالجنة؟ (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)؛ لأن الله يريد بنا الخير حتى فيما هو شر، لكن العاقبة للتقوى، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]؛ لأنه هو مولانا، فـ: (هو مولانا)، تعليل لهذا التفسير، فهو مولانا الذي يتولى أمورنا، ومولانا الذي ينصرنا، والله سبحانه قال في أوليائه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، إلى آخر الحديث المعروف، فهو مولاهم الذي يتولاهم، فلا يمكن أن يكتب لهم شيئاً يريد بهم فيه الشر، وإنما يريد بهم فيه الخير حتى لو كان في ظاهره خلاف ذلك.
(قل هل تربصون) أي: هل تنتظرون بنا، (إلا إحدى الحسنيين) أي: إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب، ليست حسنة لكنها الحسنى -الأفضل والأخير- وهما النصر أو الشهادة، فلو كان الإنسان يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويصدق الرسول عليه السلام، ويصدق وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، فهي فعلاً إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة، وهذا أقصى ما يغيظ أعداء الدين، وهذه الآية كم دوخت من أمم! وكم أزالت من ممالك! هذا هو خلاصة الكلام، أقصى ما يضرك من الأعداء هو أن يقتلوك، فالقتل في حقك إن كان في سبيل الدين فهو شهادة، وليس سقوطاً ولكنه ارتفاع إلى الفردوس الأعلى، والوعد الذي رتبه الله سبحانه وتعالى على الشهادة -كما سيأتي في آخر السورة- وعد عظيم، وكل مؤمن عنده يقين فلا يضن على نفسه بأعظم أمنية بأن يموت في سبيل الله عز وجل.
فهذه جعلت لأمة المسلمين خصيصة لا تدانيها فيها أمة من الأمم، لا سيما أحفاد القردة والخنازير؛ لأن اليهود -لعنهم الله- أخوف ما يخافون من أمثال هذه الآية الكريمة، ولذلك عبروا كثيراً عن أنهم لا يخافون إلا من المسلمين؛ لأن المسلم يعتقد أنه لو قتل يهودياً أو قتله اليهودي فسيدخل الجنة في الحالتين، وهو المعنى الذي تجسده هذه الآية: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52].
أما نحن: (ونحن نتربص بكم) إحدى السوءتين من العواقب: إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، كما أصاب من قبلكم من الأمم، أو بعذاب بأيدينا وهو القتل، وتموتون على الكفر.
(فتربصوا) بنا ما ذكر من عواقبنا.
(إنا معكم متربصون) منتظرون ما هي عاقبتكم، فلابد أن يلقى كل منا ما يتربصه، ولا يتجاوزه، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.(74/12)
تفسير قوله تعالى: (قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم)
قال تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة:53].
(قل أنفقوا) يعني: أنفقوا أموالكم في سبيل الله ووجوه البر.
(طوعاً أو كرهاً)، هذان مصدران وقعا موقع الفاعل، يعني: طائعين من قبل أنفسكم أو كارهين مخافة القتل.
(لن يتقبل منكم) لن يتقبل منكم ذلك الإنفاق.
ثم بين سبب ذلك بقوله: (إنكم كنتم قوماً فاسقين) أي: عاتين متمردين.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق، ثم قال: (لن يتقبل منكم)؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، فهو مثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75]، أمر بمعنى الخبر، ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً، فكلمة: (أنفقوا) المقصود بها أنفقتم، لكن الكلام ترتيبه في التفسير كما يلي: لن يتقبل منكم نفقاتكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً لا فائدة، ونحوه قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] يعني: لن يغفر الله لهم سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
ومنه قول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت يعني: لا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت.
يقول: الزمخشري: فإن قلت: متى يجوز مثل هذا التعبير أو السياق؟ قلت: إذا دل الكلام عليه، كما جاز عكسه في قوله: رحم الله زيداً وغفر له، فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أن كثيراً كأنه يقول لـ عزة: امتحني لطف محلك عندي وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة أو الإحسان وانظري، هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة؟ ولذلك يقول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة.
وفي معناه قول القائل: أخوك الذي إن قمت بالسيف عامداً لتضربه لم يستغشك في الود وهذه درجة من الأخوة نادرة، يقول: أخوك الحقيقي الذي إن أسأت إليه أحسن إليك، حتى لو قمت تضربه بالسيف لا يغشك في المودة، أو لا يستغشك -من الغش والخيانة- ولو جئته تطلب أن تقطع يده لبادر إليك فرقاً من الرد عليك، لبادر هو بذلك خوفاً من أن يؤذيك بأن يعذر لك أو يمنعك من ذلك ويردك عنه، يقول: أخوك الذي إن قمت بالسيف عامداً لتضربه لم يستغشك في الود ولو جئت تبغي كفه لتبينها لبادر إشفاقاً عليك من الردِ يرى أنه في الود وانٍ مقصر على أنه قد زاد فيه عن الجهد مع كل هذا يرى أن هذا الود هو مقصر فيه! كذلك المعنى هنا: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ مثل قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، انظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ لا، بل في كلا الحالتين لن يغفر الله لهم، وكذلك هنا: ((أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)).(74/13)
تفسير قوله تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله)
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54]، جمع كسلان، يعني: متثاقلين؛ إذ لا يرجون على فعلها ثواباً؛ لأن الرغبة والرهبة هي القوة الدافعة للعمل، فهم ليس عندهم خوف ولا رجاء ثواب، فلذلك يقومون متكاسلين فقط تحت ضغط السيف والسلطان، فلا يرجون على فعلها ثواباً، ولا يرهبون من تركها عقاباً؛ لأنهم مكذبون.
{وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]؛ لأنهم يرون الإنفاق في سبيل الله مغرماً وتركه مغنماً.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه) رواه النسائي عن أبي أمامة، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].(74/14)
تفسير قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)
لما بين تعالى قبائح أفعال المنافقين، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين، وعدم قبول نفقاتهم؛ ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم، فهم يبخلون بالمال لحرصهم على الدنيا، ويتمتعون بهذه الدنيا، ويظنون أن من الكياسة والذكاء أنهم يتنعمون بهذه الدنيا بهذه الطريقة؛ فبين تعالى وجلَّى تمام الانجلاء أن النفاق سبب الخسارة، لجلبه آفات الدنيا والآخرة، فقال سبحانه وتعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
(فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)، وهذا هو الواقع، فعامة المفتونين بالكفار إنما يفتنون بهم بسبب الدنيا لا بسبب أي شيء آخر، وعامة الذين يفتنون بالكفار أغلب أسباب فتنتهم بالدنيا، وبما معهم من مال، وقوة، وانطلاق في الأرض، أو غير ذلك من أعراض الدنيا، لكن هل هناك من يفتن بهم لأنهم يعبدون الله، أو لأنهم موحدون لله، أو لأنهم ملتزمون بالإسلام؟ كلا، فينبغي أن تصحح المقاييس والمفاهيم في النظر لهؤلاء الأراذل من أعداء الدين وأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)؛ لأن ما هم فيه من النعمة أو المال والأولاد إنما هو استدراج لهم، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
(إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) أي: بسبب ما يكابدون لجمعها، فهم يتعبون في تحصيل المال، ثم يتعبون ويكدون في حفظها، فيتعذبون بتحصيل المال، ويتعذبون بحمايته، ويعانون فيها من الشدائد والمصائب ما الله به عليم.
(إنما يريد الله ليعذبهم)، قيل: اللام هنا زائدة، وقيل: المفعول محذوف، يعني: أن اللام تعليلية: إنما يريد الله إعطاءهم ليعذبهم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا يرد: أن من أحب شيئاً سواه عذب به ولابد.
فالله سبحانه وتعالى يعذبهم بها، وفعلاً لو أخذنا نتحدث في جزئية من هذه الآية، وهي: تعذيب الكافر بأولاده، ولو تأملتم أحوال الكفار في بلادهم، ستجدون أن أغلب هؤلاء الكفار يعذبون بأولادهم أشد العذاب، وقد يصل إلى القتل، والعقوق الذي لا عقوق بعده، وصار هذا الأمر متوارثاً، وهؤلاء يستدينون ديناً سابقاً، فهؤلاء الآباء من قبل عقوا آباءهم، فيعذبون -فعلاً- بأولادهم أشد أنواع العذاب.
((وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) يعني: يموتون كافرين لاهين بالتمتع بالدنيا عن النظر في العاقبة، فيكون ذلك استدراجاً لهم، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وأصل كلمة الزهوق: الخروج بصعوبة، (وتزهق أنفسهم) أي: تخرج أرواحهم من عروقهم ويعذبون أثناء خروجها، كما هو معروف في الحديث.
(وهم كافرون)، وهذه مصيبة أكبر؛ أن يموت إنسان على الكفر والعياذ بالله، ولو مات على الكفر انتهى كل شيء، فيخلد في جهنم أبد الآباد، {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74].(74/15)
تفسير قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم)
قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56].
(ويحلفون بالله) أي: المنافقين، (إنهم لمنكم) أي: في الدين؛ ليدفعوا بدلالة اليمين دلائل النفاق، ليدفعوا دلائل النفاق الظاهرة منهم كالتخلف والاستئذان، (وما هم منكم) لأنهم كاذبون، (ولكنهم قوم يفرقون) إنما يحلفون لكم لأنهم يخافون القتل، ويخافون ما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة.
ثم أشار إلى سبب الخوف وهو: أزمة المساكن، فقد كانوا يخافون أن تضيع عليهم المساكن التي يعيشون فيها بينكم، يقول: ثم أشار إلى سبب الخوف، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم واضطرارهم وحاجتهم إلى المساكن التي يعيشون فيها بينكم، لكن لو وجدوا بديلاً حتى لو في الجحور والمغارات لهربوا وفروا إلى هذه الأماكن، فيقول تعالى مبيناً سبب خوفهم: (ولكنهم قوم يفرقون) {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:57]: من شدة البغض للإسلام وأهله، لكنهم مضطرون من باب: ودارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم (لو يجدون ملجأً) يعني: لو يجدون حصناً يلتجئون إليه، (أو مغارات) في الجبال، يسكن كل واحد منهم مغارة.
(أو مدخلاً) يعني: موضع دخول يدخلون فيه، وهو السرب في الأرض.
(لولوا إليه) لأقبلوا نحوه.
(وهم يجمحون) أي: يسرعون إليه إسراعاً لا يردهم عنه شيء؛ كالفرس الجموح النفور الذي لا يرده لجام، أي: لو وجدوا شيئاً من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها مستنكرة لأتوه لشدة خوفهم وكراهتهم للمسلمين، وغمهم بعز الإسلام ونصر أهله؛ لأنهم إذا عاشوا في وسط المسلمين يرون عزة الإسلام فينالهم غم وهم، ويرون نصرة أهل الإسلام فتركبهم الهموم والاكتئاب ويعلوهم البأس، فهم في حالة من النفور والكراهية والخوف لا يجعلهم يصبرون على الإقامة سوى اضطرارهم لهذه الأماكن التي يعيشون فيها، لكن لو وجدوا ملجأً حتى في أماكن سيئة للغاية كهذه الأماكن التي هي مستنكرة ومنفرة لفضلوها على الإقامة بينكم؛ لكنهم لا يجدون.
فانظر إلى التعبير بكلمة: (لولوا إليه وهم يجمحون)، فهي تكشف ما في قلوبهم من الحقد على الإسلام وأهل الإسلام، وعلى العكس تماماً الآن نرى الملاحدة والمنافقين والعلمانيين أعداء الدين، كيف أنهم لما أمنوا، ولا سلطان لهم يردعهم، ولا شريعة لديهم تؤدبهم، انطلقوا كالجرذان المسعورة بهذا العدوان على دين الله سبحانه وتعالى في الإعلام صباح مساء، حتى إن جرثومة مثل نصر أبو زيد المرتد الملحد الذي يسب الله والرسول عليه السلام، ويطعن في القرآن الكريم، ومع ذلك يوجد من هؤلاء المجرمين من يقول: أين حرية الفكر؟ وأين حرية الاعتقاد؟ ووالله ما هي حرية الفكر، إنما يريدون حرية الكفر، فإلى الله المشتكى مما وصلنا إليه! انظر كيف كان ضعف المنافقين في عهد النبوة، {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56 - 57].(74/16)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58].
(يلمزك) يعني: يعيبك.
(في الصدقات) يعني: في قسمة الصدقات، يلمزون الرسول ويعيبونه بأنه -والعياذ بالله وحاشاه- غير عادل.
ثم بين فساد لمزهم وأنه لا منشأ له، وليس لأنهم حريصون فعلاً على العدل؛ لكن لأنهم حريصون على حطام الدنيا، فيقول تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)، من يعيبك في قسمة الصدقات، {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
(إن أعطوا منها) القدر الذي يريدون (رضوا)، وقالوا: هذا عدل، (وإن لم يعطوا منها) القدر الذي يطلبون، (إذا هم يسخطون)، فيجعلونه غير عدل.(74/17)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله)
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59].
(ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله) يعني: كفانا فضله وما قسمه لنا.
(سيؤتينا الله من فضله ورسوله) يعني: بعد هذا إن كنا نؤمل المزيد فسوف يؤتينا الله من فضله حسب ما نرجو ونؤمل.
(إنا إلى الله راغبون) يعني: راجون أن يغنمنا ويخولنا فضله.
والجواب محذوف بناءً على ظهوره، يعني: لو أنهم فعلوا ذلك، ولو أنهم قالوا ذلك؛ لكان خيراً لهم.
(ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله) يعني: في المستقبل لكان خيراً لهم.
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئاً، أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، وقال: يا رسول الله! اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ائذن لي فأضرب عنقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، والمراد بذلك: الخوارج، وهذا الرجل فعلاً هو أصل الخوارج، وتحقق خروج هؤلاء الخوارج بهذه الأوصاف التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمع اجتهادهم في العبادة؛ حتى إن أحدكم ليحقر صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، ويقرءون القرآن، لكن لا يجاوز تراقيهم، يعني: لا يؤجرون عليه ولا يرفع إلى الله سبحانه وتعالى.(74/18)
تفسير سورة التوبة [60 - 72](75/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)
قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:58 - 59].
فأجابهم الله سبحانه وتعالى مبيناً أنهم لا يستحقون أن يعطوا من الزكاة أو من الصدقات، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] يعني: إنما يستحق الصدقات: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60].
لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات، أعقب ذلك ببيان أحقية ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من القسمة، ففي الآيتين السابقتين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) أي: يعيبك، (فِي الصَّدَقَاتِ) أي: في قسم الصدقات، فأعقب ذلك ببيان أحقية ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من القسمة؛ لأنه في هذا القسم لم يتجاوز مصارفها المشروعة له، وهذا هو عين العدل، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ولم يكله إلى أحد غيره، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً، فالذي تولى القسمة هو الله سبحانه وتعالى، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أي دور، وإنما بين مصارف الصدقات، وكان قاسماً موزعاً والله هو الذي أعطى، كما في الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، فالعطاء من الله، وما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يوزعها ويصرفها حيث أمره الله تبارك وتعالى، فكذلك هنا الله الذي أعطى، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بتوزيع المال على هذه المصارف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قسمها على هؤلاء، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً، بل حرمت الصدقة على أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، ففيم اللمز لقاسمها صلوات الله وسلامه عليه؟! وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: (إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك).
إذاً: هذه الآية الكريمة رد لمقالة أولئك اللمزة الذين كانوا يلمزونه ويعيبونه في قسمة الصدقات، ففيها رد لمقالة أولئك اللمزة وتوضيح لأطماعهم؛ ولبيان أنهم بمعزل عن الاستحقاق، وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ومنعهم ظلم، وهم هؤلاء الأصناف الثمانية في هذه الآية الكريمة، فإعطاء هؤلاء عدل ومنع هؤلاء ظلم؛ لأنه منعهم من حقهم الذي شرع الله سبحانه وتعالى لهم.(75/2)
الفرق بين الفقير والمسكين
(إنما الصدقات -محصورة- للفقراء)، الفقير هنا فعيل بمعنى: فاعل، فيقال: فقر يفقر من باب تعب يتعب إذا قل ماله، والمساكين جمع: مسكين، من: سكن سكوناً؛ لأن المسكين تسكن أو تذهب حركته لسكونه إلى الناس، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد، (مَسكين)، وبكسرها عند غيرهم.
وقال ابن السكيت: المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: الذي له بلغة من العيشَ، وكذلك قال يونس، وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين، قال: وسألت أعرابياً: أفقير أنت؟ قال: لا، والله بل مسكين.
وقال الأصمعي: المسكين أحسن حالاً من الفقير، وهذا هو القول الأقوى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فالآية تؤيد القول بأن المسكين هو الذي له مال لكنه لا يكفيه، يعني: له دخل لكنه لا يقوم باحتياجاته الأصلية.
((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ)) يعني: كانت هذه السفينة لجملة من المساكين، وفي نفس الوقت يعملون في البحر، يعني: لهم دخل وإن كان لا يكفيهم.
في حين قال تبارك وتعالى في حق الفقراء: (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يعني: لا يستطيعون ضرباً في الأرض، فهؤلاء ليس لهم دخل أصلاً ولا عمل.
وقال ابن الأعرابي: المسكين هو: الفقير، وهو الذي لا شيء له، فجعلهما سواءً.
وقال البدر القرافي: إذا اجتمعا افترقا: ثمرة ذلك تظهر فيما إذا مات رجل وأوصى للفقراء والمساكين، فهنا اجتمعا في الوصية فيفترقان في المعنى، بمعنى: أن يكون الفقير الذي لا شيء له أصلاً، والمسكين الذي له دخل ولكنه لا يكفيه، ففي هذه الحالة لا بد تنفيذاً لهذه الوصية من صرف الوصية للنوعين، لكن هذان اللفظان إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا اقتصر على أحدهما شملت المعنى العام لهما، كما إذا أوصى فقال: أوصي بهذا المال للفقراء فقط، ففي هذه الحالة يجوز الصرف للفقراء وللمساكين، أو قال: أوصي بهذا المال للمساكين، فإذا وردت مفردة، ففي هذه الحالة يجوز إعطاء الصنف الآخر الذي لم يذكر.
وهذا الأمر ليس جديداً علينا، إذ هناك كثير من الألفاظ الذي تنطبق عليه هذه القاعدة: إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، مثل: الإسلام والإيمان.
والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، فهنا افترقا فيجتمعان من حيث المعنى، فتشمل الباطن والظاهر.
لكن إذا افترقا مثل حديث جبريل: (ما الإسلام؟) (ما الإيمان؟) فانظر المغايرة هنا حينما اجتمعا في نص واحد.
مثال ذلك أيضاً: البر والتقوى، وكذا: الله والرب، فيكون لفظ الجلالة الله قسيماً للرب، يعني: توجد مغايرة بينهما من حيث المعنى، كما في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3]، فغاير بين الرب وبين الإله.
وكذلك كما تقول في كلامك: رب العالمين! وإله المرسلين، ففي هذه الحالة أيضاً يكون هناك مغايرة.
ومثال افتراقهما عندما يأتي الواحد منها منفرداً عن الآخر -لكنه في هذه الحالة يشمل الأمرين- قول الله عز وجل: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام:164]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، ومن هذه المواضع سؤال الإنسان في القبر: من ربك؟ فهنا تعني: من إلهك؟(75/3)
معنى قوله تعالى: (والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم)
يقول المهايمي: ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم والمحتاجين إلى الصدقات، يعني: الزكاة تعطى للمحتاجين من المسلمين ولمن يحتاج إليهم المسلمون، فمن هؤلاء الذين يحتاج إليهم المسلمون: العاملون عليها، فلابد من وجود كادر من الموظفين يتولون جمع الزكاة ويتولون تصريفها ويسعون في تحصيلها، ومنهم: القابض، والوازن، والكيال، والكاتب، فهؤلاء يعطون أجورهم من الزكاة ((وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)).
ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام، فقال تبارك وتعالى: ((وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ))، وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء تقوية لإسلامهم؛ لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم.
معنى قوله تعالى: ((وَفِي الرِّقَابِ)): ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرق؛ لقوله تبارك وتعالى: ((وَفِي الرِّقَابِ)) يعني: للإعانة في فك وإعتاق الرقاب، فيعطى المكاتبون منها ما يستعينون به على أداء نجوم الكتابة، يعني: أقساط الكتابة، وإن كانوا كاسبين، يعني: حتى وإن كان هؤلاء المكاتبون يعملون ويتكسبون، لكن يعطون أيضاً من الزكاة ما يعينهم على التحرر من الرق وإن كانوا كاسبين، وهذا قول الشافعي والليث.
أو (وفي الرقاب) يعني: وللصرف في عتق الرقاب، وذلك بأن يصرف من مال الزكاة في شراء رقاب ثم تعتق، وهذه صورة أخرى.
إذاً: إما أن تفك رقاب المكاتبين كي يعتقوا، وإما أن يشترى من مال الزكاة أرقاء ثم يعتقون بعد ذلك، قال ابن عباس والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، ولا يخفى أن الرقاب يعم الوجهين، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة.
معنى قوله تعالى: ((وَالْغَارِمِينَ)): ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون، فكما تفك الرقاب، هناك أيضاً من تفك ذمته؛ لأنها مقيدة بالدين، فقال عز وجل: ((وَالْغَارِمِينَ))، وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ولم يجدوا وفاءً، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء، فالغارم إما أن يستدين لمصلحة نفسه أو يستدين لمصلحة غيره حتى لو كان غنياً، فالذي يستدين لمصلحة نفسه يشترط فيه أن يكون ركبه الدين في غير معصية وفي غير إسراف، لا من يستدين للترف وللتنعم، ويقول: أنا غارم، ويؤخذ له من الزكاة! فلا تكون نفقته في سفه وترفه، وإنما في أمور أساسية يحتاجها، ولا يكون الدين ركبه في معصية، ولم يجد من ماله ما يوفي به هذه الديون، فالغارم يعطى أيضاً من الزكاة.
أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء، كرجل تحمل مالاً في ذمته لإصلاح ذات البين، مثلاً: قبيلتان سوف تقتتلان بسبب المال، فهو يعطي من ماله من أجل أن يعصم دماء هؤلاء المقتتلين، ففي هذه الحالة هذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً ما دام أنه غرم لإصلاح ذات البين.
نرى تساهلاً عند كثير من الناس، ويعز عليهم إخراج الزكاة نتيجة الشح الذي هو مركوز في النفس، فيحاول أن يخرج المال دائماً إلى أحد أقاربه، ويكون هذا الشخص مستديناً في أمور كمالية، مثلاً في تأثيث بيته بصورة فيها نوع من الترف، أو قريبته ستتزوج ويريد أن يساعد أهلها في الأثاث، وغالباً الأثاث يكون في كماليات، في حين مال الزكاة يحتاج إليه آخرون للقوت أو للعلاج، فينبغي عدم التساهل في هذا الأمر.(75/4)
(في سبيل الله وابن السبيل)
ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله تبارك وتعالى: ((وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فيصرف على المتطوعة في الجهاد؛ لأن المتطوعة لا مرتب لهم، فيعطى سهم (في سبيل الله) للمجاهدين المتطوعين، فيشترى لهم الكراع والسلاح.
قال الرازي: لا يوجب قوله: (في سبيل الله) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء جواز طرح الصدقات إلى جميع وجوه الخير: من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: (وفي سبيل الله) عام في الكل، وهذا من الموضوعات المهمة جداً التي تحتاج إلى بحث مستقل؛ ولكن لأن خطتنا في التفسير الاختصار بقدر المستطاع فلن نتعرض له، وكثير من الناس الآن توسعوا في هذا المصرف، حتى إنهم يقولون: يجوز صرفها في طباعة الكتب وتوزيعها في المعسكرات الإسلامية، وفي الأنشطة، ويوجد أصل لهذه الأقوال، لكن هذا المذهب مرجوح، والراجح هو مذهب الجمهور: أن سهم (في سبيل الله) للمتطوعين في الجهاد؛ لأن هذا هو الأصل عند إطلاق في سبيل الله، ولا يمنع هذا لفظ: (في سبيل الله) أن يطلق على الحج وغير ذلك من العبادات؛ لأن إعطاء الفقراء مثلاً هو في سبيل الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}.
إذاً: تخصيص هذا المصرف بقوله: (وفي سبيل الله)، يقتضي تمييزه بنوع خاص، ففي سبيل الله عند إطلاقها تنصرف إلى الجهاد.
معنى قوله تعالى: (وَاِبْنِ السَّبِيلِ)): ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله: ((وَاِبْنِ السَّبِيلِ))، فيعطى المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه إلى بلده، يعني: يمكن أن رجلاً مسافراً يكون مليونيراً في بلده، لكنه فقد أمواله وصار في حالة فقر، فهذا ابن سبيل، ويأخذ من الزكاة حتى لو كان غنياً في بلده، ولا يعطى على سبيل الاستدانة، لكن هذا حقه أن يعطى من الزكاة، وابن السبيل: هو الذي انقطعت به السبيل، ولا يملك المال الذي يعود به إلى بلده، فهذا يعطى من مال الزكاة.
((فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)) (فريضة) ناصبه مقدر، أي: فرض الله ذلك فريضة.
((وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)): (عليم) بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم، (حكيم) لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها.(75/5)
علاقة الآية بما قبلها
فإن قلت: كيف وقعت هذه الآية في تضعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ يعني: سياق الآيات السابقة كله في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ} [التوبة:58]، إلى آخره، فكيف وقعت هذه الآية: (إنما الصدقات) في سياق تضعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ ف
الجواب
أنه دل لكون مصارف الصدقات خاصة بغيرهم، وأنهم ليسوا منهم، فذكر هذا في سياق بيان مكائد المنافقين وأحوالهم، فما قبلها: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا} [التوبة:58 - 59]، ثم قال تعالى: (إنما الصدقات) أي: إن الذين يستحقون الصدقات ليسوا هؤلاء المنافقين الذين يلمزون، وإنما الذي يستحقها هم هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى.
وإذا كان اللمز موجهاً إلى قسم النبي صلى الله عليه وسلم للصدقات، إلا أنه لا ينبغي أن يوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإنه بريء من ذلك؛ لأن الله هو الذي تولى بنفسه هذا القسم، والرسول إنما هو قاسم والله هو المعطي، كما جاء في الحديث، فعلام اللمز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها شيئاً لنفسه؟! فدلت هذه الآية على أنهم ليسوا من المستحقين حسماً لأطماعهم، وإشعاراً لحرمانهم منها، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟(75/6)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)
قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61].
(ومنهم) أي: من الذين يحلفون بالله من يفعل أشد من اللمز في قسم الصدقات؛ لأنهم يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن أذية النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر المهلكة، ويكفي في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قرن أذيته بأذية رسوله وفصلها عن أذية المؤمنين في سورة الأحزاب: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57]، ثم قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:58]، ففصل بين أذيته وأذية المؤمنين، وقرن أذية الله بأذية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال هنا: (ومنهم الذين يؤذون النبي) كيف يؤذونه؟ يقولون: هو أذن، يعني: يسمع كل ما يقال له ويصدقه، يعنون أنه ليس بعيد الغور بل سريع الاغترار بكل ما يسمع! قال أبو السعود: وإنما قالوه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوه، ويصفح عنهم حلماً وكرماً، فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا.
قال اللغويون: الأذن: الرجل المستمع الذي يصدق كل ما يقال له، وصفوا به الواحد والجمع، يعني يقال: رجل أذن، ورجال أذن، وامرأة أذن، فلا يثنى ولا يجمع، وإنما سموه باسم العضو تهويلاً وتشنيعاً، فهو مجاز مرسل، فأطلق الجزء وأراد الكل، فأطلق الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته -لفرط استماعه- آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً لذلك، ونحو ذلك قول الشاعر: إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وجعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن، في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل، وليس بشيء يعتد به، وقيل: إنه على تقدير مضاف، أذن يعني: ذو أذن، قال الشهاب: وهو مذهب لرونقه.
ثم قال تبارك وتعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، أنتم تعيبونه صلى الله عليه وسلم بوصفه بأنه أذن، نعم هو أذن ولكنه أذن خير لكم، وهذه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة كما تقول: رجل صدق، مبالغة في الجود والصلاح، أو إضافته على معنى فيه: (قل أذن خير لكم) أي: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك، ودل عليه قراءة حمزة.
(ورحمة) يعني: أذن خير ورحمة، بالجر عطفاً عليه، أي: هو أذن خير لكم ورحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله.
ثم فسر كونه (أذن خير) بقوله: ((قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ))، قال القاشاني: هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته؛ لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب، ولطافة النفس ولينها.
((وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)) أي: يصدق قولهم في الخيرات، ويسمع كلامهم فيها ويقبله.
((وَرَحْمَةٌ)) أي: وهو رحمة للذين آمنوا منكم، يعطف عليهم ويرق لهم، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبر والصلة، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل إلى غير ذلك.
وقال غير القاشاني: هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم معشر المنافقين، حيث يقبل منكم الظاهر لا تصديقاً لكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى من الحكمة في الإبقاء عليكم.
والمعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها، ويستمع للمؤمنين فيسلم لهم ما يقولون ويصدقهم، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله ولا يثقون بها، ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه كما زعموا.
ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ)، بما نقل عنهم من قولهم: هو أذن، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، بما يجترئون عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا شك أن قوله تعالى: (والذين يؤذون رسول الله)، أورد ذكره بعنوان الرسالة مضافاً إلى الاسم الجليل: (والذين يؤذون رسول الله)، ولم يقل: الذين يؤذونه؛ لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته راجعة إلى جناب الله عز وجل، وتوجب كمال السخط والغضب؛ لأنها أذية لله سبحانه وتعالى.(75/7)
تفسير قول الله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم)
قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62].
الخطاب هنا للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم؛ إذ من شأن المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما قال الله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2]، فيلجئون إلى الحلف ليكون وقاية لهم لحمل المؤمنين على تصديقهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63].
(ألم يعلموا) أي: أولئك المنافقون، والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من المخالفة مع علمهم بسوء عاقبتها، وقرئ بالتاء على الالتفات: (ألم تعلموا)، فيكون الخطاب للمنافقين لزيادة التقريع والتوبيخ، أي: ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلول القوارع والإنذارات: (أنه من يحادد الله ورسوله) أي: من يخالف الله ورسوله، يقال: حاددته، أي: خالفته، والمحاددة: كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من الحد بمعنى الجهة والجانب، كما أن المشاقة من الشق بمعنى جانب؛ فإن كل واحد من المتخالفين والمتعادين في جانب وشق غير ما عليه صاحبه، فمعنى: (يحادد الله) يعني: يصير في حد غير حد أولياء الله، فيخالف أولياء الله، ويخالف شرع الله؛ فيكون هو في حد ويأخذ جانباً مغايراً لجانب أولياء الله الذين هم المؤمنون، ويفترق عنهم ويأخذ حداً وجانباً غير جانبهم.
وقيل: (المُحادة) أو (المَحادة) مأخوذة من الحديد، أي: السلاح.
(ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي: الذل والهوان الدائم.(75/8)
تفسير قوله: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة)
قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64] أي: في شأنهم؛ لأن ما نزل في حقهم نازل عليهم، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ينزل عليه الوحي، كما قال الله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمعنى: (أن تنزل عليهم) أي: أن تنزل في شأنهم وحقهم ((سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))، من الأسرار الخفية فضلاً عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق.
((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))؛ لأن ألفاظهم منها ما يخفونه ومنها ما يظهرونه، فكانوا يظهرون في مجالسهم فيما بينهم كلاماً، ويخشون أيضاً أن ينزل من القرآن في شأنهم ما يفضح سرائرهم وما استكنوه في قلوبهم من الأسرار الخفية.
(تنبئهم بما في قلوبهم) مع أنه معلوم لهم، وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على إسرارهم، لكن هل المقصود أنه يحدث لديهم علم جديد بما في قلوبهم؟ لا؛ لأنهم يعلمون ما في قلوبهم، لكن المقصود: تكشف فضائحهم وخفايا أسرارهم، ويفتضحون أمام المؤمنين، فهذه الآيات سوف تذيع ما كانوا يخفونه من الأسرار، فتنتشر بين الناس، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة، فكأنها تخبرهم بها؛ لأن الآية إذا نزلت تنتشر وتشيع في الناس، ويتحدث الناس بها ويتلونها، فكأن الآية في هذه الحالة تخبرهم بما في قلوبهم، وكأنهم يعلمونها من جديد، ومع أنهم يعرفون ما في قلوبهم لكن سوف يأتيهم عن طريق القرآن ما يشيع في الناس، ثم يسمعونها متناقلة على أفواه الرجال.
والمراد بالتنبئة: المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها، وكأنهم لا يعلمون، والقرآن سوف ينبئهم بما في قلوبهم، والمقصود بذلك المبالغة في علم الله سبحانه وتعالى بما في قلوبهم، وأن تنعي عليهم قبائحهم.
وقيل: معنى (يحذر) ليحذر؛ كأن اللام مقدر لام أمر، يعني: ليحذر المنافقون، (أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم).
وقيل: الضميران الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين أي: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، فإن قلت: المنافق كافر؛ فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجيب: بأن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم، وليس هذا منهم من باب التصديق بأن الوحي من السماء، وإنما بناءً على التجربة السابقة بأن الرسول عليه السلام يخبرهم بما يكتمونه، فخشوا تكرر هذا الذي خبروه وجربوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الأصم: إنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً.
وتعقبه القاضي: بأنه يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما.
لكن الرازي قال: هو غير بعيد أي: لا يبعد أن يكون الإنسان يعرف أن الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن الله حق، ومع ذلك يكفر حسداً وعناداً، كما وقع من اليهود وغيرهم؛ لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات، إذا القلب استقر به مرض الحسد فهذا الحسد يطغى على بصيرته حتى إنه ينازع ويعاند في الأشياء المحسوسة ويكابر! قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء، يعني قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} المقصود: أن هؤلاء المنافقين يظهرون الحذر استهزاءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: انظروا إلى هذا الذي سوف تنزل عليه سورة تنبئنا بما في قلوبنا، وكأن هذا الحذر صدر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء، ويدعي أنه عن طريق الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، فأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} يعني: أنتم تظهرون الحذر استهزاءً وتكذيباً، فاستهزئوا بالله وآياته ورسوله، أو: افعلوا الاستهزاء، وهذا الأمر ليس على ظاهره، وإنما هو أمر تهديد، كما في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]، وكما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، لا كما يزعم المنحرفون الضالون المفترون على الله، والقائلون على كتابه بغير علم: أن الإسلام يقدس حرية الرأي، حتى إن القرآن قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وساقوا الآية على أنها تبيح الكفر! وهذا إلحاد في آيات الله، فهل يتصور أن القرآن يبح الكفر؟! هل هذا أمر على سبيل الإباحة؟! هذا تهديد، فكذلك هنا: (قل استهزئوا) تهديد.
(إن الله مخرج ما تحذرون) أي: مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة، ومن مكايدكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم، كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:29 - 30]، ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة، أي: فاضحة المنافقين.(75/9)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)
قال تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65].
ولئن سألتهم عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر، (ليقولن): وهم في حالة الاعتذار: إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقاً وكفراً، بل هذا الكلام كنا نقوله بألسنتنا فقط، وكنا نخوض ونلعب، وليس له واقع حقيقي في قلوبنا، وأننا فعلاً فينا نفاق وكفر، بل (إنما كنا نخوض) ندخل هذا الكلام للترويح عن أنفسنا ونلعب.
(قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) يعني: في ترويحكم ومزاحكم لم تجدوا كلاماً آخر غير كلام الله عز وجل! {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:66].
(لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) يعني: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الاشتغال به وإدانته أصله واقع.
(لا تعتذروا) يعني: لا تتمادوا في الاعتذار؛ لأن أصل الاعتذار وقع من قبل؛ لأنهم قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب)، وهذا اعتذار، فقوله تعالى: (لا تعتذروا) يعني: لا تتمادوا في الاعتذار، وتوقفوا ولا تشتغلوا بالاعتذار الكاذب، والنهي هو عن الاشتغال بالاعتذار وإدامته؛ لأن أصل الاعتذار وقع بالفعل.
(قد كفرتم) أي: قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه، واستهزائكم بمقالكم، (بعد إيمانكم) أي: بعد إظهاركم الإيمان، انتبهوا فإن إيمانكم ليس على حقيقته، يعني: هم لم يقعوا في حالة ردة هنا فقط، فهم منافقون، لكن قوله: (إيمانكم) باعتبار أنهم كانوا يظهرون الإيمان، فمعنى (لا تعتذروا قد كفرتم) يعني: قد أظهرتم الكفر، (بعد إيمانكم) الذي كنتم تظهرونه.
(لا تعتذروا): لا تتمادوا وتشتغلوا بالاعتذار، ومواصلة الاعتذار، لماذا نفسرها بالمواصلة؟ لأن أصل الاعتذار وقع بقولهم: (إنما كنا نخوض ونلعب).
(قد كفرتم)، قد أظهرتم الكفر؛ لأنهم بالفعل كانوا كافرين في الباطن، (بعد إيمانكم)، بعد إيمانكم الذي كنتم تظهرونه.(75/10)
كفر المستهزئ بآيات الله
هذه الآية دليل واضح جداً على كفر المستهزئ بآيات الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أن هذا الاستهزاء له صور شتى خاصة في هذا الزمان، وأقبح أنواع الاستهزاء: حينما يصدر من مسلم أو من طالب علم، مثل استعمال آيات الله سبحانه وتعالى بصورة ليس فيها توقيف بل فيها شبه بهؤلاء المنافقين، ومن أمثلة ذلك: ما يفعله الفاسق المجرم حلاق السيدات حينما يعلق على المحل في الخارج قول الله: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16]، فهذا استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى، فقد حرم الله التبرج وأمر النساء بإخفاء الزينة، وأنت تعاند الله سبحانه وتعالى، وتفتح محلاً لفعل هذه الجرائم من تزيين النساء، ثم تستدل على ذلك بآيات أنزلت في الكواكب، أي استهزاء أكثر من هذا؟! أو خياط يعلق قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]، فهذا من سوء الأدب مع القرآن الكريم وآياته، فيجب تغييرهم لمثل هذه المنكرات، فهذا كفر! وبعض الناس يجلسون فيأكلون في حفل أو شيء من هذا، فيقول أحدهم: من يحكي لنا قصة سيدنا يوسف؟ ويقصد بذلك أن يشغلهم عن الأكل، فكيف تستعمل قصص القرآن في هذا العبث وهذا اللعب؟ فالصور في الحقيقة موجودة وكثيرة، وليعلم الجميع أن الاستهزاء والتنطع ليس مما يعذر فيه بالجهل، لماذا؟ لأنه لا يجهل أحد وجوب تعظيم الله، ولا وجوب تعظيم الأنبياء والملائكة والقرآن الكريم وغير ذلك، لولا لطف الله سبحانه وتعالى وحلمه لخسف بنا؛ عندما يأتي شخص مثل هذا المخلوق الوقح الذي يدعى نصر أبو زيد ويكتب كتاباً فيه سب لله، وسب للرسول عليه الصلاة والسلام، وطعن في القرآن الكريم، وتكذيب بآيات الله، وهو غاية في الإلحاد، ثم بعد ذلك نجد إخوانه من الملاحدة والمنافقين الذين نعرفهم في لحن القول من العلمانيين، أعداء الدين وأعداء الله ورسوله، يقولون: أين حرية الرأي؟ أين حرية العقيدة؟ ويدندنون حول الطعن في شرع الله سبحانه وتعالى بهذه الطريقة للدفاع عن أمثال هؤلاء الخائنين، ويكونون خصماء لهذا الخائن وهذا الزنديق المجرم، رجل يطعن في القرآن، ثم يدافع عنه! إذاً: ما الفرق بينه وبين سلمان رشدي؟! ما الفرق بين كتاب هذا الكافر سلمان رشدي: (آيات شيطانية)، وبين هذا الذي يسمي كتابه بحثاً؟! ما الأمر إلا أن بعض المغمورين يريد الشهرة، حتى ولو على طريقة إبليس، يشتهر بجرائم إبليس، وبالطعن في شرائع الله وفي الوحي! فنقول لهم: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، فلولا لطف الله سبحانه وتعالى بنا لاندكت هذه الأرض من تحت أقدامنا، أيسب دين الله سبحانه وتعالى ويطعن في القرآن ثم يسمى هذا حرية فكر؟! هم لا يقولون: حرية فكر، هم يريدون حرية الكفر، وحرية الطعن في دين الله عز وجل، فما أحلم الله سبحانه وتعالى عن عباده! إذاً: هذا موضوع من الموضوعات التي تثور بين وقت وآخر، ويثيرها أعداء الله سبحانه وتعالى من اليهود والنصارى والغربيين للطعن في الإسلام، وهم لا يجرءون أحياناً على الطعن الصريح، لكن دائماً يحاولون أن يرسخوا في عقول الناس الخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية، كما هو حاصل من حركة طالبان، الظاهر من أفعالهم أنها متوافقة مع الشرع في كثير من الأشياء، وظهرت الآن صيحة يريدون بها الطعن في الإسلام لكن بطريقة خفية، وذلك بإبراز أن الإسلام يظلم المرأة، وأمريكا منذ متى تعرف شيئاً اسمه حقوق الإنسان؟! أمريكا التي تستذل الأمم، وتسخر الشعوب، وتقهرها بقانون الغاب وبشريعة الغاب، ولا تتذكر ما تسميه بحقوق الإنسان إلا عندما تهدد مصالحها، أو لاستذلال الأمم.
أين كانت حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك؟ أين هم من المذابح الرهيبة التي لم يشهد التاريخ لها مثيل؟ أين حقوق الإنسان في العراق وفي غير ذلك من بقاع المسلمين؟ وكأننا لسنا من بني الإنسان، بل نحن طائفة أخرى من البشر، ومع ذلك يتشدقون -بهذا الشعار فقط- لتحقيق مآربهم ومصالحهم، الآن هم أشد الناس غيرة على حقوق المرأة التي يظلمها الأفغان كما يزعمون بما يشيعونه من إشاعات كاذبة، ورغم ما صدر من تصريح رسمي بتكذيب هذه الإشاعات، لكنهم مصرون على تناقلها في وكالات الأنباء، مصرون أنهم سوف يمنعون تعلم الفتيات، وسوف يمنعون المرأة من العمل، ثم يخفون الحقائق، ورغم ما صدر من تصحيح لهذه المعلومات، وأنها إشاعات كاذبة، لكن الذي نتوقعه فعلاً -وإن لم توجد الآن وسيلة صحيحة لمعرفة المعلومات- أنهم يضعون ضوابط لهذه الأشياء، من قال: إن المرأة تحرم من التعليم؟! هناك ضوابط مثل عدم وجود اختلاط، فلابد من وضع ضوابط للمجتمع.
وحتى النساء الموجودات في وظائف غير مناسبة لهن من اختلاط بالرجال، أو فيها عمل محرم، تعاهدت حكومة طالبان بأنها ستصرف مرتبات لجميع النساء اللاتي سوف يقعدن عن العمل، بسبب عدم توافق عملهن مع الشرع! ومع ذلك لا يلتفتون لذكر هذه التوضيحات، وإنما اليوم أمريكا تقول: نحن لن نعترف بحكومة طالبان، حتى ننظر موقفهم من حقوق النساء، وهكذا كل بلد يفصلون لها على قدرها.
موضوع الختان الذي يثور الكلام فيه بمناسبة أو بدون مناسبة، كلها ثغرات يخرج منها الملاحدة، كما يقول تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، هم يريدون أن يهتكوا ستر الهيبة لعلماء الإسلام، وهيبة نقد أحكام الشريعة، فباسم حقوق الإنسان، وباسم ظلم النساء يتكلمون في موضوع الختان والجرائم التي يذكرونها، مع أن الإسلام يحاربها أشد مما يحاربونها هم، لأن الختان الفرعوني المشهور والمعروف في السودان هو بلا شك جريمة وحشية، ولو كان هناك حكم إسلامي شرعي قائم لعزر الذين يمارسون هذا النوع من الختان بلا شك، وهذه قواعد بدهية.
لماذا بعض الشيوخ يركبون الموجة مع أعداء الدين، ويأتي أحدهم ويقول: أنا خبير في الحديث، وأنا من أعلم الناس بالحديث، أتحداكم أن تأتوني بحديث في هذه المسألة! وهل أنت أول رجل في الأمة يعرف الحديث؟ احترم الحديث وأطلق لحيتك، هذا الذي يزعم أنه غيور على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما سمعت بأحاديث تأمر بإعفاء اللحية، الآن فقط تدندن وتغني في الزفة مع هؤلاء المنافقين والملاحدة! إن الأشياء التي يحاربها الإسلام يحاربها بأقوى مما يحاربونها هم، مثلاً التلوث في بعض العمليات الصغيرة، هذا خطأ تطبيقي يحصل في أي عملية جراحية من جاهل لا يعرف قواعد التعقيم والجراحة، حتى لو كان جرحاً بسيطاً جداً فسيلوثه ويؤذي المريض، فالإجراءات الوقائية في أي عملية جراحية موجودة في الشريعة، كذلك أخصائية أمراض النساء هي التي تحدد، هل هذه الفتاة تختن أم لا؟ لأنه أحياناً لا تختن، وأحياناً الطب نفسه -كما في المراجع الطبية- يحتم عملية الختان في بعض الأحوال، وإن كانت نادرة.
الشاهد: حتى من الناحية الشرعية هم يتكلمون على قضية بعيدة تماماً عن الواقع، لكنها فرصة لكل من في قلبه غل وحقد على الإسلام أن ينفث ويفرز هذه السموم، كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، الأربعة عشر قرناً الماضية والمرأة تهزم، وهم الآن يريدون أن يحرروها؟ هم في الحقيقية لا يريدون تحرير المرأة، هم يخافون من مجتمع مثل مجتمع أفغانستان لو عاد إلى الشريعة الإسلامية، النساء حصل لهن صيانة داخل البيوت، ومع توفير التعليم بلا شك بوسائل متوافقة مع الشرع لا اختلاط فيها، ولا فحش ولا تبرج، فإذا كان المجتمع سيصير مجتمعاً نظيفاً، فبالتالي ستبور تجارة اليهود، ولن يستطيعوا استذلال مثل هذه الأمة بالشهوات؛ لأن معنى ذلك انتشار العفة، وضياع أقوى سلاح يستعملونه في تدمير المجتمعات الإسلامية وهو سلاح الشهوات، وستفوت عليهم أعلى وأهم مقاصدهم، فهذا هو السبب في الانزعاج، ليس خوفاً على المرأة، ولكن خوفاً من فوات المتاجرة بالمرأة، وستبور تجارتهم، ولن يسهل استذلال الشباب ولا استعبادهم كما يحصل الآن في مجتمعنا عن طريق هذه الأطباق، وعن طريق الفيديو والتلفزيون.
هذا الفساد إذلال للشعوب، وما مؤتمر السكان عنا ببعيد، فقد كانت مقاصدهم مفضوحة تماماً، وأنهم يريدون إشاعة الفواحش بكل أنواعها بلا استثناء؛ من أجل أن يستعبد الشباب بالشهوات، ولا ينصرفوا إلى بناء الأسرة، حتى أنهم وضعوا تعريفاً جديداً للأسرة: أن الأسرة قد تتكون من رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، والأصل ألا يتدخل في شئون خصائص المرأة، لماذا؟ تسهيلاً للفواحش والفتن بين الناس.
فالشاهد: أن الطعن في الدين واللمز في أحكام الشريعة أحياناً يأتي بصورة ظاهرة، كما في حالة هذا الخبيث نصر أبو زيد خذله الله سبحانه وتعالى، وجعله آية وعبرة لمن يعتبر؛ لأنه في بلاد الكفار حيث أسياده يرحبون به، ونحن نشكر للقاضي الذي اتخذ منه هذا الموقف الرائع، وهذا يدل أنه ما زال يوجد في الأمة خير، فهذا القاضي حكم بردته -والآن ينبغي أن تطلق منه امرأته-، ولا شك أن هذا موقف حميد منه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيه عن دينه خيراً.
وقد يقتصر الطعن بتغليفه في صورة الدفاع عن المرأة، وأن الإسلام هو الذي ظلم المرأة! وهل حرر المرأة أحد إلا الإسلام؟ هؤلاء الجهلة في أوروبا إلى عهد قريب جداً مائة سنة أو أقل كان القانون الإنجليزي يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقدر لها سعر، وهذا كلام موجود وموثق عنهم في القرن السابع، وفي عهد الرسول عليه السلام عقدوا مجمعاً يناقشون فيه هل المرأة إنسان لها روح أم ليس لها روح؟ المرأة الآن في الغرب تعيش عصر استعباد وذل وهوان، المرأة الأوروبية والأمريكية غاية أحلامها أن تظفر بشاب مسلم يتزوجها، هذه أمنية عندهم، والإخوة الذين خرجوا في الخارج يعرفون هذا؛ لأنها تعرف التكريم الحقيقي، التكريم لها بنتاً، وزوجة، وأماً، وأختاً، بل ما هذا الذي يتكلمون عنه إلا من باب التشويش على الإسلام عن طريق الأبواق الناعقة التي نسأل الله تعالى أن يحفظ عقول أبناء المسلمين منها! قوله تبارك وتعالى هنا: ((لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِ(75/11)
تفسير قول الله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)
قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
قوله: ((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)) أي: متشابهون في النفاق، والبعد عن الإيمان كتشابه أبعاض الشيء الواحد، والمراد: الاتحاد في الحقيقة والصفة، (فمن): اتصالية بعضهم من بعض.
قال الزمخشري: أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، (بعضهم من بعض)، يعني: ليسوا من الإيمان ولا من المؤمنين في شيء، والمراد أيضاً تكذيبهم في قولهم: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة:56]، فالله يقول هنا: ليسوا منكم، إنما (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)، وهذا تقرير أيضاً لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56]، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: (يأمرون بالمنكر) والمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنكر: كالكفر والمعاصي، وينهون عن المعروف: كالإيمان والطاعات (ويقبضون أيديهم) بخلاً بالمال والصدقات والإنفاق في سبيل الله، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود؛ لأن من يعطي ويمد يده بخلاف من يمنع.
(نسوا الله فنسيهم) أي: أغفلوا ذكره وطاعته فتركهم من رحمته وفضله، ولم يوفقهم إلى التوبة، لأن النسيان بمعنى الترك، ومعاذ الله أن يظن النسيان في حق الله سبحانه وتعالى، لكن نسيهم يعني: تركهم، فمعنى: (نسوا الله) يعني: فهم لا يذكرونه عز وجل ولا يطيعونه؛ لأن الذكر له مستلزم لإطاعته، فجعل النسيان مجازاً عن الترك، وهو كناية عن ترك الطاعة، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم.
(إن المنافقين هم الفاسقون).
والنسيان هنا لا يفسر بعدم الذكر، (نسوا الله) بمعنى: لم يذكروا الله سبحانه وتعالى ولم يطيعوه؛ لأن النسيان البشري لا يؤاخذ عليه، كما قال الله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، لكن هنا يؤاخذ عليه؛ لأنه ورد في سياق ذمهم، وذكر أسباب هذا الذم، كما قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] يعني: غفلوا عن ذكره وأعرضوا عن طاعته سبحانه وتعالى.
كما أن من أشد العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها عبداً من عباده: أن ينسيه نفسه، أو أن ينساه الله، بمعنى: أنه يخذله ولا يوفقه إلى التوبة، فيتمادى في المعاصي، والكفر، ومحاربة الإسلام وهو في غاية السعادة، وهو فرح فخور بهذا! فهذه من أكبر العقوبات؛ لأن خطورتها تكمن في أنها عقوبة خفية؛ لأن العقوبات تتنوع، فمن العقوبات ما يكون ظاهراً، فالإنسان بعد أن يرتكب ذنباً معيناً يعاقب عليه فوراً، فمن رحمة الله به أنه يفيق ويعود إلى إصلاح حاله مع الله سبحانه وتعالى، لكن أقبح العقوبات ما خفي ودق بحيث لا يحس صاحب الذنب أنه يعاقب، ويكون في غاية السعادة والفرح، ويقول: أنا أعيش حياتي بالطول وبالعرض، وهذه في حد ذاتها عقوبة من الله، حيث إن الله خذله، كان الرسول يقول في الدعاء: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا وكل الإنسان إلى نفسه طرفة عين فسدت عليه كل حياته، وإذا رفع الله عنه عنايته يخذله ويضيع، فهذا يكله الله سبحانه وتعالى لنفسه ولا يتولاه ولا يرعاه ولا يوفقه، بل يخذله ويثبطه ويلقي الغفلة على قلبه، وبالتالي إذا كان سعيداً وفرحاً ومشغولاً عن التوبة، فكيف سيتوب؟! {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8]، وهذا حال الكفار ومن نهج منهجهم وسار على طريقتهم.
((نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ))، فهو يظن أنه ملك الأرض ومن عليها، ويغتر {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، وسعيد جداً بأنه متسلط على رقاب الناس؛ وأنه مجتهد في محاربة دين الله سبحانه وتعالى، فهذا المسكين لا يدري أنه معاقب، كما قال الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فهذه عقوبة، فإذا كان الرسول عليه السلام قال: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فمفهومها: أن شركم من طال عمره وساء عمله، فإذاً طول العمر هنا يكون نقمة؛ لأنه بطول العمر يزداد في المعاصي، والخيرية هي لمن طال عمره لكن مع حسن عمله، فإذا كان طول العمر مما يجني على الإنسان المزيد من المعاصي، والإفراط، والمحاربة لدين الله، والصد عن سبيله، فهذا شؤم عليه، فإذاً هذا هو الاستدراج: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وقوله: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، الدنيا ليست النهاية، بل هي عبارة عن مرحلة، ثم يرجع كل إلى الله سبحانه وتعالى ويؤاخذ بما كسب وبما فعل، فينبغي استحضار هذا الأمر كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: (إذا رأيت الله سبحانه وتعالى يعطي العبد على معاصيه وهو مقيم على المعاصي؛ فاعلم أنه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44]).
فإذاً: لا تنسى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا رأيت شخصاً بهذه الحالة استحضر أن هذه هي عين العقوبة من الله، فمن رأيته يفرح ويفخر لأنه يحارب الإسلام بكل صدق وإخلاص، ويريد أن يطفئ نور الله، ويستأصل شأفة الإسلام، ويصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويخرب المساجد التي أمر الله بتعميرها، ويفرح بذلك؛ فنبشر هؤلاء بقوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45].
فقوله عز وجل هنا: (نسوا الله فنسيهم) يعني: نسوا الله فلم يذكروه ولم يطيعوه، فنسيهم الله سبحانه وتعالى بأن منعهم لطفه وفضله وخذلهم، ولم يوفقهم إلى الإيمان.
(إن المنافقين هم الفاسقون) أي: الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد في الكفر، والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت؛ لأن المنافقين وصفوا بالكسل بقوله: {كُسَالَى} [التوبة:54]؛ فالفسق أشد من وصف الكسل.(75/12)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم)
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} [التوبة:68] يعني: يكفيهم النار عقاباً وجزاءً، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]، لا ينقطع، وأوصي نفسي وإياكم بالتأمل كثيراً إذا ذكرت كلمة: الخلود في القرآن الكريم، ولو أعمل الفكر فيها فسوف تتغير كثير من أولوياتك في الحياة، وقيمك ونظرتك للأشياء وإلى الناس وإلى كل شيء، الخلود يعني: العذاب الدائم في جهنم، وليس موازياً حتى لعمر الدنيا كلها من حين خلقت إلى أن تقوم الساعة، وهذا عذاب من أشد العذاب كما تعرفون من النصوص، وفي نفس الوقت لا أمل على الإطلاق في الموت، كل أمل هؤلاء الكفار أن يموتوا: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، تأملوا كلمة خلود، وأعملوا عقولكم فيها كثيراً، فحينئذ تعطي الدنيا حجمها؛ لأن الإنسان لو عاش طول عمره يعاني من البلاء والمصائب، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ففي النهاية كما قال النبي عليه السلام: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، سجن ينطلق فيه لحظة الإفراج ولحظة خروج روحه إلى السعادة الأبدية، لكنها جنة الكافر، فإذا خرج منها لاقته الأغلال والأصفاد في نار جهنم خالدين فيها، وكما قال تعالى هنا: (ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) أي: لا ينقطع.(75/13)
تفسير قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة)
قوله تعالى: ((كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) يعني: أنتم مثل الذين من قبلكم، أو أنتم فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم ممن أنعم الله عليهم النعم ثم بعد ذلك عذبوا، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة:69]، في أنفسهم، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا} [التوبة:69] أي: تفيدهم الأموال مزيد قوة ومنافع جمة.
{وَأَوْلادًا} [التوبة:69] أي: تفيدهم مزيد قوة لا تحصل بالمال ومنافع أخر، {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة:69] أي: انتفعوا بنصيبهم، ثم أعطاكم -أيها المنافقون- أقل مما أعطاهم {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] أي: دخلتم في الباطل كالخوض الذي خاضوه.
{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [التوبة:69] أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، أما في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك.
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69]، الذين خسروا الدارين.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! أهل الكتاب؟ قال: فمن؟!)، وفي رواية قال أبو هريرة: (اقرءوا إن شئتم: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة:69]) إلى آخر هذه الآية الكريمة، وقال أبو هريرة: الخلاق: الدين.
قالوا: (يا رسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟!).(75/14)
تفسير قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم)
ثم وعظ تعالى المنافقين فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [التوبة:70] (ألم يأتهم) بطريق التواتر، وبالخبر المتواتر، حديث (الذين من قبلهم)، وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم، لكفرهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، فأهلكهم الله عز وجل بسبب الكفر.
قوم نوح أنعم الله عليهم بنعم منها: تطويل أعمارهم، ثم أهلكوا بالطوفان.
وعاد قوم هود عليه السلام أنعم الله عليهم بنعم منها مزيد قوتهم، ثم أهلكوا بالريح.
وثمود قوم صالح أنعم الله عليهم بنعم منها القصور، ثم أهلكوا بالرجفة.
وقوم إبراهيم أهلكوا بالهدم.
قال المهايمي: أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك، ثم أهلك -أي: قوم إبراهيم عليه السلام- ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه.
وأصحاب مدين قوم شعيب أنعم الله عليهم بنعم منها التجارة، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم.
والمؤتفكات وهي: قرى قوم لوط، انكفأت بهم، أي: انقلبت فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجين، كما قلبوا نظام الفطرة.
ثم قال تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ} [التوبة:70]، الإنسان حينما يتذكر مصائر هؤلاء الكفار الذين بدلوا نعم الله سبحانه وتعالى كفراً، فإن العبر لا تنقطع، نحن لو استعرضنا التاريخ كله لرأينا فعلاً أيام الله سبحانه وتعالى في الظالمين والجبابرة الذين كانوا أشد قوة من الحاليين، والإنسان لو حاول أن يحصد ذلك لوجد عبراً شتى، ومن هؤلاء الجبابرة الملك فاروق، وعبد الناصر، وشوشتكوا، ولنا الآن آية من آيات الله في هذا الملحد يلسن الذي يرقد الآن لا حس ولا حركة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل بإهلاكه، فبعدما فعل المذابح للمسلمين في الشيشان وفي غيرها من الجمهوريات الإسلامية، وحارب دين الله عز وجل في أفغانستان من قبل، انظر كيف أذله الله سبحانه وتعالى! ها هو الآن هذا الطاغوت الحقير يرقد الآن بلا فائدة منه، ولا يستطيع أن يمارس أي شيء سوى الكلام بين وقت وآخر! وريجن الذي كان في قمة غروره، ابتلاه الله سبحانه وتعالى بالمرض المعروف بالزهيمر، وفقد الذاكرة تماماً! هذه من آيات الله، وهذا الجبار الذي كان يمتلئ غروراً، لما عوتب في حملته على لبنان في وقت من الأوقات قال: لا تنسوا أننا ما زلنا صليبيين! فها هو الآن ما زال حياً، لكن نسأل الله العافية من مثل هذه الحياة.
هذا فعل الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الطواغيت، يذلهم بعد أن عتوا في الأرض عتواً كبيراً، فعلى مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمم؛ يبدل الله سبحانه وتعالى من حال إلى حال، ودوام الحال من المحال.
يقول تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ}، هذا استئناف لبيان نبئهم، أي: جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، فالفاء هنا للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، يعني: أتتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم، فأهلكهم الله تعالى، فما ظلمهم بذلك، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70] يعني: بالكفر والتكذيب، وترك شكره تعالى، وصرفهم نعمه إلى غير ما أعطاهم إياها لأجله؛ فاستحقوا ذلك العذاب.(75/15)
تفسير قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض)
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
هذا في مقابلة قوله في المنافقين: ((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ))، قال هنا في المؤمنين: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ))، فيقيمون الصلاة في مقابلة: ((نَسُوا اللَّهَ))؛ كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، فالصلاة من أشرف ذكر الله سبحانه وتعالى، فهم لا يزالون مستمرين في ذكر الله عز وجل، فهذا في مقابلة قوله: (نسوا الله) في ذكر صفات المنافقين.
(ويؤتون الزكاة) في مقابلة قوله في المنافقين: (ويقبضون أيديهم).
(ويطيعون الله ورسوله) أي: في كل أمر ونهي، وهو في مقابلة المنافقين؛ لكمال صدقهم وعدم خروجهم عن الطاعة.
(أُوْلَئِكَ) أي: هؤلاء المؤمنون المتصفون بتلك الصفات (سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).(75/16)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:72] أي: من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن.
((خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً)) أي: منازل حسنة تستطيبها النفوس، أو يطيب فيها العيش.
((فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)) (عدن): يعني إقامة وثبات، ويقال: عدن علم لموضع معين في الجنة لآثار فيه.
ولما كان (ومساكن) معطوف على جنات اختلفوا: هل العطف هنا يقتضي تغاير الذات أم أن الذات واحدة والصفات متغايرة؟ القول الأول: أن المتعاطفين إما أن يتغايرا للذات، يعني: معناها أن المؤمنين وعدوا بشيئين: الشيء الأول: جنات بمعنى البساتين.
الشيء الثاني: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)، فهذا غير هذا، والجنات هي البساتين، والمساكن الطيبة: مساكن في الجنة، فلكل أحد بساتين ومساكن.
أو الجنات المقصود بها: غير عدن، وهي لعامة المؤمنين، يعني: جنات تجري من تحتها الأنهار هذه لعامة المؤمنين، ومساكن طيبة في جنات عدن هذه جنات خاصة بطبقة من المؤمنين، وعدن للنبيين.
إذاً: الجنات للمؤمنين عموماً، وعدن خاصة بالنبيين والشهداء والصديقين، هذا على القول بأن الجنات متغايرة من حيث الذات.
والاحتمال الآخر: أن يتحدا ذاتاً ويتغايرا صفة، فينزل التغير الثاني منزلة الأول ويعطف عليه، فكل منهما عام ولكن الأول باعتبار اشتماله على الأنهار والبساتين، يعني: جنات تجري من تحتها الأنهار، ونفس هذه الجنات فيها بجانب البساتين مساكن طيبة، باعتبار الدور والمنازل.
يقول القاضي: فكأنه وصف الموعود أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها -التي هي الجنات الخضراء البساتين- لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين.
(في جنات عدن): دار إقامة، يعني هذا النعيم كله مع الإقامة وعدم التحول، كالاستقرار فيها والخلود لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير.
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك، وهو قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعني: أكبر من كل هذا النعيم؛ ولأن النعيم الروحي الذي يفوز به أهل الجنة أعظم بكثير بلا شك من النعيم الحسي الذي يستمتعون به قال: (ورضوان من الله أكبر)، أي: من كل ما مضى.
وأيضاً كذلك رؤية الله سبحانه وتعالى إذا كشفت لهم الحجب، فيرون الله سبحانه وتعالى، ويتلاهون وينشغلون عن كل ما عدا ذلك من النعيم في الجنة، فهذا فيه رد على ما يشغب به الملاحدة من المستشرقين أو اليهود والنصارى حينما يطعنون في الإسلام بأنه يغري المؤمنين بالمتاع الحسي، وهذا من ظلمة عقولهم وفساد قلوبهم؛ لأن الإنسان جسد وروح، وليس جسداً أو روحاً فقط، الإنسان عبارة عن جسد وروح، والحياة في هذه الدنيا متعلقة بالجسد والروح، ثم حياة القبر متعلقة بالروح أكثر من الجسد، ثم حينما ترد الأرواح إلى أجسادها في الآخرة، ينعم الروح وينعم أيضاً الجسد، فالنعيم الحسي للجسد والنعيم الروحي للروح، ونعيم الروح أفضل وأكمل.
أما هم فغاية ما عندهم في اليوم الآخر أن يقول لك: فلان دخل الملكوت، ما هذا الملكوت؟ وما صفاته؟ وما تفاصيل هذا النعيم؟ هذا مما لا خبر لديهم به، بل يعيبون المسلمين ويعيبون القرآن الكريم لذكر النعيم الحسي، وهذا من ظلمة قلوبهم كما ذكرنا.
(وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)؛ لأن على هذا الرضوان يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة، ولعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه؛ لأنه متحقق في ضمن كل موعود؛ ولأنه مستمر في الدارين.
قد يرد
السؤال
كيف أن رضوان الله سبحانه وتعالى أكبر من هذا النعيم في الجنة، ومع ذلك لم ينظم هنا في سلك وعده تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ))، ثم استأنف فقال: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، ولم يقل: ورضواناً، فلم يدخل في الوعد الرضوان، وإنما هذه فصلت عما قبلها، (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، يعني: ولهم رضوان من الله أكبر؟ ف
الجواب
لأن هذا الرضوان متحقق في ظل كل موعود؛ لأن دخولهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ودخولهم مساكن طيبة في جنات عدن خالدين فيها، كل هذا يستلزم رضا الله عنهم؛ لأنه لو لم يرض عنهم لما أسكنهم هذه الجنات، فالرضوان متحقق في كلا الوعدين السابقين.
ثم رضوان الله سبحانه وتعالى هل يوجد فقط في الآخرة أم أنه مستمر في الدارين؟ إن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عباده المؤمنين في الدنيا ويرضى عنهم في الآخرة، فمن ثم لم ينظم الرضوان في سلك الوعد الذي صدرت به الآية الكريمة.
وإيثار رضوان الله على ما ذكر بقوله: (ورضوان من الله أكبر) إشارة إلى إفادة أن قدراً يسيراً منه خير من ذلك، انظر إلى التنكير: (رضوان من الله) يعني: لو أن الإنسان حظي بقدر قليل من رضوان الله؛ لكان هذا القدر أعظم من الجنات، وأعظم من المساكن الطيبة في جنات عدن، وهذا فيه إشارة إلى عظم رضوان الله سبحانه وتعالى.
وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
اللهم اجعلنا منهم! وروى المحاملي والبزار عن جابر رفعه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل: هل تشتهون شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا! ما هو خير مما أعطيتنا؟! قال: رضواني أكبر، ذلك هو الفوز العظيم) أي: لا ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا، فالفوز العظيم هو الفوز بالآخرة، وليس ما يعده أهل الدنيا من الفوز بالمال أو بالجاه أو بأعراض الدنيا.(75/17)
تفسير سورة التوبة [73 - 80](76/1)
تفسير قول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)، قيل: مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف، يعني: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، مع أن ظاهر الآية يقتضي مقاتلتهم جميعاً بالسيف، مع أن المنافقين غير مظهرين للكفر، ونحن مأمورون بالظاهر، فبما أنهم لا يظهرون الكفر وإن كانوا كفاراً في الحقيقة، بل شر من الكفار؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولكن مع أنهم يظهرون الإسلام فقد فسر الآية السلف بغير ظاهر الآية؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام، وأحكام الدنيا تجري على من يظهر الإسلام من الناس، فمن ثم فرق السلف في تفسير هذه الآية بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين، وقالوا: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بالحجة واللسان، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] يعني: بالقرآن الكريم وبحججه؛ وذلك بناءً على أن معنى الجهاد هو: بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء كان هذا الدفع بالقتال أو بغيره، وهو إن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز، فجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج، وإزالة الشبه ونحوه، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجبها، كما روي عن الحسن في هذه الآية.
إذاً: المنافقون يكون جهادهم بإقامة الحجج عليهم، ويتنوع هذا الجهاد إما بإقامة الحجة، وبإظهارها عليهم، أو بترك الرفق بهم، أو بالانتهار، أو بزجرهم ونهرهم، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجب هذه الحدود، وهذا روي عن الحسن في تفسير الآية.
ورد على هذا التفسير، وهو: أن جاهد الكفار والمنافقين بإقامة الحدود: لا يلزم أن الإنسان إذا كان يفعل شيئاً يستوجب الحد أن يكون منافقاً، يعني لا تختص إقامة الحدود بالمنافقين لكن من عصاة المسلمين أيضاً من يأتي بموجبات إقامة الحد.
فأجاب الفريق الذي قال بأن تفسير الآية هو إقامة الحدود عليهم بأن الحدود في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت على المنافقين.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى: هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كاملاً لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، فالنفاق الأكبر يتعلق بكتمان الكفر في القلب، ولا يتعلق بالأفعال أو المعاصي التي يظهرها الإنسان، وأخبار المحدودين -الذين أقيم عليهم الحد- في زمن البعثة يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
فإن قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين ظهر أصحابه فلم يقتلهم مع أنهم شر من الكفار؟ ف
الجواب
أنه إنما أمر بقتال من أظهر بلسانه كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا اطلع على كفره أنكر وحلف، وقال: إني مسلم؛ فإنه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره.
فالقتال هو قتال الكافر الذي يظهر كلمة الكفر، لكن إذا وجد شخص اطلع على أنه قد قال كلمة الكفر، ثم عند المواجهة ينكل عن ذلك، ويقول: ما فعلت، وما قلت، ويحلف الأيمان المغلظة كما هو شأن المنافقين، وأنكر أن يقع منه كفر، وقال: إني مسلم؛ فيعمل حينها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقبل ظاهر أمره ولا يبحث عن سره، كما في الحديث: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق عن بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن كثير: روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين، ودليله قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] إلى آخره.
وسيف للكفار أهل كتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، إلى آخره.
وسيف للمنافقين وهو في هذه الآية: ((جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)).
وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]).
وهذا الكلام إذا صح نسبته إلى علي رضي الله تعالى عنه فهو يقتضي أن يجاهد المنافقون بالسيوف إذا جاهروا بالنفاق، وهذا هو اختيار الإمام شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى.
وفي الإكليل: استدل بالآيات من قال: بقتل المنافقين إذا أظهروا النفاق.
قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) يعني: شدد على كلا الفريقين بالقول والفعل.
(ومأواهم جهنم) في الآخرة (وبئس المصير).
قال بعض المفسرين في قوله: (واغلظ عليهم): إن الضمير (هم) يعود إلى الفريقين: الكفار والمنافقين.
وقال مقاتل: بل يعود فقط إلى المنافقين.
وقال ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: (واغلظ عليهم): يريد شدة الانتهار والزجر لهم، والنظر بالبغض والمقت.
وقال ابن مسعود: لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر.
قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح.
إذاً: هذه الآية فيها: الزجر، والشدة، والغلظة على هؤلاء المنافقين بعد جهادهم بالحجة وبالبيان، بخلاف ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في حق المؤمنين، فقال في حقهم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وقال أيضاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وقال الزمخشري: (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف، (والمنافقين) باللسان، (واغلظ عليهم) في الجهادين جميعاً على الكفار إذا كنت تجاهدهم بالسيف، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فهذا في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم.
ثم قال الزمخشري: وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه؛ يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن.
يعني: كل من وقف منه على فساد في العقيدة فله من الغلظة والشدة والزجر ما يليق بفساده، إن كان كافراً فبما يليق بكفره، أو مبتدعاً فبما يليق ببدعته، ولا شك أن الزمخشري نفسه ممن نال حظاً من هذا الزجر والشدة للفساد المعروف في عقيدته، فهو معتزلي، وكم تطاول على أهل السنة والجماعة، فانتصف منه الناصر في الكشاف في الرد عليه كما هو معلوم.
وعن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهجهم بالشعر -المؤمن يجاهد بنفسه وماله- والذي نفس محمد بيده! كأنما تنضحهم بالنبل)، وهذا نوع من الجهاد؛ بالقول أو بالكلام أو باللسان، إما بإقامة الحجة، وإما بالغلظة على المنافقين بالشعر أو غير ذلك من أساليب البيان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حسان بن ثابت في حق المشركين: (اهجهم وروح القدس معك) يعني: يؤيدك ويثبتك، فهذا أيضاً بيان بأن من أنواع الجهاد الغلظة على المشركين، سواءً بالهجاء، أو بإقامة الحجة، أو بالإعراض عنهم، أو بالاكفهرار في وجوههم؛ فكل من ظهر منه نفاق ينبغي أن يعامل بهذه الطريقة.
ونلاحظ أحياناً حينما يقوم بعض أهل العلم بالرد على ملاحدة هذا الزمان وزنادقته ومنافقيه من الصحفيين أو بعض الشيوخ الضالين، كهذا الضال المضل الذي يطعن في الصحابة ويكفرهم وهو أحد الشيوخ الضالين؛ فتحت له (روز اليوسف) أبوابها، ونشرت له حواراً في هذه الأفكار الضالة المضلة في التطاول على أبي بكر وعمر، وهي نفس أفكار الشيعة من إباحة نكاح المتعة وغير ذلك من الضلال المبين، ومع ذلك نجد بعض الناس كما فعلوا من قبل أيضاً مع نجيب محفوظ وغيره؛ نجده يقول: أستاذي الكبير نجيب محفوظ قال: كذا وكذا! وهذا لا ينبغي، ويتكلمون بطريقة فيها لين في غير موضع اللين، وتعظيم لإنسان كافر أو فاسق أو مبتدع أو منافق أو قل ما شئت، فمثل هذا يتنافى مع هذا الأدب الذي علمناه القرآن مع المنافقين: ((وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))، فلا يقال في حق أمثال هؤلاء الصحفيين، أو الذين يسمونهم مفكرين: الأستاذ الكبير، ولا يذكر بنوع من الاحترام والتوقير، ونحو ذلك من الكلام المهذب الذي لا يليق بهؤلاء المعتدين المتطاولين على دين الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا نقع في هذا الفخ، وألا نظهر أي نوع من الاحترام أو التقدير لمن شاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(76/2)
تفسير قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا)
قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:74].
(يحلفون بالله ما قالوا) يعني: يحلفون بالله ما قالوا فيك شيئاً يسوءك، وينكرون الكلام الذي قالوه.
(ولقد قالوا كلمة الكفر) اختلف العلماء في المقصود بكلمة الكفر: قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله سبحانه وتعالى من الفتح.
وقيل: هي قول الجلاس بن سويد -كما سيأتي-: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير.
وقيل: هي قول عبد الله بن أبي: يا بني الأوس والخزرج! ألا تنصرون أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك.
وقال أيضاً: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، فهذه هي كلمة الكفر.
وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام.
(وكفروا) يعني: أظهروا الكفر.
(بعد إسلامهم) يعني: بعد أن أظهروا الإسلام، وهم لم يكونوا مسلمين، فهم كفار في الحقيقة، لكن أظهروا الكفر بعد أن كانوا يظهرون الإسلام.
وقوله تعالى: (وكفروا بعد إسلامهم) متعلق بالظاهر في الحالين فقط، فهم قد أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:3]، وفي هذا دليل قاطع على أن المنافق كافر.(76/3)
سبب نزول قول: (يحلفون بالله ما قالوا)
قال قتادة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، وذلك لما اقتتل رجلان جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري -تشاجرا والجهني غلب الأنصاري وعلا عليه- فقال عبد الله بن أبي رأس المنافقين للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، وقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فسعى بها رجل من المسلمين -هو زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله فيه هذه الآية.
إذاً: هذا دليل من قال: إن هذا هو المراد بكلمة الكفر في قوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر).
وروى الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت وكان ممن تخلف من المنافقين، لما سمع ما ينزل فيهم قال: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد وكان في حجره -لأنه كان ابن امرأته- فقال: والله يا جلاس! إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاءً، وأعزهم علي أن يصله شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولأحداهما أهون علي من الأخرى -يعني: هذا مما لا يسكت عليه- فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فلما بلغ ذلك الجلاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال هذا، فأنزل الله عز وجل فيه: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ))، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وتلا عليه هذه الآية وسمع الجلاس قوله تعالى: ((فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) إلى آخره، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع.
إذاً هناك قول: بأنها نزلت في حق عبد الله بن أبي، وقول: بأنها نزلت في حق الجلاس بن سويد بن الصامت، وهناك قول ثالث ولعله أرجح وأصح، وهو: أن هذا هو قول جميع المنافقين.
إذاً: هذه الآية ليست في شخص بعينه وإنما تشمل هذين الرجلين، وتشمل غيرهما من المنافقين، وهذا هو قول الحسن البصري.
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وهو الصحيح؛ لعموم القول، ووجود المعنى فيه وفيهم.
لو تأملتم الآية: (يحلفون بالله ما قالوا) جمع، (ولقد قالوا) جمع (كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا)، وهكذا تلاحظون صيغ الجمع كثيرة في هذه الآية، قال ابن العربي: لعموم القول ووجود المعنى في هؤلاء وفي غيرهم ممن فعل مثل فعلهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي عليه الصلاة والسلام.
(ولقد قالوا كلمة الكفر)، كل هذه الأفعال إنما يجمعها شيء واحد، وهو: أنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال القاضي: يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع -يعني: أن يكون فقط المقصود بالآية وقائع معينة سواء واقعة عبد الله بن أبي أو غيره- وذلك لأن قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) إلى آخره، كلها صيغ الجموع، وحمل صيغ الجمع على الواحد خلاف الأصل، فإن قيل: قد يكون نزلت في واحد، لكن سمع هذا الكلام جملة من المنافقين فأقروه، فمن ثم نزلت، فيقال: إن هذا أيضاً خلاف الأصل، فهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مفسرة لهم مما هو من هذا القبيل، وإن لم يمكن تعيين شيء منها في هذه الآية الكريمة.(76/4)
سبب نزول قوله: (وهموا بما لم ينالوا)
قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) هموا أن يفعلوا شيئاً لم يمكنهم الله منه، قال ابن كثير: قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد؛ وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ففيهم نزلت هذه الآية.
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد قال: أخبرني الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد).
والعقبة هي ارتفاع كبير في الجبل، ويكون على حافة الهاوية، فنادى المنادي أن الرسول عليه السلام مشى الآن في العقبة فلا يقرب أحد منها؛ لأنها ستكون ضيقة، وقد يؤدي الازدحام إلى خطر السقوط.
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود دابته من الأمام حذيفة ويسوق به من الخلف عمار؛ إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله تعالى عنه يضرب وجوه الرواحل، ليطردهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات: أن حذيفة قال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لـ حذيفة: قد قد، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار فقال: يا عمار! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: أرادوا أن ينفروا -يعني الناقة- برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه!) فساب عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، قال: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
هذا ما قيل في قوله تعالى: ((وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)) أي: بما لم يمكنهم تحقيقه من الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(ما نقموا) يعني: ما أنكروا وما عابوا، (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) يعني: أعطاهم الله ورسوله من فضله، فعملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم وتفضله عليهم النقمة، ولا ذنب له إلا تفضله صلى الله عليه وسلم عليهم! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا في مثل قوله تبارك وتعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] أي: تجعلون شكر النعم والرزق الذي ساقه الله إليكم أنكم تكذبون رسل الله، وتكفرون بالله، فهل هذا الكفر والجحود يصلح في مقابلة إحسان الله إليكم؟! {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهذا على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك! فهذا ليس في الحقيقة ذنباً، ومنه قولهم في المثل المشهور: (اتق شر من أحسنت إليه)، وقد قيل للبجلي: أتجد في كتاب الله تعالى: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم.
((وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)).
ومن هذا الباب أيضاً قول ابن قيس الرقيات: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا تصلح إلا عليهم العرب فالشاهد هنا في قوله: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم، أي: قبيلة أمية يحلمون ويصطبرون إن غضبوا، فهل هذا ينقم؟ هذا لا ينقم وهذا لا ينكر.
ومنه أيضاً قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يمدح قومه ويقول: لا شك أن فلول السيف كناية عن الشجاعة؛ لأن السيف يكون فيه خدش من شدة القتال والبأس، فهذا في الحقيقة ليس ذماً، وهذه مبالغة وتوكيد للمدح بما يشبه الذم، ظاهره الذم لكن يراد به المدح.
ويقال: نقم من فلان الإحسان كعلم، إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة.(76/5)
دعوة الله المنافقين إلى التوبة
دعا الله تعالى المنافقين إلى التوبة فقال عز وجل: ((فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)).
(فإن يتوبوا) أي: من الكفر والنفاق، وبعض المفسرين ذهب إلى أن المعنى: إن يأتوا طوعاً تائبين، والمقصود بهم أن هذا في حق الزنادقة، فالزنديق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر.
(فإن يتوبوا) إن أتوا بعدما فعلوه تائبين بأنفسهم فتقبل توبتهم، أما إن ادعوا -الزنادقة- التوبة بعد القدرة عليهم فلا تقبل، وللعلماء خلاف في هذه المسألة، فمن ثم فسروا قوله تعالى: (فإن يتوبوا) يعني: إن يأتوا تائبين طوعاً لأنفسهم، بخلاف ما إذا تابوا بعدما قدر عليهم.
(فإن يتوبوا) من الكفر النفاق، (يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) يعني: بالقتل والهم والغم، وقيل: بالعذاب الذي يلقونه عند معاينة الملائكة والاحتضار، وقيل: عذاب القبر، (والآخرة) أي: بالنار وغيرها.
(وما لهم في الأرض من ولي) يشفع لهم في دفع العذاب، (ولا نصير) أي: معين فيدفعه عنهم بقوته، فلا يستطيع أن يشفع لهم، ولا هو نفسه يستطيع أن يدفع عنهم العذاب الذي يستحقونه.
وقيل: المراد بقوله تعالى: (فإن يتوبوا يكن خيراً لهم) استعطاف قلوبهم بعدما صدرت عنهم الجناية العظيمة، وليس الأمر على ظاهره، ولا يؤخذ من ظاهر هذه الآية أنهم تابوا بالفعل، وليس في ظاهرها إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، لكن لا يستدل بالآية على أنهم تابوا بالفعل.(76/6)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن)
ثم بين تبارك وتعالى بعض من نقم بإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله، وذكر أنموذجاً من هؤلاء المنافقين ممن أغناهم الله تبارك وتعالى بما آتاهم من فضله، ثم نكث في يمينه وتولى عن التوبة، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75].
(ومنهم من عاهد الله) أي: حلف به، (لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) يعني: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في وجوه الخير.
(ولنكونن من الصالحين) يعني: نعطي كل ذي حق حقه.
{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:76].
(فلما آتاهم من فضله) ما طلبوا من المال (بخلوا به) ولم يفوا بما عاهدوا، (وتولوا) من العهد وهم معرضون عن عهدهم.(76/7)
تفسير قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم)
قال الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77].
(فأعقبهم نفاقاً) إعرابها: مفعول ثاني، (فأعقبهم) أي: فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً، وهناك تفسير آخر وإن كان مرجوحاً، فبعض المفسرين قالوا: فأعقبهم البخل نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، (إلى يوم يلقونه) قالوا: يلقون بخلهم، على أن الهاء تعود إلى البخل، يعني: يلقون جزاء البخل.
والراجح أن الهاء تعود إلى الله سبحانه وتعالى أي: فأعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم إلى يوم لقاء الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
(بما أخلفوا الله ما وعدوه) من التصدق والصلاح، (وبما كانوا يكذبون) في العاقبة.
لماذا قلنا: إن هذا تفسير غريب مرجوح؟ لأن البخل قد يحصل من كثير من الفساق، ولا يستلزم البخل وقوع النفاق في القلب، إذ قد يبخل الإنسان ولا يستلزم ذلك أن يعاقب بالنفاق في قلبه، ولا يحصل معه نفاق.
كذلك قوله تبارك وتعالى: (إلى يوم يلقونه) الظاهر أنها في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي أعقبهم نفاقاً.
قوله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) هذا توبيخ، ومعنى (وأن الله علام الغيوب) يعني: أنه سوف يجزيهم على ما فعلوا.
(سرهم) أي: ما أسروه من النفاق والعزم على عدم إحداث ما وعدوه، (ونجواهم) أي: ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، (وأن الله علام الغيوب) أي: ما غاب عن العباد.(76/8)
عدم صحة قصة ثعلبة بن حاطب
هنا قصة مشهورة ينسبونها إلى ثعلبة بن حاطب، وهي من القصص التي يعجب بها القصاص ويكثرون تردادها، وهي ما ينسب إلى ثعلبة بن حاطب أنه قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، قال: (ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه)، قال: والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً؛ فنمت حتى ضاقت أزقة المدينة من كثرتها فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها -يعني: في البداية كان يشهد صلاة الجماعة، ثم بعدما يصلي يخرج إلى الغنم- ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها فكان يشهد الجمعة فقط، ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات، ثم أنزل الله على رسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فاستعمل على الصدقات رجلين وكتب لهما كتاباً، فأتيا ثعلبة فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم فمرا بي، ففعلا فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! فانطلقا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، وفيه: أنه جاء فيما بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، فقال له: (إن الله منعني أن أقبل منك)، فجعل التراب على رأسه، فقال: (هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني)، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم إلى عمر وعثمان، ثم هلك في أيام عثمان.
وهذه القصة ليست صحيحة بأي حال من الأحوال، بل سندها ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
قال الشهاب: مجيء ثعلبة وحثوه التراب ليس للتوبة من نفاقه، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين.
وهذا التعليل مبني على صحة هذه القصة، لكن هناك نقاش تفصيلي في عدم صحة هذه القصة، وهناك رسالة مستقلة صنفها بعض طلبة العلم في إبطال هذا الحديث، فينصح بمراجعتها، ومما يبطل به هذه القصة: أنها -تزعم- أنها نزلت في رجل بدري، والرسول عليه السلام قال في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ومعنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى علم من أهل بدر أنهم كلما أحدث الواحد منهم ذنباً أحدث توبة، حتى يختم له بالتوبة ويغفر الله سبحانه وتعالى له.
وقيل: إن هذا الصحابي قد استشهد في غزوة أحد، فهذه القصة لا تصح بحال، وإن كان ذلك سيحزن كثير من القصاصين الذين يولعون بذكرها!(76/9)
ضابط النفاق المراد في الآيات
يؤخذ من هذه الآية: أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان.
وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، لقوله: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه).
واستدل بها آخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه، كما فعل بمن نزلت الآية فيه، وهذا يحتاج إلى دليل صحيح، والدليل ليس بصحيح كما ذكرنا.
وقال الرازي: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد؛ يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
ومذهب الحسن البصري في هذه الآية: أن هذا يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية الكريمة، فكان الحسن البصري يرى أن من نقض العهد وأخلف الوعد يصير بذلك منافقاً نفاقاً أكبر، وتمسك بهذه الآية، وتمسك أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
لكن رد عليه بعض العلماء مثل الرازي في تفسيره.
وقوله تعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) هذا دليل على أن الناس الذين نزلت فيهم هذه الآية يموتون على النفاق، والهاء تعود للفظ الجلالة، والمراد باليوم: يوم القيامة، وله نظائر كثيرة في التنزيل.(76/10)
رؤية الله يوم القيامة
اللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان مناسباً لحالهم، ولا يفسر هنا أنهم يرون الله سبحانه وتعالى، بل اللقاء هنا بحسب من ينسب إليه، فإذا كان اللقاء في حق المؤمنين فله تفسير يليق بالمؤمنين، وإن كان في حق الكفار فهو بما يليق بحالهم.
فاللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاءً مناسباً لحالهم من وقوفهم للحساب عنده تبارك وتعالى؛ لأنهم ليسوا أهلاً لرؤية الله تقدس اسمه، وإذا أضيف إلى المؤمنين كما في قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فهذه لقيا مناسبة لمقامهم، وفيها رؤيته تبارك وتعالى، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين، مما يتنزل مثل ذلك عليها.
فمن وقف في بعض الآيات على لفظة واحدة، وأخذ يستنبط منها، ولم يراع ما استعملت فيه وأطلقت عليه، كان ذلك جموداً وتعصباً لا أخذاً بيد الحق، والمقصود بهذا الرد على الجبائي المعتزلي، وهو من رءوس المعتزلة، فـ الجبائي أفاض وأطال في تفسير قوله تبارك وتعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) وقال: إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تبارك وتعالى، وللإجماع على أن الكفار لا يرونه تبارك وتعالى، فكلمة اللقاء في حد ذاتها لا تفيد الرؤية، وهذا صحيح في حق الكفار، لكنه أراد تعميمها ليستدل بها على نفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة! فقال: كما أن لفظ اللقاء لا يفيد رؤية الله في حق الكفار، فهو لا يفيد أيضاً في قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فـ الرازي ناقشه بأن قال: صحيح هذه الآية لا تفيد رؤية الله في الآخرة، لكن رؤية الله في الآخرة بالنسبة للمؤمنين ثابتة من أدلة أخرى في القرآن والسنة.
أما الجواب الذي ذكره القاسمي فهو أقوى وأمتن، فإنه قال: إن اللقاء يفسر في حق كل فريق بما يناسب حاله؛ ففي حق الكافر: يلقى الله لكنه يحجب عن الله؛ لأنه لا يستحق أن يرى الله، وليس أهلاً لذلك في الآخرة، أما في حق المؤمنين فلقاء الله يفسر في ضوء النصوص الأخرى التي أثبتت رؤية المؤمنين لربهم عز وجل.(76/11)
تفسير قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات)
ثم بين تبارك وتعالى نوعاً آخر من مطاعن المنافقين ومساوئهم، وهو لمزهم المتصدقين، فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
(الذي يلمزون) يعني: يعيبون، (المطوعين) أي: المتبرعين، (من المؤمنين في الصدقات) فيزعمون أنهم تصدقوا رياءً، (والذين لا يجدون) يعني: ويلمزون الذين لا يجدون (إلا جهدهم).
ويفهم من هذا: أن المطوعين هم الذين أنفقوا نفقة كبيرة، وذلك للمغايرة بين المطوعين وبين الذين لا يجدون إلا جهدهم -كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى-، فهم يلمزون المتبرعين، وهؤلاء المتبرعون يأتون بمال كثير لأنهم أغنياء، فيقولون: هؤلاء ما تصدقوا إلا رياءً، فإذا أتى الذين لا يجدون إلا جهدهم وهم مؤمنون، وما يملكون شيئاً فتصدقوا بجهد المقل؛ يقولون: إن هذا أحوج لصدقته التي يتصدق بها.
(والذين لا يجدون) يعني: ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلاً، فيقولون عنهم: ماذا يفعل هذا الصاع من التمر أو نحو هذا؟! أو يقولون: إن الله غني عن مثل هذه الصدقة القليلة! (سخر الله منهم) أي: جازاهم على سخرهم بأن: (سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).(76/12)
سبب نزول قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين)
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل أي: نحمل الحمل على ظهورنا والأشياء الثقال مقابل أجرة، ثم نأخذ هذه الأجرة حتى نتصدق بها في سبيل الله، لماذا؟ لأنه ربط هذا الفعل بنزول آية الصدقة، فحرصاً منهم على الصدقة رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون ذلك! يقول أبو مسعود البدري: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء! وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا! فنزلت: ((الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)).
وروى الإمام أحمد عن أبي السليل عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة؟)، فجاء رجل لم أر رجلاً أشد منه سواداً ولا أصغر منه، ولا أذم -يعني: من أشد الناس ذمامة- بناقة لم أر أحسن منها، فقال: يا رسول الله! دونك هذه الناقة، قال: فلمزه رجل فقال -والعياذ بالله-: هذا يتصدق بهذه! فوالله لهي خير منه! المنافق يقول: إن الناقة أفضل من هذا الرجل، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كذبت! بل هو خير منك ومنها -ثلاث مرات- ثم قال: ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله)، يعني: إلا من وزع المال وأعطاه في سبيل الله تبارك وتعالى.
وقال ابن إسحاق: كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي أخا بني عجلان؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل أخا بني أنيس أتى بصاع من تمر فأفرغها في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل.
هؤلاء المنافقين قالوا: إن هذا -بسبب فقره- أحوج إلى الصدقة، فكيف يتصدق بها؟! والجواب عن ذلك أن هذه من أخلاق المؤمنين، وهذه من موجبات الفضيلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى امتدح المؤمنين بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهو أحوج إلى هذه الصدقة من هذا الذي ينفقها فيه، لكنهم مؤمنون صادقون يتصفون بقوله تبارك وتعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] أي: حاجته إليه.
وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما لربي وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله! أصبت صاعين من تمر: صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟! فأنزل الله الآية).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أريد أن أبعث بعثاً) أي: لغزو الروم، وذلك في غزوة تبوك؛ لأن هذه السورة في شأن غزوة تبوك.(76/13)
تنبيهات في إخراج الصدقات
هاهنا بعض التنبيهات المهمة: أولاً: الصدقة أو إنفاق المال ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، إما أن يكون واجباً مفروضاً كالزكاة، وإما أن يكون نافلة، وهو المراد هنا، لقوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين)، وأصلها: المتطوعين، فهذا يدل على أن المقصود هنا صدقة النافلة أو التطوع.
ثانياً: أن الآتي بالصدقة إما أن يكون غنياً وإما أن يكون فقيراً، فالغني لغناه يأتي بالصدقة الوفيرة الكثيرة كـ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، والفقير يأتي بالصدقة القليلة ويأتي بجهد المقل، ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب، فمن حيث الثواب لا ينظر إلى قدر الصدقة؛ لأن المقصود من الأعمال الظاهرة النية، واعتبار حال الدواعي والفوارق، فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله سبحانه وتعالى من الكثير الذي يأتي به الغني.
ثالثاً: أن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور؛ لأن نظرهم قاصر فهم نظروا للكمية وللقدر، فالذي أتى بالكثير قالوا: هذا رياء، والذي أتى بالقليل قالوا: هذا أحوج إلى صدقته، فما كان يتجاوز نظرهم ظواهر الأمور، فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة على أساس أن هذه لا يرجى من ورائها ثواب لأنها قليلة، وهذا قد أبطله قول النبي عليه الصلاة والسلام: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم سبق وحاز على أجر أفضل من أجر رجل تصدق بمائة ألف درهم! قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟! قال: (رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف).
فإذاً كما يقال: نية المؤمن أبلغ من عمله، فالإنسان يجازى على قدر همته، فهذا الرجل كل الثروة التي يملكها درهمان اثنان فقط، فماذا فعل؟ لا نقول تصدق: بدرهم، لا بل نقول: تصدق بنصف ما يملك، أما الرجل الآخر فله مال كثير، فأخذ من عرض هذه الأموال، فهو عمد إلى جانب من جوانب هذا المال فأخذه، فكان مائة ألف درهم، فبالنسبة للمال الذي يملكه هو دون النصف بكثير، لكن هذا همته أنه تصدق بنصف ماله، أما هذا فجزء يسير من عرض ماله.
وهذا رجل لفقهه تصدق بنصف ماله، درهم له وأمسك درهماً لنفقته أو نفقة عياله، فإذاً الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى، وعلى قدر الهمة، وحال المتصدقين، فصاحب الدرهم أعطى نصف ماله وهو في حالة لا يعطي فيها إلا أصحاب اليقين الأقوياء في الإيمان، حيث يضحي بنصف ماله، فيكون أجره على قدر همته، بخلاف الغني فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا كان في حال لا يعطى فيها عادة؛ لأنه هنا غير محتاج، وإذا أعطى فإن هذا لا يؤثر في حاله بشيء.
وهناك تفسير آخر لكنه مرجوح، وهو: تفسير الحديث بأن الفقير بدأ بالصدقة أولاً؛ فالغني اقتدى به في الصدقة، فبالتالي ينطبق عليه حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، فيصبح للفقير مثل أجر الغني وزيادة عليه بدرهم، له أجر صدقة مائة ألف درهم ويزيد عليه درهم واحد، ولكن هذا بعيد؛ لأن ظاهر الحديث أن هذا حصل في وقت واحد من رجلين، لأنه قال: (سبق درهم مائة ألف)، والحديث رواه النسائي وابن خزيمة وصححاه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الصدقات أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وقال: (أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)، أي: في حالة احتياج وخصاصة ومع ذلك تتصدق، لكن شرط صحة هذه الصدقة أن يبدأ بمن يعول، ولذلك قال: (جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما زاد عن النفقة الواجبة.(76/14)
نموذج من اللمز المعاصر لمنافقي اليوم
يقول السيوطي في الإكليل: في هذه الآيات تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين.
هكذا جزاء من يلمز ويسخر من المؤمنين، وما أوفر حظ منافقي وزنادقة وملاحدة زماننا من هذا الوعيد في هذه الآيات الكريمة؛ لأنهم لا وظيفة لهم غير السخرية من المؤمنين، بل صار هذا من المقررات التي نحفظها وتتوارد على أسماعنا صباح مساء في جميع أجهزة الإعلام بلا استثناء من وصف الإسلام بالتطرف والإرهاب والرجعية والجمود والهوس، وغير ذلك من هذه الأوصاف التي تنضح بها آنيتهم.
فلا شك أن هؤلاء لهم حظ من قول الله: ((الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ))، يأتون بامرأة منقبة ويقولون: إن المنقبات دميمات الخلقة، فهن يسترن قبح خلقتهن، أو يقولون: إن هذه تتحجب؛ لأن أسعار حلاق السيدات ارتفعت، أو أنهن لا يستطعن أن يواكبن زميلاتهن اللائي يلبسن الثياب الثمينة، هذا هو اللمز، ونفس صورته الحية، وكما هو شأن المنافقين دوماً، فنقول: هذا الشبل من هذا الأسد، فهي سنة لا تتغير ولا تتبدل كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، الآن يضحكون علينا بالكاريكاتير وبالتمثيليات والمسرحيات والأغاني والمقالات وكل شيء، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا} [المطففين:30 - 31] أي: رجعوا إلى البيوت {انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:31 - 34].
فالمؤمنون يضحكون عليهم أخيراً ضحكاً يدوم ولا ينقطع، أما هم {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} [التوبة:82]؛ لأن الضحك مهما طال في الدنيا فالدنيا قليلة، وسوف تفنى، {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة:82] بكاءً لن ينقطع حينما يخلدون في نار جهنم.
فيحرم أن يلمز الإنسان أو يسخر من المؤمن، خاصة إذا كانت السخرية بسبب الدين، فتراه لا يحقد عليه ولا ينقم عليه إلا بسبب تدينه؛ لأنه ملتح، أو لأنها محجبة، أو لأنه يقرأ القرآن، أو لأنه يحافظ على الصلوات، فكل هذا ينبع من النفاق.
وقوله: (الذين يلمزون المطوعين) أصلها المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج.(76/15)
تفسير قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)
قال الله تبارك وتعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:80].
(استغفر لهم) أي: استغفر لهؤلاء المنافقين (أو لا تستغفر لهم) أي: فإنه في حقهم سواء، ثم بين استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار، فقال عز وجل: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك) يعني: عدم الغفران لهم، بسبب: (أنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) يعني: الخارجين عن حدوده، فجملة قوله تعالى: (استغفر لهم) هي جملة إنشائية لفظاً لكنها خبرية معنىً مثل قوله: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة:53]، والمقصود: سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً فلن يتقبل منكم.
والمراد بقوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) التسوية بين الاستغفار لهم وتركه في استحالة المغفرة، وتصويره بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما، كأنه صلى الله عليه وسلم أمر بامتحان الحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى يأمره بأن يمتحن، ويرى هل ثم نتيجة من الاستغفار أم لا؟ فيقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) يعني: استغفر لهم أحياناً واترك الاستغفار تارة، سوف يظهر لك جلية الأمر من أن هذا لا تأثير له في مغفرة ذنوبهم، كما مر في قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة:53]، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:5 - 6].
قال الزمخشري: السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، يعني: ليس المقصود حقيقة العدد لكن المقصود التكثير، وهذا جار في مجرى كلام العرب للتكثير، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لأصبحن العاصي وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم، وهذا من أساليب العرب في المبالغة لا للتحديد، وليس المقصود أن ما زاد على السبعين سوف يغير الحكم، لكن المقصود مهما أكثرت وبالغت في الإكثار، فلن يكون له تأثير في مغفرة ذنوبهم.
وقال أبو السعود: شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير؛ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنها العدد بأسره، وقيل: هي أكمل الأعداد لجمعها معانيها؛ ولأن الستة أول عدد تام لتعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وثلثاها واحد، وجملتها ستة، وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال، ثم السبعون غاية الكمال؛ إذ الآحاد غايتها العشرات، والسبعمائة غاية الغاية.
روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يصده عن الصلاة على عبد الله بن أبي: (إنما خيرني الله فقال: (استغفر لهم)، وسأزيده على السبعين)، فظاهر هذا أن (أو) للتخيير، وأن السبعين له حد يخالفه حكم ما وراءه، وفي الحقيقة أن هذا من الإشكال بمكان؛ لأن الرسول عليه السلام أفصح العرب على الإطلاق، ولذا قال الزمخشري: كيف يكون هذا وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، ويفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار؟ كيف وقد تلاه بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} [التوبة:80] إلى آخره، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: (قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين)؟! ثم أجاب الزمخشري بقوله: لم يخف عليه ذلك صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال ذلك إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليهم، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يبين أنه في غاية الرحمة لهذه الأمة التي بعث إليها، حتى لو كان الميت بمثل هذه الحال، كقول إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم أن يرحم بعضهم بعضاً، يعني: إذا فعل هذا في حق هذا المنافق، فالأولى أن يفعل المؤمنون ذلك في حق بعضهم بعضاً من أهل الإسلام والإيمان.
وقال القرطبي: وأما استغفاره للمنافق الذي خير فيه؛ فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب الأحياء من قرابات المستغفر له، والله تعالى أعلم.
قال شراح كلام الزمخشري: يعني أنه وقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير، فجوز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة؛ أي: أن الرسول عليه السلام كان يعلم أن السبعين ليست حداً، لكن المراد بها المبالغة في التكثير، لكنه جوز أن يكون هناك احتمال للإجابة إذا زاد على السبعين، فلذلك بين لهم التخيير قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة كما قال إبراهيم عليه السلام في ذكر جزاء من عصاه ولم يمتثل أمره بترك عبادة الأصنام: (فإنك غفور رحيم)، دون أن يقول: شديد العقاب، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم، وحثاً على الاتباع.
وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي فصاحته ومعرفته باللسان، فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم، وذلك كقوله تبارك وتعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6]، ومع ذلك هو مأمور أن ينذرهم، هذا في الإثبات.
أما في النفي فكما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون:6]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه رخص لي)، ويحتمل أنه رخص له في ابن أبي بالذات لحكمة، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول، وكما ذكرنا من قبل ربما أنه لتطييب خاطر ابنه وكان من الصالحين، وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي، أو لتأليف قلوب المنافقين من أتباعه إلى الإسلام كما سيأتي.
وقال الحافظ ابن حجر: روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما نزلت: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأزيدن على السبعين)، فأنزل الله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم)، ثم قال: ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا في ذلك.(76/16)
تفسير سورة التوبة [81 - 89](77/1)
تفسير قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله)
يقول الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
أشار الله تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين، وهو جعلهم الحزن والكراهة مكان الفرح والرضا فقال سبحانه: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
(المخلفون) هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف، أو: لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك، وسبب إيثار لفظ (المخلفون) على (المتخلفون)؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلفهم بأن ثبطهم، كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
وقيل: لأنه منع بعضهم من الخروج، فغلب الوصف على غيرهم، فصاروا المخلفين لا المتخلفين.
أو: المراد (فرح المخلفون) يعني: الذين خلفهم كسلهم أو نفاقهم، أو: الذين أغراهم الشيطان بذلك وحملهم عليه.
(بمقعدهم) يعني: بقعودهم، فمقعد على هذا مصدر متعلق بفرح، يعني: فرحوا بقعودهم عن غزوة تبوك، أو تكون اسم مكان، وهو في هذه الحالة المكان الذي قعدوا فيه وهو المدينة.
وقوله: (خلاف رسول الله) يمكن أن تكون مفعولاً لأجله أو ظرفاً، أي: خلفه وبعد خروجه، حيث خرج هو ولم يخرجوا، فـ (خلاف) ظرف بمعنى خلف وبعد، يقال: فلان أقام خلاف الحي، يعني: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن، ويؤيده قراءة من قرأ: (خلف رسول الله)، فالخطاب على أنه ظرف لمقعدهم، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك.
واستعمال خلاف بمعنى خلف؛ لأن جهة الخلف خلاف الأمام، ويجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة، فهو مصدر خالف؛ كالقتال ويعضده قراءة من قرأ: (خُلف رسول الله).
(وكرهوا) يعني: بما في قلوبهم من مرض النفاق (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو، ولكن قال: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب وأشرف المطالب التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون، ومع ذلك هؤلاء قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في الموضع الذي يستحق الندم والحزن والكراهية فرحوا، والموضع الذي ينبغي أن يفرح به المؤمن، وهو الخروج للجهاد بالمال والنفس في سبيل الله كرهوه! قال الزمخشري في قوله تعالى: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم): تعريض للمؤمنين، لكنه صرح فيما بعد بذلك حينما قال تبارك وتعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التوبة:88]، إلى آخر الآية فمدحهم، قال: تعريض للمؤمنين وتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض، أي: الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان.
والتعريض هنا ظاهر؛ لأن المراد كرهوه لا كالمؤمنين أحبوه، أو: لا كالمؤمنين الذين أحبوا الخروج والجهاد.
(وقالوا لا تنفروا في الحر) إما أنهم قالوا ذلك لإخوانهم المنافقين أو للمؤمنين، فقالوا لإخوانهم: لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا تستطاع شدته، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، وعند طيب الظلال والثمار في المدينة، فحرصوا على أن يثبتوا إخوانهم المنافقين على التخلف، كيف نترك هذا الجو الجميل، والثمار التي قد آن قطافها، والظلال الوارفة، ونخرج في الحر إلى تبوك حيث المسافة البعيدة؟ ومن خرج في رحلة إلى هناك يعرف معنى الحر في تبوك! (وقالوا لا تنفروا في الحر)، تثبيتاً لهم على التخلف، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد، أو أنهم قالوا: لا تنفروا في الحر للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، تماماً كما ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر بعض الضالين الذين يقولون للمحجبات: كيف تلبسن هذه الملابس في شدة الحر؟ فينبغي أن نمتثل نفس الجواب فنقول: (قل نار جهنم أشد حراً)؛ فهي تحتمل الحر الآن؛ لأن نار جهنم أشد حراً، كما احتمل الصحابة شدة الحر في تلك البلاد.
وقالوا ذلك للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود حتى يظهروا العلة والعذر، وكأن الذي منعهم هو شدة الحر، فيتسترون وراء ذلك.
فقد جمعوا ثلاث خصال من خصال الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، أفاده أبو السعود.
(قل) رداً عليهم وتجهيلاً لهم (نار جهنم) التي سوف تدخلونها بما فعلتم (أشد حراً) مما تحذرون من الحر المعهود، أي أن هذا الحر الشديد في الدنيا أهون من حر جهنم التي سوف تدخلونها، وهي (أشد حراً) مما تحذرون من الحر المعهود وتحذرون الناس منه، فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود على النفير؟! (لو كانوا يفقهون) اعتراض تذييلي من جهته تبارك وتعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب (لو) إما مقدر: لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو: لو كانوا يفقهون أن مآلهم بسبب تخلفهم إليها لما فعلوا ما فعلوا، أو: لو كانوا يفقهون لتأثروا بهذا الإلزام.
وإما أن يكون جواب (لو) غير منوي، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، يعني: لو كانوا من أهل الفطانة والفقه، كما في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].
قال الزمخشري: قوله تعالى: (قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون) استجهال لهم.
نعم، فإذا الإنسان يتصون من مشقة ساعة، نجد الإنسان في الحر الشديد قد يصل به الأمر أنه لا يخرج ولا يتحرك من تحت الظل تأذياً بشدة الحر، ونحن هنا في المدينة قليلاً ما نذوق الحر، لكن من سافر إلى غير هذه البلاد يعرف ما معنى شدة الحر ويعرف معنى هذا الذي أقوله، وأنا أسمع أن في بعض بلدان الخليج إذا انقطع التيار الكهربائي فإن النساء والصبيان داخل البيوت يصرخون بسبب توقف المكيفات، ويبكون من شدة الحر، مع أنهم في الظل، ولكن مع ذلك يحصل هذا الألم الشديد نتيجة شدة الرطوبة مع الحر! قال: فإذا الإنسان تصون من مشقة ساعة، أي: احترز من مشقة مشية في الحر لمدة ساعة، كما فعل الذين امتنعوا عن الخروج في سبيل الله خشية الحر، مع أن ذلك يؤدي بهم إلى المكث في نار جهنم، حيث لا مقارنة ولا نسبة بين العذابين، فمن تصون من مشقة ساعة؛ فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل، يعني: لا يستطيع أن يستعمل عقله في الموازنة بين الأضرار، فلا شك أن القاعدة: أنه يدفع أقوى الضررين بارتكاب أخفهما.
ثم ينشد الزمخشري هنا قول بعضهم: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب يعني: إذا مرت بك أحقاب وأزمان طويلة، وعشت فيها في سرور وسعادة، ثم كدرت هذه السعادة وهذا السرور بمساءة يوم مر عليك بعد ذلك، فهذه المسرة الطويلة أريها يعني: عسلها، شبه الصاب، يعني: مثل الصاب، وهو نبات مر، أو هو الحنظل.
(فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب)، فكيف ترجح سرور ساعة، سوف يورثك الحسرة والمساءة لأحقاب؟ فكيف المقارنة بين عذاب قليل في الدنيا وسويعات قليلة في الحر وبين حر جهنم؟! فلا مقارنة على الإطلاق؛ لأن فيها الخلود الدائم الذي لا ينقطع.
فهم كما قال القائل: كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولذلك هذا الشخص الذي يقدم على الانتحار، ما أقل عقله! وهو من أجهل الجهال؛ لأنه إذا كان يبتلى في الدنيا ببعض البلاء ولا يستطيع أن يصبر عليه، فكيف يعجل بنفسه إلى النار التي لا مقارنة بين بلائها وبين هذا البلاء الذي كان يعانيه في الدنيا، لأنه لو عاش فالله سبحانه وتعالى سيخلف عليه إصلاحاً لحاله، ويمد له في الأجل كي يعمر عمره بالأعمال الصالحة، فهو أضر نفسه من حيث إنه قطع على نفسه الفرصة التي وهبه الله سبحانه وتعالى إياها، فقطع عمره بدل أن يستثمره في العمل الصالح، وفي نفس الوقت عجل نفسه إلى عذاب الله عز وجل، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، يهرب من الرمضاء -الحر الشديد- أو الرمال الساخنة، فيلقي بنفسه في النار! فنحن نلاحظ في كثير من الحوادث مثل: الزلازل أو انهيار المنازل؛ أن الإنسان بسرعة جداً يقيس الأمر، فلو وجد حريق في بيت أو فندق، فنسمع أن من الناس من ألقى بنفسه من النافذة؛ لأنه لا يوجد وقت للترجيح، فيرجح بأن يلقي نفسه لكي يتكسر؛ لأنه أهون من أن يحترق بهذه النار التي تطارده، أما هذا فعلى العكس فيستجير من حر رمال ساخنة بأن يلقي نفسه في النار، وقال آخر: عمرك بالحمية أفنيته خوفاً من البارد والحار وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار يعني: نحن في البرد الشديد نستعمل المدفئات حتى تسخن الجو، وفي حالة الحر نأتي بالمراوح والمكيفات لكي تبرد الجو، فيقول: أفنيت عمرك في الاحتراز من الحر والبرد، (خوفاً من البارد والحار، وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار).
وروى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءاً من نار جنهم).
وروى الشيخان عن(77/2)
تفسير قوله تعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)
ثم أخبر تبارك وتعالى عن عاجل آمرهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل المؤدية إليه أعمالهم السيئة التي من جملتها ما ذكر من الفرح، فقال عز وجل: ((فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا))، أليسوا فرحين فليضحكوا؟ لكن هذا الضحك قليل، (فليضحكوا قليلاً)، هنا أمر بمعنى: التهديد، وليس للوجوب، {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]، أو هو أمر بمعنى الخبر، (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)، يعني: سوف تحصل لهم تلك الحالة: ضحك كثير مع بكاء طويل.
والحكمة من أنه سبحانه وتعالى أخرج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر؛ ليدل على تحتم وقوع المخبر به، فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد أن يتخلف عنه المأمور به، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: اضحكوا قليلاً وابكوا كثيراً، إذا أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك، والله عز وجل لا يتخلف أمره عن الانقياد له قهراً وقسراً؛ فهذا يعني بيان تحتم وقوع ذلك، وعدم تخلفه عن المأمور به.
فإن قيل: إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة في اقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، فما باله عكس هذا؟ ف
الجواب
أنه لا منافاة بينهما؛ لأن لكل مقام مقالاً، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك، وتحقق منه قبل الأمر به كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه، فكأنه مأمور به، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى.
وهنا جمع بين صيغتين: صيغة الماضي والمستقبل، فقال عز وجل: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]، جزاءً بما كانوا: ماضي، يكسبون: هذه صفة تفيد الاستمرار إلى المستقبل، الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا، يعني: ما داموا فيها فهم يكسبون هذه الأفعال.
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]: من الناس من كان لا يضحك، يعني: كان بعض السلف لا يضحك، اهتماماً بنفسه وخوفاً على فساد حاله في اعتقاده، يظن أنه مقصر في حق الله، ولشدة خوفه كان لا يستطيع أن يضحك، وإن كان عبداً صالحاً لكنه يخشى التقصير، قال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصُّعُدات -أي الطرق- تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني كنت شجرة تعضد) أخرجه الترمذي.
وكان الحسن البصري رحمه الله ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى، وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إياك وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
أما البكاء من خوف الله سبحانه وتعالى وعذابه وشدة عقابه فمحمود، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت).
أخرجه ابن المبارك من حديث أنس وأخرجه ابن ماجة أيضاً.
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وقال أيضاً: (عينان لا تمسهما النار، وذكر منهما: وعين بكت من خشية الله)، فمن كثر بكاؤه خوفاً من الله تعالى وخشية منه، ضحك كثيراً في الآخرة؛ لأن المؤمنين يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27].
وقد قيل للحسن: ما نصنع يا أبا سعيد -بمجالسة أخوان يخوفوننا، حتى تكاد قلوبنا تتفطر؟! فقال: لئن تجالس قوماً يخوفونك حتى تدرك أمناً، خير لكن من أن تجالس قوماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
ووصف الله سبحانه وتعالى أهل النار فقال: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31]، وقال أيضاً: {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:110 - 111].(77/3)
تفسير قوله تعالى: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم)
ولما جلى سبحانه وتعالى ما جلى من أمرهم، فرع عليه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83].
قوله تعالى: (فإن رجعك الله) يعني: إن ردك الله من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين في المدينة، والمقصود المتخلفين بغير عذر، وإنما قال سبحانه وتعالى: (إلى طائفة منهم) ولم يقل: إلى كل من في المدينة؛ لأن منهم من كان معذوراً؛ لأن جميع من أقام في المدينة ما كانوا منافقين، بل كان منهم معذورون، ومنهم من لا عذر له ثم عفا عنه وتاب عليه كالثلاثة الذين خلفوا.
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) أي: معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، دفعاً للعار السابق، هم لا يريدون وجه الله ولا أن يتوبوا، لكن يريدون دفع العار، وتحسين منظرهم أمام الناس.
(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) يعني: عاقبهم بألا تصحبهم أبداً، كما في سورة الفتح: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح:15].
(وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ): رضيتم بالقعود عني أول مرة، يعني: فخذلكم الله وسقطتم عن نظره، بل غضب عليكم وألزمكم العار (فاقعدوا مع الخالفين)، يعني: كونوا مع الخالفين من النساء والصبيان دائماً.
ومع أن هؤلاء الخالفين يشملون الإناث النساء لكنه غلب هنا المذكر فقال: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تغليباً للمذكر، وهذه الآية: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تدل على أن اصطحاب المخذل في الغزو لا يجوز، فلا يجوز في الغزو اصطحاب المخذل الذي يخذل الناس ويثبط هممهم.
(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) إذاً هناك تفسير للخالفين بأنهم النساء والصبيان والزمنى، أو المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، على أن الخوالف هم خساس الناس وأدنياؤهم، أحقر الناس وسفلتهم، فيقال: فلان خالفة أهل بيته، إذا كان دونهم أو فلان خالفة يعني: غير نجيب، إذا كان فاسداً في قومه، ومنه أيضاً: خلوف فم الصائم؛ لأن خلف فمه يعني: تغير ريحه، ومن قولهم: خلف اللبن أو خلُف اللبن بفتح اللام وضمها يعني: إذا فسد وحمض بطول المكث في السقاء، فالمقصود على هذا القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) يعني: مع الفاسدين.
قوله تعالى: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) إخبار في معنى النهي للمبالغة، وذكر القتال: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا) لأنه المقصود من الخروج، فلو اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد، أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين، وإظهاراً لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند.
يقول أبو السعود: فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين.
وهذه عقوبة شديدة لهم وأي عقوبة! وقال: وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة، يقصد قوله: (أول مرة)، فالصحيح في اللغة أن الأكثر الدائر على الألسنة: أن يذكر اسم التفضيل إذا أضيف إلى المؤنث، فإنك لا تكاد تسمع -بعد الاستقراء- قائلاً يقول: هي كبرى امرأة، أو يقول: هند كبرى النساء، لكن تقول: هي أكبرهن أو هي أكبر امرأة، ولا تكاد تسمع شخصاً يقول: هذه أولى مرة، لكن أكثر الاستعمال هو: أول مرة، فجاء قوله تعالى: (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) جرياً على الغالب في استعمال العرب.
وهذه الآية الكريمة: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) سبق أن نبهنا مراراً أن بعض الناس -بالذات في جماعة التبليغ- يحاكمون ألفاظ القرآن إلى ألفاظ محدثة فيحملون مثلاً الآيات التي فيها لفظ الخروج على الخروج المعهود الطارئ عندهم في جماعتهم، وقد يذمون من يتخلف عنهم بنفس هذه النصوص، فهذا بلا شك من الانحراف في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى، كما فسروا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بأنه الخروج بالكيفية التي يلتزمونها ولا يكادون يخرجون عنها!! وقوله هنا: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) قال الرازي: واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد -بعض متعلقيه: جيرانه أصدقائه زملائه أو غير ذلك- إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد، ورآه مشدداً فيه، مبالغاً في تقرير موجباته، فإنه يجب عليه أن يقطع العلاقة بينه وبينه، وأن يحترز من مصاحبته، فالشخص القريب منك كزميل أو جار، إذا تأكدت -لا على سوء الظن ولا من مرة أو مرتين أو من مجرد إساءة تحتمل- أنه يظهر منه المكر والكيد والخداع، ويشدد في ذلك ويبالغ إلى أقصى ما يستطيع في توصيل ما أمكنه من الأذى إليك، فمثل هذا ينبغي أن تقطع العلاقة بينك وبينه، وأن تحترز عن مصاحبته توقياً لشره، ويستفاد هذا من قوله تعالى: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً).(77/4)
تفسير قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً)
قال تبارك وتعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84].
(ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) لأن صلاة الجنازة شفاعة، ولا شفاعة في حق هؤلاء.
(ولا تقم على قبره) أي: لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء.
وبعض المفسرين قال: (لا تقم على قبره) يعني: بالدعاء.
وبعضهم قال: (لا تقم على قبره) يعني: لا تقم بإصلاح مهمات قبره، من قولهم: قام فلان بأمر فلان، يعني: إذا كفاه أمره وتولاه، (ولا تقم على قبره) لا تتولى أمره، ولا تتولى إصلاح مهمات قبره.
وقال الشهاب: القبر مكان وضع الميت، ويكون بمعنى الدفن.
(إنهم كفروا بالله ورسوله) يعني: في أثناء ما كانوا أحياء كفروا في الباطن بالله ورسوله.
وقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) جملة (مات أبداً) صفة؛ لأن الجملة بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، فجملة (مات) هنا في موضع جر؛ لأنها صفة للنكرة، كأنه قيل: لا تصل على أحد منهم ميت.
(إنهم كفروا) يعني: في حالة الحياة كفروا في الباطن، لأن الكلام عن المنافقين: (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن الإيمان الظاهر الذي كانوا به في حكم المؤمنين.
روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)) [التوبة:80]، وسأزيده على السبعين)، قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا).
أما قوله: فسأله أن يعطيه قميصه يكفن به أباه، قيل: إن سر إجابته عليه الصلاة والسلام في إعطائه قميصه الذي سأله إياه أن هذا من حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]، فلما سأله القميص أعطاه.
وقيل: لأن منع القميص لا يليق بأهل الكرم.
وقيل: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أكرمه لمكان ابنه، وكان من الصالحين.
وقيل: لعل الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النبي أنه إن فعل ذلك أسلم نفر من المنافقين.
وقيل: لأن الرأفة والرحمة كانت غالبة عليه صلى الله عليه وسلم.
لكن الراجح من ذلك كله هو ما ذكره القرطبي حيث قال: اختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـ عبد الله فقيل: إنما أعطاه؛ لأن عبد الله كان قد كسا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً يوم بدر، وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر -على ما تقدم- وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصاً فما وجدوا له قميصاً عليه إلا قميص عبد الله لتقاربهما في طول القامة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، أي: يرد له هذا الجميل حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافؤه بها.
وقيل: إنما أعطاه القميص إكراماً لابنه وإسعافاً له في طلبته وتطييباً لقلبه، والأول أصح؛ لأن البخاري أخرجه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بـ العباس ولم يكن عليه ثوب، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه -يعني على مقاسه- فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً، وإني لأرجو أن يسلم لفعلي هذا ألف رجل من قومي)، كذا في بعض الروايات: من قومي يعني: من منافقي العرب.
والصحيح أنه قال: (رجال من قومه).
ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفِعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج.
وقال الرازي: كان المنافقون لا يفارقون عبد الله بن أبي فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، والله تعالى أعلم.
وإنما قلنا: أسلم وتاب لهذه الفِعلة؛ لأن كلمة الفِعلة هي المرة الواحدة من العمل، لكن الفَعلة تطلق على الفَعلة المستنكرة، وشاهدها من القرآن {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19].
وقال الحافظ أبو نعيم: وقع في رواية في قول عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟ ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه: وقد نهاك الله أن تستغفر لهم يعني: في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] وهذه الآية نزلت في مكة عند موت أبي طالب حينما قال له: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك.
وفي رواية الإمام أحمد فيس مسنده قال عمر: لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، يعني: لأنه بنى على الظاهر من تلفظه بالإسلام، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره، يعني: أراد عمر أن يحول بينه وبين القبلة، فتحول حتى أتى إلى جهة صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا: كذا وكذا، يعدد أيامه؟! قال: ورسول الله صلى الله وسلم يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: (أخر عني يا عمر! إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت)، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم! قال: والله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
ورواه البخاري والترمذي.
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به، أي: الناس سوف يعيروننا إلى الأبد بهذا.
وفي بعض الروايات: (إن لم تصل عليه يا رسول الله! لن يصلي عليه مسلم)، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال: أفلا قبل أن تدخلوه، فأخرج من حفرته إلى آخره.
وهذه الآية الكريمة هي إحدى المواضع التي وافق فيها عمر الوحي الشريف، وهذا من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، أن الوحي نزل موافقاً لقوله في عدة مواضع: منها: أخذ الفداء عن أسارى بدر.
ومنها: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].
ومنها: آية أمر النساء بالحجاب.
ومنها: آية تحريم الخمر.
ومنها: آية تحويل القبلة.
ومنها: هذه الآية الكريمة.
فهذه من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.
وقوله تبارك وتعالى: (ولا تقم على قبره) ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها: (شأنكم بها، ولم يصل عليها).
وقيل أيضاً: إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات؛ لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
وقال السيوطي في قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم): في هذه الآية تحريم الصلاة على الكافر.
ويدخل في ذلك أيضاً: أن يذكر الكافر ويترحم عليه، فبعض الجهلة يذكر الكفار ويترحم عليهم، فهذا لا يجوز أبداً.
كذلك: لا يجوز الوقوف على قبره، وأما دفنه فجائز، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه، وقد اختلفوا هل وجوب الصلاة على المسلم، ووجوب دفنه يؤخذ من هذه الآية أم لا؟ فالذين قالوا: يؤخذ استدلوا بالمفهوم، قالوا: لأنه سبحانه وتعالى علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم، فقال: ((إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))، فإذا زال الكفر وجبت الصلاة، ويكون نحو قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] يعني: الكفار، فدل على أن غير الكفار -وهم المؤمنون- يرون الله ع(77/5)