فوائد من قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)
هنا بعض الفوائد منها: الأولى: إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون قائلها شخص واحد: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا)) فتكلم عن هذا الواحد بصيغة الجمع؛ لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة.
الثانية: إضافة عذاب الحريق إضافة بيانية، بمعنى: ذوقوا العذاب الذي هو الحريق.
حاسة الذوق تكون لإدراك الطعم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا لأن العذاب مترتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه هي تحصيل المطاعم، فالذي دفعهم إلى قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)) هو بخلهم، فهم يبخلون بأن يؤتوا مما آتاهم الله من فضله.
المال إنما يقصد بصفة أساسية من أجل أن يأكل الإنسان منه، فأهم شيء عند الإنسان من تحصيل المال هو الطعام؛ فلذلك هم يتهالكون على هذا المال خوفاً من فقدان هذا الطعام، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال؛ لأن أغلب استعمالات المال هي في الطعام.
كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188].(28/17)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] قوله تعالى: ((ذَلِكَ)) أي: العذاب.
((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)) تقديم الأيدي هو عملها؛ لأن من يعمل شيئاً يقدم يده، والتعبير بالأيدي عن الأنفس؛ لأن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهن، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار العمل عليه.(28/18)
صيغة المبالغة في قوله: (ظلام) ووجه الإشكال والجواب عنه
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] (ظَلَّامٍ) صيغة مبالغة من الظلم، تفيد كثرة الظلم، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: (وأن الله ليس بظالم) لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره، فما الجواب عن ذلك؟ الجواب من أوجه: أحدها: أن الصيغة للنسب من قبيل نسبة البزاز إلى البز والحرير، والعطار إلى العطر، لا للمبالغة.
أن الله لا ينسب إلى الظلم؛ لأنه عندما تقول -ولله المثل الأعلى-: هذا ليس بعطار، فأنت لا تقصد المبالغة، وإنما تقصد نفي نسبته إلى بيع العطر.
الوجه الثاني: أن صيغة (فعال) استعملت في لغة العرب لا على معنى الكثرة والمبالغة، بل تأتي على معنى الفاعل كقول طرفة: ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترشد القوم أرشد هذا في معلقة طرفة بن العبد التي مطلعها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد يقول التبريزي في قوله: ولست بحلال التلاع: (التلاع) مجاري الماء من رءوس الجبال إلى الأودية.
(وقوله: (ولست بحلال التلاع) أي أنني لا أتواجد في ذلك المكان ولا أسكنه مخافة أن يراني ابن السبيل والضيف، فهو ينزه نفسه عن البخل؛ لأن الذي يريد أن يهرب من الضيوف بسبب البخل يختبئ في هذه التلاع.
قوله: (ولكن متى يسترشد القوم أرشد).
أي: أنني لا أحل في التلاع، بل أنزل في الفضاء وأرشد من يسترشدني، وأعين من استعانني.
والرشد يكون بالعطية، ويكون بالمعونة.
فمثل هذا الشخص الكريم الذي ينزه نفسه عن البخل، بقوله: (ولست بحلال التلاع) لا يقصد بذلك نفي المبالغة، لأن المعنى سيكون مقتضياً أنه في بعض الأحيان يختبئ من الضيوف أو من ابن السبيل؛ فلذا كان يقصد مجرد الحلول بدون المبالغة؛ فهنا جاءت (فعال) لا يراد بها الكثرة؛ لأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
الوجه الثالث: هو أن المبالغة جاءت لمراعاة الجميع، كما تقول العرب مثلاً: فلان ظالم لعبده، ثم يقولون: وهو ظلام لعبيده، فتستعمل كلمة (فعال) إذا كان المتعلق به الفعل جمعاً.
كذلك هنا نزه الله تعالى نفسه عن ذلك بقوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))، لرعاية صيغة الجمع في العبيد.
الوجه الرابع: أنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الوجه الخامس: أن المبالغة لتأكيد معنىً بديع؛ وذلك لأن جملة ((وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، بمعنى: أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده لغير ذنب.
والتعبير عن ذلك بنفي الظلم؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، ولتصويره بصورة يستحيل صدور الظلم عنها، كما يعبر عن ترك الإفادة عن الأعمال بإضاعتها، فصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى ولإبراز ما ذكر من التعبير بغير ذنب في صورة مبالغة في الظلم.
((وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) فالله سبحانه وتعالى لو عذب الناس بدون ذنب يرتكبونه هل يكون ظلاماً للعبيد؟! هذه صيغة منفرة ينزه الله سبحانه وتعالى عنها؛ بل إنما يعذبهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب.(28/19)
تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183].
((الَّذِينَ قَالُوا)) نصب بتقدير: أعني، أو على الذم، أو رفع بتقدير: هم الذين قالوا.
(إن الله عهد إلينا) أي: أمرنا.
(أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ) تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم: (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالمعجزات الواضحات.
(وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي: وبنفس هذا الذي قلتموه، وهو القربان الذي تأكله النار.
(فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي: لم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم؟! (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.(28/20)
تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك)
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184].
(فإن كذبوك) أي: بعد بطلان عذرهم المذكور.
(فقد كذب رسل من قبلك) فلا تحزن وتسلَّ.
(جاءوا بالبينات والزبر)، الزبر: جمع زبور أي: الكتب الموحاة منه تعالى.
(والكتاب المنير) أي: الواضح الجلي.
والزبور والكتاب واحد في الأصل؛ وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.(28/21)
حقيقة القربان عند أهل الكتاب وأنواعه
هنا فائدة تتعلق بقربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم: القربان معناه لغة: ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته، وكانت ذبائح العبرانيين عجيبة جداً، وكان المستعمل لهذه الذبيحة بتعيين الله: الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام، وكانت الذبائح على نوعين عامين: الأول: كانت تقرب لتكفير الخطايا.
الثاني: كانت تقرب شكراً لله على نعمة وبركاته.
ثم قال صاحب كتاب (مرشد الطالبين): فالذبيحة اليومية عند أهل الكتاب كانت مشهورة جداً، كان عليهم أن يتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى يومياً في الصباح والمساء بهذه الذبائح.
الذبيحة اليومية عندهم خروف ليس فيه عيب، يقدم كفارة للخطايا، وذلك مرتان: صباحاً ومساءً طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً، والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً، وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم.
ولهذا ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا، وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان.
خلاصة الكلام فيما يتعلق بهذه الآية يقول تعالى: ((تَأْكُلُهُ النَّارُ)) أي: أنه يذبح على هذه الكيفية، فبعدما يذبح تنزل نار من السماء فتأكله، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها الذبيحة، وفي عهد سليمان أيضاً كما جاء في كتبهم: (أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت الذبائح) وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار.(28/22)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) وما بعدها
يقول السيوطي رحمه الله تعالى هنا: ((الَّذِينَ)) هذه نعت للذين قبله ((قَالُوا)) أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا)) أي: قد عهد إلينا في التوراة ((أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ)) أي: لا نصدق رسولاً ((حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ))، فلا نؤمن لك حتى تأتينا أنت أيضاً بقربان تأكله النار، وهو ما يتقرب به إلى الله من نعم وغيرها، فإن قبل هذا القربان جاءت نار بيضاء من السماء فأكلته وإلا بقي مكانه.
والعهد إلى بني إسرائيل كان موجوداً، لكن في حق المسيح ومحمد لم يعهد إليهم بذلك، قال تعالى: ((قُلْ)) لهم توبيخاً: ((قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالمعجزات ((وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)) كزكريا ويحيى فقتلتموهما، والخطاب لمن في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفعل لأجدادهم؛ لكنهم كانوا راضين بفعل أجدادهم.
((فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) أي: في أنكم تؤمنون عند الإتيان به.
((فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: المعجزات ((وَالزُّبُرِ)) كصحف إبراهيم وفي قراءة بإثبات الباء فيهما.
((وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)) أي: الواضح وهو التوراة والإنجيل، والمعنى: فاصبر كما صبر هؤلاء الرسل الذين كُذِّبوا.(28/23)
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم)
قال تبارك وتعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
(تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي: جزاء أعمالكم يوم القيامة.
{فَمَنْ زُحْزِحَ} أي: أبعد عن النار {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي: نال غاية مطلوبه.
فقد أخرج الترمذي والحاكم وصححاه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، أي: اقرءوا إن شئتم: ((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)) [آل عمران:185]).
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: ما العيش في الحياة الدنيا.
{إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: الباطل الخادع الذي لا يدوم، بل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.(28/24)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) هذه كقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب.
وقوله: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) قال الزمخشري: فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم؛ لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور.
أي: فما يكون في القبر هو بعض الأجر ومن مقدمات الأجر، أما إكمال الأجر وكماله وغايته فإنما تكون يوم القيامة.
وقال الرازي: بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة؛ لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم، حتى الإنسان إذا جوزي في الدنيا فأي متاع في الدنيا لابد أن يصل إليه ما يكدره، ولو لم يكدره إلا خوف انقطاعه وزواله لكان كافياً في تكديره.
والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة؛ لأن السرور هناك يحصل بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم، والسعادة بلا خوف انقطاع، وكذا القول في العقاب، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه.
((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ)) أي: أبعد عن النار التي هي مجمع الآفات والشرور.
((وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)) التي هي جامعة للذات والسرور ((فَقَدْ فَازَ)) أي: حصل له الفوز العظيم، وهو الظفر بالمراد، والنجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) أخرجه مسلم أيضاً.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: لذتها أو العيش فيها.
{إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} المتاع: هو ما يتمتع وينتفع به.
والغرور: مصدر غره أي: خدعه وأقنعه بالباطل.
وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنيه لذاتها من طول البقاء وأمل الدوام، فتخدعه ثم تصرعه.
قال بعض السلف: الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول، فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم.(28/25)
تفسير سورة آل عمران [186 - 200](29/1)
تفسير قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم)
قال تبارك وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].
((لتبلون)) أي: لتختبرن.
((في أموالكم)) أي: بما يصيبها من الآفات.
((وأنفسكم)) أي: بالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد.
وهذا كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] أي: لابد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، أي: أنه تكفر خطاياه).
((وإن تصبروا)) أي: على ذلك.
((وتتقوا)) أي: مخالفة أمر الله تعالى.
((فإن ذلك)) أي: الصبر والتقوى.
((من عزم الأمور)) أي: من كمال الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون.
والمقصود من معزمات الأمور التي يجب أن يعزم عليها كل أحد؛ لما فيه من كمال المزية والشرف، أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه، فلابد أن تصبروا وتتقوا.
وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الصبر، وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي.(29/2)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم)
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} أي: بالفرائض فيها كفريضة الزكاة، والجوائح التي تجتاحها كالسيول والعواصف والقحط وغيرها.
((وَأَنْفُسِكُمْ)) أي: بالابتلاء في الأنفس إما بالعبادات التي يكلفها الإنسان، أو بالبلاء الذي يصيب الناس.
((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: اليهود والنصارى.
((وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا)) أي: من العرب.
((أَذًى كَثِيرًا)) أي: من السب والطعن والتشبيب بنسائكم وغير ذلك.
((وَإِنْ تَصْبِرُوا)) أي: على ذلك.
((وَتَتَّقُوا)) الله.
((فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)) أي: من معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها.(29/3)
واجب المسلم تجاه الأذى الصادر من غير المسلمين
إذاً الواجب مع هذه الصنوف من البلاء الصبر عليها والثبات على دين الله تبارك وتعالى، وفي هذا تهيئة لقلوب المؤمنين؛ لما قد يرد من البلاء والأذى، وهذا كائن في كل زمان وفي كل مكان، فهؤلاء الذين يصنفون الكتب من المستشرقين أو أعداء الإسلام في الطعن في الدين، وفي سب الأنبياء، وفي سب الله تبارك وتعالى، وغير ذلك مما هو مشاهد.
ومن آخرها: إعادة نشر هذه الرواية الإلحادية التي لم يقل إبليس نفسه ما قال صاحبها فيها، ولم يجترئ على الله سبحانه وتعالى كما وقع في هذه الروايات، ولذلك ننبه الإخوة إلى: أنه لا يجوز لأحد بأي حال أن يقتني هذه الروايات، حتى وإن نشرت بالصورة التي ذكرت، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تبقى في البيت ولا أن تشترى، فكيف وبعض الإخوة يقول: نحن نشتريها حتى نبين للناس الكفر والإلحاد الذي فيها.
نقول: يكفي أن تقول ما قاله العلماء فيها، ممكن أن تنقل للناس خلاصة الدراسات التي قام بها من درسها أو علق عليها من العلماء، ويكفي أن العلماء من شيوخ الأزهر كان موقفهم صريحاً من هذه الروايات الإلحادية منذ الستينات.
فإذاً كون الواحد يأتي بالرواية ويقول: أنا أقرؤها؛ لأعرف ما فيها من كفر وإلحاد، نقول: ما يدريك؟ قد ينتكس قلبك عند سطر من سطور الزندقة والإلحاد، وترتد عن الإسلام؟! أليست للفتن ذرائع تؤدي إليها؟! فلا تفتح باب الشر على نفسك؛ لأن هذه الرواية كلها شتائم فقراءتها وشراؤها فيه مشاركة في الأذية.
فحينما تسمع أو تقرأ فإنك تقرأ كلاماً شنيعاً ترتج منه الجبال، حتى إن إبليس لم يقو على ذلك، بل إن إبليس عظم الله سبحانه وتعالى حيث قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82].
أما هذا فيشتم الله ويشتم الأنبياء، هناك كثير من الناس من غير الملتزمين بالدين لما اطلعوا عليها، كان تعليقهم أنهم استفادوا معلومات لم يكونوا يطبقونها من قبل، فيما تضمنته من الكفر والإلحاد.
فعلى أي الأحوال هذا من أبلغ الأذى الذي يسمعه المسلمون في هذا الزمان، وأنتم تعلمون أيضاً ما يأتي من الغرب بين وقت وآخر، مثل إحياء رواية آيات شيطانية للمدعو سلمان رشدي، وفيها أيضاً كل السب والأذى، فهذه الرواية خالية من المنهج العلمي، وليست منطقية، بل كلها خيالات وسب وتطاول وبذاءات، فكيف يرد على مثل هذا؟! لا يرد عليه إلا بالصبر على الأذى.
فهذه الآية تواسي المؤمنين في كل عصر ومصر مما يلقونه من الأذى، فإن أشد ما يؤذي المؤمن أن يؤذى في الله، أو يؤذى في رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو في دينه، وهنا إرشاد للمخرج من هذا ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)).(29/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
((وإذ)) أي: واذكر إذ ((أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)) وهم علماء اليهود والنصارى، وكما ذكرنا من قبل: الغالب أنه إذا استعملت صيغة: أوتوا، أو أورثوا، بالبناء للمجهول، فإنه يكون في سياق ذمهم، أما إذا أتت منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى فهذا فيه مدح لأهل الكتاب، وذلك مثل قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
((لتبيينه للناس)) أي: لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم.
((ولا تكتمونه)) فيها نهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا صرح بالأمر بالبيان ونهى عن الكتمان، فهذا أبلغ في إيجاب هذا المأمور به.
((فنبذوه)) أي: الميثاق.
((وراء ظهورهم)) أي: طرحوه ولم يراعوه، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية، يقول بعض الشعراء في هذا المعنى: لقد أخبرني من أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالكا نظرت في عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا فكلمة نبذ الشيء وراء الظهر، مثل يضرب في الاستهانة بالشيء والإعراض عنه بالكلية، كما أن جعله نصب العين دليل على كمال الاعتناء والاهتمام به.
((واشتروا به)) أي: استبدلوا به ((ثمناً قليلاً)) أي: شيئاً حقيراً من حطام الدنيا.
((فبئس ما يشترون)) أي: بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية: وجوب إظهار الحق وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات، وغير ذلك مما يجب إظهاره، ويفهم من ذلك أنه يجوز كتمان العلم إذا كان الشخص الذي تكلمه لا يطيقه ولا يستوعبه، أو يسيء فهمه، أو يسيء تطبيقه أو غير ذلك.
ويدخل في كتمه منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها.(29/5)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)
قال الزمخشري: كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وألا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام دنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إليه غيرهم.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) وهذا أخرجه الترمذي، ولـ أبي داود: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة).
وقال أبو هريرة: (لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)) إلى آخر الآية.
يقول العلامة أبو السعود في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة: ((فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً)) هذا نوع من المعاوضة، فهم بذلوا شيئاً في مقابل شيء، وفي حالة المعاوضة يكون الشراء مؤذناً بالرغبة في المأخوذ، والزهد أو الإعراض عن المعطى.
يعني: أنت معك مال تبذل هذا المال لتشتري به السلعة: آلة أو سيارة أو أي شيء، فأنت ما تعمد إلى هذه المعاوضة إلا إذا كنت ترى أن الذي تأخذه أفضل مما تعطيه.
والمقصود بالمعاملة الثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعلوا الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل، وهذا يدل على فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير على الشريف الخطير، وبجعلهم المقصد الأصلي وسيلة، والوسيلة مقصداً.(29/6)
تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا)
بعد أن وصفهم تعالى بأنهم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويستعملون آيات الله وكتاب الله وسيلة لنيل مآربهم الدنيوية، ومع ذلك فهم لا يستقبحون هذا الفعل ولا يندمون عليه، بل يفرحون به ويسرون: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)) أي: بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى.
((ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا)) أي: من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان.
((فلا تحسبنهم بمفازة)) أي: بمنجاة من العذاب.
((ولهم عذاب أليم)) أي: بكفرهم وتدليسهم.
روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال: (اذهب يا رافع -وهو بوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: مالكم وهذه، إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) إلى قوله: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) ثم قال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه) يعني: كأنهم استحقوا أن يحمدوا على هذا الذي أخبروا به النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف الواقع والحقيقة.
انظر كيف تتولى الآيات الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حصل ذلك في مواضع من القرآن الكريم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]، وغير ذلك من النصوص.
فكذلك هنا لما سألهم النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء معين أوهموه أنهم قد أجابوه، ومع ذلك أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وبما أتوا من كذبهم عليه وإخبارهم له بخلاف الذي كان يسألهم عنه، فانظر كيف نزل الوحي يفضح هؤلاء اليهود، ويكذبهم، ويذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: ((ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا))) الآية.
كذا رواه مسلم.
لا منافاة بين الروايتين؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، ومعنى ذلك: أنه بعدما نزلت الآية قد تحصل واقعة يصدق عليها حكم الآية، فيقول واحد من الصحابة: نزلت في كذا؛ لأن معنى سبب النزول أعم من مجرد نزول الآية في واقعة بعينها، لكن يتعدى حكمها إلى نظائرها.
وهذه الآية وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم، ففيها ترهيب للمؤمنين مما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها، ومحبة المدح بما ليس عندهم من الفضائل.
ويدخل في ذلك المراءون المتكثرون بما لم يعطوا، وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة)، وفي الصحيحين أيضاً: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) يعني: الثوبان اللذان يلبسهما ليسا ملكه في الحقيقة، بل هما لغيره، وهو يلبسهما ويظهر للناس أنهما له.
وهكذا المتشبع بما لم يعط، وهو الذي يظهر للناس ما ليس عنده من الفضائل والعلم وغير ذلك.(29/7)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وما بعدها
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) أي: واذكر (إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) أي: العهد عليهم في التوراة ((لَتُبَيِّنُنَّهُ)) أو (ليبيننه) أي: الكتاب ((لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ))، بالياء والتاء.
((فَنَبَذُوهُ)) أي: طرحوا الميثاق ((وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)) أي: فلم يعملوا به.
((وَاشْتَرَوْا بِهِ)) أخذوا بدله ((ثَمَنًا قَلِيلًا)) من الدنيا من سفلتهم برئاستهم في العلم، فكتموه خوف فوته عليهم.
((فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) أي: فبئس شراؤهم هذا.
((لا تَحْسَبَنَّ)) أو لا يحسبن ((الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا)) أي: بما فعلوا في إضلال الناس ((وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا)) من التمسك بالحق وهم على ضلال.
((فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ)) أي: بمكان ينجون فيه ((مِنَ الْعَذَابِ)) أي: في الآخرة، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم.
((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: مؤلم فيها.(29/8)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:189] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها.
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.(29/9)
تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
((إن في خلق السموات والأرض)) أي: في إيجادهما على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص.
((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار)) يذكر الله تعالى عناوين مما خلق من الآيات في السماوات والأرض، وهذه العناوين ينقسم الواحد منها في العلوم الحديثة إلى عشرات بل مئات التخصصات أحياناً، وهي رسائل من الله سبحانه وتعالى يتعرف إلى عباده عن طريقها، وكان حق هذا العلم الذي تطور في هذا الزمان تطوراً مدهشاً مذهلاً بفضل الله سبحانه وتعالى أن يبين آيات الله وعظمته.
لكن المناهج العلمية الموجودة على مستوى العالم قائمة على العلمانية التي تعتبر إيراد الباحث لآية أو حديث خروجاً عن المنهج العلمي.
وهذا جهل وجحود؛ قال بعض العلماء: كانت الجاهلية قبل الإسلام جاهلية الجهل، أما الآن فهي جاهلية العلم؛ لأنك تجد أنهم يفصلون فصلاً كاملاً بين آيات الله سبحانه وتعالى وبين خالقها تبارك وتعالى.
وأيضاً كل هذه العلوم وما فيها من الآيات والبدائع ومظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته وعظمته، لا يمكن أبداً أن يجترئ أحد على أن ينسبها إلى صانعها، فهل هناك جحود أكثر من هذا؟ في الحقيقة هذا العلم علم جاحد؛ لأنه يفصل هذا المصنوع عن صانعه، ويفصل المخلوقات عن خالقها تبارك وتعالى.
ونحن عندما نقرأ كتب العلماء السابقين في مثل هذه المواضع نجد أنهم كانوا يأتون بمعلومات محدودة جداً، لعلوم كاملة: نبات، حيوان تشريح، وغيرها من العلوم، لكن هذه العلوم انفتحت فيها عوالم ومجالات واسعة جداً، وانكشف فيها ما لم يصل الأوائل منه إلى شيء ولم يقفوا له على خبر، وكان مقتضى ذلك أن يزيد إيمان الناس، وأن يخضعوا لربهم تبارك وتعالى وأن يسلموا له.
ولذلك نحن نقول: هذه العلوم ليست من علوم الدنيا، بل هذه العلوم هي تطبيق لهذه الآية الكريمة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] فهذه العلوم إذا درستها من هذا المنطلق فهي تماماً كعلم التوحيد، أو دراسة القرآن الكريم الذي هو آيات الله سبحانه وتعالى.
الآيات إما آيات تكوينية في الكون، وإما آيات تنزيلية، فكما أن آيات القرآن تنزيلية، كذلك السماوات والأرض مملوءتان بالآيات الكونية، وكلها تشير إلى وحدانية الله تبارك وتعالى.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فكل ما تقع عينك عليه ينطق بوحدانية الله تبارك وتعالى، وقد جاء (أن النبي عليه الصلاة والسلام قام ليلة من الليالي وظل يبكي حتى بل لحيته، ثم ظل يبكي حتى بل حجره، ثم ظل يبكي حتى بل الأرض، إلى أن جاء بلال يؤذنه بصلاة الفجر، فلما رآه يبكي بكى، ثم قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]).
إذاً: التفكر في هذه الآيات المذكورة في آل عمران ليس مستحباً فقط، وإنما هو فريضة، بل عدم فعل ذلك من الكبائر؛ لأن من علامات الكبيرة التوعد عليها بالويل، فهذا يدل على أن الفرض على المسلم أن يتفكر في هذه الآيات، وأن يكون له ورد تفكر كما يكون له ورد من تلاوة القرآن.
قوله: ((واختلاف الليل والنهار)) لقد قام السلف بتفسير هذه الآيات طبقاً لمعلوماتهم المحدودة، لكن الآن كشفت لنا كثير من الأسرار والمعلومات، والإنسان الجاهل المسكين يظن أنه إذا اكتشف كيف يسير هذا الكون، وكيف يتدبر أموره؟!! يظن أنه صار هو المستقل بتدبير أمور الكون.
لو أن رجلاً اخترع جهازاً دقيقاً وخبأه في صندوق وأغلقه بالمفتاح، ثم استطاع بعض الناس أن يفتح هذا الصندوق ويصف لنا ما بداخله، ويقول: إن هذه القطعة وضعت هنا للحكمة الفلانية، وهذه وضعت هنا من أجل استعمالها في كذا، واستطاع من خلال الدراسة أن يكتشف ما فيها من الدقة والإحكام، وسخرها بعد ذلك لفائدته ومصلحته، هل يكون له الفضل في إبداع هذه الآلة؟ أم أن الفضل هو لخالقها وصانعها.
لو تفكرنا في الوظائف الدقيقة التي تجري في جسم الإنسان، سواء النشاط الهرموني، أو نظام الجهاز البولي، أو الجهاز الهضمي، أو الدوري، أو العصبي، أو العضلي أو غير ذلك من أجهزة الجسم، لعرفنا عظمة الله تعالى في إتقانها وإحكامها.
وقد اكتشف العلم الحديث هذه التفصيلات وعرفت للناس، وأنت تعلم أن كل هذه الأشياء تجري في بدنك وأنت لا سلطان لك عليها، بل أغلبنا لا يعرف شيئاً عنها، فليس عنده خبر عن الإنزيمات ولا الهضم ولا الامتصاص ولا غير هذه الأشياء بتفاصيلها الدقيقة جداً، بل تفنى الأعمار قبل أن يصلوا إلى كل ما أودعه الله من الأسرار في هذا الكائن، كذلك عندما تنام أيها الإنسان في الليل فأن هذه الأجهزة تعمل بحكمة الله سبحانه وتعالى.
إذا ارتفعت نسبة هرمون معين بنسبة ضيئلة جداً فإنه يحصل خلل في وظائف الجسم فمن الذي يضبط هذه الأمور كله؟! الله سبحانه وتعالى يضبطها، فما من ذرة من ذرات الكون إلا وهو يدبرها ويوجهها، وهذا هو معنى قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا يجري شيء إلا بقدرة الله سبحانه وتعالى وتوجيهه.
فالناس الذين ما عرفوا شيئاً عن هذه العلوم، كان الله سبحانه وتعالى يتولاهم ويرعاهم، وتسير أبدانهم ووظائف الكون كوظائف الشمس والقمر والنجوم والكواكب منذ أن أودعها الله سبحانه وتعالى، وفق قدرة الله سبحانه وتعالى، ولم تكن تنتظر هؤلاء الجهلة في آخر الزمان لينازعوا الله في ألوهيته وربوبيته، ويفصلوا الخلق عن الخالق.
إذاً: الله سبحانه وتعالى خلقنا، وليس كما زعم هؤلاء الكفار أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان فحركه ثم تركه، وانتهت وظيفة الإله وصار في غفلة عن خلقه، معاذ الله! أو كما زعموا -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى يملك في الكون ولا يحكم مثل ملكة الإنجليز، فهذا هو تصورهم عن الإله، وهذا هو سبب معاداتهم للدين، أو بتعبير أدق إيثارهم فصل الدين عن الحياة.
أما الإسلام فأتى بالتصور الشامل والعقيدة الشاملة لطبيعة العلاقة بين الله سبحانه وبين خلقه، وبين الخلق وبعضهم البعض، وبين الإنسان وبين نفسه.
يقول تعالى: ((واختلاف الليل والنهار)) أي: في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده.
قوله: ((لآيات)) أفضل طريقة لتفسير هذا الجزء من الآية أن نحضر من كل تخصص من هذه العلوم من يشرح لنا أسرار هذا العلم، وحكم الله سبحانه وتعالى في تدبير الكون بهذه المواضع كلها، وبالتالي سنحول المسجد إلى جامعة شاملة لتعلم كل هذه العلوم، وهذا هو المفروض أن العلوم تدرس من هذا المنطلق الإيماني: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهي آيات من الله سبحانه وتعالى، أما الطبيعة فهي مفتقرة إلى من يخلقها.
((لآيات)) أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته، والتكثير للتفخيم كماً وكيفاً، أي: كثرة عظيمة.
((لأولي الألباب)) أي: لذوي العقول المجلوة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً.
هنا إشارة إلى أن القلوب لا تصفو ولا تتجلى إلا بذكر الله سبحانه وتعالى؛ وذلك عقب أولي الألباب بقوله: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا)) وهذا هو الذي يفهم ويعي ويعقل عن الله سبحانه وتعالى رسائله، فبدلاً من أن نقول: إن السيل ظاهرة طبيعية، نتذكر آيات الله سبحانه وتعالى {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] كل هذه الآيات تربط الوقائع في كونه سبحانه هو المسير الحقيقي لها.
ذكرنا من قبل أيضاً: أننا عندما نقول: (آيات لأولي الألباب) أن الحقائق غير المرئية أو المغيبة عنا لا تخضع للتجربة ولا المشاهدة والاستنتاج ولكن ما لا نراه فإنه لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق الوحي؛ لأنه إذا كان كل شيء يتم عن طريق المعاينة فستنتفي حكمة هذا الوجود كله، وحكمة الابتلاء في الدنيا.
وهؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون الدين لو أراد الله لأمر الملائكة أن تتخطفهم وتقطعهم إرباً إربا، أو لأنزل صاعقة من السماء على بيوت الظالمين على وجه الأرض، فهو قادر على أن تستمر الآيات بصورة تكشف لنا هذه الوقائع قبل أن يكشفها لنا الغيب، فنرى الملائكة ونرى الشياطين ونرى الجنة ونرى النار، ونرى عذاب القبر ونعيمه إلى آخره.
ولكن لو عاينا هذه الأشياء لا نتفت حكمة التكليف، أي: أن كل الناس في هذه الحالة سيؤمنون بالإكراه عن طريق هذه الآيات، فيكون حالهم تماماً كيوم القيامة، حينما يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] فهل ينفع هذا اليقين؟! كذلك اليقين لا ينفع عند رؤية العذاب، ولذلك يقتصر الله سبحانه وتعالى على أن تحدث بعض هذه الآيات بين وقت وآخر؛ تذكيراً للناس وتنبيهاً لهم واستعتاباً، لكن لا تستمر ولا تكون صالحة(29/10)
تفسير قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
أي: أنه لا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى، لا كما يفهمه الضالون من الصوفية أن معنى قوله: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) أنهم يرقصون في أثناء الذكر، فتارة يقفون وتارة يقعدون وتارة يضطجعون، وهذه الحركات التي يفعلها هؤلاء الجهلة، إلحاد في فهم آيات الله سبحانه وتعالى.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، فالمراد تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى في لحظة من اللحظات ولا في حال من الأحوال، بل المسلم يذكر الله عز وجل دائماً.
((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) أي: في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبتدعات؛ ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً؛ لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تبارك وتعالى.
إنما يكون الرسام أو المصور أو الممثل ممدوحاً عند القوم، بأنه بارع ومتقن عندما يقترب من محاكاة ما يسمونه هم بالطبيعة.
إذاً خلق الله سبحانه وتعالى هو أكمل الصور، والناس كأنهم يتعرفون بهذا ضمناً على عظيم صنع الله سبحانه؛ وذلك عندما يحاول الواحد في عمله أن يحاكي ما خلق الله تبارك وتعالى.
فهذا الذي صنع الطائرة استفاد في تصميمها من محاكاة ما خلق الله سبحانه وتعالى من الطيور، وكيف تتم عملية الطيران مثلاً؟! فالشاهد أن خلق الله سبحانه وتعالى هو أكمل المخلوقات وأبدعها.
معروف أن رسم ذوات الأرواح محرم، لكن أنا أضرب مثالاً: إذا كان الرسام يمدح بأنه قدير على الرسم والفنان على الفن والممثل على التمثيل، ويستدل على عظمته بعظمة ما صنع، فكل ما صنع هؤلاء إنما هو مجرد محاكاة لما خلق الله تبارك وتعالى، أفلا تدل أفعال الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض على عظمة خالقها؟! فعظم آثار الله سبحانه وتعالى وأفعاله تدل على عظمته سبحانه: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقال الشيخ أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة.
إنها نعمة التفكر، فهو ينظر في كل شيء فيجد نعمة الله، فيشكر لله عز وجل، وكذلك على المؤمن أن يعتبر وأن يتفكر، وأنه يخصص وقتاً للتأمل والتفكر والتدبر.
وهنا خصص التفكر بالخلق كما في هذه الآية: ((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) لم يقل: ويتفكرون في الله، وإنما يتفكرون فيما خلق الله؛ لأننا منهيون عن التفكر في ذات الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يمكن أن نصل إلى كنه ذاته تبارك وتعالى وصفاته، وإنما نتفكر في المخلوقات كما ندبنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث: (لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق).(29/11)
دلائل التوحيد عند الإمام الرازي
يقول الرازي: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: الأول: دلائل الآفاق.
الثاني: دلائل الأنفس.
قال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، ولما كان الأمر كذلك فلا جرم أن أمر في هذه الآية بالتفكر في خلق السماوات والأرض؛ لأن دلالتهما أعجب، وشواهدهما أعظم، وكيف لا نقول ذلك، وهو هنا يضرب مثلاً، وهذا المثل إذا تأملته على ضوء العلوم الحديثة رأيت من الأسرار ما هو عظيم جداً، وتجد كم نحن مقصرون في الاعتراف بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته في خلقه، وقد انكشفت لنا أشياء، وعلماء المسلمين ما قصروا في جانب التفكر أبداً، بل العكس، فإذا راجعنا تراث العلماء فهذا الغزالي له كتب كثيرة في هذه الأشياء، فله كتاب مستقل في الإحياء اسمه (كتاب التفكر)، وأيضاً له كتاب آخر يدعى: (الحكمة في مخلوقات الله).
وكذلك الإمام ابن القيم له عدة كتب ككتابه (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)، وله كتاب آخر اسمه (الاستبيان في أقسام القرآن) وغير ذلك من الكتب، كلها تفيد التدبر في مخلوقات الله، ويعطيك درساً عملياً كيف تتدبر، وإن كانت المعلومات مصدرها التجربة البشرية وليس الوحي الإلهي، فنجد في بعض المعلومات قصوراً أو أخطاء بينها علم التشريح اليوم أو غيره.
لكن على أي حال فإنهم تساموا إلى أعلى مستوى ثقافي في عصرهم؛ لأنهم كانوا يهتمون بهذه العبادة وهي التفكر في خلق الله تبارك وتعالى، فنحن أولى أن نجتهد في هذا التفكر، خاصة وأنه قد كشف لنا أضعاف أضعاف ما كان عندهم، فانظر هنا إلى الرازي فهو يقوم بالتأمل في شيء من هذه الأشياء، ويقول: انظر إلى ورقة صغيرة من أوراق الشجر فسترى في تلك الورقة عرقاً واحداً ممتداً في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا تعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة وأسراراً عجيبة.
من منكم درس علم النبات يعرف هذا الكلام؟! فهناك عناوين من البحوث الهائلة في علم النبات وأنواع الورق والوظائف الحيوية التي يمارسها النبات باعتباره كائناً حياً.
فالآيات الآن تكشفت لنا أكثر، فنحن مطالبون بأن نتأمل فيها؛ لأن هذه رسائل من الله سبحانه تكشف لنا عن قدرته، وهذه آيات الله التكوينية التي نحن مطالبون بالتفكر فيها.
انظر كيف أن كلام الرازي عن ورق الشجر يعتبر بالنسبة للعلوم الحديثة الآن سطحياً إلى حد بعيد جداً، لكن هذا الذي استطاع اكتشافه بالنسبة لما تكشف لديه من هذه العلوم، فهو لم يتحدث عن عشرات العمليات التي تحدث داخل النبات ووظائفها.
كما أن كل إنسان له بصمة تختلف عن بصمة الإنسان الآخر، وهذه أيضاً قد كشفها القرآن قبل أن تكتشف بعدة قرون، حينما قال تبارك وتعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] اختار البنان بالذات؛ لأن البنان فيها البصمات المعروفة، حتى أصبحت حجة يستدل بها في معرفة مرتكب الجريمة، حتى إن بعض اللصوص والمجرمين في بريطانيا بعدما اكتشفت عملية البصمات هذه انتزع الجلد تماماً حتى يموه، لكنه ظهر له من جديد جلد فيه نفس البصمات.
فكما أن لكل إنسان بصمة فكذلك كل نبات لا توجد ورقتا شجر في الدنيا كلها تتشابهان في هذا التعرق الذي يشير إليه الرازي.
وهناك بصمة للصوت في كل إنسان، وهذه البصمة تختلف تماماً من إنسان إلى آخر موجود على ظهر الأرض، وفي الكمبيوتر والأجهزة الحديثة في الخارج الآن بصمة صوتية.
فهذه الأشياء ليست لمجرد التسلية، ولا ينبغي أن نهجرها، فالإنسان يحاول أن يتعمق فيها بنية التعبد والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى، ادرس واقرأ في علم الفضاء وفي علم النبات وفي علوم الحيوان وفي علوم الطب وفي غير ذلك من العلوم التي تكشف آيات الله سبحانه وتعالى، حتى علوم الهندسة نفسها، إذا تأملت في علوم الذرة وتركيب المادة والقوانين التي تحكمها تجد أشياء تبهر العقول، وتنطق كلها بأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له.
يقول الرازي: وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة وأسراراً عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوىً جاذبة لغذائها من قعر الأرض.
حتى الآن لم يستطيعوا أن يجزموا بنظرية تفسر لنا كيف يصل الغذاء من التربة إلى كل أجزاء النبات؟! بل كلها احتمالات.
ثم إن ذلك الغذاء يسمونه القوة والجاذبية الأرضية، فهم لا يريدون أن يعترفوا بقدرة الله سبحانه وتعالى، فتراهم يشمئزون من ذكر الله، ويقولون: لو افترضنا أن هناك مغناطيساً داخل الكرة الأرضية، والقطب الشمالي أعلى والقطب الجنوبي أسفل، وعلى هذا الأساس وجدوا أن كل الظواهر تفسر تفسيراً صحيحاً طبقاً لهذا.
يقول الرازي: ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة، بتقدير العزيز العلم.
ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلق تلك الورقة لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلق تلك الورقة الصغيرة، فحينئذٍ يقيس تلك الورقة على الشمس والقمر والنجوم، والأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، حينها سيعلم أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض.
وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين.
يقول: إذا عجز عن الورقة فالأولى ألا يعرف شيئاً عن السماوات والأرض والجبال والكواكب وغير ذلك.
ثم يقول: بل يسلم أن كل ما خلقه الله ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)) وكلمة: (هذا) متضمنة لضرب من التعظيم يعني: ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة، بل منتظماً بحِكَمٍ جليلة ومصالح عظيمة، من جملتها: أن يكون دلالة على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، وأن يكون مداراً لمعايش العباد، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد.
قوله: (سبحانك) أي: تنزيهاً لك من العبث من أن تخلق شيئاً بغير حكمة.
(فقنا عذاب النار) فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء، ((ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)) وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء، ففي الدعاء تقدم الثناء على الله سبحانه وتعالى، فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم -يعني: إذا دعا- فيبدأ بتحميد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء) وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، مع أنهم يأتون بكل هذه الأشياء التي سبق ذكرها، وهو أنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض إلى آخره، لكنهم مع ذلك وجلون خائفون من عذاب الله تبارك وتعالى.(29/12)
تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)
قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192].
((فقد أخزيته)) أي: أهنته، وأظهرت فضيحته لأهل الموقف، وسر إتباع الدعاء بوصف شدة النار هو عظم موقع السؤال؛ لأن من سأل ربه حاجة وعرف عظمها وقوتها كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل، وإخلاصه في طلبه أشد.
((وما للظالمين من أنصار)) أي: ليس لهم من ينصرهم ويقوم بتخليصهم.
وصرح بكلمة الظالمين للإشعار بتعليل دخولهم النار، وأنه كان بسبب ظلمهم ووضعهم الأشياء في غير مواضعها.
((من أنصار)) ليس معناها إمكان وجود نصير، ولكن جمع الأنصار نظراً لجمع الظالمين، والمقصود من الآية: ((وما للظالمين من أنصار)) أي: ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار.
والمراد أيضاً أنه لا يوجد أحد ينصر هؤلاء بالمدافعة والقهر، بل من يشفع مثلاً في أهل الذنوب إنما يكون بإذن الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وإن قلنا: إن المقصود بالظالمين هم الكافرون فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة.(29/13)
تفسير قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان)
قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
كلمة (ربنا ربنا) جاءت خمس مرات في هذه الآيات، لإظهار كمال الضراعة والابتهال.
((سَمِعْنَا مُنَادِيًا)) المراد بالمنادي: الرسول صلى الله عليه وسلم، والنون هنا للتفخيم: ((سَمِعْنَا مُنَادِيًا))، وهذا كقوله: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46].
وفي وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادِي دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى الداني والقاصي، لما فيه من الإيذان برفع الصوت: ((مُنَادِيًا يُنَادِي)) فهذا فيه مدح للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه استغرق طاقته كلها في دعوة الداني والقاصي إلى الإسلام، وأمته خليفة له في أداء هذه المهمة: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي))، ينادي: يبلغ الناس، وبقدر استطاعته يوصل صوته ودعوته إلى القاصي والداني.
((يُنَادِي لِلإِيمَانِ)) يعني: ينادي لأجل الإيمان بالله، والمقصود أو الفائدة في الجمع بين: ((مُنَادِيًا يُنَادِي)) (للإيمان) أنه ذكر النداء مطلقاً، ثم قيده بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان؛ لأن المنادي يمكن أن يكون منادياً إلى الحرب، منادياً إلى الانتقام إلى الثأر إلى بعض المنافع، فلا منفعة أعظم من النداء للإيمان.
((مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ))، فهو أشرف ما ينادى به.
((أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)) أي: فامتثلنا أمره، وأجبنا نداءه.
((رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)) أي: استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها.
((وكفر عنا سيئاتنا)) التكفير بمعنى التغطية، يكفر البذر يعني: يغطيها بالتراب، والمعنى: أذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات.
((وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ)) أي: معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة.(29/14)
تفسير قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك)
قال تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194].
يعني: ما وعدتنا على تصديق رسلك والإيمان بهم، أو المقصود: ما وعدتنا: على ألسنة رسلك، وهو الثواب.
((وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ))، المقصود هنا ما ذكر في قوله تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8].(29/15)
تفسير قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم)
قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195] ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي)) يعني: بأني ((لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)) أي: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر.
(منكم) وهذه الجملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين في الآخرة من ثواب الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال).
روى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)) إلى آخر الآية)، ((فَالَّذِينَ هَاجَرُوا)) أي: من أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة.
((وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)) أي: التي ولدوا ونشئوا فيها.
((وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي))، أي: سبيل الإيمان بالله وحده، وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين.
((وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا)) أي: غزوا المشركين، واستشهدوا.
((لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ))، هذه جملة قسمية.
((وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: تجري من تحت قصورها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
((ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)).(29/16)
تفسير قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد)
قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا، وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب، ثم قال مباشرة: ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)).
إذا كنت تحيا من أجل الجنة، ومن أجل أن تنال هذا الثواب من تكفير السيئات وتزحزح عن النار، وتخلد في جنات النعيم، وقد صبرت في سبيله على الأذى وهاجرت، فلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، أي: لا تغتر بتصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب، ولا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل، أو ما هم عليه في البلاد من كل المظاهر التي تغر الناس، وكذلك افتتانهم بأحوال الكفار، خاصة أن هذه الأحوال التي تفتنهم إنما هي في الدنيا، والكفار الذين فتن بهم هؤلاء ليسوا أفضل منا في الدين قطعاً، لكن قد يكونون أفضل منا في الدنيا، وكذلك في بعض الأمور التي يفخر بها هؤلاء المفتونون بهم، ولكن حالهم في الدين أن ما بينهم وبين الله خراب، فلا خير فيهم؛ فلذلك لا يغرنك هذه المظاهر: ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)) لأن ما لديهم ((مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)) كما قال بعض السلف: (لا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بلاء بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية) فهذه مقاييس لأولي الألباب ولأولي العقول.(29/17)
تفسير قوله تعالى (متاع قليل ثم مأواهم جهنم)
قال تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197].
أي: هو متاع قليل لقصر مدته، وكونه بلغة فانية ونعمة زائلة، فلا قدر له في جانب ما أعد الله للمؤمنين.
جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع؟!) ((ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)) مصيرهم الذي يعودون إليه.
((وَبِئْسَ الْمِهَادُ))، أي: الفراش.(29/18)
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات)
قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198].
النزل: هو ما يهيأ للضيف من منزل وما يقدم له من إكرام.
((وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ)) يعني: مما يتقلب به الفجار من المتاع القليل الزائل، فخيرٌ للأبرار أن يشعروا بأن أعمال البر هي التي جلبت لهم هذا الخير.
ورد في البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة له -أي: مكان عال- متكئ على حصير، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها، لئن كان براً، لقد قال الله تعالى: ((وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ)).
أي: إن كان من الأبرار وانتقل إلى الدار الآخرة، فما عند الله خير وأفضل للأبرار من الدنيا، ولكن إن كان كافراً أو فاجراً فكيف يكون الموت خيراً له؟! إنه إذا كان مصراً على كفره فكلما امتد أجله زادت جرائمه، وبالتالي زاد استحقاقه للعذاب؛ ولذلك قرأ ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى: ({وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (ما من مؤمن إلا والموت خيرٌ له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ}، ويقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178])(29/19)
تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله)
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199].
هذه جملة مستأنفة لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت من قتل الأنبياء، ومن نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) يعني: بعض أهل الكتاب ليسوا بنفس الصفة التي سبق ذكرها، بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة وهم خاشعون لله أي: مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه.
((لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً)) أي: لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هوداً أو نصارى.
لا يكون الإنسان في خير إلا إذا أسلم، لا يتصور أن القرآن يمدح أناساً لا يستحقون، كما يفعل بعض المنافقين الذين يأتون بأمثال هذه الآيات لمداهنة الكفار فيقولون: القرآن يمدحهم بكذا، وهذا يصور أن القرآن فيه تناقض، إذ كيف تصفهم آيات بالكفر ثم تمدحهم؟! نقول: إن الذين يمدحهم القرآن هم الذين آمنوا منهم بنبيهم حين كان مبعوثاً إليهم، أو آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ممن أدركوا بعثته.
وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة، ما عدا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يدخل أحد الجنة إلا إذا اتبع طريقه وأسلم لله سبحانه وتعالى، يقول تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:52 - 54]، وقال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]، وهذه هي الطائفة الناجية.
وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]، وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاً، تجد عدد اليهود الذين يسلمون دائماً قليلين بالنسبة إلى عدد النصارى، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:82 - 85]، وهكذا قال هنا: ((أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)).
ومعروف أن جعفر بن أبي طالب لما قرأ سورة مريم بحضرة النجاشي، وعنده البطارقة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وصلى عليه.
فالمقصود من قوله تبارك وتعالى: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ)) يعني: مسلمة أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله تبارك وتعالى.(29/20)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)) يعني: اصبروا على مشاق الطاعات، وما يمسكم من المكاره والشدائد.
((وصابروا)) أي: غالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الجهاد، لا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً.
ذكر المصابرة بعد الصبر مما يدل على شدته وصعوبته.
((وَرَابِطُوا)) أي: أقيموا على المرابطة والغزو في سبيل الله، وذلك بالترصد والاستعداد لحرب الأعداء، وكذلك برباط الخيل كما قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
والأصل في الربط أو الرباط هو أن يربط كل من الفريقين خيولهم في الثغور، وكل معد لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطاً، مثل المناطق الساحلية -مثلاً- التي يمكن أن يغزى المسلمون من خلالها، وربما سميت الخيل نفسها رباطاً.
وقد وردت الأحاديث بالترغيب في الرباط في سبيل الله وذكر فضله وأجره، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) أي: أن يقف في موقعه يحرس الثغر أو بلاد المسلمين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذين كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)، يعني: أمن فتنة القبر وعذاب القبر، فأحد أسباب النجاة من فتنة القبر: هو أن يموت مرابطاً في سبيل الله تبارك وتعالى.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل ميت يختم على عمله -أي: ينتهي عمله بموته- إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر).
وقيل أيضاً: ((رابطوا)) يدخل في معناها انتظار الصلاة بعد الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (أقبل عليّ أبو هريرة رضي الله عنه يوماً فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا))؟ قلت: لا.
قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه؛ ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة) يعني: لم يكن هناك ثغور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية، ولم تكن البلاد قد فتحت، حتى يرابطوا ويحرسوا هذه الثغور، ولكنها نزلت في قوم كانوا يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: ((اصبروا)) أي: على الصلوات الخمس، ((وصابروا)) أي: أنفسكم وهواكم، ((ورابطوا)) في مساجدكم ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) فيما عليكم، ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) أي: تفوزون.
(ولعل) لتغييب المآل، لئلا يتكلوا على الآمال، أي حتى لا يقطع لهم بالفلاح فيتكلوا في هذه الحالة على مجرد الآمال.(29/21)
فضل خواتيم سورة آل عمران
نختم الكلام في تفسير هذه السورة الكريمة بذكر بعض ما ورد من فضائلها: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ))، ثم قام فتوضأ واستن -يعني: تسوك- ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح) وهكذا رواه مسلم.
ورواه البخاري بطريق أخرى: (حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري، قام فمر بي، فقال: من هذا عبد الله؟ قلت: نعم، قال: فمه؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليل، فقال: الحق، فلما دخل قال: افرش عبد الله، فأتى بوسادة من مسوح، قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه قاعداً، قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس، ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) إلى آخر السورة، ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن بين يدي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعظم لي نوراً يوم القيامة).(29/22)
تفسير سورة النساء [1 - 4](30/1)
مقدمة في فضل سورة النساء ووقت نزولها وسبب تسميتها بالنساء
نشرع بإذن الله في تفسير سورة النساء، وقد روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت سورة النساء بالمدينة)، وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت، وقد زعم النحاس أنها مكية، مستنداً إلى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، نزلت بمكة اتفاقاً في شأن مفتاح الكعبة، وهذا المستند واهٍ، يعني: الاستناد إلى أن هذه الآية نزلت في مكة غير صحيح، حتى لو صح أن هذه الآية نزلت بمكة؛ لأنه يمكن أن تكون السورة مدنية وتكون فيها آية أو آيتان أو أكثر نزلت في مكة، خصوصاً أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبل الهجرة فهو مكي، حتى لو كان هذا الذي نزل بعد الهجرة في خارج المدينة أو في مكة نفسها كهذه الآية.
فحد المكي والمدني: أن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنياً بغض النظر عن مكانه، ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه، حيث تم فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة، والقصة معروفة وسيأتي عليها الكلام إن شاء الله.
ومما يرد عليه أيضاً ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم) ودخول النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها كان بعد الهجرة اتفاقاً، وقيل: نزلت عند الهجرة.
وآياتها مائة وسبعون وخمس، وقيل: وسبع، كذا في الإتقان.
وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، الآية الأولى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40].
الآية الثانية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31].
الثالثة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48].
الرابعة: قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]).
وروى عبد الرزاق عنه أيضاً قال: (خمس آيات من النساء لهن أحب إليّ من الدنيا جميعاً: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31] إلى آخر الآية، وقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]).
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء خيرٌ لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، أولهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26].
الثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].
الثالثة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28])، ثم ذكر قول ابن مسعود سواءً في الخمسة الباقية.
وسميت هذه السورة سورة النساء؛ لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.(30/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].(30/3)
حقيقة التقوى وموجباتها
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)) أي: اخشوا أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ثم نبههم على اصطفائه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى، يعني: ما صفات هذا الإله سبحانه وتعالى الذي أنتم مأمورون باتقائه، قال عز وجل: ((الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ))، يعني: فرعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وهذا مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على هذا كان قادراً على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم، فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته.
كذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: ((الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) إلى آخر الآية، فإنها تعني: أنه سبحانه أهل لأن يتقى؛ لأنه هو الذي خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها إلى آخره.
كذلك أيضاً: جعله تعالى إيانا صنواناً مفرعة من أرومة واحدة، أي: أن أصلنا واحد وهو آدم عليه السلام، فمن موجبات هذا أن نحترز عن الإخلال بما أمرنا بمراعاته فيما بيننا من حقوق الأخوة، ومن صلة الأرحام، فحق هذه الأخوة أن تراعى حقوقها، وحق هذه الأرحام أن توصل، كذلك رعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح، فهذه كلها من الحقوق التي تستوجبها هذه الرابطة التي تربطنا بني البشر بعضنا ببعض، سيما إذا وجدت معها الرابطة الإيمانية، ولو لم توجد الرابطة الإيمانية، فمعروف أن للأرحام حرمة، والعدل يكون محموداً مع كل الناس سواء اليتامى أو الزوجات.
هذا كله مما يتفرع عن ثبوت هذه الرابطة النسبية في عودتنا جميعاً إلى أصل واحد وهو آدم عليه السلام، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار -أي: من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} حتى ختم الآية، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، ثم حضهم على الصدقة، فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره)، إلى آخر الحديث.
كذلك أيضاً صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في حديث خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولها بين يدي كلامه وخطبه وحاجته، كان يقرأ ثلاث آيات وهذه الآية منها: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) إلى آخر الآية.
((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) أي: من نفسها وهي حواء عليها السلام.
لم يجعل الله سبحانه وتعالى الزوجات من خارج أنفسنا؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يقتضيه الزواج من السكينة والمودة والرحمة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21] يعني: من جنس البشر، فالإنسي لا يتزوج بجنية والجني لا يتزوج بإنسية.
ثم قال تعالى: ((وَبَثَّ مِنْهُمَا)) أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها عن طريق التوالد والتناسل: ((رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)) أي: كثيرة، هنا ترك التصريح بصيغة الكثرة في حق النساء للاكتفاء بالوصف المذكور؛ لأنها تفهم من السياق: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كثيرة.(30/4)
صلة الأرحام حكمها وفضلها
((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)) تكرار للأمر بالتقوى، وتذكير بشيء آخر من موجبات الامتثال له؛ فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى من موجبات تقوى الله سبحانه وتعالى، أي: اتقوا الله الذي أنتم جميعاً تعرفون قدره وتعظمونه تبارك وتعالى، حيث أن بعضكم حينما يريد أن يستعطف البعض الآخر، فإنه يقول: أسألك بالله، أو أنشدك بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو أعظم شيء عند المؤمن؛ وذلك لأنكم تعظمون الله في أيمانكم هذه فينبغي أيضاً أن تتقوه.
((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)) أصلها (تتساءلون) فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً.
وقرئت بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس.
وقرئ (تسألون به) يعني من الثلاثي يعني: (تسألون به غيركم) وقد فسر به القراءة الأولى والثانية.
وحمل صيغة التفاعل (تساءلون به) على اعتبار الجمع، كما في قولك: إذا كنت وحيداً تقول: رأيت الهلال، أما إذا كنتم مجموعة فتقولون: تراءينا الهلال، لكن صيغة تراءى تفاعل، تكون في الجمع فكذلك هنا؛ لأنكم جميعاً تسألون الله فلذلك عبر بصيغة التفاعل (تساءلون به) أو (تتساءلون به).
((وَالأَرْحَامَ)) قرأها حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور (به) أي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ) أي: (الذي تتساءلون به وبالأرحام) لأن عادة العرب أنهم كانوا يناشدون بعضهم بعضاً بالله والرحم، يعني: وأسألك بالرحم.
أما باقي القراء غير حمزة فإنهم قرءوها بالنصب عطفاً على لفظ الجلالة: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ))، يعني: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، قرن الله عز وجل صلة الرحم باسمه الجليل دلالة على خطورة وأهمية صلة الرحم، كما في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]؛ لأن الوالدين أقرب الرحم، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36]، وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني، قطعه الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع -يعني: قاطع رحم-).
وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها).
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم، والترهيب من قطيعتها كثيرة.(30/5)
حكم المسألة بالله تبارك وتعالى
هذه الآية تدل على جواز المسألة بالله تبارك وتعالى، ووجه ذلك: أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)).
أما من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله فهذا محظور قطعاً، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، على أحد التفسيرين.
إذاً لا ينبغي امتهان اسم الله عز وجل بأن تدخله في كل صغيرة وكبيرة وفي الأمور الحقيرة، أو الأمور التي ليس فيها تعظيم، بل اجعل اسم الله والحلف باسم الله في الأمور العظيمة التي لها شأن.
فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث الوارد بلعن من سأل بوجه الله (ملعون من سأل بوجه الله).
ومن الأدلة على جواز السؤال بالله قوله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) والشاهد هنا قوله: (من سألكم بالله فأعطوه) لذلك فإن المتسولين إذا عرفوا هذا الحكم ظفروا به، وقد يخشى أن يسيئوا استخدامه، فإنه إذا سألك السائل بوجه الله فيجب عليك قطعاً أن تعطيه، وأن تجيبه تعظيماً لاسم الله تبارك وتعالى: (من سألكم بالله فأعطوه) لا ترده بأي حال من الأحوال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه).
وعن ابن عمر مرفوعاً والحديث ضعيف: (من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة).
وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع وذكر منها: وإبرار القسم)، يعني: إذا أقسم عليك أخوك أن تبرئ قسمه.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة)، المقصود: من سأل بوجه الله في غير بر، أو وصولاً إلى مصالح دنيوية، أو كان ذلك على غير سبيل التعظيم والإجلال.
روى الطبراني عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجراً) أي: ما لم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق وهذا الحديث فيه كلام.
وفي الحديث أيضاً: (شر الناس رجل سئل بوجه الله ولم يعط).
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))، أي: مراقباً لجميع أحوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] وكما قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]، وفي الحديث: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
يقول السيوطي رحمه الله: سورة النساء مدنية وآياتها مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: أهل مكة.
((اتَّقُوا رَبَّكُمُ)) أي: عقابه بأن تطيعوه.
((الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) آدم.
((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) حواء، بالمد، خلقها من ضلع من أضلاعه -أي: أضلاع آدم- اليسرى.
((وَبَثَّ)) أي: فرق ونشر ((مِنْهُمَا)) أي: من آدم ومن حواء.
((رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)) كثيرة.
(واتقوا الله الذي تسَّاءلون) -بتشديد السين- فيه إدغام التاء في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي: (تساءلون).
(به) أي: فيما بينكم، حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله، وأنشدك بالله.
((وَالأَرْحَامَ)) (و): واتقوا (الأرحام) أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفاً على الضمير في (به) وكانوا يتناشدون بالرحم.
((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) أي: حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها، أي: لم يزل متصفاً بذلك.
(كان) في مثل هذا الموضع تفيد الاستمرار، ولا تفيد التعبير عن الماضي ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) أي: وما زال عليكم رقيباً.(30/6)
تفسير قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)
قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2].(30/7)
حقوق اليتامى في الإسلام
(وآتوا اليتامى أموالهم) هنا شرع في تفصيل موارد التقوى ومظانها بعد الأمر بها، وقد قدم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم، ولملابستهم بالأرحام، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء، وقلما تفوّض الوصايا إلى الأجانب، بل الغالب أن الأولياء الذين يلون شئون اليتامى بعد موت آبائهم إنما يكونون من الأقارب كعمه أو جده.
واليتامى لو طبقت تعاليم الإسلام في حقهم، لكانوا أعظم أو أرقى أو أغنى أو أرفه طبقة في المجتمع، فالإنسان له أب واحد، أما اليتيم فمقتضى الشرع أن المسلمين جميعاً مسئولون عنه ويحسنون إليه، ويلون أمره، فكأن كل المسلمين حوله بدلاً عن أبيه، ومع ذلك نرى ما نراه في واقعنا الآن للأسف الشديد.
إن الله سبحانه وتعالى كما تلاحظون هنا قرن الكلام في حقوق اليتامى بحقوق النساء، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة) يعني: أنتم في حرج إن ضيعتم حق هذين الضعيفين.
فالخطاب هنا للأولياء.(30/8)
تعريف اليتم لغة وشرعاً
اليتيم هو من مات أبوه، وهو من اليتم، ويعني: الانفراد؛ ولذلك يقولون (الدرة اليتيمة) أي: التي لا نظير لها، أو التي لا أخت لها.
فاليتم لغة: الانفراد.
أما من حيث الشرع فاليتيم هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم، أما بعد الاحتلام فلا يعد يتيماً بعد احتلام، لكن هذا هو أصل الوضع اللغوي.
والقياس الاشتقاقي يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، كما روى أبو داود بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتم بعد احتلام).(30/9)
الأوجه المستنبطة من قوله: (وآتوا اليتامى أموالهم)
هذه الآية: ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)) فيها وجوه: الوجه الأول: أن المراد باليتامى: الكبار الذين ألفي منهم رشداً، هذه إحدى الصور التي يطلق عليها المجاز الذي هو باعتبار ما كان من قبل.
إذا قلنا: إن اليتيم بالمعنى الشرعي هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم؛ إذا بلغ الحلم يزول عنه وصف اليتم، فبناءً على هذا المذهب، فإن المقصود باليتامى هم الكبار؛ لأن الأموال تؤتى لليتامى إذا كبروا وبلغوا سن الرشد، ويكون البلوغ والرشد معاً.
عبر هنا باليتامى باعتبار الصفة التي كانت من قبل، مع أنهم الآن ليسوا يتامى، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46].
والمقصود: الذين كانوا سحرة منذُ وقت قريب؛ لأنه لا سحر مع السجود لله، فهم قد تابوا من السحر {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] هذا باعتبار ما كان.
فالإشارة هنا بقوله: (وآتوا اليتامى) إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم متى بلغوا وآنستم منهم رشداً.
إذاً: الله سبحانه عبر عنهم بوصف اليتامى مع أنه قد زال عنهم هذا الوصف، فآثر هذا التعبير باعتبار أن العهد باليتم كان قريباً جداً.
الوجه الثاني: ((وَآتُوا الْيَتَامَى)) أن المراد بهم: الكبار حقيقة، فتكون واردة على أصل اللغة، بمعنى أن اليتيم في اللغة: من مات أبوه وانفرد عنه، بغض النظر صغيراً كان أم كبيراً، وهذا الوجه مبني على أصل اللغة.
الوجه الثالث: ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)) المقصود بهم: اليتامى الصغار، والمراد بالإيتاء هو ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة زمن الوصاية عليهم، وليس المقصود دفع المال كله إليهم، وهذا الوجه في التفسير بعيد.
الوجه الرابع: (وآتوا اليتامى أموالهم) المقصود بهم اليتامى الصغار، والمعنى أن ينفقوا عليهم وألا يطمع في الأموال الأولياء والأوصياء، وأن يكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى إذا ما بلغوا ورشدوا تؤتى إليهم أموالهم كاملة غير منقوصة، هذا هو الوجه الرابع.(30/10)
صور إتلاف مال اليتيم وأكلها وحكمها
قوله تعالى: ((وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)) أي: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، وما أبيح لكم من المكاسب التي أحلها الله من الأبواب الطبية.
عندكم فرص كثيرة استثمروا أموالكم أو ازرعوا أو اصنعوا أو اتجروا، ولا تضيقوا على أنفسكم بأن تعتدوا على أموال اليتامى التي هي خبيثة في حقكم وحرام عليكم وأنتم قادرون على الطيبة.
((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ))، نهي عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، وهو أنهم كانوا يأكلونها مضمومة إلى أموالهم مخلوطة بها للتوسعة.
في الصورة السابقة يعمد المرء إلى مال اليتيم ويستولي عليه ويأكله ظلماً.
((إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا))، (إنه) الهاء هنا تعود إلى أكل أموال اليتامى.
((كَانَ حُوبًا)) أي: ذنباً عظيماً ((كَبِيرًا)) مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور.
قوله تعالى هنا: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} قال بعض العلماء: إن هذا العموم مخصوص بالوصي الفقير، فإذا كان الوصي يعمل في مال اليتيم فله أن يأخذ أجرة المثل، أو كان العامل فيه أجنبياً فله أن يعطيه من مال اليتيم أجرة المثل، وليس هذا من أكل مال اليتامى ظلماً؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6].
يقول السيوطي: عندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية؛ لأن الآية هنا في الغني، وذلك قوله تعالى: ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)) أي: أنهم ذوو أموال.
يقول السيوطي: ((وَآتُوا الْيَتَامَى)) أي: الصغار أموالهم إذا بلغوا.
((وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ)) أي: الحرام ((بِالطَّيِّبِ)) أي: الحلال، لا تأخذوه بدله، كما تفعلون من أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه.
((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)) أي: مضمومة إلى أموالكم.
(إنه): أي: أصلها.
(كان حوباً) أي: ذنباً.
(كَبِيرًا) أي: عظيماً.(30/11)
تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)
يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء:3] (خفتم) بمعنى علمتم.
وقال بعض العلماء: الخوف هنا معناه: الخشية.
وإليك شاهد لغوي للمعنى الأول الذي هو بمعنى العلم، يقول أبو محجن الثقفي: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة يروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها فقوله: (أخاف) أي: أعلم.
وهذا الشاهد اللغوي موجود في أضواء البيان.
{أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] المقصود باليتامى هنا: يتامى النساء.
قال الزمخشري ويقال للإناث: اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: (أيامى) والأصل (أيائم) ويتائم.
فحصل قلب فصارت يتامى.
{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] أي: من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن والعقل والصلاح منهن.
((مَا طَابَ لَكُمْ))، عبر هنا بـ (ما) التي هي لغير العاقل؛ لأنه يجوز التعبير بـ (ما) عن العاقل إذا أريد بها الصفة، تقول: ما زيد؟ يعني: هل هو رجل فاضل؟ هل هو رجل كريم أم بخيل؟ فإذا كان الكلام لبيان الصفة، فيجوز استعمال (ما) للعاقل كما في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم) المقصود هنا أن (ما) صفة.
هذه الآية دليل على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، إذ كانت هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تطيب له إذا رآها.
كذلك يستفاد هذا المعنى من آية أخرى في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، وهذا لا يكون إلا بعد النظر.
وهناك إشارة ضمنية في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] (من) هنا تبعيضية؛ لأن هناك بعض الحالات يجوز فيها إطلاق البصر كحالة إرادة الزواج.
{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] أي: إن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات، فإنهن كثيرات، ولم يضيق الله عليكم.
هذه الآية جاءت للتحذير من التورط في الجور عليهن، والأمر هنا في قوله: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)) سوى اليتامى.
((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)) أي: اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، ففي غير يتامى النساء متسع إلى الأربع.
روى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق -يعني: نخلة- وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3]، أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله).
وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: (هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهو عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن).
قال عروة: قالت عائشة: (وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت عائشة: فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كنّ قليلات المال والجمال).
روى أبو داود رحمه الله تعالى عن ربيعة في قوله تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا))، قال: أي اتركوهن إن خفتم ألا تقسطوا فقد أحللت لكم أربعاً.
قوله تعالى: (ما طاب لكم) (ما) موصولة، وجاء بـ (ما) مكان (من)؛ لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر، يعني: أحياناً قد يعبر عن العاقل بـ (ما) كما يعبر عنه بـ (من) كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]، والمعنى: (ومن بناها) وقوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3]، وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] هنا التعبير عن غير العاقل، لكن عبر عنه بـ (من) لأنهما يتعاقبان.
قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول.
إن في إيثار الأمر بنكاح غير اليتامى من النساء عن نكاح اليتامى مزيد لطف في استنزالهم لذلك؛ لأن الآية لو قالت: (لا تنكحوا اليتامى) كان فيها نهي، فالنفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه.
ولذلك فهذه الآية قد حفت بالمرغبات لهن في غير اليتامى، حيث وصف النساء عدا اليتامى بقوله: (ما طاب) وهذا كما قلنا: فيه نوع من الحث والترغيب والاستمالة بعيداً عن اليتامى؛ حتى لا تظلمونهن.
اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، بمعنى أنه يجوز لمن لم يخف عدم القسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.(30/12)
حكم الزواج بأكثر من أربع
نذكر باختصار كلام الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) يقول الشوكاني: إن الاستدلال بقوله: ((مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ))، على تحريم الزيادة على الرابعة في النساء هذا غير صحيح من حيث اللغة، لكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وإن كان في كل واحد من هذه الأحاديث التي وردت في شأن بعض الصحابة الذين كان تحتهم أكثر من أربع نسوة مقال.
لكن أصح ما ينبغي الاعتماد عليه، في هذا الباب هو انعقاد الإجماع على تحريم نكاح ما فوق الأربع من النساء.
فقد يقول بعض الناس: كيف الإجماع مع أن الآية عامة: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ))، بعض الناس قالوا: (مثنى وثلاث) تجمع على خمسة وزيادة (ورباع) المجموع تسع نساء، فأجازوا نكاح التسع، ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبض عن تسع نسوة.
وقال بعضهم (مثنى) أي: ثنتين ثنتين، (وثلاث) أي: ثلاث ثلاث، (ورباع) أي: أربع أربع والمجموع ثمانية عشر.
فإذا كانت الآية عامة، فهل الإجماع ينتسخ؟ الإجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ، لكن الإجماع يكشف عن وقوع الدليل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع إنما يتم بناء على دليل، حتى ولو لم نقف على عين الدليل.
إذاً أقوى ما يستدل به هنا هو الإجماع، يقول الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: إجماع الأمة على تحريم ما زاد على الأربع نسوة قبل ظهور المخالف الضال، ويرمي بذلك بعض الظاهرية؛ لأنهم هم الذين انحرفوا وشذوا عن هذا الإجماع، فالإجماع انعقد قبل ظهور داود الظاهري وابن حزم وغيرهما.
والإجماع هو ممن يعتد به من أهل العلم، ويريدون بكلمة: (يعتد به) الاحتراز عمن يخالفون الإجماع خاصة الظاهرية؛ لأنهم بإنكارهم القياس يصيرون ممن لا يحتج بكلامهم إذا خالفوا، وعلى أي الأحوال هناك من قال: إن النقل عن الظاهرية لم يصح.
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3]، إن خفتم أن لا تعدلوا بين الأربع النسوة {فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، وفي قراءة (فواحدةٌ) بالضم.
أي: فحسبكم واحدة.(30/13)
حكم التسري بأكثر من واحدة والعدل بينهن
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] أي: من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد؛ لأنه لا يجب لهن من الحقوق مثلما يجب للحرائر، ولا قسم لهن.
(أو) المقصود بها التسوية والتخيير.
قال الزمخشري: سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة، وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغباً وأخف مؤنة من المهائر -يعني: من الحرائر-، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.
{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] أي: الاقتصار على واحدة، أو على نكاح الإماء بالتسري، (أدنى) أي: أقرب (أن لا تعولوا) أي: ذلك أقرب ألا تميلوا، ولا تجوروا لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول، يعني: لو كانت حرة واحدة أصالة زال احتمال الجور، وانتفاء خطره في الثاني إذا نكحتم الإماء، في هذه الحالة ينتفي الخطر بخلاف اختلاف العدد في المهائر؛ لأن التعدد في الحرائر فيه الميل المحظور متوقع لتحقق أمرين: تحقق المحل، وتحقق الخطر، لتحقق المحل أم لمجرد التعدد في الحرائر، يصبح هو نفسه محل لهذه المخالفة التي هي عدم العدل، لكن إذا كانت واحدة فذلك يكون أدنى وأقرب ألا يقع في الجور والظلم والميل عن الحق، وهذا هو اختيار أكثر المفسرين {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3].
(تعولوا) من عال يعول إذا جار وعدل عن الحق.
ومن الوجوه المحتملة فيه: كونه مضارعاً، بمعنى: عال فلاناً عولاً وعيالةً أي: كثر عياله كأعول وأعيل، وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي في تفسيره حيث قال: أي: ذلك أقرب من ألا تكثر عيالكم، فيمكن معه القناعة، بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى.
تدل هذه الآية على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، كأن يخشى الإنسان من نفسه أن يقع فيما لا يجوز فينبغي أن يسد الذرائع، مثل: أن الإنسان لا يأمن نفسه إذا التقط اللقطة أن يطمع فيها ولا يحفظها لصاحبها ولا يعرفها، ففي هذه الحالة يحرم عليه أن يلتقط اللقطة، كذلك هنا إذا خشي مع تعدد الزوجات أن يقع في الجور والظلم ففي هذه الحالة ينبغي له أن يكف عن الزواج بأكثر من واحدة، كذلك لا يجوز لمن عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها فإنه لا يجوز له قبول الوديعة.
هناك إشكال وإجمال في مسألة الربط بين قوله تبارك وتعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}.
وهذه الآية التي بعدها مباشرة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3].
وهو أن قوله تعالى: ((ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)) أي: أدنى ألا تكثر عيالكم فتفتقروا وتضطروا إلى الجور في مال اليتيم الذي أنتم أوصياء عليه، في هذه الصورة يظهر لنا وجه الربط بين هذه الآية والتي قبلها.(30/14)
تفسير قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)
قال تبارك وتعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4].
(وآتوا النساء صدقاتهن) أي: أعطوا النساء مهورهن، جمع صدقة، أو صدُقة، والصدُقة هي: أحد أسماء المهر، فقد سمي أسماء كثيرة منها: (النحلة) أو (صدُقة) أو (مهر) أو (أجر).
والمقصود بقوله: (نحلة) أي: عطاء غير مسترد بحيلة تدفعهن إلى الرد.
والنحلة أو النُّحلة -بالكسر أو بالضم- اسم مصدر لـ (نَحلَ).
والنُّحل: هو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الأزواج؛ لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وتطييب الخاطر.
وهذا الخطاب في هذه الآية: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، إما للأزواج، وإما لأولياء النساء.
القول الأول: أن الخطاب للأزواج؛ لأن فيما قبله خطاباً للأزواج (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ثم قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، فمقتضى السياق أن يكون الخطاب هنا للأزواج.
والقول الآخر: في قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) أن الأمر هنا موجه إلى أولياء النساء؛ لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً؛ ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك الناتجة، ومعناه: أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك، فتنتج مالك ويكثر.
وقال ابن الأعرابي: الناتجة: ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله؛ ولذلك المهر هو من حق المرأة، ولا يجوز التصرف فيه إلا بإذن منها، سواء من وليها أو من أقاربها.
للأسف الشديد يوجد هذا الوضع في بعض البلاد إذا تزوجت المرأة فإنها توزع على العائلة كلها، على الخال والعم والأب والإخوة، هذا الوضع للأسف الشديد موجود، فهنا يأمر الله تبارك وتعالى الأولياء ألا يأخذوا أبداً من مال المرأة أو مهرها شيئاً، بل يمكنوها منه وهي حرة التصرف فيه.
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4].
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) الهاء هنا تعود على (صدقاتهن)، أي: فإن أحللن لكم من المهر شيئاً بطيبة نفس؛ جلباً لمودتكم لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم.(30/15)
حكم إسقاط المهر ابتداءً
لا يجوز إسقاط المهر ابتداءً بأي حال، ولا يصح أن يعقد على امرأة ويتفق مع وليها على إلغاء شيء من المهر أو كله، بل المهر لا بد منه في النكاح.
قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أي: فخذوه وتصرفوا فيه كأنكم تملكونه، وتخصيص الأكل بالذكر؛ لأن الأكل هو معظم وجوه التصرفات المالية.
((هَنِيئًا مَرِيئًا)) صفتان: من هنأ الطعام ومرأ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه.
وقيل الهنيء: هو ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء: هو حميد المغبة، وهما عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة؛ لأنهن كالرجال في الصدقات والتبرعات.(30/16)
ثمرات الآية الكريمة
لهذه الآية ثمرات منها: أنه لا بد في النكاح من صداق؛ وذلك لقوله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}.
ومنها: أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون.
ومنها: أن لها أن تتصرف فيه متى شاءت، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أو لا.
ومنها: أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها له، بشرط أن تطيب به نفساً.
وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} ويقول: إن المرأة إذا وهبت زوجها من المهر شيئاً ثم أرادت أن تسترده فللقاضي أن يحكم بإرجاعه إليها.
قالوا: إن هذه أمارة على أنها حينما أخرجته أخرجته عن غير طيب نفس منها؛ لأن هناك شبهة أن تكون أعطت برغبة أو بغير رغبة لم يتحقق الشرط فيه.(30/17)
تفسير سورة النساء [12 - 21](31/1)
تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)
انتهينا إلى تفسير الربع الأخير من هذا الحزب، والذي يبدأ بقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12].(31/2)
نصيب كل من الزوج والزوجة من بعضهما مع وجود الأولاد وعدمهم
قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) يعني: من المال.
(إن لم يكن لهن ولد) يعني: ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم، فكلمة (ولد) هنا تشمل الولد منكم أو من أزواج آخرين غيركم، سواء كان هؤلاء الأولاد ذكوراً أم إناثاً.
(فإن كان لهن ولد) يعني: على هذا النحو الذي فصلناه {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}، أي: من المال، والباقي لباقي الورثة.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، أي: من بعد استخراج وصيتهن، ومن بعد قضاء دينهن.
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، يعني: من المال.
{إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}، ذكر أو أنثى منهن أو من غيرهن.
{فإن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ))، على النحو الذي فصلنا سابقاً.
أي: ذكر أو أنثى، {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، يعني: هذا نوع من الحجب، وهو حجب نقصان، لا حجب إسقاط.
{فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وفي إعادة ذكر الوصية والدين دليل على الاعتناء بشأنهما ما لا يخفى، أي: تعظيم لشأن الوصية والدين، وقد سألنا من قبل: أيهما يكون مقدماً على الآخر الدين أم الوصية؟ فقلنا: يقدم الدين، لكن الله سبحانه وتعالى هنا قدم ذكر الوصية على الدين؛ للتنبيه إلى عظم شأنها والاهتمام بها.
وفي الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء، فإذا تأملتم في الآية فستجدون أن الله سبحانه وتعالى ذكر الرجال على سبيل المخاطبة، وذكر النساء على سبيل المغايبة، انظر إلى قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ}، فخاطب الرجال بضمير المخاطبة، وقال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فقال: ((فلكم الربع)).
أما النساء فخاطبهن بقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، إلى آخر الآية {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فكان الخطاب للنساء بضمير الغائب.
يقول القاسمي: في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء؛ لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضاً خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء كما فضلوا عليهن في النصيب.(31/3)
حقيقة الكلالة ومن يرثه ومقدار إرث كل واحد منهم
ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ}، يعني: إن كان الرجل يورث كلالة أو امرأة تورث كلالة كذلك.
{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا}، أي: هؤلاء الإخوة والأخوات من أم {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ}، يعني: أكثر من واحد {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}، شركاء في الثلث يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم، وقلنا: إن هذه حالة من الحالات التي يستوي فيها الذكر مع الأنثى.
والكلالة: من لا ولد له ولا والد، أي: لا أصل له ولا فرع، الأصل كالأب، والفرع كالأبناء، أو من تكلل نسبه بنسبك كابن العم وشبهه.
والكلالة في الأصل مصدر، كل الميت يكل كلاً وكلالة، يعني: فهو كلّ إذا لم يخلف ولداً ولا والداً يرثانه، وأصل كلمة كلالة أنها مصدر، ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث فتكون اسماً للميت الموروث، وإن كانت في الأصل اسماً للحدث على حد قولهم: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11]، وما المقصود من: (هذا خلق الله)؟ أي: هذا مخلوق الله، وجاز أن تكون اسماً للوارث على حد قولهم: رجل عدل، أي: عادل، ورجل كلالة يعني: يرث كلالة، وماء غور أي: غائر.
فالكلالة هو: الذي لم يخلف ولداً ولا والداً.
((وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً))، ذكر الله سبحانه وتعالى الكلالة في موضعين في سورة النساء: أولهما هذه الآية: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، والموضع الثاني: في آخر سورة النساء في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] إلى آخر الآية، فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والأخ للأب والأم.
وعن الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: (إني قد رأيت في الكلالة رأياً، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه: أن الكلالة ما خلا الولد والوالد).
واتفق العلماء على أن المراد من قوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}، أن المقصود به الأخ والأخت من الأم، وهذا باتفاق العلماء، (وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ) من الأم.
((أَوْ أُخْتٌ))، من الأم.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم.
قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا؛ لأن هذا المذكور في الآية باتفاق العلماء يخالف ميراث المذكورين هنا.
يعني: أن الأخ لأم أو الأخت لأم يخالف نصيبهما نصيب الإخوة للأبوين أو الإخوة لأب.
فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176]، هم الإخوة لأبوين أو لأب.(31/4)
تفسير قوله تعالى: (تلك حدود الله)
قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء:13]، أي: تلك الأحكام محدودة لا تجوز مجاوزتها.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، يعني: في قسمة المواريث وغيرها.
{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تجري الأنهار من تحت أشجارها ومساكنها.
{خَالِدِينَ فِيهَا} أي: لا يموتون ولا يخرجون.
{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، أي: النعم الوافرة في الجنة.(31/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله)
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14]، في قسمة المواريث وغيرها.
{وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}، يعني: بتجاوز أحكامه وفرائضه في الميل والجور.
{يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ لكونه غيَّر ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم، وقد روى أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار، وقرأ أبو هريرة قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء:11]، حتى بلغ {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ})، ورواه الإمام أحمد بسياق أتم ولفظه: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة، قال: ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}، إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ}).
ثم بين تعالى بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء إثر بيانه لأحكام المواريث، وكما تعلمون فإن هذه السورة من الطوال حملت اسم النساء لتضمنها الكثير من تفاصيل أحكام النساء، فبعدما فصل الله سبحانه وتعالى أحكام المواريث، ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالنساء.(31/6)
كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم وله عذاب مهين)
أولاً نعود لكلام السيوطي يقول رحمه الله تعالى: ((وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ))، منكم أو من غيركم.
((فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ))، وألحق بالولد في ذلك ولد الابن بالإجماع.
(ولهن) يعني: الزوجات تعددن أو لا.
((وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ))، منهن أو من غيرهن.
((فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ))، وولد الابن في ذلك كالولد إجماعاً.
((وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً)) (يورث) هذه الجملة في محل رفع صفة لرجل، والخبر أي: وخبر كان هو كلمة (كلالة).
(وإن كان رجل يورث كلالة) يعني: إن كان رجل كلالة، وهذا الرجل صفته أنه يورث.
ولم نقل: إن الجملة حال؛ لأن الرجل نكرة.
(كلالة) مصدر كل، كل يعني: لا والد له ولا ولد.
(أو امرأة) يعني: تورث كلالة لا ولد لها ولا والد.
(وله) أي: للمورث كلالة سواء كان رجلاً أو أي شخص يورث كلالة.
(وله أخ أو أخت) أي: من أم وقرأ ابن مسعود وغيره هذه القراءة، مثل هذه القراءة تسمى: قراءة تفسيرية، يعني: أن الصحابي عندما يقرأ الآية يزيد فيها كلمة من عنده لتفسير المعنى، وليس هذا إضافة للقرآن، لكن هذه القراءة تسمى: قراءة تفسيرية، فكذلك هنا ابن مسعود لما قرأ هذه الآية قرأها قراءة تفسير وبيان لمعناها فقال: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}، من أم.
(فلكل واحد منهما السدس) يعني: مما ترك.
(فإن كانوا) أي: الإخوة والأخوات من الأم (أكثر من ذلك) يعني: أكثر من واحد، (فهم شركاء في الثلث) وكلمة (شركاء) هنا بمعنى أنه يستوي في ذلك ذكرهم وأنثاهم، فهذا من المواضع التي يستوي فيه الذكور والإناث.
((مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ))، حال من ضمير يوصى، أي: غير مدخلٍ الضرر على الورثة بأن يوصي المورث بأكثر من الثلث.
والإضرار كما ذكرنا من قبل له صور كثيرة منها: الإضرار في الوصية؛ وذلك بأن يوصي أكثر من الثلث حتى يقلل نصيب الورثة من ميراثه.
قوله: ((وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ))، فهذا مصدر مؤكد ليوصيكم، بمعنى: يوصيكم وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ.
((وَاللَّهُ عَلِيمٌ))، أي: بما دبره لخلقه من الفرائض.
((حَلِيمٌ)) [النساء:12]، أي: بتأخير العقوبة عمن خالفه.
وخصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق.
يعني: هذه موانع الإرث، فإذا وجد مانع منها فإن السنة هنا تخصص عموم القرآن، بمعنى: أن الولد يرث أباه، أو أي شخص يرث من مورثه، فإذا اختلفا في الدين فإنه يمنع من الإرث.
كذلك شخص قتل مورثه ليتعجل وراثته، فهذا يعاقب بنقيض قصده؛ لأن القاعدة تقول: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
فكذلك إذا قام الوارث وقتل مورثه؛ ليتعجل ميراثه فالشرع هنا يعاقبه بالحرمان من الإرث منه، وهذا من حكمة الشارع؛ لأن هذا يسد باب اتخاذ ذلك القتل ذريعة للحصول على هذا الميراث؛ لأنه إذا علم أنه سيحرم لن يعمد إلى إراقة دمه، فإذاً السنة خصت توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل، أو اختلاف دين؛ لأنه (لا يتوارث أهل ملتين شتى) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو رق فلا يرث من فيه مانع من موانع الميراث الثلاثة هذه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم)، وهذا متفق عليه.
(تلك حدود الله) أي: تلك الأحكام المذكورة من أمر اليتامى وما بعده حدود الله وشرائعه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها.
(ومن يطع الله ورسوله) بما حكما به.
(يدخله) أو (ندخله) بالياء والنون التفاتاً.
(جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم).
(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله) أو ندخله (ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) يعني: له فيها عذاب مهين ذو إهانة، وروعي في الضمائر في الآيتين لفظ (من)، وروعي في (خالدين) معناها.(31/7)
تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة)
قال تبارك وتعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15].(31/8)
حكم من أتت الفاحشة أول الإسلام قبل الجلد والرجم
(واللاتي يأتين الفاحشة) أي: الخصلة البليغة في القبح وهي الزنا.
(من نسائكم) يعني: حال كونهن من نسائكم.
(فاستشهدوا عليهن) يعني: اطلبوا من القاذفين لهن بالفاحشة (أربعة منكم) يعني: من المسلمين، اطلبوا شهادة أربعة ممن قذفوهم أو قذفوهن.
(فإن شهدوا) يعني: إن شهدوا عليهن بالفاحشة.
(فأمسكوهن في البيوت) أي: احبسوهن فيها، ولا تمكنوهن من الخروج؛ صيانة لهن عن التعرض لسبب الفاحشة، وصيانة للمجتمع من شرهن، فهؤلاء يمسكن في البيوت.
(حتى يتوفاهن الموت) أي: يستوفي الموت أرواحهن، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيتها أو وتوفيها.
أو (حتى يتوفاهن الموت) يعني: ملائكة الموت، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11].
(أو يجعل الله لهن سبيلاً) أي: يشرع لهن حكماً خاصاً بهن، وفسرت (أو) بـ إلى أن يشرع لهن حكماً آخر، (فأمسكهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت) يعني: إلى أن يتوفاهن الموت، وقد مر بنا في تفسير مثل هذا المعنى، في آية سابقة في سورة آل عمران، حيث كانت كلمة (أو) بمعنى: إلى أن.
وهي قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:128]، ليس لك من الأمر شيء إلى أن يتوب الله عليهم، فكلمة (أو) هنا أتت بمعنى: إلى أن.
فكذلك هنا (فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن) يعني: هذه الغاية، إلى أن يتوفاهن الموت (أو يجعل الله لهن سبيلا) أي: إلى أن يشرع لهن حكماً خاصاً بهن، يعني: يطبق عليهن حكم الحبس في البيوت إلى أن يشرع الله لهن حكماً خاصاً بهن.(31/9)
حقيقة السبيل في قوله: أو يجعل الله لهن سبيلاً
قوله: (سبيلاً) أي: الطريقة المسلوكة.
وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده وجعل لهن سبيلاً، وهذه الآية من الآيات المهمة جداً في إثبات أن السنة فيها قسم يختص ببيان ما في القرآن، بل يستقل بأحكام غير موجودة في القرآن، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربد وجهه، وإذا سري عنه قال: خذوا عني خذوا عني) يعني: ثلاث مرات، ففي هذه المرة قال بعدما سري عنه قال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة).
وهذا مذهب الإمام أحمد أن الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة.
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه، فلما نزلت قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة).
إذاً هذا هو المقصود بقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً).(31/10)
تفسير قوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم)
قال تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16].(31/11)
حكم من أتى الفاحشة من الرجال أول الإسلام قبل الجلد والرجم
(واللذان) بتخفيف النون وتشديدها (واللذانِّ).
(يأتيانها) أي: الفاحشة.
(منكم) أي من الرجال.
(فآذوهما) بالسب والتعيير؛ ليندما على ما فعلا.
(فإن تابا وأصلحا) أي: أصلحا أعمالهما.
(فأعرضوا عنهما) بقطع الأذية والتوبيخ لهما، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب.
(إن الله كان تواباً) يعني: على من تاب.
(رحيماً) أي: واسع الرحمة، وهو تعيين للأمر بالإعراض.
وكما هو معلوم أن هذا الحكم في الآيتين بعضه منسوخ بالكتاب وبعضه منسوخ بالسنة.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين؛ لحديث عبادة بن الصامت.
ثم قال: فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين.
ثم قال: لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، أول ما نزل فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين، فلما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً ولم يجلده، وأمر أنيساً أن يغدو إلى امرأة الأسلمي فإن اعترفت رجمها، دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما.
خلاصة الكلام: أن جلد مائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، والرجم ثابت على الثيبين الحرين.(31/12)
كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة إن الله كان تواباً رحيماً)
يقول السيوطي في الآيات السابقة (واللاتي يأتين الفاحشة) أي: الزنا.
(من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) أي: من رجالكم المسلمين.
(فإن شهدوا) عليهن بها.
(فأمسكوهن) احبسوهن.
(في البيوت) وامنعوهن من مخالطة الناس.
(حتى يتوفاهن الموت) أي: ملائكة الموت.
(أو) بمعنى: إلى أن.
(يجعل الله لهن سبيلاً) طريقاً إلى الخروج منها، أمروا بذلك أول الإسلام ثم جعل لهم سبيلاً بجلد البكر مائة وتغريبها عاماً، ورجم المحصنة، وفي الحديث لما بين الحد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب ترجم، والبكر تجلد)، وهذا رواه مسلم.
(واللذان) بتخفيف النون وتشديدها.
(يأتيانها) أي: الفاحشة من الزنا أو اللواط.
(منكم) أي: من الرجال.
(فآذوهما) بالسب والضرب بالنعال.
(فإن تابا) أي: منها.
(وأصلحا) أي: العمل.
(فأعرضوا عنهما) ولا تؤذوهما.
(إن الله كان تواباً) على من تاب.
هذا أمر مهم جداً، انظر إلى دقة التفسير، تواباً على من تاب، وإنما أُخذ هذا من الآية التي بعدها: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، فالتوبة على من تاب وقال: يا ألله! تاب الله عليه.
(رحيماً) به، وهذا منسوخ بالحد إن أريد به الزنا، وكذا إن أريد به اللواط عند الشافعي.(31/13)
تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة)
يقول تبارك وتعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17].(31/14)
عدم إطلاق قبول التوبة في قوله: فإن تابا وأصلحا
(إنما التوبة على الله) هنا استئناف لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً، قد يفهم شخص من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} في خاتمة الآية السابقة أن الله تعالى تواب على الإطلاق لكل من عصى، فجاءت هذه الآية لتبين أن هذا الإطلاق مقيد بما سينطق به النص الكريم، ولذلك قدرها وحصرها بكلمة: (إنما) وهي مسوقة لبيان الاستئناف أو لرفع هذا الإيهام الذي قد يتوهمه البعض من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فاستأنف قائلاً: (إنما التوبة) لأن التوبة فقط لهؤلاء المذكورين في الآية.
فقبول التوبة من الله ليس على إطلاقه كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً، بل هو مقيد بما سيأتي بعد كلمة (إنما) بما سينطق بها النص الكريم.
(إنما التوبة) (التوبة) مبتدأ، وجملة: (للذين يعملون السوء) هذا هو الخبر.(31/15)
معنى: (التوبة على الله) في الآية
قوله: (إنما التوبة على الله) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه في قوله: (إنما التوبة على الله) أي: إنما التوبة التي يقبلها الله.
كلمة: (على) للدلالة على التحقق لحكم سبق الوعد، حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه وتعالى.(31/16)
المقصود بالجهل في الآية
قوله: (إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة) السوء هو المعصية صغيرة كانت أو كبيرة.
(بجهالة) يعني: يعملون السوء متلبسين بالجهالة، يعني: وهم جهلاء سفهاء، والباء للسببية، يعني: بسبب الجهالة، والمراد بالجهل: السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، فالجهالة هنا ليس المقصود بها عدم العلم، وإنما المقصود الجهل العملي، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، لكن المقصود هنا بالجهل: السفه، وذلك بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، كذلك الجهل بهذا المعنى الذي هو الجهل العملي السلوكي حقيقة واردة في كلام العرب، كقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا يعني: نعاقبه ونهلكه بما هو أعظم من جهله، وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا خرج من بيته: (اللهم إني أعوذ بك أن أجهل أو يجهل علي).(31/17)
معنى قوله: (ثم يتوبون من قريب)
(ثم يتوبون من قريب) يعني: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراك وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، يعني: أن التوبة من أي معصية واجبة على الفور لا على التراخي.
وهذا ما عبر عنه ابن القيم في كتابه الرائع (مدارج السالكين) الجزء الأول حينما قال: تأخير التوبة أو تسويف التوبة ذنب يجب التوبة منه.
تأخير التوبة في حد ذاته ذنب، يجب التوبة منه على الفور، فكذلك هنا قوله: (ثم يتوبون من قريب) يعني: يجب أن يسارع إلى التوبة مباشرة بعد المعصية، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده.
فإذا كانت التوبة من زمان قريب فهي بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً، إذ بتأخير التوبة وتسويفها يدخل في زمرة المصرين.
فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب، والإنابة إلى المولى بعده فوراً.
ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من صميم الإيمان، وهو واجب على الفور، أما ما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: (من قريب) يعني: ما قبل حضور الموت فهو بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه.
فهنا القاسمي رحمه الله تعالى يذهب إلى مرجوحية القول بأن قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} يعني: من زمن قريب من زمن المعصية، يعني: أنه يبادر فوراً إلى التوبة؛ لأنه إذا سوف التوبة وأخرها فهذا معناه أنه داخل في زمرة الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
يقول: إنما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: (من قريب) ما قبل حضور الموت فهو بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، وإنما تعني: المبادرة إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عياذاً بالله تعالى، لكن هل المعنى الآخر هو أن التوبة تقبل ما لم يغرغر العبد؟ هل هذا المعنى صحيح أم غير صحيح؟ قطعاً هو صحيح، لكن نقول: لا يصح الاستدلال بهذه الآية على قبول التوبة قبل حضور الأجل وبالحديث الذي فيه: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) الحديث دليل واضح في المسألة، وكذلك بهذه الآية التي تلي السابقة مباشرة وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18].
قلنا: يستفاد من الآية السابقة، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك، لا من قوله تعالى: (من قريب)؛ وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}، صريحة بأن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول، كل ما قبل حضور الموت داخل في حيز قبول التوبة، أما إذا حضر الموت فليست هناك توبة؛ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: (من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه قال أيوب فقلت له: إنما قال عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، أجل التوبة في عمر الدنيا كلها تنتهي بطلوع الشمس من مغربها، {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، يغلق باب التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها، فهذا في حق عمر الدنيا كلها، أما في حق عمر كل إنسان فالتوبة تقبل ما لم يغرغر، وهي واجبة عليه بمجرد الوقوع في المعصية، لا يجوز له تأخيرها وتسويفها؛ لأن تسويفها ذنب جديد، بل يجب المبادرة إلى التوبة.
وروى الحاكم مرفوعاً: (من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه).
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
(فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي: يقبل توبتهم.
(وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).(31/18)
تفسير قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات)
قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، يعني: عند النزع.
{قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}، قال ذلك عند مشاهدة ما هو فيه، حينما تنكشف الحجب، ويرى الملائكة، وتحضر الغرغرة، ففي هذه الحالة يقول: إني تبت الآن لا ينفعه ذلك ولا يقبل منه.
قوله: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي: لا تقبل توبة الذين يموتون وهم كفار، فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم؛ لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب، ولهذا قال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]، يعني: أعددنا لهم عذاباً مؤلماً.
في هذه الآية دليل على أن الذي يموت على الكبائر وهو مصر عليها ولم يتب أنه غير كافر، وأنه يكون تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.
والدليل كما قلنا في قوله تعالى: {وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161]، فدل على أنهم ليسوا بكفار، خلافاً للخوارج -ومن قال بقولهم- الذين يقولون: إن الإنسان إذا مات على كبيرة ولم يتب منها فهو كافر مخلد في جهنم، أما هذه الآية فتنفي التوبة عنه، لكن لا تثبت له وصف الكفر كما قال في شأن الكافرين: ((وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)).(31/19)
كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله أعتدنا لهم عذاباً أليماً)
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله: (إنما التوبة على الله) أي: كتب على نفسه قبولها بفضله.
(للذين يعملون السوء) أي: المعصية.
(بجهالة) يعني: حال كونهم جاهلين إذا عصوا ربهم.
(ثم يتوبون من قريب) أي: من زمن قريب قبل أن يغرغروا.
هنا السيوطي نحا منحى عامة المفسرين في تفسير ثم يتوبون من قريب وقد ذكرنا ما فيه.
(فأولئك يتوب الله عليهم) يعني: يقبل توبتهم.
(وكان الله عليماً) أي: بخلقه.
(حكيماً) في صنعه بهم.
(وليست التوبة للذين يعملون السيئات) يعني: الذنوب.
(حتى إذا حضر أحدهم الموت) يعني: أخذ في النزع.
(قال) عند مشاهدة ما هو فيه.
(إني تبت الآن) فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه.
(ولا الذين يموتون وهم كفار) إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا تقبل منهم.
(أولئك أعتدنا) أي: أعددنا.
(لهم عذاباً أليماً) أي: مؤلماً.(31/20)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً)
شرع تبارك وتعالى في بيان جملة أخرى من أحكام النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم.(31/21)
حال المرأة القريبة والمتوفى عنها زوجها في الجاهلية
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا إذا مات الرجل -هذا كان في شأن أهل الجاهلية- كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، يمسكها أهل الرجل).
حتى ابنه يمكن أن يتزوجها، فكانوا أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الرجل كان يرث امرأته لقرابته فيعضلها حتى تموت).
يعضلها يعني: يمنعها من الزواج حتى تموت، أو ترد إليه صداقها، فنهى الله عن ذلك.
قال السيوطي: ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه.
لأن هناك فرقاً بين المرأة الحرة وبين المال، فالمرأة ليست مالاً موروثاً يرثه أقرباء الميت كما يرثون المال، كما كان يفعل أهل الجاهلية، وإنما لا يجوز بحال استعباد الحر أو تملكه أو دخوله تحت اليد كما يفعل بالأموال.
قوله تعالى: ((لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا))، (كرهاً) بفتح الكاف وضمها كَرهاً أو كُرها، قراءتان، والمقصود هنا لا يحل لكم أن ترثوا النساء حال كونهن كارهات لذلك، أو مكرهات على ذلك، والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، يعني: التقييد بالكره لا يدل أنها عند حالة الرضا يكون ذلك جائزاً؛ لأن تخصيص الشيء للذكر لا يدل على نفي ما عداه، بل يجري هذا مجرى الغالب، ويخرج مخرج الغالب كما في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فالتقييد بخشية الإملاق هنا لا يدل على جواز قتل الأولاد عند عدم الإملاق.(31/22)
سبب نزول قوله تعالى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء)
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن هذه الآية في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به) أي: أنه يؤذيها ويضايقها ويحرج عليها ويستفزها، حتى تطلب هي الإبراء أو تطلب الخلع، فتتنازل له عن صداقها.
هو الذي كرهها وهو الذي لا يرغب في بقائها زوجة له أو الاستمرار معها، فبدل من أن يطلقها بالحسنى وبالمعروف، فإذا به يلجأ إلى هذه الحيلة اللئيمة، بأن يضيق عليها ويؤذيها حتى تطلب هي الطلاق، فانظر كيف يقول الله تعالى ((لا يَحِلُّ لَكُمْ)) ثم عطف على ذلك بقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، وللأسف الشديد نرى الآن كثيراً من الناس يتفننون في أذية المرأة، مثل هذه الحال هو يكرهها ولا يريد صحبتها، وفي نفس الوقت يريد ألا يعطيها حقها من الصداق أو مؤخر الصداق، فيستفزها ويضيق عليها من أجل أن تفتدي نفسها، وتطلب هي الطلاق مقابل التنازل عن المهر، فهذا يفعله من لا يتقون الله، ومن لا يخافون حساب الله، ولا يرجون لله وقاراً، فكون هذا الفعل يصدر من مسلم فهذه ليست أخلاق المسلمين، هذا العضل وهذه الأذية مما أنزل الله سبحانه وتعالى تحريمه صراحة في القرآن كما ترون.
يقول ابن عباس: (إن هذه الآية في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به) والعضل هو: الحبس والتضييق.
(ولا تضاروهن) يعني: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن.
(لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن) يعني: من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن.(31/23)
جواز مضايقة المرأة المرتكبة للفاحشة
(إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) يعني: زنا، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، في هذه الحالة إذا ارتكبت الفاحشة يجوز له أن يضيق عليها كي تقتدي وتختلع.
يعني: إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها، وتضيق عليها حتى تتركه لك، كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]، وقال ابن عباس: (الفاحشة المبينة: النشوز والعصيان).
واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله؛ الزنا والعصيان والنشوز وبذاءة اللسان وغير ذلك، يعني: أن هذا كله يبيح مضايقتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها.
وقال ابن كثير: وهذا جيد والله تعالى أعلم.(31/24)
حقوق صحبة الزوج مع زوجته ومعنى المعاشرة بالمعروف
بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، في الحقيقة إن الآية الواحدة من سورة النساء مثل هذه الآية قد تستغرق حتى نحاول أن نوفيها بعضاً من حقها شهوراً كاملة، لكن التزامنا بالاختصار حتى نقطع الورد المطلوب أسبوعياً هو الذي يجعلنا نضطر إلى الإيجاز أحياناً، فمثل هذه الآية {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وغيرها من آيات الأحكام لا تكاد تنحصر معانيها، وتستغرق عمراً طويلاً إذا أردنا أن نستوفي ما فيها من المعاني.
قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: صاحبوهن بالمعروف، يعني: الإنصاف في الفعل والإجمال في القول.
حتى لا تكونوا سبب الزنا بتركهن، أو سبب النشوز، أو سوء الخلق فلا يحل لكم حينئذ.
يقول السيوطي.
في الآية: وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم واللين في القول، وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب.
(وعاشرهن بالمعروف) فالحقوق التي تجب طبقاً لهذه الآية حقوق كثيرة جداً مادية وأدبية، استدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها، فيجب على الزوج أن يأتي لها بخادمة تخدمها؛ لأن هذا من المعاشرة بالمعروف.
{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، يعني: إن كرهتم الصحبة معهن.
{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، كلمة (عسى) في القرآن واجبة، يعني: وعد منجز من الله سبحانه وتعالى، والمقصود من الآية: أن اصبروا عليهن وأمسكوهن لعل الله سبحانه وتعالى يجعل فيهن خيراً كثيراً، بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً يكون فيه خير كثير، وبأن تنالوا الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن على خلاف الطبع؛ لأن هذا يكون من المجاهدة التي تثابون عليها.
قال إلكيا الهراسي: في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس.
حتى لو كان إبقاء المرأة والإمساك عليها مخالف لهواه، فإن التقي يمسكها ويعاملها بالمعروف، وهذا ومن المروءة، وفي الآية دليل على أن الطلاق مكروه، ونحن لا نستدل بالحديث الضعيف المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، لكن نستدل على كراهة الطلاق بقوله تعالى هنا: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، في هذه الآية دلالة على كراهة الطلاق.
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)، الفرك: هو البغض من كل وجه، يعني: تبغضه من كل وجه بحيث لا ترى فيه حسنة.
فيبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الزوج المؤمن لا يفرك زوجته المؤمنة؛ لأن الرجل المؤمن فيه الوقار والعقل الكامل والعدل والرزانة بحيث أنه يزن الأمور ويحسن تقديرها، فإنه إذا أبغض يكون معتدلاً في بغضه، فيحكم العقل والمروءة وقبل ذلك الشرع، فلا يبغضها من كل وجه، وإنما إذا كره منها خلقاً سرعان ما يتذكر أن لها خلقاً آخر يرضاه ويحبه، فهو يزن الأمور، لذلك لا يبغض المؤمن بغضاً من كل وجه، بخلاف المرأة فإنها إذا أبغضت تنسى كل ما مضى؛ لأنها لا تزن الأمور كما يفعل الرجال، هذا في الغالب إلا من رحم الله، وفي ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، فإن رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)، فهذه طبيعة عموم النساء إلا من رحم الله، أنها إذا أبغضت فإنها تكفر بالعشير، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بكفران العشير، أي: كفران نعمة الزوج أو فضل الزوج عليها، فتنسى كل ما مضى بمجرد أن تغضب أو تنفعل، بخلاف الرجل فهو يعلم أن العوج الذي في المرأة هو عوج فطري ليس عوجاً متكلفاً، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وكسر المرأة طلاقها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وهي على هذا العوج)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن يزن الأمور بهذه الطريقة بحيث يعلم أن العوج الذي في المرأة ليس من تكلفها، بل قسم كبير جداً منه يكون فطرياً جبلت عليه، فينبغي الصبر عليها، وعلى العموم في ضوء هذا الكلام ينبغي أن لا يغضب النساء من هذا؛ لأن هذا فيه عذر لهن، وتخفيف من وقوع الحرج عليهن، على أي الأحوال هذا هو الفرق بين الرجل والمرأة في البغض.
ذكر الفعل الأول قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، كان يمكن في غير القرآن الكريم الاستغناء عن هذا الفعل كأن يقال: فإن كرهتموهن فعسى أن يكون فيهن خير كثير، وحصر عليه هذا الحكم في الفعل الثاني الذي هو ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، لماذا؟ للتوصل إلى تعميم مفعوله، فكرر فعلين، يعني: إذا قال: فإن كرهتموهن فعسى أن يجعل الله فيهن خيراً كثيراً.
فتكون هنا الكراهة تتعلق بالمرأة فقط التي يبغضها، لكن كرر الفعل فقال: ((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ))، ثم قال: ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا))، يدل على عموم هذه القاعدة: أن الأمر ليس فقط مختصاً بكراهية الزوجات، ولكن المقصود به في عامة أحوالك وفي كل شئونك، هذه سنة من الله سبحانه وتعالى (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، كما نلاحظ عامة الناس يستدلون بها في كل مناسبة ولا يحصرونها في شأن النساء.
يقول أبو السعود: ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه وحصر العلية في الثاني للتوصل إلى تعميم مفعوله؛ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق حسب اقتضاء الحكمة، وإنما نحن في جزء من جزئياتها الذي هو أمر النساء، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لا يخفى، يعني: لو لم يكرر الفعل لم تأت كلمة: (شيئاً)، ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا))، فصارت فيها عموم لكل الأحوال.
في الحقيقة يذكر هنا تنبيهاً جليلاً في الوصية بالنساء والإحسان إليهن، نحاول أن نقتصر منه على ما نستطيع يقول: كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة وهي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
قال ابن كثير: أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، يعني: من صور المعروف هنا طيب الأقوال والألفاظ، وحسن الأفعال، والتزين بأن يلبس ما تستحسنه بحسب القدرة، فإن هذا من المعاشرة بالمعروف.
يقول تبارك وتعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، وهي درجة القوامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم -عوان يعني: أسيرات- ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً)، بعض الناس يفهمون هذا الأمر فهماً خاطئاً، ويطبقونه تطبيقاً خاطئاً، ويجهلون أن ضرب النساء مكروه، وهو إنما يباح بشروطه وضوابطه.(31/25)
بعض آداب عشرة النساء
قال الغزالي في الإحياء: الأدب الثاني: حسن الخلق معهن، واحتمال الأذى منهن ترحماً عليهن؛ لقصور عقلهن قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقال في تعظيم حقهن: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]، (ميثاقاً غليظاً) لبيان حرمة هذه المعاشرة، وقال: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]، قيل: هي المرأة.
ثم قال الغزالي رحمه الله تعالى: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، يعني: أن تحتمل الأذى الذي يصدر منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل.
وراجعت امرأة عمر عمر رضي الله تعالى عنه فقال: (أتراجعيني؟! فقالت: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك)، صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الغزالي رحمه الله تعالى: الأدب الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن، وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال، حتى روي: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة في العدو، فسبقته يوماً، وسبقها في بعض الأيام، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بتلك).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (سمعت أصوات أناس من الحبشة وهم يلعبون في يوم عيد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبين أن تري لعبهم؟! قالت: قلت: نعم فأرسل إليهم فجاءوا، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البابين فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه، وجعلوا يلعبون وأنا أنظر، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حسبك؟ وأقول: لا، لا تعجل مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: يا عائشة حسبك؟ فقلت: نعم).
وفي رواية للبخاري قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو).
وفي بعض الروايات بينت أنها ما كانت تقصد فقط أن ترى لعب الحبشة، لكنها أرادت أن تنظر النساء وتعلم الأخريات قدرها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال عمر رضي الله عنه: (ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلاً).
وقال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وهذا رواه الشيخان.
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله لقد كان ضحوكاً إذا ولج، سكوتاً إذا خرج، آكلاً ما وجد، غير سائل عما فقد.(31/26)
تفسير قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج)
لقد نهى تبارك وتعالى عن أخذ شيء من صداق النساء ممن أراد فراقهن، نهى الذي يريد فراق امرأة أن يأخذ منها شيئاً من صداقها، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20].
(وإن أردتم استبدال زوج) أي: إن أردتم تزوج امرأة ترغبون فيها.
(مكان زوج) ترغبون عنها، بأن تطلق زوجتك وتتزوج أخرى مكانها.
وكلمة: (زوج) هنا المقصود بها الزوجات يعني: هي هنا مفرد لكن المقصود بها الجمع، ولذلك قال بعدها: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) أي: مالاً كثيراً مهراً.
(فلا تأخذوا منه شيئاً) يعني: لا تأخذوا منه شيئاً يسيراً فضلاً عن الكثير، فإذا نهى عن القليل فهو يشمل بالأولى الكثير.
(أتأخذونه بهتاناً) يعني: باطلاً.
(وإثماً مبيناً) أي: بيناً، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أتأخذونه باهتين وآثمين؟!(31/27)
تفسير قوله تعالى: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض
قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] في الآية إنكار لأخذه إثر إنكار على سبيل التعجب، أي: بأي وجه تستحلون المهر.
(وقد أفضى بعضكم إلى بعض) أي: وصل بعضكم إلى بعض فأخذ عوضه.
(وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) أي: عهداً وثيقاً مؤكداً، هذا كله مزيد تأكيد، يعسر معه نقظه كالثوب الغليظ يعسر ويصعب جداً أن تشقه، فكذلك هنا الله سبحانه وتعالى يشير إلى أن العهد الوثيق الغليظ المؤكد هو الذي أخذه النساء من الرجال.
قال الزمخشري: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة.
ووصفه بالغلظ؛ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، بمعنى: أنك إذا صحبت قوماً عشرين يوماً فقد صارت لهذه الصحبة حرمة، ألسنا نسمع العوام يقولون: عيش وملح؟ وهذا الكلام كله في حق شخص سافر مع واحد في قطار ساعات أو أياماً، فكيف بما يكون بين الزوجين فهو أعظم حرمة من هذا الذي تعارف الناس على احترامه والوفاء بحقه؟! فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟! وقال الشهاب الخفاجي: قلت: بل قالوا: صحبة يوم نسب قريب، وذمة يعرفها اللبيب.
صحبة يوم واحد نسب قريب تجعل لهذا الذي صحبته يوماً حرمة عندك، وذمة يعرفها اللبيب، يعني: حسن العهد من الإيمان.
فهذا المعنى ينبغي أن يحيا وأن يجدد في قلوب الناس، وإلا فقد صرنا في هذه الأزمان نرى من التنكر للأخوة ولهذه الصحبة، وصار منتشراً الآن في أخلاق الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى، فالمؤمن يكون حسن العهد يراعي حرمة ما مضى.
والسياق هنا في شأن النساء.
قوله: (وكيف تأخذونه) يعني: كيف بك بين يوم وليلة إذا حصل بينك وبينها نزاع أو تريد أن تطلقها وتتزوج غيرها، وتقلب لها ظهر المجن وتنقلب رأساً على عقب بعدما كان لها هذه الحرمة وهذه الصحبة وهذه الحقوق وهذا العهد الغليظ الذي أخذه الله سبحانه وتعالى عليك؟! ثم بعد ذلك تنقلب إلى شخص لا ينظر إلا نظرة مادية يريد أن يستحوذ على حق هذه المرأة، وأن يأخذ من مالها الكثير؟ يقول تعالى: ((وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا))، يعني: وكنتم آتيتم إحداهن قنطاراً، يعني: مالاً كثيراً ومهراً (فلا تأخذوا منه شيئاً) هذا هو أول نهي وتنفير (شيئاً) يعني: ولو يسيراً فما بالك بالكثير؟! ثم يقول ثانياً: (أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبينا) يعني أتأخذونه آثمين باهتين ظالمين مبطلين؟ ثم مزيد من التعجب والاستغراب لهذا التطرف قوله تعالى: ((وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)) يعني: وأنتم بينكم من الحرمة ما ليس له نظير.
{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} يعني: ما يكون بين الزوجين من علاقة لا يمكن أن توجد بين شخصين آخرين.
(وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) فهذا مما يوجب مزيداً من الحرمة.
(وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) الميثاق الغليظ هو العهد الوثيق المؤكد، الذي يعسر نقضه كالثوب الغليظ يعسر شقه، أو هو التأكيد الذي أتاكم في القرآن الكريم وفي السنة إثر التأكيد بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فإن كنت ستمسكها فبمعروف، وإن كنت ستطلقها فبإحسان.
لا ترتكب الفجور في الخصومة بأن تنقلب إلى إنسان مادي لا يبحث إلا عن المال حتى ولو تعدى حدود الله.
وقيل: إن الميثاق الغليظ هو قول الولي عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.(31/28)
حكم المغالاة في المهور وآثاره
قوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) فيها دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك.
كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (ألا لا تغلوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليبتلى بصداق امرأته).
وقال: (إن الرجل ليغلي بصداق امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه)، قد يشق عليه الولي ويغالي في المهر حتى يذوق الويل من أجل جمع هذا المهر العسير، الذي كلف بأن يجمعه إلى أن يكون هذا المهر سبباً في وجود عداوة بينه وبين زوجته.
ثم ذكر القاسمي رحمه الله تعالى قصة المرأة التي راجعت عمر في ذلك إلى آخره، وهذه القصة لا تصح سنداً والله تعالى أعلم.
رغم إباحة الإكثار من المهر كما في هذه الآية {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} يعني: مالاً وفيراً مهراً صداقاً، لكن ورد ما يفيد الندب إلى تخفيف المهر وكراهة المغالاة فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير الصداق أيسره)، وذكر اليسير من المال هنا: (فلا تأخذوا منه شيئاً) تنبيه بالأعلى على الأدنى، خص تعالى ذكر من أتى القنطار من المال بالنهي، وذلك تنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهياً عن أخذ الشيء اليسير الحقير منها على هذا الوجه.
يعني: إذا كان الذي دفع قنطاراً منهياً عن أن يأخذ منه شيئاً يسيراً، فالذي دفع شيئاً حقيراً هو أولى أن لا يطلب منها شيئاً على الإطلاق.(31/29)
معنى الإفضاء في الآية وما يستقر به المهر
(وآتيتم إحداهن) معناها: وكنتم من قبل قد آتيتم إحداهن، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الأمر واقعة بعد إيفاء المال وبعد استقرار الزوجية.
وقد اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة، ومنشأ ذلك أن (أفضى) في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} يجوز حملها على الجماع كناية جرياً على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيا من ذكره، والخلوة لا يستحيا من ذكرها، فلا تحتاج إلى كناية، ويجوز إبقاؤها على ظاهرها.
على أي الأحوال هذا فيه بحث طويل يتعلق بمعنى الإفضاء هنا، يعني: هل هو مجرد الخلوة أم أن المقصود به الوطء؟!(31/30)
وجه الاستدلال بالآية في منع الخلع والأقوال في ذلك
قوله: ((وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)) بعض العلماء استدل بها على منع الخلع مطلقاً، وقالوا: إن هذه الآية ناسخة لآية البقرة التي تبيح الاختلاع.
وقال غيرهم: بل إن هذه الآية منسوخة بآية البقرة.
القول الثالث: لا ناسخ ولا منسوخ، بل إن هذه الآية تحرم أخذ الشيء من مال المرأة بدون طيب نفس منها، وآية البقرة تبيح أن تفتدي بأن يأخذ من مهر المرأة أو صداقها ما تطيب بها نفسها فلا تعارض إذاً بين الآيتين.
والله تعالى قال في سورة البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، هذا صريح في أن الزوجة إذا كرهت خُلُقَ زوجها أو خَلْقَهُ أو نقص دينه أو خافت إثماً بترك حقه أبيح لها أن تفتدي منه، وحل له أخذ الفدية منها؛ لقوله تعالى: ((وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ))، يجوز في هذه الحالة أن تفتدي وتبرئه.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ)) أي: ذاتهن ((كَرْهًا)) بالفتح والضم لغتان وقراءتان، كانوا في الجاهلية يرثون نساء أقربائهم، فإن شاءوا تزوجوهن بلا صداق أو زوجوهن وأخذوا صداقهن، أو عضلوهن، يعني: منعوهن من الزواج حتى يفتدين بما ورثنه أو يمتن فيرثوهن، فنهوا عن ذلك.
((وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)) يعني: ولا أن تعضلوهن أي: تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهن، ولا رغبة لكم فيهن وإنما تمسكوهن ضراراً.
((لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)) يعني: من المهر.
((إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)) الفاحشة المبينة: هي الزنا، أو نشوز فلكم في هذه الحالة أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن.
((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) أي: بالإجمال في القول، والنفقة، والمبيت.
((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ)) فاصبروا.
((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)) ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً.
((وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ)) أي: أخذ بدلها بأن طلقتموها.
((وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ)) يعني: وقد آتيتم إحداهن أي: الزوجات.
(قنطارا)(31/31)
تفسير سورة النساء [24 - 30](32/1)
تفسير قوله تعالى: (والمحصنات من النساء)
قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24].
قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخر الآية، ثم أضاف تبارك وتعالى إلى هؤلاء اللائي حرمن ممن ذكر، قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)) يعني: وحرمت عليكم أيضاً المحصنات من النساء.
والمحصنات تأتي بعدة معانٍ في القرآن الكريم، فتأتي بمعنى المتزوجات، كما في هذه الآية، وتأتي بمعنى العفائف، وتأتي بمعنى الحرائر.
ومعلوم أن الأصل في الفروج هو التحريم، وليس الإباحة، ولذلك نعجب كثيراً حينما نلاحظ بعض الإخوة يتساءل مثلاً يقول: هل أخو الزوج يعتبر أجنبياً على زوجة أخيه؟ نعم، يعتبر أخو الزوج أجنبياً على زوجة أخيه.
كذلك يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
والعبرة في الحكم على امرأة بالمحرمية، هو أن تحرم عليه على التأبيد، أما التحريم المؤقت فكل النساء حرام على الرجل إلا زوجته وما ملكت يمينه، كما سيأتي.
فالأصل في الفروج التحريم، فالمرأة التي تمشي في الشارع هذه محرمة، وزوجة الجار محرمة، وهكذا.
يقول تعالى هنا: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: حرمت عليكم أيضاً المحصنات، وهي في غير هذا الموضع تقرأ: المحصِنات أو المحصَنات، أما في هذا الموضع فباتفاق القراء لا تقرأ إلا بالفتح، ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج أو المزوجات، حرائر كن أو إماء، مسلمات أو غير مسلمات.
الحكمة من هذا التحريم هو حفظ الأنساب، فإذا لم تراع هذه الحدود فإنه ستختلط الأنساب وتضيع.
((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج من النساء، وقد حرم عليكم أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن، يعني: ما دامت هي في عصمة رجل آخر، فكي لا يختلط النسب يحرم عليكم أن تتزوجوهن إلا بعد أن يتوفى زوجها أو بعد أن يفارقها بالطلاق.(32/2)
معنى قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم)
قوله: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نفهمها فهماً صحيحاً، ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نقول: إلا من النساء اللائي سبين في الحرب ولهن أزواج.
فقوله: (إلا ما ملكت أيمانكم) ليست على إطلاقها، وليس المقصود هنا إلا من سبين ولهن أزواج، ولذلك قال السيوطي هنا: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، من الإماء بالسبي، يعني: ملكتموهن بالسبي، فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب، لكن بعد الاستبراء، يعني: بعد تبين براءة رحمها من الحمل وذلك بحيضة.
والسبب في هذا التقدير الذي ذكرناه أن الآية تتكلم على المحصنات، وهن ذوات الأزواج، فذوات الأزواج كما ذكرنا مسلمات أو غير مسلمات، حرائر أو إماء لا يجوز نكاحهن، فالكلام هنا في ذوات الأزواج من النساء اللائي سبين في الحرب فصرن ملك يمين لكم، فهؤلاء يجوز لكم أن تتزوجوهن، حتى ولو كن ذوات أزواج في دار الحرب.
لكن بشرط استبراء الرحم بأن تحيض حيضة فيستبين براءة رحمها من الحمل.(32/3)
معنى قوله: (كتاب الله عليكم)
قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24]، هنا نصب على المصدر، يعني: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، فكتاب الله هو مصدر مؤكد.
(كتاب الله عليكم) يعني: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه فرضاً فالزموه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وأحل لكم قراءتان: إما بالبناء للفاعل أو بالبناء للمفعول، يعني: (وأُحل لكم) والقراءة الأخرى: (وأَحَلَّ لكم ما رواء ذلكم) يعني: وأحل لكم الله سبحانه وتعالى ما وراء ذلكم سوى ما حرم عليكم من النساء المحرمات المعدودات في هذه الآية.(32/4)
معنى قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وما يستثنى من ذلك
قوله: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: أحل لكم سوى من ذكرنا من النساء غير الأم والبنت والأخت وهكذا، إلى هذه الآية: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، ما سوى هؤلاء المذكورات في الآيتين فهن حلال لكم.
ولا شك أن (ما) في هذه الآية تفيد العموم، لكن هذا العموم مخصوص بما استثناه الشرع، كالجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كما صح ذلك في السنة.
أما الجمع بين الأختين فقد ورد التحريم لذلك في القرآن كما في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، هذه في القرآن.
إذاً: عموم قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) مخصوص بمحرمات أُخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وإن كان بعض المفسرين ذهب إلى أن العمة والخالة داخلة في قوله تبارك وتعالى: ((وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ)).
لكن على كل حال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وبين عمتها، ولا بين المرأة وبين خالتها، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك.
ومن هذا التخصيص لهذا العموم: نكاح المعتدة، هذه المرأة التي تكون في العدة يحرم نكاحها أثناء العدة.
كذلك أيضاً: القادر على الحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة كما سيأتي إن شاء الله، فالقادر على التزوج من حرة لا يجوز له أن يتزوج أمة.
من ذلك أيضاً: الرجل الذي عنده أربع زوجات لا يحل له الخامسة وذلك بالإجماع، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم.
من ذلك أيضاً: الملاعنة، ونوع تحريم الملاعنة مؤبد، يعني: الرجل إذا لاعن امرأته وحصلت الملاعنة من الطرفين كما في سورة النور، في هذه الحالة بمجرد وقوع الملاعنة تحرم عليه إلى الأبد.
والدليل على ذلك هو من السنة، لكن هل هناك دليل من القرآن الكريم؟ نعم، بل جملة من الأدلة من القرآن الكريم التي تدل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التشريع.
هذا فيما يتعلق بالعموم في قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: من النساء المحرمات المعدودات، وهذا عموم خصصته السنة كما بيناه.(32/5)
معنى قوله: (أن تبتغوا بأموالكم)
قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا)) أي: أن تطلبوا النساء.
((بِأَمْوَالِكُمْ))، أي: بصداق أو ثمن، ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)).
قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))، (أن) بدل من (ما).
وهذا قول من الأقوال الصحيحة.
هناك قول آخر: أنه مفعول لأجله، (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا) يعني: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا النساء.
قوله تعالى: (بِأَمْوَالِكُمْ) يعني: أن تطلبوا ما رواء هؤلاء المحرمات من النساء تزوجهن ببذل الأموال وبصرفها في مهورهن بالصداق.(32/6)
معنى الإحصان والمسافحة
قوله: (مُحْصِنِينَ) يعني: متزوجين.
إعراب (محصنين) حال من فاعل (تبتغوا) يعني: حال كونكم محصنين.
والإحصان: هو العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم.
قوله: ((غَيْرَ مُسَافِحِينَ))، المقصود: غير زانين.
والسفاح: هو الزنا والفجور، وهو مشتق من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإن أراد الزنا قال: سافحيني، والمسافحة: أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.(32/7)
حكم تعجيل المهر وتأجيله والإسقاط منه قبل فرضه وبعده
((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ))، يعني: فما تمتعتم به منهن ممن تزوجتم بالوطء.
((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: مهورهن التي فرضتم لهن.
((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم أنتم وهن به من بعد الفريضة، يعني: من الحط منه إذا حصل بعدما أثبتم المهر، حصل أن رجلاً أعسر أو المرأة أرادت أن تسامحه في المهر كله، برضا نفس لا بأس، أو بأن تحط عنه بعضه فلا بأس، أو بالزيادة عليه فلا بأس.
لكن هل يجوز ابتداءً الاتفاق على إسقاط المهر؟ لا يجوز بحال أن يتم زواج بدون مهر، لكن يمكن بعدما يستقر المهر في ذمته أن تحط عنه كله أو بعضه برضاها.
قد يحصل أن يتزوج بدون أن يحدد مهراً، وهو جائز، لكن يجب عليه المهر بعد العقد، لكن هناك فرق بين من يتزوج ولا يحدد المهر، وبين من يتزوج ويتفق على إسقاط المهر قبل الزواج، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال باتفاق العلماء، لكن يمكن أن يتزوج ويبقى المهر إما مؤجلاً، أو معجلاً بعضه ومؤجلاً بعضه إلى آخره، فإن فرضتم المهر ورضيت المرأة وطابت عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً كما جاء في الآيات الأخرى مثل قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، كذلك هو مثل قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237].
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24]، (عليماً) أي: بخلقه، (حكيماً) أي: فيما دبره لهم.
وقبل أن نتجاوز قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، قلنا: إنها تقرأ أحياناً بالفتح، وأحياناً بالكسر، لكن هنا في هذه الآية بالذات لا تقرأ إلا بالفتح باتفاق القراء، فإذا قرئت بالفتح فتكون هذه مشتقة من أحصَن، ومحصن مشتقة من أحصن، يعني: من الفعل المبني للمعلوم يشتق اسم الفاعل، أحصَن فهو محصن يعني: أحصن نفسه، أو محصَن فهو أحصن، يعني: أحصنه غيره.
أما القراءة بالكسر: (وَالْمُحْصْنَاتُ) فتكون مشتقة من أحصنَّ، يعني: أحصن فروجهن أو أحصن أزواجهن، واشتقاق الكلمة من الإحصان الذي هو المنع.(32/8)
حكم نكاح المتعة ووجه الاستدلال بالآية
قبل أن أتجاوز هذه الآية فيها كلام مفصل وكلام كثير يتعلق بكلام بعض المفسرين حيث فسر قوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) بأنها نزلت في نكاح المتعة.
فقوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) أي: من اللائي تزوجتموهن.
((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) معنى ذلك: أن المهر يلزم الرجل ويتأكد في حقه بدخوله بالزوجة.
فقوله: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) قالوا: إن هذه إشارة إلى نكاح المتعة.
((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: الأجر الذي يبذله لها.
((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، يعني: إن انتهى أجل هذا النكاح؛ لأن نكاح المتعة يكون مؤجلاً، فإذا انتهى ذلك الأجل فإنها في حل، وإذا مات هو لا ترثه، وإذا ماتت هي لا يرثها إلى آخره.
ونكاح المتعة: هو الزواج إلى أجل معلوم بلفظ المتعة كمتعتك، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى نكاح المتعة، ثم نسخت هذه الآية بما روى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع -يعني: في نكاح المتعة- ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها -أي: من كان عنده امرأة ممن نكحها نكاح المتعة فليخل سبيلها- ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً).
وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب وقال: (ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته).
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية -يعني: الحمير الأهلية-).
اختلف العلماء في بيان متى تم تحريم نكاح المتعة على أقوال: فمن قائل: يوم خيبر، استدلالاً بهذه الرواية المتفق عليها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومنهم من قال: إنه تم تحريم المتعة في عام فتح مكة.
ومنهم من قال: بل هو عام حنين، وهذا القول الثالث هو بنفسه الثاني؛ لأن معركة حنين وفتح مكة متصلتان.
القول الرابع: أن نكاح المتعة حرم عام حجة الوادع، وهو وجه من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوادع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيراً ما يعرض للحفاظ، يعني: هذه الحالة تعرف عند علماء الحديث بسفر الوهم، وهو أن الراوي يسافر بوهمه وبخياله من موقع إلى موقع، فيبدل الأسماء أو الأماكن أو الوقائع.
والعلماء لهم طرائف في الترجيح عند هذه الحالات، ومنها: هذا الذي نحن بصدده، والصحيح أن المتعة حرمت عام فتح مكة كما في صحيح مسلم، ولو كان التحريم زمن خيبر للزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد لمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله في هذه الشريعة.
كما أن خيبر لم يكن فيها مسلمات، بل كان فيها يهوديات، ولم تكن قد نزلت آية المائدة التي فيها إباحة نكاح الكتابيات، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]، لأن آية المائدة نزلت في حجة الوداع يوم النحر، وهي في سياق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فلو كان التحريم في خيبر فمعنى ذلك أن النسخ حصل مرتين، وهذا لا يقع في الشريعة.
أما ما جاء في رواية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية أو الأنسية) فهذا الحديث ثبت بلفظين: أحدهما: هذا اللفظ الذي الذي سبق.
وهناك لفظ آخر: وهو الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
يعني: اللفظ الآخر: (أنه نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية يوم خيبر).
فإذاً يكون يوم خيبر فيه بيان تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية، وليس فيه بيان تحريم نكاح المتعة.
فإذاً هذا الجواب على من يستدل بأن تحريم المتعة حصل في خيبر.
والصحيح أنه حصل في فتح مكة، وهذا الحديث كما ذكرنا ثبت في الصحيحين بهذا اللفظ، وثبت أيضاً في رواية أخرى بالاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فكلمة (يوم خيبر) ليست لبيان تحريم المتعة، وإنما لتحريم لحوم الحمر الأهلية، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ربط بين تحريم الاثنين معاً.
ليس هذا فحسب، بل بعض الرواة اقتصر على رواية الحديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر)، فقصرها على هذه المرتبة الثانية من الخطأ الذي وقع ومن الغلط البين.
فإن قيل: فما سر جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الحديث بين الأمرين؟ يعني: علي جمع في الحديث بين النهي عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية.
فنقول: سر ذلك أنه كان يناظر ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ لأن ابن عباس كان يبيحهما، فناظره في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، وقال له: (إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر).
إذاً: كلمة يوم خيبر جاء في تحريم لحوم الحمر الأهلية وليست في تحريم نكاح المتعة كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس.
فروى علي رضي الله عنه الأمرين محتجاً عليه بهما لا مقيداً لهما بيوم خيبر.
لكن هل تحريم نكاح المتعة هو من باب تحريم الفواحش، أم أنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هي حرمت كتحريم الفواحش تماماً، والفواحش لا تباح بحال.
أما القول بأنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها فقط في حالة الاضطرار، فهذا القدر هو الذي نظر فيه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ ابن عباس لم يبحها بإطلاق كما يزعم الشيعة، والشيعة إلى الآن يتمادون في موضوع نكاح المتعة كما هو معلوم عنهم، وهو من خبائثهم.
إذاً ابن عباس نظر إلى أنها لم تحرم تحريماً مطلقاً كتحريم الفواحش، والفواحش لا تباح بحال، وإنما ذهب إلى أنها تحرم عند الاستغناء عنها وتباح للمضطر، فهذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الإفتاء بحلها ورجع عنه، وكان ابن مسعود يرى مثل قوله، أو قريباً منه.
وقد روي أن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال لـ ابن عباس رضي عنهما: (أتدري ما صنعت بفتواك -فتواه التي هي إباحة نكاح المتعة-؟ فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، وكان من الشعر الذي قيل: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون ما بهذا أفتيت، ولا أحللت إلا مثلما أحل الله الميتة والدم).
إذاً معنى هذا الكلام: أن هذا هو القدر الذي اجتهد فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكما ذكرنا: فالإجماع منعقد على خلاف ذلك، يعني: الإجماع على تحريم نكاح المتعة.(32/9)
تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات)
لقد شرع الله بعد ذلك في بيان نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، يعني: على قول ابن عباس أو على قول من يرى أنه في حالة الاضطرار يباح للمسلم المتعة، فكأن الله سبحانه وتعالى هنا يبين لنا ما يستباح للضرورة، لكن الفرق بين هذه الضرورة وما يأتي الآن هو أن الضرورة التي أبيح لأجلها نكاح المتعة كانت ضرورة مؤقتة انقطعت إلى يوم القيامة، بحيث عاد حراماً تحريماً شاملاً كاملاً أبدياً.
فيشرع عز وجل هنا في بيان نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام، أما الضرورة التي أبيح لأجلها نكاح المتعة فهي ضرورة مؤقتة انقطعت في ذلك الوقت وانتهت.
أما الضرورة التي ستأتي فهذه مستمرة كما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} [النساء:25].
((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا))، (طولاً) يعني: غنىً.
((أَنْ يَنكِحَ))، يعني: غنىً لأن ينكح.
(من لم يستطع منكم) من لم يقدر، (منكم).
(ومن لم يستطع منكم) الخطاب هنا للأحرار، أي: ومن لم يستطع منكم أيها الأحرار طولاً، يعني: لم يقدر أن يحصل غنىً يمكنه أن ينكح المحصنات المؤمنات.(32/10)
معنى المحصنات في قوله: (طولاً أن ينكح المحصنات)
المحصنات هنا بمعنى: الحرائر، لماذا قلنا: المحصنات هنا بالذات بمعنى: الحرائر؟ لأن الآية تبين أن من عجز عن نكاح الحرائر يجوز له نكاح الإماء، أي: لابد أن نفسر المحصنات بعكس الإماء، وهن الحرائر.
يقول عز وجل: ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))، أي: لم يستطع منكم غنىً أن يتزوج الحرائر.
إذاً المحصنات هنا: الحرائر، والحرائر معروفات بالعفة، فالمحصنات المتعففات بخلاف الزواني، فإنه لا عبرة بهن، ويكن أيضاً مؤمنات؛ لأن الكوافر أيضاً لا عبرة بهن؛ لأن العفة عنوان الحرية، ولذلك لما بايعت هند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعها على الصيغة المعروفة: (ولا يزنين) لما سمعت هذا الكلام اضطربت وقالت: (أوتزني الحرة؟) واستحيت من ذلك، فمعروف أن الحرة عفيفة.(32/11)
معنى الإدناء من الجلابيب والحكمة منه
كما تعلمون في سبب نزول قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]، هل المقصود أن يعرفن بأن فلانة زينب أو فلانة عائشة أو فلانة كذا، أم أن المقصود أن يعرفن بالصفة؟ المقصود: أن يعرفن بالصفة؛ لأن هناك قرينة في الآية واضحة جداً، وهي أن الخطاب هنا موجه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ))، هل أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام كن يكشفن وجوههن؟ لا، بل معروف بالإجماع أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن محجبات حجاباً كاملاً يغطي جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفين.
((قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ))، الإدناء شيء زائد على لبس الجلباب، يقال: أدن الثوب من وجهك، يعني: غطه به.
هذا كلام العلماء في غير زمان الغربة الذي نحن فيه الآن، حيث صار كل من هب ودب يتطاول على الدين، ويسترسل مع الموجة الشيطانية -التي نحن فيها- حيث صرنا نسمع نوعاً من الافتراء على الله وعلى كتاب الله تبارك وتعالى في تفسيره، فهذه الآية باتفاق المفسرين في هذا المعنى.
قوله تعالى: ((يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ))، يعني: هن في الأصل لابسات الجلباب، لكن أمرن بشيء زائد على الجلباب ألا وهو الإدناء بتغطية الوجه.
((ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ))، ذلك أدنى أن يعرفن بأنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذية، ولذلك (كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى أمة متقنعة أو مغطية وجهها كان يعلوها ضرباً بالدرة ويقول: تتشبهين بالحرة يا لكع) يضربها كي لا تشابه الحرائر في لبسهن وهيئتهن.(32/12)
المرأة بين منافقي الأمس ومنافقي اليوم
ونحن في الحقيقة نعجب من هذا الزمان الذي نحن فيه! كانت علامة الحرية فيما مضى هي العفة والحشمة والتستر، أما الآن فصارت علامة الحرية أن المرأة تتعرى وتتكشف وتتبرج!! هل هذه حرة؟! فيقولون: تحرير المرأة حرية المرأة، فالحرية أصبحت علامة على التهتك والتبرج والسفور.
في المقاييس الأولى كانت علامة الحرية أن المرأة تتعفف وتتصون؛ لأن التي تبالغ في ستر بدنها إلى هذا الحد لا يمكن أن يطلب منها الفاحشة أو يطمع فيها، فإنا لله من هذا الزمن العجيب الذي نعيشه الآن!! والمنافقون في ذلك الزمان كانوا أحسن وأفضل من المنافقين في أيامنا هذه، لماذا؟ لأن المنافقين فيما مضى إذا علموا أن المرأة حرة ووجدوها محجبة ففي هذه الحالة يكفون عنها، أما الآن فيسلطون سهامهم على المرأة الحرة المتعففة باسم الحرية، والحقيقة ليست حرية بل شيطانية.
يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ}، يعني: الحرائر، والحرائر يستلزم كونهن عفيفات.
{الْمُؤْمِنَاتِ}، هذا القيد جرى على الغالب فلا مفهوم له، بتعبير آخر هو ليس قيداً في الحقيقة وإنما هو تعبير غالبي، أن أغلب المحصنات الحرائر اللاتي يتزوجهن المسلمون يكن مؤمنات، فيجوز نكاح المحصنات من أهل الكتاب أيضاً جمعاً بين ذلك وبين آية المائدة.(32/13)
وجه تقييد نكاح الإماء بالإيمان
قوله: ((فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، يعني: الذي يعجز عن نكاح الحرائر من المؤمنات فيجوز له أن ينكح مما يملكه أيمان إخوانكم، (فمن ما ملكت أيمانكم) يعني: من عجز ولم يجد غنىً كي يتزوج الحرائر المؤمنات فله أن ينكح بعض ما يملكه أيمان إخوانه المسلمين.
{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ}، يعني: الإماء حال الرق، ليس حال الحرية أو العتق.
{الْمُؤْمِنَاتِ}، يعني: لا يجوز نكاح الإماء الكتابيات، لماذا؟ حتى لا يجتمع عار الرق إلى عار الكفر كما سنبين إن شاء الله.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ}، يعني: فاكتفوا بظاهره وكلوا السرائر إليه، فإنه العالم بتفصيلها، ورب أمة يكون عندها من قوة الإيمان ما يجعلها أفضل من الحرة عند الله تبارك وتعالى الذي هو أعلم بالإيمان.
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}، يعني: أنتم وهؤلاء الإماء أو الفتيات المؤمنات بينكم نوع من المناسبة، وهي أنكم تنتمون إلى أبيكم آدم عليه السلام، وكما أن دينكم هو دين الإسلام فبعضكم من بعض في الانتساب لآدم وفي ملة الإسلام، فلا تستنكفوا من نكاحهن، فهذا نوع من التسلية والتعزية لمن عجز على نكاح الحرة، واضطر إلى نكاح الأمة.(32/14)
شروط نكاح الإماء
قوله: ((فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ))، المقصود هنا: بإذن مواليهن لا استقلالاً.
((وَآتُوهُنَّ))، أي: أعطوهن.
((أُجُورَهُنَّ))، أي: مهورهن.
((بِالْمَعْرُوفِ))، يعني: من غير مطل ونقص، ومن غير ضرار.
يقول تبارك وتعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ}، إعراب (محصنات) هنا: حال، يعني: حال كونهن عفائف من الزنا أو عن الزنا.
((غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ))، هذه حال مؤكدة لصفة الإحصان.
((مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ))، أي: غير زانيات جهراً.
((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ))، الأخدان هم الأخلاء الذين يزنون بهن سراً، والأخدان هم الذين يجمعهم الفحش والفجور، يعني: واحدها خدن أو خدين ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)).
إذاً: هذه الآية الكريمة تبين شروط نكاح الإماء، ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ))، فكلمة المؤمنات قلنا: إن المقصود بها: الإماء المؤمنات لا الكتابيات، أي: لا يجوز لكم أن تنكحوا الأمة الكتابية، لكن الأمة التي تكون مسلمة؛ لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر، ولأن عار الكفر بلا شك أشد من عار الرق.
قوله تبارك وتعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، (ذلك) يعني: هذه الإباحة، (لمن خشي العنت منكم) العنت هو خوف الوقوع في الزنا والفاحشة.
((وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، وأن تصبروا عن نكاح الإماء حتى تحصلوا على المهر الذي به تستطيعون نكاح الحرة فهو خير لكم، وسنذكر إن شاء الله وجوه هذه الخيرية أو الأفضلية.
إذاً هذه الآية نستطيع أن نستنبط منها ثلاثة شروط لجواز نكاح الإماء، اثنان منها في الشخص الناكح وواحدة في المنكوحة، أما الشرطان اللذان يشترطان في الناكح المتزوج فهما: الشرط الأول: أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا))، أي: لم يجد غنىً، ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))؛ لأن العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة أسيادهن ومواليهن.
الشرط الثاني: أن يخشى الوقوع في الزنا، والدليل قوله: (ذلك) يعني: هذه الإباحة (لمن خشي العنت منكم) أما من لم يخش الوقوع في الزنا فلا يحل له نكاح الأمة.
ومعنى: (خشي العنت منكم) يعني: بلغ الشدة في العزوبة.
الشرط الثالث هو شرط في المنكوحة من الإماء: أن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، يعني: حتى لو كانت أمة كتابية فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية، لماذا؟ لأن الأمة الكافرة ناقصة من وجهين: ناقصة من جهة الرق.
وناقصة من جهة الكفر.
والولد تابع للأم في الحرية والرق، إذا نكح الرجل أمة فالأولاد الذين تلدهم يكونون تبعاً لها، فإن كانت حرة فسيكونون أحراراً، وإن كانت أمة فالأولاد سيكونون أيضاً أرقاء لسيد أمهم.
لو تزوج المسلم بأمة يهودي أو نصراني فالأولاد سيكونون تابعين لأمهم، وخاضعين لسيدهم النصراني أو اليهودي.
فالأمة الكافرة ناقصة من وجهين: الرق، والكفر.
والولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذٍ لو كانت الأمة كتابية وهي ملك للكافر فالولد سيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكاً للكافر، فهذا فيه هذان العيبان.(32/15)
حد الأمة بعد إحصانها وتزوجها
قال تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ}، (فإذا أحصن) يعني: إذا زوجن، هنا انتقال لحكم آخر يتعلق بالإماء وهو: أن الأمة إذا تزوجت وبعد الزواج أتت بفاحشة مبينة فما حدها؟ هذا هو السؤال الذي تجيب عليه هذه الآية، يقول تعالى: ((فَإِذَا أُحْصِنَّ))، يعني: إذا أحصن هؤلاء الإماء بالزواج، وفي قراءة أخرى بالبناء للفعل، (فإذا أحصن) يعني: تزوجن.
((فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ))، أي: بزنا.
((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))، قوله تعالى: ((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ))، (المحصنات) المقصود بهن هنا: الحرائر الأبكار إذا زنين.
((مِنَ الْعَذَابِ))، يعني: من الحد، إذا كانت الأمة متزوجة فإنها لا تستوي مع الحرة في كونها ترجم؛ لأنهن من أهل المهانة.
وإن كان كلام السيوطي: (فعليهن نصف ما على المحصنات) يعني: حدهن مثل نصف حد الحرائر الأبكار.
هذا الوجه الذي ينبغي أن يفهم عليه كلام السيوطي.
إذا زنت الحرة البكر يكون حدها مائة جلدة، فهذا لبيان الحد فقط.
يعني: بما أن حد الحرة البكر مائة جلدة، فإن الأمة إذا كانت متزوجة فحدها نصف هذا الحد الذي هو خمسون جلدة، هذا لبيان النسبة فقط، والمقصود: أنه ليس هناك رجم على الأمة المتزوجة، وليس حدها مثل نصف حد الحرة المحصنة؛ لأن الحرة المحصنة حدها الرجم.
الخلاصة: أن عليهن نصف ما على المحصنات الحرائر الأبكار إذا زنين، ويكون حدهن خمسين جلدة.(32/16)
الحكمة من عدم رجم الأمة المحصنة
لماذا لا ترجم الإماء؟ قال بعض المفسرين: لأن الإماء من أهل المهانة، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر، والحكمة من الرجم هو المبالغة في زجر الناس عن الفاحشة، قال عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لزجر قوة هذا الدافع في الناس.
وأيضاً فإنها إذا قتلت فسيعود ذلك بالضرر على سيدها الذي يملكها.
((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ))، أي: الحرائر الأبكار إذا زنين.(32/17)
الحكمة من التغريب للزاني البكر
قوله: ((مِنَ الْعَذَابِ))، أي: الحد، فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، هذا على مذهب من يقول بالجمع بين الجلد والتغريب، كي يجمع بين عقوبة البدن وعقوبة القلب؛ لأن الغربة عذاب على القلب، ولذلك لما قالوا لبعض العلماء: لماذا كان السفر قطعة من العذاب؟ قال: لأن فيه فراق الأحباب، فهذا عذاب للقلب.
كذلك أيضاً هناك حكمة أخرى من تشريع التغريب، وهي تغيير البيئة التي تذكر العاصي بأصحابه الذين يؤزونه أزاً، وذكريات الفساد أو المعاصي التي كان يرتكبها، فإذا غيرت البيئة كان ذلك أعون له على فتح صفحة جديدة من حياته، وهذا الأسلوب تلجأ إليه بعض الجماعات -مثل جماعة التبليغ- في تربية أفرادها، فتراهم يعزلون الشخص عن بيئته حتى إنه مهما كان فاسداً في بيئته فهم يجعلونه يعيش معهم في حالة تعبد وذكر وغير ذلك فترة معينة، بحيث تتغير بالفعل صفاته وأخلاقه.(32/18)
الاعتداد بمفهوم الشرط وعدمه وما يترتب عليه
قوله: ((فَإِذَا أُحْصِنَّ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))، هنا مسألة تتعلق بهذا القيد وهو: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): وهو مفهوم الشرط.
معنى ذلك: أن الأمة إذا ارتكبت الفاحشة قبل الزواج هل عليها حد أم ليس عليها حد؟ هذا هو الخلاف الذي ترتب على مدى الاعتداد بمفهوم الشرط، هل مفهوم الشرط هنا يعتد به؟ بمعنى: إذا أحصن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، لكن إذا لم تحصن الأمة وأتت بالفاحشة هل عليها حد أم لا؟ يؤخذ من ظاهر الآية أن الأمة بعد التزويج حدها نصف حد الحرة البكر من الجلد، أما قبل التزويج فقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجلدها، لكن بلا شك مهما كان خلاف العلماء في هذه الآية أو في هذا الشرط فإنه طبقاً لهذه الآية لابد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد بالإحصان فائدة، (فإذا أحصن) لاشك أن هذه الكلمة لها مفهوم مهم جداً، وحكم شرعي ينبني عليها، وإلا لو كان الأمر يستوي قبل الإحصان مع ما بعد الإحصان لما كان في التقييد بهذا الشرط فائدة.(32/19)
حد الأمة قبل الإحصان
هنا احتمالات ذكرها العلماء: الكلام هنا الآن في الأمة إذا ارتكبت الفاحشة قبل أن تحصن وتتزوج فهل عليها حد أم لا؟ بعض العلماء قالوا: لا حد عليها، ويجاب عن ذلك بأن السنة الصحيحة تبطل ذلك، بل ثبت في السنة أن الأمة التي لم تتزوج وزنت أنها تجلد، لكن يأتي سؤال بعد هذا هل هو حد أم تعزير؟ فلذلك لن نقول: حدت لكن نقول: جلدت.
الاحتمال الثاني: أن يقال: حدها قبل الإحصان حد الحرة وبعد الإحصان نصف حد الحرة، وهذا باطل قطعاً؛ لأنه مخالف لقواعد الشرع وأصوله، ولأن المحصن الذي أعفه الله بالزواج ومع ذلك يرتكب الفاحشة فهذا يستحق عذاباً أشد من عذاب العزب، ولذلك شرع في حق المحصن الرجم وفي حق غير المحصن الجلد فقط؛ لأنهما لا يستويان في قوة الدافع إلى هذا الفعل، فكيف هنا تأتي في الأمة فتقول: إن حدها قبل الإحصان مائة جلدة فإذا أحصنت وزنت يكون حدها خمسين؟! هذا يتعارض مع قواعد الشرع في تغليظ العقوبة طبقاً لقوة الدافع.
الاحتمال الثالث: أنه يعتبر قبل الإحصان تعزيراً وبعد الإحصان يعتبر حداً شرعياً، وهذا القول أقوى من سابقيه.(32/20)
من يقيم الحد على الأمة
الافتراق في الحالين قبل الإحصان وبعده في إقامة الحد لا في قدره، (فإذا أحصن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب).
فالكلام هنا متعلق بإقامة الحد وليس بقدر إقامة الحد، يعني: أنه في حالة الثيب الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، وهذا أقرب الأقوال التي تقال في هذه الآية.
(فإذا أحصن) سر هذا القيد الشرطي هو ليس في مقدار الجلد، لأنه في الحالتين القدر واحد، لكن الذي يتولى إقامة الحد قبل الإحصان هو سيدها، والذي يتولى إقامة الحد عليها بعد الإحصان هو الإمام، وهذا أقرب ما يقال كما حققه بعض العلماء.
((فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ))، أي: زنا، ((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ))، أي: الحرائر الأبكار إذا زنين، ((مِنَ الْعَذَابِ))، أي: الحد، فيجلدن خمسين، ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهن العبيد، ولم يجعل الإحصان شرطاً لوجوب الحد، بل لإفادة أنه لا رجم عليهن أصلاً.
((ذَلِكَ))، يعني: إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول، أي: الغنى والقدرة على نكاح الحرائر.
((ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ))، (خشي) أي: خاف، (العنت) أي: الزنا، ويفسر بالمشقة في التحفظ من الزنا؛ لأن أصل كلمة (العنت) هي المشقة، وهي تطلق على الزنا نفسه؛ لأن الفاحشة سبب لهذه المشقة؛ لماذا؟ لأنه إذا وقع فيه فإنه يترتب عليه الحد في الدنيا أو العقوبة في الآخرة.
(ذلك لمن خشي العنت منكم) يعني: هذه الإباحة لمن خشي العنت منكم أيها الأحرار، بخلاف من لا يخافه من الأحرار، فلا يحل له نكاح الأمة إذا لم تتوافر هذه الشروط.
وكذلك من استطاع طول حرة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وهو قول الشافعي.
وخرج بقوله: ((مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ))، الإماء الكافرات فلا يحل له نكاح الأمة الكافرة ولو عدم القدرة وخاف العنت، يعني: لابد من اجتماع الشروط الثلاثة، فلو أن رجلاً كان غير قادر على نكاح الحرائر، ويخشى العنت، لكن الأمة التي تزوجها كافرة فهل يجوز له ذلك؟ لا، لابد من اجتماع ثلاثة شروط لا يتم الجواز إلا بجميعها.(32/21)
كراهة التزوج بالإماء مع توافر شروط الجواز
قوله: ((وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط، يعني: هذا الجزء من الآية يدل على أنه مع إباحة نكاح الإماء وكونها مشروطة بهذه الشروط الثلاثة، مع ذلك أن تصبروا يكون أفضل لكم حتى لو كان مباحاً، فهذا يفهم منه كراهة نكاح الإماء حتى مع اجتماع الشروط، وإن سبقت الرخصة بذلك، فخيرية الصبر عن نكاح الإماء تكون من وجوه: الوجه الأول: لما فيه من تعريض الولد للرق، ولذلك لما تكلمنا في موضوع العزل، ذكرنا أن أحد الأسباب التي رخص فيها العزل هو أنه إذا كان متزوجاً أمة وأتت بأولاد فإنهم سيكونون أرقاء فأبيح العزل لهذا السبب.
وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه) يقصد ولده.
الوجه الثاني: أن حق المولى في الأمة أقوى من حق الزوج، فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر.
والواحد عند سرد هذه المقارنات التي ذكرها العلماء يتصور أحوال النساء الهاربات من وظيفتهن التي هي: تربية الأولاد، ورعاية الزوج، وأداء حقه، فنلاحظ الآن أن هناك نوعاً من الاسترقاق الجديد، يعني: عندما تكون المرأة متزوجة وهي موظفة وقوانين العمل وسلطة المدير تتحكم فيها، مثلاً: بعض النساء في التمريض أو بعض المهن المعينة، فإنها قد تكلف بأي عمل، وتحتاج أن تنتقل من مكان إلى مكان أو من بلد إلى بلد وغير ذلك، فهنا تكون هناك سلطة غير سلطة الزوج على المرأة، حتى لو أن الزوج صرخ واستغاث ما يسمع له.
فهذه الأمة حق المولى فيها أقوى من حق الزوج، فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر؛ ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا نزيد عليه؛ ولأن الأمة ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله ذل ومهانة، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين، كما أن مهر الأمة لمولاها، فلا تقدر الأمة على التمتع به، ولا على هبته للزوج.
فخلاصة الكلام: أنه بنكاح الأمة لا ينتظم أمر المنزل، كما يقول الشاعر: إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره.(32/22)
وظيفة المرأة الحقيقية
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) فحدد دائرة عملها، وأن وظيفتها في بيت زوجها، فمن الخداع والكذب والتزوير والتضليل أن تسمى المرأة التي تنقطع لأداء وظيفتها المقدسة: امرأة عاطلة، والثانية يسمونها: امرأة عاملة، هي ليست عاملة بل هي هاربة من وظيفتها.
انظر الموظف الذي يهرب من العمل كيف يعامل، وكيف يعاقب، وكيف ينظر إليه؟! فهذه المرأة في الحقيقة هي ليست عاطلة وليست خالية، بل عندها أهم وأخطر وظيفة، قارن بين وظيفة المرأة في البيت في رعاية الزوج والأولاد، وبين وظيفتها في الأعمال الخارجية، يعني: هل هناك أم في العالم تسمعون أنها أخذت إجازة سنوية قدرها شهر أو كذا أو كذا حتى تنقطع من خدمة الأولاد وخدمة الزوج؟! أي واحد يعمل عملاً خارجياً فإنه يعمل عدة ساعات، لكن الأم ليس لها وقت محدد من الساعة للعمل، هل سمعتم أماً تقول: أنا دوامي انتهى؟! هل هذا يحصل؟! فهذا عمل أم ليس بعمل؟ هذا عمل دائم في الليل والنهار، ولذلك الإنسان يلاحظ أن بعض الأمهات عندما تنجب ولداً أو اثنين فإن حياتها كلها تتلخبط، ولا تستطيع أن تقوم على خدمة الزوج والأولاد رغم وجود الأجهزة الحديثة التي تساعدها.
وغالب النساء المتزوجات عندهن أولاد أكثر من ذلك ومع ذلك تريد أن تخرج للعمل فأكيد أنها ستضيع أولادها، وتتركهم للخدم أو لمدارس الإيواء، ويسمونها: مدارس إيواء، وهي لمن هم دون سن الحضانة، يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في الحياة ذليلا إن اليتيم من تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فهذا هو اليتيم الذي حرم من الأبوة أو الأمومة.
على أي حال الذي قادنا إلى الاستطراء في هذا الكلام المقارنة بين الحرائر فيما مضى وحرائر زماننا، فالمرأة الحرة الآن عكس ما كان من قبل، من قبل الحرة العفيفة المحصنة -حتى إلى عهد قريب- كانت المرأة التي هي من العائلات العريقة، لابد أن تستتر، حتى كان الملوك عندهم ما يسمى (بالسرملك) (والحرملك) وهو مكان مستقل توضع فيه النساء حتى لا يختلطن بالضيوف ولا يراهن أحد، ويأتيهن البائعون والتجار في داخل (الحرملك) وهو الذي بيسمونه: منزل الحريم، يعني: المبنى الذي يستقل بالنساء حتى لا يختلطن بالرجال.
وهذا كان إلى عهد قريب، أما الآن فالمرأة الحرة تتبرج وتتكشف مع أن هذا نوع من الاسترقاق، (فالمرأة راعية في بيت زوجها) ولذلك نجد المرأة تتعب نفسها حتى تعد الدكتوراه وتنفق شبابها وتتأخر في الزواج، أو تصير عانساً، وفي الأخير تكون غايتها في الحياة أن تتزوج، وتتمنى أن يكون لها أولاد وبيت، وتحرم من هذه النعمة، ويكون قد فاتها القطار، هذه حقيقة نحن نلمسها وليس مجرد كلام، لكن هي العجلة تدور بالمجتمع وتدور بالناس، ونحن نتعرض لجرعات كبيرة من السموم الفكرية التي قل من يسلم منها في هذا الزمان، لكن العجلة تدور ونحن ندور معها كتلك الدابة التي تربط في الساقية دون أن ينتبه الإنسان للحقيقة.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] يعني: بالتوسعة في ذلك.(32/23)
تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26].
قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:26]، يعني: يريد الله في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم أن يبين لكم شرائع دينكم ومصالح أمركم.
((وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: يهديكم طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم.
هذه الآية فيها دليل على أن كل ما بين الله عز وجل تحريمه لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك في الملل السابقة، فمعنى ذلك: أننا مستوون مع من سبقونا من الأنبياء في تحريم الأمهات والبنات والأخوات إلى آخره.
قوله: ((وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) وهذا مثل قوله تعالى بعدما ذكر بعض المعاني: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، فقد نتوافق معهم في بعض الأحكام، وهنا بين أننا متوافقون ومتماثلون معهم في هؤلاء المحرمات من النساء.
((وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ))، يعني: يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته.
((وَاللَّهُ عَلِيمٌ))، أي: بكم.
((حَكِيمٌ))، أي: فيما دبره لكم.(32/24)
تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].
(والله يريد أن يتوب عليكم) تكرار للإرادة، لكن هنا لماذا كررها؟ كررها حتى يبني عليها، ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ))، يعني: في مقابلة ذلك، ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا))، الله سبحانه وتعالى رحيم بنا، وكل شرائعه رحمة بنا وخير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا هو ما يريده الله سبحانه وتعالى بنا من وراء هذه التشريعات.
((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ))، سواءً كانوا اليهود أو النصارى أو المجوس أو الفساق الزناة، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، كذلك قال تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
فإذاً هذا تحرير من الاتباع أو من الاستجابة لأصحاب الشهوات.
(ويريد الذين يتبعون الشهوات) هؤلاء كالبهائم التي تكون تابعة وليست متبوعة، فهم أسرى للشهوات، يتبعون الشهوات حيثما قادتهم ويمشون وراءها.
((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا))، يعني: هم يريدون أن تنحرفوا عن هذا الحق، وأن تميلوا عنه ليس ميلاً هيناً ولكن ميلاً عظيماً، وبلا شك فإن في مقدمة الذين يتبعون الشهوات في هذا الزمان من يسمون بالفنانين، والفسقة الذين يصدون الناس عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويشغلونهم عن ذكر الله، ويزينون لهم الفواحش والشهوات، لاشك أنهم داخلون في هذه الآية ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ))، انظر موسماً مباركاً كهذا الموسم الذي نحن إن شاء الله مقدمون عليه وهو موسم رمضان، يعني: أعتقد أننا لو سألنا سؤالاً: من منكم يخطط أو بدأ يخطط من الآن لرمضان؟ قد يكون هناك بعض الإخوة بدءوا يخططون لرمضان من الآن، كيف يفرغ نفسه للعبادة ولا يضيع هذه الفرصة؟! وكيف يأخذ إجازة من العمل حتى يعتكف أو غير ذلك؟! هل منا من استعد لرمضان من بعد رمضان الماضي مباشرة؟! لكن أهل الفن يستعدون لرمضان ليس من هذا الشهر ولا من الذي قبله، بل من بعد رمضان تجدهم يقعدون ويتكلمون عن إقامة المسلسلات والفوازير، وكيف سيكون الاستمتاع برمضان القادم؛ لتحويله إلى شهر للشهوات، فهؤلاء هم بغاة الشر الذين يقال لهم: (يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير أقبل).
فالشاهد أن أولى الناس بهذا الوصف هم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا))، يعني: أن تعدلوا عن الحق بارتكاب ما حرم الله عليكم فتكونوا مثلهم؛ لأن الضائع يحب من الناس جميعاً أن يكونوا ضائعين مثله؛ لأنه إذا وجد مستقيمين فإنه يشعر بالوحشة فيريد أن كل الناس تضيع مثله.(32/25)
تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم)
قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، يعني: يسهل عليكم أحكام الشرع ولهذا أباح عز وجل نكاح الإماء؛ تخفيفاً عن الأمة بشروطه، وكما قال تبارك وتعالى أيضاً: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، ولذلك هذه من أهم ومن أخص خصائص هذه الحنيفية السمحاء التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد وضع الله عز وجل عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا.
جاءت الشريعة للتخفيف والتسهيل والتيسير، وهذا الموضوع يطول الكلام فيه ولا يتسع له الآن.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، أي: لا يصبر عن النساء والشهوات، فناسبه هذا التخفيف فدل على أنه لا سبيل إلى قضاء الوطر في هذا الباب إلا بنكاح الحرائر أو نكاح الإماء بشروطه، ولا يوجد طريق غير ذلك.(32/26)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم وكان ذلك على الله يسيراً)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30] (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم) المقصود: لا يأكل بعضكم أموال بعض.
(بينكم بالباطل) أي: بالحرام شرعاً، كالربا والغصب والقمار والرشوة والسرقة والخيانة وسائر الحيل، وما أكثر هذه الحيل الآن التي تؤكل فيها الأموال بالباطل، كل المكاسب المحرمة التي تأتي عن طريق الحرام، أو تأتي بأكل أموال الناس بالباطل فهذا كله داخل في هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)).
الربا من أكل أموال الناس بالباطل، الغصب، السرقة، القمار، الرشوة، وما أدراك ما الرشوة، والخيانة وأجر المغني والمطرب وحلوان الكهان وثمن البغي من المحرمات، كل هذه الأشياء تدخل في أكل الأموال بالباطل.
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}، (تجارةٌ) أو (تجارةً) يمكن أن تقرأ بالوجهين: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)) أو (إلا أن تكون تجارةٌ عن تراض منكم)، إذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةٌ) فإعراب التجارة هنا نائب فاعل، وإذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةً) فتجارة خبر تكون.
التجارة المقصود بها هنا: معاوضة مع بعض كالبيع، أو تكون الأموال أموال تجارة.
(عن تراض) يعني: هذه الأموال صادرة عن تراض منكم، فلكم في هذه الحالة أن تأكلوها.
(عن تراض منكم) يعني: هنا البيان بأن شرط الربح في التجارة التراضي، والتراضي إما أن يكون بعبارة صريحة، وإما بإشارة مفهومة، فالعبارة الصريحة هي الإيجاب، مثل قولك: بعتك كذا وكذا بسعر كذا، هذا هو الذي يشترط فيه الإيجاب والقبول، أو يكون لفظ من الإنسان أو شيء غير اللفظ يدل على التراضي، كالتعاطي.
من هذه الآية: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، أخذ الشافعي اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً، يعني: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، اعتماداً على هذه الآية ذهب إلى عدم جواز بيع المعاطاة، وبيع المعاطاة هو الذي يتم بدون التلفظ بعبارة الإيجاب والقبول، كما يحصل مع أي واحد -مثلاً- يبيع سلعة ويعلق سعرها بجانبها، فتقول له: هات اثنين كيلو فيقوم بوزنها، ثم تعطيه الفلوس دون أن تقول له: بع لي، ودون أن يقول هو: قبلت.
إلى آخر هذه العبارات.
فما حجة الإمام الشافعي فيما ذهب إليه؟ قال: قوله تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، يعني: إلا أن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: التراضي أمر قلبي، فلا بد من الدليل عليه، أي: لا بد من إقامة الدليل الظاهرة على ما في القلب؛ لأنك لا تستطيع النظر في قلب البائع أو المشتري، لذلك فلا بد من الدليل عليه، فجعل الشرع صيغة الإيجاب والقبول أمارة ودليلاً على وجود التراضي؛ لأن الناس يعجزون عن أن يطلع بعضهم على قلوب بعض ليطمئنوا إلى أنه قد حصل التراضي، فأقيمت عبارة الإيجاب والقبول مقام التراضي الذي محله القلب؛ لكن استدل من يبيح بيع المعاطاة بنفس الآية، قالوا: الآية تدل على جواز بيع المعاطاة؛ لأنها تقول: "عن تراض منكم" وكما أن الأقوال تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً على التراضي، فصح بيع المعاطاة مطلقاً، فيكون من الأيسر على الناس أن ما تعارفوا على أنه يعبر عن التراضي يصح به البيع؛ مثل قول بعضهم: توكل على الله، أو بعتك أو أدخل يده في جيبه وأخرج النقود، فهذا كله بدل على التراضي.
وقولهم إنه ورد في بعض النصوص كلمة بعت منك وبعتك، فنحن نقول: لا نختلف على أن البيع يصح بمثل عبارة: بعتك أو بعت منك، كما في هذه الروايات التي يحتج بها من اشترط الإيجاب والقبول؛ لكن النزاع في دعوى أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول، ولم يرد في اشتراط ذلك شيء صريح؛ لأن الله تعالى قال: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، فدل ذلك على أن التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه إما بنص أو بإشارة أو بكتابة، أو يقول له: توكل على الله، أو أي عبارة يفهم منها الرضا، ففي هذه الحالة يقع البيع، بأي لفظ وقع وعلى أي صيغة كان، وبأي إشارة مفيدة، يعني: لا يشترط اللفظ، بل يقبل ما يقوم مقام اللفظ الصريح ما دام يدل على التراضي.(32/27)
معنى قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم)
قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: بارتكاب الذي يؤدي إلى هلاكها سواء كان في الدنيا أو الآخرة.
((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))، يعني: في منعه لكم من أن تهلكوا أنفسكم.
((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) يعني: ما نهي عنه.
((عُدْوَانًا)) كأن ينتحر، ومعنى: (عدواناً) تجاوزاً للحلال، وهي حال من فاعل (يفعل) أي: يفعل ذلك متعدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه {وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:30] سوف ندخله ناراً هائلة شديدة الحرارة يحترق فيها.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30]، يعني: كان إصلاؤه النار على الله يسيراً، وهيناً لا عسر فيه، ولا صارف عنه؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعجزه شيء.
قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ))، فيه وجهان للتفسير: الوجه الأول: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن المؤمنين كلهم كنفس واحدة.
والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، وذلك بتصوير القتل بصورة لا يكاد يفعلها عاقل، وقد ذكرنا أمثلة مشابهة لهذا مما جاء في القرآن كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11]، (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: ولا تلمزوا إخوانكم.
وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] المقصود هنا: بإخوانهم خيراً، قال تعالى: ((ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا)) أي: بإخوانهم.
فقوله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) يعني: لا يقتل المسلم أخاه المسلم.(32/28)
حكم من يستحل قتل النفس
الوجه الثانية: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا يقتل الإنسان نفسه عمداً بالانتحار.
وأما الذي يستحل قتل نفسه وقد حرمه الله تبارك وتعالى فهو بهذا الاستحلال يكفر، ويكون الحكم عليه بالخلود في النار على ظاهره.
أما إن كان غير مستحل فحاله كحال سواه من أهل الكبائر يكون تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68]، وكما أنه لا يقتل الآخرين، كذلك لا يقتل نفسه.(32/29)
الأحاديث المحذرة من قتل النفس
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان ممن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده -أي: قطع الشرايين حتى سال الدم بسرعة- فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)، والعياذ بالله، وهذا الحديث متفق عليه.
قوله: (بادرني عبدي بنفسه) يعني: هو الذي تعجل الموت قبل أن أقبض أنا روحه، وقوله: (حرمت عليه الجنة)، فعقوبة المنتحر -والعياذ بالله- هي أن يحرم الله عز وجل عليه الجنة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جنهم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً)، وهذا متفق عليه.
إذاً: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، أي قاعدة: الجزاء من جنس العمل.
وفي الصحيح حديث ذلك الرجل الذي أثقلته الجراح، فاستعجل الموت، فقتل نفسه بذبابة سيفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل النار)، وهذا متفق عليه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله، ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة).
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه)، والمشاقص هي: سهام عريضة، وواحدها: مشقص فلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم على حاله تلك امتنع من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: في هذه الأحاديث أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الاسم، يعني: لا بد أن نعرف هذه النعمة التي نحن نتمتع بها، هذا البدن، وهذه الحواس التي أعطانا الله عز وجل وهذه الروح، ليست ملكاً لنا، يعني: أنت لا تملك نفسك، وليس من حقك أن تقتل نفسك في أي وقت وتعطل هذه الحياة أو تكفر بنعمة الحياة، الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق ابن آدم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، فتعجل إنهاء الأجل بالانتحار هذا من العدوان على حرمات الله تبارك وتعالى.
عندما كنا نتكلم على موضوع التبرع بالأعضاء، وذكرنا كلام العلماء الذين منعوا ذلك وقلنا: إنهم بنو المنع على أنك لا تملك هذه الأعضاء، بل هي وديعة الله سبحانه وتعالى عندك، فأنت لا تملكها كقطع غيار السيارات والآلات وغير ذلك.
فيؤخذ من هذه الأحاديث أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره، فهل بعد ذلك لا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))؟(32/30)
الحكمة من تحريم قتل النفس
من رحمة الله بنا أنه حرم علينا أيضاً أن نقتل أنفسنا، ليس فقط أن نقتل غيرنا، لكن أن نقتل أنفسنا، هذه من رحمة الله عز وجل؛ لأن نفسك ليست ملكاً لك مطلقاً، بل هي لله تعالى، فلا تتصرف فيها إلا بما أذن لك فيه.
والله حرم علينا الانتحار، والإنسان قد نهي عن تمني الموت كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، حتى إنه ذكر من أشراط الساعة: (أن يمر الرجل على قبر الرجل يتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكانه، ما به الدين إلا البلاء)، يعني: يكثر عليه البلاء والفتن ويتمنى الموت، ليس من باب أنه يخاف على دينه من الفتن، لكن ليس بقادر على أن يصبر على البلاء، وهذه من أشراط الساعة إلا أنها سيقت في سياق الذم، فهذا ذم لمجرد أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت، فكيف بمن يقتل نفسه بالفعل؟! لا شك أنه يكون أشد، فهذا الإنسان الذي يقدم على الانتحار والعياذ بالله هو يريد التخلص من ألم سببه بلاء وقع عليه في الغالب، ولا شك أن هذا الإنسان لو كان عنده يقين وإيمان لا يمكن أبداً أن يقدم على هذا الفعل الشنيع؛ لأنه يتصور أنه نتيجة البلاء الذي وقع فيه يريد أن يستريح من البلاء فيقتل نفسه، لو أن عنده إيماناً بالغيب ويعرف هذه الأحاديث وهذه النصوص لأدرك أنه ينتقل من بلاء إلى بلاء أشد منه أضعافاً مضاعفة.
كل بلاء في الدنيا يعوضه الله، إذا كان فقد ولداً أو عزيزاً عليه، فيمكن أن يخلف الله سبحانه وتعالى غيره من الأولاد، وإذا كان عليه دين -وكثير من الناس ينتحرون بسبب الدين- وليس عنده من الأموال ما يفي بهذا الدين، والمال غاد ورائح، والله سبحانه وتعالى أوجد مخارج كثيرة، منها: أنه حض صاحب المال بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، يؤجله إلى ميسرة، ويجتهد هو في السعي والكسب، ولو بدأ من الصفر حتى يرزقه الله سبحانه وتعالى ويؤدي عنه دينه، حتى لو مات مديوناً فهو أخف من أن يموت قاتلاً لنفسه، ونحن هنا لا نتكلم في الذي يموت لأن مطربه المحبوب مات، أو لأن فريقه خسر فهؤلاء السفهاء ما لنا بهم شأن، يعني: هؤلاء لا يدرجون في العقلاء، لأنهم لا عقول لهم.
ومن المعلوم أنه إلى عهد قريب ما كانت تعرف مشكلة الانتحار إلا القليل النادر، يعني: لم تكن تلفت النظر، وما زالت -ولله الحمد- البلاد الإسلامية عموماً سليمة من هذه المشكلة، وذلك حينما يطالع الإنسان بعض البحوث الطبية في بعض المراجع التي كتبها الكفار، وجهات رسمية معتمدة سواء منظمة الصحة العالمية وغيرها، حين يطالعها يشعر أنهم يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله، ويحسدوننا على نعمة الإسلام، قرأت إحصائيتين عن انتشار مرض الإيدز في أوروبا، ووحدت فيها أن المعدلات في الإصابات تصل إلى حوالي عشرة ملايين والعياذ بالله، بينما تكاد تجد البلاد الإسلامية خالية من هذا المرض، حتى إن منظمة الصحة العالمية في تقريرها تطالب للحد من مرض الإيدز بتدعيم التوجيه الديني الإسلامي؛ لأنه من أعظم طرق الوقاية والحماية من هذا المرض الخطير، ولأن القيم الإسلامية هي التي عصمت منطقة الشرق الأوسط كلها من هذا الشر، ومنطقة الشرق الأوسط المقصود بها البلاد الإسلامية، فقد أثبتت الإحصائيات أن عدد الحالات في شمال أفريقيا مائة ألف حالة، وهذا العدد يعتبر قليلاً جداً، وقالوا: إن جميع هذه الحالات إنما كانت بسبب نقل الدم، وبسبب الوافدين الذين يأتون من بلاد الغرب وينشرون هذا المرض الخبيث، ولكن هذا بلا شك إنما يعزى لفضل الله سبحانه وتعالى علينا والتقيد بالإسلام، مع أننا غير ملتزمين بالإسلام كما يرضي الله، ومع ذلك فقد حفظنا الإسلام وعصمنا من هذه الشرور، وانظر إلى كلامهم أيضاً عن البلاد الإسلامية فيما يتعلق بالكحولات، فهم قد أعيتهم الحيلة ولم يجدوا أي طريقة لزجر الناس عن الكحول وبيان أخطارها، بينما في البلاد الإسلامية بفضل الله مهما وجد المنحرفون والفاسدون بيننا، لكن الغالب الأعم أننا في عافية من بلاء الخمر والكحول، أما في الغرب حتى الأطفال ينتحرون.
فهم في أمور كثيرة جداً في الحقيقة ينظرون إلينا بنوع من الحسد، ومع ذلك فهم يكرهون على الاعتراف بفضل الإسلام في حماية المسلمين من هذه الشرور.
بالنسبة للانتحار فإنك تجد أنه كلما ارتقت المجتمعات بمستوى الرخاء المادي والعلمي كلما ازدادت نسب الانتحار، فتجد أن أعلى بلاد العالم في الدخل التي هي السويد، معدل الانتحار فيها معدل كبير جداً، أما في بلاد المسلمين فهو شيء نادر بالنسبة لغير البلاد الإسلامية، وهذه من نعمة الله ومن فضائل الإسلام، وفضائل وبركات هذه الملة الحنيفية.
وما وجد هذا الداء إلا بعد أن تسربت المفاهيم الغربية في المجتمعات الإسلامية، وبدأ يظهر ضعف الإيمان، وضعف اليقين في الناس، وبالتالي بدأنا نسمع عن هذه الحالات، فهؤلاء يكفرون بنعمة الحياة، ومهما تعلل المنتحر بالأعذار فهو لا يعذر في قتل نفسه، ولن تشفع له، ولن تدفع عنه نقمة الله، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
لو أن شخصاً رسب في الامتحان، فإعادته للسنة أهون من أن يقتل نفسه فيصير إلى عذاب دائم، يعني: بهذه الصورة إن هو قتل نفسه فهذا ما عنده يقين، هل هذا عنده إيمان أو يقين؟! هو ما نظر للمصيبة التي تعود عليه في دينه بأن يعذب في قبره ويعذب بالنار يوم القيامة، وأن ما خسره في الدنيا فإنه يمكن تعويضه والتراجع عنه.
ويعلم أن هذا البلاء لا يدفع إلا بمشيئة الله، واحد يغلب في مباراة أو في سباق أو واحد كما ذكرنا مات عزيز عليه أو أثقلته الديون، فضلاً عمن ذكرنا ممن يقتل نفسه؛ لأن الزعيم صاحبه مات، أو الذي يحبه أو المطرب أو المغنية أو غير ذلك من هذه الأشياء، أو قد لا يجد ما يقتات به فينتحر، فالإيمان هو الذي يحجز المؤمنين عن مثل هذه الأفعال الشنيعة؛ لأن المؤمن يصبر على قضاء الله عز وجل وقدره، يقول عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن!).
نجد أيضاً الأمراض النفسية الفضيعة، معدلها في بلاد المسلمين قليل جداً بالنسبة لما هي عليه في بلاد الكفار، فهذا لا شك مما يجعلنا نتمسك بما تبقى لدينا من الإسلام وبحبل الله، مع أننا لسنا على الطريقة المرجوة.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: فلا حزن يدوم ولا سرور ولا بأس عليك ولا رخاء فلا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ويقول آخر: طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فالدنيا دار ابتلاء، لابد من الصبر فيها مهما تنوع البلاء، المهم أن لا يكون البلاء في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)، إذا كانت المصيبة في غير الدين فلا تجزع؛ لأن الدنيا تعوض.
من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض سئل شيخ الإسلام عن رجل له مملوك هرب ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينه وقتل نفسه، فهل يأثم سيده؟ يأثم على قتل نفسه فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الحمد لله، لم يكن له أن يقتل نفسه، وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله، فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك، مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضر به، أو يضره بغير حق، أو يريد به فاحشة ونحو ذلك فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه، فقال لأصحابه: (صلوا عليه)، فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم، فإذا تركوا الصلاة عليه زجراً لغيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق، والله تعالى أعلم.
إذاً المنتحر لا يصلي عليه من يقتدى به من العلماء وغير ذلك، لا يصلى عليه حتى ينزجر أمثاله من الناس وحتى يعرفوا أن هذه عقوبة من يفعل ذلك، لكن يترك عموم الناس يصلون عليه لبقائه في دائرة الإسلام حتى لو أتى بهذه الكبيرة، وهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30].(32/31)
تفسير سورة النساء [31 - 42](33/1)
تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31].
((إِنْ تَجْتَنِبُوا)) أي: إن تتركوا.
((كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)) أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، سواء ما ذكر قبل هذه الآية أو مما ذكر في غيرها من الآيات والأحاديث.
((نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) أي: نمح عنكم صغائر ذنوبكم، وندخلكم الجنة؛ ولذلك قال: ((وَنُدْخِلْكُمْ)) أي: في الآخرة.
((مُدْخَلًا كَرِيمًا)) أي: حسناً وهي الجنة.
و ((مدخلاً)) إما أنها اسم مكان، يعني: ندخلكم مكاناً مدخلاً، وإما أنها مصدر من أدخل يعني: إدخالاً مع كرامةٍ.
وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وفيها أيضاً رد على من زعم أن المعاصي كلها كبائر، وأنه لا صغيرة، بل الواضح من الآية أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر.
كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ))، وقال أيضاً: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، يعني: مكفرات الصغائر إذا اجتنبت الكبائر.(33/2)
درجات الأعمال المكفرة
هذه الأعمال المكفرة، لها ثلاث درجات: إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، يعني: كالذي يتعاطى دواءً ضعيفاً يقصر عن مقاومة الداء كماً وكيفاً، فهذه الحالة الأولى بالنسبة للأعمال المكفرة التي تكفر الخطايا.
الدرجة الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولكنها لا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الدرجة الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وكما في الحديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرت كبائر الذنوب.
يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)) وهي ما ورد عليها وعيد كالقتل والزنا والسرقة، قال ابن عباس: هي -أي: الكبائر- إلى السبعمائة أقرب، وفي رواية أخرى: إنها إلى السبعين أقرب، وهذه الرواية أصحهما عن ابن عباس، يعني: أن الكبائر عددها إلى السبعين أقرب منها إلى غيره.
((نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) صغائر الذنوب بالطاعات.
((وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا)) بضم الميم وفتحها أي: إدخالاً أو موضعاً (كريماً) وهو الجنة.(33/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)
{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32].
نهى تبارك وتعالى عن التحاسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس، ولذلك قال: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32].
يقول السيوطي في قوله تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ))، من جهة الدنيا أو الدين؛ لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض.
((للرجال نصيب)) يعني: ثواب، ((مما اكتسبوا)) بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره.
((وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ))، من طاعة أزواجهن، وحفظ فروجهن وغير ذلك، وقد نزلت هذه الآية لما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)))؛ لأن النساء على لسان أم سلمة يسألن كيف يغزو الرجال ونحن لا نغزو، وفي نفس الوقت نعطى نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ))، قال مجاهد: وأنزل فيها: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية المعروفة في سورة الأحزاب، وحديث أم سلمة صحيح الإسناد.
وفي رواية: نزلت لما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (ليتنا كنا رجالاً فجاهدناً، وكان لنا مثل أجر الرجال).
فالمقصود من الآية: ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)) أنه ينبغي لكل فريق أن يرضى بما قسم له.
((وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)) يعني: ما احتجتم إليه يعطكم.
((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) ومنه محل الفضل وسؤالكم.(33/4)
تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون)
قال تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33].
(ولكل) أي: لكل من الفريقين من الرجال أو النساء.
((جَعَلْنَا مَوَالِيَ))، موالي: جمع مولى، يعني: المقصود ورثة وعصبة يعطون مما ترك الوالدان والأقربون، فيرثون ما تركوا لهم من المال.
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33]، أو: (والذين عاقدت أيمانكم) بالألف ودونها، وهذا المبتدأ ضمن معنى الشرط؛ لذلك وقع خبره مع الفاء؛ لأنه جاء بمعنى الشرط: يعني: (والذين إن عاقدتموهم فآتوهم نصيبهم) فكلمة: (الذين عقدت) أو (عاقدت أيمانكم) تضمنت فيها معنى الشرط؛ فلذلك جاءت الفاء في الخبر، فقال تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33].
أما قوله تعالى: ((أَيْمَانُكُمْ))، فهذا جمع يمين، إما أنها تكون يميناً بمعنى القسم، أو الأيمان من الأيادي، أي: اليد، اليمنى، ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) جمع يمين بمعنى القسم، وإن كان هذا أولى؛ لأن العقد خلاف اليد.
والله جل وعلا قال: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ} [النحل:91]، ما الذي ينصرف إليه كلمة (الأيمان) هنا؟ العقد وليس اليد: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91]، فلهذا يرجح أن يكون المقصود بالذين عقدت أيمانكم أنها جمع يمين بمعنى القسم، وهذا أرجح من القول بأنها اليد، حتى إن قلنا: ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ)) أو (عاقدت أيمانكم) بمعنى: اليد، فيلزم من ذلك أنهم كانوا يضعون الأيدي عند المعاهدات، أو يضع يده في يد من يتفق معه توثيقاً لهذا العقد، كما يحصل في عقود الزواج وغير ذلك، وحتى عند البيع، كانوا إذا وافق البائع والمشتري وحصل الإيجاب والقبول فيتم الصفق باليد على اليد الأخرى، إيماءً إلى توكيد هذا العقد ونفوذه.
فقوله هناك: ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) جمع يمين بمعنى القسم، أو اليد التي يضعونها في العهود.
المقصود من الآية: هؤلاء الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فكان هذا الحلف يحصل في الجاهلية، بمعنى: أن الإنسان له أن يتخذ حليفاً أو ولياً ويتفق معه ويقول: إن دمي دمك، ومالي مالك، وإذا أنا مت فإنك ترثني بدون أسباب الميراث الذي هو عن طريق النسب.
فيكون عقد اليمين في الحلف والعقود والعروض، ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) أو (والذين عاقدت أيمانكم) يعني: من هؤلاء الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة وعلى الإرث.
{فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، فآتوهم الآن نصيبهم وحظوظهم من الميراث وهو السدس.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33] يعني: مطلع على حالكم، وهذا منسوخ بقوله تبارك وتعالى في سورة الأنفال: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75].
وهذه الآية المذكورة يؤخذ منها أنهم أمروا بأن يوفوا بعقود الموالاة التي كانت بينهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فأمروا أن يوفوا بما عاقدوا، ونهوا أن ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة جديدة، بمعنى: أنهم نهوا عن إنشاء معاقدة جديدة فيما يأتي، ولكن أمروا بأن يوفوا بما تم في الجاهلية.(33/5)
تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء)
قال تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].
(الرجال قوامون) أي: مسلطون.
(قوامون) جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتأديب والتدبير، يعني: الرجال مسئولون عن هذه الأشياء.
(على النساء) أي: يقومون عليهن آمرين ناهين قيام الولاة على الرعية، فمسألة القوامة هي مسألة تنظيمية، وليست مسألة استفزازية، وليس معنى ذلك أن الرجل يطغى على المرأة ويظلمها، لكن بما ميز وبما فضل به الرجل على المرأة فإنه بذلك يصير له حق القوامة، بمعنى: أنه مسئول عن تسيير أمرها، كما يلي الراعي أمر رعيته ويقوم على أمرها.(33/6)
أسباب تفضيل الرجال على النساء
بين الله تبارك وتعالى في هذه الآية إلى أن ذلك بسببين: أحدهما: وهبي، والآخر: كسبي.
أما الوهبي: فهو فضل الذكورة، (بما فضل الله به بعضهم على بعض) والبعض المفضل هو الرجال على بعض وهو والنساء، وقد ذكروا في فضل الرجال على النساء أموراً كثيرة، فمثلاً في الرجال: العقل، والحزم، والعدل، والقوة، والفروسية، والرمي، ومن الرجال الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والإمامة الصغرى، والجهاد والأذان والإقامة والشهادة في المجامع، والولاية في النكاح والطلاق، والرجعة، وعدد الأزواج، وزيادة السهم والتعصيب، وهم أصحاب اللحى والعمائم كما يذكر العلماء، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص بنفسه، فهذا فيما يتعلق بالتفضيل الأول، وأشار للتفضيل الثاني وهو التفضيل الكسبي بقوله تبارك وتعالى: ((وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، فهذا السبب الثاني للقوامة: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، والنساء ما زلن يتذكرن قوله تعالى آنفاً: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا)) إلى آخره، والنساء العاقلات لا يعترضن على هذا؛ لأن هذا أمر واقعي.
وهناك استثناءات من هذا، فقد يكمل بعض النساء فتكون امرأة فعلاً بعدة رجال في دينها وعقلها وحفظها، لكن الغالب بخلاف ذلك، كما يقول الشاعر في فضليات النساء: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ويكفي دليلاً على ذلك -حتى لا نطيل في هذه القضية التي يحلم كثير من الناس الإفاضة فيها- أن عامة النساء تفضل أن يكون مولودها ذكراً على أن يكون مولودها أنثى.
فقوله تعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ))، أي: يقومون على النساء، يؤدبونهن ويأخذون على أيديهن.
((بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ))، أي: بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك.
((وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، وبما أنفقوا عليهن من أموالهم، تكون في المهور وغير ذلك.
((فَالصَّالِحَاتُ)) أي: الصالحات من النساء ((قَانِتَاتٌ)) هذه صفة الصالحات من النساء وهي أنهن مطيعات لأزواجهن.(33/7)
معنى حفظ الزوجات للغيب
قوله ((حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ)) يعني: حافظات لفروجهن ولأموال أزواجهن وبيوتهم في غيبتهم.
((بِمَا حَفِظَ اللَّهُ))، في الحقيقة هذه الآية فيها تفصيل كثير، ومعان كثيرة، وتحتاج إلى محاضرات عدة، لكن حتى ننجز القدر المطلوب من التفسير نحاول أن نمر مروراً سريعاً.
أيضاً يدخل في حفظ الغيب، عدم نشر ما يكون بين الزوجين متعلقاً بالجماع، فهذا يذكر أيضاً في حفظ الغيب.
(حافظات للغيب بما حفظ) لهن، (الله).
فالباء هنا في قوله تعالى: ((بِمَا حَفِظَ اللَّهُ))، تحتمل أمرين: إما أنها للمقابلة، كما تقول: هذا في مقابلة ذاك، يعني: كما أن الله سبحانه وتعالى حفظ لهن حقوقهن، بأن أوصى الأزواج بالنساء، وكذلك فعل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فشرع لهن الحقوق وأمر الأزواج بحفظ هذه الحقوق، فينبغي في مقابلة ذلك أن تحذر الزوجة من أن تخونه في غيبته في عرضه وماله ونفسها إلى آخره، فهذا معنى (حافظات للغيب بما حفظ الله)، يعني: في مقابلة ما حفظ الله لهن، فعليهن أن يطعن أزواجهن ويحفظن الغيب.
أو الباء هنا في قوله تعالى: (بما حفظ الله) أي: مستعينات بحفظ الله تبارك وتعالى، فالباء للاستعانة، ومعنى ذلك: أن هؤلاء النساء الصالحات القانتات حافظات للغيب كما ذكرنا بما حفظ الله لهن، يعني: لا يتم حفظهن للغيب من حفظ الفروج والأموال وغير ذلك إلا باستعانتهن بالله، إذ لو تُركن لدواعي أهوائهن ونفوسهن لغلبت عليهن الأهواء، إلا أن يحفظهن الله؛ لأن الله خيرٌ حافظاً، فمهما كن صالحات فإنهن لا يثقن بأنفسهن وإنما يستعنّ بالله في حفظ الغيب بما حفظ الله تبارك وتعالى.(33/8)
عدم جواز تولي المرأة للقضاء
واستدل بالآية على أنه لا يجوز للمرأة أن تلي القضاء، أو الإمامة العظمى؛ لأنه جعل الرجال قوّامين عليهن، فلم يجز أن يقمن هن على الرجال كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
وفي الحقيقة وضع المرأة في الإسلام هذا موضوع ذو شجون، والكلام فيه طويل جداً.(33/9)
صفة التعامل مع الزوجة الناشز ومراحله
يقول تبارك وتعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)).
أي: عصيانهنّ لكم بأن ظهرت أمارته، هنا تفسيران لقوله تعالى: ((تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)): الأول: أن المرأة قد وقع منها النشوز بالفعل.
الثاني: أي أنكم تتوقعون نشوزهن.
فقوله تعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)) يعني: عصيانهن لكم بأن بدأت تظهر أمارة النشوز ودلائله، ففي هذه الحالة تطبق ما ذكر الله بعد ذلك من المراحل بالترتيب.
الأولى: ((فَعِظُوهُنَّ)) أي: فخوفوهن الله.
الثانية: ((وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)) أي: اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز.
الثالثة: ((وَاضْرِبُوهُنّ)) ضرباً غير مبرح إن لم يرجعن بالهجران، يعني: إن لم ينفع الهجران ننتقل إلى المرحلة الثالثة وهي الضرب غير المبرح.
((فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ)) يعني: فيما يراد منهن، ((فَلا تَبْغُوا)) لا تطلبوا ((عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا))، طريقاً إلى ضربهن ظلماً.
وأيضاً: لا شك أن هذه الآية مما يحتاج إلى كثير من التفصيل؛ لأن بعض الناس يسيء فهم موضوع ضرب النساء، حتى إن أعداء الإسلام يشنعون على كلام الله تبارك وتعالى ويضلون الناس عن سبيله، بسبب سوء مسلك بعض الرجال الجهلة من المسلمين.
فأعداء الدين من الكفار ينشرون في وسائل الأعلام أن المسلم يعتقد أنه يجب عليه أن يضرب زوجته كل يوم في الصباح وفي المساء، ويعتقد أيضاً أن هذه عبادة، وهذا مما يضحك، لكن هذا واقع، فهم يشنعون على الإسلام بهذه الافتراءات والأكاذيب، مع أن الضرب بعد استيفاء شروطه مكروه، أي: أن الضرب مباح مع الكراهة ولا يباح بإطلاق؛ ولذلك ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لا امرأة ولا خادماً ولا شاة قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هؤلاء الذين يظلمون النساء: (ما تجدون أولئك خياركم) يعني: مع الإباحة فإن خيار المسلمين لا يفعلون ذلك.
فالموضوع فيه تفصيل، ومن ذلك أنه ينظر إن كان الضرب يجدي فليجأ إليه، أما إن كان الضرب يزيد في النشوز فلا داعي أصلاً للجوء إليه، وهذا ليس فقط في حق النساء، بل حتى الصغار، فالضرب ليس عملية تنفيس، بمجرد أن يغضب على الولد فهو يريد أن يستريح ويشفي غليله بضربه.
فمع أن الضرب قد يؤدي إلى التشويه العضوي البدني في الولد لكن خطورته في التشويه النفسي أعظم وأكبر، حيث تصبح عنده عاهة نفسية.
المقصود من الضرب أنه وسيلة للتأديب، فإذا لم يؤد للتأديب، ولم يعد بفائدة فسيكون ضرراً محضاً، وإنما يلجأ إليه لأجل تحصيل المنفعة من ورائه.
((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)) يعني: فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن، وإذا كنتم قد جعلكم الله من القوامين عليهن وأعلى منهن فاعلموا أن الله أعلى منكم فاتقوا الله فيهن؛ ولذلك قال: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا))، أي أعلى منكم، وأكبر منكم، فإن ظلمتموهن ينتقم الله سبحانه وتعالى منكم؛ ولذلك قال بعض السلف: (إني لأستحيي من الله أن أظلم من لا يجد له ناصراً إلا الله تبارك وتعالى).(33/10)
تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما)
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].
بعدما ذكر الله حكم النفور وحكم النشوز الذي يصدر من جانب الزوجة، ذكر بعده مباشرة النفور من الزوجين معاً، فقال تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)).
(وإن خفتم) علمتم، (شقاق بينهما) يعني: خلاف بينهما، يعني: وجود نزاع بين الزوجة والزوج.
فإذا كان النفور بين الزوجين من الطرفين: (فابعثوا حكماً).
قوله تعالى: (شقاق بينهما) يعني: بين الزوجين، والإضافة للاتساع، والأصل: شقاقاً بينهما، فأضيف المصدر إلى ظرفه، كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33]، بمعنى: بل مكر في الليل ومكر في النهار، وهو ظرف.
((فَابْعَثُوا))، إليهما برضاهما (حكماً) رجلاً عدلاً.
(من أهله) أي: من أقاربه، (وحكماً من أهلها).
ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتوكل هي حكمها في الاختلاع، فيجتهدان -أي: الحكمان- ويأمران الظالم بالرجوع، أو يفرقان إن رأياه.
قال سبحانه: ((إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)).
(إن يريدا) قيل: الزوجان، وقيل: الحكمان، (إصلاحاً) يعني: بصدق نيتهما فيه.
((يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)) يعني: بين الزوجين، أي: يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح، أو تفريق.
((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا)) بكل شيء ((خَبِيرًا)) بالبواطن كالظواهر.(33/11)
مهمة الحكمين بين الزوجين ومدى سلطتهما
قول السيوطي رحمه الله تعالى: ويوكل الزوج، فيه اشتراط التوكيل وهو مذهب الشافعي والأحناف، ومعنى يوكله: أن صاحب السلطة الحقيقية هو الزوج لا الحكم؛ لأن مهمة الحكمين عند الشافعية والأحناف منحصرة فقط في الإصلاح، وليس لهما أي طريقة غير الإصلاح بين الزوجين إلا بتفويض من الزوجين.
أما مذهب مالك فيمنح الحكمين حق الحكم بالتفريق من دون توكيل الزوجين لهما؛ لأن الحكم نفسه لا يكون حكماً إلا إذا كان له سلطة في اتخاذ مثل هذا القرار، فعند المالكية لا يفتقر إلى التوكيل؛ لأنه بوصفه حكماً له حق الطلاق حسبما يتفقان، أما عند الشافعية والأحناف فلا بد من التوكيل.(33/12)
تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)
قال تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].
(واعبدوا الله) وحدوه، (ولا تشركوا به شيئاً) كما جاء في الحديث المشهور من حديث معاذ أنه قال: (ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن يدخلهم الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
تنزل ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً، يقدر فعل قبله وهو: وأحسنوا.
وهذا مما يبين عظم بر الوالدين، حيث إن الله سبحانه وتعالى يأتي به مقترناً بالأمر بعبادته، يعني: يأتي الأمر بالتوحيد ثم يليه مباشرة الأمر ببر الوالدين.
((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))، الإحسان إلى الوالدين لا يتوقف على حياتهما، وإنما يمتد حتى بعد وفاتهما، وذلك بالدعاء لهما وبالتصدق عنهما وغير ذلك.
{وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]، يعني: القرابة.
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].
(وبذي القربى) يعني بذلك: القرابة.
(واليتامى) لأن اليتامى فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم، تنزلاً لرحمته عز وجل.(33/13)
حقيقة المسكين والفرق بينه وبين الفقير
قوله: (والمساكين) يعني: المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فالذي يكون عنده من الأولاد الكثير ولا يستطيع أن يفي بحاجاتهم هو مسكين.
وذكرت من قبل الفرق بين الفقير والمسكين، وقلنا: إذا اختلط عليكم الفرق بين الفقير المسكين فتذكروا الآية في سورة الكهف، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، إذاً المسكين هو الذي يعمل لكنه لا يفي بحاجته.
أما الفقير فلا دخل له أصلاً.
فتذكر قوله: (لمساكين يعملون).(33/14)
أنواع الجيران وحقوقهم في الإسلام
قوله: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى))، أي: الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال نسب ودين.
إذاً الجيران نوعان: جار ذو قربى، وجار جنب، الجار ذو القربى هو الجار القريب الذي يكون قريباً منك إما بنسب أو رحم، وإما بدين فيكون مسلماً.
((وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) أي: الجار الأجنبي.
قال نوف البكالي: (الجار ذي القربى) يعني: الجار المسلم، (والجار الجنب) يعني: اليهودي والنصراني.
ولا شك أن من محاسن الإسلام الاهتمام حتى بالجار الكافر حيث جعل له حقه وحرمته، ونزل في حفظ حقه قرآناً.
وقد وردت الوصية بالجار في أحاديث كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وهذا متفق عليه، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشفع الرجل دون جاره)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره.
قال: فما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام إلى يوم القيامة، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)، وعن ابن مسعود (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) يعني: بزوجة جارك.
وعن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: (خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنا به قائم ورجل معه مقبلٌ عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال: فقال الأنصاري: والله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل الذي كان معه مقبلاً عليه، ووقف وطال وقوفه مع هذا الرجل، حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام -يعني: أشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من طول القيام الذي وقفه مع هذا الرجل- فلما انطلق قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل فجعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ولقد رأيت؟ قال: قلت: نعم، قال: هل تدري من هو؟ قال: لا، قال: ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، ثم قال: أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد.
في هذا الحديث لنا أن نتخيل وقوف الرسول صلى الله عليه وسلم الطويل، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أقوى الناس بدناً، وكان إذا صارع أبطال العرب في المصارعة كان يصرعهم عليه الصلاة والسلام، ومع هذه القوة أشفق عليه الصحابي من طول القيام، فلك أن تتخيل ما مدة هذا القيام؟! وهذا الوقوف الطويل لم يكن في أمر وحكم عادي بل توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام سيورث الجار، مع الأب والأم والابن وغير ذلك.
إذاً: المسلم يتعبد الله بحفظ حقوق الجار، حتى وإن قدر على أذيته أو الانتقام منه فإنه لا يفعل ذلك؛ لأنه ينزجر خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ورعاية لحق الله، فالدافع إلى الإحسان في الإسلام هو رقابة الله سبحانه وتعالى وليس أن يقابل بالمثل.
إذاً: ما نجده في مجتمعات المسلمين اليوم هو أبعد ما يكون عن آداب الإسلام، حتى إن الجار لا يعرف اسم جاره في البنايات الجديدة، ونادراً ما تجد رغبة في التقارب أو أداء حقوق الجوار، هذا إذا لم يحصل الأذية، بل تجد صوراً كثيرة من الأذى وأحياناً تكون باسم الدين، كهذا الذي يستعمل مكبرات الصوت لسماع القرآن الكريم، هذه الصورة تؤذي الشيخ الكبير والطفل والمرأة والمريض وغيرهم، هل يصح أن يستعمل القرآن بهذه الصورة التي تعرفونها لأذية الناس، فضلاً عن الحفلات والأفراح وما يكون فيها من الأذية، فهذا كله من أذى الجار وهذا من الذنوب.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً).
وروى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، أكثر ماءها حتى تستطيع أن توزع منه على جيرانك، وفي رواية: (إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف).
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، ولـ مسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره ومؤامرته وأذيته، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، يعني: الظلف الذي يكون محرقاً، والمقصود: حتى لو كان شيئاً حقيراً فأهده لجارتك، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره).
يقول تعالى: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) هذه الآية عامة في الجيران سواء كان الجار يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، والمسلم له حق أعلى بلا شك، باعتبار أنه جار ذو قربى، يعني: إما أن يكون قريب المكان كما قال عليه الصلاة والسلام: (أهدي إلى أقربهما منك باباً)، ومعنى هذا: أن جار القربى مقدم على غيره حتى ولو كان غير مسلم.(33/15)
أقوال المفسرين في الصاحب بالجنب
قال تعالى: ((وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)).
يقول السيوطي: الرقيق في سفر أو صناعة، وقيل: الزوجة.
فانظر كيف أخلاق الإسلام لم تفوّت شيئاً، ما من شيء إلا فيه ما يرضي الله تبارك وتعالى ويصلح حال العباد.
(والصاحب بالجنب) قال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح.
وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، يعني: إذا رافقك رجل في السفر فهو داخل فيمن أوصى الله بالإحسان إليه، فهو صاحب بالجنب؛ لأن الذي يرافقك في السفر كالجار.
يقول الزمخشري: هو الذي صاحبك بأن يكون بجنبك.
(والصاحب بالجنب) يعني: قدر أن تكون بجواره، وبجنبه، هذا معنى الصاحب بالجنب، إما يكون رفيقاً في سفر، أو جاراً ملاصقاً، أو شريكاً في تعلم علمٍ، حتى زميلك في المدرسة أو في الكلية الذي يجلس إلى جوارك هو صاحب بالجنب، والذي يجلس بجوارك في مجلس أو مسجد هو صاحب بالجنب، له حق عليك، وعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان، وقد روي عن علي وابن مسعود أنهما قالا: (الصاحب بالجنب هي المرأة) أي: الزوجة؛ لأنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك، وقد سبق أن ذكرنا قول بعض الشعراء: صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب(33/16)
وصف ابن السبيل وحكمه
قوله: ((وَابْنِ السَّبِيلِ))، كل هذا داخل فيمن ذكر الله تعالى ممن له حق.
((وَابْنِ السَّبِيلِ)) هو المنقطع في سفره، والمقصود به: المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به، وابن سبيل حتى لو كان ثرياً في بلده وانقطعت به السبيل فهو يستحق من الزكاة.
نسب ابن السبيل إلى السبيل -الذي هو الطريق- لمروره عليه، وملابسته وملازمته له، فهو لا يستطيع أن يتحرك منه إلى بلده؛ لأنه لا يجد ما يبلغه، أو الذي يريد غير بلده لأمر يلزمه، فهذا يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه.
وقال ابن بري: ابن السبيل هو: الذي أتى به الطريق، ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل؛ لأنه جاء تابعاً لابن السبيل في البقرة من قوله: ((لَيْسَ الْبِرَّ)) إلى قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177].
وقال بعضهم في تعريف ابن السبيل: ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نزل في الكتاب ومنسوب إلى ما لم يلده، أي: ابن السبيل منسوب إلى السبيل.(33/17)
حقوق الرقيق في الإسلام
قال تعالى: ((وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) من الأرقاء المماليك؛ لأنهم ضعفاء الحيلة فهم في أيدي الناس كالمساكين لا يملكون شيئاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض موته بقوله: (الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة).
وأيضاً موضوع الرق في الحقيقة من المواضيع المهمة جداً التي تثير كثيراً من التساؤلات، وإن شاء الله فيما بعد نفصل الكلام في موضوع الرق في الإسلام.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: (هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: انطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وهذا رواه مسلم، يعني: يحبس عمن يملك قوته كالمملوك وغيره.
فقال عليه الصلاة والسلام: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يطعمه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين؛ فإنه ولي حره وعلاجه) متفق عليه.
فهذه من الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها المسلم تجاه الخادم؛ لأنه الذي يعينه على تحصيل قوته، فهو يشتري الطعام ويتولى إنضاجه وطبخه وغير ذلك، ثم تستأثر أنت به، ويجلس هو يتأذى بريح القدور، هذا ليس من أدب الإسلام في شيء، لكن أكمل صورة أن تجلسه معك، ويشاركك في الطعام، فإن لم تجلسه معك فناوله لقمة أو لقمتين؛ لأنه هو الذي ولي حره، وهو الذي عالج هذا الطعام حتى نضج فصار له فيه شيء من الحق.
وقال صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العبيد والرقيق: (إخوانكم خولكم -يعني: ملككم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) متفق عليه.(33/18)
ذم الاختيال والفخر والدافع لهما
قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)).
(مختالاً) أي: متكبراً عن الإحسان إلى من أمر ببره.
لماذا الاختيال بالذات؟ لأن الاختيال قد يكون كبراً، وقد يكون هو المانع الذي يمنع الرجل الذي أنعم الله عليه بالنعم أن يحسن إلى من أُمر ببره، فتجد الرجل الغني قد يستنكف عن أن يجلس بجوار خادمه أو رقيقه، وغير ذلك.
(فخوراً) هو الذي يعدد مناقبه ويقول: أنا فعلت وفعلت وغير ذلك تكبراً واختيالاً.
إنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع؛ لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبراً فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، بل يتجاهل حقوق الناس ومنزلتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس).
(فخوراً) أي: أنه لا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة؛ بل لرد أمر الله تبارك وتعالى.
عن أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملَكة وسيئ الخلق وحسوداً إلا وجدته مختالاً فخوراً، هذه صفة أساسية، وتلا هذه الآية: ((وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)).
ثم قال: ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32]، وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة.(33/19)
تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:37].
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أي: يبخلون بما يجب عليهم من الحقوق.
(وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي: هم في أنفسهم لا ينفقون ويعز عليهم أن يروا غيرهم ينفقون في سبيل الله تبارك وتعالى، فيبخلون بما في أيديهم، وكذلك يبخلون بما في أيدي غيرهم، فتراهم يأمرون الناس بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء ممن وجد، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره، يقول الشاعر: وإن امرأً ظنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لبخيل يقول الزمخشري: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد سقط به وحل حبوته، واضطرب ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته ضجراً من ذلك وحسرة على جوده.
((وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، أي: من المال والغنى، يكون الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم النعم والغنى فيظهرون الفقر ويكتمون هذه النعم؛ كذلك إذا كانوا موسرين يظهرون الإعسار والعجز بقدر إمكانهم.
((وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا))، فهو وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: الذين يبخلون بما يجب عليهم ويأمرون الناس بالبخل، ((وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) من العلم والمال، وهم اليهود كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على محمد صلى الله عليه وسلم إنما نخشى عليكم الفقر، وكانوا أيضاً يكتمون ما علموه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون الحق وهم يعلمون خبر المبتدأ في قوله: (وأعتدنا) محذوف تقديره: لهم وعيد شديد.
(للكافرين) بذلك وبغيره، (عذباً مهيناً) أي: ذا إهانة.(33/20)
تفسير قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم ويؤت من لدنه أجراً عظيماً)
{وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:38 - 40].
قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء:38] (والذين) عطف على الذين في الآية قبلها.
(ينفقون أموالهم رئاء الناس) يعني: مرائين لهم.
{وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:38] يعني: كالمنافقين وأهل مكة، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [النساء:38] أي: صاحباً يعمل بأمره كهؤلاء.
{فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]، أي: فبئس القرين هو.
قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء:39] يعني: أي ضرر عليهم في ذلك؟ والاستفهام للاستنكار و (لو) مصدرية، أي: لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه من البخل والشح، {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء:39] أي: فيجازيهم بما عملوا.
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40].
(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ) أحداً (مِثْقَالَ) أي: وزن (ذَرَّةٍ) ويطلق على أصغر نملة، بأن ينقصها من حسناته أو يزيدها في سيئاته.
الله عز وجل منزه عن هذا القدر الضئيل من الظلم، فلا يزيد في السيئات مثقال ذرة، ولا ينقص من الحسنات هذا المثقال.
ثم قال تعالى: ((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))، وإن تك هذه الذرة حسنة -شريطة أن تكون من مؤمن- فإنه يضاعفها، وإن قرئت: (وإن تك حسنةٌ) بالرفع على أن (كان) تامة، وحسنة: تكون فاعلاً فجائز.
قوله: (يضاعفها) أي: من عشر إلى أكثر من سبعمائة، وفي قراءة: (وإن تك حسنةً يُضَعّفْها) يعني: الله سبحانه وتعالى من عدله إذا هم الإنسان بالسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه بها شيء، أما إذا هم بها فعملها ففي هذه الحالة تكتب عليه سيئة.
أما المكفرات فكثيرة جداً التي قد يكفر بها عنه، أما الحسنة فبعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء فوق السبعمائة ضعف، وفي ذلك قال بعض العلماء: الويل لمن غلبت آحاده عشراته.
يعني: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله عز وجل، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو الله عنها، فهذا الرجل عنده رصيد من الخطايا والآثام -التي هي بالآحاد- غلبت العشرات بل المئات من الحسنات، معنى ذلك: أن هذا إنسان مصر على معصية الله عز وجل، ومتفنن في ذلك، حتى إن آحاده غلبت عشراته، فمثل هذا يستحق فعلاً أن يهلك والعياذ بالله، فلا يهلك على الله إلا هالك.
قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)) لا يبخس أحداً من ثواب عمله، ولا يزيد في عقابه شيئاً مقدار ذرة، وهي النملة الصغيرة في قول أهل اللغة، قال ثعلب: مائة من الذر زنة حبة شعير، يعني: المقصود بهذه الآية ضرب المثل بأقل الأشياء، ولا نحتاج إلى التعسف من بعض الناس حيث يقومون بحمل ألفاظ القرآن الكريم على ما استحدث من الاصطلاحات الآتية، كأن يتكلم بعضهم عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فيقول: القرآن أخبر بأن الذرة ليست هي أصغر مكونات المادة، بل هنا الذرة تنقسم إلى الإلكترونات، أو النيترونات إلى آخره، ويقول: القرآن الكريم يبين ذلك، أين هذا أيها المدعي؟! فيقول: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)) إلى قوله: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} [سبأ:3]، أي: أن هناك أصغر من الذرة.
لكن كلمة (الذرة) إذا أطلقت في العرف أو في لغة العرب فإن أذهانهم تنصرف إلى هذا المعنى الصارف الآن.
الذرة بسهولة عند العرب أصغر شيء في نظرهم، حتى إنهم كانوا يقولون: هي النملة الصغيرة، فخرج الكلام هنا على أصغر شيء يعرفه الناس.
ونحن إذا عرفنا ما هو أصغر من الذرة، فهل الله عز وجل يظلم أقل من الذرة؟ الله عز وجل منزه عن الظلم: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)) أي: يضاعف ثوابها، ((وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ)) أي: زيادة على هذه الأضعاف، (من لدنه) أي: بما يناسب عظمته على سبيل التفضل.
((أَجْرًا عَظِيمًا)) أي: عطاءً جزيلاً، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً، منها: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الشفاعة الطويل يقول الله عز وجل: (ارجعوا، فمن وجدتم معه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار.
وفي لفظ: (أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوهم من النار، فيخرجون خلقاً كثيراً).
ثم يقول أبو سعيد اقرءوا إن شئتم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ))).(33/21)
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد)
يقول تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
كيف يكون حال هؤلاء الكفار؟! علاقة هذه الآية بما قبلها أن الله تبارك وتعالى بين في الآخرة أنه لا يظلم أحداً، وأنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه ويزيده على فضل حقه.
فبين تعالى في هذه الآية أن عملية الحساب والجزاء بالحسنات والسيئات كذلك يتم بحضور الرسل وشهادتهم، الذين جعلهم الله الحجة على خلقه، لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتنكيل له أعظم، وحسرته أشد، ويكون السرور ممن أظهر الطاعة أعظم، وهذا وعيد للكفار الذين قال الله فيهم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ))، ووعد للمطيعين الذين قال الله فيهم: ((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))، وعادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه فيما بعد: كيف بك إذا كان كذا وكذا؟! كيف بك إذا فعل فلان كذا وكذا؟! أو كيف بك إذا جاء وقت كذا؟! (فكيف إذا جئنا) أي: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء؟! يعني: المخاطبون بالقرآن هم قومه الذين شاهدهم وعرف أحوالهم.
ثم إن كل أهل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89]، صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}، فقال: حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، معنى ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام بكى تعظيماً لهذا الموقف حين يكون في موقف الشاهد، وهذا حال الشاهد صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون حال المشهود عليه؟! وكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويشفق من ذلك الموقف، حتى قال: (شيبتني هود وأخواتها)، لما فيها من تصوير أهوال يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفضله على العالمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)) كيف يكون حال هؤلاء الكفار إذا جئنا من كل أمة بشهيد -وهو نبيها- يشهد عليها بعملها، (وجئنا بك) أي: يا محمد صلى الله عليه وسلم (على هؤلاء شهيداً).(33/22)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول)
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} [النساء:42].
(يومئذ) أي: يوم هذا المجيء.
(يود الذين كفروا لو) (لو) بمعنى: أن المصدرية.
(تسوى) بالبناء للمفعول أو بالبناء للفاعل، مع حذف إحدى التاءين بالأصل، ومع إدغامها في السين، يعني: تقرأ: (وعصوا الرسول لو تُسَوّى) أو: (لو تَسّوّى بهم الأرض) يعني: يتمنون بأن يكونوا تراباً مثلها لعظم هول ذلك اليوم.
((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ)) أي: يتمنون أن يتحولوا إلى تراب، كل أمتي يوم القيامة في هذا الموقف؛ حتى لا يحاسبوا ولا يعذبوا، كما قال تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40].
قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] أي: أنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، فهم لا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم هي التي ستشهد عليهم، فهم يودون أن يدفنوا في الأرض حال كونهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يكذبونه بقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: مع كل الجرائم التي ارتكبوها في الدنيا يأتون يوم القيامة وهم يحسبون أن الكذب يمكن أن ينجيهم، فأي حيلة يتوقعون منها فائدة يسلكونها؛ فلذلك يحلفون أمام الله سبحانه وتعالى يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، كما روى ابن جرير عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (يا ابن عباس، قول الله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}.
وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]) كأنه يسأل عن الجمع بين هاتين الآيتين؛ لأن فيها نوعاً من الإشكال فهو يستوضح، فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن.
فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد فيقول المشركون: إن الله لا يتقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نجحد، فسألهم فقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، قال: فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثاً.(33/23)
تفسير سورة النساء [69 - 72](34/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول)
انتهينا في تفسير سورة النساء إلى الآية التاسعة والستين إلى قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) يعني: في طاعة الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذكره صلى الله عليه وآله وسلم جاء تشريفاً لقدره وتنويهاً باسمه صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).(34/2)
تفسير آية النساء لآية الفاتحة
هذه الآية هي تفسير لقوله تبارك وتعالى في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فهذه الآية تبين الذين أنعم الله عليهم، والذين أجمل ذكرهم في سورة الفاتحة، فهؤلاء الذين أوجب الله علينا في اليوم والليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن نسأله أن يهدينا صراطهم، هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وما ذكر في هذه الآية أيضاً هو المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم عند موته: (اللهم الرفيق الأعلى) يعني: أسألك الرفيق الأعلى.
والرفيق الأعلى هم المذكورون في هذه الآية: (الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).
وفي البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة).
وتقول: (وكان صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قالت: فعلمت أنه خير) يعني: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سمعته صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تقول: فعلمت أنه خير) فهذه الرواية أيضاً تفسر قوله في الرواية الأخرى: (بل الرفيق الأعلى) فمعنى ذلك: أن الرفيق الأعلى هم المذكورون في هذه الآية الكريمة.(34/3)
الحكمة من عدم ذكر المنعم به في الآية
لم يذكر الله تبارك وتعالى المنعم به ولم يعينه إشعاراً بأن النعمة التي أنعمها عليهم تقصر كل عبارة دون وصفها، فإن دار النعيم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تقوى عبارة مهما كانت على وصف هذا النعيم.
قوله: ((من النبيين)) أي: الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام، وأمرهم بإنبائها الخلق كلاً بمقدار استعداده.(34/4)
الصديقية ومنزلتها وفضلها وحقيقة الشهداء والصالحين
قوله: (الصديقين) الصديقين: جمع صديق، وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة، صادق في ظاهره في العبادات والمعاملات، وفي باطنه بمراقبة الله سبحانه وتعالى، أو هو الذي يصدق قوله فعله.
وقال الرازي: للمفسرين في الصديق وجوه: الأول: أن كل من صدق بكل الدين ولا يتخالجه فيه شك فهو صديق، أي: فالصديق مبالغة من التصديق بكل ما جاء من أمر الدين.
والدليل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19].
الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في ذلك قدوة لسائر الناس، وإذا كان الأمر كذلك فـ أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف، فإن أعظم الصديقين على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله عنه، فهو أفضل البشر بعد الأنبياء، وأعظم الأولياء وأحبهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم جود الرازي الكلام في سبقه رضي الله تعالى عنه إلى التصديق، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صدق وبادر بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد ما علم أنه أرسل أو نبئ صار قدوة لمن تبعه على الإسلام بعد ذلك.
في هذه الآية أيضاً دليل على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ لأن هذه الآية تدل على إنعام الله عز وجل على هؤلاء الصديقين، وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بـ الصديق، فدل على أوليته وأحقيته بالإمامة دون من عداه.
(والشهداء) يعني: الذين استشهدوا في سبيل الله تبارك وتعالى.
(والصالحين) الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم.(34/5)
مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة
(وحسن أولئك) يعني: هؤلاء المذكورين.
(رفيقاً) يعني: في الجنة، والرفيق الصاحب، سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته.
(وحسن أولئك رفيقاً) يمكن أن يقال: رفقاء، هنا عبر عن الجمع بالواحد؛ لأن هذا يحصل من العرب كثيراً في كونهم يعبرون عن الجمع بالواحد، كالصديق أو الخليل كما في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] والجملة تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق.
وقوله تعالى: ((وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا)) فيها معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً!(34/6)
فوائد مستقاة من قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم)
هنا بعض التنبيهات المتعلقة بهذه الآية الكريمة: أولها: أنه ليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، بينما لا يمكن أن تكون مرتبة ومنزلة واحد من عوام المسلمين في الجنة كمرتبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو كمرتبة أبي بكر وعمر وغير هؤلاء المذكورين.
لكن المقصود أن أولئك يكونون معهم في دار واحدة، يعني: تضمهم دار واحدة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه.
فهذا هو المراد من هذه المعية، يعني: يمكنهم أن يتلاقوا وأن يتزاوروا، فهم مع الذين أنعم الله عليهم جميعاً في دار واحدة وهي الجنة، وإن تفاوتت مراتبهم ومنازلهم، فهم يتفاوتون ولكنهم يتزاورون، وكل من فيها قد رزق الرضا بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول؛ لأنه لن يشعر بأن غيره أفضل منه، حيث ينزع منه هذا الشعور حتى لا يكدر عليه هذا النعيم، فلا يحس أن غيره أفضل منه، بل رزق الرضا بما أتاه الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر:47].
ثانيها: أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم أفضل من مرتبة الصديقية، ولذلك أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة كما قال عز وجل في صفة إدريس: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56] وقال هنا: ((فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ)) فهو يقرن دائماً بين الصديقين والأنبياء، وإذا ترقيت في النطق من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة ستجد أسفل الأنبياء مباشرة الصديقين ولا متوسط بينهما، وقال عز وجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] فلم يجعل بينهما واسطة.
وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وصف الله هذه الأمة بأنها خير أمة، والأمة أجمعت على جعل أبي بكر حتى جعلوا الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم توجد واسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر في الخلافة، وإنما خلفه مباشرة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وتحقق عموم قوله عز وجل في شأن الصديق رضي الله تعالى عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا أبكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!).
فتحقق هذا الأمر فلم يطلق لقب: خليفة رسول الله إلا على أبي بكر؛ لأنه في عهد عمر رضي الله تعالى عنه قالوا: لو ظللنا كلما أتى خليفة جديد نضيف له هذا اللفظ لطال جداً، يعني: إذا قيل في حق أبي بكر: خليفة رسول الله، ثم قيل في حق عمر: خليفة خليفة رسول الله، وفي حق الثالث: خليفة خليفة خليفة رسول الله، فإن الأمر سيطول، فمن لذلك رأوا أن يستبدلوها بلقب أمير المؤمنين.
فشاء الله سبحانه وتعالى أن يختص أبا بكر بهذه النسبة، وأن يكون الله ثالثهما، كما في الحديث: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فعبارة خليفة رسول الله قرن فيها اسم أبي بكر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأيضاً لما توفي رضي الله تعالى عنه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية.
فمن ثم ارتفعت الواسطة بينهما في هذه الوجوه التي ذكرناها.(34/7)
سبب نزول قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم)
أما سبب نزول هذه الآية فعن سعيد بن جبير قال: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان! ما لي أراك محزوناً؟ قال: يا نبي الله! شيء فكرت فيه، قال: وما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأتاه جبريل بهذه الآية: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره).
وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس، وروي في بعض الآثار أن ذلك الصحابي الذي حصل معه هذا هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان.
بل ذكر مكي ولم يذكره بسنده: (أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن زيد: اللهم! أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي مكانه)، ولو صح أنه دعا على نفسه بالعمى حتى لا تقع عينه على شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك وقع لاشتهر ولشاع، فيبعد أن يصح مثل هذا خاصة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا الدعاء بالعافية.(34/8)
من أسباب مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة
في معنى هذه الآية أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، -أي: أسألك- أن تدعو لي بمرافقتك في الجنة- فقال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذلك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: لا تحصل هذه المنزلة إلا بكثرة السجود.
ومن الأحاديث في نفس هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن مرة الجهني قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات على ذلك كان مع النبيين والشهداء يوم القيامة هكذا، ما لم يعق والديه، ونصب أصبعيه).
وقال ابن كثير: وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب، المرء مع من أحب، قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث، ثم قال أنس بن مالك: والله! إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن يبعثني معهم، وإن لم أعمل بعملهم).
إذاً: هذا من أوثق الأسباب التي يتعلق بها الإنسان كي ينال هذه المراتب العالية، لا بالأماني والغرور ولكن بالاجتهاد في الطاعة وفي العبادة.
انظر! مجرد محبة هؤلاء الصالحين تنفعك في الآخرة، وتنال هذا الثواب العظيم: (المرء مع من أحب).
وقوله: (المرء مع من أحب) هذا عام يشمل كل من يحب أحداً من المخلوقين، فالذي يحب المغنين والممثلين والمطربين وأبطال الكرة والرياضة يكون معهم، والذي يحب الظلمة والمتجبرين يكون معهم، وكذلك الذي يحب الرسول عليه الصلاة والسلام والذي يحب الصحابة فإنه يكون معهم.
فإذاً: من الأسباب التي توصل إلى المراتب العالية في الجنة الاجتهاد في محبة الصالحين، كما قال الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم.
وقال الإمام الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأبغض من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة على أي الأحوال؟ فمحبة الصحابة من أعظم الأسباب التي يرجى أن تنفع صاحبها يوم القيامة، وبالعكس من وجد في قلبه والعياذ بالله بغضاً لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهذا نذير شؤم عليه، ونذير سوء عاقبة؛ لأن من يكون في صف مقابل ومضاد لصف فيه أبو بكر وعمر فسوف يوليه الله عز وجل الظالمين مثله، قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
فينبغي على كل من وجد في قلبه شيئاً على أحد من الصحابة أن يطهر قلبه منه، وللأسف الشديد كنت أتحدث مع بعض الناس عن مسألة الصحابة رضي الله عنهم وما ينبغي لهم من المحبة في قلوبنا، والجميل الذي في أعناقنا، ونذكر ما بذله لنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فوجدت أن بعض الناس الذين نشئوا على المناهج الدراسية في ظل الثورة المشئومة يحطون من قدر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فالمسلم المنصف مهما قرأ فإنه لا يتصور أن هذا هو الشخص الذي درست شخصيته في التاريخ، وصارت الصورة منطبعة في ذهن الكثيرين بشكل مشوه، حتى إن أغلب الناس نتيجة تربيتهم منذ نعومة أظفارهم يبغضون عمرو بن العاص ويبغضون معاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة؛ لأن الخبثاء يعمدون إلى شخصيات مثل شخصية عمرو بن العاص فيشوهون صورته كذباً وزوراً، مع أنه هو الذي فتح مصر وطهرها من الوثنية والرجس والأوثان والكفر المبين، وهو الذي جعله الله سبباً لأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأعداء الدين يريدون أن يقطعونا عن هذه الجذور.
فلو أن كل أمم الأرض خاضوا في حق عمرو بن العاص لكان واجباً على المصريين بالذات أن لا يخوضوا معهم أبداً، بل الواجب عليهم أن يذبوا عنه ويستغفروا له ويترضوا عنه رضي الله تعالى عنه.
عمرو بن العاص وأمثاله من الصحابة -الذين تتطاول عليهم الأقلام المسمومة- داخلون في عموم نصوص القرآن والسنة التي تحث على محبة الصحابة واحترامهم، وهي كثيرة جداً.
والله سبحانه وتعالى قد قسم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، والأنصار، ومن يحب المهاجرين والأنصار، فمن ليس من هؤلاء الأقسام الثلاثة فليس من المؤمنين، إما أن تكون مهاجرياً أو أنصارياً وهم الصحابة رضي الله عنهم، أو تكون ممن أتى بعدهم محباً لهم، فإذا لم تحبهم فلست منهم وليسوا منك.
يقول سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] أي: المهاجرون، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] أي: الأنصار، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
فمن وجد في قلبه غلاً لواحد من الصحابة فهذا علامة نفاقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار).
وأيضاً يقول الله سبحانه وتعالى في وصف الصحابة رضي الله تعالى عنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] معنى ذلك: أن الصحابة مدحوا في الكتب السابقة قبل أن يخلقوا، فصفتهم المذكورة هنا في سورة الفتح هي هي تماماً كما وجدت في التوراة التي أنزلها الله على موسى، وفي الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام.
{وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
قال الإمام مالك: فمن وجد في قلبه غيظاً من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ليس من المؤمنين بل هو من الكفار.
فنذير شؤم على أي إنسان أن ينساق وراء هؤلاء الزنادقة والملاحدة الذين يعتلون الآن جميع المنابر الإعلامية، ومناهج التعليم، فصار سمهم منتشراً في كل مكان، بحيث لا ينجو منهم إلا من أراد الله سبحانه وتعالى أن يعافيه من هذا البلاء المستطير، ففي هذا الزمان العجيب لا يكاد يخلو أحد من هذه السموم، فواجبنا أن نطهر قلوبنا وقلوب أبنائنا من سموم المناهج التعليمية، خاصة التي تتطاول على الصحابة.
ترى هؤلاء الخبثاء يحرصون على أن يسموا الفتح الإسلامي بالفتح العربي؛ حتى يهربوا من كلمة الفتح الإسلامي.
كذلك فتح باب المعاداة لبعض الصحابة خاصة عمرو بن العاص ومعاوية رضي الله عنهما، وما يتبع ذلك من الطعن فيهم وفي غيرهم من الصحابة معناه: أننا نطعن في القرآن والسنة، وهذا هو غرض أعداء الدين.
من الذي أدى إلينا هذا الدين؟! ومن الذي حمل إلينا القرآن والسنة؟ إنهم الصحابة، فإذا طعنت في الصحابة كان ذلك طعناً في القرآن والسنة.
ولذلك يقول الإمام أبو زرعة رحمه الله تعالى: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، فالصحابة هم الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة، وإنما يريدون بذلك أن يجرحوا شهودنا ليعطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة).
ومعنى ذلك: أن من رأيته يسب أحداً من الصحابة أو ينطوي قلبه على عداوة لأحد من الصحابة فاعلم أنه منافق.
على أي الأحوال هذا الشخص الذي كنت أتكلم معه يقول: مهما تعلمت رغم حبي الشديد للصحابة واجتهادي في محبتهم لكن أجد من الصعب أن يتخلص قلبي مما بذر في مناهج التعليم التي تعلمناها منذ نعومة أظفارنا من موقف عدائي تجاه عمرو بن العاص، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! الصحابي الذي طهرنا من النصرانية، وطهرنا من الفرعونية، وطهرنا من الشرك، وأنار بلادنا بعد ظلمة الكفر، يكون جزاؤه أن نحمل في صدورنا غلاً عليه رضي الله تعالى عنه.
كيف وهو يدخل في كل العمومات التي فيها مدح الصحابة من القرآن أو السنة! فضلاً عما اختص به، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام) فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد له بالإيمان وأنت تطعن فيه وتتطاول عليه.
ومن أعظم مناقب عمرو بن العاص ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، وجهاده في سبيل الله عز وجل، وأنه يدخل في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوا لي أصحابي، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).(34/9)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله)
يقول تبارك وتعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:70] (ذلك) مبتدأ، وهي بمعنى: هذا الذي تقدم، والخبر الفضل من الله، أو (الفضل) تكون بدلاً (من الله) تكون خبراً، يعني: في هذا إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم.
(الفضل من الله) يعني: ليس من غير الله إنما هو من الله سبحانه وتعالى.
إذاً هنا معنى مهم جداً يقول الناصر: معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق الله تعالى وفعله، وأن قدرتهم لا تأثير لها في أعمالهم بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها.
فالطاعة إذاً من فضله سبحانه فله الفضل على كل حال، والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة) {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] اللهم! اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة.
إذاً: فهذه إشارة إلى أن ما نالوه من النعيم المذكور في الآية السابقة ليس بكسبهم، وإنما هو محض فضل من الله عز وجل، فأخبر أنهم لن ينالوا هذه الدرجة العالية بطاعتهم، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه، خلافاً لما قالت المعتزلة: إنما ينال العبد ذلك بفعله.
فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله، دل ذلك على بطلان قول المعتزلة والله تعالى أعلم.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله: (ومن يطع الله والرسول) أي: فيما أمر به (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) وهم أفاضل أصحاب الأنبياء، وسموا صديقين لمبالغتهم في الصدق والتصديق، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً).
و (الشهداء) أي: القتلى في سبيل الله، ولا يعد الإنسان مقاتلاً في سبيل الله إلا إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وما هي كلمة الله، هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما كلمة الكافرين فهي كفرهم بالله تبارك وتعالى.
(والصالحين) غير من ذكر.
(وحسن أولئك رفيقاً) أي: رفقاء في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم.
(ذلك) أي: كونهم مع من ذُكِرَ مبتدأ خبره: (الفضل من الله) تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعتهم.
(وكفى بالله عليماً) بثواب الآخرة، فثقوا بما أخبركم به {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].(34/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] يعني: تيقظوا واحترزوا من العدو، ولا تمكنوه من أنفسكم.
(خذوا حذركم) فيه الأمر باتخاذ السلاح، وأنه لا ينافي التوكل، وقال بعض المفسرين: دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر من العدو وترك التفرق والاختلاف.
(فانفروا) أي: اخرجوا إلى الجهاد.
(ثبات) جمع ثبة، والثبة: هي الجماعة، يعني: جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، وفرقة بعد فرقة؛ إظهاراً للقوة أمام الأعداء.
(أو انفروا جميعاً) أي انفروا مجتمعين كلكم كوكبة واحدة لإظهار المهابة ولتكثير السواد، والمبالغة في التحرز عن الخطر.
والتخيير في هذا الأمر هل يكون النفور ثبات -أي: جماعات متفرقة- أو جماعة واحدة موكول إلى اجتهاد الإمام، خاصة إذا كان في العصر الحديث حيث اختلفت طرائق الحروب واستراتيجياتها.(34/11)
تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن)
يقول تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72].
(وإن منكم لمن ليبطئن) اللام الأولى في قوله: (لمن) هذه لام توكيد، (ليبطئن) لام القسم يعني: يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد والخروج مع الجماعة للنفاق.
فالمقصود أن منكم ممن ينتمون لكم في الظاهر وليس هم من المؤمنين، لكنهم يدخلون في جملة المؤمنين بحكم الظاهر؛ لأنهم منافقون يحتمون بكلمة التوحيد وإظهار أنهم من المسلمين.
(ليبطئن) يعني: يتثاقل أو يتخلف عن الخروج إلى الجهاد، أو يبطئ غيره ويشيع فيهم ما يثبطهم عن الخروج إلى الجهاد، كما كان المنافقون يثبطون غيرهم.
وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبي وهو الذي ثبط الناس يوم أحد، وروي عن كثير من التابعين أن الآية نزلت في المنافقين؛ لأن الذي حكي في هذه الآية هو عادة ودأب المنافقين، وقيل: الخطاب للمؤمنين وقوفاً مع صدر الآية التي قبل هذه حيث تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:71 - 72].
الله سبحانه وتعالى قال في المنافقين: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56].
وقوله: (وإن منكم) هذا في الحقيقة خطاب صريح للمؤمنين ولمن يدخل معهم في الظاهر بصفة الإيمان وهم المنافقون؛ لأن ما ذكر لا يصدر عن مؤمن (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً) يعني: حاضراً.
(منكم) يعني: إن من دخلائكم وجيشكم وممن أظهر إيمانه منكم.
فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين وتجري أحكام المسلمين عليهم.
والجمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب لا من جهة الإيمان، (وإن منكم) يعني: ممن هم في الظاهر من جنسكم، لكن هم في الحقيقة بخلاف ذلك، ولو أصابتكم هزيمة أو شهادة أو تغلب العدو عليكم لما لله في ذلك من الحكمة قال هذا المبطئ فرحاً بصنيعه: (قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً).(34/12)
تفسير سورة النساء [88 - 92](35/1)
تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين)
قال تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].
قوله: ((فما لكم في المنافقين)) يعني: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين؟! وكيف تختلفون على أمر المنافقين؟! ((فئتين)) يعني: فرقتين أي: كيف لم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام هنا للإنكار والنفي، والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ فهو متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك الميل، وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ من المنافقين؛ لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية.
وقد قيل: إن المراد بهم هاهنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا، كما تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران.(35/2)
سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم)
يوضح ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس قد خرجوا معه في الجيش، وثبطوا الناس عن القتال، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم مؤمنون -يعني: باعتبار ما كانوا يظهرون- فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة -يعني: المدينة- وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد) يعني: المدينة تطرد المنافقين منها وتتخلص منهم.
وذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد: أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع يومئذٍ بثلث الجيش -وهم ثلاثمائة- وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وثمة رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف: (أن قوماً من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} [النساء:88]) أي: نكسهم وردهم إلى الكفر.
(بما كسبوا) يعني: بسبب ما كسبوا من لحاقهم بالكفار، وابتعادهم عن المؤمنين.
(أتريدون أن تهدوا من أضل الله) تهدوا هنا بمعنى: أن تصفوا بالهداية من أضل الله، وأن تعدوا هؤلاء الضلال من جملة المهتدين.
فهنا توبيخ على هذا الفعل من المؤمنين الذين لم يعدوا هؤلاء منافقين ويبرءوا منهم، وإشعار بأن هذا الأمر منهم يؤدي إلى أن يعدوا هؤلاء المنافقين من جملة المهتدين وهو من المحال؛ لأن هداية من أضله الله تعالى من المستحيل، فإنه من يضلل الله فلا هادي له، لذلك يقول الله لهم: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله).
(ومن يضلل الله) يعني: عن دينه.
(فلن تجد له سبيلاً) أي: طريقاً إلى الهدى.(35/3)
تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا)
قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89].
(ودوا لو تكفرون كما كفروا) هذا كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر، وتصديهم لإضلال غيرهم، أي: أنه سبحانه بعدما بين كفرهم وضلالهم في أنفسهم بين تعالى هنا أنهم أيضاً ساعون في إضلال غيرهم، وصدهم عن سبيل الله.
(ودوا لو تكفرون كما كفروا) يعني: تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان، (فتكونون سواء) في الكفر والضلال.
(فلا تتخذوا منهم أولياء) يعني: في العون والنصرة؛ لأنكم إذا واليتموهم فإن ذلك يؤدي ويئول بكم إلى الكفر؛ لأن موالاة الكفار من الكفر.
وإن أظهروا لكم الإيمان طلباً لموالاتكم، فلا تتخذوا منهم أولياء.
(حتى يهاجروا) يعني: حتى يهاجروا في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، فحينئذٍ تتحققون من صحة إيمانهم.
(فإن تولوا) يعني: عن الهجرة.
(فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) يعني: وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة فافعلوا بهم ما تفعلونه بالكفار؛ لأنهم حينما ينحازون من المؤمنين إلى الكافرين وهم قادرون على الهجرة من وسط الكافرين إلى وسط المؤمنين، ومع ذلك يؤثرون الانحياز إلى معسكر الكافرين، فهنا خرجوا من صفة النفاق وأظهروا الكفر بتحيزهم للكافرين.
(فخذوهم) هذا أمر باتخاذهم أسرى.
(واقتلوهم حيث وجدتموهم) يعني: سواء كان ذلك في الحل أو في الحرم.
(ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً) يعني: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
فهذه الآية تدل على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا متأكد بعموم قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن الدين هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به لطلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، فأعظم أنواع العداوة ما كان بسبب الدين، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه، كأن يعادي دينك ويعادي الله سبحانه وتعالى ويعادي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومعروف معلوم أن أكثر مسائل الإيمان أدلة بعد التوحيد هي قضية الولاء والبراء، فهي أكثر قضايا الإيمان من حيث أدلتها بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، وبلا شك فإن هذه القضية وثيقة الصلة بالإيمان والتوحيد.(35/4)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق)
قال تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90].
(إلا الذين يصلون) يعني: الذين يلجئون.
(إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) يعني: عهد هدنة أو أمان، فاجعلوا حكمهم كحكمهم؛ لأن هذا سيؤدي إلى قتال من وصلوا إليه، فيفضي إلى نقض الميثاق.
وفي هذا احترام للعهود والمواثيق، يعني: الحكم السابق في قوله تبارك وتعالى: (فإن تولوا) أي: عن الهجرة وانحازوا للكفار مع قدرتهم على الهجرة إليكم.
(فخذوهم) يعني: بالأسر.
(واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل أو الحرم.
(ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً).
من الذي يستثنى من هؤلاء المذكورين؟! يستثنى من لجأ إلى قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق، ففي هذه الحالة ينبغي عدم التعرض له، بل يعامل كمعاملة هؤلاء الذين لهم عهد ولهم هدنة ولهم ميثاق؛ لأنه إذا دخل هذا في جوار هؤلاء القوم الذين لهم عهد وميثاق، وحاول المسلمون أن يقتلوه وهو في جوارهم فهذا سيؤدي إلى قتال هؤلاء المعاهدين، وبالتالي تنقض العهود، ومن ثم أمر الله سبحانه وتعالى بأن هؤلاء يعاملون كمعاملة هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق.
(أو جاءوكم حصرت صدورهم) يعني: وهؤلاء الذين جاءوكم يستثنون مع هؤلاء اللاجئين.
(حصرت صدورهم) يعني: قد ضاقت وانقبضت نفوسهم.
(أن يقاتلوكم) لإرادتهم المسالمة فهم يريدون أن يكونوا سلماً لكم، ويكرهون وتضيق نفوسهم بأن يقاتلوكم.
(أو يقاتلوا قومهم) أي: معكم لمكان القرابة منهم، فهؤلاء لا يريدون أن يقاتلوكم، ولا يريدون أن يضموا إليكم ليقاتلوا قومهم وقبيلتهم، فهم لا لكم ولا عليكم.
إذاً المستثنى هنا من المأمور بأخذهم فريقان: أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين.
الآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن التعرض لقتلهم فيه إظهار لقوتهم الخفية، فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل.
(ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) يقول القاسمي: فيها إشعار بأنه لديهم قوة كاملة هم يستطيعون أن يقاتلوكم، لكن الله هو الذي كف أيديهم عنكم، وأنتم إذا تعرضتم لقتلهم فستستفزونهم، وبالتالي سيأخذون موقفاً معادياً ويشرعون في قتالكم، هذا هو التعليل لسبب استثنائهم من الأخذ والقتل.
(فإن اعتزلوكم) يعني: إن تركوكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك.
(فلم يقاتلوكم) مع أنهم متمكنون من قتالكم وقادرون على قتالكم، لكن الله سبحانه وتعالى كفهم عنكم.
(وألقوا إليكم السلم) أي: الانقياد والاستسلام.
(فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي: ليس لكم حق في أن تأخذوهم بالأسر أو بالقتل، إذ لا ضرر منهم على الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.(35/5)
كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً)
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ولما رجع ناس من معركة أحد -وهم المنافقون- اختلف الناس فيهم، فقال فريق: نقتلهم، وقال فريق: لا، فنزل: (فما لكم) أي: ما شأنكم صرتم (في المنافقين فئتين) فرقتين، لذلك فإن إعراب كلمة فئتين يكون بتقدير كلمة صرتم.
(والله أركسهم) أي: ردهم.
(بما كسبوا) من الكفر والمعاصي.
(أتريدون أن تهدوا من أضل الله) أتريدون أن تهدوا من أضله الله، أي: تعدوهم من جملة المهتدين، والاستفهام في الموضعين للإنكار.
(ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً) أي: ومن يضلله الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى.
(ودوا) أي: تمنوا.
(لو تكفرون كما كفروا فتكونون) أنتم وهم (سواءً) في الكفر.
(فلا تتخذوا منهم أولياء) توالونهم وإن أظهروا لكم الإيمان.
(حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم.
(فإن تولوا) يعني: عن الهجرة كما ذكرنا وأقاموا على ما هم عليه.
(فخذوهم) بالأسر.
(واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً) توالونه (ولا نصيراً) تنتصرون به على عدوكم.
(إلا الذين يصلون) يلجئون.
(إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد بالأمان لهم، كما عاهد صلى الله عليه وسلم هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعين على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعينه، على أن من لجأ إليه لا يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم له.
(أو) الذين (جاءوكم) وقد (حصرت) ضاقت، (صدورهم) عن (أن يقاتلوكم) مع قومهم، (أو يقاتلوا قومهم) معكم، أي: ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرضوا إليهم بأخذ ولا قتل.
وهذا وما بعده منسوخ بآية السيف.
وسبق البيان أن معنى النسخ في مثل هذه المواضع من القرآن الكريم يتفاوت بحسب حال المسلمين، أما النسخ الآخر كنسخ الخمر والربا أو غير ذلك من الأشياء التي نسخ حكمها تماماً.
(ولو شاء الله) تسليطهم عليكم، (لسلطهم عليكم) بأن يقوي قلوبهم، (فلقاتلوكم) ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب.
(فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) الصلح أي: انقادوا.
(فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي: طريقاً بالأخذ أو القتل.(35/6)
تفسير قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم)
قال تبارك وتعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:91].
(ستجدون آخرين) أي: أقواماً آخرين.
(يريدون أن يأمنوكم) على أنفسهم بأن يظهروا لكم الإسلام.
(ويأمنوا قومهم) يعني: بإظهار الكفر.
فهؤلاء يريدون أن يأمنوكم بإظهار الإسلام لكم، ويأمنوا قومهم بإظهار الكفر لهم.
(كلما ردوا إلى الفتنة) كلما دعوا إلى الارتداد وإلى الشرك.
(أركسوا فيها) أي: رجعوا إلى الشرك منكوسين على رءوسهم.
(فإن لم يعتزلوكم) إن لم يتنح عنكم هؤلاء جانباً، بأن يكونوا لا معكم ولا عليكم.
(ويلقوا إليكم السلم) يعني: ولم ينقادوا لكم.
(ويكفوا أيديهم) يعني: عن قتالكم.
(فخذوهم) أي: خذوهم أسرى.
(واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي: حيث وجدتموهم في داركم أو في دارهم.
(وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) يعني: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلاً وسبياً؛ بسبب عداوتهم وغدرهم وإضرارهم بأهل الإسلام، أو تسلطاً ظاهراً في أخذهم وقتلهم لغدرهم.(35/7)
أقوال المتقدمين من أهل التفسير في قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم
يقول الحافظ ابن كثير: قال تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا).
هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء المذكورين قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
وعن مجاهد: أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
وقال الأكثرون من المفسرين: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم) بإظهار الإيمان عندكم.
(ويأمنوا قومهم) بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم بنو أسد وغطفان.
(كلما ردوا إلى الفتنة) دعوا إلى الشرك.
(أركسوا فيها) يعني: وقعوا أشد وقوع.
(فإن لم يعتزلوكم) بترك قتالكم.
(ويلقوا) ولم يلقوا إليكم السلم.
(ويكفوا أيديهم) عنكم.
(فخذوهم) بالأسر.
(واقتلوهم حيث ثقفتموهم) وجدتموهم.
(وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) برهاناً بيناً ظاهراً على قتلهم وسبيهم؛ لغدرهم.(35/8)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً)
قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92].
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً) يعني: ما ينبغي ولا يصح ولا يليق بمؤمن قتل أخيه المؤمن، ولا يجترئ على إهدار دم أخيه المؤمن؛ لأن الإيمان زاجر عن ذلك، لكن قد يقع ذلك على وجه الخطأ، كالحوادث التي تقع في الطرقات أو أي طريقة لا يجوز فيها القتل العمد، إلا على وجه الخطأ، فإنه ربما يقع لعدم حصول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية؛ لأن هذا قد يكون بغير قصده.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما إعراب قوله: (إلا خطأً)؟ لها عدة وجوه: الأول: مفعول له، ومعناه: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده.
الثاني: أن يكون حالاً، بمعنى: في حال كونه خطأً.
الثالث: أن يكون صفة للمصدر، يعني: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) يعني: قتلاً خطأً، فيكون صفة للمصدر.
وكل هذه الوجوه جائزة.
على أي الأحوال المعنى: أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه حصول قتل المؤمن ابتداءً ألبتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم.(35/9)
حكم قتل المؤمن لأخيه المؤمن خطأً
قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) يعني: بما ذكرنا، وإن عفي عنه، صحيح هو غير متعمد ولا يعامل معاملة القاتل المتعمد للقتل، لكن هو مع ذلك لا يخلو من تقصير في حق الله تبارك وتعالى، وهذا الخطأ لا يهدر دم المؤمن بالكلية، بل لابد أن يتحمل دم أخيه المؤمن الذي قتل خطأ.
ولذلك يقول تعالى: (ومن قتل مؤمناً خطأً) إذا قدر وقوع ذلك.
(فتحرير رقبة مؤمنة) يعني: فالواجب عليه لحق الله اعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان ولو صغيرة؛ ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءاً منه من النار.
فهذا فيما يتعلق بحق الله تبارك وتعالى.
روى الإمام أحمد بسنده: (عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إن عليّ عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم.
قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال: أعتقها) وهذا إسناد صحيح.
وفي موطأ مالك، ومسند الشافعي وأحمد، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي، عن معاوية بن الحكم: (أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء -يعني: فوق السماء- قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).(35/10)
حكمة الإعتاق في القتل الخطأ
قيل في حكمة هذا الإعتاق: إنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء بالقتل خطأً، لزمه أن يدخل نفساً مؤمنة مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، فانظر تقدير الإسلام لحرية الإنسان حيث جعل إخراج العبد المؤمن أو الأمة المؤمنة من الرق إلى الحرية كفئاً ومقابلاً لإخراجه النفس المؤمنة من الأحياء إلى عالم الأموات.
والرق أثر من آثار الكفر، والكافر حكمه حكم الميت؛ لأن الكافر لا حياة له، يقول تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] يعني: من كان كافراً فأحييناه بالإيمان، فالكافر في حكم الميت، حتى إن بعض العلماء فسروا قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] بأنهم الكفار؛ لأنهم مثل أصحاب القبور، حتى لو كان الكافر يرى في صورة الحي رائحاً وغادياً، لكنه في الحقيقة ميت والعياذ بالله.
فالرقيق ملحق بالأموات؛ لأن الرق أثر من آثار الكفر، والسبب الأصلي في الرق هو الكفر، إذ بالجهاد في سبيل الله يؤسر الكفار، فيكونوا أرقاء بسبب هذا.
وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم أبوا أن يكونوا عبيداً لله سبحانه وتعالى باختيارهم، وليس هذا فحسب بل سعوا في قتال الفئة المؤمنة التي تدعوهم إلى التوحيد، فعاقبهم الله بأن جعلهم عبيداً لعبيد أمثالهم مع إبقائهم على قيد الحياة.
فهذا بلا شك أحسن مما يحصل الآن من المجازر التي تحصل في الحروب، ودفن الجنود أحياء وغير ذلك من الأوضاع الشنيعة، فالإسلام استبقاهم أحياء، لكن لما أبوا العبودية لله عاقبهم الله بأن صاروا عبيداً لعبيد أمثالهم، لكنهم من المؤمنين.
فإذا حصل أن يسترق الإنسان كافراً ثم يسلم هذا الكافر هل يزول عنه حكم الرق؟ لا يزول؛ لأن الحق اللاحق لا يرفع ولا يزيل الحق السابق؛ ولأن سبب الرق ومنبعه هو الكفر، فالرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
ولهذا منع الكافر العبد من أن يتصرف تصرف الأحرار، وهذا فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى في هذا الذي قتل أخاه المؤمن خطأً، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، فالواجب عليه في حق الله تحرير رقبة مؤمنة، أما في حق البشر أولياء هذا الميت (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) يعني: الواجب عليه دية لحق ورثة المقتول، وتكون الدية عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، فيؤتى بالدية وتوزع على الورثة الشرعيين لهذا القتيل، كما توزع الأنصبة الشرعية للورثة.(35/11)
مقدار دية المقتول ومن تدفع لهم وكيفية توزيعها عليهم
قد بينت السنة مقدار الدية، وذلك فيما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً وفيه: أن في النفس الدية مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار).
وروى أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة).
وفي الموطأ: (أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم) وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله.
يعني: أن هذه الدية التي تعطى لورثة القتيل وتوزع عليهم حسب إرثهم، لا يدفعها القاتل خطأ نفسه بل تكون واجبة على عاقلته، والعاقلة هم: القرابة والعصبة من الذكور.(35/12)
تفسير سورة النساء [94](36/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله)
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94].
في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى كفارة القتل الخطأ، ثم بين حكم القتل العمد، ثم هنا يحذر تبارك وتعالى عما يؤدي إلى القتل العمد، فإذا كانت الآية الكريمة قد تناولت القتل العمد، فهنا بيان لأمر يؤدي إلى القتل العمد، وهو عدم الاكتراث وقلة المبالاة وعدم التحرز في الأمور التي تؤدي إلى وقوع هذا القتل العمد.
((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم)) يعني: إذا ذهبتم.
((في سبيل الله)) يعني: مجاهدين في سبيل الله إلى أرض العدو.
((فتبينوا)) يعني: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ولا روية.
((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبين، فبعدما حثنا الله عز وجل على التبين والتثبت وعدم التعجل في الأمور، عين مادة مهمة وموضعاً مهماً من المواضع التي يتأكد فيها التبين والتثبت والاهتمام، وهي: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) يعني: لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم فحياكم بتحية الإسلام: لست مؤمناً في الباطن، وإنا لن نقبل ظاهرك؛ لأن باطنك يخالفه، وإنما قلت ذلك باللسان لتطلب الأمان من القتل فقط.
فيقول الله تبارك وتعالى: من انقاد لدعوتكم وأعلن ذلك بقوله: لا إله إلا الله، أو قال لكم: السلام عليكم، لا تقولوا له: لست مؤمناً في الباطن، وإن أظهرت لنا هذا في الظاهر لتتقي به أو لتطلب الأمان، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه، يعني: إذا كنت ترى المسلم يقاتل الكفار وظل يطارد رجلاً من الكفار ثم في النهاية حصره المسلم في مكان ورفع السيف ليقتله فقال الكافر: لا إله إلا الله، في هذه الحالة يجب عليه أن يكف عن قتله، حتى لو كان الظاهر أنه إنما قال ذلك ليلوذ بالكلمة ليحقن بها دمه، ما دام قالها فيجب الكف عن قتله.
((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) يعني: تطلبون بقتله عرض الحياة الدنيا كالمال الذي معه كغنيمة، وهذا العرض من أعراض الحياة الدنيا هو سريع النفاد وجملة ((تبتغون)) حال من فاعل ((لا تقولوا)) فهي منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأني، ((تبتغون)) يعني: والحال أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا.
((فعند الله مغانم كثيرة)) تعليل للنهي عن أخذ ماله لما فيه من الوعد الضمني يعني: كأنه قيل: لا تبتغوا ماله فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ويغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه.
((كذلك كنتم من قبل)) هذا تعليل للنهي عن القول المذكور، فيعلل الله سبحانه وتعالى هذا النهي الذي أتى في هذه الآية عن أن نقول للرجل الذي يظهر الإسلام أو شعيرة من شعائر الإسلام: لست مؤمناً، يقول تعالى: ((كذلك)) يعني: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بل اقبلوا ظاهره وكلوا سريرته إلى الله؛ فإنكم كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم.
((فتبينوا)) أي: كنتم مثل هذا الرجل الذي ألقى إليكم السلام في أول إسلامكم، ولا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها.
((فمن الله عليكم)) بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.
والفاء في قوله: ((فتبينوا)) فصيحة، يعني: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم، فهذه المرحلة أنتم أنفسكم مررتم بها من قبل، وما كان يظهر منكم إلا مثلما ظهر من هذا الرجل من شعائر الإسلام، فقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فُعِلَ بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على الباطن، فنحن البشر حينما يتعامل بعضنا مع بعض إنما نقف عند حد الظاهر، أما البواطن وما في القلوب فهذا ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه.
كل أحكام الدنيا إنما تبنى على ما يظهره الناس بعضهم لبعض، أما تواطؤ الظاهر والباطن فهذا لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
((إن الله كان بما تعملون خبيراً)) يعني: فلا تتهاونوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.(36/2)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا)
قال ابن كثير في سبب نزولها: أخرج الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب الحديث المعروف عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه، وروى البخاري عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: (كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك هذه الآية).
وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: (إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل) هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً.
إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه خوفاً من الكفار؛ لأنه يعيش بينهم، فلما أتى المسلمون ليغيروا على هؤلاء الكفار أراد أن يعلم إخوانه أنه ليس مع هؤلاء الكفار وإنما هو مسلم مثلهم، فيبادر ويعاجل بإظهار شعيرة من شعائر الإسلام كأن يقول: السلام عليكم، التي هي تحية المسلمين، أو أن يقول: لا إله إلا الله، أو يعتصم بالركوع أو السجود أو غير ذلك مما يظهره من شعائر الإسلام، فإذا أظهر إيمانه فما قبلت ظاهره وقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل، ألم تمر أنت بنفس المرحلة، مرحلة الاستضعاف في مكة وكنت تستخفي بإيمانك؟ فهذا ما رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس مرفوعاً.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح المكان، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد، فقال: يا مقداد! أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله؟! فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟! قال: فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل).
وقوله: ((كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم)) أي: قد كنتم من قبل في هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً، وكما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
وقال ابن أبي حاتم: إن أسامة أقسم ألا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل الذي سبق الإشارة إليه، حيث قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وكيف اشتد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإنكار على أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فأسند ابن أبي حاتم: (أن أسامة حلف لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل، وبعد ما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم من العتاب والتوبيخ في قتل هذا الرجل).
يقول: قال بعض المفسرين: وبهذا القسم واليمين الذي حلفه اعتذر إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه حين تخلف عن المشاركة مع علي في قتال معاوية وجيشه قال: (إني حلفت ألا أقتل أحداً يقول: لا إله إلا الله) وبعض العلماء يقول: وإن كان عذراً غير مقبول؛ لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة، وكان عليه أن يكفر عن يمينه.
قال الحاكم: إلا أن أمير المؤمنين أذن له لما ذكر له هذا القسم.(36/3)
المقصود من قوله تعالى: (يأ أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا)
قال الرازي: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه؛ لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف.
وفي (الإكليل) استدل بظاهرها على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة السلام إذا قرأناها: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم).
وفي الآية وجوب التثبت في الأمور خصوصاً القتل.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري: في الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره؛ لأن السلام تحية المسلمين، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة.
وأما على قراءة السلم: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) السلم المراد به: الانقياد، والانقياد علامة من علامات الإسلام.(36/4)
ثمرة الآية الكريمة وفوائدها وأحكامها
قال بعض المفسرين أيضاً: ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة؛ لقوله: ((فتبينوا)) وهذه قراءة الأكثر بالنون، وقراءة حمزة والكسائي: (فتثبتوا) أي: هي من الثبات، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأحكام وسائر الأعمال.
الحكم الأول: وجوب التثبت والتأني، وعدم العجلة في الأمور.
الحكم الثاني: أنه يجب الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام أو شيئاً من شعائر الإسلام لا يكذب، بل يقبل منه، ويدخل في هذا الملحد والمنافق، وهذا هو مذهب كثير من العلماء، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد خلافاً لـ أحمد، وقبول توبة الزنديق وهذا قول عامة الأئمة.
وقال مالك: لا تقبل؛ لأن عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
أيضاً تدل هذه الآية على أن التوصل للسبب المحرم من المال لا يجوز، وقد ذكر العلماء صوراً مختلفة في التوصل إلى المباح بالمحظور، والمقصود بذلك قوله: ((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) هذا هو محل الشاهد لهذا المعنى المذكور، وإظهار الإسلام يحقن النفس والمال، فالقتل توصل بمحظور إلى محظور.
وقوله تعالى: ((لمن ألقى إليكم السلام)) أو السلم ((لست مؤمناً)) السلم هو: الاستسلام، وقيل: إظهار الإسلام، وقيل: السلام بالألف بمعنى: التحية.
قال أبو منصور: فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة والنهي عن الإقدام عندها، وكذلك الواجب على المؤمن التثبت عند الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: ((فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) وقال في الخبر: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فأمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة كما أمر في الأفعال حيث قال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لمن قال أنه مسلم: لست مؤمناً ((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، فهم يعاندون القرآن الكريم، مع أن من يقصدونه لا يقول: إني مسلم، مرة واحدة كحال هذا الذي تكلمت عنه الآية، لكنه يقولها ألف مرة.
فإذا نهى أن يقولوا: لست بمؤمن، أمرهم أن يقولوا: أنت مؤمن، فيقال لهم: أأنتم أعلم أم الله؟ على ما قيل لأولئك.(36/5)
حقيقة بدعة التوقف والتبين وآثارها وحكمها
هذه الآية تعتبر عمدة رائد الخوارج المعاصرين شكري مصطفى صاحب بدعة التوقف والتبين، فإنه لسوء فهمه وتحريف معاني كلام الله سبحانه وتعالى بنى مذهبه على فهمه الضال لهذه الآية الكريمة وأخواتها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث ليستدل به على ما ذهب إليه، إلا وكان في نفس الآية والحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه.
فكل إنسان مبتدع أو ضال يستدل بآية من القرآن أو بحديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليؤكد به بدعته وضلالته، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون في نفس هذا الدليل رد عليه وإبطال نفس هذه البدعة، ونظائر ذلك كثير جداً.
فهو إذاً أتى ببدعة التوقف والتبين، وخلط خلطاً عجيباً في الكلام في هذا الموضوع، فهو يقول: إن الناس الآن اختلط بعضهم ببعض وهم مشتركون في المظهر، هذا يسلم وهذا يسلم هذا يصلي وذاك يصلي، لكن حقيقة ما في باطن هؤلاء الناس وموقفهم الحقيقي من التوحيد ومن الإسلام يحتاج للاختبار والتبين، فنحن نتوقف عن الحكم بإسلام الشخص مهما أظهر من شعائر الإسلام في هذا المجتمع إلى أن نتبين هل هو مسلم أم غير مسلم؟! ووضع حداً وسماه: الحد الأدنى للإسلام، واعتبر الحد الأدنى للإسلام إقامة الفرائض، وخلط في ذلك خلطاً شديداً، وكان يكثر من ضرب المثل بالحرير الصناعي والحرير الطبيعي مبيناً أن الاثنين في الظاهر ملمسهما واحد لكن في الحقيقة هذا يختلف عن هذا.
وهل من العقل أن الإنسان إذا أراد أن يقارن شيئاً بشيء فإنه يأتي بأوجه الشبه؟ لا، حتى الذي يدرس أي علم من العلوم ويعمل مقارنة بين شيئين، فإنه في هذه المقارنة يذكر وجوه الافتراق لا وجوه الشبه، كذلك أنت عندما تأتي لتفرق بين المسلم والكافر أتقول: هذا يصلي وهذا يصلي، وهذا يصوم وهذا يصوم، وغير ذلك من شعائر الإسلام بزعمه؟! لا، وإنما لما تأتي تقارن تأتي بوجوه الافتراق وليس بوجوه الاتفاق، فالمسلم يقول: لا إله إلا الله، والكافر لا يقول: لا إله إلا الله المسلم يلقي السلام المسلم يصلي المسلم يزكي، وهكذا، والكافر لا يفعل هذه الأشياء!! أما هذا فجعل كل الناس في المجتمع الأصل فيهم أنهم كفرة مهما أظهروا من الإسلام.
وخطورة هذه البدعة لم تقف عند حد الترف الفكري، وإنما انتقلت إلى ما هو أكبر وهو التطبيق العملي، واستحلال دماء المخالفين بصورة بشعة جداً، تماماً كما كانت صفة الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
فهنا في نفس هذه الآية ما يدل على بطلان ما ذهبوا إليه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) فيفهم من الآية أن نثبت له صفة الإيمان وأحكام الإيمان.
ثم انظر إلى قوله تعالى: ((كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا)) أي: كنتم مستضعفين قبل ذلك وتكتمون إيمانكم أيضاً، أليس هذا كله في حق المؤمنين، أم في حق الكافرين؟! في الحقيقة الكلام يطول في هذا وأعتقد أننا قد غطينا قضية التوقف والتبين من قبل في سلسلة بحوث الكفر والإيمان.
فليس هناك شيء في الإسلام أن مسلماً ما متوقف في وصفه بأنه مسلم أو غير مسلم.(36/6)
تفسير سورة النساء [97 - 103](37/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ} يجوز أن يكون ماضياً بمعنى: توفتهم، {الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، قد يراد بالظلم هنا الكفر، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقد يراد به المعصية، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32]، ويصح إرادة المعنيين هنا.
روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) وهناك أحاديث أخرى بنفس المعنى، منها قوله: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم)، فالمسلم عليه أن يجتهد في البعد عن الكافر فلا يساكنه ولا يعيش معه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تتراءى نارهما).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين).
الهجرة مستمرة إلى أن تقوم الساعة من بلاد المعصية والفسوق إلى بلاد الطاعة، ومن بلد الظلم إلى بلد العدل، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة، ومن بلد الكفر إلى بلد الإسلام، فالهجرة تكون أيضاً من المعاصي.
{وقَالُوا}، يعني: الملائكة تقول لهم تقريراً لهم بتقصيرهم وتوبيخاً لهم: {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم في أمور دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: كنا في أرض الأعداء مستضعفين غير قادرين أن نجهر بالأذان أو أن نقيم شعائر الإسلام، عند ذلك تبكتهم الملائكة وتقول لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، يعني: أم تكونوا قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة؟ وهذا دليل على أن الرجل يجب أن يهاجر إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه.
والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، فإذا علم المرء أنه في غير بلده أقوم بحق الله حقت عليه الهجرة.
مثال ذلك: لو تعرف بلداً أفضل من مصر من حيث إظهار الدين، فعليك أن تتحول إليه إذا كنت مستطيعاً، وهكذا كل إنسان في أي مكان، أما عند العجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
{فَأُوْلَئِكَ} النفر المذكورون.
((مَأْوَاهُمْ)) أي: مصيرهم ((جَهَنَّمُ))؛ لأنهم هم الذين أضعفوا أنفسهم، إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنتهم في ديارهم.
{وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، أي: جهنم.
ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98].
ونحن في هذا الوقت عندنا جهة رسمية تتعلق بالهجرة اسمها: هيئة الجوازات والهجرة والجنسية.
فالهجرة إذا أطلقت الآن يكون معناها: الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار، سواء أستراليا أو كندا أو أمريكا أو غير ذلك.
وعندما نقول: فلان مهاجر، فإننا نعني أنه مهاجر من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار، فانعكس المفهوم، وبدل ما كانت الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين صار العكس الآن، وصار المسلمون يهاجرون إلى بلاد الكفار!(37/2)
تفسير قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال وكان الله عفواً غفوراً)
قال الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98 - 99].
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ}، لعمىً أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر.
{وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، أي: النساء والصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة؛ لأنهم {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، يعني: في الخروج، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة.
{وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}، يعني: لا يعرفون طريقاً إلى دار الهجرة.
{فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أن يتجاوز عنهم بترك الهجرة.
وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، استدل به على وجوب الهجرة من دار الكفر إلا على من لم يطقها.
وعن مالك قال: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغير فيه السنن فينبغي أن يخرج منها.(37/3)
ثمرة الآيات الكريمات وسبب نزولها
وقال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح، ولذلك قال تعالى في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، وقيل: نسخت بعد الفتح، والصحيح عدم النسخ.
ومعنى قوله عليه السلام: (لا هجرة بعد الفتح) أي: لا هجرة من مكة؛ لأن مكة نفسها صارت دار إسلام.
قال جار الله الزمخشري: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله حقت عليه الهجرة، ثم قال رحمه الله: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار ولا يمكنه الأمر بالمعروف فالهجرة واجبة، والله المستعان! وهذا بناءً على أن الدور ثلاث: دار إسلام.
ودار فسق.
ودار حرب.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وقال أيضاً: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو).
والذي يستطيع الانتقال إلى بلد الإسلام، لكن وجوده في بلاد الكفار فيه إظهار للدين ونشاط في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بحيث يثبِّت المسلمين هناك على الإسلام، ويتسبب في دخول الكفار إلى الإسلام، فهذا بقاؤه هناك يكون أنسب له وأفضل له من تحوله إلى بلاد المسلمين، إذا كان لا يتأثر بهذه الفتن، وهذه حالات استثنائية.
وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما عن ابن عباس قال: (نزلت في جماعة أسلموا ولم يهاجروا، وخرجوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوا يوم بدر مع الكفار).(37/4)
كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة وكان الله عفواً غفوراً)
يقول السيوطي: [{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، بالمقام مع الكفار وترك الهجرة.
قالوا لهم موبخين (فيم كنتم) أي: في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟ ((قَالُوا)) معتذرين، (كنا مستضعفين) عاجزين عن إقامة الدين، ((فِي الأَرْضِ)) أرض مكة.
(قالوا) لهم توبيخاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، من أرض الكفر إلى بلد آخر كما فعل غيركم.
قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، يعني: الذين لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة.
{وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}، طريقاًَ إلى أرض الهجرة.
{فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:99]].(37/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)
قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:100].
قوله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا))، يقول السيوطي: مهاجراً.
((كَثِيرًا وَسَعَةً)) في الرزق.
((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ))، في الطريق كما وقع لـ جندع بن ضمرة.
((فَقَدْ وَقَعَ)) ثبت ((أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)).
((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)).
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) يعني: في طاعة الله عز وجل، ((يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا)) أي: طريقاً يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه، ((كَثِيرًا وَسَعَةً)).
وفسرها السيوطي كما رأينا ((مُرَاغَمًا)) أي: مهاجراً، ولا تعارض؛ لأن المقصود بأنه سيجد سبيلاً وطريقاً أو مأوىً يستطيع فيه أن يراغم أعداء الله تبارك وتعالى.
وقد ذكرنا من قبل في عدة مناسبات أن الله سبحانه وتعالى يحب من وليه أن يغيظ عدوه، بأن يلزم طاعته تبارك وتعالى فيكون أقوى وأعز من أعداء الله تبارك وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120]، كذلك قال تبارك وتعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
والنبي صلى الله عليه وسلم سمى سجدتي السهو: (المرغمتين)؛ لأنهما ترغمان أنف الشيطان وتغيظانه.
قوله: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} أي: يجد مكاناً يستطيع فيه أن يقيم دينه ويظهره ويغيظ أعداءه الذين يقصدون أن يدركوه ويردوه عن هجرته، أو عن طاعته لله سبحانه وتعالى.
((كَثِيرًا وَسَعَةً)) أي: في الرزق، أو سعة في إظهار الدين، أو سعة وانشراحاً في الصدر؛ لأن خوفه يتبدل أمناً إذا هاجر من بين ظهراني المشركين.
((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا))، أي: من مكة.
((إِلَى اللَّهِ)) أي: إلى طاعة الله أو إلى مكان أمر الله بالهجرة إليه.
((وَرَسُولِهِ)) أي: إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: بالمدينة.
((ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ)) يعني: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد.
((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) يعني: فقد ثبت أجره على الله سبحانه وتعالى، ولا يستغرب هنا أن نفسر قوله تعالى: ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ)) يعني: من مكة، ((مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) يعني: للمدينة؛ لأن الهجرة في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هكذا كانت، يعني: من مكة إلى المدينة أو من خارج المدينة إلى المدينة.
((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) يعني: فلا يخاف فوات أجره الكامل؛ لأنه لم يكن فقط يتمنى أماني أو أحلام يقظة وإنما هو نوى وجزم وعزم، ثم تحرك وخرج من بيته بنية الهجرة إلى الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا يثاب ثواباً كاملاً؛ لأنه نوى وشرع أيضاً في العمل.
أما عدم إتمام العمل بسبب إدراك الموت إياه في الطريق مثلاً فهذا ليس تقصيراً منه إذا لم يتم العمل، لكن كان عليه أن يسعى والتمام على الله سبحانه وتعالى.
((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) سيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج، ويرحمه الله بإكمال ثواب هجرته.(37/6)
سبب نزول قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً)
هنا بعض التنبيهات فيما يتعلق بسبب نزول هذه الآية، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، هناك روايات أخرى تدل على أنه كان قد مرض، ومع شدة مرضه خشي أن يموت في مكة دون أن يهاجر، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي: ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)).
وجاءت عدة روايات في سبب نزول هذه الآية.(37/7)
ثمرة قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً)
ثمرة هذه الآية: أن من خرج للهجرة ومات في الطريق فقد وقع أجره على الله.
قال الحاكم: لكن اختلف العلماء في الأجر الذي وقع له، فقال بعضهم: أجر قصده، أي يؤجر على النية، وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة، يعني: يثاب على القدر الذي قطعه من الهجرة، وقيل: بل له أجر الهجرة كاملة كأنه قد هاجر بالفعل، وهذا هو الظاهر في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد جاء في معنى هذه الآية أحاديث وافرة منها ما في الصحيحين وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) قال ابن كثير: وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.
ومنها الحديث الثابت في الصحيحين: (في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالماً هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تتقارب، وهذه أن تتباعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة).
وفي رواية: (أنه لما جاءه الموت نأى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها).
يعني: أراد أن يجتهد في الاقتراب من هذه القرية الصالحة بقدر المستطاع، حتى إنه لما نزل به الموت أخذ يزحف بصدره حتى يقترب ويقطع أقصى مسافة ممكنة حتى ينقذ روحه من النار.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عتيك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله).(37/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101].
قوله: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) أي: إذا سافرتم في الأرض، والضرب في الأرض يعبر به عن السفر.
((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) إثم.(37/9)
مفهوم القصر في الآية وحكمه حال الخوف وحال الأمن
قوله: ((أَنْ تَقْصُرُوا)) في أن تقصروا من الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ)) أن ينالوكم بمكروه.
((الَّذِينَ كَفَرُوا)) هذا بيان للواقع إذ ذاك، والمقصود من هذه الآية بيان الواقع الذي كان موجوداً زمن نزول الآية، وعلى هذا لا مفهوم لهذه الآية، بمعنى: ليس خوف المكروه شرطاً في جواز القصر، لكن الواقع أثناء نزول القرآن في ذلك الزمن، وهو زمن البعثة أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون أن يفتنهم الذين كفروا، أي: أن ينالوهم بمكروه في أثناء أسفارهم.
فالصحيح أن هذه هي الظروف المناسبة عند نزول هذه الآية، لكن ليس معنى ذلك: أن الإنسان لا يقصر إلا إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا، بل يقصر إذا سافر في الأرض عموماً.
إذاً: هذه الآية ليس معناها: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا.
أي: لا تقصروا إن أمنتم الذين كفروا، فهذا المفهوم غير معتبر، فهو مجرد بيان للواقع الذي كان يعيشه الصحابة، والقصر غير مقيد بهذا الشرط، فالشرط هنا ملغي، كما في قوله تبارك وتعالى في سورة النور: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، هل معنى ذلك أنهن إن لم يردن تحصناً يجوز لهن الزنا؟ لا، فليس هذا المفهوم معتبراً، بل هو ملغي، كذلك هنا هذا المفهوم غير معتبر، يعني: ليس خوف المكروه شرطاً في جواز القصر.
وقد بينت السنة فيما رواه ابن خزيمة موقوفاً على ابن عباس بإسناد صحيح أن المراد بالسفر: السفر الطويل، وهو أربعة برد والبريد اثنا عشر ميلاً، وهي مرحلتان أي: مسيرة يومين بالسير المعتدل.
ويؤخذ من قوله: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) أنه رخصة لا واجب، وعليه الشافعي.
((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا))، يعني: بيني العداوة، ظاهرين في عداوتهم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) أي: سافرتم.
((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) أي: إثم.
((أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) يعني: أن تنقصوا الرباعية إلى اثنتين.
((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ)) أي: أن يقاتلكم الذين كفروا في الصلاة.
((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا)) يعني: ظاهري العداوة، فلا يراعون حرمة الصلاة فيظهرون عداوتهم إذا رأوكم تصلون فلم يردعهم ذلك عن أن ينالوكم بأذى، فذهب جمهور العلماء إلى أن الآية المراد بها مشروعية صلاة السفر، وليست في صلاة الخوف.
فمعنى قوله تبارك وتعالى: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف؛ لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً، حيث جاءت السنة لتثبت مشروعية قصر الصلاة في كل الأحوال سواء كان في حالة الخوف أو في حالة الأمن.
روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لا يخاف إلا الله رب العالمين، فصلى ركعتي)، يعني: كان آمناً.
وروى البخاري وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمناً ما كان بمنى ركعتين) وهذا في البخاري.
وروى البخاري والبقية عن أنس رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً).
وقوله تعالى: ((إِنْ خِفْتُمْ)) خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، يعني: أنهم حال نزول الآية كان الغالب أنهم إذا انطلقوا في أرجاء الجزيرة مسافرين فإنهم لا يأمنون أن يفتنهم الذين كفروا، إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل الغالب أنهم ما كانوا يضربون في الأرض إلا في حالة الغزو، ولم يكونوا يخرجون للتجارة ولا للسياحة ولا للنزهة، إنما كانوا يخرجون وقد حشدهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السرايا والغزوات.
وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وهذه إحدى الحالات التي لا يعمل فيها بالمفهوم، بل يلغى؛ لأنه خرج مخرج الغالب، والأمثلة على ذلك كثيرة كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151]، هل معنى ذلك أن الإنسان يمكن أن يقتل ولده بسبب آخر غير الإملاق والفقر؟ لا، لا يمكن؛ وذلك لأن هذه الآية خرجت مخرج الغالب، يعني: كان الأغلب في سبب قتل الأولاد عندهم خوف الإملاق.
ومثل قوله تبارك وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء:23]، هل معنى ذلك: أنه لابد أن يكن الربائب في حجور أزواج الأمهات؟ لا، بل يمكن أن تكون بنت الزوجة التي هي الربيبة لا تعيش مع أمها عند زوج أمها، بل تحرم على الرجل بعد الدخول على أمها، فهذا المفهوم أيضاً خرج مخرج الغالب.
ومثل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، هل معنى ذلك: أن هذه الآية لها مفهوم؟ لا، بل هذا خرج مخرج الغالب، بمعنى: أن أغلب الربا إنما يكون أضعافاً مضاعفة، لكن هل يصح أن يؤخذ من مفهوم الآية أنه يجوز للإنسان أن يتعامل بالربا إذا كانت نسبته ضئيلة كما يقول المضللون وعلماء السوء؟! هؤلاء يخدعون الناس بقولهم: إن الربا لو كانت نسبته يسيرة فليس بحرام؛ لأن ربنا قال: ((أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)) [آل عمران:130]، فهذا من نفس الباب.
يدل أيضاً على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت له: قوله تعالى: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا))، وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله تعالى عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، (صدقة) يعني: حكم ثابت مستمر.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال: (سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)) ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال: (سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال لي: هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها)، يعني: هل من الأدب أن تردوها على الله سبحانه وتعالى، فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهوماً عندهم بمعنى الآية.
قالوا: ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنص عدد الركعات، يعني: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) عرف لدى الصحابة أن كلمة ((تَقْصُرُوا)) تطلق على قصر العدد في الصلاة، وهذه اللغة هي التي تعارفوا عليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولذلك لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين قال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟) لأنه صلى الأربع اثنتين.
هناك مذهب آخر في هذه الآية لبعض السلف وهو: أن هذه الآية ليست في صلاة القصر في السفر وإنما هي في صلاة الخوف، فيكون المقصود بالقصر في قوله: (أن تقصروا من الصلاة) ليس قصر كمية عددية وإنما قصر كيفية كما رخص ذلك في السفر، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ لأن كمية صلاة السفر ركعتان، فهي باقية على ما كانت عليه في الأصل، حيث إن الصلاة كانت ركعتين في الأصل، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، فإذاً هي باقية على ما هي عليه، وهذا مذهب عمر.
قال: ولهذا قال تعالى: ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا))، وقال بعدها: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] إلى آخر الآية، فأوجز في الآية الأولى وأشار إلى مشروعية صلاة الخوف، ثم بين المقصود من القصر هنا وهو قصر الكيفية، وذكر صفته وكيفيته.(37/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:102].
قوله: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ)) يعني: إذا كنت يا محمد حاضراً فيهم، وأنتم تخافون العدو.
((فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)) يعني: فأقمت لهم صلاة الخوف، وهذا جرى على عادة القرآن في الخطاب، فلا مفهوم له، أي: ليس حضوره صلى الله عليه وسلم شرطاً لإقامة صلاة الخوف كما سنبين إن شاء الله تعالى عما قريب.
وبعض الناس يقولون: إنه لا تصلى صلاة الخوف إلا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ))، فإذا لم يكن فهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، ألا يصلي الإمام الناس؟ بلى يصلي، وهذا نفس الاستدلال الذي استدل به بعض مانعي الزكاة في تأويلهم الفاسد لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، قالوا: هذا فقط في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا مات الرسول عليه الصلاة والسلام فنحن لا ندفع لغيره؛ لأن الأمر إنما هو إلى الرسول بنفسه، وسيأتي الرد على ذلك إن شاء الله.
((فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ)) يعني: طائفة تقوم معك وطائفة تتأخر.
((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)) يعني: هؤلاء الذين يصلون معك يأخذون أسلحتهم معهم في الصلاة.
والمقصود بالأسلحة هنا: الأسلحة التي لا تتعارض مع الصلاة، كالأسلحة الخفيفة التي يسهل حملها أثناء الصلاة دونما مشقة تعيق عن أداء الصلاة.
((فَإِذَا سَجَدُوا)) سجدوا هنا بمعنى: صلوا.
((فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ))، يعني: تكون الطائفة الأخرى من ورائكم، يحرسونكم إلى أن تقضوا الصلاة، ثم تذهب هذه الطائفة لتحرس.
((وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)) أي: معهم إلى أن تقضوا الصلاة، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ببطن نخل كما رواه الشيخان.
في هذه الآيات بالذات كما جاء في كتب التفسير أن الصحابة كانوا متحركين في جهة القبلة، والأعداء كانوا في الجهة المقابلة، فكيف تكون صفة هذه الصلاة وهم بهذا الاتجاه؟ يقف صف يصلي وهو مستقبل القبلة مع النبي عليه الصلاة والسلام، والصف الآخر يقف وراءه يحرسهم، وهو معنى قوله: ((فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ)) وسيأتي بيان تفصيل صلاة الخوف في الأحاديث.
((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ))، يعني: تمنوا لو تغفلون عن الأسلحة حال قيامكم إلى الصلاة.
((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً))، يعني: بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم، هنا تعليل بالأمر لهؤلاء الذين يصلون بأن يأخذوا معهم الأسلحة.(37/11)
حكم حمل السلاح في صلاة الخوف وعدمه
قوله تعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ))، يعني: فلا تحملوها، وحملها عند عدم العذر يفيد وجوب حمل الأسلحة، لكن إن كان هناك عذر فلهم ألا يحملوا هذه الأسلحة، وهذا أحد القولين للشافعي.
والقول الثاني: أن حمل السلاح سنة وليس بواجب أثناء الصلاة، ورجح الشافعي المذهب الثاني.
((وَخُذُوا حِذْرَكُمْ))، يعني: خذوا حذركم من العدو واحترزوا منه ما استطعتم.
((إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا))، أي: عذاباً ذا إهانة.(37/12)
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله)
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ} يعني: إذا فرغتم منها.
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتهليل والتسبيح.
{قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، يعني: في كل حال؛ لأن الإنسان لا يخلو من حال من هذه الأحوال، إما أن يكون قائماً وإما قاعداً وإما مضطجعاً.
{فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ}، أي: إذا أمنتم.
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، أي: أدوها بحقوقها.
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ((كِتَابًا)) أي: مسطوراً.
((مَوْقُوتًا)) أي: مقدراً وقتها فلا تؤخر عنه.(37/13)
أقوال المفسرين في تفسير آية صلاة الخوف وما بعدها
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا كُنتَ)) أي: مع أصحابك شهيداً وأنتم تخافون العدو.
((فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ))، أي: أردت أن تقيم بهم الصلاة، بالجماعة التي لوفور أجرها يتحمل مشاقها.
((فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ))، أي: إذا أنت أردت أن تقيم لهم الصلاة فاقسمهم طائفتين، تصلي بطائفة، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم، وإنما لم يصرح به لظهوره.
ما الفائدة من قوله: ((فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ))؟ هذا لأن المعنى واضح جداً وظاهر أي: لكي يحرسوكم أثناء الصلاة.
((وَلْيَأْخُذُوا)) أي: الطائفة التي قامت معك تصلي، ((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)) أي: معهم؛ لأنه اقرب للاحتياط.
((فَإِذَا سَجَدُوا)) يعني: هؤلاء القائمون معك بعد أداء سجدتي الركعة الأولى وإتمام الركعة يفارقونك.
يعني: بعد أن يتموا الركعة الأولى يفارقون النبي عليه الصلاة والسلام ويتمون هم صلاتهم.
وتقوم إلى الثانية منتظراً الطائفة الثانية.
يعني: الإمام يكبر تكبيرة الإحرام بالطائفة الأولى ويصلون معه الركعة الأولى، والطائفة الأخرى تقف خلفهم للحراسة.
((فَإِذَا سَجَدُوا)) يعني: إذا فرغوا من الركعة الأولى بأن سجدوا السجدتين في الركعة الأولى يقومون هم، ويظل الإمام منتظراً مكانه حتى يتموا صلاتهم، ثم يقوم إلى الركعة الثانية.
((فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ)) يعني: هؤلاء الذين فرغوا ينصرفون إلى مقابلة العدو للحراسة.
((وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ)) الطائفة الأخرى التي هي واقفة في اتجاه العدو تأتي لتصلي ركعتها الأولى معك، والتي هي بالنسبة للإمام تكون الثانية، فإذا جلست منتظراً قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك.
في الأولى يطيل الإمام القيام إلى أن تفرغ الأولى من إتمام صلاتها بالإتيان بالركعة الثانية، وتحلق به الثانية.
كذلك الإمام سوف يجلس للتشهد والمجموعة الثانية تكون بقي عليها ركعة، فينتظر جالساً إلى أن يفرغوا هم من الركعة الثانية ثم يدركوه في الجلوس ويسلموا معه.
ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين؛ اكتفاءً ببيانه صلى الله عليه وسلم لهم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين ذلك بياناً شافياً كافياً في الأحاديث.
((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ)) يعني: تيقظهم؛ لأن العدو يظن أن المسلمين قائمون في الحرب، في أثناء الركعة الأولى، فهو سيتصور أنهم جميعاً واقفون مستعدون للحرب، فإذا قاموا إلى الثانية فمجموعة سوف تسجد ومجموعة تقوم، هنا سيفهم العدو أنهم الآن في الصلاة، وقد ينتهز الفرصة في الهجوم عليهم، فلذلك خص هذا الموضوع بزيادة التحذير فقال تبارك وتعالى: ((وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ))، وكرر هذا المعنى من قبل حيث قال: ((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ))، وهنا قال: ((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)).
ثم جاء بمزيد من البيان حيث قال: ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)) هنا كأنه شيء حسي كالآلة سيؤخذ والإنسان يمسكه كما يمسك السلاح ((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)).
قال الواحدي: فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة.
وقال أبو السعود: وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغال في الصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها، ومظنة لهجوم العدو، كما ينطق به قوله تعالى: ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))، أي: تمنوا، ((لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ)) أي: حوائجكم التي بها ((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)) أي: يحملون حملة واحدة فيقتلونكم، فهذا هو سبب الأمر بأخذ السلاح، والأمر بذلك للوجوب.
ثم قال تعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)) أي: لا حرج ولا إثم عليكم.
((إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ)) أي: إذا كان في حالة مطر يثقل معها حمل السلاح.
((أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى)) يثقل عليكم حمله بسبب المرض ((أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ)).
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت ((إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى)) في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً).
ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط فقيل: ((وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)) لئلا يهجم عليكم العدو غيلة.
((إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)) أي: عذاباً شديداً يهانون به، وهذا تعليل للأمر بأخذ الحذر، أي: أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم.
وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدو موهماً لتوقع غلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بأن الله تعالى ينصرهم ويقيهم عدوهم لتقوى قلوبهم.
تكرر في الآية التحذير: ((وَخُذُوا حِذْرَكُمْ))، ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))، ((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً))، كثرة التحذير قد يوقع في قلوب بعض المؤمنين أن الكفار قد ينتصرون عليهم أو قد ينالون منهم، أو أن غلبتهم متوقعة، فلما وجد هذا الاحتمال نفى الله سبحانه وتعالى ذلك الإيهام، وذلك بأن الله تعالى هو الذي ينصرهم وأنه سيقيهم عدوهم، ((إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)).
ومن أسباب تعذيب الكافرين أن الله يعذبهم بأيدي المؤمنين، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، فهذا العذاب المهين ليس فقط في الآخرة لكنه سيكون على أيديكم، فلا تهملوا في الأخذ بالأسباب والاحتياط وأخذ الحذر والسلاح.(37/14)
تابع تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً)
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ} يعني: إذا أتممتم الصلاة، دون صلاة الخوف على ما فسر.
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي: فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه.
أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعاً بعد غيرها، يعني: أن ذكر الله يكون بعد صلاة الخوف آكد، لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها، كما قال تعالى في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فهل ظلم النفس بالمعاصي مباح فيما عدا الأشهر الحرم؟ لا، بل هو محرم، لكن هنا آكدية بحرمة ذلك الزمان، كذلك في هذه الحالة المسلمون حاجتهم إلى الذكر أوكد.
{فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} أي: سكنت قلوبكم بالأمن وذهب عنكم الخوف.
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: على الحالة التي كنتم تعرفونها فلا تغيروا شيئاً من هيئتها.
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: فرضاً مؤقتاً، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها.(37/15)
ما يتعلق بقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) من أحكام وأقوال
فيما يتعلق بظاهر قوله تعالى: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ)) هناك من لم ير صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم، حيث زعموا أن صلاة الخوف كانت خاصة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الله اشترط كونه فيهم، فقال: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)) ومفهومها: أنه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا تشرع صلاة الخوف، ولا يخفى أن الأئمة والخلفاء بعد الرسول عليه الصلاة والسلام يقومون مقامه، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] هذه ليست خاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام، بل الإمام عليه بعد ذلك أن يقوم بنفس الوظيفة في جمع الزكاة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على مفهوم قوله تعالى: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ)).
وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم عن سعيد بن العاص أنه قال: (كنا في غزوة ومعنا حذيفة فقلنا: أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح، ثم قال: إن هاجكم هيج فقد حل لكم القتال، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرف هؤلاء فقاموا مقام أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم بهم)، وكانت الغزوة بطبرستان، قال بعضهم: وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله تعالى عنهم فلم ينكره أحد، فحل محل الإجماع.
وروى أبو داود: (أن عبد الرحمن بن سمرة صلى بكابل صلاة الخوف).(37/16)
تفسير سورة النساء [127 - 134](38/1)
تفسير قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن)
قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:127].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية وهي قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}، قال: (كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه).
هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء:127]).
قوله: ((ويستفتونك في النساء)) أي: يطلبون منك الفتوى في شأن النساء عامة، فبين تعالى أن ما لم ينزل حكمه ويبين فسيأتي فيما بعد: ((قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ)) يعني: ويفتيكم أيضاً فيما قد سبق تبيينه من الأحكام.
((فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ)) من المهر أو الميراث.
((وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ)) وترغبون عن أن تنكحوهن.
ثم قال تعالى: ((وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ)) هذا عطف على يتامى النساء، إذا قلنا: إنه عطف على يتامى النساء يكون المعنى صحيحاً، (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) وما يتلى عليكم أيضاً في حق المستضعفين من الولدان، وهو قوله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] إلى آخره، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، فكما كانوا يحرمون النساء من الميراث كانوا أيضاً يحرمون المستضعفين من الولدان، وإنما يورثون الرجال القوام.
قال ابن عباس في الآية: (كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله تعالى: ((لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ))، فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]).
أتت صفة الذكر والأنثى عامة، يعني: سواء كان الولد ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً، فللذكر عموماً صغيراً أو كبيراً مثل حظ الأنثيين.
وكذا قال سعيد بن جبير.
فهذا معنى قوله: (والمستضعفين من الولدان) يعني: وما يتلى عليكم في المستضعفين من الولدان.
{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}، (وأن تقوموا لليتامى) بالجر عطف على ما قبله، يعني: وما يتلى في حق هؤلاء اليتامى كما في قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2]، فهذا هو ما يتلى علينا في شأن اليتامى، وأمرنا أن نقوم بحقهم بالقسط، ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر في الأمر برعاية حق اليتامى.
قال سعيد بن جبير: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال فانكحها واستأثر بها.
والخطاب هنا للولاة أو للأولياء.(38/2)
الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء)
واستنبط من هذه الآية أحكام منها: جواز نكاح الصغيرة؛ لأن اليتيم هو الصغير الذي لم يبلغ.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتم بعد احتلام)، رواه أبو داود.
وعن الأصم أراد البوالغ قبل التزوج، يعني: ذهب الأصم إلى أن تسمية المرأة باليتيمة باعتبار ما كان، وأن المقصود باليتيمة البالغة وليست الصغيرة؛ وذلك لقوله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
المقصود باليتامى هنا: الذين كانوا يتامى إلى عهد قريب، لكن لشدة قرب العهد باليتم بقي عليهم وصف اليتامى، فسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم.
والأول أظهر؛ لأنه الحقيقة.
وقالوا أيضاً: مما يدل على أن المقصود باليتيمة البالغة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها)، رواه أهل السنن.
قالوا: والاستئمار لا يكون إلا من البالغة.
وقد ورد قول الشاعر: إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى يعني: هذه شواهد تدل على أن كلمة اليتامى قد تطلق على النساء الكبار البوالغ.
فسمى البالغات يتامى لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له: يتيم، كما تقول: الدرة اليتيمة يعني: التي لا ثانية لها، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء ونكتفي بما أشرنا إليه.(38/3)
تفسير قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً)
قال تبارك وتعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128].
(وإن امرأة) امرأة اسم مرفوع بفعل يفسره قوله تعالى: (خافت) يعني: إن خافت امرأة.
(وإن امرأة خافت) يعني: توقعت.
(من بعلها) يعني: من زوجها.
(نشوزاً) يعني: ترفعاً عليها بترك مضاجعتها، والتقصير في نفقتها؛ لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها.
(أو إعراضاً) أي: أو إعراضاً عنها بوجهه.
(فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً) وفي قراءة (أن يصّالحا بينهما صلحاً) وأصلها أن يتصالحا، فأدغمت التاء في الصاد وشددت فصارت (أن يصّالحا بينهما صلحاً).
(بينهما صلحاً) في القسم والنفقة، يعني: في المبيت وفي النفقة.
هذا الصلح يكون فيه نوع من التنازل من جانب المرأة كي تبقى زوجة له، وتضحي ببعض حقوقها عليه كي لا يطلقها ويعدل إلى غيرها.
فتترك له شيئاً طلباً لبقاء الصحبة، فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها.
إما أنها ترضى بهذا الصلح الذي فيه التنازل عن بعض حقوقها، فإن لم ترض بذلك فعليه أن يوفيها حقها كاملاً أو يفارقها.
(والصلح خير) (خير) هنا أفعل تفضيل، يعني: والصلح خير من الفرقة والنشوز والإعراض.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
قال تعالى في بيان ما جبل عليه الإنسان: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}، يعني: شدة البخل، فهي جبلت عليه فكأنها حاضرة لا تغيب عنه، وكأن الشح صفة لازمة للإنسان أو للنفس البشرية، فهذا تعبير عن شدة لصوق هذه الصفة بالإنسان.
والمعنى: أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها بسبب وجود هذا الشح، فلا تكاد أبداً تسمح بنصيبها من زوجها، كذلك الرجل لا يكاد يسمح لها بنفسه إذا أحب غيرها.
(وإن تحسنوا) أي: عشرة النساء.
(وتتقوا) أي: تتقوا الجور عليهن.
(فإن الله كان بما تعملون خبيراً) يعني: فيجازيكم به.(38/4)
أقوال المفسرين في تفسير النشوز والإعراض والصلح بين الزوجين
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} أي: زوجها.
(نشوزاً) أي: تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها.
(أو إعراضاً) أي: إعراضاً عنها بوجهه، أو أن يقل محادثتها ومجالستها كراهة لها، أو لطموح عينه إلى أجمل منها.
(فلا جناح عليهما) يعني: حينئذ لا حرج عليهما.
(أن يصلحا بينهما صلحاً) يعني: أن يحصل نوع من الصلح بينهما بحط شيء من المهر أو النفقة، فتحط هي عنه إن كان لها مؤخر صداق، وتصالحه على أنها تخفف له أو تسامحه بقدر منه، أو تعفو عنه في قدر من المهر أو النفقة، أو تهبه شيئاً من مالها من أجل الإصلاح، أو تضحي ببعض الوقت المخصص لها طلباً لبقاء الصحبة، لكن بشرط أن يكون ذلك عن رضاً وطواعية منها، وإلا إن لم يكن رضاً فعلى الزوج أن يوفيها حقها إذا استبقاها، أو يفارقها إذا لم تقبل ذلك الصلح.
قال في الإكليل: الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره.
استدل به من أجاز لها بيع ذلك.
(والصلح خير) أي: من الفرقة والنشوز والإعراض.
وعامة الناس يستدلون على كراهة الطلاق بالحديث الضعيف المشهور: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغني عنه ما في القرآن من مواطن يستنبط منها كراهة الطلاق كهذه الآية: ((فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)) الصلح خير من النشوز وخير من الإعراض وخير من الطلاق وخير من الفرقة، فهذا يفيد ضمناً كراهة الطلاق، كذلك مما يفيد كراهة الطلاق قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، هذا حث على إمساكها وعدم طلاقها.
قال ابن كثير: بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، وسبق أن أشرنا إلى ضعف هذا الحديث.
وفي هذه الآية حث الزوج على الصبر على الزوجة حتى لو كره صحبتها، وأن الأفضل له أن يصبر والصلح خير من الفرقة، وخير من سوء العشرة، وخير من الخصومة، أو خير من الطلاق والفرقة، وقد كان من كرم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها، فانظر إلى حسن العشرة كيف يمتد إلى ما بعد وفات أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم كل من كانت تحب خديجة أو تقربه منها، حتى إن صواحبها من النساء كان عليه الصلاة والسلام يكرمهن بعد موتها رضي الله تعالى عنها.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وقد هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها).
(هلكت) بمعنى: ماتت.
قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، أي: حتى إذا مات، وقال تعالى: {امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176]، أي: مات.
فـ عائشة رضي الله تعالى عنها لما كانت تسمع النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يذكر خديجة بعد موتها كانت تغار هذه الغيرة من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرها بالخير ويثني عليها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في صدائق خديجة وصواحب خديجة رضي الله تعالى عنها من الشاة قدراً يكفيهن وينفعهن.
وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها)، مع أنها لم ترها لكن كانت تغار منها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له في بعض الأحيان: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد)، فيذكر مناقبها فيقول: كانت كذا وكانت كذا وكانت كذا، وكان لي منها الولد.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)، وهذا فيه لزوم وثبات على الإحسان لمن كان له أدنى صلة ممن يحبه من أب أو زوج أو غير ذلك، وفي هذا ما لا يحصر من المحاسن والفضائل.
والصلح فيه من أنواع الترغيب، ففي الحديث: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).
واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار.
قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) فيه بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبداً.
كأن الشح ختم على النفوس.
فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز والإعراض وحقوقها من الرجل، ولا الرجل يسمح أيضاً بإمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها.
وقوله تعالى: (والصلح خير) هذا للترغيب في المصالحة.
وقوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) لتمييز العذر في المشاحة والحث على الصلح؛ لأنها تعطي الإنسان عذراً إذا حصل أثناء المفاوضات لهذا الصلح نوع من الخصومة والاختلاف، فإذا تلا قوله تعالى: (والصلح خير) رغب في الصلح، فإذا حصل أثناء الصلح مشاحة واختلاف منهم في الاتفاق، ثم تذكر قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) فيكون فيها نوع من المواساة للطرف الذي يلقى الخصومة من الآخر.
يقول: فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح.
قوله تعالى: (وإن تحسنوا) أي: في العشرة.
(وتتقوا) النشوز والإعراض، ونقض الحق.
(فإن الله كان بما تعملون) من تحمل المشاق في ذلك.
(خبيراً) فيجازيكم ويثيبكم.
ويلاحظ هنا أن خطاب الأزواج أتى بطريق الالتفات، يقول عز وجل: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ))، فهذا كلام يقال للغائب، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب فقال: ((وَإِنْ تُحْسِنُوا)) وهذا فيه تنبيه، ففي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، وقوله: (وإن تحسنوا) عبر عن رعاية حقوقهن بالإحسان.
(وتتقوا) ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وتتقوا النشوز وتتقوا الإعراض عنهن، وترتيب الوعد الكريم عليه في قوله: (فإن الله كان بما تعملون خبيراً) هذا فيه الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: (الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها بعد ما أسنت فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك).
فتبقى زوجة له ويمسكها على أن تتسامح عن بعض حقوقها أو عن حقوقها حسبما يصطلحان).
وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: (جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فسأله عن قول الله عز وجل: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ))، قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج).
وكذا رواه أبو داود الطيالسي وابن جرير.
وروى ابن جرير أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: (هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز).
وروى سعيد بن منصور عن عروة قال: (أنزل في سودة (وإن امرأة) إلى آخر الآية).
وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ففرقت -يعني: خافت- أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضنت أن تخسر ارتباطها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له: (يا بن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا -يعني: كان يعدل بينهن في القسم- وكان قل يوم إلا وهو يطوف على نسائه، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت -أي: خافت- أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي هذا لـ عائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، قالت: فنزل في ذلك قول الله تعال(38/5)
تفسير قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء)
قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا) تسووا.
(بين النساء) في المحبة.
(ولو حرصتم) على ذلك.
(فلا تميلوا كل الميل) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة.
(فتذروها) أي: تتركوا الممال عنها.
(كالمعلقة) التي لا هي أيم، ولا هي ذات بعل.
يعني: لا هي مزوجة ولا هي مطلقة.
(وإن تصلحوا) بالعدل في القسم.
(وتتقوا) الجور.
(فإن الله كان غفوراً) لما في قلبكم من الميل.
(رحيماً) بكم في ذلك.(38/6)
شبهات وردود حول تعدد الزوجات
كتب القاضي كنعان في الحاشية عن قوله تعالى: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ))، يقول: الإنسان لا يستطيع أن يعدل بين زوجاته في محبة القلب، وهذا شيء لا خلاف فيه، ولكن لا عذر له في عدم العدل في البيتوتة والنفقة بجميع أنواعها.
يعني: يجب عليه أن يعدل في هذه الحقوق، وهي القسم الذي هو المبيت، والنفقة، فإذا أتى مثلاً بهدية لواحدة فيعطي الجميع.
ثم يقول: فعدم المساواة بينهن في ذلك ظلم -يعني: من الظلم ألا يعدل بينهن في النفقة وفي القسم- والظلم ظلمات يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان الأسوة الحسنة للزوج العادل المحسن إلى أهله، وبه يجب أن يأتسي المسلمون، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، وأحسب أن هذا الحديث ضعيف، والله تعالى أعلم.
وإذا صح فيكون معناه: ما أملك وهو النفقة والقسم فسأعدل أما غير ذلك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك وهو ميل القلب ومحبته، وقد حذر صلى الله عليه وسلم من عدم العدل بين الزوجات فقال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط)، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
ولقد أباح الله تعالى للمسلم القادر أن يجمع في عصمته أربع زوجات، بعد أن كان التعدد في الجاهلية مطلقاً لا حد له، ونبه إلى وجوب الاكتفاء بواحدة، أو بملك اليمين عند الخوف من عدم العدل بينهن، فقال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3].
أما الذين لم تعجبهم إباحة التعدد فإنهم رفضوا الحلال وأباحوا لأنفسهم وللناس الحرام، فشرعوا للناس قوانين تمنع التعدد وتعاقب عليه، وتبيح الزنا ولا تعاقب عليه إذا حصل برضا الطرفين، وعامة القوانين تعبر بالاغتصاب عن فعل الفاحشة بدون تراض، أما إذا كان الزنا بالتراضي فليس بجريمة، فالله المستعان! وفي تونس حوكم بعض الناس بتهمة أنه ارتكب جريمة الزواج من امرأة ثانية، فالمحامي كما يقولون كان حاذقاً واستطاع بحذقه كما يزعم الناس أن يخرجه من هذه الجريمة مثل الشعرة من العجين، إذ أثبت المحامي أنها عاشقة وليست زوجة، وخليلة وليست حليلة، والله المستعان! ويجب على النساء اللائي فيهن نوع من الأنانية أن يفهمن أن الذي ينتفع بتعدد الزوجات هو قسم كبير جداً من النساء وليس فقط الرجال، مع أنه معروف أن المرأة جبلت على الغيرة الشديدة، لكن هذا أصلح وأنسب وأفضل للمرأة.
فإذاً: هناك قسم كبير من النساء يكون التعدد أنسب لظروفهن، وأفضل لهن من أن تبقى بلا زوج.
فالقضية ليست قضية القومية النسائية كما يحاولون أن يصوروا أن الرجال في جانب والنساء في جانب، قوم الرجال ضد قوم النساء، والحقيقة أن هذا التعدد فيه مصلحة حتى للنساء، بل إن كثيراً من المجتمعات الإسلامية الآن لم يعد لها مخرج على الإطلاق من الفتن التي تموج بها إلا بتعدد الزوجات.
وحصل هذا حتى في بعض المجتمعات الكافرة حيث أباحوا تعدد الزوجات باعتباره مخرجاً من الضياع الذي صارت فيه هذه المجتمعات، ولاشك أن القضية حساسة تحتاج أن نتناولها من كل جوانبها، ونرجو فيما بعد أن تكون هناك فرصة للتفصيل إن شاء الله.
يقول القاضي كنعان: فشرعوا للناس قوانين تمنع التعدد وتعاقب عليه، وتبيح الزنا ولا تعاقب عليه إذا حصل برضا الطرفين، فأي الحكمين خير للمرأة: أن تكون زوجة شريفة، أم أن تكون خليلة، ثم إن الإسلام لم يفرض التعدد.
يعني: التعدد ليس بواجب بل مجرد حكم مشروع لم يفرض فرضاً؛ لأن بعض الناس وخاصة أعداء الإسلام في الخارج يحاولون التشنيع على الإسلام، فإذا تكلمت مع أي واحد منهم عن رأيه أو فكرته عن الإسلام فتراه ما يعرف عن الإسلام سوى أن الإسلام يوجب على المسلم أن يتزوج بأربع نساء.
ولهم كثير من الافتراءات في هذا ومنها: أن الرجل المسلم لا يضع العصا عن عاتقه، وأنه يجب عليه أن يضرب زوجته في الصباح وفي المساء كل يوم كما يزعمون ويفترون، وهم يقولون هذا للتنفير عن دين الله سبحانه وتعالى والصد عن سبيل الله عز وجل.
حتى إن تعدد الزوجات في مجتمعاتنا نادر جداً، والذي يحيي هذه الشريعة نادر جداً في المجتمع، حيث إن ظروف الناس حالت دونها، بل تجد أحياناً الشباب لا يتزوج حتى واحدة إلا بعد الأربعين أو الخامسة والثلاثين.
إذاً: أين مشكلة تعدد الزوجات؟! هي كلها عبارة عن أزمات مصطنعة وليست طبيعية؛ لترويج الفواحش في المجتمع، حيث يضيقون على الناس من جهة ثم يفتحون النوافذ إلى الحرام من جهة أخرى، فالله المستعان!! يقول: والإباحة معلق بإرادة الرجل والمرأة، فلماذا تقبل المرأة أن تكون ضرة لمرأة أخرى؟ فإذا كان التعدد غير لائق كما يزعمون ويزعمن فإن بإمكان النساء وحدهن منعه؛ وذلك بامتناعهن عن القبول بزوج متزوج، وهذا ما لا يفعلنه.
إذاً: التعدد ليس فريضة بل مجرد شيء مشروع للرجل له أن يفعله أو لا يفعله، وكذلك المرأة لها أن تفعله أو لا تفعله، فإذا كانت القومية النسائية متفقه كلها على إنكار موضوع التعدد، فالنساء يستطعن أن يمنعن التعدد تماماً؛ وذلك بأن يرفضن الزواج من الرجل المتزوج.
معلوم أن التعدد فيه مصلحة لطائفة كثيرة جداً من النساء، ويكون أنسب لهن وأفضل لظروفهن.
وهذه الآية مما يشغب به كثير من الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه حينما يقولون: القرآن جمع بين المتناقضات والعياذ بالله، وبعض الناس يتكلفون فيقولون: إن الله سبحانه وتعالى علق إباحة التعدد على القيام بالعدل، وقالوا: إن هذا الشرط المذكور في هذه الآية يستحيل أن يتحقق، فهو علق على شرط لا يتحقق وغير مستطاع وهو العدل، واستدلوا بهذه الآية: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ))، بينما في الحقيقة العدل في الآية الأولى غير العدل في هذه الآية.
فقوله تبارك وتعالى في صدر سورة النساء: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، العدل هنا هو الذي يملكه الإنسان، كالعدل في المبيت وفي النفقة، هذه الأشياء الرجل لا عذر له إذا أخل بها، أما العدل هنا في قوله عز وجل: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا)) فالمقصود به: الميل القلبي الذي لا يملكه الإنسان.
كان عليه الصلاة والسلام يقول في عائشة: (إن الله رزقني حبها)، فإذا كانت المحبة رزقاً فالله يبسط الرزق لمن شاء ويقدر.
فهذا الأمر ليس من كسبه وهو فوق طاقته، لكنه مأمور بالعدل الذي يستطيعه وهو العدل في النفقة وفي القسم، أما العدل في الميل القلبي فهذا يعذر الإنسان فيه، ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ)) أي: تسووا بينهن في جميع الوجوه، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشئون، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وغيره.
(ولو حرصتم) يعني: ولو حرصتم على إقامة العدل وبالغتم في ذلك لن تستطيعوا؛ لأن الميل القلبي يقع بلا اختيار.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، يعني: لا تلمني في ميل القلب، رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وذكرنا أنه ضعيف.
(فلا تميلوا كل الميل) يعني: إذا ملتم إلى واحدة منهن، فلا تبالغوا في الميل إليها.
ولا تتمادوا في ذلك، ولكن ثبتوا أنفسكم فلا تميلوا كل الميل؛ لأنك إذا ملت كل الميل ستضيع العدل الواجب الذي تملكه وتستطيعه وهو القسم.
(فتذروها) أي: تذروا التي ملتم عنها.
(كالمعلقة) أي: بين السماء والأرض، لا تكون في إحدى الجهتين، فهي لا ذات زوج ولا مطلقة.
وروى أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شدقيه ساقط)، هذه الرواية هنا بلفظ: (شدقيه) لكن الأصح والله أعلم أنها (شقيه) أي: جانبه.
(وإن تصلحوا) أي: نفوسكم بالتسوية والقسمة بالعدل فيما تملكون.
(وتتقوا) أي: الحيف والجور.
(فإن الله كان غفوراً رحيماً) فيغفر لكم ما سلف من ميلكم.(38/7)
تفسير قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته)
قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} [النساء:130].
قوله: (وإن يتفرقا) أي: الزوجان بالطلاق.
(يغن الله كلاً) عن صاحبه.
(من سعته) أي: من فضله؛ بأن يرزقها زوجاً غيره، ويرزقه غيرها.
{وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا}، أي: لخلقه في الفضل.
{حَكِيمًا}، فيما دبره لهم.
والمعنى: إن يتفرق الزوج والمرأة بالطلاق بأن لم يتم الصلح بينهما، فالشرع لا يقبل أن تبقى المرأة كالمعلقة، ولعلكم تلحقون ذلك بحكم الإيلاء المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فمن حلف أن لا يقرب المرأة ولم يحدد أجلاً فالشرع يقول: هذا الوضع الذي هو إلى الأبد دون تحديد ليس في الإسلام، لكن ينظر المولي ويمهل أربعة أشهر {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة:226]، أي: إن رجعوا وأصلحوا {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]، فيقول تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا) أي: لم يتم الصلح بينهما، ففي هذه الحالة إذا اختارا الفرقة (يغن الله كلاً) منهما (من سعته) ويجعله مستغنياً عن الآخر.
وقوله: (من سعته) أي: من غناه وجوده وقدرته، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغماً لصاحبه، بمعنى ألا يكون هناك إرغام من أحد الطرفين للآخر، فالله سبحانه وتعالى سيعوضه بعد الطلاق، وهذه الآية فيها تعزية ومواساة وتسلية لهما.
{وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء:130] أي: واسع الفضل {حَكِيمًا} [النساء:130] أي: في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.(38/8)
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً)
قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:131 - 132].
قال تعالى: ((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) الكتاب هنا بمعنى: الكتب.
((مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: اليهود والنصارى.
((وَإِيَّاكُمْ)) يا أهل القرآن.
((أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) بأن خافوا عقابه وذلك بأن تطيعوه.
((وَإِنْ تَكْفُرُوا)) وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا بما وصيتم به.
((فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) خلقاً وملكاً وعبيداً فلا يضره كفركم.
((وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا)) أي: عن خلقه وعبادتهم.
((حَمِيدًا)) أي: محموداً في صنعه بهم.
((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) كرره تأكيداً لتقرير موجب التقوى.
((وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)) أي: شهيداً بأن ما فيهما له.(38/9)
وجه تكرار قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) الآيات
في الحقيقة هنا شيء يلفت النظر في هذه الجملة من الآيات، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ثم قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131]، ثم قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:132].
ذكره ثالثاً إما لتقرير كونه تعالى غنياً حميداً، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميداً.
وإما تمهيداً للاحقة (إن) الشرطية، وهو بيان كونه تعالى قادراً على جميع المقدورات، أي: له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً وملكاً، فهو قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه أيها الناس! فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات؛ لتقرير ثلاثة أمور في سياقها كما بينا.
وقال الرازي: إذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة؛ فإنه يحصل ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكر مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم ثالثاً ليستدل به على المدلول الثالث.
وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة؛ لأنه عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال.
وأيضاً: فإذا أعدته ثلاث مرات، وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله، تنبه الذهن حينئذ؛ لكون تخليق السماوات والأرض دالاً على أسرار شريفة، ومطالب جليلة؛ لأنه كلما ذكر هذا الجزء من الآية احتف بذكر صفات لله عز وجل غير المذكورة في المرة السابقة.
ففي الأولى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، ثم قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}، ثم قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر بما في السماوات والأرض؛ لأن هناك إشارة إلى أنه ينبغي عليكم أن تتفكروا فيما هو في السماوات والأرض، والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى.
ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرار مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال.
((وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)) أي: رباً حافظاً توكل بالقيام بجميع ما خلق.(38/10)
تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس)
قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133].
((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: يفنكم ويستأصلكم بالمرة.
((وَيَأْتِ بِآخَرِينَ)) يعني: يوجد مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكان الإنس، ولكن الله أبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان.
إذا نظرنا للإنسانية كلها فسنرى الكفر والإلحاد ومحاربة الله والصد عن سبيله إلى غير ذلك مما يحتف به سكان هذه الأرض، فالمقصود من الآية أن إبقاءكم رغم ما أنتم فيه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم البالغة بإفنائكم، لا لعجزه سبحانه وتعالى، وإمهال الله إيانا ليس عجزاً منه سبحانه وتعالى عن أن يؤاخذنا، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب بنا ويأتي بقوم آخرين.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} أي: على إهلاككم بالمرة والإتيان بغيركم.
((قَدِيرًا)) أي: بليغ القدرة، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:16 - 17].
قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره.(38/11)
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا)
قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134].
قوله: (من كان يريد ثواب الدنيا) كالمجاهد يجاهد لطلب الغنيمة (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) أي: أنه يستطيع بهذا الجهاد نفسه الذي يفعله أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة، كما له أن يطلب أخسهما ويقتصر على طلب الدنيا، فليطلبهما أو ليطلب الأشرف منهما وهو ثواب الآخرة، كما قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:200 - 202]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، إلى آخر الآيات.
وقال بعضهم: عني بالآية مشركو العرب، فإنهم كانوا يقرون بأن الله تعالى خالقهم ولا يقرون بالبعث يوم القيامة، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى؛ ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها.
(من كان يريد ثواب الدنيا) هذا كما كان يفعله هؤلاء المشركون، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، هناك بعث ونشور وجنة ونار، فعليهم أن يرجو جلب الخير في الآخرة، ودفع الشر فيها أيضاً.
(وكان الله سميعاً بصيراً) فلا يخفى عليه خافية ويجازي كلاً بحسب قصده.(38/12)
تفسير سورة النساء [148 - 149](39/1)
تفسير قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول)
قال تبارك وتعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148].
قوله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) يعني: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له.
(وكان الله سميعاً عليماً) سميعاً لما يقال، عليماً بما يفعل.(39/2)
أقوال المفسرين في معنى قوله: (إلا من ظلم)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)) أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر بالقبيح من القول، (إلا من ظلم) إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه، ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه وتعالى، حتى إنه يجيب دعاءه؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم كما جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه داعياً إلى الإسلام: (اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
قوله: (إلا من ظلم) يعني: إلا جهر المظلوم إذا دعا على ظالمه، أو إذا تظلّم به عند القاضي أو الحاكم، وحكى هذا الظلم الذي وقع عليه، فهذا أيضاً لا يدخل في قوله: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)).
ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة كما جاء عن السلف، حيث ذكروا أنواعاً منه، وليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على أنواع من الظلم.
فمن ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم)، وإن صبر فهو خيرٌ له؛ لأنه إذا دعا عليه فقد أخذ حقه، وإن ادخرها للآخرة فهذا أفضل.
وعن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قراه فتحول عنه، والقراء: هو ما يؤدى للضيف وعند العرب فضلاً عن المسلمين من المذلة والمعرة أن الضيف يهجر الشخص الذي أضافه، ويتحول عنه ثم يثني عليه.
وكلمة الثناء تطلق على الخير، وتطلق على الشر، تقول: أثنى عليه خيراً، وأثنى عليه شراً، للحديث الذي في الجنازة (لما مرت جنازة رجل، فأثنوا عليها خيراً، ولما مر رجل آخر سيئ فأثنوا عليه شراً).
والثناء في هذا السياق المقصود به الشر، يعني: شنع عليه، واشتكى منه وجهر بمذمته؛ لأنه قصر في ضيافته؛ لذلك يقول مجاهد: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، يثني عليه يعني: يذكره بالسوء والتقصير الذي أولاه في الضيافة.
وعن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن، فهذا جهر بالسوء.
وفي رواية: هو الضيف المحول رحله فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
قال ابن كثير: وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى في ذلك؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم).
وروى الإمام أحمد عن المقدام بن أبي كريمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم ضاف قوماً، فأصبح الضيف محروماً، فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله)، يصبح من حق الضيف أن يأخذ بقدر قراه.
وروى هو وأبو داود عنه أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه).
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي جاراً يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على قارعة الطريق -أو في وسط الطريق- فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: ما لك؟! قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه، قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبداً)، وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، قال: هو الرجل يشتمك فتشتمه؛ لكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، وإذا شتمك فلك أن تشتمه، (إلا من ظلم) يعني: له أن يجهر بالسوء، فإذا شتمك عياناً، فلك أن تقتص منه بأن ترد بنفس ما شتمك به، إلا إذا كانت كذباً، فلا تكذب مثله، وذلك لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41].
وقال: قطرب في معنى الآية: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، أي: إلا من أكره على أن يجهر بالسوء من القول.
يعني: أكره كأن وقع تحت التعذيب أو الإكراه، بحيث يجهر بالسوء من القول فهذا يباح له أن يجهر به.
وسئل المرتضى عنها، فقال: لا يحب الله ذلك ولا يريده لفاعله.
(إلا من ظلم) وذلك مثلما فعل مردة قريش بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعذيب والضرب حتى يكرهوهم على شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك عمار فخلّوه وصلبوا صاحبه، فأجاز لمن فُعِلَ به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وأن يجهر بالسوء مع اطمئنان قلبه بالإيمان، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله تعالى في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، فكانت هذه الآية مبينة بما في قلب عمار من شحنة إيمانية قوية.
قوله: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، الآية تعم كل أنواع الظلم، وهذا مجرد ضرب أمثلة لهذا الظلم، سواء قلنا: إنها تعني حرمان الضيف من القرى.
أو بمعنى: إلا من أكره على النطق بالسوء من القول، إلى غير ذلك مما ذكرنا.(39/3)
من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى لا
نقل السمرقندي وغيره عن الفراء في قوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) أن (إلا) بمعنى: لا، أي: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) يعني: حتى الذي يظلم لا يحب الله منه أن يجهر بالسوء من القول، يقول القاسمي: هذا من تحريف الكلم عن مواضعه -يعني: تفسير (إلا) بمعنى: لا- فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم، عن الشريد بن سويد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، الواجد هو: الشخص الذي عليه دين أو حق للناس وعنده من المال ما يسدد به الدين ويعطي للناس حقوقهم، فهو ليس فقيراً أو معدماً وليس لديه أي عذر، ومع ذلك يماطل ويسوّف، ويتهرب من أداء حقوق الناس، فإذا وقع إنسان في هذه المماطلة والتسويف مع كونه واجداً وغنياً فهذا ليه ومماطلته تحل عرضه وعقوبته، يعني: تحل الشكوى منه والثناء عليه بالشر الذي يفعله، فيحق لك أن تذكره بسوء وتشتكيه إلى القاضي وتقول: فلان ظلمني، فلانٌ ماطلني، فلان يمنعني حقي، فهذا داخل في قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، فمن حق الذي ظلم أن يشتكي لكن من لم يظلم وجهر بالسوء فهذا يكون مرتكباً لكبيرة الغيبة.
والكلام هنا في الرخصة في الجهر بالسوء من القول في حق من ظلم، أما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.
أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم، ودلّت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرهاً لا يكفر، وهذه الآية تضم إلى الآية التي في سورة النحل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وذلك لأن المكره مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ الكفر مع الظلم، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار.
ثم قال: والمحبة ها هنا بمعنى: الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى.
يقول القاسمي: هذه نزغة اعتزالية، أي: تأويل فاسد، ثم قال: وتسميته سوءاً بكونه يسوء المقالة فيه، يعني: لأنك إذا اشتكيت من هذا الظالم فهذا الكلام الذي تقوله يسوءه ويؤذيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال؛ لأن مقابلة الظالم بالجهر بالسوء من القول في حقه إنما هو من العدل؛ وذلك كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وهذه مجرد مشاكلة في اللفظ للمجاورة، لكن هل السيئة الثانية تسمى سيئة، أم أنها من العدل؟ السيئة الثانية عدل وقصاص وليست قبيحة، كذلك هنا: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، هذا أيضاً ليس سيئاً ولا قبيحاً في حال المقابلة وفي حال التشكي وقد ظلم.(39/4)
من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى الواو
هناك من قال: إن (إلا) بمعنى: (الواو) ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) يعني: (ومن ظلم).
في الحقيقة لا أدري كيف يكون المعنى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ومن ظُلِم) هذا بعيد، إلا إذا قرئت (ومن ظَلَم)، يقول البغوي الشاهد لهذا القول: وكل أخ مفارقه أخوه لعمرو أبيك إلا الفرقدان أي: والفراق دان، يقول: وهذا خلاف الظاهر، وهذا المذهب مردود.
قولك: (إلا) بمعنى: الواو هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة فلا تشتغلوا به.(39/5)
الفوائد والحكم المستفادة من قوله: (إلا من ظلم)
نقل في معنى هذه الآية حكمٌ ونوادر بديعة، قال الشعبي: يعجبني الرجل إذا سيم هوناً دعته الأنفة إلى المكافأة، يعني: أن المسلم يكون عزيز النفس، له أن يعفو ويصفح، لكن الصفح والعفو والحلم يكون في مقامه، أما معاملة المؤمن على أنه مغفل أو غير ذلك فهذا لا يمدح فيه العبد.
ومعنى كلام الشعبي: يعجبني الرجل إذا سيم هوناً، أي: إذا ساوموه على أن يعطي الدنية والهوان والمذلة، دعته الأنفة والعزة إلى المكافأة، أي: في هذه الحالة يكافئ ويعاقب.
يقول عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فبلغ كلام الشعبي الحجاج، فقال: لله دره أي رجل بين جنبيه، فتمثل: ولا خير في عرض امرئٍ لا يصونه ولا خير في حلم امرئٍ ذل جانبه أي: الذي يتحلم وهو في حالة المذلة، ولكن الحلم يكون قيمته في حالة العزة والقدرة على الانتقام، فهذا هو الذي يحلم.
وقال أعرابي لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]).
وقال المتنبي: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم أي: إذا كان الحلم يشينك بمزيد من المذلة والهوان، ويفتح السبيل لمزيد من الظلم، فالحلم هنا لا يمدح ولا يقصد، بل إنه من الحلم أن تستعمل الجهل دونه وأن تسلك سبيل الجهل في مثل هذه الحالة، والجهل هنا بمعنى: الجهل العملي، والمقصود به: الانتقام والقصاص وأخذ الحق.
هذا معنى كلام المتنبي ثم يقول البرقوقي شارح ديوان المتنبي: الحلم هو الأناة والعقل، والجهل هنا: نقيض الحلم، والمظالم: جمع مظلمة، وهي الظلم، يقول: إذا كان حلمك داعياً إلى ظلمك، فإن من الحلم أن تجهل؛ لأن الحلم إنما يلجأ إليه بتدارك الشر، فإذا تفاقم الشر ولم يتدارك الشر إلا بالجهل كان الجهل حلماً.
فلا خير في حلم إذا لم يكن له زواجر تحمي صفوه أن يكدرا(39/6)
حقيقة الاستثناء في قوله: (إلا من ظلم)
أما الاستثناء في قوله تبارك وتعالى: ((إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، إذا قلنا: إنه متصل ففيه وجهان: الأول: قول أبي عبيدة: إن هذا من باب الحذف في المضاف، يعني: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الثاني: قول الزجاج: المصدر هاهنا بعد الاستثناء متصل، يعني: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم.
أما على أن الاستثناء منقطع فإنه يصلح أن يكون منقطعاً فـ (إلا) تكون بمعنى: (لكن)، وتكون العبارة: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن المطلوب له أن يجهر بمظلمته.
قوله: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)) [النساء:148]، فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، ووعيد له أيضاً حتى لا يتعدى في الجهر المأذون فيه، فهو وعيد للظالم ووعد للمظلوم ووعيد له أيضاً ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا))، (وكان) أي: ولم يزل متصفاً بأنه تعالى (سميعاً) يسمع شكوى المظلوم ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه، وهذا وعد للمظلوم ووعيد له أيضاً، يعني: احذر أيها المظلوم أن تتعدى حدودك في القصاص من ظالمك، إذا شتمك تشتمه بمثل ما شتمك، لكن إذا كذب عليك في الشتيمة لا يجوز لك أن تقابلها بالمثل، وإذا خانك وغدر بك فلا يجوز لك أن تغدر وأن تخون وتقول: أنا أقتص منه؛ لأن الخيانة محرمة بحق الله سبحانه وتعالى، فالمسلم لا يغدر ولا يخون، مثلاً: إذا انتهك عرضك لا يحل لك أن تنتهك عرضه، وإذا سرق مالك لا يحل لك أن تسرق ماله.
فالمظلوم لا يتعدى بالجهر في المأذون فيه، فليقل الحق ولا يقذف بريئاً بسوء، فإنه يصير عاصياً لله بذلك.(39/7)
تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه)
وبعدما جوّز الله سبحانه وتعالى الجهر بالسوء، حث سبحانه على الأحب إليه والأفضل عنده، وأن يدخل العبد في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149].
قوله: (إن تبدوا خيراً) أي: تظهروا طاعة (أو تخفوه) أي: تعملوه سراً، (أو تعفو) أي: تتجاوزوا (عن سوء) أي: عن ظلم، ((فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)) أي: يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام.
يعني: الله سبحانه وتعالى موصوف بأنه عفو قدير، يعفو عن الجاني مع أنه قادر على الانتقام؛ فكذلك إذا قدرتم على الانتقام فأولى وأفضل في حقكم أن تعفوا عن الجاني.
فعليكم أن تقتدوا بسنة الله، وذلك بالعفو مع القدرة، فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، حتى وإن كان على وجه الاقتصاص فضلاً عن كونه من مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العكس بأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى الكلام ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) أي: فإن عفا المظلوم ولم يدع على ظالمه ولم يتظلم منه، فإن الله عفو قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء؛ لأنه يُعلم من مدح فاعل الخير في السر والعلانية.
قال ابن كثير: ورد في الأثر: (أن حملة العرش يسبحون الله فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك).
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه)، وصدر الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحلف عليهن) وهو الصادق المصدوق؛ لكن الحلف هنا لمزيد من التأكيد؛ لأن بعض الناس قد يستغرب من ذلك: (ما نقص مال من صدقة)، يعني: الصدقة لا تنقص المال أبداً، ومن ليس عنده يقين يستغرب هذا، فلذلك حلف النبي صلى الله عليه وسلم تأكيداً لهذه الحقائق، ويقول في نفس الحديث: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
وقال الرازي: اعلم أن عواقب الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال النفع إليهم، ودفع الضرر عنهم، فقوله تعالى: ((إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ)) إشارة إلى إيصال النفع إليهم.
((أَوْ تَعْفُوا)) إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.(39/8)
تفسير سورة النساء [163 - 176](40/1)
تفسر قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وكان الله عزيزاً حكيماً)
انتهينا في تفسير سورة النساء إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:163 - 165].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ و)) أي: وكما ((أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)) ابنيه ((وَيَعْقُوبَ)) وهو ابن إسحاق ((وَالأَسْبَاطِ)) أولاده.
يعني: الأنبياء من ذرية يعقوب عليه السلام.
((وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا)) أباه، ((دَاوُدَ زَبُورًا)) بالفتح اسم للكتاب المؤتى، وبالضم مصدر بمعنى: مزبوراً، أي: مكتوباً، ((وَرُسُلًا)) أي: وأرسلنا رسلاً، وكلمة رسلاً منصوبة بفعل مقدّر وهو وأرسلنا رسلاً ((قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)).
روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي؛ أربعة آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس، قاله المحلي في سورة غافر عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى)) بلا واسطة ((تَكْلِيمًا)).
((رُسُلًا)) بدل من (رسلاً) قبله ((مُبَشِّرِينَ)) بالثواب لمن آمن ((وَمُنذِرِينَ)) بالعقاب لمن كفر.
أرسلناهم ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ)) تقال ((بَعْدَ)) إرسال ((الرُّسُلِ)) إليهم {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، فبعثناهم لقطع عذرهم.
((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) في ملكه ((حَكِيمًا)) في صنعه.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشاداً، وإنما هو سؤال تعنت وجدال.
وبين عز وجل بعد ذلك أنواعاً من فضائح اليهود، أشار إلى رد شبهتهم، فاحتج عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، بل سبقه من قبل أنبياء أوحى الله عز وجل إليهم، وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثلما أنزل على موسى، فهم أرادوا أن ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة.
فيجابون هنا: بأن الوحي كما أتى لأنبيائكم الذين تؤمنون بهم، لم يأت لهم جملة واحدة كما أنزل على موسى، ومع ذلك أنتم تؤمنون بهم؛ كذلك الحال بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن نزول الكتاب جملة واحدة من شرط النبوة، فبان أن سؤالهم إنما هو محض التعنت؛ ولذلك قال تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) إلى آخره.
قيل: بدأ بنوح؛ لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، وبدأ بذكر نوح ترهيباً لهم، وإشارة إلى أنه أول نبي عوقب قومه بإرساله الطوفان عليهم، فهذا ترهيب ضمني لهم أن ينزل الله عليهم العذاب كما أنزله على قوم نوح، وظاهر الآيات يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى إليه كما أوحي إلى نبينا، وإن كان قد سبق نوح عليه السلام أنبياء، فلا يفهم من الآية أن هؤلاء الأنبياء لم يأتهم وحي أصلاً، وإلا لما كانوا أنبياء، وإنما أتاهم وحي ليس بنفس الكيفية التي أوحي بها إلى من بعد نوح عليه السلام.
يقول تعالى: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ)) يعني: في السور المكية، أو قصصنا عليك قصصهم.
((وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)) يعني: لم نسمهم لك في القرآن.
أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين نبياً ورسولاً من بني إسرائيل.
وروي في عدة الأنبياء أحاديث تكلم في أسانيدها، منها: حديث أبي ذر: (إن الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر)، وهذا صححه ابن حبان، وذكره ابن الجوزي في موضوعاته.(40/2)
حقيقة تكليم الله لموسى عليه السلام
قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) يعني: خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد الكلام بالمصدر يدل على تحقيق الكلام، ولا يمكن أن يوجد هنا احتمال مجاز بل هو كلام حقيقي بلا واسطة، وموسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بلا شك؛ لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر، هذا على القول بوجود المجاز في القرآن الكريم.
فإذا أراد إنسان أن يتكلم بالمجاز فلا يؤكده بالمصدر أبداً؛ لأنه لا يستعمل التأكيد بالمصدر إلا في الحقيقة، وهذا فيه رد على من يقول: إن الله خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام.
وقال الفراء: العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل؛ لكن لا تحققه بالمصدر، وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، فدل قوله تعالى: ((تكليماً)) على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة.
قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به، ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء.
يعني: كون موسى عليه السلام فضله الله بالكلام على غيره من الأنبياء، فهل يعد هذا قدحاً في بقية الأنبياء؟ لا، فالله سبحانه وتعالى يفضل بعض الرسل على بعض، منهم من كلم الله كموسى عليه السلام.
قال: فكذلك إنزال التوراة على موسى عليه السلام جملة واحدة لا يكون قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء.
والسياق هنا في الرد على اليهود: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء:153]، وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32]، فكما أن موسى عليه السلام كلمه الله، ولم يكن تفضيله بالكلام قادحاً في نبوة غيره، كذلك لم يكن تخصيصه بإنزال التوراة جملة واحدة قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء، وهذه الإشارة مأخوذة من قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)).(40/3)
بيان القراءات في قوله: (وكلم الله موسى تكليماً)
القراءة المشهور في لفظ الجلالة في قوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) بالرفع، وقرئ بنصبها قراءة شاذة، وهي القراءة التي أخذ بها أهل البدع وتمسكوا بها، يعني: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) يعني: كأنهم يريدون أن ينفوا صفة الكلام عن الله، وأن الذي كلم الله هو موسى، وليس الله هو الذي كلم موسى عليه السلام.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى الحافظ أبو بكر بن مردويه: أن رجلاً جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلاً يقرأ: (وكلم اللهَ موسى تكليما) أي: أن موسى هو الفاعل فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر! قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)).
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك؛ لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه، وكأنّ هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام، أو أن الله يكلم أحداً من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) فقال له: يا بن اللخناء كيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
فهنا أزال المعنى المتشابه نتيجة هذه القراءة الشاذة برده إلى المحكم: ((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)).(40/4)
لا حجة للناس على الله بعد إرسال الرسل
يقول تعالى: ((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) أي: رسلاً يبشرون من آمن وأطاع بالجنة، وينذرون من خالف وعصى وكفر بالنار.
((لئلا يكون)) يعني: لكيلا يكون.
((للناس على الله حجة)) يعني: يوم القيامة لا يكون لهم عذر يعتذرون به قائلين: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:47]؛ لأن الله لو لم يرسل الرسل لكان للناس عذر يوم القيامة ويقولون: ربنا أنت لم ترسل إلينا رسولاً، وما أنزلت علينا كتاباً، وما عرفنا ما الذي يرضيك وما الذي يغضبك، لو كنت أرسلت إلينا رسلاً، وبينت لنا شرائعك، وأمرتنا ونهيتنا، وعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك؛ لأن قدرتنا البشرية قاصرة عن إدراك جزئيات المصالح، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} [طه:134]، من قبل أن ينزل القرآن: {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، فلذلك الله سبحانه وتعالى قال: قد أرسلت إليكم رسولاً وأنزلت عليه الكتاب، وبلغكم الحق، فقد قامت عليكم الحجة، ولم يبق عذر لمعتذر، وإنما سميت حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه وتعالى في فعل من أفعاله اعتراض؛ لأنه يفعل ما يشاء كما يشاء، ثم إن هناك حجة للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله سبحانه وتعالى تكفل أنه لا يعذب أحداً، لا أمماً ولا أفراداً حتى تبلغه حجة الرسل والأنبياء.
وعن عبد الله بن مسعود كما في مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس شيء أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) والحديث أخرجه أيضاً البخاري.
قوله تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب، تكون قد قامت الحجة على العباد: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
وفي الآية دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل مبعث الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، رغم أن الله سبحانه وتعالى فطر العباد على التوحيد، وأعطاهم العهود وبث لهم الآيات في الكون وفي أنفسهم، وأخذ عليهم الميثاق، ومع ذلك تكفل رحمة منه بالعباد أنه لا يعذب أحداً رغم كل هذا حتى تبلغه الحجة الرسالية، فإذا بلغه وسمع عن الحق وعن دين الحق، صار مسئولاً عنه أمام الله سبحانه وتعالى، ولا يعذر الكافر بجهله؛ لأن آيات الحق وأدلة الحق واضحة بينة، وما عليه إلا أن يعمل عقله في البحث عنها.
((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) أي: في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله، ((حَكِيمًا)) في بعث الرسل للبشارة والنذارة.(40/5)
تفسير قوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك
قال تبارك وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166].
سئل اليهود عن نبوته فأنكروه، فالله سبحانه يقول: إن كانوا هم أنكروا نبوتك ولم يشهدوا بها، لكن الله يشهد.
يقول السيوطي: قوله: ((لكن الله يشهد)) يبين نبوتك، (بما أنزل إليك) من القرآن المعجز ((أنزله)) متلبساً ((بعلمه)) أي: عالماً به، أو وفيه علمه.
((والملائكة يشهدون)) أي: يشهدون لك أيضاً، ((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) أي: على ذلك.
يقول القاسمي: ولما تضمن قوله تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) إثبات نبوته، والاحتجاج على تعلقهم عليه بسؤال كتاب منزل عليهم من السماء، كأنه قيل: إنهم لا يشهدون لأجل ذلك.
يعني: أثبت الله نبوة محمد والأنبياء الآخرين: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) إلى آخر الآية، ثم أخبر عز وجل أنه هو الذي أوحى إليك، فإذا كانوا هم لا يشهدون بنبوتك؛ فإن الله يشهد لك بالنبوة، قال عز وجل: ((لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ)) أي: من القرآن المعجز، الذي ينطق بنبوتك.
قال الزمخشري: معنى شهادة الله بما أنزل إليك، أي: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة؛ لأن الآية جاء في نهايتها: ((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا))، فالحكيم لا يؤيد الذي يدعي كذباً أنه رسول بالمعجزات، أما وقد أيدك الله بالمعجزات، فإنه يشهد لك بذلك؛ لأنك صادق ولست من الكاذبين.
((لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ)) أي: وهو عالم به رقيب عليه.
((وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ)) أي: والملائكة يشهدون أيضاً بذلك.
((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) أي: يكفي أن الله شهد على صحة نبوته وإن لم يشهد غيره.
في الآية تزكية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لا تبال حتى لو لم يؤيدك في نبوتك كل الخلق، يكفي الله سبحانه وتعالى شاهداً، فهذا فيه تسلية وعزاء للنبي صلى الله عليه وسلم.(40/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وكان ذلك على الله يسيراً)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:167 - 169].
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: بالله.
((وصدوا عن سبيل الله)) أي: عن دين الإسلام، حينما كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود.
{قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167] أي: عن الحق.
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: بالله.
((وَظَلَمُوا)) أي: نبيه بكتمان نعته.
((لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا)) من الطرق.
((إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)) أي: الطريق الذي يؤدي إلى جهنم.
((خَالِدِينَ فِيهَا أبداً)) أي: مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها.
((وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)) أي: هيناً.(40/7)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا وكان ذلك على الله يسيراً)
يقول القاسمي: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: كفروا بما شهد الله بإنزاله، مع اطلاعهم على إعجازه.
((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: صدوا ونفروا الناس عن دين الإسلام.
((قَدْ ضَلُّوا)) أي: بما فعلوا.
((ضَلالًا بَعِيدًا)) أي: أنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، فكفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام.
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا)) أي: ظلموا الخلائق بإضلالهم.
((لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا)) لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة.
((إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)) أي: الطريق المؤدي إلى جهنم جراء اكتسابهم الأعمال السيئة.
((خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)) أي: هيناً لا يعسر عليه ولا يستعظمه.(40/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق)
لما قرر الله أمر النبوة، وبين الطريق الموصلة إلى العلم بها، وبعد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد إن ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:170].
قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: بالهدى ودين الحق، والبيان الشافي الذي يجب قبوله.
((فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ)) أي: آمنوا إيماناً خيراً لكم، أو ائتوا أمراً خيراً لكم من تقليد المعاندين.
((وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: فهو قادر على تعذيبكم؛ لعظم ملكوته، فإن ملكه العظيم ينبئ عن عظيم قدرته، أو أن ملكه العظيم يدل على أنه غني عنكم ولا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم، كما قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني).
((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)) أي: في صنعه.(40/9)
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)
لما أجاب تبارك وتعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرد الخطاب للنصارى زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والخذلان؛ لأن من مقاصد القرآن الكريم كما قال عز وجل: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4].
إذاً: أحد المقاصد الأساسية من البعثة المحمدية هو إنذار كل من زعموا لله ولداً، وهذه لا تشمل النصارى فقط، لكنها تشمل المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وتشمل اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وتشمل النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وتجريد الخطاب للنصارى ليبين ضلالهم ويحذرهم، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171].(40/10)
حقيقة الغلو عند النصارى وغيرهم وآثاره
قوله: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) أي: بالإشراك في رفع شأن عيسى عليه السلام، وادعاء ألوهيته؛ فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها وهي العبودية والرسالة، فهنا نهي عن الغلو في الدين، والغلو في العقيدة، كما فعل أهل الكتاب أو النصارى لعنهم الله.
فالغلو: هو مجاوزة الحد بالإسراف، فإن وصف عيسى بالألوهية رفع له فوق منزلته التي هي العبودية لله سبحانه وتعالى والرسالة.
فيستفاد من الآية: حرمة الغلو في الدين، وهذه الآية فيها دليل من أدلة تحريم التطرف الذي هو الأخذ بطرفي الأمور؛ إما أقصى اليمين، وإما أقصى اليسار، بالإفراط أو التفريط، وسبق أن ذكرنا أن التطرف يستلزم وجود وسط وطرفين، والمذموم هو طرفا الأمور كما قيل: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أي: كلاهما مذموم.
والعدل الذي يحبه الله هو الوسط، وهو هذا الدين وهذه الأمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فهي الأمة الوسطية، فالوسطية نعرفها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونعرفها بالقرآن والسنة، فما يوافق الإسلام ويوافق الوحي فهو الوسط، وأي نوع من الانحراف عن هذه الوسطية يميناً أو يساراً فهذا هو التطرف، فعلى هذا الأساس نقول: كل كافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فهو متطرف، وأي واحد يعتقد بعقيدة غير عقيدة الإسلام فهو متطرف، كما نرى أن تطرف اليهود بالجفاء وبسب الأنبياء، وبوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به، فهذا هو أقبح التطرف، أو تطرف النصارى بما زعموه من أن الله ثالث ثلاثة، وأن الله هو المسيح بن مريم إلخ.
إذاً: فكل من لا يدين بدين الإسلام فهو متطرف، ثم إن في داخل دائرة الإسلام نفسه هناك فرق وهناك تفرق بين المسلمين، فكل من ليس من أهل السنة والجماعة فهو متطرف أيضاً، فالمتطرف داخل دائرة الإسلام هو كل من حاد عن منهج أهل السنة والجماعة؛ كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية وكل هذه الفرق الضالة.
فالقوم الآن أتوا إلى جانب التفريط الذي عليه المجتمع من الانحراف عن الإسلام وتضييع حدود الله وجعلوه هو الوسطية وهو خير الأمور عندهم، ثم لما جعلوا ما هم عليه وسطاً صار الإسلام واقعاً في الطرف؛ فلذلك هم يطلقون على الإسلام نفسه وصف التطرف، وأصبح العالم كله الآن يصف الإسلام بالتطرف والتشدد إلى آخر هذه القائمة، وكانوا من قبل يناورون ويموهون على الناس، أما الآن صار كلاماً صريحاً حتى من الملاحدة في بلادنا هنا.
لقد اتفق الجميع الآن على أن كلمة التطرف أو الإرهاب المقصود بها الإسلام بلا أدنى مواربة أو تمويه، فهذا من ضلالهم المبين، وهم المتطرفون حقيقة؛ لأن ما هم عليه انحراف، وكل من ينحرف عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، فالذي يحلق لحيته ويعصي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، وليس الذي يعفيها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الذي يضيع الصلاة هو المتطرف، وليس الذي يصلي، والذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأنه انحرف وتطرف عن الوسطية التي هي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة المتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها انحرفت عن الوسطية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون عندنا اعتقاد راسخ بأن هذا هو الوزن الصحيح للأمور، وأن ما جاء به الإسلام هو الوسطية، وأن أي انحراف عنه فهذا هو الذي يستحق وصفه بالتطرف.
والآية هنا تحرم أقبح صور التطرف والتي وقع فيها النصارى لعنهم الله، وفي الصحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
قوله: (لا تطروني) إما أن يكون الإطراء هو المدح، وإما أن يكون الإطراء هو المبالغة في المدح.
فإذا قلنا: إن الإطراء بمعنى المدح فهو يعني: لا تمدحوني، فإني مستغن عن مدحكم، فقد مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه، وذلك بقوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وغير ذلك من الممادح العظيمة التي شرفه الله بها، فهل يحتاج بعد ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن ننشئ له المدائح والقصائد والمحامد بعد أن مدحه الله بهذه المحامد، فإما أنه نهي عن المدح، أو أنه نهي عن الغلو في المديح الذي يؤدي إلى ما وقع فيه النصارى قبحهم الله، وقد ضل بعض الشعراء في هذا الباب، فنظم بيتاً يقول فيه: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهذا الشاعر فهم الحديث فهماً خاطئاً وقال: إن الحديث ينهى فقط عن أن نقول: محمد ابن الله، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله.
يعني: هذا الشاعر خصص النهي هنا بزعم أنه ابن الله، لكن قولوا بعد ذلك ما شئتم فيه.
وهذا قول البوصيري في البردة المعروفة، فهو يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم.
يعني: أهم شيء ألا تقول: إن محمداً ابن الله كما قالت النصارى: المسيح ابن الله.
يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهو هنا فتح الباب على مصراعيه، وهو كان أول من خاض بالباطل في هذا الضلال، فكان بعد ذلك يقول مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم بناء على هذه القاعدة أو هذا الفهم الخاطئ للحديث.
الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا ينهى المسلمين عن المبالغة في مدحه؛ كي لا يصبح بعد ذلك ذريعة إلى الغلو في الدين، وتحريفه بالتالي كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام.
قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) يعني: أن العبودية في حق الأنبياء من أعظم ما يمدح به الأنبياء، ومن تواضع لله رفعه، فالمبالغة في العبودية والتذلل يكون مقابله أن الله سبحانه وتعالى يرفعه في أعلى المقامات؛ ولذلك مدح الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بصفة العبودية؛ لأن هذا هو أعظم ما يمدح به.
وهذا الشاعر يقول في محبوبته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي أي: فلا تدعني إلا يا عبد فلانة، ولذلك قال الرجل الصالح رداً عليه: لا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي فأشرف الأوصاف أن تكون عبداً لله؛ ولذلك مدح الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] في مقام التحدي، وقال أيضاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وأيضاً قال تبارك وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] في مقام الدعوة، وغير ذلك من مقامات التشريف.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفه الله بالعبودية، وهو يتبرأ ممن يغالي في مدحه، كأن يقول: إنه أول خلق الله، أو نور عرش الله، إلى غير ذلكم مما يزعمه الصوفية، ويزعمون بذلك أنهم يمدحون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الأشياء.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل).
قوله تعالى: ((وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)) يعني: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) تأمل أن الله سبحانه وتعالى يصف المسيح بأنه ابن مريم، وليس ابن الله، فهو من البداية يبين لهم غلوهم، ولذلك يكثر في القرآن وصف المسيح باسمه كاملاً.
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: إشارة إلى أنه ليس ابن الله، ولكنه ابن مريم عليها السلام، فهذه صفة له تفيد بطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى.
قوله: ((رسول الله)) هذا هو خبر المبتدأ، يعني: المسيح رسول الله، فهو مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاها.
و (إنما) تفيد الحصر، فهو محصور في هذه الصفة لا يتجاوزها إلى ما يزعمون من الألوهية.
((وكلمته)) أي: عيسى عليه السلام المسيح كلمة الله؛ لأنه مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة، ولا شك أن كل المخلوقات إنما تخلق بكلمة (كن) سواء بواسطة أو بغير واسطة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] لكن خص المسيح عليه السلام هنا لما كان في خلقه من المعجزة ومن الآيات البينات على قدرة الله سبحانه وتعالى.
((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)) أي: أوصلها إليها بنفخ جبريل عليه السلام.
((وَرُوحٌ مِنْهُ)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتعالى.
و (من) هنا لابتداء الغاية حيث تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، وهي كقوله تبارك وتعالى: ((وروح منه)) أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم؛ لأننا جميعاً أيضاً خلقنا من روح الله، بمعنى: أن أرواحنا مخلوقة لله، لا أنها جزء من الله؛ ولذلك يرد على ضلال النصارى الذين يتفلسفون ويستدلون بآيات القرآن لتأييد باطلهم، يرد عليهم بقوله تبارك وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] ثم قال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] يعني: من روح الله، فالإضافة هنا معناها: من الروح التي خلقها الله، وليس أنها جزء من الله والعياذ بالله.
قوله: ((وروح منه)) هنا لابتداء الغاية وليس للتبعيض -والعياذ بالله- الذي هو قول النصارى، حيث يزعمون أنها جزء من الله والعياذ بالله، لكن المقصود بقوله: ((وروح منه)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتع(40/11)
عقيدة التثليث عند النصارى وبيان بطلانها
قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) أي: ولا تقولوا: إن الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]؟ وقد ذكر السيد: عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند، حكايةً عن مناظره، بأنه حكى -يعني: هذا القسيس في القصة المعروفة في الهند- أن فرقة من النصارى كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر مكتوب في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم، وبصورة أخرى أذكر أن كبير النصارى ومقدمهم (شنودة) كان من سنوات طويلة يظهرونه على أنه نجم من نجوم المجتمع، كان يتكلم وهو يعرف أن عقيدته حافلة بالعورات، بل كلها عورات، والأولى له أن يستر على نفسه ويسكت عن نشر الباطل الذي هو عليه، لكنه يموه ويحاول أن يخدع المسلمين، ولا يستطيع خداع المسلمين إلا بالتمويه بأن يظهر أنه مثل المسلمين، وهو يحس ويشعر بهذه العقدة، أن عقيدته عقيدة التثليث لا يمكن أن تنظف وتطهر ولو غسلت بماء البحار، وتراه يعرض في كلامه ولا يريد أن يهاجمنا بطريقة مباشرة، ونشر له هذا الكلام في مجلة الهلال.
فكان يقول في هذه المجلة: البعض يقولون: إننا نقول إن مريم ثالث ثلاثة.
يعني: أن الآلهة هي: الأب والابن ومريم! من قال هذا؟ هذا غير صحيح، ونحن لا نقول هذا.
فإذا كنت أنت وسائر النصارى لم تستطيعوا ضبط أصل أصول دينكم وألحدتم فيه هذا الإلحاد، وزعمتم أن (1 + 1 + 1=1) مريم هي عليها السلام أم الله؟!.
فهو يحاول أن ينكر ذلك، لكن ما دام أن الله قد حكاه عنهم، فهو قطعاً قد حصل، فإما أن هذا الرجل يكذب، وإما أنه جاهل بتاريخ فرقهم وما أكثرها.
وهذا الشيخ أبو محمد عبد الله الترجمان والذي سبق أن تكلمنا في قصة إسلامه من قبل، فقد كان أكبر علماء النصارى في أوائل القرن التاسع الهجري، ودخل في الإسلام وله قصة جميلة، وله كتاب مشهور اسمه: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) حتى إن هذا الرجل اشتهر في بلاد المغرب باسم: سيدي تحفة، نسبة إلى كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) من كثرة ما اشتهر بهذا الكتاب، فيقول في قصته التي ذكرها في التحفة: وبعضهم يقول: الثلاثة هم الله تعالى، وعيسى بن مريم والروح.
ولا يشك ذو عقل سليم أن كل من أوتي مسكة من العقل يجب عليه أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الإفك الغثيث البارد السخيف الرذيل الفاسد الذي تتنزه عنه عقول الصبيان، ويضحك منه ذوو الأفهام والأذهان.
يقول: فالحمد لله الذي أخرجني من زمرتهم، وعافاني من بليتهم.
ثم يقول: هناك فرقة تسمى: البربرانية، التي كانت تذهب إلى القول بألوهية المسيح وأمه معاً.
ويقرر ابن البطريق مذهب هذه الفرقة فيقول: ومنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية ولعل هؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم فيما يخاطب الله به تعالى عيسى بن مريم عليه السلام إذ يقول: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116]، وإذ يرد عليهم في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] هذا السياق يفيد أنهم يزعمون أن عيسى وأمه إلهان؛ لأن الرد هنا على هذه الفرقة التي تزعم ذلك، ولذلك قال: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ))، يعني: أن الذي يحتاج إلى أكل الطعام يحتاج أيضاً إلى الإخراج، ومن الذي خلق الطعام؟ إنه الله، فهل الخالق يحتاج إلى مخلوق؟ هل الخالق يحتاج إلى طعام وشراب وإلى قضاء حاجة والعياذ بالله؟!! {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].
والذين يحاولون أن يتبرءوا من أنهم يعبدون مريم عليها السلام، يتخذون أصناماً لـ مريم عليها السلام ويتمسحون بها، ويتوجهون إليها بالدعاء والبكاء، ويسجدون أمامها في الكنيسة حيث يوجد تمثال مريم عليها السلام، فهذا في الحقيقة معروف عنهم ومتواتر، فنقول لهم: لم تتبرءون من شيء واضح مثل الشمس؟ أليس عبادة المرء ودعاؤه وبكاؤه أمام صنم، أو أمام تمثال لـ مريم عليها السلام أليس هذا من اتخاذ آلهة من دون الله؟! وهذا من الأشياء الأساسية في ملتهم، فإذا ألغينا من النصرانية التماثيل والصور وهذه الأشياء لما بقي فيها شيء كثير، فكل عمدة دينهم هو هذه الصور والتماثيل.
قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) يعني: أن الثلاثة هم: الله، والمسيح، ومريم، أو لا تقولوا: ثلاثة أقانيم فتكون الآية ترد على الفرق الأخرى الموجودة كالكاثوليك أو الأرثوذكس وغيرهم.
فقوله: ((لا تقولوا ثلاثة)) أي: ثلاثة أقانيم والتي هي: الأب والابن وروح القدس.
وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى عن بعض كتبهم النصرانية مباشرة عبارات ما نطيق أن نحكيها في الحقيقة؛ لأن فيها شركاً صراحاً، وفيها وصفاً للثلاثة الأقانيم، بأن كل أقنوم له خصائص وله ذاته المختصة بصفات معينة عندهم، والمتميزة بها، ولكنها كلها شيء واحد والعياذ بالله.
يقول حكاية عنهم: ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري.
فهم يعترفون أنهم ثلاثة وفي نفس الوقت يتناقضون، ومع هذا التناقض يقولون: نحن لا نستطيع أن نفسر هذا، ما أعسرها من عقيدة! ولذلك لما اتخذ بعض المسلمين حاسباً نصرانياً وبلغ ذلك الخليفة، كتب إليه الخليفة أو غيره قائلاً: كيف تأمن على الحساب من لا يتقن الحساب، واحد يقول إن: (1+1+1=1)!.
يعني: كيف توظفه محاسباً عندك وهو ما يعرف أن يجمع (1+1+1) يقول: إنها تساوي (1) هل هذا يصلح أن يكون حاسباً!.
فهم يقولون: الأقانيم موجودة، لكنها ثلاثة وهي واحد، ومادام أنها موجودة فهي متميزة، يعني: أن كل إله مستقل بذاته.
يقول في كتاب الصلاة الرائج في إنجلترا: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً -يعني: هذا في كتابهم يخاطبهم بأنهم والعياذ بالله ثلاثة- كذلك مريم يعبرون عنها بأنها أم الله أو أنها زوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود الذي لا يجوز إلا لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ من الضلالات، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
والكتب في الرد على ضلال النصارى خاصة في مسألة التثليث كثيرة جداً، فلا نطيل الكلام في ذلك.
والاختلافات في النصارى كثيرة جداً، حتى قيل: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً.
يعني: لو اجتمع عشرة من النصارى وتناظروا واختلفوا فإنهم سيأتون بمذهب جديد، ثم ذكر كلاماً كثيراً طويلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (الرسالة القبرصية).
يقول الماوردي في أعلام النبوة: فأما النصارى فقد كانوا قبل أن يتنصر قسطنطين -يعني: قبل دخول قسطنطين في النصرانية كان دينهم صحيحاً في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام- ثم اختلفوا في عيسى بعدما تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم؛ لأن الروم كانوا صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم، فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله، وقال أوائل اليعقوبية: إنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى، ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس ودفعته العقول.
في الأخير لما وجدوا أن كلمة (ثلاثة) صراحة منفرة، اخترعوا بعد ذلك بقرون أن الله جوهر واحد، لكنه ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية.
واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم: هي خواص، وبعضهم قال: هي أشخاص، وبعضهم قال: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد، وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر، فمن ثم قال تبارك وتعالى: ((انتهوا خيراً لكم)) أي: انتهوا عن التثليث خيراً لكم، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد.
قوله: ((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) يعني: واحد بذاته لا تعدد فيه بوجه ما.
((سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) تنزيه لمقامه جل شأنه عما زعموه من بنوة عيسى حيث قالوا: إنه الله أو ابن الله.
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح في الكتب السابقة، قال: فهو إما من الخلط في الترجمة وإما مؤول بهذه التأويلات، فكانوا يعبرون عن الإله بأنه أبوهم، ولذلك قال المسيح لليهود: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني.
وكونهم يطلقون اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح هذا من المجاز، ولذلك كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لكن في الملة المحمدية الشريفة منع استعمال هذا الإطلاق وحسم الأمر؛ تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو طريق الرشد، فلا يجوز أن يطلق على الله الأب أو على العباد الصالحين أنهم أبناء الله؛ لكن هذا كان يستعمل في لغتهم إما مجازاً بالمعنى الذي ذكرنا، وإما أنه من ضلالهم وتخبطهم في الترجمة.
((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) يعني: هذا تعليل لتنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له ولد، أو يكون ثالث ثلاثة.
((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: كل ما في السماوات وما في الأرض هو مخلوق من مخلوقات الله، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه، فالمسيح عليه السلام عبد لله وملك لله، ومخلوق من مخلوقات الله، فكي(40/12)
تفسير قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله)
قال تبارك وتعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172].
قوله: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ)) هذه جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنبيه، يعني: لن يأنف المسيح من أن يكون عبداً لله؛ لأن عبوديته لله شرف يتباهى به، فالمسيح يتباهى ويفخر بأنه عبد لله، وهذه صفة تشرفه؛ ولذلك المسيح لا يستنكف أن يكون عبداً لله تبارك وتعالى.
((وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)) أيضاً: الملائكة لا يستنكفون من أن يكونوا عبيداً له تبارك وتعالى، وهذا من أحسن الاستطراد؛ لأن السياق أساساً في مخاطبة النصارى، لكن استطرد هنا فقال: ((وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)) فهو من أحسن الاستطراد؛ لأنه ذُكر للرد على من زعم أن الملائكة آلهة، أو على من زعم أن الملائكة بنات الله، كما رد بما قبله على النصارى.
فالخطاب أساساً جاء لإبطال كلام النصارى؛ لكن في السياق أدخل أيضاً الرد على من ألحدوا أيضاً في شأن الملائكة: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)).
وقد احتج بهذه الآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء؛ لأن الآية سياقها بمعنى لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا من هم أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً وهم الملائكة الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل وإسرافيل وميكائيل ومن في طبقتهم.
((وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ)) أي: من يأنف منها ويمتنع.
((وَيَسْتَكْبِرْ)) يعني: يتعظم عنها ويترفع.
((فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)) يعني: سيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.(40/13)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم)
قال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173].
قوله: ((فأما الذين آمنوا)) فلم يستكبروا عن عبوديته.
((وعملوا الصالحات)) يعني: فلم يستنكفوا عن عبادته.
((فيوفيهم أجورهم)) يعني: ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيئاً.
((ويزيدهم)) يعني: على أجورهم شيئاً عظيماً.
((من فضله)) بتضعيفها أضعافاً مضاعفة مبالغة في إعزازهم.
((وأما الذين استنكفوا واستكبروا)) يعني: استكبروا عن عبادة الله عز وجل أو توحيده.
((فيعذبهم عذاباً أليماً)) هو عذاب النار.
((ولا يجدون لهم من دون الله ولياً)) أي: يواليهم ويعزهم.
((ولا نصيراً)) أي: ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.(40/14)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174].
لما بين تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم برهاناً؛ لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر.
قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم.
يعني: قوله: ((من ربكم)) أي: الذي رباكم وأنشأكم وخلقكم ورزقكم وتلطف بكم، ومن لطفه أن أرسل إليكم الرسل.
ثم قال أبو السعود: والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم.
أي: كما رباكم الله وأنشأكم وفطركم ورزقكم وغذاكم، وكذلك أرسل رسوله إليكم؛ ليكمل تربيتكم وتنشئتكم وهدايتكم.
((وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)) أي: ضياء واضحاً يهتدى به من ظلمات الضلال وهو القرآن.(40/15)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به)
قال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175] أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان.
((فسيدخلهم في رحمة منه)) أي: الجنة.
((وفضل)) يعني: يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة، فإنهم بعد أن يدخلهم الجنة يتفضل عليهم بأن ينظروا إلى وجهه الكريم وغير ذلك من مواهبه الجليلة.
((ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً)) يعني: فيخلفهم بتمسكهم بالبرهان والنور المبين الطريق الواضح الفصل وهو الإسلام.
وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين؛ للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى بدأ أولاً بذكر الجنة: ((فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)) ثم قال بعد ذلك: ((وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))، مع أن الهداية تكون أولاً ثم تكون بعد ذلك الغاية وهي الجنة، والمقصود بهذا الخلاف في الترتيب هو المسارعة إلى التبشير بالمقصد الأصلي وهو الفوز بالجنة.(40/16)
تفسير قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)
ختم تبارك وتعالى هذه السورة الكريم بهذه الآية الكريمة وهي قوله تبارك وتعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176].
قوله: ((يَسْتَفْتُونَكَ)) يعني: الناس يستفتونك في ميراث الكلالة، واستغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه وتعالى بعد: ((قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة.
والكلالة: هو الذي لا ولد له ولا والد.
والمستفتي هو: جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، فقد روى الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فتوضأ وصب عليّ -يعني: ماء وضوئه عليه الصلاة والسلام- أو قال: صبوا عليه فعقلت -يعني: أفقت- فقلت: لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية).
((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ)) يعني: مات، وهذا هو الوضع اللغوي أن كلمة (هلك) تساوي كلمة (مات).
يقول القاسمي: واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به.
يعني: طرأ بعد ذلك في اللغة أن كلمة (هلك) تختص بميتة السوء، فحين تقول: فلان هلك، فتقصد به ذمه، أي: أن ميتته كانت ميتة سوء؛ لكن هذا عرف طارئ مخالف للأصل اللغوي، وأصل اللغة أن الهلاك يساوي الموت؛ ولذلك قال تعالى في القرآن الكريم على لسان المؤمن: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34].
فقوله: ((حتى إذا هلك)) يعني: مات يوسف عليه السلام فهذا على أصل اللغة.
أما ما طرأ من اختصاص الهلاك بميتة السوء فهو عرف طارئ لا يعتد به، بدليل ما لا يحصى من الآي والحديث، كما في هذه الآية: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ))، ولطروء هذا العرف قال الشهاب في شرح الشفاء: إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
يعني: في غير القرآن الكريم وفي غير السنة يمنع لفظ الهلكة على الأنبياء بمعنى الموت؛ تحرجاً من هذا العرف الطارئ.
يقول: إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يعتد بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية، والله تعالى أعلم.
قوله: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)) يعني: لها نصف ما ترك الميت من المال.
قال ابن كثير: تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد.
يعني: يكفي الاستحقاق بوصف الكلالة أن ينتفي الولد دون الوالد؛ لأنه هنا في الآية قال: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ)) ولم يقل: وليس له والد؛ فدل على أن الكلالة لا يشترط فيها ألا يكون له والد.
والآية هنا لم تصرح بانتفاء الوالد بحيث لم تأت بلفظ: (وليس له ولد ولا والد) لكن كلمة ((وله أخت)) تدل على عدم وجود الوالد؛ لأن الوالد إذا وجد فإنه يحجب الأخت فلا ترث.
إذاً: الكلام الذي قلناه سابقاً غير صحيح.
يقول ابن كثير: تمسك به -يعني: بقوله: ((ليس له ولد وله أخت)) - من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه ابن جرير عنه بإسناد صحيح.
ولكن الذي يرجع إليه قول الجمهور، وهو الذي قضى به الصديق رضي الله تعالى عنه: (أنه الذي لا ولد له ولا والد)، ويدل على ذلك قوله: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)).
لأنه لو كان معها أبٌ لم ترث شيئاً؛ لأنه يحجبها بالإجماع، فدلّ على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضاً عند التأمل، فإن كلمة: ((وله أخت)) معناها: أن أباه ليس موجوداً؛ لأن الوالد إذا كان موجوداً فإنه يحجب الأخت، فكون الأخت سترث فهذا يقوم مقام وليس له والد.
والأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية.
وروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت: (أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك).
ونقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت: (إذا ترك بنتاً وأختاً أنه لا شيء للأخت، لقوله: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)) لأنه إذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً) لأن كلمة الولد تعم الذكر والأنثى، فلا شيء للأخت، وخالفهم الجمهور فقالوا في هذه المسألة: للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان عن إبراهيم عن الأسود، قال: (قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للبنت والنصف للأخت).
قوله: ((وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ)) يعني: الأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة ليس لها ولد، ونضيف هنا أيضاً: ولا والد هذا في التفسير؛ لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، يعني: الفرائض هي الأنصبة المنصوص عليها في القرآن التي فرضها الله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، فبعدما توزع الفرائض يكون الإرث بالتعصيب، يعني: الأقارب من العصبة من الذكور: (فلأولى رجل ذكر).
قوله: ((فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)) يعني: فإن كان لمن يموت كلالة أختان ليست أختاً واحدة فرض لهما الثلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين، كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله تعالى: ((فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)).
ثم قال عز وجل: ((وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً)) يعني: إن كان الذين يرثون هم إخوة رجالاً ونساءً.
((فَلِلذَّكَرِ)) منهم.
((مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) أي: مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث.
((يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)) يعني: يبين الله لكم هذه الأحكام كراهة أن تضلوا في ذلك كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82] والمقصود ((واسأل أهل القرية))، أو على تقدير (اللام) (لئلا تضلوا).
القول الثالث: ليس هناك حذف ولا تقدير، وهذا قول الحسن، وإنما الكلام على ظاهره، يعني: الله سبحانه وتعالى يعلمكم الشر كي تتقوه، ويبين لكم الضلال كي تجتنبوه وتحذروه.
فقوله: ((يبين الله لكم أن تضلوا)) يعني: يبين الله لكم ضلالكم الذي هو شأنكم إذا تركتم لطباعكم وأهوائكم وميولكم سوف تضلون ضلالاً بعيداً، فالله سبحانه وتعالى بين لكم هذا الضلال لتحترزوا منه وتتحروا خلافه.
ورجحه بعضهم؛ لأن من حسن ختام السورة، أن يختمها عز وجل بقوله: ((يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)) والالتفات إلى أول السورة؛ لأن السياق كان في سياق الغيبة؛ لأن الآية ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ)) إلى قوله: ((وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) ثم التفت وقال: ((يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ)) فالالتفات هنا كأنه رد على صدر السورة، وهو قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا))، إلى آخر الآية الكريمة، فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال لهم: إن(40/17)
تفسير سورة المائدة [30 - 37](41/1)
تفسير قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض)
قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:30 - 31].
قوله تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه) أي: رخصت وهونت له نفسه.
وجاء التصريح هنا بالأخوة في قوله: (قتل أخيه) فلم يقل سبحانه وتعالى: فطوعت له نفسه قتله.
وإنما صرح بالأخوة لكمال تقبيح ما سولت له به نفسه من قتل أخيه، أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه، فبدل أن يحمي أخاه إذا به هو نفسه يقتله.
وقوله تعالى: (فقتله فأصبح من الخاسرين) أي: ديناً؛ إذ صار كافراً حاملاً الدماء إلى يوم القيامة، وأصبح من الخاسرين دنيا؛ إذ صار مطروداً مبغضاً في الخلائق.
وقد أخرج الجماعة غير أبي داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل).
فـ قابيل هو أول من سن القتل في ذرية آدم عليه السلام، فلذلك كل من اقتدى به من بعده وقتل مظلوماً أو قتل بغير حق فإنه يشاركه في الوزر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
فكذلك لما كان هو أول من سن سنة القتل وإراقة دم المسلم بغير حق كان في كل نفس تقتل من بني آدم إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى نصيب من وزر القتل عائداً إلى قابيل؛ لأنه هو أول من سن هذه السنة.
ولما قتل قابيل أخاه لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته، وهذه كانت أول حادثة تقع في تاريخ البشرية يحصل فيها هذا القتل وهذه الجريمة، فلم يدر ماذا يصنع بعدما قتل أخاه ورآه مضرجاً بدمه وجثة ملقاة أمامه، فاحتار، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة:31].
قوله: (فبعث الله) أي: أرسل الله (غراباً)، فجاء يبحث في الأرض، ومعنى (يبحث): يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً في الأرض، وهذا من شأن الغراب؛ لأن الغراب دائماً يحفر في الأرض.
قال القتيبي: هذا من الاختصاص، ومعناه: بعث غراباً يبحث التراب على غراب ميت.
يعني: هذا هو الاحتمال، وهو أن هذا الغراب كان له غراب آخر ميتاً فكان يحفر له في الأرض كي يدفنه، فهو رأى هذا المشهد.
وكذا رواه السدي عن بعض الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له ثم حثا عليه حثياً.
وقوله: (ليريه) الضمير المستتر إما عائد على الله تعالى أو على الغراب، أي: إما أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى بعث الغراب ليري قابيل كيف يصنع بأخيه، أو ليري الغراب قابيل ما يصنع بالمقتول.
وقوله: (كيف يواري) أي: يستر في التراب (سوأة أخيه) أي: جسده الميت، وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره، فالإنسان يسوءه أن يرى أخاه ميتاً.
قال تعالى: (قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) قوله: (يا ويلتا) كلمة جزع وهلع، والألف فيها بدل ياء المتكلم؛ إذ الأصل فيها (يا ويلتي) فأبدلت الياء -ياء المتكلم- ألفاً.
والويل والويلة: الهلكة.
(أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) أي: أضعفت عن الحيلة في أن أكون مثل هذا الغراب الذي هو من أضعف الحيوانات؟! والاستفهام هنا للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، فهو يستفهم متعجباً كيف أنه هو الإنسان ويعجز عن أن يكون مثل الطائر الضعيف الذي استطاع أن يتصرف في جثمان أخيه بهذه الصورة، في حين هو لم يهتد إلى ذلك وبقي متحيراً إلى أن جاء الغراب! وقوله: (فأواري سوأة أخي) أي: أغطي.
وقوله: (فأصبح من النادمين) أصبح هنا بمعنى: (صار من النادمين) أي: على حيرته في مواراته، حيث لم يدفنه حين قتله، فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى في التنوير، ولم يكن نادماً على قتله، ففي هذه اللحظة هو لم يكن نادماً على قتل أخيه، وإنما أصبح من النادمين لعدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب.
وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه؛ لأن الندم توبة، فالظاهر أن الله سبحانه وتعالى لم يعف عنه؛ لأنه لم يتب مما فعل بأخيه، فيلزم أن يفسر قوله تعالى: (فأصبح من النادمين) يعني: على حيرته حيث لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الأعجم، فكان أخس وأقل من الغراب الأعجم، ولو كان نادماً على قتل أخيه لكانت الندامة توبة، لكنه لم يتب.
وظاهر الآيات أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب، ولا مانع من ذلك؛ إذ مثله مما يجوز خفاؤه على الإنسان، لاسيما والعالم في أول طور النشأة، وكان هابيل أول قتيل من بني آدم، فيكون أول ميت، فيحتمل أنه لم يكن يعرف ما ويصنع بالميت إذا مات أو بالقتيل إذا قتل.
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه، فواراه تحت الأرض، والله تعالى أعلم.(41/2)
الندم إذا لم يكن لقبح المعصية فليس بتوبة
في الآية دلالة على أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة، فهو هنا لم يندم على قبح المعصية، أو لم يندم خوفاً من الله تبارك وتعالى، ولذلك لم ينفعه هذا الندم، يقول الرازي: ندم على قساوة قلبه كونه دون الغراب في الرحمة فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.(41/3)
أصل مشروعية دفن الميت
هذه الآية أصل في مشروعية دفن الميت حتى ولو كان كافراً، فالميت ولو كان كافراً يدفن ويوارى في التراب، والدليل على ذلك -أيضاً- ما ثبت في قصة غزوة بدر، حيث ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين في قليب بدر، لما مات أبو طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه علي رضي الله عنه: (اذهب فوار أباك) فالكافر لو مات يدفن، لكن لا يغسل، ولا يصلى عليه إلى آخر ما هو معلوم، فالآية دليل أصيل في مشروعية دفن الميت.
قال ابن جرير: زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري! ما كنت عليه رقيباً.
فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض الذي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض.
وعلى أي الأحوال فهذا مما لا نستطيع قبوله بإطلاق، فهو من الإسرائيليات.
وكذلك روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام: أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح وقد نقد وفند غير واحد من العلماء نسبة هذه الأبيات إلى آدم، فمما لا يكاد يصدق أن يكون آدم أنشد هذين البيتين ويكون هذا الشعر قد حفظ ونقل بسند صحيح إلى آدم عليه السلام، فهذا مما فنده غير واحد من العلماء.
يقول الزمخشري: روي أن آدم رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.(41/4)
حكمة تخصيص الغراب بأنه دابة المواراة
أما حكمة تخصيص الغراب بكونه دابة المواراة فقد قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء.
فهذه عادة عند الغراب أنه يدفن الأشياء في الأرض، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه، وهذا غير الكلام الذي سبق من قبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى بعث غرابين اقتتلا فقتل واحد منهما صاحبه فواراه في التراب.
فهناك قول آخر أنه ما كان الغراب يدفن غراباً آخر، وإنما عادته أنه دائماً يدفن الأشياء في الأرض، فرآه يبحث في الأرض ويحفر فيها بمنقاره ورجله عميقاً كي يدفن فيها شيئاً ما لا يشترط فيه أن يكون غراباً.
والغراب هو الطائر الأسود المعروف، وقسموه إلى أنواع، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لما فيه من الفسق، ولأنه من أخبث الطيور، والعرب تقول: (أفسق من غراب) أي: أشد في الخبث والفسق من الغراب.
وتقول أيضاً: (أحذر من غراب) باعتباره يتصف بالحذر و (أدهى من غراب) و (أصفى عيشاً من غراب) و (أشد سواداً من غراب)، و (هذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب) لأن الغربان تتشابه بشكل عجيب، والناس الذين يعيشون في الصحراء يدركون ذلك، وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا: (وقع في أرض لا يطير غرابها).
ويقولون: (وجد تمرة الغراب) يعني: الشيء الذي ليس أحسن منه؛ لأن الغراب ينتقي أطايب التمر وأجود أنواعه ويتتبعه.
ويقولون: (أسأم من غراب)، ويقولون: (أفسق من غراب)، ويقولون: (طار غراب فلان)، إذا شاب رأسه؛ لأن الغراب أسود، وإذا أراد شخص أن يعلق شيئاً على فعل لا يقع يقول مثلاً: أزورك حين يشيب الغراب.
أي: حين يتحول لون الغراب إلى اللون الأبيض، وهذا لا يقع، أو: لا آتيك حتى يبيض الغراب.
فيقولون: (طار غراب فلان) أي: رحل السواد وحل محله الشيب و (غراب غارب) على سبيل المبالغة، كما قالوا: (شعر مشاعر) و (موت مائت) وقال رؤبة: فازجر من الطير الغراب الغارب.
قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه، وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه، ذكره صاحب المضاف والمنسوب، من مثل قوله: (ما أعرف لفلان مثلاً إلا الغراب، ولا يقع إلا مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فمقسم الضمير، وإن وقع فمروع بالنذير، وإن حجل فمشية الأمير، وإن شحج فصوت الحمير، وإن أكل فدبرة البعير.
يعني: قرحته.
والأبيات في غراب البين كثيرة ملئت بها الدفاتر، فغراب البين يشيع كثيراً استعماله في الأدب العربي، حيث يتشاءمون من الغراب بأنه رمز البعد والسفر عن الأحباب والأصحاب وغير ذلك.
إلا أن هذا الأمر الشائع من أن (غراب البين) المقصود به الغراب الطائر في حقيقته كلام غير صحيح، وإنما (غراب البين) هو الإبل، فقد حقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي قاضي غرناطة في شرحه على مقصورة حازم أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل؛ لأن الإبل هي رمز السفر عند العرب؛ لأنها تنقل الأحباب من بلد إلى بلد، فلذلك اعتبر الغراب رمزاً للفراق والبين، وإذا قالوا: (غراب البين) فالمقصود به الإبل التي تغترب بالناس وتنقلهم من بلاد إلى بلاد.
وأنشد في ذلك مقاطيع منها: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للأباعر إنها ممن يشتت جمعهم ويفرق إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق فهنا هو يرد على هؤلاء الذين يعتبرون أن غراب البين هو الطائر، فيقول: هذا جهل وهذا خطأ.
فقوله: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق يعني: ينحون باللائمة، ويذمون هذا الغراب الطائر الذي ينعق، ويتشاءمون منه باعتباره غراب البين، ويقول: (ما الذنب إلا للأباعر) أي: الذنب في البين والفراق هو للجمال وليس لهذه الطيور (إنها مما يشتت جمعهم ويفرق)، أي: الإبل هي التي تشتت جمعهم وتفرقهم بالأسفار.
وقوله: (إن الغراب بيمنه تدنو النوى) يعني: هو ليس مشئوماً، ولكنه له يمن.
فبيمنه تدنو النوى، أي: يقترب البعاد (وتشتت الشمل الجميع الأينق) النوق أو الجمال أو الإبل هي التي تشتت المجتمع وتفرق الناس وتسافر بهم.
وأنشد ابن المسناوي لـ ابن عبد ربه: زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر إن لم يصدقه رغاء بعير فقوله: (زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر) لأن الناس يتشاءمون من صوت الغراب، فيقول: قلت أكذب طائر) فلم يقل: إنه علامة على مفارقة الأحباب؛ لأن صوت الغراب إذا لم يقترن به رغاء البعير الذي يحمل الأحباب ويسافر بهم فإنه يكون كذباً ولا شؤم فيه.
فهذا كله مما يؤيد أن غراب البين المقصود به الإبل وليس الطائر.(41/5)
تفسير القاسمي رحمه الله تعالى للآية
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (فطوعت) أي: زينت.
(فأصبح) يعني: فصار.
فـ (أصبح) هنا معناها: (صار).
يقول: فصار من الخاسرين، أي: بقتله، ولم يدر ما يصنع به؛ لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره.
(فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) يعني: ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويلقيه على غراب ميت معه حتى واراه.
(ليريه كيف يواري) كيف يستر (سوأة) أي: جيفة (أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون) يعني: أعجزت عن أن أكون (مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) فأصبح من النادمين على حمله لا على قتله، وحفر له وواراه.
وهذه الآية أصل في دفن الميت.(41/6)
تفسير قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل)
ثم يقول تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:32].
قوله تعالى: (من أجل ذلك) أي: من أجل ذلك الذي فعله قابيل (كتبنا على بني إسرائيل أنه) الهاء هنا تدل على الشأن (أنه) أي: الشأن.
(من قتل نفساً بغير نفس) يعني: بغير نفس قتلها.
(أو فساد) أو بغير فساد (في الأرض) أي: فساد أتاه في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق ونحوه.
وهنا إشارة إلى ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذه هي الدماء التي أباحها الإسلام.
فقوله: (الثيب الزاني) لأنه يرجم، (والنفس بالنفس) من قتل يقتل (والتارك لدينه المفارق للجماعة) المرتد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه).
ومن الدماء التي أباحها الإسلام دماء أهل الحرابة، وسيأتي ذكرهم -إن شاء الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33]، إلى آخر الآية الكريمة، وكذلك البغاة الذين يخرجون على الإمام الحق.
يقول تعالى: ((أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا)) أي: بأن امتنع عن قتلها ((فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)).
قال ابن عباس: من حيث انتهاك حرمتها وصونها.
قوله تعالى: ((وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ)) أي: بني إسرائيل ((رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالمعجزات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)، أي: مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك.
وقوله: ((كَتَبْنَا)) أي: فرضنا وأوجبنا على بني إسرائيل، وخصوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك، وسيأتي -بإذن الله- فيما بعد أنه خص بالذكر بني إسرائيل لأنهم أقسى الأمم قلوباً في هذا الباب، فإنهم مشهورون بأنهم قتلة الأنبياء، فسفكوا دماء الأنبياء وهي أشرف الدماء وأعظم الدماء، وأكثرها حرمة وعصمة، فهنا إشارة إلى بني إسرائيل لفظاعة ما ارتكبوه من استحلالهم قتل الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله: ((أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ)) يعني: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص.
وقوله: ((أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ)) أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها؛ لأن الذي يبيح القتل هو إما إن يقتل الإنسان نفساً بغير حق، وإما أن يعيث في الأرض فساداً بصور كثيرة بينها بعد ذلك، كالكفر، والحرابة، أي: المحاربون من قطاع الطريق، وكذلك زنا المحصن مما يبيح دمه.
وقوله: ((فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)) أي: من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم.
وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] معناه كما ذكر السيوطي: من امتنع من قتلها.
ويقول القاسمي هنا: (ومن أحياها) يعني: من تسبب لبقاء حياتها لعطف أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة.
وهذا التفسير أعم وأشمل بلا شك.
فيدخل في الإحياء هذه الأحوال كلها، أولاً: العطف، كأن يكون ولي الدم مكن من قتل هذا الشخص، ثم عند ذلك عفا عن القاتل وسامح، فهنا يكون قد أحياها، لا لأنه هو الذي يخلد الروح، فهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى، لكن المقصود هو أنه عفا عنه ولم يستوف حقه بقتله.
ومن ذلك المنع عن القتل، كشخص يريد أن يقتل آخر فحميته ودفعت عنه حتى أنجيته من هذا القاتل، فهذا -أيضاً- نوع من الإحياء، فهو داخل في الآية، وكذلك الاستنقاذ من بعض أسباب الهلكة، كشخص أوشك على الغرق فأنقذته، وشخص أوشك على الموت بأي سبب فعالجته، فهذا -أيضاً- داخل في قوله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
أي: فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب، ترهيباً عن التعرض لها، وترغيباً في حمايتها.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل نفساً وجب على المؤمنين معاداته، وأن يكونوا خصومه كما لو قتلهم جميعاً؛ لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم، ومن أحياها وجب على المؤمنين موالاته كما لو أحياهم.
ولذلك كان جد الفرزدق واسمه صعصعة بن ناجية ينقذ المؤودة، فكان الفرزدق حينما يفاخر جريراً يقول: أنا ابن محي الموتى.
فيقول له جرير: كيف هذا وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى؟! فكان يقول له: إن جدي صعصعة بن ناجية كان يبحث عن أي بنت في الجاهلية يريد أبوها أن يئدها، وكانت أي امرأة تتمكن من الهرب تفر إليه، فكان يدفع لأبيها دية وينجيها من القتل، فهذا مما كان من أخلاقه التي كان يتحلى بها في الجاهلية.
وقيل للحسن البصري: هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والله، إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم، وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.
فالقاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق.
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (دخلت على عثمان يوم الدار -يوم الحصار حين حاصره الفجار في داره- فقلت -أي: قال أبو هريرة لأمير المؤمنين رضي الله عنهم-: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين.
فقال: يا أبا هريرة! أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت: لا.
قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراًً غير مأزور.
قال: فانصرفت ولم أقاتل).
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم ما قصروا على الإطلاق في الدفاع عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه، وإنما عثمان هو الذي أمرهم بالانصراف وعدم التعرض لهؤلاء الثوار؛ خشية أن يراق دم بسببه هو، خاصة أنه كان على وعد من الرسول حينما أخبره بأنه شهيد لما قال: (اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدين).
وكذلك كان صائماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا عندما رآه في المنام: (ستفطر معنا الليلة) فلذلك عثمان رضي الله عنه أصر على أن لا تراق دماء بسببه، وقتل مظلوماً رضي الله تعالى عنه.
فالشاهد هنا أنه أنكر على أبي هريرة قوله: (قد طاب الضرب يا أمير المؤمنين)، فاستنكر عليه فكيف القتل يكون طيباً؟ ولذلك قال له: (إنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور.
قال: فانصرفت ولم أقاتل) , وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: (جاء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها، قال: عليك بنفسك)، وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
قوله تعالى: ((وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) يقصد بني إسرائيل، كما في أول الآية قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة:32].
وقوله تعالى: ((رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاته، وتأييداً لتحتم المحافظة عليه ((ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ)) أي: من بني إسرائيل ((بَعْدَ ذَلِكَ)) أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم ((لَمُسْرِفُونَ)) بالفساد والقتل، لا يبالون بعظمة ذلك، يعني: رغم كل هذا ورغم أن الله تعالى قال: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وقال تعالى:: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة:32] ومع ذلك كان حالهم كما قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:32].
قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها كان كل فريق منهم يتحالف مع قبيلة، فإذا حصل قتال يقاتلون مع حلفائهم، ثم بعدما ينتهون من القتال يعمدون إلى الأسرى فيفدون الأسرى، ويدون أو يدفعون دية من قتلوه من إخوانهم اليهود.
وقد أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم ذلك في سورة البقرة في قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ(41/7)
تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
ولما ذكر تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل، فقال عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]، فهنا الآية تشرح صورة من صور هذا الفساد في الأرض، وهو الحرابة أو قطع الطريق.
يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: نزلت في العرنيين لما قدموا المدينة وهم مرضى، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الإبل، ويشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم فتركوا في الحرة حتى ماتوا على حالهم، وهذا رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وإنما فعل بهم ذلك لأنهم فعلوا بالرعاة من المسلمين نفس هذا الفعل.
قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) يعني: بمحاربة المسلمين (ويسعون في الأرض فساداً) يعني: بقطع الطريق (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي: تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى.
(أو ينفوا من الأرض) يقول السيوطي هنا: لترتيب الأحوال، يعني: أن قوله تعالى: (أن يقتلوا) لمن قتل، وقوله: (أو يصلبوا) لمن قتل وأخذ المال، وقوله: (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) القطع لمن أخذ المال ولم يقتل، وقوله تعالى: (أو لينفوا من الأرض) والنفي من الأرض لمن أخاف الناس وأرهبهم، قاله ابن عباس وعليه الشافعي، وأصح قوليه أن الصلب ثلاثاً يكون بعد القتل، أي: بعدما يقتلون يعلقون في مكان عال؛ ليراهم الناس لمدة ثلاث، وقيل قبله قليلاً، ويلحق بالنفي ما أشبهه في التنكيل من الحبس وغيره.
وقوله: (ذلك) أي: الجزاء المذكور (لهم خزي) أي: ذل (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.
وقوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)) يعني: من المحاربين والقطاع ((مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهم ما أتوه (رحيم) أي: بهم، عبر بذلك دون (فلا تَحدُّوهم) ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين، كذا ظهر لي، ولم أر من تعرض له، والله تعالى أعلم.
فإذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع، والقطع أولاً ثم يكون بعده القتل، ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي، ولكن المعتمد في مذهبه أنه يقتل ويصلب ثلاثة أيام من غير قطع، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئاً، وهو أصح قوليه أيضاً.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (إنما جزاء) يعني: مكافأة (الذين يحاربون الله ورسوله) أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما.
(ويسعون في الأرض فساداً) أي: يعملون في الأرض المعاصي، وهو القتل وأخذ المال ظلماً.
(أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى.
(أو ينفوا من الأرض) أي: يطردوا منها وينحوا عنها، وهو التغريب عن المدن، فلا يقرون فيها.
(ذلك) أي: الجزاء المذكور.
(لهم خزي) أي: ذل وفضيحة في الدنيا.
(ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.
(إلا الذين تابوا) يعني: من المحاربين (من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) وفي هذه الآية مسائل، منها: ما رواه ابن جرير وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في المشركين.
وقد روى ابن جرير عن أبي أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وظاهرها أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفة، أي إنسان -سواءً كان مشركاً أم كتابياً أم مسلماً- فعل ما ذكر في الآية فهو يستحق نفس هذا الحكم.
روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها -أي: كأن جو المدينة ما ناسبهم في صحة أجسامهم- فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، ففعلوا وصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة).
قال أنس: (فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا) ونزلت: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
واحتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، فذهبوا إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء، وذلك أن بعض العلماء يرى أنه لا يكون محارباً وقاطع طريق إلا في البراري أو الصحراء وغير ذلك؛ لأن هذا النوع من الغدر الذي يكون في موضع بحيث لا يصل فيه الغوث لمن يستغيث، أو النجدة لمن يستنجد، فلذلك عظمت عقوبتهم، بخلاف الإنسان إذا كان في المدينة، فإنه يستطيع أن يستغيث ويستنجد بغيره، لكن جمهور العلماء يخالف هذا، فيقولون: إن المحاربة -سواء أكانت في الصحراء- مثلاً أم في الطرق أم في داخل المدن- حكمها سواء، لا فرق بين المدن أو الحضر وبين السبل.
يقول القاسمي: احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء؛ لقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33].
أي أن السبل والطرق هي من الأرض، والمدن والأمصار هي من الأرض، فحيث سعى بالفساد فقد سعى به في الأرض، سواء في السبلات أو في الأمصار.
وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس.
وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أولى أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم.
يعني أن كون الإنسان يقدم على قطع الطريق أو على الإفساد في الأرض بهذه الصورة في داخل المدن يدل على شدة التبجح والجرأة ومن ثم فهم يحتاجون إلى عقوبة غليظة؛ لأنهم في داخل المدن ومع ذلك يجاهرون بمثل هذا الفعل.
يقول: بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله.
يعني: هؤلاء إذا دخلوا على رجل في بيته واستولوا على المال هل يتركون شيئاً؟ يأخذون كل ما في البيت من الأشياء الثمينة من ذهب وأموال وغير ذلك مما هو معروف عن حالة قطاع الطرق أو اللصوص.
وأما المسافر فإنه يكون معه قليل من ماله، فهذه أحد وجوه الأولية بالنسبة لهذا الحكم في المدن عنها في الصحراء.
قال شيخ الإسلام: ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب.
فـ شيخ الإسلام يصوب المذهب القائل بتعميم حكم الحرابة في الصحراء وفي البنيان، حتى قال مالك في الذي يخدع الرجل حتى يدخل بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه قال: هذه محاربة، ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، بمعنى أنه مادام رفع إلى السلطان فلا رجوع في إقامة حد الحرابة عليه.
أما إذا كان دمه إلى ولي المقتول فهو يملك العفو عنه، لكن هذا الذي يفعل هذا الفعل محارب ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل، وإنما كان ذلك محاربة لأن القتل بالحيلة كالقتل مباشرة، فكلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدرى به.
وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وهذا المقتول يكون أمره إلى ولي أمر الدم.
والأول أشبه بأصول الشريعة.
وظاهر الآية أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع، فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: (من شهر السلاح في رقعة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به فقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله) وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك، كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.
قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر، وللتخيير نظائر من القرآن.
يعني أن الإمام بالخيار، وليس له أن يجمع كل هذه العقوبات، ونظيره قوله تعالى في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَ(41/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)
وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35].
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا) أي: اطلبوا إليه الوسيلة، وهي القربة.
وقال قتادة: أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
وقرأ أبو زيد: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57].
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.
وفي القاموس وشرحه: الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة والوصلة.
وقال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملاً فقرب به إليه، كـ (توسل).
وقد قدم (إليه) على (الوسيلة) فلم يقل: وابتغوا الوسيلة إليه، لكن قال: (وابتغوا إليه الوسيلة) للاهتمام بها.
وقوله تعالى: (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) يعني: بسبب المجاهدة في سبيله.
وقد بينت كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس، وما ذكرنا في تفسير الوسيلة هو المعول عليه، وقد أوضحه إيضاحاً لا مزيد عليه تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة في كتابه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) فرأينا نقل شيء منه؛ إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه، وسوف نمر بسرعة على بعض المسائل لأهميتها.(41/9)
مفهوم التوسل والوسيلة ومعناها في كتاب ابن تيمية
يقول شيخ الإسلام بعد مقدمات: إن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه.
فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه.
فإن الاضطرابات التي تحدث للناس في هذا الباب هي بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أن أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.
فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57].
فالوسيلة التي أمر الله بأن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات.
يعني أن الوسيلة هي القربة، والقربات على نوعين: إما واجبات وإما مستحبات.
فالوسيلة هي ما يتقرب به إلى الله من الواجبات أو المستحبات.
فهذه هي الوسيلة التي أمر الله تعالى المؤمنين بابتغائها، تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، فلا يدخل في الوسيلة ما كان مكروهاً أو محرماً أو مباحاً.
فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب واستحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هي التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك، ولا يقربك إلى الله إلا هذه الوسيلة، فقوله تعالى: (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) يعني: تقربوا إلى الله بما شرعه، وما شرعه الله وأمر به لا يكون إلا واجباً أو مستحباً، فلا يمكن التقرب إلى الله بالحرام ولا بالمكروه، والمباح إذا بقي في حد الإباحة لا يعتبر قربى.
وما هو أعظم وسيلة على الإطلاق يتقرب به إلى الله؟ إنه الإيمان والتوحيد، فهو أعظم وسيلة، فقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) يعني: بالإيمان، وما بعد الإيمان تكاليفه كالصلاة والزكاة وغير ذلك.
وقد جاء لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة).
وقوله: (من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة! آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة).
فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد واحد من عباد الله، وهو -صلى الله عليه وسلم- يرجو أن يكون ذلك العبد، وأخبرنا أن من سأل الله له الوسيلة فقد حلت له الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن دعا للنبي صلى الله عليه وسلم استحق أن يدعو هو له، وأن يشفع له؛ فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: (إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً).
صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) يعني: تقربوا إليه بالواجبات أو المستحبات، ولا يوجد معنى آخر للوسيلة في القرآن غير هذا.
وكذلك الوسيلة في السنة جاءت على اعتبار أن الوسيلة منزلة في الجنة، ودرجة عالية لا ينالها إلا عبد، وهو الرسول صلى الله عليه سولم إن شاء الله، وأمرنا أن ندعو له بذلك.
يقول شيخ الإسلام: وأما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته.(41/10)
أنواع التوسل المشروعة والممنوعة
التوسل بالرسول عليه السلام عند الصحابة وفي كلامهم المقصود به: التوسل بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معروف في حديث الأعمى الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو له كي يعافيه الله تبارك وتعالى، فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبشفاعته، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، فهذا المعنى بقى عند المتأخرين، ولم يكن معروفاً أو متداولاً أو مستعملاً في القرآن ولا في السنة، ولا في كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم والسلف الصالح، وهو أن يكون التوسل أن تقسم على الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو تقسم بالصالحين ومن يعتقد فيه الصلاح، لهذا يقول شيخ الإسلام: وحينئذ فلفظ التوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة.
فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان بالله عز وجل وبطاعته، فقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) أي: بالإيمان والعمل الصالح.
الثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم.
فهذان جائزان بإجماع المسلمين، التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64]، فالتوسل هنا بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا بذاته، ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) يعني بقوله: (نتوسل بنبينا) أي: بدعائه، فلما قبض الرسول عليه الصلاة والسلام كان الحال أن قال: (فإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) فهذه شفاعة وهذا توسل عن طريق دعاء العبد الصالح وشفاعته.
وقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) أي: القربة إليه بطاعته وطاعة رسوله، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته فكما قال عمر، فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل بذاته جائزاً لكان هذا أولى من التوسل بـ العباس، لو كان التوسل بذات الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لتوسل به الصحابة بعد موته، لكن لما كان التوسل بالدعاء توسلوا بدعاء العباس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما عدلوا عن التوسل به عليه الصلاة والسلام إلى التوسل بـ العباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
الثاني: التوسل بدعائه وشفاعته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة أيضاً حينما يتوسلون بشفاعته.
الثالث: التوسل به، بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، ولا في حياته ولا بعد مماته، ولا عند قبره ولا قبر غيره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال فيه أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله: إنه لا يجوز.
ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل الله بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك.
قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي: يدخل في باب الكراهة، وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة.
قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك -يقصد أن يتوسل بمعاقد العز من عشره تعالى- أو: بحق خلقك.
وهو قول أبى يوسف رحمهم الله تعالى.
فالمسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً.
وموضوع التوسل من الموضوعات الكبيرة التي تحتاج لكثير من التفصيل.(41/11)
الحلف بالمخلوقات المحترمة
وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش، والكرسي، والكعبة والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والملائكة والصالحين والملوك، وسيوف المجاهدين وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك؛ لأن أصل اليمين لا ينعقد؛ لأنه لا يحلف إلا بالله، والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.(41/12)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه)
ثم يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36].
(إن الذين كفروا لو أن لهم) يعني: لو ثبت أن لهم (ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم).
قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض) يعني: من الأموال وغيرها.
(جميعاً ومثله معه ليفتدوا به) يعني: يفادوا به أنفسهم من عذاب يوم القيامة (ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) فهذا تمثل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه من الوجوه.
وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟! فيقول: نعم.
فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي.
فيؤمر به إلى النار).
ورواه مسلم بنحوه.(41/13)
تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار)
يقول تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37].
قوله تعالى: (يريدون) أي: يتمنون (أن يخرجوا من النار) يعني: يتمنون أن يخرجوا من النار، ويطلبون ذلك قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)) يعني: عذاب دائم لا ينقطع.
وهذا كما قال عز وجل: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة) قال يزيد بن صهيب: فقلت لـ جابر بن عبد الله: يقول الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37]! قال: اتل أول الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} [المائدة:36].
يعني أن الآية هي في الكفار، فهؤلاء يخلدون فيها، أما من مات على التوحيد فإنه وإن دخلها فإنه يخرج منها.
وزاد ابن أبي حاتم أن جابراً لما قال له ذلك الرجل هذا قال: (أما تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قد جمعته.
قال: أليس الله يقول: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبط أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم) يعني: بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه المحمود.
ولما أوجب تعالى في الآية المتقدمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً، فقال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(41/14)
تفسير سورة المائدة [38 - 50](42/1)
تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)
يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
لما أوجب الله سبحانه وتعالى في الآيات المتقدمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة ناسب أن يذكر بعدها في هذه الآية حكم أخذ المال على سبيل السرقة، وأنه يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً.
فقال عز وجل: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)) السارق والسارقة (أل) فيهما موصولة مبتدأة، وصلتها هي الصفة الصريحة، أي: (سارق وسارقة) ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره فقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فالفاء دخلت في الخبر لشبه هذا الأسلوب بأسلوب الشرط، أي: من سرق فاقطعوا يده.
أو من سرقت فاقطعوا يدها.
ومعنى (أيديهما) أي: يمين كل منهما من الكوع، والكوع هو العظم الذي يلي الإبهام.
وبينت السنة أن الذي يقطع فيه ربع دينار فصاعداً، وهذا هو النصاب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وإذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، وبعد ذلك يعزر بما يراه الإمام من العقوبة، روى ذلك البيهقي في سننه وأبو يعلى.
وقوله تعالى: (جزاء بما كسبا) جزاء نصب على المصدر (نكالاً) يعني: عقوبة لهما.
(والله عزيز) أي: غالب على أمره (حكيم) أي: في خلقه.(42/2)
تفسير قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح)
قال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:39].
قوله تعالى: ((فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ)) يعني: من رجع عن السرقة ((وَأَصْلَحَ)) يعني: أصلح عمله ((فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) عبر بهذا لما تقدم من سقوط حق الله تبارك وتعالى، فلا يسقط بتوبته حق الآدمي من القطع ورد المال، نعم بينت السنة أنه إن عفا عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، فما دامت القضية لم تبلغ الإمام فإنه لا يقع الحد، أما إذا بلغت الإمام فلا سبيل أبداً إلى إيقاف تطبيق الحد عليه، وعليه الإمام الشافعي.(42/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)
قال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40].
قوله تعالى: (ألم تعلم) الاستفهام هنا للتقرير ((أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)) يعني: من يشاء تعذيبه ((وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ)) يعني: لمن يشاء المغفرة له ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ومنه التعذيب والمغفرة.(42/4)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)(42/5)
قول القاسمي رحمه الله تعالى
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (والسارق) أي: من الرجال (والسارقة) أي: من النساء (فاقطعوا أيديهما) يعني: يمين كل منهما، والمقطع الرسغ -كما بينته السنة- عند الكوع.
(جزاء بما كسبا) أي: يقطع الآلة الكاسبة؛ لأنها هي التي سرقت فهذه اليد الخائنة هي التي سرقت، فلذلك يجزى بأن يُقطع أو يبتر هذا العضو الخبيث.
(نكالاً من الله) أي: عقوبة من الله على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى، لا في مقابلة إتلاف المال، فإنه غير السرقة، فلذلك لا يسقط بعفو المالك، بخلاف العفو عن المال.
(والله عزيز) أي: مع عزته الموجبة لامتثال أمره لا يبالي بعزة من دونه.
(حكيم) أي: في شرائعه.
فيختل أمر النظام العالمي بمخالفة أمره؛ إذ فيه نفع عام للخلائق.(42/6)
قول أبي السعود رحمه الله
يقول أبو السعود: لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال -يعني: يمكن أن تقع المرأة في السرقة كما يقع الرجل- صرح بالسارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة؛ لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.
لأن الحكم حتى لو كان بذكر السارق دون السارقة لشمل النساء، لكنه هنا فصل وبين وذكر النساء بعدما ذكر الرجال لمزيد الاعتناء؛ وللمبالغة في الزجر عن السرقة في حق الطرفين، ولما كانت السرقة في الرجال غالبة لقوتهم بدأ بالسارق، حيث قال تعالى: (والسارق والسارقة)؛ لأن الرجل أقوى، فلذلك يستطيع أن يستغل قوته في السرقة، ثم إن الرجل هو الذي يلي النفقة وتكاليف الحياة والعيش، فهو المسئول عن الإنفاق والمال، فلذلك الغالب أن الرجل هو الذي يسرق، أما في آية سورة النور فقال عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا التقديم السبب فيه هو أن هذا الأمر في النساء أقوى، وهذا غير صحيح في الحقيقة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أحل للرجل أربع نسوة، فالأمر بالعكس، لكن لما كانت الفتنة دائماً أو غالباً في هذا الباب إنما تقع من جهة المرأة قبل الرجل، ولأنها تفرط في الاحتشام وغير ذلك فتقع بسببه الفواحش قدم تبارك وتعالى المرأة في قوله: (والزانية والزاني).
وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء انتقد فيه نصاب السرقة بكون ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فهذا الإشكال الذي أورده من عدوانه على حدود الله تبارك وتعالى.
فيقول: هذه اليد في حالة الدية والقصاص ديتها خمسمائة دينار، فكيف تكون قيمتها في الدية خمسمائة دينار ثم في مقابلة سرقة ربع دينار -الذي هو النصاب- تقطع في مقابلة هذا المبلغ الهين؟! فأجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
فلما خانت هانت فقطعت في ربع دينار، فبسبب هذه الخيانة صارت قليلة القيمة بهذا القدر.
ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها؛ لأن الناس إذا عرفوا هذه القيمة الغالية لليد من حيث الدية فإنهم لا يجنون ولا يعتدون عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار؛ لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال عز وجل: ((جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهما، فناسب أن يقطع ما استعان به في ذلك.
فهذا هو حكم الله تبارك وتعالى، وهذا هو حد الله عز وجل، وإذا كنا نقول: إن هذا حكم الله وهذا الذي أنزله الله في القرآن الكريم فنقطع بأن أي إنسان حاول أن يتناول هذا التشريع بالإزدراء أو وصفه بالوحشية أو القسوة أو غير ذلك من الصفات المنفرة فإنه وإن كان كافراً يزداد بذلك كفراً، وإن كان من المنتسبين للإسلام فلا شك في ردته، لا شك في ردته وخروجه من ملة الإسلام، فأي إنسان يصف حكم الله عز وجل بهذه الأوصاف الشنيعة فهو مرتد خارج عن الملة؛ لعدوانه على حكمة التشريع، ولمصادمته هذا النص الصريح في القرآن الكريم.(42/7)
قول ابن تيمية رحمه الله
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، إلى آخر الآية.
ولا يجوز بعد ثبوت الحد عليه بالبينة أو الإقرار تأخيره لا بحسب ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله، وينبغي أن يعرف أن إقامة الحد رحمة من الله عز وجل بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله.
وقد نهى الله تعالى عن أن إنساناً رأفة في حدود الله فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فهذا الذي يوصف بأنه رحمة أو رأفة أو مشاعر إنسانية أو غير ذلك إذا كان فيه مصادمة لشرع الله فهذا منهي عنه، مثل إقامة حد الزنا، فينبغي أن يكون هناك قوة في إقامة حد الله عز وجل، وعدم تردد أو ضعف أو شفقة؛ لأن هذا هو من صالح البشر، ولذلك قال عز وجل: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، ومثل الرجل الذي تأخذه رأفة بأولاده في أن يوقظهم لصلاة الفجر والجو بارد أو غير ذلك من الأعذار، فيجد في قلبه رأفة في دين الله، فهنا يقال له: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فهذا من الرأفة المحرمة والممنوعة، وليس من الصفات التي يحبها الله، وليس من الرحمة التي يحبها الله عز وجل أن تكون في قلوب عباده، فذلك منهي عنه مادام على حساب الدين، فلا ينبغي أبداً أن تأخذ الإنسان رأفة.
وكذلك التوسط بين أهل المعاصي والعشاق وغير ذلك، بحجة أن هذا نوع من الرأفة بهم، فهذا -أيضاً- ليس رأفة، بل هو تعاون على العدوان وعلى حرمات الله تبارك وتعالى.
فأعداء الإسلام من المنافقين والزنادقة الذين يزعمون الإسلام ثم يطعنون في الشرائع -كما يحصل من المنتسبين لأعضاء لجنة حقوق الإنسان في كل البلاد خاصة في مصر- نسمع منهم كلاماً تقشعر منه الجلود، ولا يصح بعده الانتساب للإسلام أبداً، حيث يطعنون في العقوبات والحدود، ويطعنون في بعض البلاد التي تطبق بعض الحدود وإن كان تطبيقاً غير كامل، ويطعنون في الإسلام من خلال الطعن في هذه الدول على أن هذه عقوبات بدنية أو مادية، ويحتكمون إلى قوانين بشرية وما يسمى بمواثيق حقوق الإنسان الظالمة.
يقول شيخ الإسلام: فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده -كما تفعل به الأم رقة ورأفة- لفسد الولد، والغالب أن الأمهات لا يحزمن في تربية الأولاد، فإذا كان الأب غير جازم ولم يضع الشدة في موضعها فسد الولد بالتدليل الزائد إذا ترك لأمه، وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحاً حاله، فالأب إذا عاقب ولده ليس قسوة عليه، وليس إشفاء لغليله أو غيظه، وإنما لإصلاحه، فالشدة هي نوع من العلاج وليست لشفاء الغيظ.
يقول: وهو بمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجامة، وقطع العروق ونحو ذلك، بل في منزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة، فكذلك شرعت الحدود لأجل هذه النية، ولأجل تحصيل هذه المصالح.
ثم يقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وإظهار الاسم الجليل فيه إشعار بعلة الحكم، وتأييد استقلال الجملة في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
وكذا في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40].
والمراد الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه، فيقول: ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والابتلاء الباهر المستلزمين للقدرة التامة على التصرف في نيتيهما وفيما فيهما.
وقوله تعالى: (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) قدم التعذيب لأن السياق هنا في الوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر.
(والله على كل شيء قدير) ومنه التعذيب والمغفرة.(42/8)
تفسير قوله تعالى: (أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)
يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون) يعني: لا يحزنك صنع الذين يسارعون في الكفر ويقعون فيه بسرعة.
يعني: يظهرونه إذا وجدوا فرصة ولا يؤجلونه، فيسارعون في إظهار الكفر والجهر به، ولا يتأجلون ذلك ما وجدوا فرصة.
(من الذين قالوا) هذه للبيان (آمنا بأفواههم) يعني: بألسنتهم.
فهذا متعلق بقوله تعالى: (قالوا) فالقول لا يكون بكل الأفواه، وإنما هو بالألسنة.
(من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون.
(ومن الذين هادوا سماعون للكذب) يعني: ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب الذي اقترفه أحبارهم، سماعون يقبلون هذا الكذب الذي افتروه.
(سماعون لقوم آخرين) أي: سماعون منك لقوم آخرين، أي: لأجل قوم آخرين من اليهود.
(لم يأتوك) وهم أهل خيبر، زنى منهم محصنان فكرهوا رجمهما، فبعثوا قريظة ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمهما.
(سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي: يسمعون منك لأجل قوم آخرين هم اليهود (يحرفون الكلم) يعني الذي في التوراة، كآية الرجم (من بعد مواضعه) يعني: التي وضعه الله عليها، والمقصود: يبدلونه.
(يقولون) يعني: يقولون لهؤلاء الذين أرسلوهم (إن أوتيتم هذا فخذوه) أي: إن أوتيتم هذا الحكم المحرف وهو الجلد؛ لأنهم بدلوا الرجم بالجلد، أي: إن أفتاكم به محمد صلى الله عليه وسلم فاقبلوه.
(وإن لم تؤتوه) إن لم يفتكم بالجلد وأتاكم بخلافه (فاحذروا) أي: احذروا أن تقبلوه.
(ومن يرد الله فتنته) أي: إضلاله (فلن تملك له من الله شيئاً) أي: تثبيته.
(أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) يعني: من الكفر، ولو أراده لكان، لكن الله سبحانه وتعالى لم يرد أن يطهر قلوبهم من هذا الكفر.
(لهم في الدنيا خزي) أي: ذل بالفضيحة والجزية (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) أي: هو عذاب النار.(42/9)
تفسير قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت)
يقول تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
قوله تعالى: ((أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)) بضم الحاء وسكونها، أي: (السحُت) أو (السحْت).
والمقصود الحرام، كالرشوة.
((فَإِنْ جَاءُوكَ)) يعني: لتحكم بينهم (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فهنا تخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا، وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب الحكم بينهم إجماعاً.
لكن لو أقاموا الحد فيما بينهم فمرجعه إلى الإمام كالحكم الأول، وهو أن الإمام مخير كما في الآية (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) على وجه التخيير، ثم نسخ بقوله: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) يعني: ما داموا ترافعوا إلينا فيجب أن يكون الحكم بينهم لا على سبيل التخيير وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب ذلك إجماعاً.
وقوله تعالى: ((وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ)) يعني: بينهم ((فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)) أي: بالعدل ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) العادلين في الحكم.
ومن التأويل أن يفسر السيوطي قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين) بالإثابة.
لكن هذه من صفات الله تبارك وتعالى.(42/10)
تفسير قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)
يقول تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43].
قوله تعالى: (وعندهم التوراة) أي: التي جاءهم بها موسى عليه السلام.
((فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ)) يعني: بالرجم.
وهو استفهام تعجيب، أي: لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) فهم حينما تحاكموا إليك لم يقصدوا أن يعرفوا الحق؛ لأن الحق وحكم الله موجود عندهم في التوراة، وهو الرجم، لكن هم ما أتوك إلا ليبحثوا عن مخرج، فلعلك تحكم بينهم بما هو أهون من حكم الله المذكور في التوراة وهو الرجم.
((ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ)) يعني: يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم ((مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)) أي: من بعد ذلك التحكيم ((وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))(42/11)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور)
قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
قوله تعالى: (هدى) أي: من الضلالة (ونور) يعني: بيان للأحكام.
((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)) من بني إسرائيل ((الَّذِينَ أَسْلَمُوا)) أي: انقادوا لله، وكل الأنبياء مسلمون، وسنبين هذا بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ)) يعني: ويحكم بها لهم الربانيون، أي: العلماء منهم ((وَالأَحْبَارُ)) أي: الفقهاء (بِمَا) أي: بسبب الذي (استحفظوا من كتاب الله) استودعوه، أي: استحفظهم الله إياه من أن يبدلوه.
(وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أي: أنه حق.
قوله تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) يعني: أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والرجم وغير ذلك.
((وَاخْشَوْنِ)) يعني: في كتمانه، فالخطاب هنا (فلا تخشوا الناس) يعني: فلا تخشوا الناس أيها اليهود، وأظهروا ما في كتابكم من حكم الله، سواء أكان متعلقاً أم بالرجم بنعت النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(وَاخْشَوْنِ) يعني: في كتمانه.
(وَلا تَشْتَرُوا) أي: لا تستبدلوا (بآياتي ثمناً قليلاً) من الدنيا تأخذونه على كتمانها.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أي: الكافرون بما أنزل الله تبارك وتعالى.(42/12)
تفسير قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)
قال عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].
قوله تعالى: (كتبنا) يعني: فرضنا (عليهم فيها) أي: في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي أن النفس تقتل بالنفس، والمقصود إذا قتلتها، فمن قتل يقتل.
(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) أي: العين تفقأ بالعين (وَالأَنفَ بِالأَنفِ) أي: يجدع بالأنف ((وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ))، أي: الأذن تقطع بالأذن ((وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)) أي: تقلع السن بالسن، وفي قراءة بالرفع في الأربعة المواضع.
((وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)) قرئ بالوجهين أيضاً، بالرفع والنصب، (والجروحُ) (والجروحَ قصاص)، لكن إذا رفعنا ما مضى فتكون القراءة بالرفع فقط، فإذا قلنا (النفسُ بالنفس والعينُ بالعين والأنفُ بالأنف والأذنُ بالأذن والسنُ بالسن والجروجُ قصاص) نقول: (والجروح قصاص).
وقوله: (قصاص) أي: يقتص فيها إذا أمكن، كاليد والرجل ونحو ذلك، وما لا يمكن فيه القصاص ففيه الحكومة، ومعنى الحكومة أن يقدر المجني عليه رخيصاً، ثم ينظر إلى نسبة النقص الذي سببه العدوان في قيمته، فيؤخذ مثلها من الدية، وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا.
(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي: بالقصاص، بأن مكن من نفسه (فهو كفارة له) يعني: لما أتاه.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) في القصاص وغيره.
(فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يعني أن حكم الله هو العدل، فناسب أن يكون خلافه موصوفاً بالظلم.(42/13)
تفسير قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم)
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة:46].
قوله تعالى: (وقفينا) أي: أتبعنا (على آثارهم) أي: على آثار النبيين (بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه) أي: قبله (مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) (هدى) أي: من الضلالة (ونور) أي: بيان للأحكام (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) لما فيها من الأحكام (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).(42/14)
تفسير قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)
قال تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
أي: وقلنا: (ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) من الأحكام ومن الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تبديل، وفي قراءة بنصب (يحكم) وكسر لامه عطفاً على معمول آتيناه، أو: آتينا هو ذلك ليحكم أهل الإنجيل بما أنز الله فيه.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).(42/15)
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب)
قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48].
أي: أنزلنا إليك يا محمد -صلى الله عليه وسلم- (الكتاب) أي: القرآن (بالحق)، والجار والمجرور متعلق بـ (أنزلنا).
(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: بما قبله (مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أي: شاهداً عليه، والكتاب هنا بمعنى الكتب، فقوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ) يعني: من الكتب التي قبله.
(وَمُهَيْمِنًا) أي: شاهداً عليها.
(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي: فاحكم بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك (بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) إليك.
(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ من الحق)، أي: ولا تتبع أهواءهم عادلاً عما جاءك.
نُهي عن أن يعدل عمّا جاءه إلى الهوى.
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ) أيها الأمم (شِرْعَةً) أي: شريعة (وَمِنْهَاجًا) أي: طريقاً واضحاً في الدين يمشون عليه.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: على شريعة واحدة.
(وَلَكِنْ) أي: ولكن فرقكم فرقاً.
(لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) يعني: ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة؛ ليعلم المطيع منكم والعاصي.
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: سارعوا فيها.
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أي: بالبعث.
(فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يعني: من أمر الدين، ويجزي كلاً منكم بعمله.(42/16)
تفسير قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)
قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49].
يعني: وأنزلنا إليك (أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، ويلاحظ هنا مقابلة الوحي بالهوى، وهذا شيء واقع في القرآن الكريم، فضد الوحي لا يكون إلا الهوى، وأمثلته كثيرة، كقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فما يقابل الشرع لا يكون إلا أهواء، فهذا نهي عن اتباع أهواء هؤلاء القوم.
قوله: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ)) يعني: احذرهم لئلا يفتنوك، أي: يضلوك (عن بعض ما أنزل الله إليك).
(فإن تولوا) يعني: إن تولوا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ)) يعني: بالعقوبة في الدنيا ((بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)) أي: التي أتوها ومنها التولي، ويجازيهم على جميعها في الأخرى (وإن كثيراً من الناس لفاسقون).(42/17)
تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)
قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] قوله: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)) قرئت (يبغون) بالياء وبالتاء، (أفحكم الجاهلية يبغون) أو (تبغون) والمقصود: يطلبون المداهنة والميل عن الحق إذا تولوا عن حكمك، والاستفهام في الآية استفهام إنكاري.
قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) أي: من يظفر منك بالحكم الذي يشتهون؟! لأن الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام الجاهلية.
((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا)) أي: لا أحد أحسن من الله حكماً (لقوم يوقنون) أي: يوقنون به، وخص هؤلاء الموقنون بالذكر لأنهم الذين يتدبرونه.(42/18)
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)
نعود إلى بعض هذه الآيات لنتناولها بالتفصيل.
قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ)) هذا نهي (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي: في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين.
(من الذين قالوا آمنا بأفواههم) أي: بألسنتهم.
(ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم؛ فإني ناصرك عليهم.
(ومن الذين هادوا) وهم بنو قريظة كعب بن الأشرف وأصحابه.
(سماعون للكذب) يعني: هم سماعون للكذب.
وهذا يدل على أن سامع المحظور كقائله في الإثم، وأن الشخص الذي ينصت ويصغي بسمعه إلى الكلام المحرم يكون شريكاً للقائل في الإثم.
وهذا الأمر يحصل فيه تساهل كثير جداً في مجتمعاتنا، فترى الإنسان يسمع دون أن ينكر ما يسمعه من الغيبة أو من الكلام المحرم، بل يجب على الإنسان أن يزيل هذا المنكر أو يزول عنه، لكن أن يبقى مستمعاً ومنصتاً ويظن أنه ناج من الإثم لأنه لا يتكلم غير صحيح، فهو يدخل في هذه الآية (سماعون للكذب)، فسامع المحظور كقائله في الإثم.
كما يقول الشاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه قوله تعالى: (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي: لم يحضروا مجلسك، وتجافوا عنك إسرافاً في البغضاء، أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون على أن ينظروا إليك، قيل: هم يهود خيبر، والسماعون بنو قريظة.
(يحرفون الكلم) أي: كلم التوراة في الأحكام.
(من بعد مواضعه) أي: التي وضعه الله عليها، فيتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
(يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) يعني: إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام (فخذوه) يعني: اقبلوه، أو اعملوا به فإنه الحق (وإن لم تؤتوه) بأن أفتاكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافه (فاحذروا) أي: من قبوله، وإياكم أن تأخذوه؛ فإنه الباطل والضلال.
قال ابن كثير: قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم وإركاب الزانيين على حمار مقلوبين.
فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك.
وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون.
فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم.
فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: - عبد الله بن سلام وكان أكبر علمائهم وأفضلهم وسيدهم قبل أن يسلم- ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم.
فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة) أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: (مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم.
فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه.
قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) إلى قوله: ((يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ))) أي: يقولون: ائتوا محمداً، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه واقبلوا الحكم، وإن أفتاكم بالرجم فلا تأخذوه.
أخرجه مسلم دون البخاري.
يقول تعالى: (ومن يرد الله فتنته) أي: ضلالته (فلن تملك له من الله شيئاً) أي: في دفع ضلالته.
(أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) يعني: من دنس الفتنة، ووضر الكفر؛ لانغماسهم فيها، وإصرارهم عليها، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية.
(لهم في الدنيا خزي) أي: فضيحة وهتك ستر، وظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين، وذل وخزي وافتضاح لظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود.
(ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.(42/19)
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت)
يقول تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
قوله تعالى: (سماعون للكذب) أي: الباطل، وهو خبر لمحذوف، وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله تعالى: (أكالون للسحت) أي: الحرام، وهي الرشوة كما قال ابن مسعود.
وقال الزمخشري: السحت كل ما لا يحل كسبه، وهو مأخوذ من (سحته) إذا استأصله؛ لأنه مسحوت البركة، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276] والربا باب من السحت.
وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، والسحت كله حرام، تحمل عليه شدة الشره، وهو يرجع إلى الحرام الذي لا تكون له بركة، ولا لآكله مروءة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم) والراشي هو الذي يدفع، والمرتشي هو الذي يأخذ وقال ابن مسعود: (الرشوة في كل شيء، فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدي بها إليه فقبل فهو سحت).
وفي هذا حديث صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يعني: إذا توسطت لأخيك المسلم، وليس المراد أخاك الذي يصلي معك في الجامع أو صديقك الذي تعرفه، وإنما المراد أخوك في الإسلام، فأي إنسان مسلم إذا شفعت له بشفاعة ونال ما يريده من الحق أو دفع الظلم عنه بسبب شفاعتك، ثم بعد ذلك أعطاك هدية فقبلتها فقد أتيت باباً عظيماً من أبواب الربا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فالإنسان يعجب حينما يجد الأسئلة في مثل هذا الأمر وهو واضح مثل الشمس، فكيف تصل بنا الأمية في الفقه إلى هذا الحد؟! كيف يصل إهمال العلم الشرعي إلى حد أن بعض الناس لا يعرف أن هذا حرام وأن هذا سحت، وأن هذا أكل أموال الناس بالباطل؟! فما دمت تمثل الشركة مندوباً عنها وتحمل اسمها فأعطيت لك هدية مقابل هذا الاسم فيجب عليك أن تردها إلى الشركة، فمن أخذ شيئاً بسبب ذلك لابد له من أن يرده إلى شركته، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فهلا جلس في بيت أبيه أو أمه فلينظر أيهدى إليه شيء)؟! فإذا جلس في بيته هل كانوا سيهدون له شيئاً؟! ولو في شركة أخرى فهل كانوا سيعطونه هذه الهدية؟! ما اكتسب الهدية إلا بصفته ممثلاً لهذه الشركة، وحينئذٍ فلا يحل له أن يأخذ هذه الهدية وإلا كان من أكلة السحت.
فـ ابن مسعود رضي الله تعالى يقول: (الرشوة في كل شيء) ويذكر هنا مثالاً فيقول: (فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً) أي: شخص حقه مهضوم وشفعت له كي ترد إليه الحق، فهذا مقصد شرعي (أو ليدفع بها ظلماً فأهدي بها إليه فقبل فهو سحت) فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! أي: ما كنا نحسب أن هذه الشفاعة المحرمة إنما تحرم في شفاعة الحكم فقط، فقال: (الأخذ على الحكم كفر)، أي أن هذه أفظع، فقد قال الله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)).
يقول تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم) يعني: إن جاءك اليهود لتحكم بينهم فاحكم بينهم؛ لأنهم اتخذوك حكماً.
(أو أعرض عنهم): لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يوافق أهواءهم، والمقصود أنك بالخيار، وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم.
يقول القاسمي: والتحقيق أنها محكمة والتخيير باق.
فـ القاسمي يرجح أن التخيير باقٍ والآية محكمة وليست منسوخة، وهو مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد، فلا منافاة بين الآيتين، فإن قوله تعالى: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه التخيير، وقوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) فيه كيفيه الحكم إذا حكم بينهم, وهي أن يحكم بينهم بما أنزل الله، فالمقصود بها بيان كيفية الحكم إذا اختار أن يحكم بينهم.
(وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً) يعني: لن يقدروا على الإضرار بك؛ لأن الله تعالى عاصمك من الناس، فصلى الله عليه وسلم.
(وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل.
(إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين فيما ولوا وحكموا.
وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين-، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).(42/20)
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)
يقول تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43].
قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) هذا تعجبٌ من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به.
(وكيف يحكمونك) هذا التعجيب من شأن هؤلاء الناس، فهم يزعمون أنهم لا يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمنون بقرآن، والحكم الذي يسألون عنه موجود ومنصوص عليه في كتبهم، ومع ذلك يأتون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حكم الله حسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة، ووجود هذا الحكم الخاص فيها لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة محرفة.
وسماها التوراة إما باعتبار عرفهم أو باعتبار أصلها، فقال: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: باعتبار عرفهم أنهم يطلقون اسم التوراة على الكتاب الذي بين أيديهم، لكنها في الحقيقة ليست هي التوراة المضبوطة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام؛ لأنهم قد قاموا بالتحريف والتبديل، كما ذكر تعالى آنفاً فقال: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)) فهذه سجية فيهم غير محدثة، وهذه حرفة يهودية قديمة، أي: التحريف والتبديل والتزوير كما بين الله تبارك وتعالى.
فتسميتها التوراة هنا إما باعتبار أصلها الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام، وإن كان مخالفاً لما بين أيديهم، أو باعتبار أنها التوراة في عرفهم ونظرهم، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية، ولولا ذلك لما صح أن تسمى بذلك، فلولا وجود بقية من الحق فيها لما صح أن تسمى التوراة، ونفس الشيء يقال في الإنجيل، مع اعتقاد تحريفهما وتبديلهما وعدم صحة كثير من أجزائهما.
(ثم يتولون من بعد ذلك) أي: من بعد البيان في التوراة، ومن بعد حكمك الموافق لما في التوراة (وما أولئك بالمؤمنين) يعني: بالتوراة، كما يزعمون.
قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقاً إلى ما يعتقده غير حق.
وقوله: (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) يدل على أن التولي عن حكم الله يخرج المرء عن الإيمان، وإذا كره حكم الشرع وطلب حكم غيره فهل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟ هذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته أو رأى له مزية أو تعظيماً أو استهان بحكم الإسلام فلا إشكال في كفره، وكأنه هنا يفصل ما سيأتي في الآية التالية في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقوله تعالى: (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) فيه نفي الإيمان عمن يتولى عن حكم الله تبارك وتعالى.
فهنا بعض العلماء يفصل الكلام، فيقول: إن اعتقد -يعني هذا الشخص الذي يحكم بغير ما أنزل الله- صحة هذا الحكم الذي ينافي حكم الشريعة، أو رآه مساوياً لحكم الإسلام، أو أحسن من حكم الله، أو استهان بحكم الإسلام، فهذه الأحوال كلها لا إشكال في كفر فاعلها، ففي هذه الحالة لا إشكال فيه أنه كفر أكبر مخرج من الملة.
وإن لم يحصل منه ذلك، بل اعتقد أنه باطل خفيف، وكان معظماً لشرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر؛ إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع، فإن كان يعظم شرع الله سبحانه وتعالى، ويقر بحكم الله، وأن هذه الأحكام الوضعية المخالفة للشريعة باطلة ووضيعة ونحو ذلك كذا وكذا لكنه يحكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى فهذا لا يكفر على الظاهر، وله نظير في أي معصية، كشرب الخمر مثلاً، فقد يكون رجل يشرب الخمر ويكون مسلماً، ورجل لا يشرب الخمر ويكون كافراً، فالذي يشرب الخمر وهو يعرف أنها حرام وأن القرآن أمر باجتنابها ويقر بحكم الله فيها، ويرى أنها أم الخبائث، لكن هواه يغلبه فيشرب الخمر هو فاسق وعاص، ولا يكفر بمجرد ذلك، لكن ينقص إيمانه، أما الذي يعتقد أن الخمر حلال وشيء مباح ويجحد حكم الله سبحانه وتعالى فيها فهو -قطعاً- كافر مرتد، حتى لو لم يشرب الخمر؛ لأن هذا يكفر بالاعتقاد القلبي، فهو بقلبه يعتقد تحليل ما حرم الله قطعاً، ولذلك يكفر بذلك.(42/21)
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون)
ثم أشار تبارك وتعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها ويقتلون النبيين؛ لأنهم خالفوا ما أمرهم الله به في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً) أي: إرشاد للحق.
(ونور) أي: إظهار لما انبهم من الأحكام.
(يحكم بها النبيون) يعني: من بني إسرائيل؛ لأن كل نبي من قبل كان يبعث إلى قومه خاصة، ولم يبعث أحد إلى الناس عامة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان التبشير بالنصرانية بدعة مخترعة في النصرانية، فلا يوجد نص أبداً في الإنجيل الذي بين أيديهم الآن يأمرهم بأن يدخلوا غير بني إسرائيل في النصرانية أبداً، بل عندهم نصوص كثيرة في الإنجيل ينص فيها المسيح عليه السلام على أنه ما بعث إلا إلى بني إسرائيل الضالة، أو كما روي عنهم، كما قال عز وجل: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:49].
أما موضوع التبشير فقد اخترعه بولس الخبيث بعد المسيح بمدة، حينما افترى وزعم أنه ظهر له في السماء من يناديه ويقول له: اذهبوا وادعوا جميع الأمم باسم كذا وكذا وكذا إلى آخره، فليس في النصرانية تبشير أصلاً أو دعوة للأمم الأخرى، وإنما هي دعوة خاصة ومحدودة لبني إسرائيل، وكذلك دعوة موسى عليه السلام، ولذلك نفسر قوله تعالى هنا: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)) أي: من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء الأنبياء الذين حكموا بالتوراة كانوا أنبياء بني إسرائيل فقط، قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون) يعني: من بني إسرائيل (الذين أسلموا) أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام، وسنذكر سر هذه الصفة.
(للذين هادوا) وهم اليهود؛ لأن (هاد) بمعنى: تاب ورجع إلى الحق.
فقوله: (للذين هادوا) أي: لا لمن يأتي بعدهم، ولم يختص بالحكم بها الأنبياء، بل: (يحكم بها الربانيون) أي: الزهاد العباد (والأحبار) أي: العلماء الفقهاء.
(بما استحفظوا من كتاب الله) أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل، وأن يقضوا بالأحكام.
وفي قوله تعالى: (استحفظوا) الضمير هنا عائد للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً، ويكون الاستحفاظ من الله، أي: استحفظهم الله كتابه، بمعنى أن الله كلفهم بحفظ كتابه.
أو يكون الواو عائداً على الربانيين والأحبار، ويكون الذين استحفظهم هم الأنبياء، (وكانوا عليه شهداء) يعني: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شهداء بأنه حق وصدق من عند الله، فمعلموا اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها؛ لشيوعه وتداوله وتوافر العمل به.
وهذا هو السبب الذي من خلاله حصل التحريف في هذه الكتب؛ لأن التحريف في الكتب السابقة كان أمراً شرعياً إرادياً، أي أ، الله سبحانه وتعالى كلفهم بحفظه، والمقصود أحبار بني إسرائيل، أو الربانيين.
فما دام كلفهم بحفظه فهذا تكليف، ومادام تكليفاً فيمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع؛ لأنه أمر شرعي طلبي إرادي وليس أمراً كونياً قدرياً، فقد يتخلف الأمر الشرعي فيطيعون أو يعصون، وقد يفون بالعهد وقد ينقضونه ويقعون في تحريف كتاب الله، فمن أجل ذلك حصل التحريف؛ لأن استحفاظ هذه الكتب كان مهمة ألزم الله بها أحبارهم ورهبانهم، فضيعوها وخانوا الأمانة.
أما القرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى لم يكل حفظه إلى أحد من خلقه، بل الله عز وجل هو الذي تكفل بحفظه، فانظر إلى هذه الآية العظيمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] كلها عظمة وقوة قاهرة تقطع بأن القرآن محفوظ، الأمر الذي لا يمكن ليهودي، ولا لنصراني، ولا لملحد، ولا لأي مخلوق وجد على الأرض منذ نزلت هذه الآية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يمكن لأحد أن يثبت تحريف حرف واحد من كلام الله أبداً، وهذه من أعظم آيات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لو أن رجلاً في أقاصي الدنيا لحن في حرف واحد من القرآن، أو أسقط كلمة من القرآن لرد عليه مئات الصبيان في الكتاتيب، وردوا عليه بأن هذا غير صحيح، فهذا من آيات الله سبحانه وتعالى القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] وهو القرآن الكريم، ويدخل فيه السنة أيضاً، وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] تأكيد وقطع، وهذا الوعد لم يتخلف؛ لأن الله قضى بذلك.
وهذا لا يعني أننا لا نأخذ بأسباب حفظ الكتاب، وإن كان ذلك فهو لا يقع فيه تحريف أبداً، وأذكر في الستينات أن عصابات اليهود كانوا حاولوا إصدار بعض الطبعات من المصحف الشريف، وحرفوا فيها سيراً على الحرفة التي يتقنونها طول عمرهم، نفس الحرفة الدنيئة الخبيثة المتأصلة فيهم، وقد كانوا روجوها في بعض البلاد الإفريقية، وكل محاولات هؤلاء أو غيرهم للتلاعب بآيات الله تفضح في الحال ولا تمكث أبداً، ولله الحمد على أنه ما زال هناك تسخير ونقيض لحفظ كتاب الله من التلاعب به والتحريف حتى مع وجود كثير من مظاهر الوهن والضعف في كثير من بلاد المسلمين.
ورغم ما آل إليه حال الأزهر عموماً لكننا نجد فيه حتى الآن العناية بالمصحف والاهتمام الشديد جداً بالمراجعة والتصحيح والتدقيق في ذلك، وهذا كله من الأسباب التي ييسر الله عز وجل بها حفظ كتابه.
وقوله تبارك وتعالى: ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا)) هذه الصفة أجريت على النبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل عنها.
هذا كلام الزمخشري في الكشاف وقد رد عليه ناصر الدين ابن المنير في حاشيته فقال: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصيل والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها، فذكر النبوة يستلزم ذكرها، فمن ثم حملها على المدح، وفيه نظر.
والمقصود بها التعريض باليهود بأنهم ليسوا مسلمين، وأن الإسلام الذي هو دين الأنبياء أجمعين برئ منهم، فيذكر الناصر أن فإنك المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة، فإذا أردت أن تمدح شخصاً فأنك تمدحه بصفة امتاز بها عن غيره.
والإسلام لفظ عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم، فقوله: (الذين أسلموا) يدخل فيه عوام المسلمين وأمم الأنبياء أجمعين، كما يدخل فيه الأنبياء أنفسهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً، فلو أن رجلاً أراد أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن محمداً عليه الصلاة والسلام رجل مسلم.
فهل هذا مدح له؟ لا، لا يكون هذا مدحاً؛ لأن هذا أمر مقطوع به، فالرسول عليه الصلاة والسلام مسلم قطعاً بلا شك، وهو أول المسلمين، لكن إذا أردت مدحه فتمدحه بشيء اختص به الممدوح عمن سواه؛ لأن أقل متبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف -أيضاً- بصفة الإسلام.
يقول: فالوجه -والله تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر.
والمدح هنا لصفة الإسلام نفسها لا للرسول نفسه، أو للأنبياء أنفسهم، (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) فالمدح هنا لصفة الإسلام، من حيث إن الأنبياء -وهم أعلى الناس قدراً- متصفون بصفة الإسلام، فاقتدوا بهم في هذه الصفة.
يقول: فالوجه -والله أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها.
فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة لعظم موصوفها، وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] فهنا المدح لإسحاق أم لصفة الصلاح؟ هنا المقصود به التنويه بصفة الصلاح وبمقداره إذ جعلت صفة الصلاة لأكمل الناس -وهم الأنبياء- بعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] فأخبر عن الملائكة المقربين بالإيمان قال: (ويؤمنون به) تعظيماً لقدر الإيمان، وبعثاً للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا.
ولهذا قال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] يعني: من البشر؛ لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين الطائفتين، فكذلك -والله تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به، فالمدح هنا لصفة الإسلام، في قوله: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) ولقد أحسن القائل في مدحه عليه الصلاة والسلام حيث قال: فلئن مدحت محمداً بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمد عليه الصلاة والسلام.
والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف -إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه- إلا أن النبوة أشرف الأوصاف؛ لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة، فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة -في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح- لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزي(42/22)
تفسير سورة المائدة [51 - 58](43/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)
يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) يعني: توالونهم وتوادونهم، بأن تولوهم أموركم، وتعتمدوا على الاستنصار بهم.
(بعضهم أولياء بعض) أي: بعضهم ينصر بعضاً لاصطحابهم في الكفر، يعني: وأنتم لستم مساوين لهم في صفة الكفر.
(ومن يتولهم منكم) أيها المؤمنون (فإنه منهم) أي: من جملتهم، يعني: كأنه مثلهم.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) بموالاتهم الكفار.(43/2)
تفسير قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)
يقول تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52].
قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: ضعف اعتقاد، كـ عبد الله بن أبي المنافق.
(يسارعون فيهم) أي: في موالاتهم.
(يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) يقولون معتذرين عن المسارعة إلى هذه الموالاة: نخشى أن تصيبنا دائرة يدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلا يميرونا.
أي: يقاطعوننا اقتصادياً، ولا يعطوننا الميرة، وهي الطعام.
قال تعالى: (فعسى الله أن يأتي بالفتح) يعني: بالنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه.
(أو أمر من عنده) يعني: بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم.
(فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) يعني: من الشك وموالاة الكفار (نادمين).(43/3)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم)
يقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53].
قوله تعالى: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)) بالرفع استئنافاً، وهناك قراءة أخرى بالنصب عطفاً على (أن يأتي)، وهناك قراءة بدون الواو (يقول الذين آمنوا)، والمعنى: يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض إذا هتك سترهم تعجباً: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)) أي: غاية اجتهادهم فيها ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) يعني: في الدين.
قال تعالى: ((حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)) أي: بطلت أعمالهم الصالحة، ((فَأَصْبَحُوا)) أي: صاروا ((خَاسِرِينَ)) أي: خاسرين الدنيا بالفضيحة، والآخرة بالعقاب.(43/4)
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)
قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) وصفهم بعنوان الإيمان بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه، فإن ذكر صفتهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بصفة الإيمان فقال: (يا أيها الذين آمنوا) لأنه بعد سيتكلم عن الكفار، فالاختلاف في صفة الإيمان والكفر يقتضي الاختلاف -أيضاً- في المحبة والموالاة، فلا يوالي الإنسان ولا يحب عدو الله عز وجل.
ثم يقول تبارك وتعالى: (بعضهم أولياء بعض) هنا إيماء إلى علة هذا النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وعلة هذا النهي هي أن هؤلاء اليهود والنصارى متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، فكيف يكون المرء مؤمناً موحداً مسلماً يخالفهم في الدين ثم بعد ذلك يقع في موالاتهم؟! ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) أي: يصير من جملتهم إذا والاهم وأحبهم، وحكمه حكمهم وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين.
فهو بدلالة الحال منهم لدلالته على كمال المعتقد؛ لأن الإنسان إذا كان لا يصاحب إلا الكافر فيكون أكيله وشريبه وقعيده وصفيه وخليله، ويحبه ويناصره ويواليه، ويذهب معه ويجيء ويروح معه كان ذلك الاقتران في الظاهر يدل دلالة كاملة على أنه مثله، أو حكمه حكمهم، أو أنه من جملتهم.
وقد ذكر بعض العلماء ضابطاً يستخرج به الإنسان من قلبه هذا المعنى الذي هو البراءة من الكفار، وهو أن يستحضر ما يعتقد هذا الكافر في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: هذا الكافر الذي تتخذه صديقاً وتصافيه وتعاشره معاشرة الإخوة والأحباب إذا سألته: ماذا تعتقد في محمد صلى الله عليه وسلم؟ أو إذا سألت نفسك: ماذا يقول هذا عن محمد عليه الصلاة والسلام؟ فهو -والعياذ بالله- يصف رسول الله بأنه -حاشاه- قد كذب وافترى على الله، وادعى أن الوحي نزل عليه، وهو يختلق القرآن إلى آخره، فضلاً عن أنه يعبد غير الله، فإنه يعبد عيسى عليه السلام الذي هو عبد الله، أو يشتم الله كاليهود الذين يسبون الله عز وجل وأنبياءه، فإذا استحضرت أن هذه عقيدته التي في باطنه وقلبه نشأ لك بذلك أشد النفور.
ولذلك قال بعض العلماء لما دخل على مجلس أحد الخلفاء القرشيين فوجد عنده يهودياً أو نصرانياً معظماً موقراً قال له: يا ابن الذي حبه في الورى وطاعته حتم واجب إن الذي شرفت لأجله يزعم هذا أنه كاذب ومقصوده بقوله: إن الذي شرفت لأجهل هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
فشخص يصف محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه كاذب ولم تجد في قلبك إنكاراً لهذا وبغضاً لما يعتقد هذا في حق أصدق الصادقين محمد عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أنه ليس في قلبك إيمان، ليس في قلبك حياة ولا إيمان ولا محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الرجل إذا سب أبوه أدنى من ذلك وأهون من ذلك من السباب فإنه يغضب ويثور ويعادي من يفعل به ذلك، فكيف بمن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصفه بالكاذب؟! وكيف يلتقي قلب مؤمن موحد مع مثل هذا القلب؟! فمن ثم يقول الزمخشري: وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما) فينبغي للمسلم أن يباعدهم بقدر استطاعته، حتى لا تتراءى النار في الأفق من شدة المباعدة بينهما.
ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه لـ أبي موسى في كاتبه النصراني: (لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله).
قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.
وهذه الآيات من أشد النصوص التي نحن في حاجة إلى التذكير بها في هذا الزمان؛ لأن هذه العقيدة الخطيرة هي أخطر مسائل الإيمان بعد التوحيد، وهي قضية موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، فهي الركن الوتين في الدين، وأصل عظيم جداً من أصول الإيمان، ومما علم من الدين بالضرورة، ومع ذلك حصل الآن عند الناس -نتيجة الفتن التي نعيش فيها- اهتزاز خطير جداً في قلوبهم، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، حصل اهتزاز عجيب جداً في قلوب الناس في قضية الولاء والبراء، فآيات القرآن واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار أنه يجب أن لا تقع أبداً الموالاة ولا المصافاة بين مؤمن موحد وبين كافر عدو لله عز وجل، ولذلك قال ابن سيرين: قال عبد الله بن عتبة: (ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر) أي: ليتق أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر.
قال هذا الكلام يريد به هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].(43/5)
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)
ثم بين تبارك وتعالى كيفية توليهم، وأشعر بسببه، وبما يئول إليه أمره كل من يقع في هذه الصفة المهلكة، وهي موالاة الكفار، فالآيات التالية توضح صورة الموالاة وكيفيتها أولاً، وتوضح سببها ثانياً، وتوضح عاقبتها ثالثاً.
فقال عز وجل: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) فلا يقع في هذه الموالاة ويفرح بها وينافح عنها إلا الذي في قلبه دخن ومرض وشك وشبهة والعياذ بالله! (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه، فعندما يسمعون وعد الله عز وجل بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] يكون عندهم شك ونفاق ولا يصدقون وعد الله عز وجل، ويظن أحدهم بالله ظن السوء، ويحس أن الله سبحانه وتعالى سيترك الباطل دائماً مرتفع الكلمة على الحق، وأن الحق يكون مقموعاً، لكن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، وسنة الله سبحانه وتعالى أن يدال الناس: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فترى الذي في قلبه مرض يوالي أعداء الأمة وأعداء الدين وأعداء المسلمين، بحيث إذا لم تتحقق بشائر نصرة الدين، ولم تكن الكفة في صف المسلمين فإنه يكون قد احتاط لنفسه واتخذ عند هؤلاء جميلاً أو صنيعة تنفعه في يوم من الأيام إذا خسر المسلمون الجولة.
فقوله تعالى: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) يعني: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه.
((يُسَارِعُونَ فِيهِم)) فالأمر فيه مسابقة، كما حصل من بعض دول الخليج التي كانت تتسابق على الارتماء في أحضان إسرائيل، حتى إن رئيس الوزراء اليهودي قال: ما هذا الذي يفعله العرب؟! فهم أنفسهم استنكروا هذا التهافت على تدعيم العلاقات مع إسرائيل وغير ذلك، فكان بين بعض دول الخليج تسابق نتيجة الصراعات التي بينهم، يريدون من أن يحتموا باليهود ويكون لهم منعة.
حتى قال بعض الناس: إننا كنا طلبنا منذ مدة بعيدة من إسرائيل أن تنضم إلى جامعة الدول العربية.
فاليهود لما علموا بهذا الاقتراح قالوا: لا يوجد شيء اسمه جامعة الدول العربية، فنحن سنعمل نظاماً آخر حتى إنهم -أيضاً- صار يتحكمون في هذا الأمر.
فهذا نموذج مما نراه، (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)، وبعضهم لا يرتمي في أحضان إسرائيل فحسب، بل يضع جبهته تحت أقدام إسرائيل وتحت التراب الذي تدوس عليه إسرائيل، ذلة ما بعدها ذلة، والعياذ بالله! هذا هو واقع المسلمين الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من صور الضعف والهوان عند المسلمين، فترى أهل المرض (يسارعون فيهم) يعني: في مودتهم في الباطن والظاهر، من غير أن ينظروا إلى العواقب التي تترتب على ذلك.
(يقولون) يعني: وهم يعتذرون عن هذا الفعل.
فإذا قيل لهم: لماذا تسارعون هكذا وتتسابقون في موالاة الكفار يقولون معتذرين عن هذا الفعل: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أي: من دوائر الزمان، وصرف من صروفه، فتكون الدولة لهم فنحتاج إليهم، فنحن نحذر من شرهم.
ولا يفكرون بأن الدائرة ربما تصيب هؤلاء الذين يوالونهم، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها الخط المحيط بالسطح، واستعيرت لنوائب الزمان لملاحظة إحاطتها واستعمالها في المكروه، وعكس الدائرة الدولة، والدولة هي الغلبة، وقد تستعمل الدولة بمعنى الدائرة، لكن ذلك قليل.
ثم رد الله تعالى عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بالظفر، فقال عز وجل: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: إن كانوا هم يسارعون فيهم، ويبررون ذلك أو يعتذرون بأنهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فقد قطع الله سبحانه وتعالى هذا العذر بقوله: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)) فتكون الدائرة -دائرة السوء- على هؤلاء الذين تحبونهم وتوالونهم، وتفتضحون حينئذٍ.
(فعسى الله أن يأتي بالفتح) سواءٌ أكان المقصود فتح مكة، أم فتح قرى اليهود من خيبر وفدك، أم القضاء الفصل بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين.
فقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم.
(فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) الواو تعود إلى المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وهم هؤلاء الذين يسارعون في مودتهم، (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) وما الذي أسروه في أنفسهم؟ إنه الشك في ظهور الإسلام، أو أسروا في أنفسهم النفاق.
وقوله: (نادمين) لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين، فلا يرضى عنهم هؤلاء، ولا يرضى عنهم هؤلاء، فلا يبقون مع المسلمين بعدما يفتضحون، ولا والاهم ولا نصرهم اليهود، بل ندموا لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين.
وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه من نوعية موالاة الكفار، أي: كانوا يظهرون موالاة الكفار، والله عز وجل قال هنا: (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)؛ لأن السبب الحقيقي الذي أدى بهم إلى موالاة الكفار -وهو الأمر الظاهر- وجود المرض في قلوبهم، وتأمل هذا جيداً، حيث قال تعالى: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا)) ولم يقل تعالى: (فيصبحوا على ما فعلوا)، فتشمل الآية ما أبطنوه وما أظهروه، فهم أظهروا موالاة الكفار وأبطنوا الشك والنفاق في وعد الله بنصرة رسوله وعزة دينه.
فالذي في قلوبهم هو الشك بوعد الله، والشك في أن المستقبل والنصرة للإسلام، هذا السبب القلبي انعكس على مواقفهم الظاهرة في موالاة الكفار، فالله سبحانه وتعالى في هذا الموضع علق ندامتهم على ما كانوا يكتمونه لا على ما كانوا يظهرونه، فما الذي كانوا يكتمونه؟ إنه الشك والنفاق؛ لأن الشك هو منبع المشكلة الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم بها، فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها، وسببها الذي هو ما أسروه في أنفسهم من الشك.
وقوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا) قرى الفعل (يقول) بالنصب عطفاً على (أن يأتي) في الآية المتقدمة، أي: وعسى أن يقول الذين آمنوا.
فتكون بالنصب، وقرئ بالرفع على أنه كلام مبتدأ مستأنف.
فقوله تعالى: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت حين يصبح المنافقون على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
وقول المؤمنين قد يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض اغتباطاً وسعادة وفرحاً، وتعجباً من حال المنافقين، واغتباطاً بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص وعدم الشك والنفاق.
((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)) أي: حلفوا لكم بأغلظ الأيمان.
((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) كانوا يحلفون بأغلظ الأيمان إنهم لمعكم لأن عادة المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة، واتخاذ الأيمان والحلف جنة ووقاية، كما قال عز وجل: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة:16] فقوله: (جنة) يعني: وقاية، حتى يخدعوا المؤمنين فلا يعاملوهم على ما هم عليه في الحقيقة من النفاق، فيقولون: والله العظيم إننا لكذا، والله العظيم ما نريد إلا كذا إلى آخر ذلك.
ومعنى قولهم: ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) أي: أولياؤكم ومعارضوكم على الكفار.
وهذا القول الصادر من المؤمنين إما أن يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض، وإما أنهم يقولون هذا الكلام لليهود، يقولون لهم: أيها اليهود! أهؤلاء المنافقون الذين هربوا وخذلوكم الآن بعدما أذلكم الله، بعد أن أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! وهناك آية أخرى في القرآن تعطي نفس المعنى في سورة الحشر، قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11] فقولهم (لننصرنكم) قسم تقديره: والله لننصرنكم يقول تعالى {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12].
فهنا يقول المؤمنون: أرأيتم -أيها اليهود- كيف حال هؤلاء المنافقين الذين فضحهم الله؟! إذاً: التفسير الأول: يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وامتناناً وغبطة بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص والنجاة من الريب والنفاق.
هذا القول الأول.
أو أن الذين آمنوا يعودون إلى اليهود ويقولون لهم: أرأيتم -أيها اليهود- هؤلاء المنافقين الذين كانوا يحلفون لكم إنهم لمعكم كيف خذلوكم وكيف أذلهم الله؟! فالتفسير الثاني أنهم يقولونه لليهود؛ لأنهم حلفوا لهم على المعاضدة والمناصرة، كما حكى الله عنهم قولهم: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11].
فيقول المؤمنون لهم: انظروا -أيها اليهود- أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! لقد تباعدوا عنكم.
فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود، فهذا هو المقصود بأن الله سبحانه وتعالى سيفضحهم، ويذلون على أيدي المؤمنين من جهة، وعلى أيدي أعداء الدين الذين والوهم من جهة أخرى.
وعلى ذلك إما أن يكون باقي الآية من تمام كلام المؤمنين وإما أنه من الله سبحانه وتعالى.
يقول تعالى: ((حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ)) في الدنيا إذ ظهر نفاقهم عند الكل، وفي الآخرة إذ لم يبق لهم ثواب؛ لأن الذي حبط عمله يأتي في الآخرة خاسراً لا خلاق له، ولا شيء في ميزان حسناته.
قال الزمخشري: هذه الجملة من قول المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس.
وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحبط عملهم! ما أخسرهم! أو أن قوله: (حبطت أعمالهم) من كلام الله شهادة لهم بحبوط الأعمال، وتعجيباً من س(43/6)
سبب نزول قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وما بعدها
أما سبب نزول هذه الآية الكريمة فهناك عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات، منها: ما وري عن السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث.
وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] إلى آخر الآية.
وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ما هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني: الذبح.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، فقد روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت -من بني الحارث بن الخزرج- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
فقال عبد الله بن أبي المنافق: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن أبي: يا أبا الحباب! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه.
قال: إذاً أقبل.
فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)) [المائدة:51]).
ثم روى ابن جرير عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر.
فقال مالك بن الصيف: غركم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا.
فقال عبادة بن الصامت -لما سمعهم يقولون هذا للمسلمين-: يا رسول الله! إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيراً سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله.
ولما حصلت الخيانة المعروفة من يهود بني قينقاع التي فعلوها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وتمكن منهم ونزلوا على حكمه قام عبد الله بن أبي ليناصر إخوانه اليهود لما تمكن منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا محمد! أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمد! أحسن في موالي.
قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني.
وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم غداة واحدة! إني امرؤ أخشى الدوائر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك).
وقال محمد بن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أحد بني عوف من الخزرج لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي - فخلعهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين) فالمسلم في أشد المواقف لا يتزحزح قيد شعرة عن موالاته لله ورسوله ولا ينتابه ضعف أو غير ذلك، أما أن ينحاز إلى أعداء الدين عسى أن يجد عندهم نصرة أو خيراً فله الذل والهوان.
وهذا في كل زمان وليس فيما مضى من الأزمان، لكن آية ذلك واضحة الآن في هذا الزمان، فقد كنا نسمع بين وقت وآخر تصريحات لـ ياسر عرفات ومن معه دائماً يقولون: أنتم لا تعرفون القدر الذي نتجرعه من الذل كل يوم، هذا ما صرح به عرفات في الأيام الأخيرة، يقول: أنتم لا تشعرون بالذل الذي نتجرعه من اليهود، مع أنه يريد منهم مقاصده، ومع ذلك انظر إلى الذل والهوان الذي يذوقونه في الدنيا قبل الآخرة.
والقضية هي في غاية الأهمية، والقلب إن كان فيه إيمان ويقين وتصديق بوعد الله وثقة في أمر الله عز وجل فلا يمكن أبداً أن يغتر بالظاهر، قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران:196 - 197].
فالذي يغتر بالظاهر يندم، وقد حكى الله سبحانه وتعالى ما حكاه عن أولئك الذين نظروا إلى قارون في زينته فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وبين تعالى كيف أنهم خدعوا بالظاهر وعرفوا ذلك أن هلك عدو الله قارون.
فالإنسان لا يغتر بالظاهر، فهذه المواقف هي مرآة تعكس ما في القلب، فإن كان في القلب شك ونفاق وريب في وعد الله وعدم ثقة في أن النصر والعاقبة للمتقين فصاحبه يسارع في أن يأخذ بالاحتياط.
أما الذي قلبه عامر بالإيمان، وبالثقة في وعد الله سبحانه وتعالى فإنه مهما كان الظاهر أن الدولة مع أعداء الدين لا يتغير ولا يتزحزح عن موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ويفخر لأنه ينتمي إلى حزب الله المصلحين.
يقول محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت: (ومشى عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين).
ولذلك كان هذا هو الشعار في غزوة أحد، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل اعل هبل أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه بقولهم: الله أعلى وأجل.
فغير الكفار الشعار فقالوا: (لنا العزى) وانظر إلى صاحب الباطل كيف يفخر بشركه ووثنيته، قالوا: (لنا العزى ولا عزى لكم) فكان
الجواب
( الله مولانا ولا مولى لكم)، فهل الذي يتولاه الله سبحانه وتعالى يضيع أو يهزم؟! فهم يعيرون المسلمين بأنهم ليس لهم صنم العزى الذي يعتقدون أنه ينصرهم ويعزهم، فماذا كان الجواب؟ قال: قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم.
فما هذه العزى؟! {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71].
قال: ففيه - عبادة بن الصامت - وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه الآيات.
وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنهاك عن حب يهود.
فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات) وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق.
فمعنى الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعامله بما يظهره من الإسلام، فدخل عليه ليعوده فقال: (لقد كنت أنهاك عن حب يهود) فقال عبد الله بن أبي: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات.
أي: هل بغض أسعد بن زرارة نفعه في دفع الموت عنه؟! فهذا معنى كلمة (فمات)، وعند الواقدي: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه.
يعني: مات ولم ينفعه هذا البغض.
والمقصود أنه ما منع عنه الموت بغضهم، يعني: لا يضر حبهم ولا ينفع بغضهم؛ لأنه لو نفع لما مات أسعد بن زرارة.
وهذا يعتبر من غبائه لأنه منافق مريض القلب، فهذا هو القدر المحدود من الفقه والفهم عنده، فهو ينظر إلى أن الضرر والنفع هو الموت أو الخلاص منه، يعني أن الشيء النافع هو الذي يحميك من الموت، والشيء الضار هو الذي لا ينفعك ولا يدفع عنك الموت، فهل هذا هو المقياس في النفع والضر؟ ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن أنت سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود(43/7)
الفوائد المستفادة من آيات النهي عن موالاة الكفار
هناك ثمرات لهذه الآية: أولاً: أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى، قال الحاكم: والمراد موالاتهم في الدين وجعل الزمخشري الموالاة في النصرة والمصافاة، وبين وجوب المجانبة للمخالف للدين.
ثانياً: أن من تولاهم فهو منهم، لا خلاف في أنه صار عاصياً لله عز وجل كما عصوه، لكن ما هو حد معصيته؟ اختلف في ذلك: قيل: معنى قوله: (فإنه منهم) أي: حكمه حكمهم في الكفر.
وهذا حيث يقرهم على دينهم، فكأنه قد رضي، فقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم) يعني: حباً في دينهم ورضاً عنهم، وإقراراً لهم على باطلهم فهو يصير كافراً مثلهم.
وقيل: من تولاهم عن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه منهم.
وقيل: المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه.
قال الحاكم: ودلالة الآية مجملة، فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين.
وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه: الأول: النهي (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وسائر الكفار لاحق بهم، فيدخل فيهم من طريق الأولى الشيوعيون، والمجوس عبدة النار، وعبدة البقر، وغير هؤلاء الأصناف من الكفار.
الثاني: قوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) والمعنى أن الموالاة من بعضهم لبعض بسبب اتحادهم في الكفر، وأنتم أعلى منهم، فلا يجوز لكم أن تتساووا معهم؛ لأنكم مرتفعون عليهم بالإيمان.
الثالث: قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتراءى ناراهما).
الرابع: ما أخبر الله به أنه لا يهديهم: (والله لا يهدي القوم الظالمين).
الخامس: وصفهم بالظلم، والمراد: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.
السادس: أنه تعالى أخبر أن الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض فقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض) يعني: شكاً ونفاقاً.
فهم الذين يقعون في الموالاة، وإلا فلا يمكن أبداً أن تجد في القلب العامر بالتوحيد وبحب الله ورسوله ميلاً أو موالاة لأعداء الله، ولذلك قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22] إلى آخر الآية الكريمة.
فمما لا يمكن أن يقع أبداً، أن يكون قلب فيه إيمان ثم يقع صاحبه في موالاة الكفار، بل لا يقع هذا إلا ممن يزعم الإسلام وفي قلبه مرض النفاق والشك والعياذ بالله! وأيضاً: أخبر الله عز وجل عن علة موالاة الموالين لهم -وهي: خشية الدوائر- فقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) فإذاً: علة الموالاة ليست بإذن وإباحة من الله سبحانه وتعالى، وإنما لعلة أخرى، وهي أنهم يخشون أن تصيبهم دائرة.
الثامن: قَطْعُ الله لما زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر، أي: أن الله سبحانه وتعالى أبطل عذرهم في قولهم: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أبطل هذه العلة بقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح) و (عسى) في حق الله تعالى واجبة الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك.
وقد كان أن فتح الله عز وجل مكة، وفتحت آفاق الأرض من أقصاها إلى أقصاها في عهد الخلافة الإسلامية.
التاسع: ما بشر الله تعالى به من إهانتهم بقوله عز وجل: (أو أمر من عنده) قيل: إذلال الشرك بالجزية.
وقيل: قتل بني قريظة وإجلاء بني النظير.
وقيل: أن يُوِّرث المسلمين أرضهم وديارهم.
العاشر: ما ذكره تعالى من الأمر الذي يئول إليه حالهم، وأنهم يصبحون نادمين على ما أصروا في أنفسهم، فهذه عاقبة الموالاة، فكل هذا من وجوه التنفير من هذه الموالاة؛ لأنهم غشوا المسلمين، ونصحوا للكافرين، وقيل: من نفاقهم.
وقيل: من معاقبتهم للكفار.
وذلك حين معاناتهم للعذاب، وقيل: في الدنيا نادمين بما صاروا فيه من الذلة والصغار.
الحادي عشر: ما ذكره تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله، وخبثهم في أيمانهم، في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [المائدة:53] إلى آخر الآية.
الثاني عشر: ما أخبر الله من حالهم بقوله: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) قيل: خسروا حظهم من موالاتهم.
وقيل: أهلكوا أنفسهم.
وقيل: خسروا ثواب الله عز وجل.(43/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد) أو (من يرتدد) قراءتان (من يرتد) بالإدغام أو (من يرتدد) بالفتح، ومعناه الردة، أي: يرجع إلى الكفر.
وهذا إخبار بما علم الله سبحانه وتعالى وقوعه، وقد ارتد جماعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
(فسوف يأتي الله بقوم) سوف يأتي الله بدلاً عنهم إن هم تركوا دينهم وارتدوا عنه (بقوم يحبهم ويحبونه) قال صلى الله عليه وسلم: (هم قوم هذا) وأشار إلى أبي موسى الأشعري رواه الحاكم في صحيحه.
(أذلة على المؤمنين) يعني: يعطفون على المؤمنين.
(أعزة على الكافرين) أي: أشداء على الكافرين.
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) يعني: يتلقون اللوم من الكفار على مناصرة المسلمين، أما المؤمنون إذا جاهدوا فإنهم لا يخافون أن يلومهم الكفار؛ لأنهم نصروا أهل التوحيد.
(ذلك) أي: ذلك المذكور من الأوصاف: (فضل الله).
(يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)، وقوله: (واسع) أي: كثير الفضل (عليم) بمن هو أهله.
فلما نهى تعالى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين؛ لأنه قال: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) يعني: يرتد عن دينه بموالاتهم وموافقتهم في عقائدهم، إلى قوله: (حبطت أعمالهم) شرع هنا في بيان حال المرتدين على الإطلاق، ونوه بقدرته العظيمة، فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لذلك منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً؛ لأن هذا المعنى لابد من أن نستحضره في أحلك الظروف التي نمر بها، وفي كل عصر من عصور الدعوة الإسلامية، فلابد من أن نستحضر مهما علت كلمة الكفر وعتى الكافرون في الأرض عتواً كبيراً قدرة الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل قادر على إهلاكهم بكلمة (كن).
فكل من على وجه الأرض من الجن والإنس يمكن أن يكونوا على أتقى قلب رجل واحد، والله قادر على ذلك، فبكلمة (كن) يكون كل العباد كالملائكة، أو كل قلوبهم تكون كقلب محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو أتقى قلب في البشر أجمعين.
فالله قادر على هذا، وقادر على أنه كلما جاء للمسلمين أحد يهاجم الإسلام أو يشتم الإسلام يحترق في الحال، ويمكن أن يحصل ذلك بين وقت وآخر، لكن هل هو قاعدة مطردة؟ لا، والملائكة تستطيع أن تمزق أعضاء الكافر، لكن الحياة إذا صارت على هذا المنوال ستلغى حكمة التكليف، والناس جميعهم سيكتشفون أن الإسلام هو دين الحق، لكن نحن في دار ابتلاء وامتحان، فنحن نتعبد بالبحث عن الحق والتحري عنه، ونتعبد بأن تزين صورة الباطل وتعلو كلمته أحياناً، ويضطهد المؤمنون أحياناً، ويصيب المسلم الفقر أو المرض أو نحو ذلك من البلاء؛ لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والنتيجة تظهر هناك، فلابد من أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر بكلمة (كن) المكونة من حرفين على أن يقلب كل هذه الأوضاع.
فهذا الظلم الذي يحصل للمسلمين في كل مكان من مجازر في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وغير ذلك، وهذا العلو الكبير في الأرض لأعداء الله اليهود الله سبحانه وتعالى قادر على أن يرفع ذلك ويبيد اليهود فلا يبقي منهم واحداً على ظهر الأرض، لكننا في دار الابتلاء كما قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أي: فناحسبكم.
فكل الذي نحن فيه الآن ابتلاء واختبار، كما قال عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] اختبار وابتلاء وامتحان.
فكذلك هنا يقول الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)) فالله غني عنكم أجمعين ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))، وانظر إلى العظمة! بدأ بقوله: (يحبهم) قبل (يحبونه)، وطبع الإنسان أنه يحب من أحسن إليه، فيحب العبد الله سبحانه وتعالى لاتصافه بالكمال والجمال والجلال، ونحبه -أيضاً- لما بسط من النعم التي أفاض بها علينا.
يقول تعالى: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) ومعنى الآية أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خيرٌ للدين منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133]، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20]، فليس ذلك بصعب ولا على قدرة ممتنع الله عز وجل.
وهذه الآية من الكائنات التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها في القرآن قبل أن تقع، فقد وقع المخبر به فكان معجزة، فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، منها ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الفرق هي: بنو مدلج، ورأسهم ذو الخمار الأسود العنسي، وبنو حنيفة قوم مسيلمة، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد، وفزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض تميم وكندة، وبنو بكر بن وائل، وغسان.
وهؤلاء وإن كانوا يوصفون بأنهم أهل ردة إلا أن كلمة الردة في تلك الفترة -فترة أبي بكر رضي الله عنه- كانت تطلق على طائفتين: طائفة أصحاب ردة حقيقية، وهم الذين ارتدوا عن الإسلام كـ مسيلمة الكذاب وغيره، وهؤلاء عدلوا إلى الكفر كما ذكرنا.
أما الصنف الآخر فهم الذين يطلق عليهم وصف الردة تغليباً، وليسوا مرتدين، وإنما هم بغاة، فهم: مسلمون لكنهم بغاة خرجوا بالقوة على الإمام الحق، وهم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة فأنكروا وجوبها، وقالوا: إن الزكاة تؤدى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] فإذا مات الرسول عليه الصلاة والسلام فلن نؤديها إلى الخليفة بعده.
وهذا وقع منهم بتأويل، فهؤلاء -على الحقيقة- هم أهل البغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصاً لدخولهم تحت اسم أهل ردة، وإن لم يكونوا في الحقيقة مرتدين؛ لأن الردة أعظم الأمرين وأخطرهما، وكذلك أطلق الاسم على هذه الحروب عموماً.
قوله تعالى: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))، صفة المحبة حينما تسند إلى الله سبحانه وتعالى تكون ثابتة له عز وجل بلا كيف وبلا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها، ونلاحظ في السيوطي دائماً أنه يفسر هذه المحبة بالإثابة، فيقول: (يحبهم) يعني: يثيبهم! والزمخشري أول هذه المحبة فقال: (يحبهم) أي: يثيبهم أحسن الثواب، بتعظيمهم، والثناء عليهم، والرضا عنهم.
وهذا تفسير باللازم، فهذا هو لازم المحبة، وليس هو المحبة؛ لأن الإثابة هي ثمرة ولازم المحبة، فإذا أحبهم الله أثابهم، فهذا منزع كلامي، وليس منزعاً سلفياً.
كذلك أيضاً أنكر الزمخشري كون محبة العباد لله حقيقية، قال: (يحبونه) يعني: يطيعونه ويطلبون مرضاته.
وهذا خلاف الظاهر، فمحبة العبد ممكنة، وهي واقعة من كل مؤمن، وهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، فليست المحبة معناها الطاعة؛ فإذا العبد أحب الله فالطاعة لازم وثمرة هذه المحبة، فلنثبت محبة العبد لله، ولا داعي للتأويل الذي يذكره هؤلاء، ألا ترى إلى حديث الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت).
فالحديث يفهم منه أن المحبة غير الأعمال، فلا يصح تفسير (يحبونه) بمعنى: يعملون الأعمال الصالحة.
فهم يحبونه، ومن ثمرة المحبة أنهم يطيعونه ويعملون له الأعمال الصالحة، وهناك الحديث المشهور: (إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه.
فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه.
ثم يوضع له القبول في الأرض).
وهذا كله يفسد هذا التأويل الكلامي.
يقول تعالى: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) هذه صفة المؤمنين الكمل، وهي أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
قال عز وجل هنا أيضاً: ((وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) فهذه الآية تدل على أنهم يجاهدون في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، فإذا شرعوا في أمر من أمور الدين كإنكار منكر أو أمر بمعروف مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم.
واللومة هي المرة من اللوم، وفيه مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام.
وقيل: قوة التمسك بالحق جعله(43/9)
تفسير قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)
ولما نهى عن موالاة اليهود والنصارى أشار إلى من يتعين علينا موالاته، فإذ كان يحرم علينا ولا يليق بنا إذا كنا مؤمنين أن نوالي اليهود والنصارى فمن الذين يجب أن نواليهم؟ بين تعالى ذلك بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ)) يعني: الذي يفيض عليكم كل خير (ورسوله) الذي هو واسطة الخير، فكل الخير الذي أتانا بهذا الإسلام من الذي كان واسطة بين الحق وبين الخلق فيه؟ إنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك فهو أحق بأن نتولاه صلى الله عليه وسلم ونعتز بدينه.
قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) الذين هم المعينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم؛ لأنهم ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)) التي هي أجمع للعبادة البدنية ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) لأن الزكاة تقطع حب المال الذي يجلب الشهوات.
((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) حال من الفعلين، يعني: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله، ومتذللون غير معجبين، فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يعليهم بالعون في موالاة الله ورسوله.(43/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا)
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] يعني: من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، فيعينهم وينصرهم، فإن حزب الله هم الغالبون في العاقبة على أعداء الله عز وجل.
كما قال عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وهم ممن ينجو أخيراً، والعاقبة للتقوى.
فمهما دارت الدوائر فلا بد في النهاية من أن تعود العاقبة إلى أهل التقوى، كما قال الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137].
وأفرد الله عز وجل هنا الولي بقوله: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا))، ولم يقل عز وجل: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا) فلم يجمع مع أن الولي متعدد، ففيه إيذان بأن الولاية لله أصل، ولغيره تبع لولايته عز وجل، فالولاية أصلاً تكون لله، ثم تبعاً لولاية الله تحب كل من يوالي الله، ومن أعظم الخلق موالاة لله؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك المؤمنون من هذه الأمة، وترتيب الولاية على الأنبياء والرسل، ثم الأولياء، وأعظم الأولياء على الإطلاق هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أشرف البشر بعد الأنبياء، وهم أوفر الناس حظاً من موالاة الله عز وجل.
فلم يجمع لفظ (الولي) مع أنه متعدد للإيذان بأن الولاية لله أصل ولغيره تبع لولايته عز وجل، فالتقدير: إنما وليكم الله، وكذلك رسوله والذين آمنوا.
هذا معنى الآية.
وثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار، قال ابن كثير: فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة -وهي قوله تعالى: ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) - في موضع الحال من قوله: ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) أي: في حال ركوعهم.
وهذا التنبيه مهم في الحقيقة، وهو أنه يشيع الاستدلال بما في هذه الآية في فضائل علي بن أبي طالب، والشيعة -خاصة- يلهجون بأن هذه الآية فيها مدح لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، إذ يفهم بعض الناس أن معناها: يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة في حال الركوع.
ويزعمون أن علياً أعطى الزكاة لفقير وهو في حالة الركوع، فالجملة على هذا الزعم جملة حالية، والصحيح أنها معطوفة على الصفة السابقة، فيكون المعنى: يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويركعون لله مع الراكعين، وربما تكون إشارة إلى الصلاة في الجماعة، وهذا موضوع آخر.
يقول ابن كثير: فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة -أي قوله تعالى: ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) - في موضع الحال، من قوله: ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ))، أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح.
أي: ما دام أن هذا الكلام صحيح فالآية مدحت من يفعل هذا، وبينت أن من يؤدي الزكاة وهو راكع أفضل ممن يؤديها خارج الصلاة.
وإذا كان الإنسان يريد هذا الثواب فليتفق مع الفقير فيقول له: تعال وأنا في الركوع لأعطيك الزكاة حتى يكون لي الثواب الأعظم.
يقول ابن كثير: ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى.
حتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه، ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق وابن مردويه، ثم قال: وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها.
وقد اقتص ذلك الخطابي في حواشي البيضاوي عن الحاكم وغيره بطول، ثم أنشد أبياتاً لـ حسان بن ثابت فيها، ولوائح الضعف -بل الوضع- لا تخفى فيها، لا سيما ونص حسان بن ثابت العريق في العربية بعيد مما نسب إليه، وأي حاجة بالتنويه لفضل علي عليه السلام بمثل هذه الواهيات، وفضله أشهر من ذلك.
أي: هل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحتاج -حينما نتكلم عن فضائله- إلى أن نختلق هذه الأكاذيب، وفضائل أمير المؤمنين في القرآن وفي السنة أشهر من أن تذكر رضي الله تعالى عنه.
قال البغوي: روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)): من هم؟ فقال: المؤمنون.
فقلت: إن أناساً يقولون: هو علي! فقال: علي من الذين آمنوا.
قال ابن كثير: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآية كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين.
والرازي توسع هنا جداً في مناقشة الشيعة في هذه القضية، ومن أراد التوسع فليرجع إلى تفسير ابن كثير.(43/11)
تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا)
ثم يقول تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] يعني: فإنهم هم الغالبون، لكن أبرز كلمة (حزب الله) ولم يقل (فإنهم هم الغالبون)، وهذا فيه دلالة على علة الغلبة للمؤمنين، فكأنه قال: ومن يتول هؤلاء الذين هم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون.
فذكر هذا تنويهاً بذكرهم وتعظيماً لشأنهم وتشريفاً لهم بهذا الاسم، وتعريضاً لمن يوالي هؤلاء بأنه من حزب الشيطان، بل بصورة أخرى من أحزاب الشياطين؛ لأن الباطل يتلون ويختلف ولا ينحصر، فالباطل كثير جداً ويتعدد؛ لأنه باطل، أما الحق فإنه واحد، ولذلك نجد القرآن دائماً يذكر النور والظلمات، فالنور مفرد، والظلمات جمع، فالباطل لا يكاد ينحصر، أما الحق فهو واحد لا يتعدد أبداً، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] فالمسلم يفخر ويعتز بأنه ينتمي إلى حزب الله.
وهنا ينبغي التنبيه على أن لا نستعمل الاصطلاحات التي تستعمل الآن في التجمعات التي تنتسب إلى الإسلام كحزب الله الشيعي في لبنان وغيره، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] فكل ما في العالم من أحزاب مرده إلى ضربين: حزب الله وحزب الشيطان، والغلبة ستكون لحزب الله، كما قال تعالى: ((فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)).
أما أحزاب الشيطان فكل من لم يرفع راية الاعتزاز بالله وبرسوله وبالإسلام وبموالاة المؤمنين فمهما ادعى فهو من حزب الشيطان، فكل الأحزاب السياسية بلا استثناء -ما دامت لا ترفع راية التوحيد ولا تعتز بانتمائها إلى الإسلام، ولا توحد ولايتها لله ورسوله- تندرج تحت حزب واحد، وهو حزب الشيطان، والمؤمن يفخر ويعتز ويتحدى العالم أجمع بشهادة التوحيد، وبانتمائه إلى هذا الحزب الغالب: حزب الله ورسوله والمؤمنون، وهذه هي العزة التي وصف الله تعالى بها المؤمنين بقوله: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)).
وكأن هذا الموضوع -موضوع الأحزاب- أصبح شيئاً مسلماً به، ودائماً نسمع من بعض الناس ممن يعمل في حقل الدعوة الإسلامية في الوقت الأخير قوله: تجوز التعددية الحزبية؟! وهل تقام الأحزاب على أساس ديني؟! هو إن المعادلة هنا أن الاثني عشر إذا نقص منها واحد فإنها تساوي صفراً، ولا يكون الناتج أحد عشر، فكل الأحزاب بدون الإسلام ليس لها قيمة، وأحزاب بغير دين الله تعالى كلها تساوي صفراً؛ لأنها ترفع شعار: نحن لا نقيم الحزب على أساس ديني؛ فإن الدين عار.
فلذلك مهما كثرت أعدادها فكل هذه الأحزاب تساوي صفراً، بل تساوي الهلكة والخسران في الدنيا والآخرة والبوار.
قال تعالى: ((فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ))، فالحزب أصله يطلق على القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم، وقيل: الحزب جماعة فيها شدة.
فهو أخف من الجماعة والقوم.
ونحن اليوم نعيش في جو كله سموم، وكل أحد اليوم يتكلم عن تلوث الهواء والمياه بالمجاري وبالغازات، وما أحد يتكلم عن التلوث العقدي، التلوث في المفاهيم والقيم الذي هو أشد خطورة، فنحن كلنا نتنفس من نفس الجو، أما التسمم بالغاز أو أكسيد الكربون فإنه يحصل عندما تجلس الأسرة في غرفة في الريف -مثلاً- وتدخن الفحم في مأكول، فيحصل تسمم من غير شعور، وفي الأخير يموتون، نتيجة استهلاك الغاز في الحرق أو أكسيد الكربون.
ولو أن شخصاً جاء في وقت تعاطي هذه الجرعة قبل أن يهلكوا ففتح النافذة وأدخل الهواء النقي فإنهم حينئذ يفيقون ويحسون بالفارق بين الهواء المسموم الذي سيقتلهم وبين هذا الهواء النظيف الذي أتي من النافذة التي فتحت وجلبت لهم الهواء النظيف الذي يعمل على غسل للرئة والقلب.
فكذلك الإنسان لابد من أن يرتبط بالقرآن الكريم، فالقرآن يأخذ أولاً بأول سموم البيئة التي نعيش فيها، والتي ننغمس فيها حتى النخاع، ولا شك في أننا سنتأثر بهذه البيئة شئنا أم أبينا، وبهذه المفاهيم التي تواطأ عليها من خفت عقولهم في هذا الزمان، والأمر صريح صراحة قاطعة، ومع ذلك الناس في شك وريبة، وفي انحراف عن هذا الحق، فخفت عقولهم، وكانوا هكذا كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فالوسيلة الوحيدة هي استعمال الغسيل للقلب باستمرار، وتنظيف عقلك من الأفكار الهدامة، فإذا زال الباطل ارتبط القلب بالقرآن، فبآية واحدة من القرآن الكريم تبطل كل هذه المقاييس التي ينفق من أجل نشرها ملايين الجنيهات والدولارات، من أجل تمثيل الباطل وتشويش عقيدة الناس، فآية واحدة من القرآن تهد كل ما يبذلونه حتى يصير هباء منثوراً.
ومن أمثلة ذلك موضوع تعدد الزوجات، فمهما تكملنا، ومهما أفسد المفسدون وتطاولوا فهي آية واحدة، والمسلم العادي بإيمانه الفطري إذا سمع القرآن يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] تجد كل ذلك الكلام عنده ينهد.
وقد كان ميثاق عبد الناصر يوزع مجاناً على المدارس وعلى الطلبة والمدرسين، وكنا نحسب نصوصه كنصوص القرآن، وأي موضع إنشاء لا بد من تحليته بآية شيطانية من الميثاق.
والآن انتهت تلك النسخ، وما أصبحت تنافس، أرادوا أن يصدوا به الناس عن القرآن فتناسوه، وما صار له أي ذكر؛ لأنه لا يربي بإيمان، والباقي هو كلمة الله عز وجل، وهو هذا القرآن، ولا يمكن أبداً أن ينال منه أحد، فقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فالوصية التي نتواصى بها -وهي المخرج الأول لنا من كل ما نعيشه من الفتن الآن- هي الاعتصام بكتاب الله سبحانه وتعالى، فالقلب فيه منافذ معينة، فإذا كنت تغذي قلبك بالقرآن، فتلك الأفكار تموت فيه أو تمرض، إذاً فلنكرر هذا مراراً، وإذا كنا نتعارف على ما يسمى بالوحدة الوطنية، والمساواة بين المسلم والكافر، وغير ذلك من هذه المعاني المسمومة، فأين تكون هذه المعاني إذا وضعت بجوار هذه الآيات؟ لا شك في أن آية واحدة من القرآن تتلف كل هذا الكلام، وتذهب به إلى الموضع اللائق به، فلذلك علينا أن نتواصى دائماً بعلاج القلب بالقرآن الكريم، إذ القرآن يقوم المفاهيم باستمرار، ويذهب أثر هذه السموم.(43/12)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً)
يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57].
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم، فإن كنتم مؤمنين فعظموا دينكم، ومن علامة التعظيم أن لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً أولياء، فكيف توالون الذين يسخرون من دينكم ويهزءون ويسبون نبيكم ويطعنون في دينكم؟! فإن كنتم مؤمنين فعظموا دينكم، فمقتضى إيمانكم أن تحفظوا هذا التعظيم للدين.
وانظر إلى كلمة (دينكم) بالإضافة، أي: الذي به انتظام معاشكم ومعادكم، وهو مناط سعادتكم الأبدية، وسبب قربكم من ربكم.
وتأمل كلمة (دينكم)، فأنت من غير هذا الدين لا تساوي شيئاً، وكل وزنك وقدرك عند الله عز وجل ناشئ عن تشرفك واعتزازك بانتسابك لهذا الدين، فالله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً))، أي: هؤلاء الذين يشتمون دينكم الذي هو سبب عزكم وشرفكم.
وقوله: ((هُزُوًا)) أي: شيئاً مستخفاً ((وَلَعِبًا)) سخرية وضحكاً، ومبالغة في الاستخفاف به، حتى لعبوا بعقول أهله، ثم بين المستهزئين وفصل أمرهم، فمن هم هؤلاء الذين يتخذون ديننا هزواً ولعباً؟ قال تعالى: ((مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: اليهود والنصارى ((وَالْكُفَّارَ)) قرئ بالنصب والجر، ويعني بذلك المشركين، ولذلك كانت قراءة ابن مسعود: (ومن الذين أشركوا).
((أَوْلِيَاءَ)) في العون والنصرة، وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين (هزواً ولعباً) تنبيهاً على العلة، وإيذاناً بأن من هذا شأنه جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة، فكيف بالموالاة؟! إنه يستحق أن تبغضه؛ لأنه يسخر من دينك، وأن تبتعد عنه، وأن تجانبه، وأن تنبذه، فكيف تتخذه ولياً وحميماً وصديقاً؟! قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) يعني: بترك موالاتهم ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) حقاً؛ فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة.(43/13)
تفسير قوله تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً)
ثم بين استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين، وذلك بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم، فقال عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58].
قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)) يعني: إذا دعوتم إليها بالأذان.
فالأذان ثابتة مشروعيته في القرآن، والدليل هذه الآية: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ))، والصلاة ينادي لها بالأذان.
((اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) وهذا الأمر كان يصدر فيما مضى من الكفار أو اليهود أو النصارى أو المشركين، أما الآن فترى من ينتسبون زوراً إلى الإسلام يسخرون من الصلاة، ويسخرون ممن يصلون، بعبارات الاستهزاء والاستخفاف بالدين ممن ينتسبون زوراً إلى دين الله عز وجل.
فقوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)) يعني: دعوتم إليها بالأذان (اتخذوها) يعني: اتخذوا الصلاة أو المناداة ((هُزُوًا وَلَعِبًا)) بأن يستهزئوا بها (ذَلِكَ) أي: ذلك الاتخاذ (بِأَنَّهُمْ) يعني: بسبب أنهم ((قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) أي: لا يعقلون معاني عبادة الله، فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والدين، فالذي ليس عنده عقل يدرك به عظمة هذه العبادة العظيمة يسخر منها ويضحك، ولو كان لهم عقول في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة، فإن الصلاة أكمل القربات، وفي النداء -الأذان- معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته، وباعتبار عدد المغايرة في أسمائه وصفاته، ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد، وفي الصلاة من حيث هي الصلة ما بين العبد وبين الله، ومن حيث إفادتها معاني الدرجات والفلاح في الظاهر والباطن، وما هو غاية مقصدهم من القرب من الله باعتبار عظمته سبحانه، ومن الوصول إلى التوحيد الحقيقي.
قال السدي في قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حرق الكاذب! والعياذ بالله.
يعني: حينما يأتي ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: حرق الكاذب.
فيدعو بالإحراق -والعياذ بالله- على الكاذب، يعني بذلك محمداً عليه الصلاة والسلام، والعياذ بالله! قال: فدخل خادمه ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
فاستجيبت دعوته؛ لأنه كان يدعو بأن يحرق الكاذب، وقد أحرقه الله؛ لأنه هو الكاذب.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال: عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه.
فـ عتاب يتكلم عن والده بأن إن الله أكرمه بأنه لم يكن موجوداً بحيث يسمع هذا الأذان الذي يؤذيهم، فربما يسمع منه ما يغيظه.
فقال الحارث بن هشام: والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: وأنا لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.
يقصد أن الوحي يبلغه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد علمتُ الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال لكل منهم: لقد قلت كذا، فقال: الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.
فلم يبق إلا أن الله هو الذي أخبره عن طريق الوحي.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن المحيريب - ابن المحيريب وكان يتيماً في حجر أبي محذورة - قال: قلت لـ أبي محذورة: يا عم! إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك.
وقد كان أذان أبي محذورة مشهوراً، فهو يقول: قد يسألني الناس في الشام -بعد ما شاع الإسلام وانتشر- عن صفة تأذين أبي محذورة.
قال: فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم، خرجت في نفر، فكنا ببعض طريق حنين، فقفل -أي: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين- فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكرون، فصرخنا نحكي ونستهزئ به -يعني: كانوا يرددون الأذان سخرية- فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، فصدقوا، فأرسلهم وحبسني، فقال: قم فأذن.
فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به، فخضت بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فألقى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين بنفسه، فقال: (قل: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله.
ثم قال لي: ارجع فامدد من صوتك، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمرَّها على وجهه مرتين، ثم مرتين على يديه، ثم على ثديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك وبارك عليك.
فقلت: يا رسول الله! أمرني بالتأذين بمكة.
فقال: قد أمرتك به.
فقال أبو محذورة: وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذه الآية دلت على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، والمقصود هنا في أمر الدين، حيث يقول: تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:57 - 58].
وللأسف أنه في هذا الزمن سمعنا عمن يسخر من الأذان، وأذكر أن الدكتور: عبد الله عزام رحمه الله تعالى كان يحكي عن أيام المنظمات الفلسطينية أنه كان في معسكرات التدريب يقوم هو والشباب معه إذا حضر وقت الصلاة بالتأذين، فكان يأتي الفلسطينيون الملاحدة الشيوعيون، ويصفون صفاً أمامه، ويسخرون منه وهو يؤذن، ويرفعون صوتهم حتى يغلبوا صوت الأذان ويشوشوا عليه، وينشدون: إن تسل عني فهذه قيمي أنا ماركسي ليني أممي أي: إذا كنت ترفع الصوت بالأذان فهذا هو أذاننا!! وقد دلت هذه الآيات -أيضاً- على أن الاستهزاء بالدين كفر، لقوله تعالى: ((الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ))، فهذا يدل على أن أي فعل من المسلم يصدر منه من كونه يستهزئ بالدين، أو يسخر من الدين أو من أي شيء يمت إلى الدين بصلة فهو كفر وخروج عن ملة الإسلام، وأن الهزل فيه كالجد، سواءٌ أكان استخفافاً بالله، أم برسوله عليه الصلاة والسلام، أم بالملائكة، أم بنبي من الأنبياء، أم بكتاب من الكتب، وكذلك السخرية من حكم شرعي، أو التشنيع على حكم شرعي كأن يقال: هذه وحشية، وهذه قسوة.
أو غير ذلك، فالسخرية بأي حكم من أحكام الدين خروج من ملة الإسلام، وهذا لا يعذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يجهل أحد تعظيم الله عز وجل، فهل يوجد أحد يجهل أن الله يعظم؟! بل اليهود يعظمون الله، والنصارى يعتقدون تعظيم الله، والمسلمون كذلك، فلا يقبل بحال من شخص جهله بأن الله يجب تعظيمه، فإذا سخر من الله، أو سخر من الدين، أو سخر من الإسلام، أو من حكم شرعي فمثل هذا لا يعذر فيه بالجهل، بل يحكم بكفره، والهزل فيه كالجد، كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، يقول في الإكليل: الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة.
وقد دلت الآية -كما سبق ذكره- على أن للصلاة نداءً، وهو الأذان، فهي أصل فيه، قال الزمخشري: قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده.
ولما نهى تعالى عن تولي المستهزئين أمر بأن يخاطبوا بأن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويظهر لهم سبب ما ارتكبوا، ويلقبوا الحذر، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَ(43/14)
تفسير سورة المائدة [67 - 81](44/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)
يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67].
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي: جميع ما أنزل إليك من ربك، ولا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه، يعني: لا تكتم بقصد أن تنجو من المكروه الذي ينالك به خصومك، (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك (فما بلغت رسالته) بالإفراد والجمع، يعني: فما بلغت رسالته، أو فما بلغت رسالاته؛ لأن كتمان بعضها ككتمان كلها.
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أن يقتلوك.
وكان صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس! انصرفوا، فقد عصمني الله)، رواه الحاكم والترمذي والبيهقي في الدلائل وغيرهم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء والمرسلين.
فإن الأنبياء عامتهم قد ناداهم الله تعالى بأسمائهم، فقال (يا نوح) (يا آدم) (يا عيسى ابن مريم) (يا موسى) (يا داود).
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يناد باسمه قط في القرآن الكريم، وإنما نودي بصفاته، كما في قوله تعالى هنا: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ))، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، وهكذا {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، ولم يأت في القرآن قط (يا محمد) فهذا نداء له عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ.
يعني: ما دمت رسولاً فيجب عليك أن تبلغ الرسالة التي كلفت بأن تبلغها.
وقوله تعالى: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني: مما يفصل مساوئ الكفار، ومن قتالهم، والدعوة إلى الإسلام، غير مراقب في التبليغ أحداً، ولا خائف أن ينالك مكروه (وإن لم تفعل) أي: ما تؤمر به من تبليغ الجميع والبيان لبعض مساوئهم (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) يعني: كأنك ما بلغت شيئاً مما أرسلت به؛ لأن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإن لم تبلغ أو لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعها، وكما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها فكذلك إن كتم الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً يسيراً من الرسالة فكأنه كتمها كلها.
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) هذا وعد من الله سبحانه وتعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة، وهذا باعث له على الجد فيما أمر به من التبليغ، وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) هذا التذييل في الآية مسوق مساق التعليل لعصمته، يعني: إن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس أن ينالوك بمكروه؛ لأن الله لا يهدي القوم الكافرين.
أي أن الله سبحانه وتعالى لا يهديهم إلى طريق الإساءة إليك، فلن يهديهم إلى الطريق التي يسوءونك بها، فما عذرك في مراقبتهم والله سبحانه وتعالى سوف يضلهم ويثنيهم ويبعدهم عن أن ينالوك بسوء، فلن يهديهم إلى ما يسوؤك؟! فلا تراقبهم في تبليغ الرسالة.(44/2)
الأدلة الواردة في بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام
هنا بعض التنبيهات: أولها: أنه لا خفاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام، وقام به أتم القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضراء وهو مكروب محروب، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهز الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإتقانه في الأعداء محذوراً، وبالرعب منه منصوراً، حتى أصبح سراج الدين وهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لـ مسروق: (من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)).
وفي الصحيحين عنها -أيضاً- أنها قالت: (لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]).
وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحب وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) يعني أن هذه كانت مدونة ومكتوبة، وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحواً من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال في خطبته يومئذ في حجة الوداع: (يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟، وذلك كما قال تعالى:)، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فهذه الأمة سوف تسأل: هل أبلغكم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فجعل يرفع يده إلى السماء وينكسها إليهم، ويقول: اللهم! هل بلغت؟).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (يا أيها الناس! أي يوم هذا؟! قالوا: يوم حرام.
قال: أي بلد هذا؟! قالوا: بلد حرام.
قال: فأي شهر هذا؟! قالوا: شهر حرام.
قال: فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا.
ثم أعادها مراراً، ثم رفع إصبعيه إلى السماء، فقال: اللهم! هل بلغت؟ مراراً) قال ابن عباس: والله إنها لوصية إلى ربه عز وجل.
ثم قال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا رواه البخاري.
وقد تضمن قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) معجزة كبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الآية الشريفة هي من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال الإمام الماوردي في كتابه (أعلام النبوة) في الباب الثامن في معجزة عصمته صلى الله عليه وسلم، قال: أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن، واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار، يحتج بها من قلت فطنته، ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مدركاً بالخواطر الثاقبة تفكراً واستدلالاً، وإعجاز العيان معلوماً ببداية الحواس احتياطاً واستظهاراً.
يعني أن القرآن الكريم نَوَّع طرق الدلالة على إعجازه، وذلك لاختلاف فهوم الناس ومستوياتهم العلمية والفكرية، وقدراتهم العقلية، فبعض الناس عندهم من القدرات العقلية والثقافة العقلية ما يمكنهم من التدبر في آيات القرآن والتفهم، بحيث يدركون أنه لا يمكن أن يكون له مصدر إلا الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يخاطبون بأمور أخرى هي -أيضاً- تدل على الإعجاز، لكن بطريقة يدركها الذي تضعف فطنته وقدرته، كهذا الوعد بأن الله سبحانه وتعالى يحفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من أن يقتله أحد بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)، فهذه الآية يستوي الجميع في فهمها، بخلاف ما تحتوي عليه من الدلالات على إعجاز القرآن مما يستعصي على عوام الناس أو صفار العقول، ولا يدركه إلا ذوو الفطنة والذكاء العالي.
فيقول هنا: فيكون البليد مقهوراً بوهمه وعيه، واللبيب محجوزاً بفهمه وبيانه؛ لأن لكل فريق من الناس طريقاً هي عليهم أقرب ولهم أجذب، فكان ما جمع مقياد الفرق أوضح سبيلاً وأعم دليلاً، فمن معجزاته عصمته من أعدائه، مع أن هؤلاء الأعداء كانوا جماً غفيراً وعدداً كثيراً، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلباً لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شذراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً.
يعني أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام كان في حالة خطيرة، وأعداء كثيرون جداً محيطون به من كل جانب، والعداوة أشد ما تكون في قلوبهم، ونار الغيظ والحقد والحرص على إيذائه على أشد ما تكون، وهو مع ذلك بينهم مسترسل متحرك يروح ويجيء ويبلغهم، وأصحابه من شدة الاضطهاد الذي تعرضوا له هاجروا، وبقي هو فيهم عليه الصلاة والسلام مع نفر من أصحابه حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً لم يكلم في نفس ولا جسد صلى الله عليه وسلم، وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) فعصمه منهم.(44/3)
قصص من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيان عصمة الله له وحفظه
والمفسرون في هذا الموضع يذكرون قصصاً كثيرة جداً، كلها تؤكد هذا المعنى، ونقتصر على بعض منها:(44/4)
محاولة أبي جهل قتل النبي صلى الله عليه وسلم
قال الماوردي: إن قريشاً اجتمعت في دار الندوة، وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة وكان زعيم القوم، وساعده عبد الله بن الزبعرى، وكان شاعر القوم، فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: الموت خير لكم من الحياة.
فقال بعضهم: كيف نصنع؟ فقال أبو جهل: هل محمد إلا رجل واحد؟! وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش؟! فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمداً ويريح قومه.
وأطرق ملياً، فقالوا: من فعل هذا ساد.
فقال أبو جهل: ما محمد بأقوى من رجل منا، وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر، فإن قتلت أرحت قومي، وإن بقيت فذاك الذي أوثر.
فخرجوا على ذلك، فلما اجتمعوا في الحطيم -والحطيم هو المثلث المتصل بين الركن اليماني- الذي فيه الحجر الأسود -وبئر زمزم ومقام إبراهيم عليه السلام، وسمي الحطيم لأن من حلف فيه كاذباً فإن الله يحطمه ويهلكه -فلما اجتمعوا في الحطيم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد جاء.
فتقدم من الركن، فقام يصلي عليه الصلاة والسلام، فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود، فقال أبو جهل: فإني أقوم فأريحكم منه.
فأخذ مهراساً عظيماً، ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، لا يلتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يهابه وهو يراه، فاقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول يراه، ومع ذلك لم يلتفت إليه، وظل في صلاته، فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله، أي: لما اقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام ارتعش الكافر وسقط الحجر من بين يديه على رجله، فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد، وقد انتفخت أوداجه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم.
فالتزموه، وقد غشي عليه ساعة، فلما أفاق قال له أصحابه: ما الذي أصابك؟ قال: لما دنوت منه أقبل عليّ من رأسه فحل فاغر فاه، فحمل عليّ أسنانه فلم أتمالك، وإني أرى محمداً محجوباً.
فقال له بعض أصحابه: يا أبا الحكم! رغبت وأحببت الحياة ورجعت.
يعني: أنت تحتج وتقول: إنه ظهر لك هذا الفحل فاغراً فاه، وحمل عليك بأسنانه، وإنما أحببت الحياة ورجعت خوفاً من أن تموت.
فقال: ما تغروني عن نفسي.
قال النضر بن الحارث: فإن رجع غداً فأنا له.
قالوا له: يا أبا سهل! لئن فعلت هذا لتفوزن.
فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه، فأخذ حفنة من تراب وقال: (شاهت الوجوه.
وقال: حم لا ينصرون) فتفرقوا عنه، يقول: وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى، فصبر عليه حتى وفاه الله، وكان من أقوى الشهادات على صدقه.
وحصل نفس الموقف مع معمر بن يزيد وكلدة بن أسد، كما ذكر المفسرون.(44/5)
محاولة كلدة بن أسد قتل النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر أن كلدة بن أسد -وكان من القوة بمكان- خاطر قريشاً يوماً في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال، فجاء كلدة ومعه المزراق، فرجع المزراق في صدره، فرجع فزعاً، فقالت له قريش: مالك يا أبا الأشد؟ فقال: ويحكم! ما ترون الفحل خلفي؟! قالوا: ما نرى شيئاً.
قال: ويحكم! فإني أراه.
فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف، والطائف بينها وبين مكة خمسون كيلو متر تقريباً.
ومعروف أن الطائف على هضبة مرتفعة، فصعد الجبل أيضاً، فاستهزأت به ثقيف، فقال: أنا أعذركم، فلو رأيتم ما رأيت لهلكتم.(44/6)
محاولة أبي لهب قتل النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر أن أبا لهب خرج يوماً وقد اجتمعت قريش، فقالوا له: يا أبا عتبة! إنك سيدنا، وأنت أولى بمحمد منا، وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه، ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئاً، وأنت بريء من دمه، سنؤدي نحن الدية وتسود قومك، فقال: فإني أكفيكم.
ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم، فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفاً عليه نزل أبو لهب وهو يصلي، وتسلقت امرأته أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه، وبقيا مكانهما لا ينقلان قدماً ولا يقدران على فعل شيء حتى طلع الصبح، فتسمرا في مكانهما هو وامرأته، ولم يستطيعا حراكاً إلى أن طلع الصبح وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو لهب: يا محمد! أطلق عنا.
فقال: ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني؟ قالا: قد فعلنا.
فدعا ربه فرجعا.(44/7)
مساومة عتبة بن ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم على ترك دينه
وذكر أن قريشاً اجتمعوا في الحطيم، فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال: إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا، وفرق جماعتنا، وبدد شملنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا.
وكان في القوم وليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، والنضر بن الحارث، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأمية، وأبي ابنا خلف، في جماعة من صناديد قريش، فقالوا له: قل ما شئت فإنا نطيعك.
قال: سأقوم فأكلمه، فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه وإلا رأينا فيه رأينا.
فقالوا له: شأنك يا أبا عبد شمس! فقام وتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده، فقال: أنعم صباحاً يا محمد.
فقال: يا أبا عبد شمس! إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة.
قال: يا ابن أخي! إني قد جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها، ولنا فيها الفسحة، ثم قال: يا ابن عبد المطلب! أنا زعيم قريش فيما قالت.
قال: قل.
قال: يا ابن عبد المطلب! إنك دعوت العرب إلى أمر لا يعرفونه، فاقبل مني ما أقول لك، قال: قل.
قال: إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكاً فإننا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك، فارض عن ذلك.
فسكت، ثم قال: وإن كان ما تدعو إليه أمراً تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك.
فقال: (لا قوة إلا بالله)، ثم قال له: وإن كان ما تتكلم به تريد مالاً أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش، فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا، وإن كان ما تدعو إليه جنوناً داويناك كما داوت قيس بني ثعلبة مجنونهم.
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! ما تقول؟ وبم أرجع إلى قريش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ({حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] حتى بلغ إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13])، قال عتبة: فلما تكلم بهذا الكلام فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من ارتعادها.
وقام فزعاً يجر رداءه، فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور، وقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقالت قريش: لقد ذهبت من عندنا نشيطاً ورجعت فزعاً مرعوباً، فما وراءك؟! قال: ويحكم! دعوني، إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئاً، ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي، وقلت: الصاعقة قد أخذتني.
فندموا على ذلك.(44/8)
قصة سراقة في طريق الهجرة
كذلك من عصمته صلى الله عليه وسلم ما حصل في طريق الهجرة حين دخل هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه غار ثور.
وكذلك ما حصل حينما لقيهما سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فقال له أبو بكر: هذا سراقة قد قرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اكفنا سراقة)، فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فقال سراقة: يا محمد! ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أرد من جاء يطلبك، ولا أعين عليك أبداً.
فقال: (اللهم إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه) فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه.
ومعلوم أنه -كما في بعض الروايات- حينما حصل ذلك لـ سراقة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سراقة! كيف لك بسواري كسرى؟!).
فاستغرب سراقة جداً، فكيف وهو يطارده الآن ويريد أن يقبل عليه حتى ينال الجائزة يعده الرسول عليه الصلاة والسلام بسواري كسرى؟! وعندما أسلم سراقة بعد ذلك خرج في الفتوحات الإسلامية في فارس، وكان في الجيش الذي استولى على قصور كسرى، وأتي عمر رضي الله تعالى عنه بسواري كسرى، ثم ألبسها سراقة في يده، وحينئذ تذكر سراقة هذا الوعد الذي وعده النبي صلى الله عليه وسلم.(44/9)
المشرك يخترط سيف رسول الله فيمنعه الله منه
يقول الحافظ ابن كثير: ومن عصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضاء، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيساً كبيراً مطاعاً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار، فبايعوه على الإسلام وعلى أن يحتمل إلى دارهم، وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، كل ما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه منهم، ولهذا قصص كثيرة يطول ذكرها.
منها: ما رواه ابن جرير بسنده: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: الله عز وجل.
فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماؤه، فأنزل الله عز وجل: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)).
وفي قصة أخرى: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس على رأس بئر قد دلى رجليه قال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمداً.
فقال له أصحابه: كيف تقتله؟! قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به.
قال: فأتاه فقال: يا محمد! أعطني سيفك أشيمه.
فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حال الله بينك وبين ما تريد).
ومن ذلك ما رواه الشيخان من حديث جابر: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه -أي: الأشواك- فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق بها سيفه ونمنا معه نوماً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً -يعني: شاهراً السيف- فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله -ثلاثاً- ولم يعاقبه، وجلس) والروايات في ذلك كثيرة جداً.(44/10)
تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يعني: لستم على شيء من الدين معتد به؛ لأن الدين عند الله الإسلام.
فالدين الذي يعتد به عند الله هو الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، ولذلك فمعنى (لستم على شيء) لستم على شيء من الدين معتد به.
(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: بأن تعملوا بما فيه ومنه الإيمان به، والمقصود هنا التوراة والإنجيل الحقيقيين الذين أنزلهما الله على موسى وعيسى قبل أن يحرفهما أهل الكتاب.
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني: من القرآن (طُغْيَانًا وَكُفْرًا) لكفرهم به، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، فكلما نزلت الآيات يزداد فريق إيماناً وفريق يزداد كفراً؛ لأنهم كلما كفروا بآية جديدة أو بسورة جديدة ازدادوا كفراً؛ لأن الكفر يزيد وينقص، وبعضه أشد من بعض، كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فكذلك هنا، فكلما نزل شيء من القرآن زادوا كفراً وطغياناً.
(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي: لا تحزن على القوم الكافرين إن لم يؤمنوا بك.
أي: لا تهتم بهم.
يقول القاسمي: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يعني: من الدين (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) أي: تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فالإقامة: هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه، كإقامة الصلاة مثلاً، ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها، فإنها ليست عملية، والأمر هنا في القضايا العملية.
والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علته، وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة، فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفاً، وأكثر التحريف وقع في القصص والأخبار والعقائد وما تلاها.
وعلى أي الأحوال فهذا الكلام فيه نظر، والصحيح أن الآية ((لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل)) تعني الحقيقيين، وهذا يستلزم بالنسبة لليهود والنصارى الذين كانوا أحياء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن فيه حثاً لهم على التمحيص والتحري والتنقيب والبحث والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم من هذه الكتب نقداً عقلياً تاريخياً صحيحاً، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان، ولا سيما في ذلك العناء كله أن يكونوا على شيء من الدين الحق، ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا، لكنهم لا يزيدهم القرآن إلا طغياناً وكفراً وحسداً وعناداً، فلا يؤمنون به.
ولا يمكن أن يفهم أنهم إذا أقاموا التوراة سيكونون على الدين الحق، لا، بل سوف يكونون على شيء من الدين بعد التحري والتنقيب، فالذي يكون على شيء من الدين صحيح أفضل وأولى ممن لا يكون على شيء من الدين، لكن في الحالتين هو ليس على الدين الحق الكامل؛ لأنه لا يتم له ذلك حتى يدخل في الإسلام، كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل آمنوا بمحمد صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن النصوص الموجودة حتى الآن في التوراة والإنجيل واضحة وضوحاً كثيراً في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.(44/11)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69].
يقول تبارك وتعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا)) ثم ابتدأ كلاماً جديداً فقال: ((والصابئون)) فالصابئون رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز ((إن)) من اسمها وخبرها، فكأنه قيل: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى)) حكمهم كذا، والصابئون كذلك حكمهم كذا.
هذا هو معنى الآية.
فـ (الصابئون) مبتدأ، أما خبره فمحذوف، والمقصود من رفع كلمة (الصابئون) تأخيرها عما في حيز الخبر.
فيكون خلاصة الكلام: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا َالنَّصَارَى) حكمهم كذا (والصابئون) كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً له: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق أي: وإلا فاعلموا أنا بغاة، وأنتم كذلك.
فكلمة (أنتم) مرفوعة هنا على الابتداء، أي: وأنتم بغاة كذلك.
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة التقديم؟! أي: لماذا قدمت كلمة (الصابئون)؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يثاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم؟ فإذا كان الصابئون إذا تابوا تقبل توبتهم فكيف بغيرهم ممن هو أقل منهم كفراً؟! وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أي: خرجوا.
فهذا باختصار فيما يتعلق بإعراب (والصابئون) فـ (الصابئون) هنا استئناف مبتدأ، وليس معطوفاً على ما قبله، وفي آية سورة البقرة جاءت هذه اللفظة معطوفة، حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62] فهي هنا معطوفة، أما في هذه الآية في سورة المائدة ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى)) فهي مرفوعة على الابتداء، وفي هذا رد على بعض الجهلة من القساوسة الذين تشدقوا بأنه منذ زمن ارتكب خطأ نحوي في القرآن الكريم، وألف بعضهم في ذلك وظن أنه وقع على شيء له قيمة، وما درى الخبيث أن قواعد النحو هذه ما وضعت إلا بعد القرآن الكريم بسنين، ومنذ مدة طويلة، فالنحو ما وضعت قواعده وما ضبط إلا بعد نزول القرآن بسنوات مديدة، فكيف يتحكم بهذه القواعد في القرآن الكريم؟! ثم إن هذا القرآن تلي على أفصح الفصحاء وهم قريش الذين كانوا يناصبون رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء، ولم يكونوا يبخلون بأي شيء من الطعن فيه وفي رسالته وفي كتابه، فإذا كان فصحاء قريش وبلغاؤهم ما أخذ واحد منهم ما أخذه هذا القسيس فكيف تستقيم له هذه الدعوى؟!(44/12)
تفسير قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل)
يقول تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة:70].
قوله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يعني: على الإيمان بالله ورسله.
(وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ) أي: رسول منهم؛ لأن الرسل تبعث في قومها.
((بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ)) يعني: من الحق (فَرِيقًا كَذَّبُوا) يعني: فريقاً منهم كذبوه (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) وفريقاً من الرسل يقتلون، كزكريا ويحيى.
والتعبير بكلمة (يقتلون) دون قتلوا حكاية للحال الماضية، ومراعاة للفاصلة، أي: رءوس الآي.(44/13)
تفسير قوله تعالى: (وحسبوا ألا تكون فتنة)
قال تبارك وتعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:71].
قوله تعالى: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) حسبوا أي: ظنوا (أن لا تكون) ويمكن أن تقرأ (أن لا تكونُ) و (أن لا تكونَ)، فعلى الرفع تكون (أن) مخففة، وعلى النصب تكون ناصبة، والمعنى: خافوا (أن لا تكون فتنة) يعني: عذاب لهم على تكذيب الرسل وقتلهم.
(فَعَمُوا) يعني: عموا عن الحق فلم يبصروه (وَصَمُّوا) أي: عن استماعه (ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) لما تابوا (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ثانية (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وهذا بدل من الضمير (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) يعني: فيجازيهم تبارك وتعالى به.
ويلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا)) فأضاف العمى والصمم إليهم، أما التوبة فلم يضفها إليهم، ففيه دلالة على أنهم لا يستحقون أن يضاف الخير إليهم، فقال عز وجل: ((ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) لم يقل: (ثم تابوا) وإنما قال: ((ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)) يعني: بما عملوا.(44/14)
تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
بين تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام من التوحيد الخالص، فبعدما ذكر فيما مضى قبائح اليهود شرع في ذكر قبائح النصارى، فقال تبارك وتعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)).
وقد سبق مثله في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171].
فقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) يعني: فإني عبد ولست بإله، وقال لهم أيضاً: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
فقوله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) يعني: في العبادة غيره (فقد حرم الله عليه الجنة) يعني: منعه أن يدخلها.
(وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) يعني: يمنعونهم من عذاب الله.(44/15)
تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73].
يعني: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث آلهة ثلاثة، أو (ثالث ثلاثة) معناه أنه واحد منها، فهو -بزعمهم- واحد من ثلاثة آلهة، والآخران عيسى وأمه، وهذا قول فرقة من النصارى على اختلاف مذاهبهم، ومنهم من يقول: إن الثلاثة هم الأب والابن وروح القدس إلى غير ذلك من كفرهم وضلالهم.
يقول تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) يعني: من التأليه، وإن لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي: الذين ثبتوا على الكفر ولم يرجعوا عنه (عذاب أليم) أي: مؤلم، وهو النار.(44/16)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه)
قال تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
قوله تعالى: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) يعني: مما قالوا.
وهذا استفهام وتوبيخ (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: غفور لمن تاب رحيم به.
وهذا فيه فضيلة عظيمة جداً للتوبة، وأن باب التوبة مفتوح مهما اكتسب الإنسان من المعاصي والكبائر والمخالفات؛ لأنه إذا كان هؤلاء الذين شتموا الله وسبوا الله وزعموا أن الله ثالث ثلاثة وقالوا غير ذلك من الكفر والشرك، ومع ذلك يفتح لهم باب التوبة على مصراعيه، ويقول لهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فإذا كان هؤلاء المشركون -مع كفرهم وسبهم لله وشتمهم له- يتوب الله تعالى عليهم إن تابوا إليه، فكيف بمن دونهم من أهل التوحيد ممن غشي الكبائر والذنوب؟! ففي هذه الآية تطميع لأهل التوحيد في التوبة مما هو أقل من كفر هؤلاء الكافرين.
وقال -أيضاً- في حق المشركين: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38].(44/17)
تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)
قال عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].
قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) أي: مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) عاشوا ثم ماتوا ومضوا، فكذلك هو أيضاً أدى رسالته ثم مضى، فهو يمضي مثلهم، وليس بإله كما زعموا، وإلا لما مضى؛ فإن الإله لا يغيب ولا يمضي، فهذا فيما يتعلق بالمسيح عليه السلام.
(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) هذه مبالغة، يعني: مبالغة في الصدق (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) يعني: كغيرهما من الحيوانات، وهذا الكلام للسيوطي، والأفضل أن يقول: كغيرهما من الكائنات الحية التي تتغذى من الطعام.
ومن كان كذلك لا يكون إلهاً لتركيبه وضعفه، فإذا كان المخلوق يريد أن يأكل ويشرب فمعنى ذلك أنه محتاج إلى الطعام، فإذا جاع يتألم، ويحتاج إلى أن يأكل، وإذا أكل لا يستطيع أن يستبقي فضلات الطعام داخل جسمه، فيحتاج إلى الإخراج، فهل الذي يحتاج إلى هذا يكون إلهاً؟! فلذلك يقول تبارك وتعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) فمن كان كذلك لا يكون إلهاً لتركيبه وضعفه، فهو مركب من أجزاء، مركب من رأس ومعدة وأمعاء وغير ذلك، فالإله ينزه عن التركيب في ذاته، وينزه عن التركيب في شخص ما أنه يكون واحداً لا متعدداً، والواحد نفسه غير مركب من أجزاء؛ لأن التركيب من أجزاء يقتضي الافتقار.
(انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ) أي: انظر متعجباً كيف نبين لهم الآيات على وحدانيتنا (ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يعني: كيف يصرفون عن الحق مع قيام البرهان؟!(44/18)
تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً)
قال عز وجل: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76].
قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله) أي: غيره (ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) يعني: لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بأحوالكم.
والاستفهام هنا للإنكار.(44/19)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح) وما بعدها
يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72].
قال الرازي: هذا قول اليعقوبية منهم، يقولون: إن مريم ولدت إلهاً.
ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بها.
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! ثم بين تعالى أنهم صموا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد كما وصفهم في الآيات السابقة ((ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا))، فعموا وصموا عن الآيات التي دعاهم عيسى من خلالها إلى توحيد الله تبارك وتعالى، فيقول عز وجل: ((وَقَالَ الْمَسِيحُ)) يعني أن هذا المسيح بريء من هذا الكلام كله، فالمسيح ما دعا إلى عبادته، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ))، فهو نص واضح وصريح في حكم من قال بهذه المقالة، فلا يبقى بعد ذلك أدنى شك، فمن قال: إن النصارى مؤمنون أو موحدون، أو: إنهم من أهل الجنة فقد خرج من الإسلام بالكلية، وهذه ردة عن دين الله؛ لأن هذا القول فيه تكذيب لهذه الآيات الصريحة والقاطعة من القرآن الكريم، فلا يصح أبداً للإنسان الانتساب إلى الإسلام إذا كان يزعم أن النصارى في الجنة مع كفرهم ومع قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)) أو غير ذلك من مقولاتهم الشركية.
فهذا لا جدال فيه ولا مراء، وإن كان هذا بدأ يبدو غريباً عند بعض الأصناف التي أوغلت في الجهل وفي المعاندة لدين الله تبارك وتعالى، فهم يصفون النصارى مع المسلمين على أنهم أهل الإيمان، وبعضهم يقول: أديان التوحيد الثلاثة.
حتى إن كبير القوم يشعر بأن عقيدته عورة -أي: عقيدة التثليث-، فلذلك يشعر بالانهزام أمام توحيد المسلمين، فإذا خطب على الملأ في المواكب وحفلات النفاق المعروفة يرى أن هذه موضة جديدة الآن، فيستحيي ويخجل من أن يقول: باسم كذا وكذا وكذا من الثلاثة الآلهة المزعومة عندهم، وإنما يقول الآن: باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعاً، فهذا اعتراف منه بأن عقيدته عورة، وهو يحاول أن ينكرها بقوله: باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعاً.
حتى يوهم بعض السذج من المسلمين فيقولون: هؤلاء الناس موحدون مثلنا.
فها هو يقول: باسم الله الواحد الذي نعبده جميعاً وهم يعبدون عبداً من عباد الله، يعبدون المسيح عليه السلام، أما نحن فنعبد الله عز وجل.
يقول تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} [المائدة:72] وهذه هي دعوة المسيح عليه السلام ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ))، بل إن أول كلمة نطق بها المسيح عليه السلام عندما نطق في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] إلى آخر الآية.
وقبل أن يقول: (ربكم) قال: (ربي)، ولم يقل: اعبدوني.
وإنما قال: (اعبدوا الله)، ومعنى: (اعبدوا الله): وحدوه.
ثم صرح بقوله: (ربي وربكم) قمعاً لمادة توهم الاتحاد، يعني: هو ربي وهو ربكم فهذا استئصال لوهم أن هناك اتحاداً بين المسيح وبين الله عز وجل.
والمسيح قال لهم أيضاً: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ))، فكيف والشرك أعظم وجوه الظلم؟ ((وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) أي: ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، فليس للكافرين أو للظالمين أنصار يغالبون الله سبحانه وتعالى، أو يغلبون الملائكة حتى ينقذوا هؤلاء من النار، ولا يستطيعون -أيضاً- نصرهم عن طريق الشفاعة، في أن يشفعوا لهم عند الله كي يخرجونهم من النار.(44/20)
تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
ثم بين تعالى كفر طائفة أخرى منهم فقال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) أي: أحد ثلاثة آلهة.
بمعنى أنه واحد منها، وهم: الله، ومريم، وعيسى.
قال بعضهم: كانت فرقة منهم تسمى اليعقوبية تقول: الآلهة ثلاثة: الأب، والابن، ومريم.
وجاء في كتاب (علم اليقين) أن فرقة منهم تسمى المريميين يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان، قال: وكذلك البربراميون وغيرهم، فهذا القول محكي عن فرق من فرقهم.
وأيضاً كان من نصارى نجران من يقول بهذا، أن مريم من الآلهة الثلاث.
أو المعنى: أحد ثلاثة أقانيم، كما اشتهر عنهم، فهو عندهم واحد من ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة أقانيم، أي أنهم جوهر واحد وهم ثلاثة أقانيم، أي: الأب والابن وروح القدس كما زعموا.
وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد، كما تقدم عنهم في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:171].
قال الرازي رحمه الله: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحداً، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى.
وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا، وهي شهيرة متداولة، والحمد لله.
ثم يقول تعالى: ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ)) يعني: في نص الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)) لا يتعدد أفراداً ولا أجزاءً.
((وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ)) يعني: من هذا الافتراء والكذب بعد ظهور الدلالة القطعية متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته ((لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) يعني: في الآخرة من عذاب الحريق والأغلال والنكال.
ولم يقل تبارك وتعالى: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنهم عذاب أليم) لم يقل ذلك، وإنما قال: (ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة، وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر بقوله: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا)) ثم هنا -أيضاً- كرر هذه الشهادة عليهم بأنهم كفار، فقال عز وجل: ((وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).
وفي البيان فائدة أخرى، وهي الإعلام في تفسير الذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.(44/21)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه)
يقول تعالى: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ)) يعني: يتوبون بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول، فيرجعون عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده، ففيه تعجب من إصرارهم على هذه المقالات الفاسدة مع وضوح بطلانها.
ومدار الإنكار والتعجب عدم الانتهاء والتوبة معاً، فلا هم يريدون أن ينتهوا عما يقولون، ولا يريدون أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، أو أن المقصود: ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المقررة عليهم بالكفر، وبعد هذا الوعيد الشديد مما هم عليه؟! يقول الحافظ ابن كثير: وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب الله عليه، كما قال عز وجل: ((وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، فيغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم، {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلهيتهما؛ لأن المساكين من النصارى أو عديمي العقول من النصارى يستدلون بمعجزات المسيح عليه السلام ويستدلون بكرامات أمه مريم عليها السلام على هذه الألوهية المزعومة، فأشار عز وجل هنا إلى بطلان تمسكهم بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلهيتهما؛ لأن غاية ما في الأمر حينما تجري هذه المعجزات على يد المسيح عليه السلام أنه يدل على نبوته، وهو ليس بدعاً من الرسل، وإنما هو كمن سبقه من إخوانه الأنبياء الذين أتوا بمعجزات أجراها الله على أيديهم لتدل على صدق دعواهم الرسالة، فهذا غاية ما يدل عليه جريان المعجزات على يد المسيح عليه السلام، كذلك مريم إذا وقعت لها كرامات فقد وقعت كرامات لمن سبقها من أولياء الله كما هو معلوم.
فهنا المقصود من هذا السياق استنزالهم عن الإصرار على ما تقولوا عليهما، يريد القرآن أن يستنزلهم وينتزعهم من إصرارهم على هذا الباطل إرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار التي دعاهم إليها الله سبحانه وتعالى، فبعد ما قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74] شرع عز وجل في استنزالهم وإنقاذهم من هذا الكفر المبين.(44/22)
تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].
قول تعالى: (ما المسيح) يعني: ليس المسيح المعلوم كونه حادثاً مخلوقاً.
ونلاحظ القرآن الكريم أنه يوصف المسيح بأنه ابن مريم في سياق الرد على النصارى، لأنه ليس له أب عليه السلام، وهذا ليس فيه شيء، فليس هو مستغرباً في قدرة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى نوع مظاهر قدرته العظيمة، فخلق آدم بلا رجل وبلا امرأة، وخلق حواء من رجل بلا امرأة؛ لأنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام، وخلق المسيح من امرأة بلا رجل، وخلق سائر البشر من رجل وامرأة، فهذا فيه بيان تنوع قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، فهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى، فمن أعجز في خلقه: المسيح أم آدم عليها السلام؟! فآدم خلق من تراب، لا من رجل ولا من امرأة، كما حكى الله عز وجل في القرآن الكريم: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
فهنا يقول الله عز وجل: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: ما المسيح الذي هو ابن مريم.
ومعنى (ابن مريم) أنه حادث ومخلوق، ولا يصلح أن يكون خالقاً.
فقوله: ((مَا الْمَسِيحُ)) أي: المعلوم حدوثه من كونه ابن مريم بالخوارق الظاهرة على يديه: {إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي: مضت من قبله الرسل الذين كانوا أصحاب الخوارق الباهرة، فله أسوة أمثاله، فإذا كان أجرى الله سبحانه وتعالى بعض المعجزات على يديه فقد أجراها على يدي موسى، وأجرى كثيراً من المعجزات والآيات على يدي موسى، وعلى يدي إبراهيم عليه السلام وغيرهما من الأنبياء والرسل، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] أنعم الله عليه بأن أجرى على يديه هذه المعجزات، أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإذا كان قد أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر على يد موسى وهو أعجب، وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم، وهو أغرب منه.
وفي الآية وجه آخر في قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) يعني: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم، فمعنى ذلك أنه حادث ومتصف بما ينافي صفات الألوهية.
((وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)) مبالغة في الصدق، ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12].
والوصف بتحري الصدق والمبالغة فيه مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراتبها، فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟! فإذا كانت كلمة (الصديقة) تعبير عن المبالغة في عبوديتها لله فأنى لهؤلاء أن يزعموا أنها إله؟! دلت الآيات على أن مريم عليها السلام ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لـ سارة ومريم، وبقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
وقد حكى الأشعري رضي الله عنه الإجماع على ذلك.
قوله تعالى: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء، فكل منهما إنسان يأكل؛ لأنه يحتاج إلى الطعام، ويعاني من الجوع والعطش فيحتاج إلى الطعام، وفيه تبعيد عمَّا نسب إليهما.
قال الزمخشري: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.
فكل هذه الأجهزة في الجسم لها وظائف، فمن الذي يجري هذه الوظائف على الحقيقة في بدن الإنسان؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فوجود هذه الأجهزة معناه أنه إنسان مدَّبر، وهناك غيره يدبره، وهو الله سبحانه وتعالى، فأنى يكون من هذا حاله إلهاً كما يزعمون؟! ويقول القاسمي هنا: إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى حاجتهما للطعام عمَّا قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ترقياً في باب الاستدلال من الجلي للأجلى.
يعني: هذا الدليل جعل في آخر الأدلة على إبطال مذهب النصارى لعنهم الله، وهذا من باب الترقي في الاستدلال من الجلي إلى ما هو أجلى وأوضح، على ما هو موجود في القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، فالإنسان إذا كان يناظر خصماً فإنه يعطي برهاناً جلياً، فإذا لم ينقد للبرهان الجلي الواضح البين فإنك تعطيه ما هو أجلى وأوضح، وفي هذا تعريض بغباوته بأنه غبي لا يفهم، فلذلك تأتي بأشياء من أوضح ما تكون، فالترقي هو من مسالك المناظرة.
يقول: ترقياً في باب الاستدلال من الجلي للأجلى.
فالجلي الذي مضى سالفاً هو قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) وهذا دليل في حد ذاته، فإن عيسى بن مريم مركب؛ لأنه حادث ومخلوق، وهو ينسب لأمه مريم عليهما السلام، فما هو إلا رسول قد خلت ومضت من قبله الرسل، فإذا كان يمضي فمعناه أنه مدبر، ومعناه أنه يجري عليه ما يجري على البشر، فليس إلهاً.
ثم أتى بعد ذلك بقوله: ((وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) يقول: على ما هي القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه يورد له الأجلى تعريضاً بغباوته، فيضطر للتسليم إن لم يكن معانداً ولا مكابراً، كما وقع في مناظرة إبراهيم عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، فمثل الكافر بشيء في غاية الضعف فقال: (قال أنا أحيي وأميت) فإبراهيم عليه السلام لم ينتقد هذا الاستدلال عنده، ولكنه انتقل إلى ما هو أجلى وأوضح فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
قوله تعالى: ((انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ)) يدعو الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يتعجب من غباوة القول (انظر كيف نبين لهم الآيات)، انظر إلى كل هذه الآيات السابقة! انظر كيف نبين لهم الآيات والأدلة على الوحدانية وعلى توحيد الله، وعلى بطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه وبطلان شبهاتهم.
(ثم انظر) يعني: مع ذلك (أنى يؤفكون) أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان.
وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجب من حال الذين يدعون لهم الربوبية ولا يرعوون عن ذلك، بعدما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب، ثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة لما يوجب قبولها أعجب وأبدع، فهنا أمر بالتعجب بعد التعجب، يقول تعالى: ((انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) تعجب ثم تعجب من موقفهم من هذا الحق!(44/23)
تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً)
ثم قال عز وجل: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76].
هذا دليل آخر على فساد قول النصارى، والموصول كناية عن عيسى وأمه ((قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا)) يعني: الذي لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً.
والمقصود به عيسى وأمه، يعني: لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة، ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع إنما هو بإقدار الله وتمكينه، فكأنهما لا يملكان منه شيئاً.
وإيثار (ما) على (من) -فلم يقل قل أتعبدون من دون الله من لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً.
وإنما قال: (ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) - لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الإلهية رأساً، ولبيان انتظامهما في تلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً، يعني: وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء، لا يخرج مقدور عن قدرته، وإنما قدم الضر فقال: (ضراً ولا نفعاً) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع.
ودلت هذه الآية على جواز الجدال في الدين، فإن كان مع الكفار وأهل البدع فذلك ظاهره الجواز، وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق، وإن قصد العلو فذلك محذور.
وحكي عن الشافعي أنه كان إذا جادل أحداً قال: اللهم! ألق الحق على لسانه.(44/24)
تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلو الباطل، فقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) يعني الكتاب الذي هو ميزان العدل.
(لا تغلوا في دينكم غير الحق) أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقولتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقاداً غير الحق بلا دليل عليه، مع تظافر الأدلة على خلافه.
وقوله: (غير الحق) يعني: غلواً غير الحق، أي: غلواً باطلا.
أو مجاوزين الحق.
والغلو نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير.
فهذا إشارة إلى أن ما عليه النصارى هو الغلو، فكل حق له طرفان، إما إفراط وإما تفريط، فالنزوع إلى أحد هذين الطرفين هو نزوع إلى طرف، وإذا اتجهت إلى الطرف الآخر يسمى ذلك تطرفاً، لانك أخذت بالطرف، فالمراد أن هناك وسطاً، وهو الميزان والعدل، فمن حاد عن هذا الوسط فهو متطرف، فهذا هو المعنى الصحيح للتطرف ومعنى ذلك أن هذه الآية تصف هؤلاء الذين يشتمون الله سبحانه وتعالى ويشركون به في هذه العقائد بأنهم هم الغلاة وهم المتطرفون، ولذلك نعمم ونعيد الأمور إلى نصابها بأن نقول: إن المضطر إذا استطلق إطلاقين فإن الإطلاق الصحيح هو الذي يكون داخل دائرة المسلمين، فالمتطرف هو الذي يحيد عن منهج أهل السنة والجماعة، سواء تطرف إلى اليمين أو اليسار، كما في باب مسائل الإيمان والكفر إما أن يبقى متطرفاً إلى اليمين مثل المرجئة، أو متطرفاً إلى اليسار في الغلو والإفراط مثل الخوارج الذين يكفرون عصاة المسلمين.
وكذلك في القدر، بأن يتطرف فيبالغ في إثبات القدر كالجبرية، أو يبالغ في نفي القدر كالقدرية.
وكذلك في موالاة أهل البيت، فيتطرف إلى أقصى الطرف في حب أهل البيت وتعظيمهم تعظيماً زائداً عمَّا يستحقونه، حتى يضع عليهم بعض صفات الإلهية أو العصمة وغير ذلك، أو يتطرف في الجانب الآخر فينصب العداء على أهل البيت، وهكذا في كل قضية من قضيا الإيمان ومسائل العقيدة نجد من يتطرف إما إلى اليمين وإما إلى الشمال، فكل شخص ينتسب إلى فرقة دون الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة وهو مذهب السلف الصالح في كل هذه القضايا- فهذا هو المتطرف، وهذا هو الاستعمال الصحيح للكلمة.
وفي خارج الدائرة الإسلامية كل من ليس مسلماً فهو متطرف، حيث يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فنحن لا نقول كلاماً وكأننا نكتشف حقيقة جديدة، فهذا هو الحق، وكثرة الإلحاح بوصف الموحدين والملتزمين بالدين بالتطرف جعل الناس تستورد مثل هذه التعبيرات، فنحن لسنا متطرفين، وكيف نكون متطرفين وأسوتنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهؤلاء الزنادقة والملاحدة من الصحفيين والإعلاميين وغيرهم إذا كان بعث فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه فهل كانوا سيصفونه بالتطرف؟ وما نحن إلا مستمعون للرسول عليه الصلاة والسلام والسلام، ونملك الأدلة على هذا بأن الحق ما يثبت، سواء في القرآن الكريم أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فما الفرق بين أن يطعنوا في دينه وسنته بعد أن أفضى إلى الرفيق الأعلى بأن هذا تطرف وبين أن يصفوه هو عليه الصلاة والسلام بأنه متطرف؟! فإذا كان احترام الإسلام واحترام الدين، والتمسك بالعقيدة، وطاعة الله ورسوله، والصبر على الغربة تطرفاً فينبغي أن نفخر بأننا متطرفون، ونشن الحملة على من لا يتطرف ونطالبهم بالتطرف ما دام أن الحق يوضع في قوالب مموهة ومضللة لتنفر الناس عن الدين، فنحن لا نقف عند الألفاظ، وإنما ننظر إلى المعاني، وقد قال الشاعر: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فإذا شئت أن تمدح عسل النحل فقل: (هذا جنى النحل) أي: محصول النحل، وإن شئت أن تنفر الشخص من نفس العسل الشهي فقل له: (هذا قيء الزنابير)، وهو شيء واحد، لكن قد يعبر عن الحق ويظهر بقالب منفر كي ينصرف الناس عنه، وهذه من حيل الشيطان وزخارف قوله التي يوحيها إلى أوليائه كي يصدوا الناس عن دين الله.
فالذي يقف وراء كل هؤلاء الناس هو الشيطان الذي يؤزهم أزاً على محاربة دين الله تبارك وتعالى.
وقد قال الإمام الشافعي: إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي فالقضية ليست قضية أسماء وحروف تركب بعضها إلى جانب بعض، وإنما هي قضية معانٍ وجواهر.
فهذه الآية تؤكد ما ينبغي أن نعتقده جميعاً، وهو أن كل من ليس من أهل السنة والجماعة وليس من المسلمين فهو متطرف، فكل يهودي على ظهر الأرض متطرف، وكل علماني متطرف، وكل شيوعي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل مجوسي متطرف، ثم داخل دائرة الإسلام كل من حاد عن أهل السنة والجماعة التي هي الفرقة الناجية فهو -أيضاً- متطرف، سواء أكان من الشيعة أم من الخوارج أم الرافضة أم من المعتزلة أم من غيرهم من الفرق الضالة.
فهذا المعنى ينبغي أن نستحضره دوماً خاصة في هذا الزمان الذي تلعب فيه الفتن بالعقول لعباً: (ويصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً).(44/25)
إفادة الآية النهي عن الغلو عموماً في كل أحكام الدين
يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
فالآية تفيد النهي عن الغلو عموماً، والغلو في العقيدة من أخطر الأشياء، والغلو في العبادة كغلو الموسوسين، كالذي يغالي في الطهارة، فبدل أن يتوضأ ثلاثاً يتوضأ خمسين مرة، وقد يخرج وقت الصلاة، فهذا غلو في الدين أيضاً، فأي نوع من الغلو الباطل في الدين فهو منهي عنه بنص هذه الآية.
ومن الغلو -أيضاً- الغلو في تعظيم الصالحين، وتعظيم قبورهم، حتى يصيروا كالأوثان التي كانت تعبد، يقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، وهذا متفق عليه.
فقوله: (لا تطروني) إما أنه نهى عن أصل الإطراء الذي هو المديح، فهو يقول: لا تمدحوني؛ فأنا لست بحاجة إلى مدحكم بعد أن مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه حين قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فإنكم إذا مدحتموني استنزلكم الشيطان إلى الوقوع في الغلو، حتى تقولوا فيّ كما قال النصارى في عيسى عليه السلام.
وإما أن النهي هنا عن المبالغة في المدح لا عن أصل المدح، وإنما عن أصل المبالغة في المدح، فإن المبالغة والغلو في المدح ينتهي إلى الانحراف وإلى فساد العقيدة، في القصيدة المشهورة وأظنها لـ أحمد شوقي حيث يقول يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا سألت الله في إدناء ديني فإن تكن الوسيلة لي أجابا وما للمسلمين سواك حفظ إذا ما الضر مسهم ونابا فهل الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل أن يمدحه رجل بأن يقول: إن المسلمين إذا جاءتهم كربة أو داهمتهم مصيبة ليس لهم حفظ إلا الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى ليحطم أمثال هذه العقائد، فهذا من الغلو الباطل، وقد ضل أحد المغالين في فهم الحديث (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فقد فسر الحديث تفسيراً عجيباً، وهو البوصيري، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) يعني: لا تمدحوني بالصفة التي غلا فيها النصارى في المسيح، وهي قولهم: إن المسيح ابن الله.
فقال البوصيري في القصيدة المعروفة التي يتعبد الصوفية بتلاوتها وحفظها: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم يعني: إذا سلمت من قولك: إن محمداً ابن الله.
أو: إن محمداً ثالث ثلاثة فلا حرج عليك، فامدح بما شئت، وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم.
فالباب مفتوح، فقل ما شئت عدا أن تقول: إن محمداً ابن الله.
أو: إن محمداً ثالث ثلاثة.
ففتح الباب على مصراعيه في هذا الغلو الفظيع حتى قال في قصيدته -مادحاً الرسول عليه الصلاة والسلام، أيضاً بما يرفضه الرسول عليه الصلاة والسلام-: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا من الغلو في الدين الذي قد نهينا عنه.(44/26)
النهي عن اتباع الأئمة المضلين
ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين، فقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
فسلفهم الضالون ليسوا هم الصالحين، فهو يحذرهم من اتباع سلفهم الذين اتبعوا هذه المقالات وأفسدوا دينهم.
وقوله تعالى: (ولا تتبعوا) يعني: تقليداً (أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً) يعني: ممن شايعهم على التقليد (وضلوا عن سواء السبيل).
يقول الرازي: إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال، فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ((قد ضلوا من قبل)) ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، فالمرء منهم ضال في نفسه ومضل لغيره، فيحمل وزر نفسه ووزر الذين يضلهم بغير علم.
ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحال حتى إنهم الآن ضالون قد ثبتوا على الضلال.
قال تعالى: ((وضلوا عن سواء السبيل)) ودلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول لا مستند له، ولا معول لهم فيه غير التقليد لأسلافهم الضالين، فكل ما عندهم هو تقليد آبائهم وأجدادهم وسلفهم الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام.
فبعد ثلاثمائة سنة من رفع المسيح اخترعوا هذه المزاعم الباطلة والشركية، وقرروها في تعاليمهم بعد جدل وافتراض، وتمسكوا في ذلك بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علماً مما لا أصل له في شرع الإنجيل، ولا هو مأخوذ من قول المسيح، ولا من أقوال حوارييه، بل كلام متهافت يكذب بعضه بعضاً ويعارضه ويناقضه.(44/27)
تفسير قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل لبئس ما كانوا يفعلون)
قال تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) يعني: لعنهم الله عز وجل.
(على لسان داود وعيسى ابن مريم) يعني: على لسانيهما.
وأفرد لعدم اللبس، فلم يقل: على لساني داود وعيسى ابن مريم لأنه لا يحتمل وجود لبس، وذلك إذا أريد باللسان الجارحة.
((ذلك)) لعنهم الهائل ((بما عصوا وكانوا يعتدون)) يعني: بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي.
((كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه)) يعني: لا ينهى بعضهم بعضاً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال: ((لبئس ما كانوا يفعلون)) مؤكداً بلام القسم تعجباً من سوء فعلهم كيف وقد أداهم إلى ما ذكر من اللعن الكبير؟! فهذه الآية دلت على جواز لعن اليهود والنصارى والكفرة من بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل).
ودلت -أيضاً- على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع، ودلت -أيضاً- على وجوب النهي عن المنكر، وأن ترك النهي عن المنكر من الكبائر، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم أو في أسواقهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً) أي: تعطفوهم عليه.
رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك.
ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده) يعني أنه يتمادى في مصاحبته، أي: نصحه مرة وانتهى، ثم بعد ذلك بقي الرجل مصراً على المعصية، ولم يمنعه ذلك من أن يتخذه خليلاً وصاحباً.
يقول: (فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) [المائدة:78] إلى آخر الآية، ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرونه على الحق قصراً) زاد في رواية: (أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم) كذا رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه.
والأحاديث في ذلك كثيرة، منها حديث حذيفة مرفوعاً: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
يقول الزمخشري: فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من ملة الإسلام في شيء، مع ما يتلون من كتاب الله، ومع ما فيه من المبالغات في هذا الباب! وقد مر في قوله تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} [المائدة:63] ما يؤيد هذا، فتذكر.(44/28)
تفسير قوله تعالى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا)
قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80].
ولما وصف تعالى أسلافهم بقوله تعالى: (لعن الذين كفروا) فيما مضى وصف الحاضرين بقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80] يعني أنهم باقون على هذا {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] وقوله تعالى: (ترى كثيراً منهم) أي: من أهل الكتاب (يتولون الذين كفروا) يعني: يوالون المشركين بغضاً لرسول الله، ومنهم: كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون).(44/29)
تفسير قوله تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه)
قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81].
قوله تعالى: (ولو كانوا) أي: هؤلاء الذين يتولون عبدة الأوثان من أهل الكتاب (يؤمنون بالله والنبي) أي: لو كانوا بالفعل يؤمنون بالنبي، أي: نبيهم موسى عليه السلام.
(وما أنزل إليه) من التوراة (ما اتخذوهم أولياء) إذ الإيمان بالله يمنع من تولي من يعبد غيره (ولكن كثيراً منهم فاسقون) أي: خارجون عن دينهم؛ لأن الفسق معناه الخروج، كما يُقال: فسقت الرطبة.
أو متمردون في نفاقهم، يعني: إن موالاتهم للمشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم، وإن إيمانهم المزعوم ليس بإيمان؛ لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق.
وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: (ولو كانوا) يعني: لو كان منافقوا أهل كتاب المدعوون للإيمان (يؤمنون بالله والنبي) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن حق الإيمان ما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن.
والوجه الأول أقوم، والله تعالى أعلم.(44/30)
تفسير سورة المائدة [82 - 96](45/1)
تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)
يقول تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].
قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ) أي: يا محمد (أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، يعني: من أهل مكة؛ لتضاعف كفرهم وجهلهم، وانهماكهم في اتباع الهوى.
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) قوله: (ذلك) الإشارة هنا إلى أقربهم مودة للمؤمنين.
(بأن) يعني: بسبب أن (منهم قسيسين) أي: علماء (ورهباناً) أي: عباداً (وأنهم لا يستكبرون) عن اتباع الحق كما يستكبر اليهود وأهل مكة.
وهذه الآية نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة، قرأ صلى الله عليه وسلم عليهم سورة يس فبكوا وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى.
يقول القاضي محمد كنعان: قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة) الآية، ذكر الإمام السيوطي هنا أنها نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة.
ولكن القول المشهور في كتب التفسير والسير أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعدما سمعوا سورة مريم من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى خوفاً من مشركي قريش، ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، ثم أسلم النجاشي، وبعث ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
ومما يجب التنبيه حوله أن هذه الآيات لا تشمل جميع النصارى كما يتوهم البعض، فقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) ليس المقصود به جميع من انتسب إلى النصرانية، وإنما الإشارة إلى جماعة موصوفة منهم، فالقول بأن الآية تشمل جميع النصارى -كما يتوهم بعض الناس- قول باطل؛ لأن هؤلاء عداوتهم للمسلمين ظاهرة، ووقائع التاريخ في الأندلس والحروب الصليبية حتى عصرنا تشهد على ذلك، بل الوقائع التي نعيشها إلى الساعة الحاضرة، والمجازر التي تقام على مرأى ومسمع من العالم كله، والتحالف الصليبي اليهودي على مسلمي البوسنة بعد أن صارت الأمم المتحدة شريكاً متضامناً وعنصراً فعالاً في المذابح التي تجري لإخواننا المسلمين في البوسنة ليل نهار، ولم يعد هذا سراً مكتوماً، ومن يتابع الأخبار في هذه الأيام يعلم هذه الحقيقة، فكيف يقال: إن هؤلاء مع وحشيتهم وإجرامهم أقرب إلينا مودة من اليهود؟! بل هؤلاء مشركون كفار كما سيأتي في نفس هذه الآيات، فمن القول الباطل الزعم بأن الآية تشمل جميع النصارى، وإنما هي تصف جماعة معينة منهم سمعوا القرآن ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق.
فهل الصرب أو غيرهم إذا سمعوا القرآن تفيض أعينهم من الدمع مما سمعوا من الحق ويعلنون إسلامهم؟! فالآية تصف هؤلاء الذين إذا بلغهم الحق لا يستكبرون ولا يستنكفون عن اتباعه.
ففي هؤلاء نزلت الآيات، لا في كل نصراني أو قسيس أو راهب، وهذا مع القطع بأن اليهود هم أشد الكافرين عداوة للمؤمنين.
قوله تعالى: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ)) يعني: من القرآن الكريم.
((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا)) يعني: صدقنا بنبيك وكتابك.
((فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) أي: المقربين بتصديقهما.
قوله: (وَمَا لَنَا) يعني: وقالوا في جواب من عيرهم بالإسلام من اليهود الذين قالوا لهم: كيف تسلمون: (وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ) أي: من القرآن.
أي: لا مانع لنا من الإيمان مع وجود ما يقتضي هذا الإيمان، وهو نزول هذا الحق في القرآن الكريم، أو الطمع في رحمة الله.
{وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] أي: الجنة مع المؤمنين.
ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) فهذا -بلا شك- واضح وضوح الشمس، وهو أن المقصود بالآية الأولى النصارى الذين لما بلغهم الحق انقادوا له، وأسلموا لله سبحانه وتعالى، لا من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم.
أو: إن الله ثالث ثلاثة.
أو غير ذلك من الأقوال الشركية، فهؤلاء يدخلون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:86]، وهؤلاء غير الموصوفين في صدر الآيات.(45/2)
كلام القاسمي على قوله: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] لماذا هم أشد الناس عداوة للمؤمنين؟ لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نفارق اليهود في الإيمان بعيسى وبمحمد، وهم يكفرون بهما.
كذلك فإن عداوة الذين أشركوا للمؤمنين هي لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء؛ لأن المشركين لا يقرون بالتوحيد ولا بنبوة الأنبياء.
وقال بعض العلماء في تعليل شدة هذه العداوة: لشدة إبائهم، ولذلك يندر جداً أن يسلم اليهودي الواحد ويدخل في الإسلام، فهذا يقع، ولكنه نادر بالنسبة لمن يدخل في الإسلام من غيرهم من طوائف الكفرة.
فهم أشدة الناس عداوة للذين آمنوا لشدة إبائهم، ولتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيب هؤلاء الأنبياء، ومناصبتهم لهم، ولشدة قسوة قلوبهم وغلظ طبعهم قتلوا كثيراً من الأنبياء.
أي: قتلوا يحيى عليه السلام، ثم أهدوا رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
وكذلك قتلوا أباه زكريا عليه السلام، وسعوا في قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة، بل وضعوا له السم في الطعام، وغدروا به صلى الله عليه وآله وسلم، وألبوا عليه أشباههم من المشركين.
وفي تقديم اليهود على المشركين بعد ذكرهما في موضع واحد إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، فرغم أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للذين آمنوا، لكن أشد الطائفتين اليهود لعنهم الله تعالى.
كما أن في تقديمهم عليهم -أي: تقديم اليهود على المشركين- في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] إيذاناً بتقدم اليهود على المشركين أيضاً في الحرص على الحياة.
يقول تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) يعني: للين جانبهم، وقلة غل قلوبهم.
فهنا القاسمي يميل في تفسير هذه الآية الكريمة إلى أن المقصود بقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) عامة النصارى، وهذا التفضيل نسبي، وليس على الإطلاق كما يفعل منافقوا زماننا، فالمنافقون من علماء السوء في زماننا يداهنون الكفار بإطلاق هذه الآية عليهم، وإن كان الآن جرياً مع المتغيرات لا يتلوا المنافقون الآية أصلاً؛ لأنها تشتم اليهود، وقد صار اليهود عند الناس اليوم من أعظم أوليائهم، فالله المستعان.
لكن القاسمي ينقل هنا كلام ابن كثير في تعليل قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27].
وفي كتابهم: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) وليس القتال مشروعاً في ملتهم.
انتهى كلام الحافظ ابن كثير.
ثم يضيف القاسمي: ولأن من مذهب اليهود -مبيناً وجه المفاضلة بين اليهود والنصارى في العداوة والمودة- أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام، فحصل الفرق.
فاليهود يتعبدون بأذية خلق الله، وبإيصال الشر إلى الخلق ممن ليس على ملتهم بأي طريق كان، حتى روى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله) ولم يذكر هنا صحة الحديث، وهنا قصة حكاها بعض المصنفين في (غذاء الألباب) عن صاحب (منظومة الآداب) الإمام السفاريني أن مسلماً سافر مع يهودي، فالمسلم كان راكباً الحمار، وكان اليهودي ماشياً، فمشيا حتى سافرا إلى بلد معين على هذه الحال، فبعد ما وصلا إلى تلك البلدة قال المسلم لليهودي: أستحلفك بالله، نحن عندنا اعتقاد أنه ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بإيذائه، فهل هممت بأذيتي؟! قال: ما هممت بأذيتك في شيء.
فناشده وألح عليه أن يخبره، فإنه جازم بأنه لابد من أنه أراده بسوء في هذه السفرة، فلما استحلفه وشدد عليه صارحه وقال له: في مدة السفر كلها كنت أحاول أذيتك فلم أستطع، ولقد كنت أبصق على ظلك وأضرب خيالك.
أو قال كلاماً نحو هذا، فهذا الذي استطاع أن يوصله إليه من الأذى، فالله أعلم بصحة هذا.
وعلى كل حال فإن خسة اليهود وغدرهم ونذالتهم لا تحتاج إلى كثير من التعليق، فهذا أمر مجمع عليه بين سائر الأمم، حتى إن هتلر لما أجرى لهم المذابح التي بولغ فيها فيما بعد قال: لقد قتلت نصف اليهود وتركت النصف الآخر؛ حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول أي: حتى يذوقوا منهم الويل ويعرفوا لماذا قتل النصف الأول من اليهود.
وكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب هي مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد ولين الجانب، كما أشير إليه بقوله تعالى: (ذلك) يعني: كونهم أقرب مودة للمؤمنين.
(بأن منهم) أي: بسبب أن منهم قسيسين، مأخوذ من: قسى الشيء إذا تتبعه، فهذا وصف لعلمائهم بأنهم قسيسين.
(ورهباناً) أي: عباداً متجردين.
(وأنهم لا يستكبرون) أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود، وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر أمر محمود، وإن كان ذلك من كافر، وهذا على القول بأن الآية تشمل النصارى عموماً، وأن المفاضلة هنا مفاضلة نسبية، ولذلك جاء بصيغة (أقربهم مودة) فهم لا يوادون لكنهم أقرب مودة، فالنصارى مع كفرهم أخف من اليهود والذين أشركوا في عداوتهم للمؤمنين.
ولكن الكلام الأول -بلا شك- أقوى، وهو أن الآية إنما هي في هؤلاء الذين أسلموا، ولم يستكبروا على الحق، ويؤيد ذلك كثير من الآيات والأحاديث، ويؤيده -أيضاً- الواقع الذي نعيشه، فلا القسيسون ولا الرهبان فيهم هذا التجرد أو هذا التواضع، وإنما هو الخبث والمكر والدهاء، وإرادة الشر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي نعيشه ونراه ليل نهار هو أقوى شاهد محسوس، بحيث لا يمكن أبداً إنكاره إلا على سبيل المكابرة.
فلا ندري أين الرحمة وأين الرفق وأين اللين منهم! هؤلاء الذين فعلوا هذه الشنائع، سواء في الأندلس أو في لبنان أو في الفلبين أو في أثيوبيا أو في البوسنة.
والله تعالى لما تكلم عن هؤلاء النصارى هنا قال: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.
فوصفهم بأنهم الذين قالوا: (إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.
تعريضاً لصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر؛ لأن اليهود قيل لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] فقابلوا ذلك بقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فهذا من عتوهم وصلابتهم في الكفر، وتمردهم على أمر ربهم تبارك وتعالى.
أما النصارى فإنهم أجابوا جواباً حسناً حين قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]، ومن ثم سموا نصارى.
وكذا -أيضاً- ورد في أول هذه السورة {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:14] فأسند ذلك إلى قولهم، ولم يقل: ومن النصارى أخذنا ميثاقهم.
ولكن قال: (ومن الذين قالوا إنا نصارى) والإشارة به إلى قولهم: نحن أنصار الله.
لكنه بين تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله.
ففي الآية التي هي في أول السورة (ومن الذين قالوا إنا نصارى) كان يقتضي قولهم: إنا نصارى -أي: نحن أنصار الله- أن يحفظوا عهد الله وميثاقه، لكنهم مع قولهم: إنا نصارى خالفوا هذا العهد ونسوا (حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) قال تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14].
وفي الآية هنا يقول تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.
لأن المقصود التعريض بصلابة اليهود وقسوة قلوبهم، وامتناعهم عن امتثال أمر ربهم كما ذكرنا.
فالنصارى لما ورد عليهم الأمر لم يجابهوه بالرد كمجابهة اليهود، حتى إنهم لما نسوا الميثاق أو نسوا حظاً مما ذكروا به لم يردوا نفس الرد الغليظ الذي رده اليهود حينما قالوا لموسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، بل قالوا: نحن أنصار الله.
واليهود قالت: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة:24]، إلى آخر الآية، فهذا هو سر قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.(45/3)
معنى قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)
يقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83].
قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) هذا عطف على (لا يستكبرون) في قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون).
((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ)) يعني: تنصب.
(مِنَ الدَّمْع) وهو الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف مع ضرب اليقين.
(مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) يعني: من كتابه، فوجدوه أكمل من الإنجيل وأفضل، أو من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه.
(يَقُولُونَ) يعني: مع عدم استكبارهم عن الحق.
(رَبَّنَا آمَنَّا) أي بك وبما أنزلت وبرسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
(فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: الذين شهدوا بأنه حق، أو الذين شهدوا بنبوته، أو أن المراد بالشاهدين أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم هم الشهداء على الناس، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا أممهم.(45/4)
معنى قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق)
يقول تعالى: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84].
قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن) هذا إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجب هذا الإيمان، فما هو موجب الإيمان؟ إنه الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، فيكف مع ذلك لا يؤمنون؟! (وما جاءنا من الحق) أي: من القرآن.
(ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) يعني: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو المعنى: أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين.
ويدل لقوله (مع القوم الصالحين) أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، فعباد الله الصالحون المذكورون هنا هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن تفسير القرآن بالقرآن أن يقال: (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(45/5)
معنى قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا)
ثم قال تبارك وتعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85].
قوله تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا) أي: بما تكلموا به.
(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) يعني: من تحت أشجارها ومساكنها (الأَنْهَارُ) وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل.
(خَالِدِينَ فِيهَا) أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون.
(وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، حينما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه سورة مريم.
يقول ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن فبكوا حتى أخضلوا لحاهم).
قال ابن كثير: وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية في سورة المائدة، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة.
فالحافظ ابن كثير يقول: إن الآية هذه التي في سورة المائدة مدنية، ففيها آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] في حجة الوداع، فيقول: هذه الآية مدنية، وهذه الحادثة وقعت قبل الهجرة، فالقول بأن هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه فيه نظر.
فهل في نظر الحافظ ابن كثير نظر؟ والجواب أنه قد تقع واقعة قبل الهجرة ويحكيها القرآن بعد الهجرة، فما المانع من أن تقع واقعة قبل الهجرة ثم يحكيها القرآن في آخر الفترة المدنية؟ وما المشكلة في ذلك؟! ولذلك فإن القاسمي رحمه الله تعالى حكى قول ابن كثير بأن هذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، ثم قال: أقول: إن نظره مدفوع؛ فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها، ونظائره في التنزيل كثيرة، ولا إشكال فيه.
أي: لا يوجد أي مانع من أن تحدث حادثة قبل الهجرة ثم ينزل القرآن فيها بعد الهجرة.
ثم قال: وظاهره أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة، وهم يهود بني إسرائيل كقريظة والنظير، وبعناد المشركين أيضاً، وقسوة قلوب الفريقين، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه.
فالمقصود أن حكاية هذه القصة في هذا الوقت حينما كان هؤلاء اليهود يتآمرون حول المدينة، والمشركون أيضاً يعادون النبي عليه الصلاة والسلام فيه تعريض بأحوال هؤلاء قساة القلوب، ومقارنة بينهم وبين هؤلاء الذين أسلموا كـ النجاشي وأصحابه، وأن هؤلاء لهم أسوة كي يسلموا ولا يستكبروا عن الحق.
وقال الحافظ ابن كثير: هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران:199] وهذا يوضح لنا أن الحافظ ابن كثير أراد بتفسيره قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) بأن معناه: وما ذاك إلا لما في قلوبهم -إذ كانوا على دين المسيح- من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27] أراد به مدح طائفة معينة من النصارى لا مطلق النصارى؛ لأنه هنا يقول: المقصود بهؤلاء الذين في هذه الآيات هم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران:199].
يقول: وهم الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 - 53].
يقول القاسمي: وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة أن قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم.
ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار على الصحابة بأن يخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لهم فرجاً مما كانوا فيه، ففروا بدينهم إلى الحبشة فكانت أول هجرة في الإسلام.(45/6)
قصة إسلام النجاشي
روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهما جلدين، وأن يعطوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي -وهذا فن الرشوة- وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى -أي: لجأ- إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: إنهم من بلادنا، ونحن أبصر بهم، ونحن أعرف بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهما: نعم.
ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه بما كلما كل بطريق، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي).
وهذا كعادة الباطل في كل وقت، يحول أهله دون أن يكون أصحاب الحق هم الذين يتولون عرض القضية، فلابد من أن تعرض على الملأ من طريق وصائفهم كي يعملوا فيها من التزييف والتحريف والتبديل والتنفير، قالت: (فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول -والله- ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، فسألهم وقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه صلى الله عليه وسلم، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي.
قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) -أي: سورة مريم-، قالت: فبكى -والله- النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم -أي: الصحف التي كانت أمامهم حين سمعوا ما تلا عليهم- ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم -يعني شجرتهم التي منها تفرعوا-، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فيها، أو فينا-: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا.
قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن.
قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
قالت: فضرب النجاشي بيده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود.
فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -يعني: آمنون بأرضي-، من سبكم غرم -قالها ثلاثاً-، ثم قال: ما أحب أن لي دبراً -والدبر الجبل- من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
وروى الحافظ أن النجاشي كتب بعد ذلك بشهادته أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، وإسلام النجاشي معروف، ومعلوم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى إلى أصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأمرهم أن يصلوا عليه صلاة الغائب.
وروي في بعض تلك الآثار أن النجاشي بعدما أسلم عرض على عمرو بن العاص الإسلام، فأسلم عمرو على يد النجاشي، فهذا الكلام روي في بعض الكتب، لكن نحكيه لمجرد المعرفة فقط، لكن ما أظن أن هذا كان سبب إسلام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه.
إلا أنه لا يبعد أن يكون هذا هو الشعاع الأول بالنور والإيمان قد نفذ إلى قلبه من خلال هذه الواقعة على أساس هذا الزعم بأن عمرو بن العاص أسلم على يد النجاشي.
وإذا صحت هذه الرواية فيقال على سبيل اللغز: من هو الصحابي الذي أسلم على يد تابعي؟! وهذه الرواية لم تصح، وعلى فرض صحتها لو قلنا: إن كلاهما قد آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام فإن عمرو بن العاص بعدما أسلم رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فهو صحابي، والنجاشي أسلم ولم يره، فإذا صح هذا فيكون جواب هذا اللغز هو أن عمرو بن العاص صحابي أسلم على يد تابعي وهو النجاشي؛ لأنه لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره.
وفي الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء، وفي الخبر (ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا)، والمراد إشراب القلب بالخوف، والخوف المهابة لله تبارك وتعالى.(45/7)
معنى قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا)
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:86].
قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا الحق الذي جاءهم، وكذبوا بحجج الله وبراهينه.
(أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي: النار الشديدة الحرارة جزاءً وفاقاً.(45/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87].
نزلت هذه الآية لما هم قوم من الصحابة بأن يلازموا الصوم والقيام، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفرش، وأصل الحديث في الصحيحين.
فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) يعني: لا تتجاوزوا أمر الله.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في العبادة أو في التعبد.
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا) المعنى: كلوا الحلال الطيب مما رزقكم الله (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)) يعني: ما طاب ولذ مما أحل الله لكم، كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الترهب، والحث على كسر النفس وربط الشهوات.
يعني: إذا كان هؤلاء النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان يتقللون من الدنيا والشهوات ممدوحون بذلك فليس هذا المدح على إطلاقه، لكنه مدح مشروط بعدم التنطع والتشدد في ذلك، فعقب بالنهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية، ثم أشار إلى أنه اعتداء، فهو تعالى نهى أولاً فقال: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) يعني: لا تفعلوا كما فعل هؤلاء الرهبان.
ثم قال: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) يعني: لا تتجاوزوا ما أحبه الله تعالى من جعل الحلال حراماً، أو: لا تعتدوا في تناول الحلال فتتجاوزوا الحد فيه إلى الإسراف، كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].(45/9)
تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً)
قال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:88] فإن مقتضى الإيمان أن لا تغيروا شيئاً مما أحله الله لكم.
والبحث هنا طويل جداً إذا أردنا التوسع فيه، ولأننا نسلك سبيل الاختصار كان علينا التنبيه بأشياء يسيرة، فإنه إذا كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يستمتع مما أحل الله تبارك وتعالى له من الطيبات، فلا ينبغي التعبد بأن يحرم الإنسان ما أحله الله له؛ فإن هذا من العدوان.
يقول الحافظ ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون.
فإذا كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على ذلك من حله، فإذا كان يستطيع أن يلبس هذه الملابس فهذا طريق معبد سهل، وذاك طريق مليء بالخطر والهوام، وغير ممهد، وفيه كثير من العوائق، فلا يجوز لإنسان أن يتعمد فيختار الطريق الأصعب تعبداً {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فسنة النبي صلى الله عليه وسلم خير وأولى بالاتباع، وهي -كما جاء في وصفه-: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه) صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك من آثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا فقد ظن خطأ، وذلك لأن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة؛ لأنها مفسدة للعقل، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته.
وقد أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها)، وقالت عائشة: (ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا، وكان يعجل إليه الذراع؛ لأنه أعجلها مجا) أخرجه الترمذي.
وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامه ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذج وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو أصائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان.
فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد: أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟! يعني: ما الذي لا يعجبك من هذا الطعام؟! لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن! هل كل هذه الطيبات التي أحلها الله وهي مركبات هذا الطعام يعيبها مسلم ما دامت حلالاً طيباً؟! وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذج، ويقول: لا أؤدي شكره.
قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم.
قال: إنه جاهل؛ إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج.
والفالوذج يبدو أنه قريب من الهريسة ونحوها من المطاعم التي فيها الحلوى.
وعنه أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم، قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه، فالآية تقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، فليست الآية عيباً على من وسع الله عليه فوسع على أولاده -مثلاً- وعلى نفسه بأن أكل من الطيبات ما دامت من حلال، وما دام يزهد في الحرام.
ولا عذر الله قوماً زوى عنهم الدنيا فعصوه، حيث قدر لهم رزقاً وضيق عليهم رزقاً فعصوه بأن سرقوا أو أسرفوا أو غير ذلك، ولم يقل تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا ما رزقكم الله) ولكنه قال: ((وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)) وكلمة (من) هنا للتبعيض، كأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض، واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات، ولا تقتصروا على إطعام أنفسكم، ولم يقل: (كلوا ما رزقكم الله) وكأن معناها: لا يأكل أحدكم لحاله وينسى الفقراء والمساكين، لكن (كلوا مما رزقكم الله) كلوا منه وآتوا الفقراء والمساكين، وباب الصدقات والخيرات باب واسع، فهذا إرشاد إلى ترك الإسراف، كما قال تعالى: ((وَلا تُسْرِفُوا)) [الأنعام:141].(45/10)
تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم)
قال عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89].
قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) يعني: باللغو الكائن في أيمانكم، فلا ينبغي للمسلم أن يحلف إلا إذا استحلف، وإذا أراد أن يحلف فليحلف بالله تعالى أو ليدع، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فلا يجوز الحلف بمخلوق كالأنبياء، والملائكة، والملوك، والكعبة، والشرف، وحياة الابن أو الأب، وغير ذلك.(45/11)
أقسام الأيمان
واليمين ثلاثة أنواع: أولاً: اليمين اللغو، أشار إليها السيوطي هنا، ولا مؤاخذة عليها، ولا كفارة فيها.
ثانياً: اليمين الغموس: وهي التي يحلفها صاحبها كاذباً وهو يعلم، أي: يحلف وهو يعلم أنه كاذب، وأن الحقيقة على خلاف ما يحلف عليه متعمداً، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم، وهذه اليمين الغموس من كبائر الذنوب.
ثالثاً: اليمين المنعقدة، وهي التي يحلفها الإنسان قاصداً فعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، وفيها الكفارة المذكورة في الآية، وهذا هو موضوع هذه الآية الكريمة التي فيها تشريع الكفارة، فكفارة اليمين لا تكون إلا في اليمين المنعقدة، ولا ينعقد اليمين إذا كان لغواً، ولا ينعقد -أيضاً- إذا كان غموساً، وإنما ينعقد إذا كان من القسم الثالث، وهو اليمين المنعقدة، واليمين المنعقدة يحلفها الإنسان قاصداً فعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، فيقول: والله لا أذهب إلى المكان الفلاني مثلاً أو: والله لا أذهبن إليه في المستقبل.
فإذا حنث وذهب فعليه الكفارة المذكورة في هذه الآية الكريمة فقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) يعني اللغو الكائن في أيمانكم، واللغو هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف، مثل: والله لتدخلن.
والله لتأكلن.
فهو لا يقصد اليمين، ولم يعقد قلبه على الحلف، ولكن جرت اليمين على لسانه كالعادة، فهذه يمين لغو، وفسرت في الحديث بقول القائل: لا والله، وبلى والله.
روى ذلك البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) في (عقدتم) ثلاث قراءات: (عقّدتم) و (عقَدْتُم) بالتخفيف والتشديد، وفي قراءة: (عاقدتم الأيمان) يعني: عليه، بأن حلفتم عن قصد فقوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) يعني: بما حلفتم عليه عن قصد، فمقصود القراءة هنا: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فحنثتم فيه.
لكنه حذفه للعلم به، فهل مجرد عقد الأيمان يعتبر موجباً للمؤاخذة؟ فالإنسان قد يحلف ويبر بما حلف عليه، لكن المقصود هنا (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) ثم حنثتم فيها بعد ذلك، (فكفارته) أي: كفارة اليمين إذا حنثتم فيها: (إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مُدّاً.
(مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي: من أوسط ما تطعمون منه أهليكم، يعني: أوسطه وأغلبه، لا أعلاه ولا أدناه.
(أَوْ كِسْوَتُهُمْ) بما يسمى كسوة، كقميص وعمامة وإزار، ولا يكفي دفع ما ذكر إلى مسكين واحد، وعليه الشافعي؛ لظاهر قوله تعالى: ((عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)).
(أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يعني: عتق رقبة، أي: مؤمنة، كما في كفارة القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) من لم يجد واحداً مما ذكر (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يعني أن الكفارة تكون صيام ثلاثة أيام، وظاهره أنه لا يشترط التتابع، وعليه الشافعي، فيمكن أن تكون هذه الأيام متفرقة.
(ذَلِكَ كَفَّارَةُ) يعني: ذلك المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) يعني: إذا حلفتم وحنثتم، وليس إذا حلفتم فقط، لكن إذا حلفتم وحنثتم.
(وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) احفظوا أيمانكم من أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس، فافعلوه وكفروا، فما دمت قد حلفت فاحفظ هذا اليمين ولا تحنث فيه، إلا إذا كان الشيء الذي حلفت على أن لا تفعله فِعلُه أفضل من تركه، فحينئذٍ فاحنث، ولا يكن اليمين ولا يكن اسم الله الذي حلفت به عائقاً يحول بينك وبين فعل الخير، فلتكفر ولتفعل هذا الخير.
وقيل: (احفظوا أيمانكم) فلا تكثروا الحلف، ولا تقحموا اسم الله سبحانه وتعالى -الذي من شأنه أن يعظم- في سفاهات الأشياء؛ لأن بعض الناس يحلف في أتفه القضايا، ويستعمل اسم الله سبحانه وتعالى في أمور تافهة غير معظمة، فعلى أتفه الأشياء يحلف، وقد ذم الله سبحانه وتعالى الشخص الذي يكثر الحلف، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10]، وهو الذي يكثر الحلف.
فنحن لا ننكر أن الحلف فيه أنواع من العبودية، فإن الحلف نوع من العبادات القولية، ويتضمن معاني كثيرة من معاني العبودية، ولذلك لا ينبغي الحلف إلا بالله؛ لأنه من مظاهر توحيد الله تبارك وتعالى، لكن لا يكثر الإنسان الحلف.
(كَذَلِكَ) أي مثل ما يبين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: تشكرونه على ذلك.
وكلمة (أو) في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هنا للتخيير، أي: أن الواجب أصلاً هو أحد الكفارات الثلاث، الواجب واحد منها على سبيل التخيير، لكن إذا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث فحينئذ يجوز له أن ينتقل إلى الصوم، فلا يجوز الصوم إلا إذا عجز عن إحدى الكفارات الثلاث الواجبات.(45/12)
مقدار الإطعام في كفارة اليمين
أما الإطعام فليس فيه تحديد بقدر، حيث قال تعالى: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)) فلم يحدده بقدر معين لا بوجبة ولا بوجبتين، ولا بقدر معين من الكيل، وإنما حدده بضابط، وهو قوله: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) فما ذكر وجبة ولا وجبتين، ولا ذكر مقداراً معيناً من الكيل، لذلك روي عن الصحابة والتابعين وجوهاً في المقصود من هذا القدر، جميعها مما يصدق عليه مسماه، فبأيها أخذ أجزأه.
فمثلاً: قال علي رضي الله عنه: يأتي بعشرة مساكين فيغديهم ويعشيهم.
وكأنه ذهب إلى أن المراد الإطعام الكامل، أي: إطعام عشرة مساكين إطعاماً كاملاً، وهو قوت اليوم كله، وهو وجبتان، وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة، ولذلك قال الحسن ومحمد بن الحنفية: يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً.
زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا.
وعن عمر وعلي وعائشة وثلة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما.
ونصف الصاع هو ملء الكف مرتين، أي: مدين.
وعن ابن عباس: (لكل مسكين مد من بر ومعه إدامه) يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبز.
وفي فتح القدير من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز، إلا أنه إن كان براً لا يشترط فيه الإدام، وإن كان غيره فبإدام.
وحكي عن الهادي: اشتراط الأكل لإشعار لفظ الإطعام بذلك.
وقوله: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) يعني أن تعد لهم الطعام وتتركهم يأكلون.
وأكثر العلماء قالوا: إن الأكل غير مشروط؛ لأنه ينطلق لفظ الإطعام على التمليك، فمجرد أن تملكه الطعام حتى ولو لم يأكله أمامك يجزئك؛ لأن الإطعام يطلق على التمليك.(45/13)
مقدار الكسوة في كفارة اليمين
ولم يبين في الآية -أيضاً- حد الكسوة وصفتها، فالواجب حينئذ الحمل على ما يطلق عليه اسمها، قال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد من أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه، وقال ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة.
وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت.
وهذه الأشياء تتفاوت بحسب البيئات والمجتمعات، فكل ما يطلق عليه لفظ الكسوة ينطلق عليه هذا الأمر، لكن على أي الأحوال فإنه لا يخفى أن وجه الاحتياط في هذا هو الأخذ بالأكمل والأفضل في الإطعام والكسوة.
وأنبه هنا على أمر يستسهله أغلب الناس في هذا الزمان، وهو موضوع الكسل في أداء العبادات، ففي هذه الكفارة نجد بعض الناس أول ما يفزع إلى إخراج القيمة، وهذا لا يجوز، فالقيمة لا تجزئ، والأصل والذي اتفق عليه العلماء أجمعون أن الإطعام يجزئ، أما القيمة فهي خلاف ما أمر الله به في القرآن حيث قال تعالى: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)، فحينما تقول: القيمة تجزئ فمعناه أنك تزيد لفظاً على القرآن فتقول: (فكفارته قيمة إطعام عشرة مساكين)، والآية تقول: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) فالأصل أن الإنسان يخرج طعاماً للمساكين، وله أن يوكل غيره في إخراجه طعاماً لا مالاً، فلزم التنبيه.(45/14)
كيفية الصيام في كفارة اليمين
قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يصدق على الأيام مجموعة أو متفرقة، كما في قضاء رمضان، فقد قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فيمكن أن تكون متتابعة، ويمكن أن تكون متفرقة، وكلاهما يصدق عليه هذا الوصف.
ومن أوجب التتابع استدل بقراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرآن: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا لم يثبت كونه قرآناً متواتراً، لكن هذه تسمى قراءة شاذة، وقراءة تفسيرية، حيث إن الصحابي يتلو الآية ويزيد لفظاً من عنده كي يفسر اللفظ الذي قرأه.
وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير)، وعند أبي داود: (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) ومعنى ذلك أن التكفير قبل الحنث جائز، فإذا حلف على شيء فإن له أن يكفر أولاً ثم يحنث.
وقوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ فيه استحباب ترك الحلف إلا إذا كان خيراً، لما تقدم من حديث ابن سمرة، وهذا على أحد وجهين في الآية، والوجه الآخر يعني: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي: احترموا هذا اليمين ولا تحنثوا فيه إلا إذا كان عكسه خيراً منه والحنث فيه خير.
قال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت فقوله: (قليل الألايا) يمدح به رجلاً بأنه قليل الحلف.
وسر إطعام العشرة أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام، بالعدد الكامل الكاسر للنفس المجترئة على الله تعالى، وسر الكسوة كونه يجزي بستر العورة سر المعصية، وسر العتق تحرير الرقبة من الإثم، وسر صوم الثلاثة الأيام أن الصيام لما كان صوماً بنفسه اكتفي فيه بأقل الجمع.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة.
يعني: يمكن أن تحلف وتستثني، وفي هذه الحالة لا تجب عليك الكفارة إذا حنثت، فإذا قلت -مثلاً-: والله لا أدخل إن شاء الله.
فدخلت ففي هذه الحالة لا كفارة؛ لأنك استثنيت بالمشيئة.
يقول: كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة، ويكفرها تارة، ويمضي فيها تارة، والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها.
وقد رأيت أخاً فقيهاً يهدد ابنه بأنه سيضربه، والطفل غافل عن الاستثناء، فيقول له: والله لأضربنك -إن شاء الله- إذا فعلت كذا.
والولد لا يفهم أنه إن استنثى فمعناه أنه ليس هذا حلفاً.
والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها؛ ولهذا سماها الله (تحلة) وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمر الله سبحانه وتعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وكلها أمور عظيمة يحلف عليها.
وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه، فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر! فقال: وما يمنعني عن الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه! قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جداً ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.(45/15)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) أي: المسكر الذي يخامر العقل ((وَالْمَيْسِرُ)) أي: القمار ((وَالأَنصَابُ)) أي: الأصنام ((وَالأَزْلامُ)) وهي قداح الاستقسام، وقد سبق الكلام فيها ((رِجْسٌ)) أي: خبيث مستقذر ((مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) يعني: الذي يزينه ((فَاجْتَنِبُوهُ)) أي: هذا الرجز المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه.
ولا شك في أن الأمر بالاجتناب أبلغ في إفادة التحريم، حيث قال تعالى: (فاجتنبوه) وهنا أمر بالاجتناب ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).(45/16)
تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء)
يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91].
قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) يعني: إذا أتيتموها؛ لما يحصل فيها من الشر والفتن (وَيَصُدَّكُمْ) يعني: بالاشتغال بهما (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) خص الذكر تعظيماً له (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) يعني: عن إتيانهما والمقصود: انتهوا.
وهذه الآية أصلٌ في تحريم الخمر وكل مسكر قليلاً كان أو كثيراً، وتحريم القمار بأنواعه.(45/17)
تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
يقول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) أي: المعاصي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي: الإبلاغ البيّن وجزاؤكم علينا.
روى البخاري ومسلم أنه بعد نزول تحريم الخمر قال بعضهم: قتل فلان وقتل فلان وهي في بطونهم -أي: قبل التحريم-! فنزل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] أي: فيما شربوا وأكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم ((إِذَا مَا اتَّقَوْا)) أي: المحرمات ((وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا)) يعني: ثبتوا على التقوى والإيمان ((ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا)) أي: العمل {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، والسيوطي هنا يقول في قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) بمعنى أنه يثيبهم.
وسبق أن بينا أن هذا تأويل، بل المحبة من الله تعالى لعباده ثابتة على ما يليق بالله سبحانه وتعالى.(45/18)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد)
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94].
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ) أي: ليختبركم الله (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) يعني: يرسله لكم من الصيد (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي: الصغار منه (وَرِمَاحُكُمْ) يعني: وتنال رماحكم الكبار منه؛ لأن الصيد الصغير يصاد باليد، أما الكبير فيصاد بالرماح لا باليد، ولذلك قال: ((تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ)) يعني: الصغار من الصيد تنالونه بأيديكم (ورماحكم) تنالون بها الكبار، وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم، وتأتي وسط خيامهم ومواقعهم وتتحرك معهم ابتلاء وفتنة وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى.
(لِيَعْلَمَ اللَّهُ) أي: علم ظهور، وإلا فعلم الغيب يعلمه الله، لكن هذا علم ظهور يكون موافقاً لما سبق في المقادير، أي: ليعلم الله علم ظهور ((مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)) وهذا حال، أي: غائباً لم يره، فيجتنب الصيد ((فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ)) يعني: بعد ذلك النهي عنه فاصطاده (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).(45/19)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة:95].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني: وأنتم محرمون بحج أو عمرة (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ) يعني: فعليه جزاء (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) يعني: شبهه في الخلقة.
وفي قراءة بإضافة جزاء (فجزاء مثلِ ما قتل).
(يَحْكُمُ بِهِ) يعني: هذا المثل يحكم به رجلان (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به.
وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة، وحكم ابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة، وحكم ابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة، وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام؛ لأنه يشبهها في العب، أي: في شرب الماء بلا مص.
وقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) حال من (جزاء)، أي: يبلغ به الحرم فيذبحه فيه ويتصدق به على مساكينه، ولا يجوز أن يذبح حيث كان، ونصبه نعتاً لما قبله فقال: (هدياً بالغ) فـ (بالغ) نعت وإن أضيف؛ لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفاً، فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته.
(أَوْ كَفَّارَةٌ) أي: أو يكون عليه كفارة غير الجزاء وإن وجد، وهي (طَعَامُ مَسَاكِينَ) يعني: من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مداً، وفي قراءة بإضافة (كفارة) إلى (طعام) حيث قرئت (أو كفارةُ طعامِ مسكين).
(أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ) أو يكون عليه عدل مثل ذلك الطعام (صِيَامًا) يصومه عن كل مد يوماً وإن وجده.
وجب ذلك عليه (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) يعني: ثقل جزاء أمره الذي فعله (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد قبل تحريمه (وَمَنْ عَادَ) إليه (فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ) أي: غالب على أمره (ذُو انتِقَامٍ) أي: ممن عصاه.
وألحق بقتله متعمداً فيما ذكر من لزوم الجزاء الخطأ والغلط والنسيان، وإن كان لا إثم فيها.(45/20)
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه)
قال تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96] قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) يعني: أحل لكم -أيها الناس- في حالة الحل والإحرام (صيد البحر) يعني: أن تأكلوه.
وهو ما لا يعيش إلا فيه، كالسمك، بخلاف ما يعيش فيه وفي البر، كالسرطان (وَطَعَامُهُ) وهو ما يقذفه البحر ميتاً (مَتَاعًا لَكُمْ) منفعة لكم، تأكلونه (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي: المسافرين منكم يتزودونه (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) يعني: ما يعيش فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه (مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)، فلو صاده رجل حلال لنفسه غير محرم من صيد البر فهو حلال للمحرم، يعني: فللمحرم أكله، كما بينته السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم) فالحرام على المحرم أن يصطاد لنفسه أو يصطاد له غيره، أما غير المحرم إذا اصطاد لنفسه ثم أطعم معه المحرم فلا حرج في ذلك، كما بين هذا الحديث، ثم قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).(45/21)
تفسير سورة المائدة [97 - 102](46/1)
تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)
يقول الله تبارك وتعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97].
قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) البيت الحرام هو: البيت المحرم (قياماً للناس) يقول السيوطي: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له، وجبي ثمرات كل شيء إليه.
فهذا معنى جَعْلِ الله سبحانه وتعالى البيت الحرام قياماً للناس، أي: يقوم به أمرهم، سواء الأمر الديني أو الأمر الدنيوي، فأما الأمر الديني فبالحج إليه؛ لأنه بالحج إليه يتم الركن الخامس من أركان الإسلام، ويتم أمر دنياهم بالأمن الذي يلقونه داخله، وأنه لا يتعرض أحد لهم.
وكذلك من أمن الدنيا جبي الثمرات من كل مكان إلى هذا البلد الحرام، وفي قراءة: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قيماً للناس) بجعل (قيماً) بلا ألف، مصدر (قام) غير معلٍ، يعني: قام قيماً.
(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي: وجعل الشهر الحرام أيضاً.
والمراد هنا: الأشهر الحرم، فليس المراد شهراً واحداً، ولكن هذا لجنس الأشهر الحرم كلها، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، جعلها الله قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها.
فقوله تعالى: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) يعني: وجعل الشهر الحرام -أيضاً- قياماً للناس، كما جعل البيت الحرام قياماً للناس، وذلك لأن الأشهر الحرم جعلها الله قياماً لهم حين يأمنون من القتال فيها؛ لأنه يحرم فيها القتال، فمن ثم فهي -أيضاً- جعلها الله قياماً للناس.
(وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي: جعل الهدي والقلائد -أيضاً- قياماً للناس، بمعنى أن صاحبهما يأمن من التعرض لها، أو من أن يتعرض له أحد.
(ذَلِكَ) الإشارة إلى الجعل المذكور في قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ) ((ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) فإن جعله ذلك بجلب المصالح لكم، دفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن في المستقبل.(46/2)
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن الله شديد العقاب)
قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98].
قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يعني: لأعدائه (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي: لأوليائه (رَحِيمٌ) بهم.
ثم قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] أي: الإبلاغ لكم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [المائدة:99] أي: تظهرون من العمل: {وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99] أي: تخفون منه، فيجازيكم به سبحانه وتعالى.(46/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)
{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100].
قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ} [المائدة:100] أي: الحرام (والطيب) أي: الحلال (ولو أعجبك) أي: سرك (كثرة الخبيث)، والمقصود بالخطاب هنا أمته صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (فَاتَّقُوا اللَّهَ)، فالخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود به أمته، كما قال عز وجل: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بحكمٍ المقصودُ منه أمته عليه الصلاة والسلام.
يقول: والمقصود بالخطاب أمته صلى الله عليه وسلم، لذلك وجه الأمر إليهم بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] أي: اتقو في ترك الخبيث والإعراض عنه مع كثرته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: تفوزون.(46/4)
قول القاسمي في معنى قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) أي: مداراً لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله، وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء.
(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) بمعنى الأشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها؛ لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها.
(وَالْهَدْيَ) الهدي المقصود به: ما يهدى إلى مكة (وَالْقَلائِدَ) جمع قلادة، والقلادة: هي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى، وليس المقصود القلائد نفسها، لكن المقصود ذوات القلائد، وهي البدن؛ لأن البدن تعلق فيها القلائد كي يعلم أن هذه مهداة إلى البيت الحرام، فلا يتعرض لها أحد ولا لصاحبها، فتوضع عليها هذه العلامات حتى تعظم ويعلم أنها مهداة إلى بيت الله سبحانه وتعالى، فتأمن ويأمن صاحبها، فلا يقصدان بسوء.
وخصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، والمفعول الثاني محذوف يعني: قوله تعالى: ((وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ)) أي: جعل الهدي والقلائد قياماً للناس، لكن حذف المفعول ثقة بظهوره من السياق الذي مر، فإنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم، حيث يعلم من يراهم أنهم يقصدون بيت الله الحرام، وفيه قوام لمعيشة الفقراء، بمعنى أن الفقراء -فقراء الحرم- حين يساق هذا الهدي إلى مكة المكرمة فإنه رزق يرسله الله سبحانه وتعالى إليهم، فيكون فيه قيام لأمرهم، وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلدوا أنفسهم عند الإحرام من لحاء شجر الحرم، فلا يتعرض لهم أحد.
قوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: الجعل المذكور: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:97 - 99].(46/5)
تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب)
يقول تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100].
قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب) هذا حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال.
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير.
وهذه الآية نحتاج للاستدلال بها في كثير من المواضع، فالقليل الذي يبارك الله سبحانه وتعالى فيه خير من الكثير الذي يمحق الله بركته؛ لأنه من حرام أو من رشوة أو من ربا أو من سحت، فأغلب الناس يفتنون بالمال الوفير، ولا يبالون من حرام جلبوه أم من حلال، فكثير ما نحتاج -خاصة في هذا الزمان- إلى إشاعة الاستدلال بهذه الآيات (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) يعني: في ترك الخبيث وإن كثر، فاتركوه وأتوا الطيب وإن قلّ ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).(46/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)
ثم قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101].
يقول السيوطي: ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم، فسأله أحدهم: (يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك فلان.
وكان يطعن فيه) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وكانوا يسألونه استهزاء -وهذا لا يكون من المؤمنين الصادقين، وإنما كان من المنافقين وإن لم يصرح به- فيقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ ولما نزلت آية الحج قال أحدهم: (أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم)، أخرجه مسلم والترمذي؛ فلذلك أنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ)) أي: إن تظهر لكم (تسؤكم) يعني: بما فيها من المشقة.
(وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) يعني: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (تبد لكم)، والمعنى: إذا سألتم عن أشياء في زمانه ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها.
والمقصود النهي عن كثرة السؤال والتنطع في السؤال، فهنا يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ينزل الوحي تبد لكم، وإن بدت لكم ساءتكم، فالمقصود: لا تسألوا عنها، ثم قال تعالى: ((وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)).
وهذه الآية فيها كلام طويل، يقول القاسمي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) أي: نبيكم (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)، وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة فتطلبوا بيانها، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.
فهذا وجه في الآية.
وثمة وجه آخر: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن الكريم ولذلك فسرها ابن القيم على أن المراد زمن النزول المتصل به، وليس الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذناً لهم في السؤال عن التفصيل المنزل، ومعرفته بعد إنزاله، فبعدما تنزل يمكن أن تسألوا عنها حتى تستبينوا وتستوضحوا ما فيها من الأحكام، ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقاً.
ثم قال ابن القيم: وثمة قول ثانٍ في قوله تعالى: ((وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)) وهو أنه من باب التهديد والتحذير، يعني: إذا ما سألتم عنها في وقت الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوؤكم.
وهو الوجه الذي اختاره السيوطي، بما ففيه ترهيب من السؤال، والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم.
وقال بعضهم: إنه تعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، ثم بيان آخر أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم ولا يسرهم.
(عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) أي: عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فما دام أن الله سبحانه وتعالى لم يوجبها عليكم توسعة عليكم فلا تضيقوا أنتم على أنفسكم، كآية الحج مثلاً،: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] يقال: اسكتوا؛ فإنكم إذا سألتم: أكل عام يا رسول الله؟ فإن قال: كل عام وجبت، وإذا كان يجب على كل مسلم أن يحج في كل عام إلى بيت الله الحرام لما استطعنا، فهذا أوضح؛ لأنه جاء بفعل يبين ذلك.
(عفا الله عنها) يعني: عن بيان تلك الأشياء؛ لئلا يسوءكم بيانها، فتكون جملة (عفا الله عنها) صفة لكلمة (أشياء)، أو المعنى: عفا الله عن مسائلكم السالفة، فما سألتم عنه فيما سبق عفا الله عنه، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).(46/7)
تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
يقول تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:102] يعني: ليس المقصود عين المسألة، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال، وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحريم.
وقوله تعالى: (ثم أصبحوا بها كافرين) أي: أصبحوا بسببها كافرين؛ حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ويفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها، فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له، فلا تفعلوا مثلهم.(46/8)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء)
ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا تنبيهات: أولها: ما رواه البخاري في سبب نزولها بالتفسير عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً)، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من المنافقين، (فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)) حتى فرغ من الآيات كلها).
وأخرج -أيضاً- البخاري عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، وهو صوت البكاء المكتوم، (فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ))).
فقد كان هذا الرجل يُطعن في نسبه لأبيه، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهما سألتموني عن أي شيء أجبتكم سأله هذا الرجل: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان)، وقد كان هو أبوه الذي ينسب إليه.
وهذا -بلا شك- من أبلغ الإساءة، ولذلك عاتبته أمه، وقالت: هب أنه ليس أبوك، أتفضحني أمام الناس؟! يقول: وروى البخاري في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة)، وكثرة السؤال والتنطع والتفيهق والتعمق والتحري الزائد في الغالب تكون علامة على ظاهرة مرضية، وتكون أحياناً من أعراض مرض الفراغ، ولذلك روي عن بعض السلف أنه رأى رجلاً يقف له كلما جاء وكلما ذهب، ويسأله أسئلة في قائمة طويلة، فاستكثر منه ذلك، وقال له: أكل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا.
قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ فنحن محتاجون إلى الواقعية في اختيار القضايا التي نسأل فيها، وأن تكون في الأمور التي تهمنا، وأن لا يحصل التدقيق في الأسئلة.
فهذا أحد علماء السلف يقال: كان أحسن الناس خلقاً، فما زالوا به حتى أضجروه، فساء خلقه، وذلك: لأنه مع كثرة الإضجار قد يضطر إلى أن يواجه برد غير حميد، ثم يصير ذلك طبعاً له من كثرة ما يفعل ذلك.
فعلينا أن نتواصى جميعاً بتحري نوع الأسئلة، وتحري القضايا المفيدة دون التعمق والتفيهق في دقائق الأمور.
وهناك نماذج هي أدلة على شيوع هذه الظاهرة، أعني عدم الواقعية في إلقاء الأسئلة، وأذكر من ذلك أنه ذات مرة دق جرس هاتفي كثيراً في الساعة الثانية صباحاً قبل الفجر، فقلت: من المؤكد أن هذا موضوع في غاية الأهمية، للاتصال في مثل هذا الوقت، فرددت على الهاتف فإذا هو أخ يقول لي: أحد أقاربي سألك سؤالاً قبل مدة فكان الجواب مختصراً، ونحن نريد جواباً مفصلاً.
فقلت له: خيراً، فما هو السؤال؟ قال: هاهو موجود وسيذكرك بالسؤال، فسمعته يعطيه السماعة وهو يقول له: اسأله.
فقال: ليس في بالي أي سؤال.
فقال له: اسأله أي سؤال! فهل هذه أخلاق طالب العلم؟! لا بد من أن يكون هناك نوع من الواقعية والجدية، فإذا كان الحال أنه لا يوجد هناك سؤال فلماذا إذاً هذا المسلك؟! فنحن -في الحقيقة- محتاجون إلى مراجعة أنفسنا في باب الآداب الشرعية، ومراعاة هذه الآداب، ومثل هذه القضايا التي ينزل الله فيها الوحي لا شك في أنها من عظائم الأمور التي ينزل الله سبحانه وتعالى فيها هذا التأنيب، فلنقدر هذه المسائل حق قدرها، ومسائل الاستئذان وآداب الاستئذان أمر يطول الحديث فيه في الحقيقة؛ لأنه تحصل فيه تجاوزات شنيعة.
ولقد حكى لي أحد الإخوة أنه ترك ضيفاً في الغرفة، ثم غاب عنه قليلاً، فلما رجع وجده في المطبخ قد فتح الثلاجة يشرب ماء ويأكل شيئاً من الثلاجة، يقول: فتسمرت في مكاني وذهلت! فكيف يحصل هذا؟! فالمضيف متزوج، وهذا يدخل المطبخ! وما وجده في الحجرة، وإنما وجده في المطبخ، وهل رَفْعُ الكلفة يصل إلى هذا الحد من انتهاك حرمات البيوت؟! والنماذج كثيرة، ولكن أقول: لا يمكن أن يكون شيء أنزل الله سبحانه وتعالى فيه وحياً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة ثم يكون قضية من القضايا للتسلية، فكون الله سبحانه وتعالى ينزل لنا هذه الآية عبرة لنا كي نلتزم آداب السؤال، خاصة الواقعية في السؤال.
وأما الحديث الذي ذكرنا طرفاً منه فهو أنه روى البخاري عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غضبان من شدة الإلحاف عليه في المسائل، يقول أنس: (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي)، خاف الصحابة من غضب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، يقول: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه) يعني: إذا حصلت مجادلة بينه وبين شخص عير بأنه يسب إلى غير أبيه، فقال: (يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة) وقد كان يدعى ابن حذافة، وعمر عندما أحس بخطورة الموقف أراد أن يسترضي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان غضبان، فقال: (رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه عرضت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط)، فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)).
وروى البخاري -أيضاً- في باب ما يكره من كثرة السؤال عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.
قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء)، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني وهو غضبان، فقام إليه رجل -وانظر إلى سوء مخالفة هذا الأدب- فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟! قال: النار) ولا حول ولا قوة إلا بالله! (فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة، ثم أكثر صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني سلوني سلوني.
فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك).
وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لـ عبد الله بن حذافة: (ما سمعت بابن قط أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحني على أعين الناس؟! وذلك: لأنه ولد حملت به في الجاهلية، فمعناه: هب أن أمك قارفت شيئاً مما كان شائعاً في الجاهلية، فهل تفضحها على أعين الناس وتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام من أبي؟! هب أن أباك غير من تنسب إليه! فهذا من العقوق بلا شك.
وفي هذا -أيضاً- أدب آخر؛ لأننا نلاحظ بعض الناس يسأل فتكون المشكلة متعلقة بأبيه أو بأمه مثلاً، فهو غير محتاج للتصريح، فيمكن أن يقول: ما حكم الشرع في أب يفعل كذا؟ لكن هناك من يأتي أمام الناس ويقول: أبي يفعل كذا وكذا ويهتك ستر أبيه، فهذا ليس من الأدب، وهذا من العقوق، بل قل: ماذا يفعل ابن أبوه فعل كذا؟ وحاول أن تغير صيغة السؤال حتى لا تقع في غيبة أبيك وعقوقه ولو كان فيه هذه الأشياء.
ونلحظ في بعض الأسئلة من يأتي ليسأل سؤالاً، ويكون السؤال خاصاً إلى درجة بعيدة جداً من الأسرار الشخصية مما لا يحب السائل أن يسمعه أحد، وإذا بالواقفين كأن على رءوسهم الطير، وكأنهم مثبتين في الأرض بمسامير من حديد، لا يتحرك أحد، والأصل في المسلم أن يكون مرهف الحس، فإذا لاحظت سؤالاً شخصياً، أو فيه ذكر عورة فابتعد حتى لا تسمعه، أما أن يقف المرء ولا يبالي بشيء على الإطلاق، ويصل الأمر إلى حد الاضطرار إلى أن يقال: على الإخوة أن ينصرفوا؛ لأن الأخ له سؤال شخصي فهذا ما لا يليق، وهذا أدب ينبغي أن نراعيه من أنفسنا، فإذا كان السؤال ليس عاماً فابتعد حتى يكون السر بين السائل ومن يجيبه.
وكذلك السائل إذا كان لديه سؤال فيه هتك ستر أو فيه ذكر نوع من العورات فلا يسأل على الملأ، لكن ينفرد بمن يسأله.
ولما قالت أم عبد الله بن حذافة ذلك الكلام لابنها قال عبد الله راداً على أمه: (والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته).
وروى ابن جرير عن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال: سلوني) نحو ما تقدم وزاد: (فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً) إلخ.
وزاد: (وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك.
فلم يزل به عمر حتى رضي صلى الله عليه وآله وسلم).
وأخرج ابن جرير -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى ج(46/9)
التزام الصحابة بأدب النهي عن السؤال
ولقد التزم الصحابة هذا الأدب حتى كانوا ما يكادون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، لكن كانوا يفرحون إذا أتى رجل من أهل البادية فيسأله ويسمعون الجواب فيستفيدون، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها).
ولـ مسلم عن النواس بن سمعان قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم).
يعني: أنه قدم المدينة وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل؛ لأنه ما دام بصفة الوافد فقد كان له رخصة وسعة في أن يسأل؛ لأنه وافد، بمعنى أنه يقدم مدة يسيرة ثم يغادر بعدها، فحرص على أن يستبقي صفة الوافد لا صفة المقيم؛ لأنه إذا كان من المقيمين جرى عليه الأصل، وهو أنه لا يسأل.
فهو يقول: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: ما يمنعني من اتخاذ المدينة مهاجراً ووطناً للإقامة إلا المسألة، فظل ماكثاً بصفة أنه وافد، وليس مقيماً مهاجراً، يقول: (ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: الحرص على أن أسأله (كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم).
ومراده أنه قدم وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوافد، إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال.
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم، فقوله تعالى هنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، المقصود به المهاجرون.
وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: (لما نزلت ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)) -إلى آخر الآية- قال: كنا قد انتهينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم!) وهذه الرشوة ليست على ظاهرها، وليست هي الرشوة المحرمة، وإنما أهدوا له الهدية استعطافاً ثم قالوا: اذهب واسأل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا السؤال.
ولـ أبي يعلى عن البراء: (إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -أي: قدوم الأعراب- ليسألوه) فإذ سأل الأعرابي سمع الصحابة أجوبة سؤالات الأعرابي فيستفيدون منها.
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله عنهم فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك.
وعن ابن عمر قال: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر أنه قال: (أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) يعني: لا تكثروا الافتراضات؛ فإن ما نزل وما علمنا يشغلنا عن الاشتغال بالافتراضات.
وعن زيد بن ثابت: (أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: هل كان هذا؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون).
وعن أبي سلمة ومعاذ مرفوعاً: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل.(46/10)
أقسام البحث عما لا يوجد فيه نص
قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين: أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضاً على من تعين عليه من المجتهدين.
ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وقت الجمع، أو العكس، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود مرفوعاً: (هلك المتنطعون) أخرجه مسلم؛ لأن هذا فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع، كمسألة ليس لها أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في الإجماع، وهي نادرة الوقوع، فيظل الإنسان يفرع فيها، فيفرع على الفروع، ثم يفرع على فروع الفروع، وينفق العمر في هذا، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى، خاصة إذا ترتب لها التحصيل فيما هو متعين عليه، أو فيما هو أكثر وقوعاً.
وأشد من ذلك -في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، فأشد من ذلك قبحاً وسوءاً أن الإنسان يظل ينقر ويخترع ويولد الأسئلة في أمور مغيبة الشرع لم يتعرض لها.
فمثلاً: ورد في القرآن والسنة أن الرجال من أهل الجنة سوف يزوجون الحور العين، فماذا عن النساء، وهل النساء لهن أزواج أيضاً مثل الحور العين؟! فهل هذا مما تعرض له القرآن؟! وهل هذا مما تعرضت له السنة؟! إذاً: لا تسأل عن هذا، ومتى ستفهم مثل هذا، فلو كان هذا مما يفيدنا في ديننا ومما يجب علينا الإيمان به والتعرف عليه لأوحى الله إلى رسوله قولاً قاطعاً في ذلك، لكن إذا لم يتعرض له الوحي فلا تضيع وقتك بالاشتغال فيما لا يعنيك، ففي الحديث: (من حسن الإسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فالله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، والله حكم عدل ودود غفور رحيم، يكرم عباده بكرمه وفضله، ولذلك لما سأل ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: متى الساعة انتقل عن السؤال عما لا يعني إلى السؤال عما يعني، فقال: (وما أعددت لها؟) فهذا هو الذي يخصك.
ومن ذلك السؤال عن الروح، والسؤال عن مدة هذه الأمة، وأمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا يوجد باب لهذا، فهذه الأشياء يكره السؤال عنها، وهي داخلة في النهي؛ لأنها أشياء مغيبة لا يدركها الحس، ثم إن الوحي الذي هو النافذة الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نصل إلى الإجابة القاطعة في هذه المسائل لم يبث فيها، ولم يخبرنا بأجوبتها، فدل على أنها مما لا يعنينا ومما لا ينبغي أن نشتغل به، فهذه الأشياء كلها لا تعرف إلا بالنقل الصرف، ولا نقل يوجد.
إذاً: ينبغي أن لا نسأل عن مثل ذلك، ولا نتحرى ولا نتنطع، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث.
وأشد من هذه الصورة -وهي التنطع والتحري فيما هو من الأمور الغيبية التي لا يدركها الحس ولم يتعرض لها النص- ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، ويدخل في هذا السؤال المذموم عن الأشياء التي لو أكثرت السؤال عنها أوقعتك في الشك والحيرة، ومن هنا يأتي بلاء الوسوسة، وما أدراك ما الوسوسة والعذاب الذي يعيشه صاحبها! والتكدير الذي يطبق على حياته كلها! والخلل الذي يطرأ على حياته وعلى دينه وعلى واجباته! ومثال التنطع في السؤال أن يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن، وذلك كسؤال بني إسرائيل عن البقرة حين قال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لانتهى الأمر، لكن لما تنطعوا وتشددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فقالوا: يا موسى! {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] فتنطعوا وتشددوا، ثم قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:69 - 70]، وفي هذه المرة قالوا: إن شاء الله {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71]، فانظر كيف اقترن التنطع في الأسئلة بسوء الأدب! حيث قالوا: يا موسى! وهذا من سوء أدبهم مع نبيهم، ثم قالوا: (ادع لنا ربك) وكأنهم يقولون: هو ربك أنت وليس ربنا نحن ثم في ختام سوء أدبهم -لعنهم الله- قالوا: (الآن جئت بالحق) وكأنه قبل ذلك ما جاءهم بالحق.
فمثال التنطع في السؤال أن تسأل سؤالاً فيجيبك المفتي بالإباحة والرخصة والتسهيل، فتظل تفتش وتفتش حتى يفتيك بالمنع والتحريم والتضييق.
يقول بعضهم: ومثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي العالم بالإذن: أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فالسائل يسأل عن السلع الموجودة في السوق تشترى هل لابد من أن الإنسان يتحرى من أين أتى بها صاحبها؟ ومن أين اشتراها؟ فيجيبه المفتي بالجواب فيقول: ما ينبغي لك أن تتحرى وحين تشتري لنفسك الأشياء المبنية على البراءة.
فيعود السائل إلى سؤاله فيقول: أخشى أن يكون ذلك من نهب أو غصب.
وبقدر الله يكون قد وقع في ذلك الوقت شيء من ذلك في الجملة، حيث تحصل حادثة نهب أو غصب في الحي القريب، أو في الشارع القريب، أو في نفس السوق، فيحتاج المفتي إلى أن يقول له: الورع يقضي بأن تمتنع عن شراء هذه السلعة.
وكان سهلاً على نفسه من البداية أن يشتري بدون تنطع، وكثيراً ما يحصل هذا نتيجة التنطع في السؤال والتدقيق والتفيهق والتكلف، فينتهي ذلك بالإنسان إلى المنع بعدما كان الشيء مباحاً، فهذا من شؤم هذا التنطع والتعمق في السؤال.
يقول: ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه في الجواز.
وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها -ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.
أي: لا مانع من أن تسأل سؤال المستفهم الراغب المتعلم؛ لأن طالب العلم كيف له أن يتعلم إذا لم يسأل؟! فنحن نريد أن نضع الكلام في موضعه المناسب واللائق به، فالإنسان لا يغلو في التعامل مع هذه القضية، أقصد قضية كثرة السؤال، فهناك طرفان ووسط: طرف الغلو، وهو أن يغالي الشخص ويتنطع ويتفيهق، ويفرع الفروع، وفروع الفروع، وفروع فروع الفروع إلى غير ذلك من صور التنطع التي ذكرناها.
وطرف الغلو الآخر أن يسد باب المسائل حتى ينسد عليه باب العلم، فلا يتعلم كثيراً من الأحكام حتى التي يحتاجها، بل يسد باب المسائل حتى المسائل التي يحتاجها الإنسان في دينه، أو يحتاج إليها طالب علم ليتعلمها، فيفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فهذا تكون نتيجته أنه يقل فهمه وعلمه.
وعلى الجانب الآخر من التوسع في تفريع المسائل وتوليدها -لا سيما إذا كانت المسائل نادرة الوقوع- إذا كان السائل يقصد بذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله، وهذا هو الذي كرهه السلف رحمهم الله تعالى، وقد وجدنا في بعض المجالس أن بعض الشباب يأتي إلى عالم جليل من العلماء، وهذا الشاب ربما استطاع أن يحصل شيئاً من العلم في مسألة من المسائل سهر فيها الليالي الطوال ليحصلها، فإذا جلس أمام الشيخ فإنه يبدأ باستدراجه، وهذا يحصل كثيراً جداً، وهذا ليس من الأدب في شيء، فيُظهر له في البداية أنه يسأل سؤال مستفهم، كأنه لا يعلم، فالعالم يفتي فيقول: المسألة حكمها كذا فإذا به يقول له: إن فلاناً يقول فيها كذا.
فيظهر من خلال الحوار أنه مطلع اطلاعاً واسعاً جداً على المسألة، وينتقل من المستفهم الراغب في العلم إلى المجادل المناظر الذي يحاول أن يحرج هذا الشيخ ويفحمه، حتى إنه حصل مرة مع فضيلة الشيخ: أبي بكر الجزائري هنا في الإسكندرية موقف مثل هذا، واستدرجه السائل أولاً بالسؤال، ثم ظل يجادل ويتنطع ويفرع ويحرجه، إلى أن قال الشيخ في غاية التواضع: يا أخي! اعذرني؛ فإني لا أحسن هذه المسألة.
فينبغي للإنسان أن يراقب نيته مراقبة دقيقة في موضوع السؤال، وأن يكون راغباً في العلم لا راغباً في المجادلة أو الإحراج.
يقول: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها، فإنه هو الذي يحمد وينتفع به، وهو طلب العلم من مضامينه، وتعلم مسائل الفقه، وتعلم الحديث والتفسير، وهكذا، هذا لا حرج فيه إذا كان بهذه الصورة، وهذا الذي سلكه فقهاء الأمصار من التابعين، فمن بعدهم.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح.
ثم ذكر الآية وبعض الأمثلة التي أوردناها، ثم قال: والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه.(46/11)
تفسير سورة المائدة [104 - 108](47/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول)
قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].
(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله) أي: من الكتاب المبين للحلال والحرام (وإلى الرسول) الذي أنزل هذا الكتاب عليه؛ لتقفوا على حقيقة الحال، وتميزوا بين الحرام والحلال، فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال.
(قالوا) يعني: لإفراطهم في الجهل وانهماكهم في التقليد (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) أي: كافينا ذلك.
و (حسبنا) مبتدأ والخبر (ما وجدنا عليه آباءنا) فما هو ذاك الذي هو حسبهم؟ هو قولهم: (ما وجدنا عليه آباءنا) أي: الذي وجدنا عليه آباءنا.
فهذا هو الخبر، فإن (ما) بمعنى الذي، والواو في قوله تعالى: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) الواو هنا للحال دخلت عليها همزة الإنكار، يعني: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! أيكفيهم ذلك حتى ولو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! فإذاً: الواو هنا للحال، ودخلت عليها همزة الإنكار، فكان المعنى: أحسبهم ذلك (ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً) أي: لا يعرفون حقاً ولا يفهمونه (ولا يهتدون) أي: إليه?! قال الزمخشري: والمعنى أن الاقتداء إنما يصلح للعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة.
ففيه ذم أن يقتدي الإنسان بعالم غير مهتد، ولا يكون مهتدياً إلا إذا بنى قوله على الحجة والدليل، وإذا لم يكن معه حجة ودليل لا يكون عالماً ولا مهتدياً، فوجب أن لا يجوز الاقتداء به، وثمرة الآية قبح التقليد، ووجوب النظر، واتباع الحجة.
وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة.(47/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي: احفظوها وقوموا بصلاحها.
(لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قيل: المراد: لا يضركم من ضل من أهل الكتاب.
وقيل: المراد غيرهم.
كما في حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك) رواه الحاكم وغيره، وصححه الترمذي.
وروى أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] يعني: ينبئكم ثم يجازيكم به.(47/3)
كلام القاسمي وغيره في معنى قوله: (عليكم أنفسكم)
يقول القاسمي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(لا يضركم من ضل) أي: هؤلاء الضالون الذين سبق حكاية كلامهم ومنهجهم الذين قالوا: (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، أو ممن أخذ بشبهة فضل بها أو عاند في قول أو فعل.
فقوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) يعني: إذا اهتديتم إلى الإيمان.
وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم وضلالهم، فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم به من إصلاحها، والمشي بها في طريق الهدى، لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين.
فإذاً: هذه الآية -حقيقة- من الآيات التي ينبغي التنبه واليقظة عند دراسة تفسيرها؛ لأن كثيراً من الناس يضعونها في غير موضعها، فالآية لا تدعو أبداً إلى الأنانية، أعني أنه يكفيك أمر نفسك، فما دمت مهتدياً فلا تبال بالآخرين، فليس المقصود ذلك.
بل الآية على الوجه الأول المذكور المقصود بها تماماً كالمقصود من قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] فهذا تهوين وتخفيف على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة أيضاً، يعني: لا يشقن عليكم ما يقع من هؤلاء من استمرارهم على الكفر بالإيمان.
فالله تعالى يقول: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فإن من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه.
فهذا هو المقصود في هذا التفسير الأول، أي: لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم أنتم مهتدين، لا يشقن ذلك عليكم، ولا تتحسروا حسرة تكاد تقتلكم، كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وكان هذا من شدة رحمته بالأمة صلى الله عليه وسلم.
كذلك يقول الزمخشري: وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب بهذه الآية.
يعني: لا تشتغل ولا تضيع وقتك وجهدك وطاقتك في حكاية ما عليه أهل الباطل من الضلال، فتقول: الرجل الفلاني شتم الإسلام وقال كذا، والصحفي الفلاني كتب مقالة قال فيها كذا، والرسام الفلاني للكاركتير فعل كذا، وإذاعة كذا قالت كذا، وفي التمثيلية الفلانية قالوا: كذا.
فكأنك تنصرف بهذا عن وظيفتك في عبودية الله سبحانه وتعالى، بأن تنشغل بالحكاية والاسترسال في متابعة ضلالات أعداء الدين، فتأمل قول الزمخشري هنا! وكذلك يخاطب بهذه الآية من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا حرج في أن الإنسان يتأسف ويتألم مما يصنع أعداء الدين، ولكن ليس له أن يظل يذكر معايبهم ومناكيرهم، ولا يبقى له شغل سوى ذلك.
فالعبد يخاطب بهذه الآية كي لا ينشغل عن الحق الذي كلف به بتتبع أضاليل هؤلاء الملحدين، فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي: اشتغلوا بما كلفتم به.
وليس معنى ذلك أن ترضى بكفر الكفار، أو لا تتألم بسبهم للإسلام، إنما المقصود أن لا تنشغل بهم وبذكر مثالبهم عما كلفت به من الحق؛ لأن هذا الذي يفعله أعداء الدين في كل وقت وفي كل زمان ومكان ليس أمراً جديداً ومستغرباً على المؤمنين، بل هو أمر أخبرهم الله سبحانه وتعالى به مسبقاً.
ألم نسمع قوله تعالى من قبل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] فالأمر هنا بالصبر والتقوى، والصبر هو الصبر الجميل، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5].
يقول تعالى: (إلى الله مرجعكم) فتذكر -أيها المسلم- دائماً أن المآل والمصير إليه؛ فإن هذا يواسيك ويعينك على ما أنت فيه من الغربة (إلى الله مرجعكم) يعني: بعد الموت مرجعكم جميعاً أنتم وهؤلاء الذين يعادونكم.
(فينبئكم) أي: يخبركم.
(بما كنتم تعملون) أي: في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فهذه الآية وعد ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره، تنبيه لكم على أن تشتغلوا بما ينفعكم في دينكم، ولا تشتغلوا بذكر ما يصنعه أعداؤكم؛ لأن كلاً منكم سيحاسب بعمله هو لا بعمل غيره، ولذلك قال عز وجل: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون) والمقصود: فيجازيكم به.(47/4)
التفسير الشائع عند العوام لقوله تعالى: (عليكم أنفسكم)
ولا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي، وإلا فمن تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه.
وبعض الناس قد يستدل بالآية على إبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخذاً بظاهرها، فيقول في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) إذا رأيت من قد ضل عن طريق الله يرتكب المعاصي أو البدع أو المخالفات فهذا لن يضرك وأنت على دينك.
وهذا في الحقيقة ليس على إطلاقه، ولا يصح فهم الآية بهذه الطريقة.
ولماذا نقول: إن هذا التفسير لا يصح؟ لأن الإنسان إذا كان قادراً على تغيير المنكر بأي درجة من درجات الإنكار ثم قصر في إنكاره فإن ضلال غيره يضره في حالة القدرة على إزالة المنكر؛ لأن لله حقاً عليك في إنكار هذا المنكر.
والحقيقة أن ضلال الغير يضر القادر على تغيير ضلاله أو منكره، ولذلك يجب أن نحسن فهم الآية (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، فلا ينبغي أبداً ولا يصح إنزالها على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القدرة على إنكار هذا المنكر؛ لأن المطيع يؤاخذ بذنب العاصي ويضره ضلاله إذا قدر على تغيير المنكر ولم يغيره.
وليس هذا فحسب، بل هذه الآية نفسها يستدل بها على التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فمن قدر على إنكار المنكر ولم ينكره فهو من الضالين الذين يحذرنا الله أن نسلك مسلكهم، فكأن الآية ترشدنا إلى أن ننكر المنكر على أهله ما دمنا قادرين على ذلك، ولا يضرنا من ضل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو قادر إذا اهتدينا نحن بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط، فالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من جملة الاهتداء إذا اهتدينا، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة هو من جملة الضلال الذي أمرنا ألا نتبع من يقع فيه.(47/5)
الآية ودلالتها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تركهما مع القدرة فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] إذ يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات، يعني: الزموا أنفسكم بكل ما وجب عليكم كما قال المهايمي في تفسيره: (عليكم أنفسكم) أي: الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الإخوان إلى ذلك.
كما قال تعالى عن المؤمنين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] بإقامة الحجج ودفع الشبه، فالله سبحانه وتعالى حكم بأن كل إنسان في خسر فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] فكل بني آدم في خسر إلا من جمع هذه الأربع: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
فإذا آمن وعمل الصالحات ولم يتواص مع إخوانه بالحق فهو من الخاسرين، وإذا آمن وعمل الصالحات وتواصى معهم بالحق لكنه لم يتواص بالصبر فذلك نوع من الخسران.
إذاً: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بدعوتهم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، وإقامة الحجج عليهم ودفع الشبه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل، ولا تقصروا في ذلك {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] من التقصير أو الإيفاء قولاً وفعلاً في حق أنفسكم أو غيركم.
انتهى كلامه.
ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله يعتبر هذه الآية أوكد آية في إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قال: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم.
فانظر كيف فسرها ابن المبارك! لأننا نلاحظ كثيراً في القرآن أنه استعملت عبارة النفس أو الأنفس وأطلقت على الإخوة الموافقين في الدين، كقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] أي: بإخوانهم، وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] والمقصود: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ومعناها على إحدى التفسيرين: إخوانكم.
وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة:188] يعني: أموال أنفسكم، والمقصود أموال المسلمين.
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] والمقصود: اقتلوا إخوانكم.
أي: يقتل بعضكم بعضاً.
وكانت هذه توبة لليهود، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن.
فالشاهد من هذا كله أن قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم.
كقوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) أي: أهل دينكم.
(لا يضركم من ضل) يعني: من الكفار إذا اهتديتم أنتم.
فقوله: (عليكم أنفسكم) يعني: بأن يعظ بعضكم بعضاً في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات.
والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله: (عليكم أنفسكم) معناه: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب.
فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا، فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً.(47/6)
فهم الصحابة والسلف لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم)
روى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لا يغيرونه يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه) ومعناه أننا لا نستطيع أن نحفظ أنفسنا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى الترمذي عن أبي أمية الشعياني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: (كيف تصنع بهذه الآية؟! قال: أية آية؟! قلت: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً -أو: أما والله لقد سألت عنها أنا خبيراً- سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم) قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة قيل: (يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم.
وهذه الرواية -إن صحت- يفهم منها أن الآية تكون على ظاهرها في هذه الحالات إذا توافرت هذه الشروط، أي: (عليكم أنفسكم) إذا جزمتم بأن لا طائل من وراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي هذه الحالة عليك بخاصة نفسك والذين هم أقاربك، سواء من أهل بيتك أو أولادك أو إخوانك في الدين الذين يعظمون الشرع ويلتزمون الدين، فعليك بهم والزمهم، ودع عنك أمر العوام، فإن عامتهم يقعون في تلك الأحوال، يقول أبو ثعلبة رضي الله تعالى عنه.
(أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر) يعني: استمروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا رأيتم هذه العلامات (حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة) يفضلون الدنيا على الآخرة (وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً) يعني: سوف تأتي أيام تشتد فيها غربة الإسلام، ويعاني المؤمن الموحد المطيع لله عز وجل ورسوله من الأذى كما يعاني الشخص إذا قبض على الجمر المتقد، وتخيل إنساناً إذا قبض على الجمر يمسكه بكل قوة دون أن يترخص في التخلي عن دينه وعن إيمانه، (فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر)، يعني: لا يؤذى إلا بسبب أنه متدين، ولا يسب إلا لأنه يطيع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يضاعف للصابر على هذا الأذى ثوابه، للعامل فيهن في هذه الأيام مثل أجر خمسين رجلاً، يأخذ أجر خمسين رجلاً من الصحابة، فهذا الصحابي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن كونهم خمسين من الذين يعيش بينهم أم خمسين من الصحابة فقال: (بل أجر خمسين منكم).
هذا لا يلزم منه أن يكون الواحد من هؤلاء أفضل من الصحابة، فإن مضاعفة الأجر في هذه الأشياء لا يمكن أن تفي بفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، خاصة أعظم فضيلة على الإطلاق، وهي رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته، فليس معنى هذا أنه يكون أفضل من الصحابي.
وعن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة:105] الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: (ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟! فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك؛ فإن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه -يعني: اسكت- لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، وفيه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأوهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فأمرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية) أخرجه ابن جرير.
وأخرج -أيضاً- أنه قيل لـ ابن عمر: (لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه -يعني: أيام الفتنة- فإن الله قال: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب -يعني: مسئولون عن أن نبلغكم- ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم).
وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه، قال: لأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:105] خطاب عام، وهو -أيضاً- خطاب للغائبين مع الحاضرين، فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب؟! انتهى.
يقول القاسمي: ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما إخراج الحاضرين عن الخطاب، وأنه لم يعن بها إلا الغُيَّب، وإنما مرادهما الرد على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك والاسترواح لظاهرها إلا في الزمن الذي بيناه، وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قبلا، فإن ردا في مثل ذلك الزمن فليقرأ (عليكم أنفسكم) فهذا مرادهما، والله تعالى أعلم.(47/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت)
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:106 - 108].
هذه الآية من الآيات التي تحتاج إلى انتباه في فهمها وتفسيرها، وقد أفاض المفسرون في الكلام فيها، حتى قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً.
وإن كان بعض العلماء لا يوافقونه على ذلك.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) معنى (إذا حضر أحدكم الموت) أي: حضر الموت حقيقة، أي: مقدماته وأماراته.
فقوله تعالى: (حضر أحدكم الموت) يعني: حضر أحدكم أمارات وعلامات الموت.
(حين الوصية) هذا بدل من الظرف، وليس ظرفاً للموت ولا لحضوره، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها.
وقوله تعالى: (اثنان) خبر (شهادة) الذي هو المبتدأ، فالخبر هنا متأخر، وهو (اثنان) فيعرب على أنه خبر مرفوع بالألف لأنه مثنى، فقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان) يعني: شهادة اثنين.
فيقدر هنا مضاف، فيكون التقدير: شهادة بينكم حينئذٍ شهادة اثنين.
أو يعرب على أن (شهادة) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان.
فتكون لفظة (اثنان) هنا فاعل لـ (يشهد).
(ذوا عدل منكم) أي: من المسلمين (أو آخران من غيركم) أي: من أهل الذمة.
فإذا عجزتم عن المسلمين فآخران من غيركم من أهل الذمة.
(إن أنتم ضربتم في الأرض) أي: سافرتم فيها.
(فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) أي: توقفوهما للتحليف.
(من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر، كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، لكن كيف يقال: إنها صلاة العصر، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يعين صلاة العصر في القرآن الكريم؟ قيل: عدم تعيينها لتعيينها عندهم للتحليف بعدها؛ إذ عند المسلمين تعظيم الحلف بعد العصر، كما في الحديث: (ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر)، فوقت العصر له وضع خاص في القسم فيه، وإن كان الإنسان مطالباً بالصدق في الأيمان في كل وقت.
فإذاً: المعنى: من بعد صلاة العصر.
كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، وعدم تعيينها لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها، لأنه ليس وقت اجتماع الناس، فإن الناس في الغالب يكونون في السوق فترة الضحى والظهيرة، فإذا جاء وقت العصر انفضوا من السوق، حتى إن الإنسان الذي عنده رأس مال إذا جاءه وقت العصر تكون قد ذهبت عليه الصفقات في هذا الوقت، فيريد أن ينفق سلعته لأنه سيخسر.
ولذلك قال بعض العلماء: ما فهمت هذه الآية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] حتى جئت يوماً من الأيام إلى السوق بعد العصر، فإذا تاجر ممن كان يبيع الثلج المجمد في قوالب يجري في السوق ويصرخ في الناس ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله.
لأن هذا الثلج إذا ذاب وصار ماءً فهل سيستطيع بيعه بعد أن يذوب؟ لا، فقال: إن هذه الآية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] تعني أن العصر رأس مال الإنسان، وهو الوقت، فإذا ضاع منك الوقت فقد خسرت الربح وخسرت -أيضاً- نفس رأس المال إذا ضاع عمرك.
فقوله تعالى: (من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر.
وأول شيء من أسباب تخصيص صلاة العصر بالذكر هو أن العصر وقت اجتماع الناس في المسجد، فينفض السوق ويجتمع الناس جميعاً في المسجد لصلاة العصر.
كما أن العصر وقت تعاقب ملائكة الليل وملائكة النهار، فيجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار -كما هو معلوم- في صلاة العصر وصلاة الفجر.
وحينما يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار ففي ذلك تكثير للشهود منهم على صدقه أو كذبه، ومعناه أن الشهود ستكثر على ابن آدم، فملائكة الليل وملائكة النهار موجودة شاهدة على هذا الذي يحلف، سواء حلف كاذباً أو حلف صادقاً، فلعل هذا من الحكمة في تخصيص صلاة العصر.
ومعلوم أن هذا غير حاصل في صلاة الفجر، فصلاة الفجر الناس بعدها يعودون إلى بيوتهم، وإن كان يحصل وجود ملائكة الليل والنهار.
وعن الزهري أنه قال في تفسير الآية (من بعد الصلاة): بعد أي صلاة للمسلمين كانت، وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق.
فالإمام الزهري يقول: بعد أي صلاة، ولا يشترط أن تكون صلاة العصر؛ لأن الإنسان إذا صلى فالصلاة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، إذا كان حديث عهد بالصلاة فإن الصلاة تنهاه عن أن يكذب في حلفه، فهي داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فالتعريف بالصلاة إما للعهد الذهني أو للجنس، فإذا قلنا: إنها للعهد الذهني فالمراد صلاة العصر، مثل قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16] ومعلوم من هو الرسول، فهو موسى عليه السلام، ومثل قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك (أل) في (الصلاة) إذا قلنا: إنها للعهد فهي الصلاة المعهودة وهي صلاة العصر، أو أن اللام للجنس فتشمل كل صلاة على قول الزهري.
قوله تعالى: (فيقسمان بالله) أي: يحلفان.
(إن ارتبتم) أي: إن شككتم فيهما بخيانة، أو أخذ شيء من تركة الميت.
قوله تعالى: (لا نشتري به ثمناً) جواب للقسم، أي: والله لا نشتري به ثمناً.
أي: يا فلان! لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله -أي: عرضاً من أعراض الدنيا- أن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب، أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال.
(ولو كان) أي: لو كان من نقسم له ونشهد عليه ذا قربى، ودل عليه فحوى الكلام، (ذا قربى) أي: قريباً منا.
واسم كان الضمير (هو)، والتقدير: ولو كان هو ذا قربى.
أي: من نقسم له ونشهد عليه، وفحوى الكلام يدل عليه.
فقوله تعالى: (ذا قربى) أي: قريباً منا، تأكيداً لبراءتهم من الحلف كاذباً، ومبالغة في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً، واضمم إليه رعاية جانب الأقرباء، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! يعني: لو كان قريباً ما كنا لنفعل هذا، فكيف لو لم يكن قريباً لنا؟! فهو أبعد لنا من أن نشتري به ثمناً.
(ولا نكتم شهادة الله) أي: الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها.
وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريف لها وتعظيم لأمرها.
(إنا إذاً لمن الآثمين) يعني: إنا إذاً إن كتمناها لمن المعدودين والمستقرين في الإثم.(47/8)
تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما)
قال عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:107].
قوله تعالى: (فإن عثر) أي: إن اتبع بعد التحليف (على أنهما) أي: الشاهدين الوصيين (استحقا إثماً) أي: فعلا ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما.
(فآخران يقومان مقامهما) يعني: رجلان آخران يقومان مقام الذين عثر على خيانتهما، أي: في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإظهار كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما.
فهذان اللذان حلفا إن اتضح بعدما حلفا أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول من المال، أو زعما -مثلاً- أن هذا المال قد أوصى به إلينا، أو أعطانا هذا القدر من المال قبل أن يموت مثلاً فإنه يتوجب على شخصين آخرين أن يقوما مقامهما في إظهار الحق، والحلف من أجل إظهار هذا الحق، وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما للمال، إن عثر على أن الشاهدين الأولين قد استحقا إثماً، بأن زعما أن هذا المال أعطاه أياهما رجل ووهبه لهما.
(فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أي: الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة، أي: اليمين، فـ (الأوليان) فاعل استحقا، ومفعول استحقا محذوف قدره بعضهم (وصيتهما)، وقدره ابن عطية (ما لهما وتركتهما)، وقدره الزمخشري: أن يجردوهما للقيام بالشهادة -لأنها حقهما- ويظهروا بهما كذب الكاذبين، وقرئ على البناء للمفعول، أي: من الذين استحق عليهم الإثم -أي: بني عليهم- وهم أهل الميت وعشيرته، فـ (الأوليان) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران من الذين استحق عليهما) وكأنه لأنه قيل: ومن هما؟ وسيأتي الجواب أنهما الأوليان.
أو هو بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران)، ويجوز أن يرتفعا بـ (استحق) على حذف المضاف، أي: استحق عليهم ندب الأوليين منهم للشهادة.
وقرئ (الأولين) على أنه صفة لـ (الذين) مجرورة، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها؛ إذ هذان يكونان من أقرباء الميت.
وقرئ (الأوليين) على التثنية وانتصابه على المدح.
وقرئ (الأوليين) تسمية أول نصباً على ما ذكر، كما في البيضاوي، والكلام فيه كثير، ونقتصر على هذا القدر في الإعراب.
قوله تعالى: (لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي: لشهادتنا أحق بالقبول من شهادتهما، أي: لقولنا إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق.
يعني أن هذين الاثنين اللذين كانا مع هذا الرجل في السفر وزعما أن هذا المال الذي كان معه هو لهما أو أعطاهما إياه، أو أوصى به إليهما، ونحو ذلك من أنواع الخيانة أو الغلول يؤتى بهما بعد صلاة العصر ليحلفا على هذه الوصية، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول، وجاء اثنان من أقارب الميت بعد ذلك في نفس الوقت للحلف بعد الصلاة فإنهما يقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لقولنا أحق بالقبول من شهادتهما، فقوله تعالى: (لشهادتنا) أي: على هذين بأنهما خانا وكذبا، والمقصود: لقولنا: إن هذين الرجلين قد كذبا وخانا فيما ادعيا من الاستحقاق، هذا القول منا أحق من شهادتهما المتقدمة، لأنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم.
(وما اعتدينا) أي: وما تجاوزنا الحق فيما اتهمناهما فيه من الخيانة، فلم نتهمهما جزافاً.
(إنا إذاً لمن الظالمين) قوله: (إنا إذاً) يعني: إن اعتدينا (لمن الظالمين) أي: أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى، فسنكون ظالمين إن استعملنا الحلف باسم الله في ظلم هذين، أو من الواضعين الحق في غير موضعه.
ومعنى الآية أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين، فيقول: مال كذا أعطوه لفلان، أو الوصية هي كذا إلى آخره، فإن لم يجد مسلمين فرجلين من أهل الكتاب يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قبل قولهما وتركا يخلى سبيلهم، وإن اتهموهما -أي: إن طعن الورثة في هذين الرجلين واتهموهما- رفعوهما إلى السلطان، فحلفا بعد صلاة العصر بالله: ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا.
فإن اطلع الأوليان الأقربان من الميت -من الورثة- على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافِرَين باطلة، وأنا لم نعتد.
فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما.
قال الإمام ابن كثير: وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما -والحالة هذه- كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القتل، فيقسم المستحقون القاتل، فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة.
وقد ورد في السنة مثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) إلى آخرها قال: (برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولىً لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة معه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله -أي: يوصلا هذا المال من الفضة إلى أهله- قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدي، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام -أي: أعطياهم ما بقي بعدما أخذا من المال ما أخذاه، ولم يذكرا شيئاً عن الجام، وأهله كانوا يعرفون أن الجام أعظم ما يملك- قال: فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.
قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:106 - 107] فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء).
هكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به فذكره، وعنده: (فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله هذه الآية، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء) ثم تكلم الترمذي على إسناده، والحديث أصله في البخاري في كتاب الوصايا.
والجام: هو الإناء، وهو جام من فضة، وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوص النخل.
ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين وأبو داود بإسناد رجاله ثقات عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا -اسم بلد- ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه، وقدما الكوفة لتركته ووصيته، فقال الأشعري: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا، ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما.
وقوله: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) يعني: هذه الحادثة لم تتكرر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام منذ حادثة قصة تميم وعدي بن بداء.(47/9)
تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها)
قال عز وجل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108].
بين عز وجل وجه الحكمة والمصلحة في الأمر المتقدم تفصيله بقوله: (ذلك) يعني: ذلك الحكم المذكور فيما سبق من الآيات أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود أو الأوصياء الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها، خوفاً من العذاب الأخروي.
فقوله تعالى: (ذلك) يعني: هذا التشريع؛ لأن هذين الشاهدين من أهل الكتاب إذا كانا يعلمان أنهما إذا بدلا أو غيرا فاعترض الأوليان اللذان هما أقرب للميت على ما فعلا واتهماهما فسيرد الحق وينتزع منهما إلى هذين الأوليين أو إلى الورثة فإن ذلك أدنى أن يكون دافعاً لهما إلى أن يأتيا بالشهادة على وجهها.
والوجه بمعنى الذات والحقيقة، أي: على حقيقتها.
قال أبو السعود: وهذه -كما ترى- حكمة -أي: شرعية- التحليف بالتغليظ المذكور (ذلك) يعني: ذلك التغليظ في التحليف، ويكون بعد صلاة العصر لكي تكثر الشهود من الملائكة والشهود من الناس، ويقسمان بالله ما غيرنا ولا بدلنا إلى آخره.
وقوله تعالى: (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة، معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام، كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتي الشاهد بالشهادة على وجهها ويخاف عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة، أو يخاف أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم فيفتضح بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ويغرم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) (اتقوا الله) أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب (واسمعوا) أي: ما تؤمرون به سماع قبول.
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.
أي: لا يهديهم إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم، يعني: لا يهديهم إلى ذلك.(47/10)
الأحكام المستفادة من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت)
استفيد من الآية أحكام:(47/11)
لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه
الأول: لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه؛ لأنه تعالى قال: {حِينَ الْوَصِيَّةِ}، أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم.
إذاً: تجب الوصية إذا ظهرت أمارات الموت، فيجب على الإنسان أن يكتب الوصية أو يوصي ويشهد على الوصية إذا حضرت أمارات ومقدمات الموت.(47/12)
شهادة الشاهدين عامة في كل الحقوق الإلهية والآدمية
الأمر الثاني: قال بعضهم: دل قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان، وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره، ولا بين الحدود وغيرها، إلا في شهادة الزنا كما في قوله تعالى في سورة النور: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، وهذا مجمع عليه، وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أنه -سبحانه- ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك، فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان، وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه، والشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقاً قد ظهر بدليله أبداً، فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها، ولا يكشف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في التصريح به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه.(47/13)
صحة شهادة الذمي إذا لم يوجد مسلم
قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، فيه دلالة على صحة شهادة الذمي على المسلم عموماً، لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع.
قال بعض المفسرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت، وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجده الإمام عبد الله بن الحسين أنها صحيحة ثابتة، وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ، وقال طاوس والحسن والهادي: إنه ثابت.
يقول القاسمي: أقول: لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها.
وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أنه تعالى أمر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم، وغير المؤمنين هم الكفار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين، وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، ولم يأت بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخ.
فليس في سورة المائدة منسوخ، وليس لهذه الآية ناسخ البتة.
ولا يصح أن يكون المراد بقوله: ((مِنْ غَيْرِكُمْ)) من غير قبيلتكم، فإن الله سبحانه وتعالى خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فلا يمكن أن تفسر بـ (من غير قبيلتكم).
ولا يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: (من غيركم) أي: أيتها القبيلة.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.(47/14)
استحباب التغليظ في الأيمان
قوله تعالى: ((مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)) فيه دلالة على تغليظ اليمين، واليمين يمكن أن تغلظ بأنواع كثيرة زمانية أو مكانية، فتغلظ اليمين من ناحية الزمان بأن تكون بعد العصر، أما في المكان ففي المدينة عند المنبر أو بمكة بين الركن والمقام، وقد ورد في بعض الآثار تغليظ الحلف بين الركن والمقام، حتى جاء في بعض الأحاديث أيضاً: (يبايع المهدي بين الركن والمقام) لتوثيق العقود، ولشدة حرمة المكان، وهو مكة المكرمة، ثم المسجد الحرام، ثم بين الركن -الذي هو الحجر الأسود- ومقام إبراهيم عليه السلام، حتى إن المثلث الواصل بين الركن اليماني والحجر الأسود زمزم سمي الحطيم؛ لأن من حلف فيه كاذباً فإن الله يحطمه.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا نوع من التغليظ، وأضافوا أشياء في الزمان بعد العصر، فهذه ثابتة، أما التغليظ في المكان ففي المدينة عند باب المنبر، أو في مكة بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي غير ذلك في المسجد الجامع، واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير لا في القليل.
وذهبت الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا مكان، وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولم يفصل، قالوا: وقوله تعالى في هذه الآية: ((مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)) يحتمل أن ذكره لهذا الوقت لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت.
ومن الأشياء التي أحدثت في تغليظ الأيمان أن يأتي بالمصحف ويضع يديه عليه من باب التغليظ في هذا الحلف.
قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة: المختار التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان، وذلك مروي عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعي.
قال: والمختار أنه مستحب غير واجب.
قال ابن أبي الفرج في قوله تعالى: ((فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)) دليل على أن: (أقسم بالله) يمين وليست كلمة (أقسم) فقط بدون أن يقول: (بالله)، فلا تكون يميناً، لكن إذا أراد أن يقسم فليقل: (أقسم بالله) لقوله تعالى: ((فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)).(47/15)
تحريم كتمان الشهادة
قوله تعالى: ((وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ))، فيه دليل على تحريم كتمان الشهادة، وذلك لا إشكال فيه.
قال السيوطي: تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة على قراءة (الأوليان) لخصوص الواقعة التي نزلت لها.
ثم ساق رواية البخاري السابقة، أي: والإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة -أيضاً- وإن كان فيهم كثرة.
ثم يقول القاسمي في ختام تفسير هذه الآية الكريمة تحت عنوان (غريبة): قال مكي في كتابه المسمى بالكشف: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً وتفسيراً، ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها.
قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر، وقد ذكرناها مشروحة في كتاب المفرد.
قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى.
يعني: من كتاب مكي، فهو يعترض على أنه يمكن أن يجمع تفسيرها في ثلاثين ورقة.
وابن عطية إمام مشهور جداً، ولكن الناس تجهل أن ابن عطية هو نفسه أبو محمد عبد الحق، إمام جليل جداً من أئمة المغرب، فالإمام أبو محمد عبد الحق هو ابن عطية! فـ ابن عطية يعلق على كلام مكي حينما قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر.
فقال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها.
يعني: ليس عنده من الخصوبة العلمية ما يزيد على ثلاثين ورقة، فهي تحتمل أكثر من ذلك، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى، يعني: كتاب مكي.
قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً.
يقول القاسمي أقول: هذه الآية الكريمة غنية بنفسها -مع ما ورد في سبب نزولها، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها- عن التشكيك فيها، والتكلف لإدخالها تحت القواعد، والتمحل لتأويلها، فخذ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(47/16)
تفسير سورة المائدة [109 - 118](48/1)
تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل)
يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: اذكر (يوم يجمع الله الرسل) وهو يوم القيامة، (فيقول) لهم توبيخاً لقومهم، (ماذا أجبتم) يعني: ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد، (قالوا لا علم لنا) أي: بذلك، (إلا ما علمتنا)، (إنك أنت علام الغيوب) أي: ما غاب عن العباد، وذهب عنهم علمه؛ لشدة هول يوم القيامة وفزعهم.
ثم يشهدون على أممهم عندما يسكنون ويطمئنون، فالرسل من شدة هول يوم القيامة ودهشتهم من فظائع ذلك اليوم يسألهم الله سبحانه وتعالى: (ماذا أجبتم؟) فيقولون: (لا علم لنا) وذلك بسبب دهشتهم وذهولهم من أهوال يوم القيامة.
واعترض بعض الناس على هذا التفسير؛ لأن الأنبياء عليهم السلام في مأمن من الفزع الأكبر (لا يحزنهم الفزع الأكبر) فكيف يفزعون؟!
و
الجواب
أن هذا إنما يكون في النهاية، أما في بداية الحشر والبعث والنشور وفي أول الأمر فإنهم تكون دعواهم حينئذٍ: اللهم! سلم سلم، أو نفسي نفسي! في شدة الهول ودهشته، فيبادرون لشدة ما هم فيه فيقولون: لا علم لنا.
لأنهم ذهلوا عن جواب هذا السؤال، ثم عندما يهدءون ويسكنون يأتون فيشهدون على أممهم.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة:110].
أي: اذكر (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) أي: اشكرها، وإن كان في الحقيقة أن هذا التفسير قد يكون فيه نظر؛ لأنه إذا كان المقصود بيوم يجمع الله الرسل يوم القيامة فالشكر كعبادة تكليفية لا محل لها في الآخرة؛ لأن الآخرة هي دار الجزاء، ويوم القيامة هو يوم الجزاء، فلا يقع فيه تكليف، هذا هو الأصل، فيبعد أن يفسر قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بمعنى: اشكرها.
وقوله: (إِذْ أَيَّدتُّكَ)، أي: قويتك.
من الأيد، وهي القوة (بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار.
وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، (تكلم) حال من الكاف في: (أيدتك)، وقوله: (في المهد) أي: طفلاً، (وكهلاً) يعني: وتكلمهم كهلاً، وهذا يفيد نزوله قبل الساعة؛ لأنه رفع قبل الكهولة، وهذا صحيح، فبعض المفسرين استنبطوا من قوله تعالى: (تكلم الناس في المهد وكهلاً) أنه كما كان تكليمه إياهم في المهد آية فتكليمه إياهم وهو كهل مقترن بآية، وهي نزوله من السماء في آخر الزمان، فمن أجل ذلك عطف (كهلاً) على (في المهد).
وإن كان عامة المفسرين يقولون: إن هذا -أي: نزول عيسى عليه السلام- يستدل عليه بدليل آخر من القرآن الكريم في غير هذا الموضع، وإنما المقصود أنك تكلمهم في المهد كما تكلمهم كهلاً، أي: كما أنك في الكهولة ستتكلم فكذلك كنت تكلمهم في المهد.
قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ) أي: تجعل وتصور.
(مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كصورة الطير، والكاف اسم بمعنى: (مثل) يعني: مثل هيئة الطير، وهو مفعول لـ (تخلق).
وقوله: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)، أي: بإرادتي.
وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي)، الأكمه هو من ولد أعمى، أما الأعمى فهو الذي يولد بصيراً، ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، فهنا يقول: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني).
وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى)، يعني: من قبورهم أحياءً.
وقوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك.
(إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: المعجزات.
(فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا) أي: ما الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، وفي قراءة: (إن هذا إلا ساحر مبين) أي: عيسى عليه السلام.
وقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ)، أي: أمرتهم على لسان عيسى عليه السلام.
(أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)، أي: بأن آمنوا بي وبرسولي عيسى (قَالُوا آمَنَّا)، أي: بك وبرسولك (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، ولا شك في أن هذه إشارة إلى أن الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام هو دين الإسلام، وكثير من الناس يلتبس عليه الأمر، حتى إنهم يظنون أن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن لكل نبي ديناً خاصاً به، وهذا -بلا شك- خطأ فاحش، والصواب أن دين الإسلام هو دين الله تعالى الوحيد الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العباد ديناً سواه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
وهنا فائدة ذكرها بعض المفسرين في قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، وهي: هل هذه الجملة متصلة بما قبلها أم ليست متصلة؟ فمن قال: إنها ليست متصلة بما قبلها قال: التقدير: (واتقوا يوم يجمع الله الرسل) أو (اتقوا يوم جمعه الرسل) أو (اذكروا) أو (احذروا يوم يجمع الله الرسل).
ومن قال: إنها متصلة ربطها بما قبلها مباشرة، وهو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة:108 - 109]، والمعنى: والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل، فالربط يكون بين قوله تعالى: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وبين قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، أي: أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الفاسقين إلى الجنة يوم يجمع الله الرسل، كما قال أيضاً: {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء:168 - 169].(48/2)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم)(48/3)
كلام القاسمي على الآية
يقول القاسمي: (يوم) منصوب بـ (اذكروا) أو (احذروا) يوم يجمع الله الرسل، وذلك يوم القيامة، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم، أي: ليس الرسل هم الذين يجمعون فحسب، وإنما تجمع أيضاً الأمم مع الرسل، كيف لا وذلك يوم مجموع له الناس كما قال تعالى، وإنما خص الرسل بالذكر لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم، يعني: يوم يجمع الله الرسول وأتباع الرسل تبع لهم.
(فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ)، فيقول للرسل: ماذا أجبتم؟ أي: من الذي أجابكم ممن أرسلتم إليهم؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهدة الرسالة؛ إذ لم يقل: هل بلغتم رسالاتي؟! أو: هل بلغتم رسالتي؟! فمعناه أنهم لم يقصروا في تبليغ ما أمرهم الله بتبليغه، فهم أدوا الأمانة، وبلغوا هذه الرسالة، والسؤال هنا ليس المقصود به سؤال الرسل حقيقة، وإنما المقصود به توبيخ الذين أرسلوا إليهم، والذين يكونون حاضرين في هذه المشاهد العظيمة يوم القيامة (فيقول ماذا أجبتم)، وفي توجيه السؤال إليهم والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم -كأن يقال: ماذا أجابوا- فيه من الإنباء عن شدة الغضب الإلهي ما لا يخفى، أي: لم يسأل الله سبحانه وتعالى الذين أرسل إليهم أنفسهم في سياق هذه الآيات، وإنما توجه السؤال أولاً إلى الرسل، وهذا إشارة إلى شدة الغضب الإلهي في ذلك اليوم، وفي الصحيح كما في حديث الشفاعة أن كل نبي يقول يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله).
وقوله تعالى: (قَالُوا) يعني: من هيبته تبارك وتعالى، وتفويضاً للأمر إلى علم سلطانهم، وتأدباً بليغاً في ذلك الموقف الجلالي (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، أي: من علم الخفيات، فإذا كنت يا ألله -سبحانه وتعالى- تعلم الغيوب -بل أنت علام الغيوب- فلن تخفى عليك الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم، فلذلك قالوا: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فإذا كان الله هو علام الغيوب فأولى أن يعلم المظهر الذي أظهره قومه وما أجابوه به، فهم فقهوا أنه ليس المقصود سؤالهم حقيقة عن الإجابة، وإنما المقصود توبيخ من أرسلوا إليهم.
وفي هذه الآية دليل على جواز أن يوصف الله سبحانه وتعالى بـ (علام)، لكن لا يجوز أن يقال: علامة.
فقد أبى ذلك العلماء، ولعله لسبب ما فيها من تاء التأنيث.
يقول الرازي: اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات، وإمام بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال يوم القيامة، أي: دائماً تأتي الأحكام والتكاليف الشرعية ثم تتبع مباشرة إما بصفات الله، وإما بصفات أحوال يوم القيامة، وإما بشرح أحوال الأنبياء، لماذا؟ حتى يصير ذلك مؤكداً لما تقدم بين يدي ذلك من التكاليف والشرائع، فلما ذكر فيما تقدم في سورة المائدة أنواعاً كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال يوم القيامة، فقال عز وجل هنا: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) إلى آخر الآيات.(48/4)
كلام الزمخشري على الآية
وقال الزمخشري: فإن قلت ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد.
أي قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، فهل المقصود حقيقة سؤال الموءودة وهي مظلومة؟ وإنما المقصود توبيخ الوائد.
فإن قلت: كيف يقولون: (لا علم لنا) وقد علموا بما أجيبوا؟ أي أنهم يعلمون أنهم أجيبوا؛ لأنهم عاصروا قومهم وعاشوا معهم، وسمعوا ردودهم عليهم، فكيف قال الأنبياء: (لا علم لنا) وهم يعلمون بما أجيبوا؟ يقول الزمخشري: قلت: يعلمون أن الغرض في السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه تبارك وتعالى، وإحاطته بما منوا به منهم، وكابدوا من سوء إجابتهم إظهاراً للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأفت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذ اجتمع توبيخ الله، وتشكي أنبيائه عليهم.
فبهذا السياق قالوا: (لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)، فالأنبياء كأنهم يقولون: يا رب! أنت تعلم ما فعل هؤلاء القوم معنا، فكأن القياس هنا صار قياس إنك أنت علام الغيوب، ومما تعلم ما فعل معنا هؤلاء القوم، وما آذونا وما حاربونا به، وهذا يكون أجلب وأشد لحسرة الكافرين حينما يرون غضب الله وتشكي أنبيائهم منهم في هذا الموقف العظيم.
قال الزمخشري: ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصةً من خواصه نكبةً قد عرفها السلطان، يعني أن واحداً من خواص السلطان والمقربين إليه يأتي إليه رجل فيؤذيه أو يناله بسوء، وهذا الرجل الذي آذاه هو خارج عن السلطان، والسلطان يكون قد عرف هذه الحادثة، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته.
فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه، واتكالاً عليه، وإظهاراً للشكاية، وتعظيماًَ لما حل به منه.(48/5)
كلام بعض العلماء في الآية
وقال بعض العلماء: (قالوا لا علم لنا) يعني: لا علم لنا كعلمك.
أي: علمنا بهم ليس مساوياً لعلمك بهم؛ فإنك أنت علام الغيوب؛ إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، كما جاء في الحديث: (نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) وأيضاً في الحديث الشريف: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار).
فقالوا معناه: لا علم لنا كعلمك؛ إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا.
أو قالوا: (لا علم لنا) أي: بجميع أفعالهم؛ إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإنما يستحقون الجزاء بما تقع به الخاتمة؛ لأن الأعمال بالخواتيم، ونحن لم ندر كيف كانت خواتيم القوم، فإذا رد الأنبياء العلم إلى الله أفلست الأمم، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته سبحانه وتعالى.(48/6)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم)
قال تبارك وتعالى: ((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)) المقصود من ذلك توبيخ الكفرة حيث فرطوا في حقه وأفرطوا، وليس المراد تكليف المسيح عليه السلام بالشكر في ذلك اليوم، لماذا؟ لانقطاع التكليف بالموت، والشكر عبادة تكليفية يكلف بها العبد، ويوم القيامة ليس زمن تكليف، وإنما هو وقت الجزاء، فلذلك كان: المقصود من هذا السياق توبيخ الذين فرطوا أو أفرطوا في حق المسيح عليه السلام.
قال تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وفي تذكيره بهذه النعم فائدتان: الأولى: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة؛ لأن هذا سيكون يوم يجمع الله الرسل، فيخاطب الله عز وجل المسيح عليه السلام بعد أن يخاطب الرسل عموماً، فيقول: يا عيسى ابن مريم! اذكر نعمتي عليك إذ فعلت لك كذا وكذا وكذا، حتى تسمع الأمم ما خصه الله به من الكرامة.
الثانية: لتوكيد حجة الله على جاحده.
يقول تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم) هذا شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل بعد ذكر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال؛ لأن الإجمال هو في قوله: (ماذا أجبتم قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)، وهنا تفصيل ما سيحصل مع المسيح عليه السلام، ليكون ذلك طريقاً وأنموذجاً لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى عليه السلام للتفصيل من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالته على كمال هول ذلك اليوم، ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل، بسبب أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين ذكرت السورة الكريمة بعض جناياتهم.
كما نلاحظ في هذه السورة أنها نعت على اليهود والنصارى -الذين هم أهل كتاب- جنايتهم عموماً، وفي حق المسيح عليه السلام خصوصاً، فتفصيله أعظم عليهم، وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وآكد في صرفهم عن غيهم وعنادهم، فإذا سمعوا هذه الآيات في الدنيا فلعل هذا يصرفهم عن عنادهم وتماديهم في الكفران.
قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)، أي: منتي عليك.
(وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين وأتاها برزقها من غير حول منها.
(إِذْ أَيَّدتُّكَ)، يعني: قويتك، مأخوذة من الأيد، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47]، وقال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] فالأيد بمعنى القوة.
قوله تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، أي: بجبريل عليه السلام، لتثبيت الحجة، أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية، ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة، فلذلك تكلم الناس في المهد وكهلاً، فهذا كان أثراً من آثار تأييد الله عز وجل للمسيح بروح القدس الذي هو جبريل عليه السلام.
فمن مظاهر هذا التأييد قوله تعالى: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، أي: في أضعف الأحوال وأقواها بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد.
قال ابن كثير: أي: جعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوتك إلى عبادي، ولهذا قال: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)) أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك؛ لأن كلامه الناس في طفولته ليس بأمر عجيب، فهذا كلام حاصل بكثير.
وقوله تعالى: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ)، أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب.
(وَالْحِكْمَةَ)، أي: الفهم، وباطن العلم الذي لا يكتب، فالعلم له باطن وظاهر، فالظاهر هو الحروف التي تكتب، والباطن هو الفقه ومعرفة وفهم هذا العلم، ويخص به أهله.
(وَالتَّوْرَاةَ)، التي هي منزلة على موسى الكليم عليه السلام.
(وَالإِنجِيلَ)، وهو الذي أنزل عليه، فعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)، أي: تقدر، ونسبة الخلق هنا إلى المسيح ليست نسبة حقيقية بغير شك، لكن (تخلق) هنا بمعنى: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير، وقلنا: الكاف هنا تساوي كلمة (مثل) فقوله: (كهيئة الطير) يعني: مثل هيئة الطير.
وقوله: (بِإِذْنِي)، أي: بإذني لك في أن تفعل ذلك.
وقوله: (فَتَنفُخُ فِيهَا) أي: في تلك الهيئة المصورة.
وهنا وقع الضمير خلاف الآية التي في آل عمران: {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49] فقال: (فيه)، فيمكن أن يعبر أحياناً بالهاء للطير لأنه مذكر، ويمكن أن يعبر بالمؤنث (تنفخ فيها) لأن المقصود هنا الهيئة، فالمعنى: تنفخ في هذه الهيئة المصورة.
وقوله: (فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) أي: فتصير تلك الهيئة طيراً لحصول الروح من نفختك فيها.
وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي) الأكمه هو الذي يولد أعمى مطموس البصر، بخلاف الأعمى الذي يولد بصيراً ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، لكن المقصود هنا (الأكمه) الذي يولد أعمى مطموس البصر.
وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى) أي: من القبور أحياء بإذني، فهذا مما فعل الله به من جر المنافع، كل هذا امتنان على المسيح عليه السلام بما جر الله عليه من المنافع العظام.
ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضار فقال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك، فمنعت اليهود الذين أرادوا بك السوء وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إلي، وطهرتك من دنسهم، وهذا ما بينه قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، وقال أيضاً: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55]، وقال أيضاً: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157 - 158].
فقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] هذا من الدفع الذي دفع الله به الضرر عن المسيح عليه السلام.
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ) أي: حين أرادوا قتلك وإضرارك، كما قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، فالصلب وقع، وهناك شخص صلب، لكنه ليس هو المسيح، حيث قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، يعني: قتلوا شبيهه عليه السلام، أما من هو هذا الشخص الذي صلب فهذه قضية أخرى.
والمشهور عند أهل الكتاب -في حادثة طويلة- يهوذا الإسخريوطي أو يهوذا الخائن على حد تعبير زعيم عربي وصف صهره الذي فر إلى الأردن بأنه يهوذا الخائن، فهذا تعبير خبيث لا ينبغي أن يمر مرور الكرام؛ لأن هذه مغازلة لعقائد النصارى؛ لأن لفظ (يهوذا الخائن) تعبير حساس جداً عند النصارى؛ إذ يعتقدون أن يهوذا الخائن هو الذي دل على المسيح وتسبب -بزعمهم- في صلبه، فهذا تعبير كنسي يغازل به أعداء الله.
فلا ينبغي أن تمرر هذه التعبيرات الخطيرة؛ لأن في معناه الاعتراف بأن يهوذا خان حقاً وتسبب في حصول الصلب -والعياذ بالله- للمسيح، فهذا كذب وافتراء بلا شك.
وقوله تعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، يعني: بالمعجزات التي توجب انقيادهم لك؛ لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر.
وقوله: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر.
وهنا
السؤال
هذا السياق هنا في تعديد نعم الله سبحانه وتعالى على عيسى عليه السلام، فإذا كان السياق سياق تعديد النعم -نعم الله على المسيح عليه السلام- فقد جاء في هذا السياق قول الكفار في حقه: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، فهذا ليس من النعم فيما يظهر، فما الحكمة في أنه جرى ذكره في سياق تعداد النعم على المسيح عليه السلام؟ والجواب أن من الأمثال المشهورة (كل ذي نعمة محسود) بل هذا حديث صحيح: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)، فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله تعالى في حقه كانت عظيمة؛ لأنهم ما قالوا هذا إلا حسداً للمسيح عليه السلام، ومرادنا ذكر موقف اليهود منه ومعاداتهم في سياق تعديد النعم لهذا الوجه الذي أشرنا إليه.(48/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)
ثم إن الله سبحانه وتعالى لما بين النعم اللازمة في حق المسيح ذاته، وهي جلب المنافع ودفع المضار عنه عليه السلام، أتبع ذلك بالنعم المتعدية، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111].
قوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين) إما أن يقال: هذا وحي عن طريق الإلهام والإلقاء في القلب، فهذا مما يطلق عليه وحي، ويكون بالإلهام، مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]، ومثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7].
أو يقال: الوحي هنا بمعنى الأمر، فيكون معنى (أوحيت إلى الحواريين) أمرت الحواريين، وسيكون المقصود به: أنه كان وحياً حقيقياً بواسطة عيسى، يعني: أوحى إلى عيسى كي يأمر الحواريين.
قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) يعني: آمنوا بدعوته (قَالُوا آمَنَّا) وأكدوا إيمانهم بالمسيح عليه السلام بقولهم: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، وقولهم (واشهد) إما أن يكون الخطاب فيه لله سبحانه وتعالى، والمعنى: واشهد -يا ألله- بأننا مسلمون لك، أو يكون الخطاب لعيسى عليه السلام، أي: فاشهد -يا عيسى- شهادة تؤديها عند ربك بأننا مسلمون، أي: لله، منقادون لكل ما تدعونا إليه.
وكل كلمة تدل على الإسلام فإنه يقترن بها لفظ (لله) أي: مسلمون لله، حتى كلمة الإسلام معناها: الإسلام لله.
وقدم ذكر الإيمان لأنه صفة القلب، حيث قال: (أن آمنوا بي وبرسولي).
والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى: آمنا بقلوبنا، وانقدنا بظواهرنا، فجمعوا بين الإيمان والإسلام، حيث (قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) آمنا في الباطن وأظهرنا الخضوع لشرعك.
وقد ذكر الله تعالى هذا في معرض تعديد النعم؛ لأن كون الإنسان مقبولاً عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، فلذلك جاء ذكر هذا في سياق ذكر النعم المتعددة على المسيح عليه السلام، بأن حببه إلى الناس وقبلوا قوله وآمنوا به، وهم الحواريون.
وذلك لأنه إذا كان كاملاً في نفسه فإنما يحصل له الكمال الأعظم من ذلك بأن يكون كاملاً ومكملاً لغيره، ومصلحاً لغيره، فينال ثواب إرشادهم وهدايتهم، ولذلك جاء ذكر هذا في سياق الامتنان عليه بالنعم.
يقول الرازي: إن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية: (اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك)، ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه تعلق بشيء منها! قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:50] فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.
وقال بعضهم: أريد بالذكر في قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي)، الشكر، ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة، وأن النعمة على الأم نعمة على الولد، والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد.(48/8)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ونكون عليها من الشاهدين)
ثم يقول تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:112 - 113].
يقول السيوطي: (إذ قال الحواريون) يعني: (اذكر إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع) أي: هل يفعل (ربك)؟ وفي قراءة بالفوقانية (تستطيع) ونصب ما بعده، أي: هل تقدر على أن تسأله أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ (قال) أي: قال لهم عيسى: (اتقوا الله) في اقتراح الآيات، (إن كنتم مؤمنين).
وقوله: (قَالُوا نُرِيدُ)، يعني: إنما سؤالها هو من أجل: (أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ) أي: تسكن قلوبنا، أي: بزيادة اليقين، (وَنَعْلَمَ) نزداد علماً، (أَنْ) أي: أنك (قد صدقتنا) في أدعاء النبوة (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ).(48/9)
تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل)
قال تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114].
قوله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا) يعني: يوم نزولها (عِيدًا)، نعظمه ونشرفه (لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا)، يعني: من يأتي بعدنا (وَآيَةً مِنْكَ)، على قدرتك ونبوتي (وَارْزُقْنَا)، إياها، (وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ).
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115].
قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ) أي: مستجيباً له (إِنِّي مُنَزِّلُهَا)، أو مُنْزِلها، قراءتان، وعندما يقول المفسر هنا: (إني منزلها)، بالتخفيف والتشديد فما معنى هذا؟ معناه أنها قراءتان، وليس شرطاً أن ينص فيقول: وفي قراءة بالتخفيف وهنا قرئت التشديد.
لكنه يقول: (بالتخفيف والتشديد)، فنفهم أن هناك قراءة أخرى.
وقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ)، يعني: بعد نزولها عليكم (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
يقول: فنزلت الملائكة بها من السماء، عليها سبعة أرغفة، وسبعة أحوات، فأكلوا منها حتى شبعوا، قال ابن عباس في حديث: (أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا فنسخوا قردة وخنازير) وهذا الحديث ضعيف.(48/10)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم)
يقول القاسمي في قوله تعالى: ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)) ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً (يا محمد)، وإن كان ورد (يا نوح).
(يا هود).
(يا لوط).
(يا إبراهيم).
(يا موسى).
(يا عيسى).
وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
فالحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبوه إلى أمه، وهذا ملاحظ، وهو أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه رداً على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله، وإنما هو ابن مريم، فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته ليستقل بإنزال المائدة.
قوله تعالى: ((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)) هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: (سورة المائدة)، وها هنا قراءتان: الأولى: (هل يستطيع ربك) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك).
القراءة الثانية: (تستطيع ربك) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك.
فحذف المضاف، كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال قوم موسى الرؤية حين قالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر على أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، أي: (هل يستطيع ربك؟).
فلا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصدوا بقولهم: (هل تستطيع) أي: (هل يسهل عليك) فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، ولا شك في أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: ((وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا)).
إذاً (هل يستطيع) بسؤال عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره في أنهم شاكون في قدرة الله.
وقيل: المعنى: (هل يستطيع ربك) أي: هل يطيع ربك؟ وهل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو: هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فـ (يستطيع) بمعنى (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائدة، كـ (استجاب) و (أجاب)، و (استجب) و (أجب)، ويطيع بمعنى (يجيب) مجازاً؛ لأن المجيب مطيع.
ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي! ادع ربك أن يعافيني.
فقال: اللهم! اشف عمي.
فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك.
فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، فلأن فيه مشاكلة قرنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ.
وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أي أنهم كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا لا شك في أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل، كما في قصة الرجل -وهي ثابتة في الصحيحين- الذي أسرف على نفسه بالمعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب.
فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزءاً منه في البر وجزءاً في البحر وجزءاً في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، وقال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له.
فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه.
وعلى أي الأحوال فبعض المفسرين قالوا: إنه على ظاهره، وإنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح.
قال القرطبي: وقيل: المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى.
قال القرطبي: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري، وحوارييِّ الزبير).
ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأمروا بأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! وهل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟! إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر، وهو أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا
السؤال
(( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا))، أي: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين.
وإبراهيم عليه السلام لما قال له ربه جل وعلا: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين.
فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي؛ لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات.
ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، وهو أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، فلا يدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن يقول -مثلاً-: اللهم! لا تجعلني ممن يردون النار.
فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً، كما قال تعالى وأقسم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، فكل الخلق يدخلون النار كما قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر.
فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة.
وفي معنى المائدة قولان: الأول: أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش: تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد فقوله: (إلى أمير المؤمنين الممتاد) أي: المستعطى المسئول.
فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء.
وأما الخوان -بالكسر أو الضم: خوان وخُوان- فهو ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، سواءٌ أكانت قصيرة أم طويلة.
أما المائدة فهي ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس فإنك تفتح هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، بمعنى أنها تسفر وتكشف بعدما كانت مضمومة.
فالمائدة كل شيء يمد ويبسط، هذا هو أصل كلمة (المائدة) فإذا أكلت على المنديل فهو المائدة، وإذا فرشت أو بسطت ثوباً فهذا الثوب هو المائدة.
وكان من حقه أن تكون الدال مضاعفة، أي: (مادَّة)، فجعلوا إحدى الدالين ياءً فقيل: (مايدة)، ثم صارت: (مائدة)، والفعل واقع به، فكان ينبغي أن تكون ممدودة، لكن خرجت في اللغة مخرج(48/11)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم)
يقول القاسمي: في قوله تعالى: ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ))، ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً يا محمد، وإن كان ورد: يا نوح يا هود.
ز يا لوط يا إبراهيم يا موسى يا عيسى وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان الحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبه إلى أمه، وهذا ملاحظ: أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه كرد على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله وإنما هو ابن مريم، (يا عيسى ابن مريم) فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته، ليستقل بإنزال المائدة.
((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ))، هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: سورة المائدة، وها هنا قراءتان: الأولى: (هل يستطيع ربك) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك).
القراءة الثانية: (تستطيع ربك) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك، فحذف المضاف كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال موسى الرؤيا، {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فلم تحصل له الرؤيا، فخشوا أيضاً أن يكون هذا من جنس سؤال قومه الرؤيا، قالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، يعني: هل يستطيع ربك؟ يقول: لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصد بقوله: (هل تستطيع) يعني: هل يسهل عليك؟ فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: ((وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا)).
إذاً: (هل يستطيع) سؤاله عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره أنهم شاكون في قدرة الله، تعبيراً عنه بلازمه أو عند المسبب بسببه، وقيل المعنى: (هل يستطيع ربك) هل يطيع ربك؟ هل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فيستطيع بمعنى: (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائد كاستجاب وأجاب، واستجب وأجب، ويطيع بمعنى: يجيب مجازاً؛ لأن المجيب مطيع.
ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني، فقال: اللهم اشف عمي، فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يطيعك يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك.
فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، أن فيه مشاكلة اقترنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ.
وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أنهم فعلاً كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا طبعاً لا شك أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل كما في قصة الرجل، وهي ثابتة في الصحيحين، فذلك الرجل الذي أسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب، فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزء منه في البر، وجزء في البحر، وجزء في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، قال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له، فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه، وهذا بحث طويل سبق أن تكلمنا عنه في قضية العذر بالجهل.
على أي الأحوال فبعض الناس قالوا: إنه على ظاهره، وأنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح.
قال القرطبي: وقيل المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى.
قال القرطبي: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري وحواري الزبير).
ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! هل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر: أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا
السؤال
(( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا))، يعني: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وأيضاً قال إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين.
فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي، (إن كنتم مؤمنين) لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات.
ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، يعني: لا تدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن تدعو مثلاً: اللهم لا تجعلني ممن يردون النار، فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً كما قال تعالى وأقسم فقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، كل الخلق يدخلون النار ثم بعد ذلك يردون منها، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر.
فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة، (يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) ما هي المائدة؟ في المائدة قولان: إما أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش: تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد (إلى أمير المؤمنين الممتاد) أي: المستعطى المسئول، فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء.
وأما الخوان بالكسر أو الضم خوان وخوان فهو: ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، مثل هذا الذي نحن نسميه السفرة الآن، فهذا يسمى الخوان الذي له قوائم سواء كانت قصيرة أو طويلة أما المائدة فهي: ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة: ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس تفك هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، السفرة بمعنى: أ(48/12)
تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم)
قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115].
هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى، كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فقوله تعالى: ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، ظاهر في أن هذا وقع في الحقيقة؛ لأن بعض المفسرين ذهبوا إلى أنها لم تنزل، لكن قوله تعالى: ((قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، يدل على أن نزولها حق.
فقوله: (منزلها عليكم) أي: إجابة لدعوتكم.
(فمن يكفر) بي وبرسولي (بعد) أي: بعد تنزيلها المفيد للعلم الضروري بي وبرسولي (منكم) أيها المنعمون بها (فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين) أي: من عالم زمانهم أو من العالمين جميعاً.
ويحكى عن ابن عمر أنه قال: (إن أشد الناس عذاباً ثلاث طوائف: المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن كفر من أصحاب المائدة؛ لهذه الآية: ((فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)) وآل فرعون؛ لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فهؤلاء المتقدمون هم أشد الناس عذاباً.
روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: (فمن يكفر بعد منكم) إلى آخره قالوا: لا حاجة لنا فيها.
فلم تنزل أي أنهم قالوا: إذا كانت المسألة بهذه الصورة أن العذاب سيتضاعف علينا إذا نزلت وكفرنا فلا حاجة لنا فيها.
أي أنهم استعفوا من ذلك فلم تنزل.
وقال مجاهد: هو مثل ضربه الله ولم يَنْزِل شيءٌ، أي: مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن المسألة لأنبيائه، وقال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك؛ لأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم.
ثم قال: ولكن الجمهور يرون أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، وذلك لأن القرآن حاكم ومهيمن على الكتاب السابق، فعدم وجودها في كتابهم لا يدل على أنها لم تقع، لماذا؟ لأن القرآن مهيمن، فإذا أخبر القرآن بأنها وقعت فقد وقعت حتى ولو لم يرد لها ذكر في كتابهم؛ لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله لله: ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول -والله تعالى أعلم- هو الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.(48/13)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116].
(إذ) في كلام العرب تكون لما مضى، لكن يدل على أنها في يوم القيامة السياق، حيث قال تعالى: (يوم يجمع الله الرسل) فالسياق كله في يوم القيامة، وما بعده -أيضاً- يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، وهو يوم القيامة.
فإذاً: هي لما مضى لكن المراد بها هنا ما يستقبل، فمعناها هنا (إذا) كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} [سبأ:51]، أي: ولو ترى إذا فزعوا.
وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع، وفي التنزيل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50]، ومثله كثير في القرآن الكريم، يعبر عن المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، كأنه حصل وصار خبراً يذكر.
قوله تعالى: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، هذا القول: إما أنه إلزام للنصارى لعنهم الله؛ لأن الولد من جنس من يلده، فإذا زعمتم أن المولود إله فمن ولده يكون إلهاً، فهذا بطريقة الإلزام.
وإما لأنهم لما عظموهما تعظيماً إلهياً أطلق عليهما اسم الإله، كما أطلق على الأحبار والرهبان اسم الرب في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة:31] والتثنية حينئذٍ على حد (القلم أحد اللسانين) فكذلك هنا التثنية في قوله: ((اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)).
ولفظ (أمي) على لسان المسيح في مريم فيه توبيخ للمتخذين لهما إلهين، يعني: أما كنت بشراً تلد وتولد قبل هذا؟! وقوله تعالى: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) يعني: أنا مربوب ولست برب، وأنا عابد ولست بمعبود.
وقوله: (قال سبحانك) أي: براءة لك من السوء، أو أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا وينطق به.
وقوله: (ما يكون لي) أي: ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق (أن أقول) في حق نفسي (ما ليس لي بحق)، وهو ما استقر في قلوب العقلاء من عدم استحقاقي للعبادة (إن كنت قلته فقد علمته).
(تعلم ما في نفسي) يعني: ما أضمره (ولا أعلم ما في نفسك) ما عندك علمه، وهذا بيان للواقع، وإظهار لقصوره وعجزه، أي: أن ما يخفيه الله من علمه لا يعلمه المسيح عليه السلام.
(إنك أنت علام الغيوب) وهذا دليل للدليل؛ لأن المسيح أولاً ذكر دعوى، وهي في قوله: (إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم استدل عليها بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، ثم دلل للدليل نفسه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فأكده بـ (إن)، ثم (أنت) الضمير المنفصل و (علام) صيغة المبالغة (الغيوب) فأتى بالغيب مع صيغة الجمع مع (أل) الإستغراقية التي تشمل كل ادعاء غيب آخر، فقال: (إنك أنت علام الغيوب) الذي تعلم كل غيب، فهذا تأكيد بعد تأكيد.
واختلف في إطلاق النفس على الله سبحانه وتعالى كما في قوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، كما هو هنا؛ لأنهما وردا في نص واحد، فللمجاورة حصلت هذه المشاكلة في اللفظ، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54].
والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة، أي: من غير أن يوجد لفظ (النفس) في نفس السياق؛ إذ قد ورد إطلاقها في غير المشاكلة، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال أيضاً: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].(48/14)
تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم)
قال تعالى عن المسيح: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117].
قوله: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) يعني: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به.
وهذا نزول في القضية مراعاة لحسن الأدب، ومراعاة لما ورد في الاستفهام ((أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ))، فقال هنا: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وقوله: (أن اعبدوا الله) في محل رفع خبر لمحذوف تقديره: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به وهو: (أن اعبدوا الله ربي وربكم).
و (أن) هنا إما أنه لا موضع لها من الأعراب فتكون مفسرة، مثل قوله تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص:6]، فـ (أن) هنا لا محل لها من الإعراب، وهي مفسرة.
ويجوز أن تكون في موضع نصب (أن اعبدوا الله) يعني: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله.
ويجوز أن تكون في موضع خفض، فيكون معنى (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا) أي: بأن اعبدوا الله.
وبعض العلماء يقول: إن النون هنا تضم؛ لأنهم يستثقلون كسرة تأتي بعدها ضمة في قوله: (أن اعبدوا)؛ لأن العين ساكنة، وأول حركة هي الباء، ونحن لا نتحدث عن الباء، ولكن الكسر جائز على أصل التقاء الساكنين.
قوله: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) يعني: رقيباً أراعي أحوالهم وأحثهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي.
وقوله: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) أي: لم تقع هذه المقالة منهم وهو بينهم، وإنما ابتدعوها بعد رفعه عليه السلام، ولذلك قال: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) أي: ما وجد شيء من هذا أبداً في فترة وجودي بينهم.
وقوله: (فلما توفيتني) يحتمل توفيتني بالموت، ويحتمل: توفيتني بالرفع، ولو قلنا: إنه يتعين تفسيرها بالرفع إلى السماء فهذه العقيدة في تأليه المسيح وعبادته لها بداية ولها نهاية، فما بدايتها وما نهايتها؟ إن بدايتها برفعه ونهايتها بنزوله؛ إذ هل سيسمح المسيح بوجود عقيدة تؤلهه بعدما ينزل إلى الأرض؟ أو هل سيسمح بوجود صليب أو خنزير؟! أليس في الأحاديث أن المسيح عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؟ ومعنى هذا أنه ستنتهي تماماً هذه العقيدة من على وجه الأرض، ولن يقبل المسيح من الناس إلا الإسلام، ومن ثم سيوضع الحد النهائي لدعوى إلهية المسيح عليه السلام، ويتأيد هذا بقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] على أحد التفسيرين.
فإذاً: هذه العقيدة الشركية بتأليه المسيح لها بداية ولها نهاية، فبدايتها برفعه، والدليل قوله: ((وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، فهذا يكون من نفس حديث: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً).
فحين كان المسيح موجوداً ما ظهرت هذه المقالة، ونهايتها حينما ينزل المسيح عليه السلام فيقتدي بالمهدي، ويحكم بالقرآن، ويدعو إلى الإسلام، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما أن يسلم الناس وإما يقتلوا على يد المسيح نفسه.
فهذه العقيدة وقعت منهم بعد رفعه إلى السماء وتستمر إلى نزوله، ولم تقع منهم قبل رفعه، وأما بعد نزوله فلن يبقى نصراني أبداً، بل إما الإسلام أو السيف، فتعين أن يكون معنى (توفيتني) أي: رفعتني إلى السماء، كما في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع من أنواع التوفي، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، وسبق في قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] في آل عمران زيادة إيضاح على ما هاهنا.
وقوله: (كنت أنت الرقيب عليهم) أي: الناظر لأعمالهم، فمنعت من أردت عصمته من التفوه بذلك، وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا.
وقوله: (وأنت على كل شيء شهيد) أي: سواء في فترة بقائي بينهم أو بعد ذلك، فأنت على كل شيء شهيد.
وقد دلت الآية على أن الأنبياء عليهم السلام بعد استيفاء أجلهم الدنيوي ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم، وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً.
ثم قال: ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء:104] إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فأقوال كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.
فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) وحمل الحديث على من صحب الرسول إنما يصح في القلة القليلة التي ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله.(48/15)
تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك)
ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].
هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قوله: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) يعني: لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه.
وفيه تنبيههم على أنهم استحقوا ذلك؛ لأنهم عباده وقد عبدوا غيره.
وقوله: (وإن تغفر لهم) أي: فلا عجز ولا استقباح؛ لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بـ (إن).
قال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك، فإن عذبتهم فلا اعتراض عليك، وإن غفرت لهم -ولست فاعلاً إذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك.
وقد قال عيسى فيما تقدم من الآيات: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].
وقد قيل: إن الهاء والميم في قوله: (إن تعذبهم) يعودان على من مات منهم على الكفر، أي: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) الذين ماتوا على الكفر.
وفي قوله: (وإن تغفر لهم) الهاء والميم هنا لمن تاب منهم قبل الموت، فيكون: وإن تغفر لمن تاب منهم قبل الموت، (فإنك أنت العزيز الحكيم).
وهنا قول فظيع قاله بعض الناس، فزعموا أن عيسى ما كان يعلم أن الكافر أو المشرك لا يغفر الله له، فهذا قول مجترئ على كتاب الله تعالى؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ.
والتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى التوحيد والطاعة فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله، تضل من تشاء وتهدي من تشاء.
قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها، روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها! ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، فلما أصبح قلت: يا رسول الله! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها، قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة -إن شاء الله- لمن مات لا يشرك بالله شيئاً).
وروى الإمام أحمد -أيضاً- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إلي بيمينه فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ونتلوا من القرآن ما شاء الله أن نتلو، وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة) أي: طيلة الليل وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بآية واحدة، وهي هذه الآية: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)).
قال: (فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن: سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود: لا أسأله عن شيء حتى يحدث إلي -خشي أن يبادره هو بالسؤال- فقلت: بأبي وأمي قمت بآية من القرآن ومعك القرآن) -يعني: كان يمكنك أن تصلي بالقرآن كله، فلماذا قمت بآية من القرآن ومعك القرآن؟ ولو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: (دعوت لأمتي، قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك-؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى، فانطلقت معنقاً -أي: مسرعاً قريباً من رمية بحجر- فقال عمر: يا رسول الله! إنك إن تبعث بهذا نكثوا عن العبادة! فناداه أن يرجع فرجع).
يعني أنه يخشى أن يسيئوا فهمه، أما إذا كانوا قد فقهوا حق الفقه، وفهموا النصوص في مواقعها فلا حرج من إعلامهم، كما أخبر أبو هريرة رضي الله عنه بنظير هذا.
وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الآية)) [إبراهيم:36]، وقول عيسى: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) فرفع يديه وقال: اللهم! أمتي أمتي.
وبكى).
يعني: رأى إبراهيم يقول: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، ورأى المسيح يقول: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فأشفق هو على أمته صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال: (اللهم! أمتي أمتي.
وبكى، فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال -وهو أعلم-، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك).
ثم ختم تعالى بحكاية ما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله، وهذه الآية التي هي قبل الأخيرة من سورة المائدة: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].(48/16)
تفسير سورة الأنعام [1 - 12](49/1)
مكان نزول سورة الأنعام
يقول الجلال السيوطي رحمه الله تعالى: هذه السورة سورةٌ مكية، إلا قوله تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ)) [الأنعام:91] إلى آخر الآيات الثلاث، وإلا قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] الآيات الثلاث أيضاً، وهي مائة وخمس -أو ست- وستون آية.(49/2)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض)
قال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
قوله: (الحمد لله) الحمد هو: الوصف بالجميل، والحمد ثابت ومستقر لله سبحانه وتعالى، والحمد هنا المقصود به الوصف بالجميل والمدح والثناء.
وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به، أو الثناء به، أو هما؟ هناك ثلاثة احتمالات في قوله تعالى: (الحمد لله): فقد يكون المقصود بقوله: (الحمد لله): أن تؤمنوا بذلك، وأن تعتقدوا ثبوت صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى.
أو أن المقصود بـ (الحمد لله) الثناء على الله عز وجل، أو أن المقصود الأمران معاً، فهذه احتمالات، وآكدها الثالث، أي أن ذلك للإيمان وللثناء معاً، قاله الشيخ الجلال المحلي في تفسير أول سورة الكهف.
وقوله: (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين، مع أن الله سبحانه وتعالى خلق غير السماوات والأرض من الملائكة والجن وغير ذلك، لكن خصَّ السماوات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات البارزة للناظرين.
وقوله: (وجعل الظلمات والنور) (جعل) هنا بمعنى (خلق) أي: خلق الظلمات والنور.
أنه خلق كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، وهذا من دلائل وحدانيته؛ لأن الظلمات ومظاهر الضلال والباطل كثيرة ومتعددة، أما النور فهو واحد وحق، فهذا المشار إليه في هذه الآية الكريمة هو من دلائل وحدانيته تبارك وتعالى.
وقوله: (ثم الذين كفروا) (ثم) هنا استبعادية، كما تقول للرجل: أحسنت إليك وأكرمتك ثم تشتمني.
أي: يستبعد منك أن تقابل إحساني بهذه الإساءة.
فكذلك هنا، فقوله تعالى: (ثم الذين كفروا) يعني: كفروا مع قيام هذا الدليل على وحدانيته تبارك وتعالى.
وقوله: (بربهم يعدلون) أي: يسوون به غيره في العبادة.(49/3)
بعض خصائص سورة الأنعام
ذكر الإمام القاسمي رحمه الله تعالى في مقدمة السورة أنها مكية، وأنها مائة وخمس وستون آية، وبعض العلماء -كما ذكرنا- يقول: إنها مائة وخمس -أو ست- وستون آية، والآيات هي نفس الآيات، ولكن الاختلاف أحياناً يكون في العد.
قال القاسمي: روى العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أنزلت سورة الأنعام بمكة)، وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: (هي مكية، نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات منها فإنها مدنية).
فهذه السورة لها خصائص ليست لغيرها، منها: أنها بكمالها نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلاً، وبمجرد أن نزلت بالليل كتبها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إلا ست آيات منها نزلت في المدينة، وهي قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151]، إلى آخر الثلاث الآيات، وقوله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام:21] إلى آخر الآيتين.
ومن خصائص هذه السورة ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح).
وروى السدي عن ابن مسعود قال: (نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت سورة الأنعام سبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق) وهذا رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدَّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم).
وأخرج -أيضاً- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألفاً من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد).
قال الرازي: قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضائل: أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة.
فهذه السورة نزلت -كما ذكرنا- جملة واحدة، ولم تنجم، ولم تقطع كغيرها من سور القرآن الكريم.
الثاني: أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة، والسبب فيه أنها -أي: هذه السورة العظيمة- مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وعلم الأصول المقصود به هنا أصل العقيدة والتوحيد وأمور الإيمان.
وإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى على قدر حاجة المكلفين وبحسب الحوادث والنوازل، وآيات الأحكام منها ما له أسباب نزول معينة، وكل هذا يكون متوافقاً مع حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج في التشريع بقدر حاجة الناس أو بحسب الحوادث والنوازل التي تنزل بهم.
أما ما يدل على علم الأصول مما في هذه السورة الكريمة فقد أنزله الله جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلُّم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي؛ لأنه لم ينجَّم ولم يقطَّع.
وأخرج الدارمي في مسنده عن عمر رضي الله عنه قال: (الأنعام من نواجب -أو نجائب- القرآن) يعني: أفضله ومحضه ولبابه.(49/4)
سبب تسمية سورة الأنعام بهذا الاسم
وسميت بسورة الأنعام لأن أكثر أحكامها تبين جهالات المشركين في التقرب بالأنعام إلى أصنامهم؛ لأنه حصل عند المشركين كثير من مظاهر الجهالة والإشراك بالله سبحانه وتعالى وتحريم الطيبات من هذه الأنعام، وكانوا يتقربون بها إلى أصنامهم، وهذا كله ذكر في هذه السورة الكريمة.(49/5)
لطائف في قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض)
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
قوله: (الحمد لله) أي: له جميع المحامد، أي أن كل حمد فهو لله، سواء بما حمد به نفسه سبحانه وتعالى، أو حمد به الخلق ربهم، أو بعضهم، كل ذلك مخصوص بالله عز وجل.
ثم أخبر عن قدرته الكاملة التي هي موجبة لاستحقاقه جميع المحامد.
فإن قيل: لماذا يستحق الله سبحانه وتعالى جميع المحامد؟ ف
الجواب
لأنه هو (الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور).
قوله: (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وفيهما العبر والمنافع للعباد؛ لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية، والأرض مشتملة على قوابل الكون.
وقوله: (وجعل الظلمات والنور) أي: أوجدهما لمنفعة عباده في ليلهم ونهارهم.
وهاهنا لطائف: الأولى: أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة دونما سواه، فكما أنه لم ينعم بهذه النعم العظيمة -سواءٌ التي ذكرتت في صدر السورة أو التي جاءت بعد- فإذاً: لا يستحق أن يحمد وأن يعبد إلا الله عز وجل.
الثانية: أن لفظ (جعل) المذكور في قوله سبحانه: (وجعل الظلمات والنور) يأتي أحياناً متعدياً إلى مفعوله، وذلك إذا أتى بمعنى (أحدث وأنشأ) كما هنا في هذه الآية (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) فإن جعل تعدى إلى مفعول واحد فقط، والنور معطوف على هذا المفعول.
أما إذا تعدى (جعل) إلى مفعولين فإن معناه حينئذٍ (صيَّر) كقوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف:19] فـ (الملائكة) مفعول أول، و (إناثاً) مفعول ثانٍ.
والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تضمين شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان.
وقد وردت (جعل) و (خلق) مورداً واحداً، فقال عز وجل: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال -أيضاً-: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] فـ (جعل) تأتي بمعنى (خلق) كما ذكرنا؛ لأن بينهما نوعاً من الترابط.(49/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (ثم) استبعادية، وهي مناسبة للمقام؛ إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل اختيار الباطل، فالشخص العاقل الذي يتأمل في هذه الآيات ينبغي أن تقوده إلى التوحيد، ويبعد جداً من العاقل أنه بعد أن يرى الدليل وتقام عليه الحجة يختار مع ذلك الباطل، ولذلك قال: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وعليه فجمع الظلمات وإفراد النور ظاهر؛ فإنه قال: (وجعل الظلمات والنور) فأتى بالظلمات بصيغة الجمع، أما النور فأتى به مفرداً؛ لأن الهدى واحد، والضلال متعدد، كما قال في آخر هذه السورة الكريمة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فأفرده، ثم قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فجمع السبل.
فجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها عند الناس، فالباطل كثير جداً ومتعدد، وهو كثير عند الناس كما هو معروف، ولكل جرم ظلمة، وليس لكل جرم نور، وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق على النور؛ لأن الظلام يسبق النور، فلذلك قدم الظلمات على النور؛ لأن الأصل هو الظلمة، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] أن الأصل هو الليل، ثم يسلخ ويزال هذا الليل فيكون النهار، ولو أن إنساناً ركب مركبة فضائية وانطلق من الغلاف الجوي فإنه إذا خرج عن الغلاف الجوي -وقد يكون في وقت الضحى وفي شدة النهار والشمس- يكون في ظلمة مطبقة.
إذاً: فموضوع النهار ظاهرة محلية في الكرة الأرضية فقط.
فالظلمة هي المتقدمة على النور من حيث الإيجاد والخلق، ولذلك قدمها تبارك وتعالى هنا فقال: (وجعل الظلمات والنور).
وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) هذا الجزء من الآية منسوب لإنكار ما عليه الكفرة، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها، وإصرارهم على ما يقضي على بطلانه بديهة العقول، والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته عز وجل، وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه، ويعدلون به سبحانه وتعالى، ويسوون بينه وبين الأنداد والشركاء، أي: يسوون به غيره في العبادة؛ لأن العبادة هي أقصى غايات الشكر لله سبحانه وتعالى، فإذا وجهوا هذه العبادة لغير الله فقد سووا مع الله سبحانه وتعالى خلقه، وأقصى غايات الشكر ورأس الشكر هو الحمد؛ لأن الحمد أعم من الشكر، مع كون كل ما سواه عز وجل مخلوقاً له، والمخلوق غير متصف بشيء من مبادئ الحمد، ومع ذلك وقع منهم ذلك.
فقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) كلمة (ثم) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه.
وقوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) العدل: مساواة الشيء بالشيء.
والمعنى أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه، أي: عدلاً مساوياً له تبارك وتعالى وهو لا يقدر على شيء، فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض.
قال النضر بن شميل: الباء في قوله: (بربهم يعدلون) بمعنى (عن) يعني: عن ربهم يعدلون.
ومعنى (يعدلون): ينحرفون.
يقال: عدلت عن كذا، أي: انحرفت وملت.
والمراد: ينحرفون عن عبادة ربهم تبارك وتعالى.
وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: (ثم) دالة على قبح فعل الذين كفروا؛ لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: أعطيتك وأحسنت إليك ثم تشتمني.(49/7)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً) الآية
ثم يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2].
يقول الجلال السيوطي رحمه الله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين) يعني: بخلق أبيكم آدم منه؛ لأن خلق الإنسان كان أولاً من طين، ثم بعد ذلك من سلالة من ماء مهين، كما فصله تعالى في سورة السجدة، فالمقصود بقوله: (هو الذي خلقكم من طين) أي: هو الذي خلق أباكم آدم عليه السلام من طين.
وقوله: (ثم قضى أجلاً) يعني: كتب وقدَّر لكم أجلاً تموتون عند انتهائه.
وقوله: (وأجل مسمى عنده) يعني: وأجل آخر مسمىً ومضروب عنده لبعثكم، وهو أجل البعث والنشور.
وقوله: (ثم أنتم تمترون) أي: ثم أنتم -أيها الكفار- تمترون، أي: تشكون في البعث، وذلك بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.
يقول القاسمي: (هو الذي خلقكم من طين) استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ويبين بطلان إشراكهم به تعالى، مع معاينتهم لموجبات توحيده، وهي خلق السماوات والأرض، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث -يعني أن القرآن الكريم هنا هو في سياق ذكر الدلائل لصحة الاعتقاد في البعث والنشور، فخص ذكر خلقنا من طين هنا دون غيره من أدلة البعث والنشور- مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها.(49/8)
بعض الأدلة على البعث والنشور
الأدلة على البعث والنشور كثيرة جداً في القرآن الكريم، والواجب على كل مسلم أن يعرفها حتى ولو لم يدرس في كتاب؛ لأن هذه عقيدة من العقائد الأساسية، فإذا سئلت: كيف تدلل على البعث والنشور فلابد من أن تكون عندك الإجابة، وإذا سئلت: ما هي أدلة صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا سئلت عن إعجاز القرآن فلابد من أن تكون عندك الإجابة؛ لأن هذه الأشياء هو أصول الدين، فلابد من أن يتقنها الإنسان بالأدلة، ولابد من أن تكون حاضرة تماماً في ذهنه.
فأول الأدلة من أدلة البعث والنشور الاستدلال بأن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه.
الدليل الثاني: الاستدلال بخلق السماوات والأرض، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فإذا كان الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فهو أقدر على إعادتهم ونشورهم.
الدليل الثالث: الاستدلال بإحياء الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها، وهذا مذكور كثيراً في القرآن، فالآيات كثيراً ما تشير بعد ذكر إحياء الأرض بعد موتها بالمطر إلى البعث والنشور، كما في أوائل سورة البقرة، وفي سورة الحج وغيرهما من السور.
ومن الأدلة -أيضاً- وقوع بعض الحوادث التي حكاها القرآن الكريم وفيها إحياء الموتى بالفعل، كقوله تعالى في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243].
وكذلك أحيا الله بني إسرائيل لما رفع فوقهم الطور، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:92] إلى آخر الآيات المعروفة في أوائل سورة البقرة.
وهكذا قصة أصحاب الكهف دليل من هذه الأدلة.
وهكذا قصة الرجل الذي مر على قرية، كما قال عز وجل: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259].
وعلى أي حال فالأدلة في هذا كثيرة، ومع ذلك بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض خص هنا ذكر خلق الإنسان من طين، كما ورد في قوله تبارك وتعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81] أي: دلالة بدء خلقهم على بعثهم أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح.
والسياق فيه التفات؛ لأن أول الآية في سياق الغيبة، أما هنا فالتفت، قال عز وجل في أول الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] ثم التفت فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2] فالالتفات هنا هو لمزيد التشنيع والتوبيخ.
أي: ابتدأ خلقكم من الطين؛ فإنه المادة الأولى للكل؛ لأنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر، ولكن نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم عليه السلام، مع أن آدم هو المخلوق منه حقيقة، ولم يقل: هو الذي خلق أباكم، مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب البعث وبطلان الامتراء بتوضيح منهاج القياس، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس.
ولاشك في أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من أبيه آدم عليه السلام؛ لأن آدم كان منطوياً انطواءً إجمالياً على ذريته، أي: أن ذريته كانت في صلبه، فصح أن نوصف نحن بأننا خلقنا من طين باعتبار أن أبانا خلق من هذا الطين، فكان خلقه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه.
ولذلك قال تعالى في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الأعراف:11].
وقوله: (ثم قضى أجلاً) أي: كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصاً به.
يعني: حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله.
وقوله: (وأجل مسمى عنده) أي: وجعل حداً معيناً لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول هو خاص بكل إنسان، أما هذا فهو الأجل الذي هو حد معين لبعث الخلق أجمعين، وهو مثبت ومعين في علمه لا يقبل التغيير ولا يقف على وقت حلوله أحد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف:187].
فمعنى قوله: (وأجل مسمى عنده) يعني أنه مستقل بعلمه.
وقوله: (ثم أنتم تمترون) هذا استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه، أي أنكم تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه مع أنكم تشاهدون في أنفسكم ما يقطع مادة الإمتراء، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها على ما يشاء أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها مرة ثانية.(49/9)
تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)
ثم قال عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3] هذه الآية تحتاج إلى نوع من الاهتمام الخاص؛ لأنها مما يستدل به بعض الضالين المنحرفين الذين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل مكان بذاته تبارك وتعالى، ولا شك في أن هذا من الضلال المبين المنافي لعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فأولئك يستدلون بهذه الآية ويحملونها على غير معناها الصحيح الذي فهمه عليه السلف.
وقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) أي: المعبود الذي يعبده أهل السماوات وأهل الأرض.
وقوله: (يعلم سركم وجهركم) يعني: من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح.
وقوله: (ويعلم ما تكسبون) أي: ما تفعلونه من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب، وخصه بالذكر لإظهار كمال الاعتناء به؛ لأن هذا السر هو الذي يتعلق به الجزاء، وهو السر في إعادة قوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون).
يقول الناصر في (الانتصاف): وأما هاتان الآيتان الكريمتان -يعني: هذه الآية وآية الزخرف، وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]- فإن التمدح في آية الزخرف وقع لما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة، والاستئثار بعلم الساعة، والتوحد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض، فقوله في هذه الآية: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني أنه إله من في السماء وإله من في الأرض، ولا يمكن أبداً حملها على عقيدة الحلول والعياذ بالله؛ لأن السلف قاطعون وجازمون بأن الله عز وجل بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى لا يخالط خلقه ولا يحل فيهم، فهو ينزه عن ممازجة خلقه، بل هو بائن عنهم تبارك وتعالى، وعلمه في كل مكان، لكنه على العرش استوى.
ولم يقل: وهو الذي في السماء رب وفي الأرض رب، ولم يقل: وهو الرب في السماوات وفي الأرض، إنما عنون له هنا بالإلهية (وهو الله)؛ لأن المعنى: هو المعبود.
فيليق بمن سواه أن يعبر بلفظ الجلالة (الله) أي: المعبود، ولذلك فكلمة التوحيد هي (لا إله إلا الله) وأما (لا رب إلا الله) فلا تعتبر كلمة التوحيد، وإن كانت هي توحيد الربوبية، إلا أن كلمة توحيد الربوبية لا تنجي من النار؛ لأنه لو كانت كلمة التوحيد (لا رب إلا الله) لكان أبو جهل موحداً؛ لأن أبا جهل وأبا لهب وغيرهما من الكفار كانوا يعتقدون أنه لا رب إلا الله، ومشركوا مكة كانوا يعتقدون أنه لا رب إلا الله، لكنهم كانوا يشركون في العبادة، وينقضون توحيد الإلهية بأن يعبدوا مع الله غيره، ولذلك كانت كلمة النجاة (لا إله إلا الله) أي: لا تعبدوا إلا الله، ولا إله يستحق العبادة إلا الله، وليست (لا رب إلا الله)؛ لأن جميع المشركين يقرون بأنه لا رب إلا الله.
يقول ابن كثير: للمفسرين في هذه الآية أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول.
يعني أوائل الجهمية القائلين -تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً- بأنه في كل مكان، فهذا مما لا يليق أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، ولنتفطن لشيوع هذه العقيدة عند كثير من العوام وهم لا يشعرون حين يقولون: إن الله موجود في كل وجود.
أو: ربنا موجود في كل مكان.
نعم هو موجود في كل مكان بعلمه وبسمعه وببصره وبشهادته وبإحاطته بخلقه عز وجل، فكل شيء بالنسبة إلى الله عز وجل لا يخفى على الإطلاق.
أما أن يراد أن ذات الله سبحانه وتعالى في داخل خلقه فهذا مما يتعالى الله سبحانه وتعالى وينزه عنه، فالاعتقاد بأن الله في كل مكان هو انحراف وضلال مبين عن عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولم يقل به إلا الجهمية المبطلون، وحملوا هذه الآية على ذلك، وقالوا: إن الله يقول هنا: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] فحملوها على أن ذات الله موجودة في السماوات والأرض.
فالأصح من الأقوال أنه -سبحانه وتعالى- هو المدعو في السماوات وفي الأرض، ولا تعارض؛ لأن الدعاء هو العبادة، أي: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغباً ورهباً، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول هي كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض.
وعلى هذا فيكون قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] خبراً أو حالاً.
أما القول الثاني في الآية فهو أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فمعنى ذلك: أن كلمة يعلم متعلقة بقوله: (في السماوات وفي الأرض) وتقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض.
القول الثالث: أن الوقف على قوله: (وهو الله في السماوات) وقف تام، وهذا هو اختيار إمام المفسرين وشيخهم ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فإنه -رحمه الله- يرى أن الوقف التام هو عند قوله تعالى: (وهو الله في السماوات) ثم يُستأنف: (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) أي: تقف عند قوله عز وجل: (وهو الله في السماوات) يعني: فوقكم في السماء، كقوله تبارك وتعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فـ (في) هنا بمعنى (على) كقوله سبحانه: {لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] يعني: عليها.
وكقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] يعني: فوق الأرض.
هذا هو اختيار الإمام ابن جرير، ورجح ابن عطية في الآية أنه الذي يقال له: (الله) فيهما، فقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني: وهو الذي يقال له: (الله) في السماوات وفي الأرض، قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى.
يعني أنه أراد أن يدل على خلقه وآيات قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات، فجَمَعَ هذه كلها في قوله: (وهو الله) أي الذي له هذه كلها (في السماوات وفي الأرض)، وكأنه قال: وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.(49/10)
تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (وما تأتيهم) أي: أهل مكه، (من) زائدة أو تبعيضية، (من آية من آيات ربهم) يعني: من القرآن الكريم، (إلا كانوا عنها معرضين) وإعراضهم كان بسبب تقليدهم الأعمى للآباء والأجداد لا عن تفكر وتأمل.(49/11)
تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم)
قال تبارك وتعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [الأنعام:5] أي: بالقرآن الكريم، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:5] و (أنباء) هنا بمعنى: عواقب، والعواقب: جمع عاقبة.
قوله: (فسوف تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) يعني: عواقب ما كانوا به يستهزئون، وهو القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة؛ لأنهم إن لم يؤمنوا يعاقبوا إما بالقتل والأسر في الدنيا، وإما بالعذاب الدائم السرمدي في الآخرة.(49/12)
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن)
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام:6].
قوله: {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6] يعني: في أسفارهم، سواء في الشام أو غيرها من البلاد.
وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} [الأنعام:6] (كم) خبرية بمعنى: كثيراً.
وقوله: {مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:6]، القرن هنا المقصود به أمَّة من الأمم الماضية.
قوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام:6] أي: أعطيناهم مكاناً في الأرض بالقوة والسعة (ما لم نمكن لكم) أي: ما لم نعط لكم، وهذا فيه التفات عن الغيبة.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً} [الأنعام:6] السماء هنا بمعنى المطر، وقوله: {مِدْرَاراً} [الأنعام:6] أي: متتابعاً.
وقوله: {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام:6] يعني: من تحت مساكنهم.
قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6] يعني: بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6].(49/13)
تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس)
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7].
هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد لما قالوا: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} [الأنعام:7] أي: مكتوباً {فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام:7] أي: في رقٍ كما اقترحوا {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7] وهذا أبلغ من أن يكونوا عاينوه؛ لأن الكتاب إذا لمسه الإنسان يكون أقوى وأبلغ من مجرد المعاينة، فـ (لمسوه) أبلغ من (عاينوه)؛ لأنه أنفى للشك إذا لمسوه بأيديهم، ومعروف أن اللمس لا يكون إلا بالأيدي فهذا يسميه البلاغيون التعميم.
وهذا مثل قوله تعالى: {طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] والطائر لا يطير إلا بجناحين، ومثل هذا قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} [آل عمران:167] والقول لا يكون إلا بالأفواه، وكذلك هنا في قوله: (فلمسوه بأيديهم).
وقوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] يعني: لقالوا: ما هذا إلا سحر مبين تعنتاً وعناداً.(49/14)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك)
{وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8].
قوله: {وَقَالُوا} [الأنعام:8] أي: كفار مكة {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام:8] أي: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك؟! أي: يصدقه.
يقول تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8] يعني: لو نزل الملك كما اقترحوا فلن يؤمنوا رغم نزول الملك، وقوله: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] يعني: بإهلاكهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو استجاب لهم فيما طلبوه ثم لم يؤمنوا لاستحقوا الهلكة، وقضي الأمر بهلاكهم.
وقوله: (ثم لا ينظرون) أي: لا يمهلون لتوبة أو معذرة، كعادة الله فيمن قبلهم من إهلاكهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا.
ومثل هذا قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115] أي: كما اقترحتم {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة:115] أي: بعد نزول الآية: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115].
فالقضية ليست قضية اقتراح آيات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أتاهم بالآيات فلم يؤمنوا، وإنما كان حالهم كما قال عز وجل: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44].
وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام:8] يعني: يكون معه ملك فيكلمنا الملك ويخبرنا أنه نبي ويصدقه، وهذا كقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان:7].
ونحن هنا بحاجة إلى أن نقف مع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8]؛ لأننا محتاجون إلى استظهار الحكمة من هذا المعنى، فما هي الحكمة من أنه إذا استجيب للكفار فيما اقترحوه فإنه لا يبقى لهم مجال للاختيار وينبغي أن يهلكوا فوراً؟ هذا ما سيبينه القاسمي رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر) فإنه قال: هذا جواب لمقترحهم وبيان لمانعه، وأما ما المانع الذي يمنع من استجابة الله سبحانه وتعالى لطلباتهم واقتراحاتهم التي يقترحونها فهو الرحمة بهم، وأن في عدم الإجابة إبقاءً عليهم وإنجاءً لهم من الهلكة، كي لا يكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه.
والمعنى أن الملك لو أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته -وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن- لحاق بهم العذاب، أي: أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والملك معه في صورته الحقيقة، ولنتخيل صورة الملك، فجبريل عليه السلام رآه الرسول عليه السلام مرتين على صورته التي خلقه الله عليها قد سد كل أفق السماء، وله ستمائة جناح.
فلا شك في أن هذه تكون آية لا أبين منها ولا أيقن، ودليل قاطع على صدق هذا الرسول، ثم إذا فعل الله سبحانه وتعالى بهم ذلك أو استجاب لطلبهم ثم لم يؤمنوا لحاق بهم العذاب وفرغ الأمر.
إذاً لابد من أن يأتيهم الهلاك بعدها مباشرة إذا لم يؤمنوا؛ فإن سنة الله سبحانه وتعالى التي قد جرت في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، كما قال تبارك وتعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8]، أي: لا يؤجلون ولا يمهلون.
وقال عز وجل: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22].
فقوله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] يعني: بإهلاكهم.
وقوله: {ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8] يعني: لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين، فضلاً عن أن يلزموا به بالذات، ومعنى (ثم) هنا بُعدُ ما بين الأمرين: قضاء الأمر، وعدم الإنظار، وجعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.
وذكر الزمخشري وجهاً ثانياً في تعجيل عذابهم عند نزول الملائكة، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، يعني أن الحكمة من وجودنا في هذه الدنيا هي أننا في حالة اختبار وابتلاء وتكليف، فلو كشفت الحجب ورأينا هذه الأمور الغيبية كالملائكة -مثلاً- فهل يبقى مع ذلك اختيار أم أن الإيمان هنا يكون ملجئاً وبالإكراه؟ فهنا يكون الإيمان كأنه بالإكراه، ولا مجال للاختيار، وهذا لا يتناسب مع البقاء في الحياة الدنيا من أجل الابتلاء والتكليف؛ لأنه يزول التكليف ويرفع الاختيار، وحينئذٍ لابد من إهلاكهم؛ لأن انكشاف مثل هذه الأمور إنما يكون في الآخرة.
والاختيار قاعدة التكليف، وهذه آية ملجئة، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] فما دام بأس الله قد جاء وقد كشفت الحجب فلا نجاة، إنما هو الهلاك، وقوله: ((سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ)) [غافر:85] يعني: مضت في عباده، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] أي: عند نزول العذاب.
وقال أيضاً: فتوجب إهلاكهم؛ لئلا يبقى وجودهم عارياً عن الحكمة، وهم ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف، والابتلاء بالتكليف لا يبقى مع الإلجاء والإكراه.
وقد ذكرنا من قبل أن طاقة البشر لا تطيق رؤية الملك في صورته الحقيقية، فربما إذا رأوه قضي الأمر ويهلكون؛ لأنهم لا يطيقون رؤية الملك على صورته الحقيقية، حتى الأنبياء عليهم السلام كانوا يشاهدون الملائكة على الصورة البشرية، كضيف إبراهيم ولوط وخصم داود عليهم السلام وغير ذلك، حيث كان شأنهم كذلك، وهم مؤيدون بالقوى القدسية، فما ظنك بمن عداهم من العوام؟! فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية، واستحال جعله نذيراً، وهو مع كونه خلاف مقصودهم مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع، وقد قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
وقال المهايمي: لا دليل على النبوة سوى شهادة الملأ، وتنزيل الملك بصورته الملكوتية يقطع أمر التكليف؛ إذ لا ينفع الإيمان بعد انكشاف عالم الملكوت، فلا يمهلون؛ لأن الإمهال للنظر، والآن قد انقطع النظر، فالمعجزات وإن أفادت علماً ضرورياً لا تخلوا عن خفاء يحتاج إلى أدنى نظر، ولا خفاء مع انكشاف عالم الملكوت، ولو أن عالم الملكوت انكشف فكأن القيامة قامت ورفعت الحجب وصار الغيب مشاهدة، بخلاف المعجزة، فالمعجزة تدل على صدق النبي، لكنها لا تخفى من نوع من النظر؛ إذ لابد فيها من نوع -ولو خفي- من النظر، أما إذا انكشف عالم الملكوت فلا يبقى وجه للإمهال، فلا يقبل الإيمان معه، فلابد من المعاقبة عقيبه، أي: بعده مباشرة.(49/15)
تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً)
يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] يعني: لو جعله الله سبحانه وتعالى رجلاً على صورة الرجل ليتمكنوا من رؤيته (للبسنا) أي: شبهنا عليهم ما يلسبون على أنفسهم، بأن يقولوا: (ما هذا إلا بشر مثلكم).(49/16)
تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10].
قوله: {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:10] هذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {فَحَاقَ} [الأنعام:10] أي: نزل {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10] وهو العذاب، فكذلك يحيق العذاب بمن استهزأ بك أيضاً.(49/17)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11] قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11] أي: قل لهم سيروا في الأرض.
وقوله: (ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) يعني المكذبين الذين كذبوا الرسل فاهلكوا بالعذاب، وهذا ليعتبروا.(49/18)
تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله)
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12].
قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] يعني: إن لم يقولوا هم وإن لم يجيبوك ويقولوا: (لله) فقل أنت: (لله)، فإنه لا جواب غيره.
وقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] أي: قضى على نفسه الرحمة فضلاً منه، وفيه إشارة وترغيب لهم في الإيمان، وتلطف بهم كي يقبلوا على الإيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى رحيم ورءوف بعباده.
وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12] يعني: ليجازينكم بأعمالكم.
وقوله: (لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه.
وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأنعام:12] يعني: بتعبيدها لغير الله {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12] و (الذين) مبتدأ وقوله: (فهم لا يؤمنون) خبره.
وقد جاء في معنى هذه الآية الكريمة ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) متفق عليه.
وفي البخاري: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق أن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (أن الله لما خلق الخلق) إلى آخره.
وقال أبو السعود: ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقاً بالخلق وأكثر وصولاً إليهم، مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(49/19)
تفسير سورة الأنعام [13 - 35](50/1)
تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار ولا تكونن من المشركين)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14].
(وله) تعالى (ما سكن) أي: حل (في الليل والنهار) أي: كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه، وهو (السميع) لما يقال (العليم) بما يُفعل.
وقوله: (قل أغير الله أتخذ ولياً) أي: قل لهم: (أغير الله أتخذ ولياً) أعبده، والله (فاطر السماوات والأرض) أي: مبدعهما، (وهو يطعم) أي: يرزق، (ولا يطعم) أي: ولا يُرزق، فسيكون الجواب الذي لا جواب غيره هو: لا يصح لي أن أتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي: أول من أسلم لله من هذه الأمة، (ولا تكونن) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين به.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) وله: أي لله عز وجل، (ما سكن في الليل والنهار) أي: ما استقر وحل، من الاستقرار والحلول؛ لأن السكنى بمعنى الحلول، كقوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [إبراهيم:45]، والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار.
يعني: أن كلمة (سكن) هنا ليست من السكون، وهناك قول آخر إنها من السكون، ولكن الأقرب أنها من السكنى.
فقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) يعني: ما حصل في الليل والنهار مما طلعت عليه الشمس أو غربت، فشبَّه الاستقرار في الزمان بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه، فالسكون هنا من الحلول، يعني: ما حل وسكن واستقر في الليل والنهار من المخلوقات.
فكأن الليل والنهار شبها بمكان يسكن فيه، أو أن (سكن) بمعنى السكون الذي هو مقابل الحركة، يعني: له ما سكن فيهما، وإذا فسرنا قوله تعالى: (وله ما سكن) بالهدوء والسكون فما الذي يقابل السكون؟
الجواب
الحركة، فيكون هذا من باب قوله تبارك وتعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} [النحل:81] ولم يقل: القر.
ومعروف أن السرابيل تقي الحر، وفي التفسير نقول: والقر، والمراد: تقيكم الحر والبرد، فحذفه من السياق اكتفاءً بظهوره؛ لأن السرابيل تقينا الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر لشهرته وظهوره، فكذلك هنا إذا قلنا: (وله ما سكن) من السكون، ففي التفسير نزيد ونقول: له ما سكن وله ما تحرك، ونقول: اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لظهوره، ولأنه يقابله، والذي يقابل السكون هو الحركة، وهذا يعرف بالقرينة، وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس فلم يقل: وله ما تحرك في الليل والنهار لأن السكون أكثر وجوداً، والنعمة فيه أكثر.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات وللزمان والزمانيات، وهذا بيان في غاية الجلالة.
وقوله: (وهو السميع العليم) يعني: يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فما يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
ثم قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14].
قوله تعالى: (قل) أي: لكفار مكة المكذبين: (أغير الله أتخذ ولياً) يعني: معبوداً، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]، والمعنى: لا أتخذ ولياً إلا الله وحده.
وقوله: (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق لهما، و (فاطر) بالجر صفة لاسم الجلالة.
وقوله: (وهو يطعم ولا يطعم)، يعني: يرزق سبحانه وتعالى ولا يُرزق، والمقصود: أن المنافع كلها من عند الله تبارك وتعالى، ولا يجوز عليه الانتفاع؛ لأن الخالق مستغنٍ عن المخلوقين، أي: فيجب اتخاذه ولياً ليُعبد سبحانه وتعالى شكراً على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عِوض، والله عز وجل يمتن علينا بالنعم ليل نهار وفي كل لحظة من اللحظات وفي كل أحوالنا يمنُّ علينا بالنعم التي لا غنى بنا عنها طرفة عين، دون أن يطلب منا مقابلاً لهذه النعم، ويرزقنا عز وجل فينبغي أن لا نعبد غيره شكراً لإنعامه عز وجل.
وقيل المراد بالطعم: الرزق، وهذا معناه اللغوي، وهو: كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57]، فالمقصود بالطعم هنا المعنى اللغوي للرزق، وهو: كل ما ينتفع به؛ إذ كل ما ينتفع به يسمى رزقاً.
وقوله: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ))، أي: أول من أسلم، وكلمة (مسلم) يقدر معها عبارة ولكنها تحذف، فكلمة الإسلام نقدرها معها كلمة (لله)، فقولي: أنا مسلم أصله: أنا مسلم لله، فدائماً كلمة الإسلام ومشتقاتها ترتبط بهذا اللفظ، أي: أنا مسلم لله، أو أسلمت لله، وهذا يلاحظ بالاستقراء في القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء:125]، وهذا موجود في القرآن كثيراً، وكذلك هنا يقول تعالى: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)) أي: أسلم وجهي لله مخلصاً له؛ لأصير متبوعاً للباقين؛ لأنني قدوة وأسوة لباقي الناس، وهذا كقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، يعني: من هذه الأمة، وهذا اللفظ بنفسه موجود في دعاء الاستفتاح في الصلوات، وبعض العلماء يرى أن تبدل كلمة (أول المسلمين) إلى: وأنا من المسلمين، على أساس أنه فهم أن معنى (أنا أول المسلمين)، أي: أول إنسان أسلم لله، وإنما المعنى: أول المسارعين إلى طاعتك؛ لأن أول المسلمين هو آدم عليه السلام، فمعنى (أول المسلمين): أول المسارعين، وهذا تعبير عن المسابقة والمسارعة في طاعة الله عز وجل والأوبة له، إلا إذا أردنا أن (أول المسلمين) يعني: أول المسلمين في هذه الأمة المحمدية.
وقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] هو كقول موسى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، وإنما ترى في الآخرة.
وقوله: ((وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين) فهو معطوف على أمرت، يعني: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك نهياً صريحاً مؤكداً بعد النهي في ضمن الأمر؛ لأنه لا شك في أن الإسلام لله يقتضي النهي عما ينافي الإسلام وهو الشرك، فلم يكتف بذلك، وإنما صرَّح -أيضاً- بالنهي عن الشرك، رغم أن الأمر بالإسلام يقتضي نفي الشرك، لكنه صرح بالنهي زيادة في التأكيد بقوله تبارك وتعالى: (ولا تكونن من المشركين).
ونهي المتبوع نهي للتابعين، ويجوز عطفه على (قل)، وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به؛ لأنه مقتداهم، وقيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال.(50/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)
ثم قال عز وجل: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي) أي: بمخالفة أمره ونهيه، فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً، يعني: إذا كانت أي معصية داخلة في قوله: (إني أخاف إن عصيت ربي) فما بالك بأكبر معصية على الإطلاق وهي الشرك؟! فلا شك في أنها تدخل في الآية دخولاً أولياً؛ لأن أكبر معصية في الوجود هي الشرك.
وقوله: (عذاب يوم عظيم) يعني: عذاب يوم القيامة الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهي، وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن الذي يقول هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، يقول: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، فإذا كان المعصوم عليه الصلاة والسلام يقول هكذا فكيف بهؤلاء المشركين؟! فلا شك في أن هذا تعريض لهم بأنهم مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن وجه التعريض هنا إسناد ما هو معلوم الانتفاء بـ (إن) التي تفيد الشك تعريضاً، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يصدر منه المعصية لله عز وجل؛ لأنه معصوم، فإذا كان هو يقول: إنني أخاف أن أعصي ربي خشية العذاب العظيم مع أنه معصوم فكيف بغيره؟! لا يتوهم منه احتمال وقوع المعصية منه، لكن المقصود منه التعريض بهؤلاء المشركين، يعني: إذا كان المعصوم عليه السلام يقول هذا فكيف بمن عداه من المسلمين؟! ثم كيف بالمشركين أنفسهم الذين يقترفون أعظم معصية في الوجود وهي الشرك؟! فلا أمل لهم في رحمة الله ما أقاموا على شركهم.
ولا يتوهم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه المعصية أو أنه يقع في المعصية؛ لأنه معصوم، كما لا يتوهم مثله في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وهذا الاحتمال غير وارد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وإن يردك بخير فهو على كل شيء قدير)
قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16]، وهذا كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
ثم ذكر تعالى دليلاً آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ولياً غير الله تعالى فقال عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وهذا كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، وكما قال عز وجل: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وفي حديث ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(50/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)
قال عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18].
أي: هو الغالب بقدرته، المستعلي فوق عباده، يدبر أمرهم بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن، فلا يستطيع أحد منهم رد تدبيره عز وجل والخروج من تحت قهره وتقديره، فالله عز وجل كل يوم هو في شأن، وهو القاهر فوق عباده يدبر أمورهم ويصرف أحوالهم لا اعتراض على حكمه ولا راد لقضائه عز وجل.(50/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)
قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19].
قوله تبارك وتعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يقول السيوطي: هذه الآية نزلت لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن أهل الكتاب أنكروك.
ويبدو أن هذا افتراض من السيوطي، وإلا فتعبير القاسمي أدق كما سيأتي إن شاء الله، يعني: كأن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام: ائتنا بمن يشهد لك بأنك نبي من عند الله عز وجل؛ فإن أهل الكتاب -كانوا أهل علم بالنسبة للعرب الأميين- أنكروا نبوتك، فائتنا بمن يشهد لك، فقال عز وجل: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: قل لهم: (أي شيء أكبر شهادة) وكلمة (شهادةً) تمييز محول عن المبتدأ؛ لأن كلمة (شهادةً) التي هي تمييز كانت مبتدأً ثم تحولت إلى تمييز، فيكون المعنى: شهادة أي شيء أكبر؟ يعني: أنتم تطلبون شاهداً يشهد نبوتي، فشهادة أي شيء أكبر؟! (قل الله) يعني: إن لم يقولوا هم، وإن لم يعترفوا هم بأن الله عز وجل أكبر شهيد فقل لهم أنت: (الله) ولا جواب غيره، ولا يحتمل أبداً أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب السديد.
وقوله: (شهيد بيني وبينكم) يعني: هو شهيد بيني وبينكم على صدقي.
وقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي: لأخوفكم يا أهل مكة وغيرها، وقوله: (ومن بلغ) معطوف على ضمير (أنذركم)، فالضمير (كم) مفعول به و (من) معطوف عليه، يعني: لينذر به كل من بلغه القرآن من الإنس والجن.
قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، أي: كأنه رأى محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فعلى كل ذي علم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى غيره، ولا شك في أن هذه الآية تتضمن المنهج القويم في الدعوة، وهو إنذار الكافرين حتى مع تكذيبهم بالنبي وتكذيبهم بآيات القرآن نفسه، وقد أشيعت فكرة سخيفة تأثر بها كثير من المسلمين وكثير من الشباب والدعاة، وهي: كيف نخاطب الكافر بالقرآن وهو يكفر بالقرآن؟! وهذا انحراف جذري في أصول الدعوة، فالإنذار من القرآن والإنذار من السنة بنفس آيات القرآن الكريم تخوف الكافر؛ إذ هكذا علمنا القرآن الكريم ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ)) فما عليك إلا أن تبلغ آيات الله، حتى لو كان يكفر بها، فإذا كنت تجادل أحداً من أهل الكتاب فصارحه بآيات الله، وقل له كما قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران:70].
فإذاً: المفروض على الإنسان في الدعوة أن لا يستغني في حال من الأحوال عن الإنذار بآيات القرآن الكريم، ولا يُردد هذه المقولة الباطلة: (كيف نحاجهم بالقرآن مع أنهم كافرون بالقرآن؟!) لأن الله سبحانه تعالى أودع في هذا القرآن قوة إلهية قاهرة تقهر قلوب من يكفرون به، حتى وصل الحال ببعض مشركي مكة الذين هم أشد الناس كفراً وعتواً إلى أنه أنهم حينما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم مفتتح سورة (فصلت) لم يطق صبراً من الخوف ومن شدة النذارة التي في الآيات الكريمات، فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمع، وكأنه يقول: يكفينا هذا.
ولم يتحمل أن يسمع أكثر من ذلك من شدة الخوف، فآيات القرآن هي موعظة ونهي وزجر للإنسان عن الكفر وعن المعاصي، فينبغي أن لا نبطل إعمال هذا السلاح في أعداء الله، ذلك السلاح الذي يخترق قلوبهم، إما لتهتدي وإما ليقطعها حسرة ويقيم عليها الحجة، فلا يجوز تعطيل آيات الله بهذه الدعوى الغريبة التي صدرت وشاعت الآن، وهي أننا لابد من أن نخاطبهم بأساليب أخرى، قد يكون منها مناقشتهم عن طريق كتبهم ونصوص كتبهم المحرفة، مع الإعراض الكامل عن آيات القرآن الكريم، فهذا المنهج منافٍ لمنهج الأنبياء ومخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، فـ ابن مسعود خرج في أوائل البعثة وقرأ سورة (الرحمن) في الحرم الشريف، حتى ضربوه وأدموه وصار كالنصب الأحمر، وكذلك فعل أبو ذر، فالصحابة كانوا يخرجون أمام المشركين ويصدعون بآيات الله، كما قال عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94]، فلا يجوز بحال ترك الدعوة بالقرآن، بل ألف باء الدعوة أن الإنذار يكون بالقرآن الكريم وبمعانيه.
يقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع).
وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}، هذا استفهام إنكار، {قُلْ لا أَشْهَدُ}، أي: قل لهم: (لا أشهد) أي: لا أشهد بأن مع الله آلهة أخرى.
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، يعني: من الأصنام وغيرها.
يقول القاسمي: قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: شهادة أي شيء أكبر؟ بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه، يعني: من هو أكبر شهادة، بحيث لا يمكن معارضة شهادته بشهادة غيره ممن يساويه؟ فالإجابة: هو الله؛ لأن الله لا يساويه أحد، كما قال عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4].
فقوله: (قل الله) يعني: الله أكبر شهادة، أو شهادة الله هي شهادة أكبر شيء؛ لأنه لا يوجد احتمال على الإطلاق لطروق الكذب في خبر الله عز وجل أصلاً، ومعاذ الله! أن يحصل ذلك، أي: لا يمكن أن يتطرق إلى خبر الله عز وجل كذب، قال عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122].
وقوله: (قل الله) مع أنه سألهم، لكن الله سبحانه وتعالى قال له: قل لهم: (الله) وهذا بعد أن مهد لهم بهذه المقدمة (قل أي شيء أكبر شهادة)؛ لأنه يجب عليه أن يتولى الجواب بنفسه، ولبيان عدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره؛ إذ لا يمكن أن تكون هناك إجابة أخرى غير أن الله هو أكبر شيء شهادة، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه.
وقوله: (قل الله شهيد بيني وبينكم) خبر لمحذوف، يعني: هو شهيد بيني وبينكم، أو خبر عن لفظ الجلالة، ودل على جواب (أي) من طريق المعنى؛ لأنه إذا كان الله تعالى هو الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شيء شهادة شهيد له، فيكون هذا من أسلوب الحكيم؛ لأنه عدل عن الجواب المتبادر إليه ليدل على أن أكبر شيء شهادة شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله أكبر شيء شهادة والله شهيد له، فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد له، فكأن هنا مقدمتين ثم نتيجة: المقدمة الأولى: الله أكبر شيء شهادة.
المقدمة الثانية: الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم على صدقه.
فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (شهيد): مبالغ في الشهادة على نبوته، ولم يقل: شاهد، وإنما قال: (شهيد) واستعمل صيغة المبالغة في شهادته لصدق نبوته صلى الله عليه وسلم بحيث يقطع النزاع بينه وبينهم؛ إذ شهد سبحانه بالقول فيما أوحى إلى الأنبياء السابقين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وبالأمور الفعلية فيما ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات، لاسيما معجزة القرآن، كما قال تعالى: ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)) إشارة إلى هذه المعجزة التي أوحاها الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(50/6)
إعجاز القرآن في بلاغته
وقوله: (أوحي إليَّ هذا القرآن) أي: الجامع للعلوم التي يُحتاج إليها في المعارف والشرائع في ألفاظ يسيرة في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، وهو معجزة شاهدة بصدق رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته.
وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) يُفهم منه أنه لا يجوز للدعاة أن يعطلوا الإنذار بالقرآن؛ لأننا نلاحظ أن الكفار الذين لا يفقهون حرفاً في اللغة العربية إذا سمعوا القرآن دهشوا وذهلوا وأفصحوا عن وجود سلطان قوي قاهر على قلوبهم حينما يسمعون القرآن، وهذا يكاد يكون من المتواتر، أي أن كل من يسمع القرآن الكريم يتأثر به هذا التأثر، فللقرآن سلطان على القلوب بمجرد سماعه بدون أن يفقه القلب معانيه، وهذا لقوة في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك مما نراه في حال إخواننا المسلمين الباكستانيين أو غيرهم من الجنسيات الذين يحفظون القرآن أو يحفظ كثير منهم القرآن الكريم دون أن يفقه معناه، ومع ذلك يبكي بكاءً شديداً إذا تلا القرآن الكريم، وبعضهم حكي عنه أنه يمسك القرآن الكريم ويضمه إلى صدره ويبكي ويقول: كتاب ربي كتاب ربي.
فالشاهد أن القرآن الكريم له سلطان في لغته، وفي سماع تلاوته، وفي أحكامه، وفي بلاغته من كل الجوانب، فإذا أتيته تجد بحراً زخاراً بالكنوز الثمينة.
فلذلك ثنَّى تبارك وتعالى بقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به) يعني: بما فيه من الوعيد (ومن بلغ) أي: لأنذركم وأنذر به -أيضاً- من بلغه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسل لكل العالمين، يعني: أنذركم به -يا أهل مكة- وسائر من بلغه من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، وهذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17].
وقوله: (أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) هذا تقرير لهم مع إنكار واستبعاد.
قوله: (قل لا أشهد) يعني: لا أشهد بما تشهدون.
قوله: (قل إنما هو إله واحد) أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، ولا يُشارك في إلاهيته ولا في صفات كماله.
قوله: (وإنني بريء مما تشركون) يعني: من الأصنام.(50/7)
إطلاق لفظ شيء على الله عز وجل
واستدل الجمهور بقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على جواز إطلاق لفظة (شيء) على الله تعالى، وكذا استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام؛ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وبعض العلماء منع إطلاق لفظة (شيء) على الله سبحانه وتعالى، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والاسم إنما يحسن بحسن مسماه، أي أن أسماء الله حسنى لحسن مسماها، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ونعت من نعوت الجلال، كما هو معلوم في أسمائه عز وجل الحسنى، ولفظ (شيء) أعم الأشياء، فهذه حجة من لا يجيز إطلاق لفظة (شيء) على الله، قالوا: إن كلمة (شيء) أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها، فالأشياء الحقيرة أو الصغيرة يطلق عليها أشياء، والأشياء العظيمة -أيضاً- تسمى أشياء، ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا يجوز تسمية الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها.
وأجيب بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى لكونها توقيفية، أي: أنه يطلق على الله لفظ (شيء)، لكنه ليس من الأسماء الحسنى، فيطلق عليه لفظ (شيء) للآيتين اللتين ذكرناهما، وهما قوله تعالى: ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ)) وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88].
فهو يطلق على الله عز وجل، لكن ليس من الأسماء الحسنى؛ لأن الأسماء الحسنى توقيفية، ولكونه لا يدعى به الله سبحانه وتعالى؛ إذ لا يقال في دعائه: يا شيء.
لأن هذا لم يرد، لكن هذا لا ينافي أن كلمة (شيء) تشمل الذات العلية شمول العام، والمراد بإطلاقها عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به، وهذا لفظ شامل، ومما يشمله أن يطلق على الله سبحانه وتعالى.
وبالجملة فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً.(50/8)
الخلاف في المقصود بالشهادة في قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)
وقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) اختار القاسمي أنها شهادة على صحة نبوته، وبعض العلماء قالوا: (أي شيء أكبر شهادة) قالوا: على وحدانيته تبارك وتعالى.
والذي جنح إليه الأكثر أنه أكبر شيء شهادة في ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يفترض من الجواب أنه قد وقع السؤال، لكن الجلال السيوطي قال: ونزل لما سأله مشركو مكة فهو جزم بأنها سبب النزول، أما هنا فقال: فكأنه، أي أنه افترض أن هذا كان وقوعاً للسؤال، وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته، فقال لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن وتحداكم بمعارضته فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة، وإذا كان معجزاً كان إظهاره تعالى إياه على وصف دعواي شهادة منه على صدقي في النبوة.
ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعنى: شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه، ويقوي هذا الاحتمال تتمة الآية: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} فهذا الفريق من العلماء قالوا المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على وحدانية الله.
واستدلوا بتتمة الآية التي هي: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}، وأيضاً يشهد له قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] وقوله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:150].
ومما يدل على أن الشهادة إنما عني بها في موارد التنزيل ثبوت الوحدانية أن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
إذاً: يحتمل أن تكون المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على صدق نبوتي، أو (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به.
واقتصر هنا على الإنذار بقوله: (لأنذركم به) لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر، أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} [النحل:81]، فالأصل في النذارة أنها تقرن بالبشارة، فاكتفى هنا بالنذارة من باب: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} [النحل:81] لأنها مشهورة فلم يذكرها.
واستُدل بقوله تعالى: ((لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)) على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن؛ لأن البشر أجمعين والجن -أيضاً- قد بلغهم هذا القرآن الكريم.(50/9)
أحكام القرآن تعم جميع الخلق منذ نزوله إلى قيام الساعة
واستدل به -أيضاً- على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيولد بعد إلى يوم القيامة؛ لأن كلمة (ومن بلغ)، تعنى: كل من بلغه القرآن، سواء أكان في زمانه صلى الله عليه وسلم أم في غير زمانه إلى يوم القيامة، أم في أي مكان على وجه هذه الأرض.
فكل من سمع هذا القرآن يجب عليه أن يتحرى، وكل من بلغه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسولاً اسمه محمد، أو أنزل كتاباً اسمه القرآن، أو أن هناك ديناً اسمه الإسلام يجب عليه أن يتحرى ويبذل غاية وسعه في التحري عن الحق، ولا يعذر إن قال: اجتهدت في البحث عن الحق فوجدت الحق في غير دين الإسلام.
لا يعذر أمام الله سبحانه وتعالى أبداً؛ لأن وضوح صدق دين الإسلام وأنه دين الله الوحيد الحق أظهر من الشمس، ولا يمكن لأي إنسان عاقل يخلص في البحث عن الحق أن يصل إلى غير هذه النتيجة؛ لشدة وضوحها، وكثرة الأدلة عليها، فمما يؤسف له أننا نجد حتى من بين من ينتسبون للدعوة أو من بين الملتزمين من لا يستطيع أن يدلل على قضايا الإيمان وإحباط الشرك والكفر، وهذه الأشياء أساسية، وينبغي على الإنسان أن يتسلح فيها بالأدلة، فإذا احتجت في وقت من الأوقات إلى أن تثبت أن القرآن معجزة وأنت لم تعرف الأدلة فكيف ستتكلم؟ وماذا ستقول؟ وبم تدلل؟ وكيف تقيم دلالة قوية قاطعة على أن القرآن معجزة من عند الله سبحانه وتعالى؟! فلابد من أن تكون مستحضراً لهذه الأشياء.
ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت عندنا بأدلة من أقوى الأدلة التي هي كالشمس في نقائها وظهورها ووضوحها، فيقبح بنا -معشر المسلمين- أن لا نتقن هذه الأدلة، وأن نعجز عن أن نحاج في الانتصار لدين الحق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إن كان قد قبضه الله عز وجل والتحق بالرفيق الأعلى فإن أمته تقوم مقامه في إبلاغ رسالته وإقامة الحجة على الخلق، فنحن الشهداء على هذه الأمم، كما قال عز وجل: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]، فكيف نكون شهداء على الناس ونحن لم نبلغهم الحق أصلاً، وقد قصَّرنا في إبلاغ هذا الحق إليهم؟! فإذاً: يجب على الإنسان أن لا يقصِّر أبداً في إبلاغ الحق إلى أي مخلوق، سواءٌ من يهود أو نصارى أو مشركين أو أي طائفة، فلابد من أن يجتهد الإنسان في التبليغ.
يقول محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه.
ورواه عنه ابن جرير بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.(50/10)
وجوب التوحيد والبراءة من الشرك
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، وهذا النص الشريف يدل أقوى دلالة على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، كما أن كلمة (واحد) صريحة في نفي الشركاء، ثم صرَّح بالبراءة عن إثبات الشركاء فقال: (وإنني بريء مما تشركون)، ولذلك استحب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله تبارك وتعالى هنا: (وإنني بريء مما تشركون) عقب التصريح بالتوحيد في قوله: (قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون).(50/11)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20].
قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) أي: اليهود والنصارى (يعرفونه) أي: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في التوراة وفي الإنجيل.
وقوله: (كما يعرفون أبناءهم) أي: بحلاهم ونعوتهم، فلا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم، فهم من شدة وضوح الأخبار الواردة عندهم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتبس عليهم وصفه تماماً، كما لا يلتبس على الواحد منهم معرفة ابنه؛ لأن الإنسان لا يشك في معرفة ابنه، فكما أن هذا لا يقع فكذلك هم يستيقنون ويعرفون أنه هو الرسول المذكور في كتبهم، فكأن هذا استشهاد لأهل مكة، لأن أهل مكة قالوا قبل ذلك: إن أهل الكتاب ينكرونك وينكرون نبوتك، فأتنا بشاهد يشهد لك.
فنزلت الآية: ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)).
قال الزمخشري: وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب للنبي عليه الصلاة والسلام والسلام، وبصحة نبوته، ولذا قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، فإنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم خسران.
وقوله: ((الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) يعني: من المشركين ((فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) أي: بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشَّرت به الأنبياء ونوهت به؛ لأنه مطبوع على قلوبهم.(50/12)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) من كذبهم أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، وقولهم في الأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] ونحو ذلك.
وقوله: (أو كذب بآياته) يعني: إما أنه افترى على الله الكذب، وإما أنه لما جاءته آيات الله كذب بها، فكذب بالقرآن والمعجزات وسماها سحراً.
وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته) مع أنهم جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كل واحد منهما وحده بالغ الغاية في الإفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما، فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما أثبته؟! وقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمقصود، فإذا كان حال الظالمين هذا، فكيف بمن لا أحد أظلم منه، وهم هؤلاء الذين يفعلون هذه الأشياء؟! فكل ظالم خاسر؛ لأن كل ظالم لا يفلح، كما قال تعال هنا: (إنه لا يفلح الظالمون)، يعني: لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم، وظهور المسلمين عليهم، وفيه إشارة إلى أن مدَّعي الرسالة الذين يدعون النبوة والرسالة كذباً لا يفلحون؛ فمن كان كاذباً مفترياً على الله فلا يكون مفلحاً؛ لأنه ذكر في الآية الذي يدعي النبوة فقال: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته)، فمن افترى على الله كذباً بأن ادعى أنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، فهذا هو الكاذب الذي لا يمكن أن يكون من المفلحين؛ لأنه (لا يفلح الظالمون)، فلا يمكن أن يكون مدعي النبوة سبباً لصلاح العالم، ولا محلاً لظهور المعجزة، وهذه آية من آيات الله الباهرة، إذ كل من ادعى النبوة لابد من أن يفتضح، أو أن يتوب في النهاية، ولكن بعد أن ينكشف كذبه للناس، والكاذب لا يمكن الله عز وجل له في الأرض ولا يؤيده بالمعجزات، ولا يكون سبباً في صلاح العالم، كما جاء في بعض الآثار الإسرائيلية أنه سئل المسيح: كيف نميز بين الكاذب من الصادق؟ فقال: من ثمارهم تعرفونهم.(50/13)
الأسس التي يعرف بها صدق الرسول
وما ذكر هو أحد الأسس الخمسة التي نستطيع من خلالها أن نستدل على صدق الرسول، فالرسول يعرف صدقه بخمسة أشياء: بصفاته الشخصية؛ لأن الأنبياء يتميزون بصفات شخصية خَلقية أو خُلقية، ولا توجد بهذه الصورة المجتمعة إلا في الأنبياء، فالأنبياء لهم آثار لا تشتبه بآثار غيرهم، فمن الأثر الإصلاح الذي يحدثونه في العالم كله، ولا تعرف نبوةُ على الإطلاق أعظم أثراً من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أبداً، وهذا باعتراف الكفار أنفسهم، ولعل من قرأ كتاب (العظماء مائة) يجد أنه ذكر أن أعظمهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن المؤلف الكافر، ولكن هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها أبداً، فإنه لم يوجد في تاريخ البشرية كلها شخص أعظم أثراً في إصلاح العالم مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن هذه الأسس النبوءات التي تخبر عن أشياء تقع في المستقبل وتقع كما أخبر.
ومنها: بشارة الكتب السابقة به.
ومنها المعجزات.
فمدعي الرسالة لو كان كاذباً مفترياً على الله تعالى فإنه لا يكون مفلحاً، ولا يكون سبباً لصلاح العالم ولا محلاً لظهور المعجزات.(50/14)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا)
يقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22].
قوله: (يوم نحشرهم) أي: الإنس والجن والشياطين.
(جميعاً) لكي يفتضح من لا يفلح من الظالمين، ويظهر المفلحون بكمال الإعجاز.
وقوله: (ثم نقول للذين أشركوا) أي: الذين مضوا على الشرك بأن ماتوا عليه، وهم الشاهدون أن مع الله آلهةً أخرى: (أين شركاؤكم) أي: الذين جعلتموهم شركاءنا، وهم شركاؤكم في العبودية.
وقيل: قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وعلى هذا تحمل الآية هنا (ويوم نحشرهم جميعاً) أي: المشركين (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون)، ففي الآية الأخرى يقول عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ الله} [الصافات:22] فهذا يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وآية الأنعام فيها سؤالهم عن شركائهم.
وأجيب بأنه على تقدير مضاف، أي أن الله هنا يقول: (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم)، والآية الأخرى تثبت أن شركاءهم يحشرون معهم، والسؤال بـ (أين) يكون على شيء لا يحضر، ف
الجواب
هم حاضرون بالفعل محشورون معهم مصداقاً للآية التي في سورة الصافات، لكن المقصود هنا بتقدير مضاف، فقوله: (أين شركاؤكم) يعني: أين نفع شركائكم، وأين شفاعة شركائكم؟! فهم بمنزلة الغُيَّب؛ لأن الحاضر الذي لا نفع ولا فائدة من حضوره هو مثل الغائب، ومثل الميت، ومثل المعدوم؛ لأنهم عدموا ما رجوا منهم من الشفاعة.
فالمقصود هو التوبيخ والتقريع، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه، وثمرة هذا أنهم يعلمون في الدنيا أنه تقوم عليهم الحجة، فيعملون عقولهم ليستحضروا ما هم عليه من الضلال، وأن هؤلاء الذين يرجون شفاعتهم سوف ييئسونهم ويخذلونهم، وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة.
وقوله: (الذين كنتم تزعمون) يعني: تزعمونهم شركاء من عند أنفسكم.(50/15)
تفسير قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)
قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
قوله: (ثم لم تكن فتنتهم) أي: جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى.
فقوله: (ثم لم تكن فتنتهم) يعني: لم يكن جوابهم إلا أن كذبوا وقالوا، فسمى الجواب فتنة؛ لأنهم وقعوا في الكذب، فافتتنوا بالكذب أمام الله عز وجل في الآخرة.
وقوله: (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)، أي: أنهم اعتذروا عن أصنامهم بنفيها نفياً، مؤكداً بالقسم بالاسم الجامع، ولذا قالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين)، ونسبوا الربوبية إلى الله عز وجل، لا إلى ما سواه، مبالغةً في التبرؤ من الشرك، فكان هذا العذر ذنباً آخر؛ لأنهم يكذبون يوم القيامة أمام الله عز وجل، ويحلفون على كذبهم يميناً غموساً.
وهذا جدير بأن يسمى بالفتنة، ولذا قال: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين).(50/16)
تفسير قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24].
قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم)، يعني: بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب، وبحضرة من لا ينحصر من الشهود، فإن الشهود لا ينحصرون في ذلك اليوم، وأكبر شيءٍ شهادةً هو الله عز وجل، الذي رآهم وكان شهيداً على أعمالهم وشركهم وكفرهم، ثم الرسل والملائكة والبشر، وكل هؤلاء يشهدون عليهم، ومع ذلك اجترءوا على الكذب أمام الله عز وجل، فلذلك يقول تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)، أي: انظر كيف ضاع وغاب عنهم ما كانوا يفترون من الشركاء، فلم يغن عنهم شيئاً، ففقدوا ما رجوا من شفاعتهم ونصرتهم لهم، وهذا كقوله تعالى: {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [الأعراف:37] أي: خذلونا.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟! يعني: كيف يكذبون مع أنهم يطلعون الآن على الغيبيات وعلى حقائق الأمور، ويطلعون على أن الكذب والجحود لن ينفعهم يوم القيامة؟ يقول الزمخشري: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه.
أي أنه يتعلق بقشة، والكذب أسوأ من القشة، فالممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه، من غير تمييز بينهما حيرةً ودهشاً، ألا تراهم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود في جهنم، ومع ذلك يحاولون أي محاولة فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، كما قال تعالى عنهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.(50/17)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة)
ثم بين تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة مما طبع على قلوبهم بسببه، فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25].
قوله: (ومنهم من يستمع إليك)، يعني: يصغي إليك حين تتلو القرآن ولا يفني عنه شيئاً؛ لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه ويؤثر فيه الإرشاد.
وقوله: (وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي: حجباً، و (أكنة) جمع كنان، كغطاء جمعه أغطية، والموافقة هنا في الوزن وفي المعنى، فمعنى أكنة: أغطية.
وقوله: (أن يفقهوه) يعني: كراهة أن يفهموا ببواطن قلوبهم بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده؛ لإقامة الدلائل ورفع الشبه.
قوله: (وفي آذانهم وقراً)، أي: وجعلنا في آذانهم التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب صمماً مانعاً من وصول السماع النافع.
وقوله: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) يعني: ليس هذا القصور متعلقاً بتقصيره مع القرآن الكريم وتدبر القرآن فقط، لكن هذا في أي آية أخرى ابتدأ فيهم بها فلم يؤمنوا بها، فيقولون: هي سحر.
لصرف عنادهم واستحكام التقليد فيهم، ولذلك قال عز وجل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] يعني: سمع انتفاع.
ثم يقول تعالى: (حتى إذا جاءوك يجادلونك) يعني: بلغ تكذيبهم للآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل.
ثم فسر المجادلة بقوله: (يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) أي: أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها.
ولا شك في أن هذه رتبة من الكفر ليس وراءها رتبة؛ لأن هؤلاء المبطلين يعدون أصدق الحديث وأحسن الحديث الذي هو كلام الله من قبيل الأباطيل، مع أنه هو الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، فهذه -بلا شك- رتبة من العناد والكفر لا غاية وراءها.(50/18)
تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه)
ثم يقول عز وجل: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26].
قوله: (وهم ينهون عنه) يعني: لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه، بل يصدون غيرهم -أيضاً- عن استماعه.
قوله: (وهم ينهون عنه وينأون عنه)، أي: أنهم يبعدون عن القرآن، وينهون الآخرين عن أن يجتمعوا للقرآن، وهم لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم مع مكانة معانيه يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع إلى إعجازه، فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق، لذلك ينهون عنه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فهم ينهون عن قراءته واستماعه لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة.
وقوله: (وينأون عنه) يعني: يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم منه، وتأكيداً لنهيهم عنه، فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي.
وقوله عز وجل: (وإن يهلكون إلا أنفسهم) أي: هم بهذا الإبتعاد عن مصدر الهدى الذي هو القرآن لن يضروا الله ولا رسوله ولا المؤمنين شيئاً، فإن الله عز وجل متم نوره ومظهر دينه، وإن الدائرة على هؤلاء الكافرين، ولذلك قال: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) قيل في بعض التفاسير: يدخل في هذه الآية الكريمة أبو طالب، فإنه كان ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى.
فقوله: (وهم ينهون عنه) يعني: ينهى المشركين عن أذيته عليه الصلاة والسلام (وينأون عنه)، أي: وهو نفسه ينأى عنه فلا يؤمن به، مع أنه ينهى إخوانه من مشركي قريش عن أذية الرسول عليه السلام، وكان يحميه، وفي نفس الوقت هو في ذاته ينأى عنه ويبعد عن الإيمان به، فلم يؤمن به.
ويكون سر الجمع في قوله: (وهم) أن المقصود أبو طالب ومن كانوا يتابعونه ويناصرونه على ذلك، وقيل: إنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشدهم عليه بالسر؛ إذ كانوا يناصرونه في العلانية، وينهون الناس عن أذيته، وهم في السر أشد الناس بعداً عنه في الإيمان به عليه الصلاة والسلام.
ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يطلق على ما ذكر ولا ينافيه، وهو المراد بالنزول، واستشهد بعض هؤلاء المفسرون بقول أبي طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرفت دينك لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وهناك جناس بديع بين: (ينهون) و (ينأون).(50/19)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد)
ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفيته، مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة من القول المناسب لعقدهم الدنيوي، فقال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) أي: اطلعوا عليها فعاينوها، أو دخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب.
وقوله: (على النار) إما أن معناه: فوق النار على الصراط، وإما أن (على) بمعنى (في) يعني: أقيموا في جوف النار وغاصوا فيها، وهي محيطةٌ بهم.
وقوله: (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) تمنوا الرجوع إلى الدنيا حين لا رجوع، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم، وأن يكونوا من المؤمنين بآياته العاملين بمقتضاها حتى لا يرون هذا الموقف الهائل، ويكونون من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحسن المآب.(50/20)
تفسير قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وما نحن بمبعوثين)
يقول تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
قوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) في هذا إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد بالتصديق بالإيمان، يعني: ليس هذا الكلام الذي يقولونه حقاً، وإنما هو كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] على أحد التفاسير، فهي مجرد كلمة، لكن في الحقيقة لو أن الله ردهم لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم -أيضاً- ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الشيء الذي لم يقع لو كان سيقع بعلمه على أي صورة سيقع، والدليل هذه الآية (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)، فيخبر تعالى أنه لو ردهم إلى الدنيا كما يطلبون وكما يتمنون لعادوا لما نهوا عنه من الشرك.
وهذا نلاحظه في الجبابرة والعتاة والطغاة حينما يتعرضون للموت ويواجهون الموت، ثم يشاء الله سبحانه وتعالى أن ينجيهم، ولا شك في أن أي واحد منا لو استحضر أنه ما بينه وبين الموت إلا طرفة عين وانتباهتها فإنه في تلك اللحظة يعاهد الله على التوبة والاستقامة؛ لأنه رأى الموت بعينه.
وما من أحد يمرض إلا وهو في الغالب يجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، وهذا شيء يحسه كل إنسان منا في نفسه.
فعادة هؤلاء الجبابرة المتجبرين أن الله إذا رد أحدهم فإنه لا يتعظ ولا ينزجر ولا يرعوي، ولا يحدث توبة، بل ربما يتمادى في الطغيان وفي العتو وفي الإفساد في الأرض.
فالإنسان كما قال الشاعر: ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود فليست الأمنية التي يذكرونها عن عزمٍ صحيح، وليست عن اعتقاد خالص، بل هي بسبب آخر، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك، يعني: أنهم حاولوا أن يكتموا جريمتهم بقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، فالله سبحانه وتعالى يبين هنا حالهم فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، يعني: أنهم الآن يقولون: (ولا نكذب بآيات ربنا)، ويقولون أيضاً: (ونكون من المؤمنين)، وهم قبلها في موقف آخر في القيامة كانوا يقولون: ((وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ))، أي: نحن كنا مؤمنين، فيبين الله سبحانه وتعالى أن السبب في تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليس العزم الصحيح والنية الصادقة على أنهم يتوبون إذا رجعوا إلى الدنيا، لكن الذي جعلهم يتمنون الرجوع هو أنه قد كشف الله مخبوء صدورهم حينما كذبوا وحلفوا كذباً وزوراً أنهم ما كانوا مشركين، فقد ظهر ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك بقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فتمنوا لذلك أن يعودوا إلى الدنيا.
أو كشفهم بشهادة جوارحهم عليهم، فإنهم حلفوا أنهم ما كانوا مشركين، وما عملوا المعاصي، فينطق الله سبحانه وتعالى جوارحهم فتنطق تدينهم، فحينئذ ينكشف الكذب الذي كانوا يكذبونه.
أو انكشف لهم ما كانوا يخفون من قبل في الدنيا حينما كانوا يخفون تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخفونها في صدورهم، انكشفت لهم الحقيقة يوم القيامة، وكانوا يبدون في الدنيا خلاف هذا التصديق، كما قال عز وجل عن موسى أنه قال لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] يعني: أن فرعون نفسه كان موقناً بصدق موسى، لكن كان يخفي ذلك في صدره، فقد كان أمام الجماهير وأمام الشعب يجهر بتكذيب موسى، وهو في قلبه مؤمن بأن موسى صادق، والدليل قوله تعالى هنا حكايةً عن موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ) يعني: يا فرعون (ما أَنزَلَ هَؤُلاءِ) أي: الآيات: {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال في الآية الأخرى في شأن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
وقوله: (ولو ردوا) يعني: عن هذا الموقف إلى الدنيا كما تمنوا وغاب عنهم ما شاهدوه من الأحوال (لعادوا لما نهوا عنه) أي: لعادوا إلى الشرك وإلى الكفر.
وقوله: (وإنهم لكاذبون) يعني: في وعدهم بالإيمان، أو أن ديدنهم الكذب في أحوالهم، ولذلك كان للسلف الصالح مع هذه الآية وأمثالها مواقف، فقد كان بعض السلف يعظ ابنه فيقول له: يا بني! هب أننا متنا ثم بعثنا ونشرنا وقامت القيامة، وحكم علينا أن ندخل النار، ثم وقفنا على الصراط، ووقفنا أمام ربنا سبحانه وتعالى فسألناه الرجعة، ودعونا الله أن نرجع لنعمل صالحاً، هب أنك سألت الله الكرة الجديدة فأعطاك، فافترض أن حياتك الآن هي فرصة ثانية أعطاك الله إياها، فانتهز هذه الفرصة قبل أن تسأل الكرة فلا تعطاها.
ثم قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
قوله: (إن هي إلا حياتنا الدنيا)، يعني: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، وإن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع! وقوله: (وما نحن بمبعوثين)، يعني: بعد أن نفارق هذه الحياة.(50/21)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق)
قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30].
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، يعني: عرضوا عليه، أو وقفوا بين يديه، {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، أي: أليس هذا المعاد والبعث والنشور بالحق؟! قال هذا تقريعاً لهم ورداً لما يتوهمون عند الرد، {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}، أي: إنه الحق، وليس بباطل كما كنا نظن.
وأكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بأحقيته، فعندهم يقين، لكن اليقين لا ينفع في الآخرة حين تنكشف الحجب، وإنما اليقين ينفع في دنيا الاختبار والابتلاء حين تؤمن بالغيبيات دون أن تراها، هذا هو اليقين المفيد النافع، أما اليقين بالظاهر فكل الناس يوقنون إذا انكشفت الحجب، كما قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
ولذا قال لهم: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).(50/22)
تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)
قال عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
قوله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، يعني: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها.
وقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون)، روي أن علياً رضي الله تعالى عنه نظم أبياتاً على منوال هذه الآية، وقيل: إنها لـ أبي العلاء المعري، ولعل هذا أقرب، يقول فيها: قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما و (إليكما) هنا معناها: كُفَّا عما تقولان؛ فإنه ليس بصحيح.
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما أضحى التقى والشر يصطرعان في الد نيا فأيهما أبر لديكما؟ طهرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خلدي بذاك فأوحشا خلديكما وبكرت في البردين أبغي رحمةً منه ولا ترعان في برديكما إن لم تعد بيدي منافع بالذي آتي فهل من عائد بيديكما برد التقي وإن تهلهل نسجه خير بعلم الله من برديكما يناظر هذين الملحدين اللذين ينكران البعث والنشور.
فقوله: (إن صح قولكما فلست بخاسر) يعني: لو كنت أؤمن بالبعث والنشور وأنتما لا تؤمنان به، وظهر بعد ذلك أن مذهبكما كان الصحيح، فمذهبكما في عدم وجود بعث ونشور لا يضرني، لكن افترضا أن مذهبي صحيح وأنه يوجد بعث ونشور فإن هذا يضركما، وهذا نوع من التنزل أو ما يسمى باستدراج الخصم في المناظرة، حتى يقر بالحق، وهذا له نظير في القرآن، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]، وكذلك -أيضاً- قوله تعالى في سورة سبأ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] والألصق بالموضع الذي نذكره هو هذه الآية: (وإن يك كاذباً)، وبدأ بكلمة (كاذباً)؛ لأنها أقرب لهواه، وهذا نوع من التنزل في الخصومة وفي المناقشات، فإذا كان كاذباً (فعليه كذبه)، لكن إذا كان صادقاً (يصبكم بعض الذي يعدكم) فكذلك هنا يقول لهما: إن كان مذهبكما صحيحاً فأنا ما خسرت شيئاً، لكن إن كان مذهبي صحيحاً فقد خسرتما كل الخسران.
فكأنه يقول: إذا كان الأمر كما تقولان من أنه لا قيامة فقد تخلصنا جميعاً، وإن لم يكن الأمر كما تقولان فقد تخلصت وهلكتما، فهذا الكلام وإن خرج مخرج الشك فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وبيان قلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه، مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهذا نوع من أنواع الجدل، فالاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، فيستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة وليس منها، كقوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: (إن يك كاذباً) فكذبه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى، وهذا يذكرنا -أيضاً- بقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27].
فكأن مؤمن آل فرعون يقول: إن يكن نبياً صادقاً فلابد من أن يعطي كل ما وعد به لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشدد، فأراهم أنه لم يعطيه حقه، ولم يتعصب له ويحام عنه حتى لا ينفروا عنه، ولذا قدَّم قوله: (وإن يك كاذباً) ثم ختم بقوله: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) يعني: أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدارجه ما لا يخفى.
وقوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) أي: جاءتهم القيامة فجأة، وسميت القيامة ساعة لأنها تفجأ الناس بغتةً في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والمعنى: جاءتهم منيتهم.
والساعة هنا ليس المقصود بها يوم القيامة، بل المقصود بها القيامة الخاصة بكل إنسان، حينما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة بالموت، وعلى هذا فقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) المراد الساعة الصغرى التي هي الوفاة.
قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، كما يقال: إذا مات ابن آدم قامت قيامته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة)، ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته.
وقوله: (قالوا يا حسرتنا) أي: يا ندامتنا.
والحسرة هي التلهف على الشيء الفائت.
وقوله: (على ما فرطنا فيها) أي: قصرنا في الحياة الدنيا.
وقوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) يعني: بئسما يحملونه.(50/23)
تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو)
يقول تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32].
قوله: (وما الحياة الدنيا إلا لعب) يعني: هزل وعمل لا يجدي نفعاً (ولهو) يعني: اشتغال بهوى وطرب وما لا تقتضيه الحكمة، وما يشغل الإنسان عما يهمه مما يمتد به ثم ينقضي.
وقوله: (وللدار الآخرة خير للذين يتقون)، أي: لدوامها وخلو منافعها ولذاتها عن المضار والآلام.
وقوله: (أفلا تعقلون) يعني: أفلا تعقلون هذه الحقيقة حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي، ولا تؤثروا الأدنى الفاني على الأعلى الباقي؟!(50/24)
تفسير قوله تبارك وتعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك)
قال تبارك وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
قوله: (قد نعلم إنه ليَحزنك) أو (إنه ليُحزِنك) بفتح الياء وضمها (الذي يقولون) يعني: الذي يقولونه فيك من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون.
وهذه الآية من الآيات العظيمة في فضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم الآيات في خصائص الرسول عليه السلام وبيان فضائله وعلو مقامه عند الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يسلِّي نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه هو الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ويبين أنه يعرف كيف تتأثر نفسه الشريفة ويحزن قلبه عليه الصلاة والسلام إذا وصف بأنه كاذب على الله، كما قال: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) أي: نحن نعرف أنك تتألم أشد الألم حينما يصفونك بالكذب، فيواسيه الله سبحانه وتعالى، والله هو الذي يطلع على قلوب هؤلاء الكفار، فيقول له: (فإنهم لا يكذبونك) أي: لا تجزع، فهم يعتقدون في قلوبهم أنك صادق، لكن يجحدون الحق في الظاهر، وهم يعتقدون صدقك، فيواسيه بأنك لا تتألم حينما يصفونك بالكذب؛ لأنهم في الحقيقة لا يكذبونك، فهم يعرفون صدقك، لكن ما يظهرونه هو عبارة عن جحود في الظاهر، وهم يصدقونك في الباطن، وهذا من أعظم المواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فانظر كي تعرف مكانة النبي عليه الصلاة والسلام عند الله عز وجل، وتأمل جيداً في مثل هذه الآيات (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) وانظر إلى الشفقة والرفق والتلطف بالرسول عليه الصلاة والسلام، والمواساة والتسلية له (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).
يقول أبو السعود: استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه، مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه؛ لبيان أنه صلى الله عليه وسلم بمكانةٍ من الله عز وجل، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام.
وقوله: (نعلم) هنا المقصود التحقيق وتأكيد علم الله سبحانه وتعالى بوقوع ما يقولون.
يقول أبو السعود: وهذا يفيد بلوغه صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر، ورفعة المحل، والزلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءه، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه وتعالى على طريقة قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، بل نفى تكذيبهم عنه، وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] إيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل، وفيه استعظام لجنايتهم منبه عن عظم عقوبتهم، وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكن يجحدون بألسنتهم عناداً ومكابرة، وقد روي عن علي قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به.
فأنزل الله: (فإنهم لا يكذبونك) إلى آخر الآية.(50/25)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا)
ثم يقول تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
قوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك) في هذا تسليته عليه الصلاة والسلام؛ فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض التهوين حين تعم، والناس عندهم المثل الذي يقول: (المصيبة إذا عمت طابت)، فالبلاء والعناء حينما ينزل ويشترك فيه الناس يهون عندهم، كما يستشهد لذلك بقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي تقول: إن أناساً كثيرين فقدوا إخوانهم، فلو كنت وحدي في هذه المصيبة لما احتملت، ولما واساني أحد، ولقتلت نفسي، ولكنهم كثير، ولكن لا يبكون مثل أخي، ومهما بكوا فإخوانهم أقل من أخي، ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي.
فالمصيبة إذا عمت في الناس تكون آثارها أقل؛ لأن في ذلك نوعاً من المواساة.
ولذلك فهذا النوع من المواساة سيحرم منه أهل النار، كما في قوله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] فالآية تبين أن من عقوبتهم أنهم سيحرمون بالشعور الذي ينشأ عن المساواة في البلية بسبب وجود أمثالهم في العذاب، فهذا الشعور نفسه سينزع من قلوبهم، ولن ينفعهم وجود غيرهم معهم في العذاب.
فيقول تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك)، يواسيه الله سبحانه وتعالى بسنته تعالى فيمن سبقوه من الأنبياء، فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض التهوين، وفي هذا إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأذية، وفيها وعد ضمني له صلى الله عليه وسلم بمثل ما مُنحوه من النصر، كما كانت عاقبة أمرهم النصر، والعاقبة للمتقين، فكذلك تتضمن هذه الآية وعداً للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر والتمكين.
وقوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا)، إلى أن جاءت النهاية الحتمية: (حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) أما كلمات الله فهي مواعيده، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] وقال أيضاً: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21].
وقوله: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)، أي: من خبرهم في مصابرة الكفار، وما منحوه من النصر، فلابد من أن نزيل حزنك بإهلاكهم، وليس إمهالهم لإهمالهم، بل هو لجريان سنته تعالى بتحقيق صبر الرسل وشكرهم.(50/26)
تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم)
ثم قال عز وجل: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].
قوله: (وإن كان كبر عليك)، يعني: إن كان شق وثقل عليك (إعراضهم)، يعني: عن الإيمان بما جئت به من القرآن، ونأيهم ونهيهم الناس عنه.
وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، يعني: إما أن تصبر ولا حيلة لك إلا الصبر، وإما أن لا تصبر ولا يوجد خيار آخر، فعليك أن تصبر وتقتدي بإخوانك المرسلين السابقين.
وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، أي: سرباً ومنفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تأتي لهم بآية يؤمنون بها.
قوله: (أو سلماً في السماء) أي: مصعداً تعرج به إليها.
وقوله: (فتأتيهم بآية) يعني: مما اقترحوه فافعل، وحسن حذف الجواب لعلم السامع به، فقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء) جوابه: فافعل، لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة؛ إذ يقين الإيمان غير نافع؛ لأنه لو انكشفت الحجب تماماً وصار الغيب شهادة، وأتاهم بكل ما يقترحونه من المعجزات والخوارق فسينقلب الإيمان إلى إيمان قهري وضروري، وليس إيماناً اختيارياً.
ثم يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، وهذه كلها مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاء بمقتضى جلاله إظهار غاية قهره وغاية لطفه، (فلا تكونن)، يعني: بالحرص على إيمانهم، أو الميل إلى نزول مقترحهم، (من الجاهلين)، يعني: بما تقتضيه شئونه تعالى.
وفي هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على مبالغته صلى الله عليه وسلم في حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه إلى غاية أنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وشفقة عليهم.
وهذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن؛ لأن الله تعالى يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)، فلو حرف امتناع لامتناع، فصدر الجملة بـ (لو)، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، يعني: امتنع استماعهم عن الهدى لامتناع مشيئة الله عز وجل أن يجمعهم على الهدى، وقال عز وجل هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ولم يقل: فلا تكن جاهلاً، وإنما قال: (فلا تكونن من الجاهلين) يعني: من قوم ينسبون إلى الجهل، تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا يسند الجهل إليه بالمبالغة في نفيه عنه.
وأما ما فيه من شدة الخطاب في قوله: (فلا تكونن من الجاهلين)، فسره إبعاد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر، مما لا يليق إلا بالجاهلين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/27)
تفسير سورة الأنعام [36 - 49](51/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36].
قوله عز وجل: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) تقرير لما مرَّ من أن على قلوبهم أكنة وأغطية وحجب، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يتصور منهم الإيمان البتة، ففي هذا بيان للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الطمع والرجاء في إيمانهم، وبيان أن الذين يستجيبون للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم الذين يسمعون، وهؤلاء الموتى لا يسمعون فلن يستجيبوا، فمعنى الاستجابة: قبول دعوتك إلى الإيمان.
وقوله: (يسمعون) يعني: يسمعون سماع قبول وسماع تعقل وتفهم وتدبر، لا مجرد السماع الذي تفصله وتتقنه البهائم والعجماوات؛ لأنك لو وقفت تتلو قصيدة أو كتاباً على أي شيء من العجماوات والبهائم فهي تسمع الصوت، لكن لا تعقل، فهذا هو نفس المقصود بمثل هذه الآيات التي تصفهم بعدم السماع، فهم يسمعون كما تسمع العجماوات التي لا عقل لها، لكن لا يفقهون شيئاً من هذا الكلام، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: مع رسلهم: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] فهو لا يسمع، لكن يسمع الدعاء والنداء فقط، فكما تنادى البهائم بأصوات مميزة فتسمع دون أن تعقل فكذلك هؤلاء، وهذا يتكرر كثيراً في القرآن الكريم في وصف هؤلاء الكفار، أي: إنما يستجيب لك بقبول دعوتك إلى الإيمان الأحياء الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم، دون الموتى الذين هؤلاء منهم.
وهذا كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، فليس المراد الموتى حقيقة فحسب، بل الآية تشمل الكفار الذين هم في الظاهر أحياء، لكنهم في الحقيقة موتى القلوب لا يفقهون ولا يعقلون، فالمقصود بالموتى الكفار؛ لأنهم موتى في الحقيقة، ولأن الحياة لا تنفعهم ما داموا غير مؤمنين.
فقوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) أي: وإن كانوا أحياءً بالحياة الحيوانية فهم أموات بالنسبة إلى الإنسانية، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الرديئة.
ثم ابتدأ الله تعالى كلاماً آخر فقال: (والموتى يبعثهم الله) يعني أن الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة.
وقوله: (ثم إليه يرجعون) يعني: سيجزيهم بأعمالهم، فالموتى مجاز عن الكفرة، كما قيل: لا يعجبن الجهول بزته فذاك ميت وثوبه كفن فقوله: (لا يعجبن الجهول بزته) يعني أن الشخص الجاهل يعجب بملابسه ورونقها وزينتها، وقوله: (فذاك ميت وثوبه كفن) يعني أن الإنسان الميت لا يتزين بالكفن، ولا يفخر بالكفن، فكذلك هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله، فمهما كان عليه من حسن ثياب فإنما هي كالكفن الذي يكون على الموتى، فكيف يفخر بها؟! قيل: فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى لا يقدر عليه إلا الله، فهذه الآية رمز ترمز إلى هذه المعنى العظيم، وهو أن هدايتهم لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى وحده، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لأن الهداية هي كبعث الميت من الموت إلى الحياة، وبعث الميت وإعادته إلى الحياة لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الهداية لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من خصوصيات الله، فكما أنه يستأثر بالقدرة على إحياء الموتى فكذلك يستأثر بالقدرة على إحياء أموات القلوب بالكفر بأن يحيي قلوبهم بالإيمان وبالهداية.
فقوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) قيل: إن فيه رمزاً لقدرة الله على هدايتهم، وأن ذلك كالبعث، ففيه إخلاص للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، يعني: أنت تبلغ، لكن ليس عليك هداية القلوب، إنما عليك هداية البيان والتوضيح والإبلاغ، أما هداية القلب وانقياده فهذا النوع من الهداية لا يملكه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وفي مقارنتهم بالموتى من التهكم بهم والإغراء عليهم ما لا يخفى.(51/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه)
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37].
قوله: (وقالوا) يعني مشركي مكة، وهذا بيان لنوع آخر من تعنتهم؛ إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخر لها صم الجبال، فطلب الآيات ما هو إلا نوع من التعنت والتزمت، وقد ذكر أن الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنهم لو آتاهم من الآيات ما يطلبون فإنهم يتمادون في كفرهم وفي غيهم، فلا يزيدهم هذا إلا جحوداً وكفراً وعناداً، وحينئذ يستحقون نزول العذاب إذا أجيبوا إلى ما اقترحوه من الآيات، فكأن الله سبحانه وتعالى أمسك عن أن يجيبهم إلى ما اقترحوه إبقاءً عليهم، وإلا فما أعظم الآيات التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأعظمها على الإطلاق هذا القرآن الكريم، وغيره من المعجزات الخوارق التي تقطع بصدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) يعني: خارقة على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون.
وهذا كقولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] إلى آخر الآيات.
وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي أن اقتراحها جهل، فإن الله سبحانه وتعالى قادر -بلا شك- على أن ينزل آية، ولكن اقتراح الآيات على سبحانه وتعالى جهل به عز وجل؛ لأن في تنزيلها قلعاً لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختبار؛ لأنه لو جرت أمور الدنيا على خرق العادة باستمرار بأن يستجيب الله لهم فبهذه الحالة نصير كأننا في عالم الآخرة ولسنا في عالم هذه الدنيا، فالدنيا دار ابتلاء ودار تكليف، فلا شك في أنه لو كشفت الحجب وكشفت لهم الآيات وأجيبوا إلى كل ما اقترحوا من الخوارق فلن نبقى في هذا العالم الذي يكون الإيمان فيه اختيارياً، بل سنتحول إلى العالم الذي يكون فيه إيمان افتراضياً، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
فهذا الإيمان وهذا اليقين لا يفيد؛ لأنه ليس في ذلك تكليف، فالقيمة هي في أن توقن هنا بالغيب في دار الابتلاء والتكليف، وأما الآخرة فهي دار ظهور النتائج، فلا يستقيم أن يبقى التكليف مع تحول الأمور إلى خوارق إجابة مقترحاتهم، بل سيقضى على أساس التكليف ويقتلع من أساسه.
أو أن في اقتراح هذه الآيات وفي إجابتهم ما يترتب عليه استئصالهم بالكلية؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى أنه إذا طلب قوم آية أو اقترحوا آية فأجابهم إليها فإنه يجيب إليها بشرط أنهم إذا لم يؤمنوا إذا رأوها فإنهم يعاقبون بالاستئصال بالكلية، فكأنه لم يجبهم رحمةً بهم وإبقاءً عليهم؛ فإن من لوازم جحد الآية الهلاك، جرياً على سنته تعالى في الأمم السالفة، وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لأن بعضهم واقفون على حقيقة الحال، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعناداً.
فقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) في هذا إشارة إلى أن بعض هؤلاء الكفار واقفون على حقيقة الحال، ويعلمون هذا المعنى، وأن الله قادر على أن ينزل آية، وأنه لم ينزل آية من أجل كذا وكذا من الحكم التي ذكرنا، لكنهم مع ذلك يتعنتون مكابرةً وعناداً.(51/3)
تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)
يقول تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38].
قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض) (في) هنا تعطي معنى الاستقرار، ولذلك يقول القاسمي في تفسيرها: (وما من دابة في الأرض) أي: مستقرة في الأرض لا ترتفع عنها.
وقوله: (ولا طائر يطير بجناحيه) يعني: الطائر يرتفع عن الأرض حين يطير، أما الدابة فهي مستقرة على الأرض.
وقوله: (إلا أمم أمثالكم) أي: إلا أصناف مصنفة في ضبط أحوالها وعدم إهمال شيء منها وتدبير شئونها وتقدير أرزاقها.
وقوله: (ما فرطنا في الكتاب) يعني: ما تركنا وما أرسلنا في الكتاب، والكتاب هو لوح القضاء المحفوظ.
وقوله: (من شيء) يعني: سواء أكان جليلاً أم دقيقاً، فإن اللوح المحفوظ أو هذا الكتاب الذي هو أم الكتاب مشتمل على ما يجري في العالم، ولم يهمل فيه أمر شيء، والمعنى أن الجميع علمهم عند الله، ولذا قال: (وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) فعلم هذا كله عند الله لا ينفك واحد منها عن رزقه وتدبيره، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] أي: كتاب مفصح بأسمائها وأعدادها ومضانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها.
وقوله: (ثم إلى ربهم يحشرون) يعني الأمم كلها من الدواب والطير، فيقتص لبعضها من بعض، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء، فلابد من العدل حتى بين هذه البهائم يوم القيامة، حتى يقتص للجماء التي لا قرن لها من القرناء التي كانت ذات قرن ونطحتها وآذتها بقرنها، فتبعث هذه ويقتص لهذه من تلك عدلاً من الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) أورد الضمير على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجرى العقلاء.
قال الزمخشري: إن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟! أي أن سياق الكلام في مناقشة الكفار في تعنتهم وعنادهم واقتراحهم الآيات، فما غرضه من ذكر هذه الآية: (وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) إلى آخره؟! قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون ما عداهم من سائر الحيوان، إشارة إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى وسعة علمه.
والإنسان يتخيل أنه لا يوجد شيء مهما دق إلا والله سبحانه وتعالى هو الذي يدبر أمره، وهذا هو معنى توحيد الربوبية: أن تؤمن أن كل ما في الوجود هو من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يقوى أحد على شيء أبداً إلا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فليس الله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق مؤمنهم وكافرهم وإنسهم وجنهم فحسب، وإنما يدبر أمر كل ما في هذا الوجود، فكل سمكة في البحار، وكل طائر في السماء، وكل نملة في الجحر، وكل حشرة، وكل حيوان، وكل ما تتخيله، حتى الذرات والإلكترونات، وكل ما يوجد في هذا الوجود لا يتحرك شيء منه بحركة إلا بأمر من الله سبحانه وتعالى وتدبير من الله عز وجل.
يقول الرازي المقصود: أن عناية الله لما كانت حاصلةً لهذه الحيوانات، فلو كان إظهار آية مصلحة لأظهرها، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية.
وقال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بيَّن بعده بقوله: (وما من دابة) إلى آخره أن البعث حاصل في حق البهائم أيضاً؛ لأنه فسر الآيات بقوله: (ثم إلى ربهم يحشرون).
أما (من) في قوله تعالى: (وما من دابةٍ) فالنحويون يقولون: إنها هنا زائدة.
وهذا أسلوب من أساليب العرب، ومعروف عند العرب أنهم قد يتكلمون بمثل هذه الحروف للتوكيد، فليس معنى أنها زائدة أنه لا فائدة منها، وإنما فائدتها التوكيد، وهذا من أساليب العرب في كلامهم، والقرآن نزل بلغة ولسان العرب.
فقوله: (وما من دابة) (من) هنا لتأكيد الاستغراق، وقوله: (في الأرض) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لـ (دابة)، والمقصود: وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض إلا أمم أمثالكم.
ومن التأكيد أيضاً قوله تعالى: (يطير بجناحيه)؛ لأن الطائر معروف عنه أنه يطير بجناحيه، لكن هذا نوع من التأكيد للمعنى.
قال الزمخشري: إن قلت: كيف تقيل الأمم مع أن الدابة مفرد والطائر مفرد؟ قلت: لما كان قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر) دالاً على معنى الاستغراق -استغراق جميع الدواب- ومغنياً عن الذي قالوا: (وما من دواب ولا طير) حمل قوله: (إلا أمم) على المعنى.
فما جاء في آخر الآية من قوله: (أمم) جاء على سياق المعنى؛ لأنه يدل على الاستغراق.
فدلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة، وجاء في الحديث: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
وقوله: (إلا أمم أمثالكم) يعني: إلا أمم من أمثالكم يدبر الله سبحانه وتعالى وحده أمورها كما يدبر أموركم.
فوجه المماثلة أن الله تعالى يتكفل برزقها، ويدبر أمرها، ولا يغفل شيئاً منها، مما يبين شمول القدرة وسعة العلم، وهذا هو الأظهر، موافقة لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
وقيل: إن المماثلة في قوله تعالى: (إلا أمم أمثالكم) هي في معرفته تعالى وتوحيده وتسبيحه وتحميده، فقوله: (إلا أمم أمثالكم) يعني: إلا أمم يسبحون الله سبحانه وتعالى ويحمدونه أمثالكم.
وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه.
وقيل: المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس.
القاسمي هنا اعتمد في تفسير قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أن الكتاب المقصود به اللوح المحفوظ، أي: أن القاسمي يقول: وما بيناه في معنى الكتاب من أنه اللوح المحفوظ في العطف، وهذه الآية توافق غيرها من الآيات التي تشير إلى اللوح المحفوظ وشموله علم أحوال جميع المخلوقات على التفصيل التام.
ولم يذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى -رغم أنه يتوسع في مثل هذه المواضع- سوى هذا القول، وهو أن المقصود بالكتاب اللوح المحفوظ، وهذا يكاد يكون هو الأظهر، أي أن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ؛ لأن الله تعالى قال في الآية: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) فالسياق يشير إلى أن الأقرب والأظهر هو أن الكتاب هنا المقصود به اللوح المحفوظ، مع أن القول بأن الكتاب هو القرآن الكريم له ما يؤيده، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
يقول القاسمي: وقيل: المراد منه القرآن، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فالقرآن الذي قال الله فيه سبحانه وتعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) هو الكتاب الذي قال الله تعالى فيه: (ما فرطنا في الكتاب) أي: في القرآن (من شيء).
قال: فإن قيل: حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده.
أي: إذا قلنا: إنه هو القرآن الكريم فلن يستقيم مع السياق الذي قبله والسياق الذي بعده؛ لأن قبله: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) فإذا قلنا: إنه القرآن الكريم فلن يتناسب هذا التفسير مع السياق قبله وبعده، لكن هذا القول من الخفاجي دفع ورد بأن المعنى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه.
فقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يعني: ما تركنا حجة من الحجج القوية على ما يستدل عليه من قضايا الإيمان وغيرها في هذا القرآن الكريم إلا دللنا عليه؛ لأن السياق كله في الآيات والبينات والدلالة على الحق، فالمعنى: لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه وهم يكذبون بآياتنا؟! فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهه.
وقال أبو السعود: أي: ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراعٍ لمصالح جميع مخلوقاته إلا بيناه.
وقال الشهاب في قول البيضاوي: (فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً): القرآن الكريم احتوى على أمور الدين كلها وأدلتها، إما على سبيل الإثبات، وإما على سبيل التفصيل.
يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن الكريم؛ لإشارته بنحو قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] وهذا من الأدلة التي استدل بها على حجية دليل من الأدلة الشرعية، وهو القياس، ففي قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) إشارة إلى القياس وحجية القياس، أما قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فهو إشارة إلى حجية السنة، بل قيل: إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه في نفس هذه الطريقة في الاستدلال؛ فيمكن أن نستنبط كل شيء من العلوم من القرآن الكريم، كما سأل بعض الملحدين بعض العلماء عن طبق الحلوى: أين ذكر في القرآن؟ فقال في قوله تعالى: ((51/4)
اشتمال القرآن على كل العلوم
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ونحو ذلك؟
و
الجواب
أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يجب أن يكون مخصوصاً لبيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، فمن يقول: ما دليل نظرية فيثاغورس والنظريات الهندسية، وتفاصيل الطب والحساب، وكل هذه العلوم الموجودة ما دليلها في القرآن إذا قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم؟ فالجواب أنه يجب أن يخصص تفسير هذه الآية (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فيقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء، بل بينا كل ما يجب علمه والإحاطة به.
وأما الدليل على وجوب هذا التفسير، أي أن قوله: (ما فرطنا في الكتاب شيء) هو في بيان ما تجب معرفته ويجب علمه في أمور الدين فيستدل له بأن الله سبحانه وتعالى قال: (ما فرطنا)، ولفظ التفريط لا يستعمل نفياً ولا إثباتاً إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير بأن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه، فإذا قلت لشخص: افعل كذا.
فإذا كان مما يجب عليه أن يفعله ولم يفعله فقد فرط، لكن إذا كان هذا الأمر الذي خاطبته به أو كلفته به أمر تافه أو يستغنى عنه فلا يوصف عدم فعله بالتفريط؛ لأنه شيء يستغنى عنه ولا قيمة له، فلا يستعمل هذا الوصف إلا فيما يجب علمه وبيانه وعمله، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن جميع آيات القرآن -أو الكثير- منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق هنا محمولاً على ذلك المقيد، أي: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: الشيء الذي يجب معرفته والإحاطة به من أمور الدين لا من أمور الدنيا.
ولو استقرأنا القرآن الكريم لخرجنا بهذا الاستنباط؛ لأن المقصود الأساسي من إنزال هذا الكتاب هو أنه كتاب هداية، وليس كتاب تكنولوجيا، فليس مقصوده أن يدلنا ويهدينا إلى النظريات، وأما هذه الحقائق الحسية فإن الله سبحانه وتعالى جهزنا بالآلات والإمكانات والقدرات التي ترشدنا إلى اكتشافها شيئاً فشيئاً؛ لأنها من الأشياء المحسوسة الموجودة، وهي تبنى على التجربة والمشاهدة، ويأتي الاستنتاج بعد ذلك، فالقدرة إما بالنظر، أو بالشم، أو باللمس، أو بالذوق، أو بالحس، وقد زودنا الله سبحانه وتعالى بالعقل وبالأدوات التي نستطيع أن نكتشف بها هذه الحقائق، ونترقى في معرفتها شيئاً فشيئاً، فهذه لهوانها على الله صرفها للبشر، ولكن هل يمكن أن نهتدي إلى الأمور الغيبية من تفاصيل الجنة والنار، والقضاء والقدر، وأحوال الأنبياء السابقين، وما يحصل قبل يوم القيامة، وأسرار النفس البشرية وما يصلحها، والذي يرضي الله والذي يغضبه تعالى، وما هو الواجب وما هو المستحب في العبادات وغير ذلك، كل ذلك هل يمكن أن نهتدي إليه بغير وحي؟! أقول: كل ذلك لا يمكن أن تستقل العقول بالوصول إليه، فلذلك لم يفرط الله سبحانه وتعالى في الكتاب من شيء، بل بين لنا كل ما ينفعنا في أمور الدين لا في أمور الدنيا؛ لأن أمور الدنيا تركت لنا في الغالب، أما أمور الدين فما فرط الله عز وجل في شيء من أمور الدين.
فإذاً: المطلق ها هنا في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يحمل على المقيد، وجاء التقييد من استقراء القرآن، فعند استقراء القرآن الكريم نجد أن في القرآن آيات كثيرة كلها تشير إلى أن المقصود من إنزال القرآن هو هداية الناس إلى صلاح دينهم وأمور آخرتهم.
أما أن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع فإن علم الأصول هو العلم بالعقائد والتوحيد، وهو بتمامه حاصل فيه، ولا شك في أن كل قضايا الأصول وقضايا الدين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قد بينها لنا القرآن الكريم؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه، فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقيم دينه دون أن يحتاج إليها.
أما تفاصيل علم الفروع فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن؛ لأن القرآن أساس الأدلة الشرعية كلها.
فالقرآن دلنا على حجية السنة، والقرآن دلنا على حجية الإجماع، وحجية القياس، وعلى حجية خبر الواحد، ومن ثم أصبح العمل بهذه الأدلة كلها هو عمل بالقرآن نفسه.
فإذاً: يعتبر القرآن -أيضاً- فيه الدلالة على قضايا الفروع في قضايا الفقه وغيرها من فروع المسائل والتفاصيل الدقيقة؛ لأنه إما أن يستدل عليها بالقرآن فيكون القرآن مشتملاً على الدليل، أو من السنة والسنة حجة في ذاتها، والقرآن أيضاً دل على حجيتها، وإما أن يستدل بإجماع، والقرآن هو الذي دل على حجيته، وإما أن يستدل بالقياس فكذلك، وإما يستدل بخبر الواحد فكذلك.
فإذاً: القرآن -أيضاً- دلنا على الاحتجاج بهذه الأدلة.(51/5)
أمثلة على دلالة القرآن على حجية السنة
ذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى ثلاثة أمثلة: المثال الأول: روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فسمعت ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: (ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟!) فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول! لأنه قال لها: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو في كتاب الله.
وكأنه أراد أن يستفزها ليبين لها أن دليل السنة هو مثل الدليل الذي في القرآن، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول.
أي: أنها قرأت ما بين جلدتي المصحف فما وجدت فيه آية تقول: لعن الله الواشمة والمستوشمة إلى آخره، فقال لها: (لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟!) فهذا مما أتانا الرسول، وهذا مما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الطريقة يمكن إرجاع دليل كل قضايا الفروع وكل تفاصيل الفقه مهما كانت إلى الكتاب الكريم، وبهذا يتأيد قول من فسر قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) بأنه هو القرآن الكريم، وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
يقول الرازي: يمكن وجدان هذا المعنى -أي: لعن من ذكرهن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: {إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَه الله} [النساء:117] فحكم على الشيطان باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن، فيمكن استنباط نفس المعنى من هذه الآية الكريمة.
وكذلك تتمة الحديث من هذا الباب، وتتمة الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله).
المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله تعالى كان جالساً في المسجد الحرام، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى.
فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه.
فقال أين هذا في كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور.
فانظر كيف تدرج إلى الاستنباط خلال ثلاث درجات، فقال أولاً: إن القرآن الكريم دلنا على حجية سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أتى بالحديث الذي هو قول الرسول عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ثم أتى بسنة أحد هؤلاء الراشدين، وهو عمر رضي الله عنه، فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات.
قال الرازي: وأقول ها هنا طريق آخر أقرب منه.
أي أن الرازي يستدرك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيقول: هناك طريق أخصر من الطريق الذي سلكه الشافعي.
لكن لا شك في أن طريق الشافعي مفيد في غير هذه المسألة، وإن كان هنا طريق آخر أقرب، فنحن نريد طريقة الاستنباط نفسها؛ لأن هناك مسائل أخرى قد لا نجد فيها إلا قولاً واحداً من الأئمة الراشدين المهديين الخلفاء.
يقول الرازي: أقول: هنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] وقال: {ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة:188] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل زنبوراً شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة.
المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث الأجير الزاني -والحديث معروف في صحيح البخاري - عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه -وكان أفقه منه- فقال أقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم -يعني: قلت له: بدل أن يقام الحد على ولدي فأنا أدفع مائة شاة وخادم ولا يقام عليه الحد -ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد -يعني: رد عليك- وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها) وأخرجه أيضاً مسلم.
فهنا نجد أن هذا الرجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله) وليس للجلد والتغريب ذكر في القرآن الكريم، وليس فيه دليل على الجمع بين الجلد والتغريب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله؛ لأن كلمة كتاب الله قد يعنى بها حكم الله، كما قال تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] يعني: حكم الله عليكم.
قال الرازي: وهذا حق؛ لأنه تعالى قال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] يعني: السنة تبين ما نزل؛ لأن أصل الآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فقوله: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني السنة (لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني القرآن، فكلاهما منزل من عند الله تبارك وتعالى، وكل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلاً تحت هذه الآية، وبالجملة فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات، والشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وقد طول البحث في هذه المسألة المهمة العلامة الشاطبي في (الموافقات) في الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل، فارجع إليه.
وقد دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5].
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا.
قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما).
قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجلحاء لتقتص من القرناء يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول لها: كوني تراباً.
فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً) كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40].
وروى الإمام أحمد والبخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء).
واستدل بهذه الآية على مسألة أخرى، فقد أخرج أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت.
فبلغ الحسن فقال: صدق، وإن ذلك في كتاب الله.
ثم تلا هذه الآية: ((إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ))، فاعتبر أن من المثلية أن يقبض روحها ملك الموت أيضاً؛ لأنها تحشر أيضاً.(51/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات)
يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39].
قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39].
أي: مثلهم في جهلهم وعدم فهمهم وسوء حالهم كمثل الصم، والصم: جمع أصم، والأصم هو الذي لا يسمع، والبكم: جمع أبكم، والأبكم هو الذي لا يتكلم، وهم مع ذلك في ظلمات لا يبصرون، ولذا قال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]، فنفى عنهم السمع والكلام والرؤية، يعني: فهم صم وبكم، وهم في ظلمة لا يهتدون ولا يرون، فإذا كانوا على هذه الحالة -أي: كانوا صماً وبكماً وفي ظلمات لا يهتدون- فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل، إعلاماً ببيان كمال عراقتهم في الجهل، وانسداد باب الفهم والتفهيم عنهم بالكلية.
ثم أشار إلى أنهم من الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم وختم عليها، فقال عز وجل: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته تركه على كفره، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].(51/7)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله وتنسون ما تشركون)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41].
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره، وذلك ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة فإنهم يفزعون إليه تعالى لا إلى الأصنام، فقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:40].
قوله: (قل أرأيتكم) أي: أخبروني (إن أتاكم عذاب الله) يعني: مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من قبلكم (أو أتتكم الساعة) أي: القيامة (أغير الله تدعون) يعني: في كشف العذاب عنكم.
وهذا محط التبكيت، يعني: أتخصون آلهتكم بالدعوة لرفع تلك الشدة؟! بل هل تدعونها مع الله أيضاً؟! وقوله: (إن كنتم صادقين) هذا كاشف عن كذبهم، أي: أخبروني إن كنتم صادقين.
فالحقيقة جاءت في الآية الثانية: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41] ولم يقل: بل تدعونه وإنما قال: (بل إياه) يعني: أنكم تخصونه سبحانه وتعالى بالدعوة.
وقوله: ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)) يعني: إن شاء كشفه.
والتقييد بالمشيئة هو لبيان أن إجابتهم غير مطردة، أي: أن إنجاءهم من هذه الكربات إنما يكون بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنجاء وعدم الإنجاء ينبني على حِكَم يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فإن كانت الحكمة تقتضي إنجاءهم أنجاهم، وإلا أهلكم.
وقوله: (وتنسون ما تشركون) أي: تتركون ما تشركون فالنسيان هنا بمعنى الترك، فقوله: (تنسون) يعني: تتركون وتعرضون عن الآلهة والأصنام، وتمحضون الدعوة لله سبحانه وتعالى، فتتركون ما تشركون تركاً كلياً؛ لأنكم في هذا الوقت -وقت الشدة- تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع.(51/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ما كانوا يعملون)
بيَّن تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أُخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى فلم يفعلوا، وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث إن بعض الأمم السالفة بلغوا من العتو والإيغال في الكفر وقسوة القلوب إلى حد أن الشدائد التي أُخذوا بها لم تجد شيئاً في ترقيق قلوبهم ودفعهم إلى الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43].
وهذا نظير أحوال كثيرة من أعداء الدين في هذا العصر، فإن الكربات والمصائب تتنزل بهم من كل نوع ومن كل لون، ثم يكشفها الله سبحانه وتعالى، ولا يزدادون إلا عتواً وعناداً، وفي أيام حرب رمضان لما حصل ما حصل من فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين، ثم بدأ الناس يعزون ذلك إلى أن الجنود كانوا متسلحين بـ (الله أكبر)، وأن الكلمة غطت على كل جبهات القتال، وصار الناس عامهم وخاصهم ينسبون الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى وعلموا أن النصر من عند الله ظهر في اليوم الثاني أو الثالث، مقالة في الجرائد وفي الأخبار لأحد المسئولين الكبار يقول فيها: انتصرنا بالعلم والتكنولوجيا، والكلام الذي فيه أننا انتصرنا بـ (الله أكبر) غير صحيح، فنحن انتصرنا بالعلم وبالتكنولوجيا وبالأسلحة! والعياذ بالله! فنكسهم الله سبحانه وتعالى بالثغرة التي أحدثها اليهود في الضفة الغربية من القناة، كما هو معروف، وجاءت جولدا مائير إلى داخل الضفة الغربية كما هو معلوم.
فالشاهد أن بعض الناس يبلغ من قسوة القلب -والعياذ بالله- إلى أنه لو أخذ بالشدة لا يلين قلبه، ولا يتوب، بخلاف غيره من أصناف الكفار الذين هم أقل قسوة.
وما حوادث الزلازل عنا ببعيدة، وانظر كيف يصير حال الناس بعد الزلزال الذي يستغرق ثوانٍ معدودة، فهل عندنا تأمين وصك بأن الله سبحانه وتعالى لا يجعل الأرض تنشق وتبتلعنا جميعاً؟! ليس عندنا ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن انظر إلى العتو، وكأننا في الليل والنهار في أمان كامل من أن ينزل علينا عذاب الله، ولذلك تجد الفجور والإسراع في الفساد والإسراع في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى بكل لون، وكلما جاء بلاء كلما ازداد بعض الناس عتواً في الأرض؛ لشدة قسوة قلوبهم، فهذا هو صنف مخصوص من العتاة ومن الظالمين والجبارين، فهم الذين تزداد قلوبهم قسوة وعتواً حتى لو نزل الكرب والبلاء.
وقوله: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) أي: أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فكذبوهم، ولم يبالوا بهم؛ لكونهم في الرخاء.
وقوله: (فأخذناهم بالبأساء) أي: بالشدة والقحط (والضراء) أي: المرض ونقصان الأنفس والأموال (لعلهم يتضرعون) أي: لعلهم يتذللون ويخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم، فالنفوس تخشع عند نزول الشدائد، لكن بعض الكفار -كما ذكرنا- يبلغ من قسوة قلبه إلى كون الشدائد لا تحرك فيه ساكناً، والعياذ بالله تعالى! وقوله: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) يعني: بالتوبة والتمكن.
ومعناه: نفي التضرع، فهم لم يتضرعوا في الحقيقة، وجيء بـ (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال عز وجل: (ولكن قست قلوبهم)، فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا، وإنما ابتلوا به.
وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: من الشرك.
والاستدراك بقوله: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع، يعني أن الذي صرفهم عن التضرع هو وجود قسوة القلوب، والعياذ بالله، فلا مانع من التضرع إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وهذه نفس أحوال العلمانيين والزنادقة والملحدين في زماننا هذا.
والله سبحانه وتعالى هنا يقول: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فأسند سبحانه وتعالى التزيين هنا إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:108]، فوقع التزيين في مواقع كثيرة، فتارة أُسند إلى الشيطان، كهذه الآية: (وزين لهم الشيطان)، وتارة أسند الله تعالى إلى نفسه، كما قال عز وجل: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)، وتارة إلى البشر أنفسهم، كقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] إلى آخر الآية، وتارة جعله غير مذكور فاعله، كما قال عز وجل: (زُيِّن للمشركين)؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر، فيكون الشيء خلقاً مزيناً، كقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]، أي أنها مزينة بالمصابيح التي هي النجوم.
الثاني: جعله مزيناً من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، فهي أصلاً تكون غير مزينة، ثم تأتي الماشطة فتزينها بزينة مكتسبة.
الثالث: جعله محبوباً للنفس مشتهىً للطبع، وهذا نوع من التزيين، فيصبح هذا الشيء مزيناً في نظر الإنسان، أي: أنه يشتهيه، وطبعه يميل إليه، فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة؛ لإيجاده له، وإن كان بمجرد تزويره وترويجه من قبل، بأن كان غير مزين، لكن حصل تزيين في شكله وفي طبعه بحيث يفتن به الناس، فهذا يكون من الشيطان بالوسوسة والإغواء، فهذا لا يسند إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإن لم يذكر فاعله يقدر في كل مكان بما يليق به، فهذا فيما يتعلق باستعمال مادة التزيين.(51/9)
تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء)
قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به)، يعني: من البأساء والضراء، فتركوا الاتعاظ.
(فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي: لما تركوا الاتعاظ -رغم البأساء والضراء- فتنهم الله بأن فتح عليهم الدنيا استدراجاً وفتنة لهم، ولا شك في أن هذا هو تفسير ما نراه من رغد العيش وزينة الدنيا عند الكفار، وهذا كما قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فهذا استدراج من الله سبحانه وتعالى، وهذا أخطر أنواع العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها العبد، أي: أنه يُعاقب ولا يحس أنه يعاقب، وحينئذٍ لا يستدرك ولا يفكر في التوبة؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً.
يقول تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أي: من البأساء والضراء، وتركوا الاتعاظ به (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي: من النعم، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن استدراجاً وإبلاءً ومكراً بهم، عياذاً بالله سبحانه وتعالى من مكره! وقوله: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) لا شك في أنهم إذا عظمت فرحتهم ثم أخذوا بغتة تتعاظم حسرتهم، فيكون أشد في إيلامهم، فلذلك قال تعالى: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا)، يعني: من مطالبهم ورغائبهم مع الشرك (أخذناهم) أي: بالعذاب المستأصل (بغتة) أي: فجأة بلا تقديم ذكر؛ إذ لم يفدهم التذكير في المرة الأولى (فإذا هم مبلسون) أي: متحسرون يائسون من كل خير.(51/10)
تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)
قال تبارك وتعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
قوله: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) يعني: إذا كان آخرهم قد قطع فما بالك بأولهم؟! وهذا -كما يقولون- كناية عن الاستئصال، فإذا كان آخرهم قضي عليه فبالأولى أولهم، فقوله: (فقطع دابر) أي: آخر (القوم الذين ظلموا)، فهو كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله، وهو من (دبر دبره) إذا تبعه فكان في دبره، أي: خلفه، فالدابر هو ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه أنه دابر تجوزاً، وقال أبو عبيد: دابر القوم: آخرهم.
وقال الأصمعي: الدابر الأصل، ومنه (قطع الله دابره)، أي: أصله.
وقوله: (والحمد لله رب العالمين) أي: على ما جرى عليهم من الهلاك، فلا شك في أن هذا العقاب وهذا العدل من الله سبحانه وتعالى من الصفات التي يتمدح بها الله سبحانه وتعالى، ويُحمد الله عليها، فانتقامه من الطغاة والظالمين بعد الإنذار وبعد الاعذار وبعد إقامة الحجة والتذكير من عدله.
وقوله: (والحمد لله رب العالمين)، على ما جرى على هؤلاء الظالمين من الهلاك، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحمد الله عليها، لاسيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم عليهم السلام.
وقد روي في هذه الآية أخبار وآثار، منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44]).
إذاً: هذا يؤيد لك المعنى الذي ذكرنا، وهو أن بعض الجهلة المغرقون في الجهالة بالله سبحانه وتعالى وسننه وأيامه عندهم أموال، ونسمع من المفسدين في الأرض أو الفاسقين أنهم يقولون: ربنا يحبنا.
ويقول أحدهم: كنت سأهلك في الحادثة، لكن الله يحبني؛ لأنه أعطاني مالاً أو كذا وكذا.
فهو يستدل بفضل الله عليه أنه نجاه من هلكة على أن الله يحبه، وهذا ليس دليلاً على أن الله يحبك، ولكن انظر إلى حالك، فإن كنت مستقيماً على طاعة الله فيمكن أن تكون هناك أمارة مخيلة أن الله يحبك، أما إن كنت عاتياً متمرداً ظالماً باغياًَ تاركاً للصلاة، لا تذكر الله سبحانه وتعالى، وتهجر القرآن، وترتكب غير ذلك من الجرائم والفسوق والعصيان ثم تزعم أن الله يحبك فاعلم أن هذا استدراج، فما أكثر ما نسمع: إن ربنا يحبني؛ لأني نجوت من الحادثة الفلانية.
وما أدراك؟! فانظر إلى حالك حتى تعلم هل يحبك الله أم لا؟ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، والله لا يحب الظالمين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الفجار، إنما يحب من يحب الله ويحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فيقول الرسول عليه السلام: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استداج)، يعني: بالرغم من أنه مستمر على المعاصي ومتمادٍ فيها يعطيه الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تكون كهؤلاء المغفلين الذين يظنون أن هذا علامة محبة من الله، فهذا هو تشخيص الرسول عليه السلام لهذه الحالة، فإنه يشخصها بأنها استدراج، ثم أكد المعنى بالاستدلال بهذه الآية (فلما نسوا ما ذكروا به).
وهؤلاء الذين يتكلم الله عنهم هم الذين قال في شأنهم من قبل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43 - 44] أي: مع حصول البأساء لم يتضرعوا.
ولذا قال: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] فمن تزيين الشيطان أن هؤلاء المساكين يقولون: إن ربنا يحبنا، ولذلك صنع بنا كذا وكذا.
يقول تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)) أي: لما لم يجد معهم التذكير بالبأساء والضراء، وما نفعتهم المواعظ زاد الله سبحانه وتعالى في فتنتهم.
وقوله: ((فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) تأمل كلمة (كل شيء) في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم)، أي: إذا أراد أن يقطع دابرهم ويستأصلهم فتح عليهم باب خيانة، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له) يعني أن هذا إنسان غير عاقل، وليس عنده عقل ولا رأي حسن، قال: (ومن قتِّر عليه ولم ير أنه ينظر له فلا رأي له).
فإذا كان الله كتب عليك ضيق الرزق فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يرى أن هذا هو الذي يصلحك، وأنه لو فتح عليك في المال والرزق لفسدت، وكثير من الناس كذلك.
إذاً: فوِّض أمرك إلى الله، فهو أدرى بما يصلحك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فأنت لا تدري بالعواقب، ولا تدري بالذي يصلح دينك، فقد يفسد دينك الفقر فيعطيك المال، وقد يفسد دينك الغنى فيحجب عنك المال؛ لأن هذا هو الذي يصلحك، وهذا مشاهد في كثير من الناس، فإنهم يفسدون إذا جرى المال في أيديهم، وكثير من الناس يفسد دينه إذا لم يجر المال في يده، فالله سبحانه وتعالى أدرى بما يصلح العبد، فيجب عليك أن ترضى بما قسم الله لك، وترى في تقتير وتضييق الرزق أن هذا أفضل لك وخير لك؛ لأن هذا اختيار الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تفوِّض الأمر إلى الله.
فالحسن يقول: كما يقول الحسن: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له).
فلابد من أن تخاف من أن هذا مكر من الله سبحانه وتعالى، وأن هذا استدراج لهذه الآية ونظائرها.
وفي الحالة الأخرى (من قتر عليه ولم ير أنه ينظر له) وأن هذه مصلحته، وأن هذا هو الخير في حقه فلا رأي له، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم.
يتركهم حتى يفرحوا بالزينة وبالدنيا كي يتحسروا عند فراقها أشد الحسرة، وهذا استدراج، كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: كأن لم يكن لها وجود من قبل.
ولذا قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله؛ فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
وقال الرازي: قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]: هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة.
إذاً: على الإنسان إذا رأى هلاك الظلمة أن يحمد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله بذلك يكون قد أراح البلاد والعباد من هؤلاء الظالمين.
وختم الله قصص ما مضى من أحوال هؤلاء المهلكين فقال عز وجل: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، فهو يستحق الحمد على أنه أهلك هؤلاء الذين عتوا وتجبروا، وفي هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأن هذا من أجل النعم وأجزل القسم، فهو إخبار بمعنى الأمر تعليماً للعباد.
فـ الزمخشري يذهب إلى أن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] معناه: فاحمدوا الله رب العالمين.
أي: أنه أمر جاء في سياق الخبر، كما في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] فقد جاء في بعض التفاسير أن المعنى: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون.
وكذلك تكون الآية هنا -على قول الزمخشري -: فاحمدوا الله رب العالمين على إهلاك الظلمة.
قال ابن عقيل في (الانتصاف): ونظيرها قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [النمل:59] أي(51/11)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم)
ثم يقول تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام:46].
قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) يعني: بأن أصمكم وأعماكم (وختم على قلوبكم) يعني: بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمكم.
وقوله: (من إله غير الله يأتيكم به) يعني: من إله غير الله يأتيكم بذلك المأخوذ منكم؟! وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فالسمع والبصر والعقل إذا تعطلت اختل نظام الإنسان وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا.
وقوله: (انظر كيف نصرف الآيات) أي: نوردها بطرق مختلفة، كتصريف الرياح.
وقوله: (انظر) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة.
وقوله: (ثم هم يصدفون) أي: بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها، فلا يتأملون فيها عناداً وحسداً وكبراً.
أما الآيات فإما أن يقصد بها مطلق الدلائل، أو يقصد بها الدلائل القرآنية مطلقاً، أو ما ذكر من أول السورة إلى هاهنا، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام:40] إلى آخر الآية.
ومن الترغيب أيضاً قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} [الأنعام:41]، ومن الترهيب: ((إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ))، وذهب إلى أنه يقصد كل ذلك بعض من المفسرين، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع، أي: أن الإشارة إلى كل ما مر على تنوعه.
ودلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين، وهو ظاهر.
والمقصود من هذه الآية بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث وصونها عن الآفات ليس إلا الله سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يرزقنا السمع والبصر والعقل، والقادر على أن يسلبنا إياها هو الله سبحانه وتعالى وحده، وإذا كان الأمر كذلك كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله عز وجل، فواجب أن يقال: المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى، وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة.(51/12)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام:47].
أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر، وذلك بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47].
قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم) يعني: بسبب إعراضكم عن الآيات بعد تصريفها (عذاب الله) يعني: عذاب الله المستأصل لكم (بغتة) يعني: فجأة من غير تقديم ما يشعر به، أو (جهرة) بتقديمه، مبالغة في إزاحة العذر، وقيل: ليلاً أو نهاراً، كما في قوله تعالى: {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [يونس:50]؛ لأن الغالب فيما أتى ليلاً البغتة وفيما أتى نهاراً الجهرة.
وقوله: (هل يهلك إلا القوم الظالمون أي: هل العذاب سينزل إلا لكم أنتم؟ ولن ينزل على أحد غيركم، ولن يهلك بهذا العذاب إلا أنتم.
ولم يقل: قل أرأيتكم إن أتاكم الله عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك سواكم.
لم يقل هكذا، وإنما قال: (هل يهلك إلا القوم الظالمون)، تسجيلاً عليهم الظلم، وإيذاناً بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما وضع الله لهم من الآيات موضع الإيمان.(51/13)
تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)
ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل وتحقيق ما في عهدتهم لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه صلى الله عليه وسلم ليس مما يتعلق بالرسالة أصلاً، فقال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48].
قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) أي: بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة (ومنذرين) بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي (فمن آمن وأصلح) يعني: أصلح الأعمال والأخلاق، فهم أهل البشارة (فلا خوف عليهم) يعني: من العذاب الذي أُنذروا به دنيوياً وأخروياً (ولا هم يحزنون) يعني: من فوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل.(51/14)
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام:49].
قوله تعالى: (يمسهم العذاب) أي: الذي أنذروا به عاجلاً أو آجلاً (بما كانوا يفسقون) أي: عن أمر الله في ترك الإيمان ومباشرة الأعمال الصالحة واكتساب الأخلاق الرديئة.
والله أعلم.(51/15)
تفسير سورة الأنعام [50 - 58](52/1)
تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)
يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:50].
قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) أي: قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك، قل لهم: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من تصيير الجبال ذهباً، وغير ذلك مما يقترحون.
والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه، بأن يوضع في مكان موثوق بحيث لا تصل إليه الأيدي.
قوله: (ولا أعلم الغيب) أي: لا أعلم الغيب من أفعال الله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو عن وقت نزول العذاب أو نحوهما؛ لأن ذلك موكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
قوله: (ولا أقول لكم إني ملك) أي: لا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري، فأنا لم أدع أنني ملك حتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحاً في أمري وفي بعثتي وفي رسالتي؛ لأن هذا الزعم أو هذا القول منهم ينبئ عنه قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] أي: كيف يكون رسولاً من البشر يأكل الطعام مثلنا ويمشي في الأسواق؟! ولذا قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان:7].
فالمعنى: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، فكل ما تقترحون عليَّ إنما هو آثار هذه الأشياء الثلاثة، وأنا لم أدع اختصاصي أو اتصافي بهذه الأشياء الثلاثة، فليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك.
والمقصود أنه يقول: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، وحتى تجعلوا عدم إجابتي لذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيءٍ مما ذكر قطعاً؛ فإن الرسالة من الله سبحانه وتعالى إلى عبد من عباده أو إلى رسول من رسله إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعمل بمقتضى هذا الوحي فقط، ولا تتعدى ذلك، ولا ترتبط على الإطلاق بأن يكون هذا الرسول مالكاً لخزائن الله، أو عالماً للغيب، أو يدعي أنه ملك، فعدم وجود هذه الصفات الثلاث في مقدوره لا يقدح في رسالته؛ إذ لا تعلق له على الإطلاق بصفة الرسالة؛ لأن الرسالة عبارة عن استقبال الوحي من الله سبحانه وتعالى والعمل بمقتضى هذا الوحي، ولا تقتضي الرسالة أن يجيبكم رسول إلى ما تقترحونه من آيات؛ لأن خزائن الله ليست بيده، إن هو إلا عبد وبشر ورسول من الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا يعلم الغيب حتى تكلفوه أن يخبركم متى الساعة أو متى ينزل العذاب، وليس هو ملكاً حتى تكلفوه بأن يرقى في السماء، أو تطلبوا منه من الأفعال ما لا يقوى عليه إلا الملائكة.
وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ) هذا هو مقتضى الرسالة، فمقتضاها تلقي الوحي واتباع هذا الوحي الذي يوحى من جهة الله تبارك وتعالى، والذي شرفني بذلك وأنعم به عليَّ.
فيتصل به الوحي أو روح القدس جبريل عليه السلام، فيخبره بوحي الله تبارك وتعالى.
ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله تبارك وتعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ))، ففي صدر الآية قال: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)).
ثم قال عز وجل ثانية: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)) فالأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي، كما قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود:24]، فالأعمى والبصير كلاهما مثل للضال وللمهتدي على الإطلاق، والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذُكر من الحقائق مع من يعلمها.
وفيه إشعار بأن الذي لا يرى كل هذه الحقائق التي مضت فإنه ضال؛ لأنها في غاية الكمال وفي غاية الوضوح والظهور والبيان، بحيث لا يضل عنها ولا ينكرها إلا من كان أعمى لا يراها مع وضوحها.
وفي وصف الضال بالأعمى من التنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى؛ لأن وصف الضلال بالعمى ووصف الهدى بالبصر لا شك أن فيه تنفيراً من الضلال، وفيه ترغيباً عظيماً في الاهتداء.
وقوله: (أفلا تتفكرون) هذا تقرير وتوبيخ داخل تحت الأمر، أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا حتى لا تكونوا ضالين أشباه العميان؟! وبعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قالوا: إن هاتين الصفتين عبارة عن تبرؤ من دعوى الإلهية.
فكأن كلمة (لا أقول عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) تساوي (لست إلهاً)، أو: (لا أقول لكم: إني إله).
قالوا: لأن قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة الغيب مخصوصان به تعالى، ولذا كرر في الملكية لفظ: (ولا أقول) يعني: لست أدعي الإلهية، ولست أدعي الملكية، لا أقول: إني إله، ولا أقول: إني ملك.
فهذا الفريق من المفسرين الذي ذهب إلى هذا استند إلى أن الصفتين الأوليين عطفتا، ولم يصدر الأمر بـ (قل لا أقول) في كلا الجملتين؛ لأنهما عبارة عن أثرين من آثار الإلهية.
أي: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) اللذان هما من شأن الإله، ولذا قال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب) يعني: لا أقول لكم: إني إله، ثم قال: (ولا أقول لكم إني ملك) فكرر كلمة (ولا أقول لكم إني ملك)؛ لحصول المغايرة بين الملكية وبين الإلهية، فكلاهما يتبرأ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة.
وهذا لم يسلم في الحقيقة، بل قال بعض المفسرين: هذا الزعم مما لا وجه له قطعاً.(52/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم)
ثم لما أخبر تعالى أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، فقال: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) يعني: إذا كان هؤلاء المشركين مع نذارتك، ومع بلاغك المبين، ومع اجتهادك في توضيح الحق لهم ودعوتهم إلى الهدى، يأبون إلا أن يبقوا كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ لأنهم لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، فأنذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.
فعند ذلك أمر تبارك وتعالى بتوجيه الإنذار إلى من ينتفعون بهذا الإنذار، وأن يطرح عن نفسه هؤلاء الفجار الذين أعرضوا عن آيات الله تبارك وتعالى، فقال عز وجل: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51].
قوله: (وأنذر به) يعني: أنذر بهذا الوحي، أو بهذا القرآن، أو بالوحي المتقدم ذكره.
وقوله: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي: من دون الله تعالى (ولي) أي: ناصر ينصرهم (ولا شفيع) أي: يشفع لهم وينجيهم من العذاب، فليس لهم غير الله ولي ولا شفيع.
ومن المعروف والمشهور في آيات القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذير للعالمين، فهو نذير وبشير، فالنذارة لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص الأمر بالنذارة هنا لهؤلاء الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ويخافون يوم الحشر؟
الجواب
خصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار، وهم الذين يقودهم الإنذار إلى التقوى، وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضاً.
فقد يعترض بعض الناس على ظاهر هذا التفسير فيقول: كيف يكون الإنذار هنا لهؤلاء المتقين الصالحين والنبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه أن ينذر الصالحين وينذر الفاسقين؟ فنقول: إن هذا الإيراد غير لازم، ولا يلزمنا؛ لأن الآية لا يُعنى بها الحصر، ولا يقصد من الآية أنه ما عليك إلا أن تنذر المؤمنين أو المتقين أو الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.
لكن الذي يفهم من الآية الكريمة أن الإنذار عام، لكن خص بالذكر هنا هؤلاء لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار ويتعظون به.
وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51] جملة (ليس لهم) حال من الفعل (يحشروا) والإعراب هنا مهم؛ لأننا نستطيع أن نفسر الآية تفسيراً صحيحاً بالإعراب، يعني: هم يخافون أن يحشروا وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فهذه حالهم إذا حشروا.
فجملة (ليس لهم) في موضع نصب على الحال من (يحشروا)، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة، يعني: هم يخافون أن يحشروا على حالة يكونون ليس لهم فيها ولي.
ولا يخافون هذه الحالة، وإنما يرجون أن يحشروا ولهم ولي وناصر وهو الله سبحانه وتعالى، وشفيع بإذن الله تبارك وتعالى.
والمراد بالولي وبالشفيع في هذه الآية الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين، فلا يصح لأحد من الخوارج أو غيرهم أن يستدل بالآية الكريم على نفي حصول الشفاعة في الآخرة، سواء أكانت الشفاعة الخاصة بالأنبياء -خاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم- أم بالمؤمنين والصالحين، أم بالملائكة، فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل لا تتعارض مع أن يكون الله سبحانه وتعالى هو المصدر لهذا الخير؛ لأنه لا شفيع عنده إلا بإذنه، كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] فالشفاعة هنا ليست مغايرة أو خارجة عن إرادة الله، وليست صادرة عن غير الله، وإنما هي بإذن الله، فلا تدخل شفاعة الأنبياء وشفاعة المرسلين وشفاعة الصالحين في هذه الشفاعة المنفية في قوله تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لهم يتقون).(52/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
ثم قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء؛ لا يجترئون علينا)، أي: كيف تجلس في مجالسنا ومعك هؤلاء الضعفاء وهؤلاء الفقراء وهؤلاء المساكين؟ اطردهم حتى لا يجترئ هؤلاء الناس الفقراء والمساكين على مقاماتنا الشريفة والعالية.
فقال له المشركون: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا.
قال: (وكنت أنا - أي: سعد بن أبي وقاص - وابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه؛ إذ كان يطمع في إيمان القوم، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ))) وهذا رواه مسلم كما ذكرنا، وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟! فنزل عليه القرآن: ((وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:51])، أي: أن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين هم الذين ينتفعون بإنذارك، فالزمهم ولا تطردهم عن مجلسك، فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآية السابقة.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه -أيضاً- قال: (مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء عن قومك؟! أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟) أي: أهؤلاء الفقراء الضعفاء المساكين يمن الله عليهم بالهداية دوننا ويكونون خيراً منا؟! فاستكبروا واستنكفوا، وقالوا: (ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟! اطردهم؛ فلعلك إن طردتهم نتبعك، فنزلت هذه الآية: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) إلى آخر الآية).
إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما همَّ بإبعادهم من مجلسه آناء قدوم أولئك ليتألفهم، فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم، أي: كان مجرد هم هم به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يطردهم بالفعل.
وهنا قال الرازي كلاماً زعم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طردهم بالفعل، ثم أخذ يتكلف في الجواب عن هذا الزعم لمنافاته العصمة على زعمه، فهو بنى هذا الزعم على غير أساس، ثم تكلف بعد ذلك في الرد، ومعلوم أن القاعدة أنه لا يتكلف الجواب عن حديث حتى يصح، فالضعيف يكفي في رده كونه ضعيفاً، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً، فلا يحتاج إلى أن تسود الصحائف في رده وإبطاله، وهذا هو شأن الرازي في كثير من المواضع، فالقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع عن ثبوته، أي: أن الأصل هو أن تثبت صحته أولاً، كما يقال: ثبت العرش ثم انقشه.
والتفسير فرع التصحيح، فالبحث في الأثر فرع ثبوته، فإذا لم يثبت فلا داعي لمناقشة ما فيه، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً.
والمعنى: لا تُبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، وهذا كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
ولا شك أن في هذه الآية مدحاً عظيماً لهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن في هذه الآية -كما في نظائرها من الآيات الكريمات- مدحاً لباطنهم ومدحاً لظاهرهم، فقوله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] أي أن الظاهر أنك تراهم دائماً يدعون الله سبحانه وتعالى، وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] مدح لهم بالإخلاص وعدم الرياء، ولذلك نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح:29] ففي هذا مدح لظاهرهم، ثم مدح باطنهم فقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29].
وكذلك -أيضاً- في سورة الحشر قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
وقوله تعالى: (يدعون ربهم) أي: يعبدونه ويسألونه.
وقوله: (بالغداة والعشي) قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة.
قوله: (يريدون وجهه) المراد بالوجه هنا ذات الله عز وجل، كما في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] يعني: إلا الله سبحانه وتعالى.
والمراد بإرادة ذات الله هو الإخلاص لله عز وجل، فهذا معنى إرادة وجه الله، أو إرادة الله، أي: الإخلاص لله وحده.
وجملة (يريدون وجهه) حال من (يدعون)، يعني أنهم يدعون ربهم مخلصين له في هذا الدعاء، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، فإذا كان هؤلاء مخلصين له فإنهم لا يستحقون أن تطردهم، بل يستحقون أن تقربهم وتتخذهم خلصاءك وأصفياءك.
وقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) هو كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:111 - 113]، أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليَّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.
قال العلامة أبو السعود: الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى أن يتوهم كونه مسوغاً لطردهم من أقاويل الصاعرين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: {مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27].
أي أنهم يذمون المؤمنين والمستضعفين والفقراء والمساكين من أهل الإيمان بقولهم: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا ومساكيننا.
يقصدون أن يصفوهم بأنهم أناس سذج، وأنهم بمجرد أن سمعوا كلامك انقادوا لك، دون أن يحللوا، ودون أن يتعمقوا في الكلام.
والإنسان إذا بدا له الحق فانقاد له بسرعة فهذا مما يمدح به؛ لأنه إذا بان الحق كالشمس في رابعة النهار فإنه لا ينبغي أن يتردد الإنسان في قبوله والانقياد له، فهذا مما يمدح به الإنسان ولا يذم به.
فالمقصود: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك -حسبما هو شأن منصب النبوة- اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها، وأما بواطن الأمور فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113].
وقوله تعالى: (ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ذكر الله هذا مع أن الجواب قد تمَّ بما قبله، أي: قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) لكن أضاف عز وجل قوله: {ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام عليهم، على طريقة قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
وفسر بعض المفسرين الحساب هنا بمعنى الرزق، فقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء) أي: من رزقهم.
وهكذا قوله: (وما من حسابك عليهم من شيء).
وقدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، وكما نلاحظ هنا في الآية الكريمة فإن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما عليك من حسابهم) فذكر ضمير الرسول عليه السلام أولاً تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما من حسابك عليهم من شيء)، وفي غير القرآن يمكن أن نقول: ما عليك من حسابهم من شيء، وما عليهم من حسابك من شيء.
لكن مراعاة لهذا الأمر -وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم ذكره- قال تعالى في الأولى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن(52/4)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53].
قوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء والسادات، (ببعض) وهم المستضعفون، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: نجعل الضعيف أو الفقير فتنة للغني أو القوي.
فقوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء، (ببعض) وهم المستضعفون، بما مننا عليهم بالإيمان، مع كونهم ضعفاء وفقراء ومستضعفين مننا عليهم بالإيمان، فكان في ذلك فتنة لهؤلاء الشرفاء، (ليقولوا) أي: ليقول هؤلاء الشرفاء: (أهؤلاء) أي: المستضعفون، (من الله عليهم من بيننا) أي: هل هؤلاء مع ضعفهم وفقرهم يستحقون أن يمن الله عليهم من بيننا بشرف الإيمان؟! مع أن الشرفاء على زعمهم أولى بكل شرف، فلو كان الإيمان شرفاً لانعكس الأمر، ولكان ذلك من خصائصنا نحن حتى نجمع إلى شرف الدنيا شرف الإيمان.
فلذلك كان في إنعام الله عز وجل على المستضعفين بنعمة الإيمان فتنة لهؤلاء الذين ظنوا أنهم أولى بكل شرف، فقولهم: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) هو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، وهذا شأنهم دائماً، فإنهم يقولون: لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء المستضعفون، وهذا -بلا شك- عنوان الكبر والبطر وغمط الناس، والخلل في موازينهم.
ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة فيشكرونها حق شكرها، وأما أولئك فلا يعرفون قدرها فلا يشكرونها، ولذلك قال عز وجل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، أي: أليس الله سبحانه وتعالى بأعلم بالذين إذا أنعم عليهم بنعمة الإيمان والهداية يشكرون له سبحانه وتعالى ويحمدونه حق حمده، ممن يجحدون فضل الله عليهم ولا يشكرون له هذه النعمة؟! إذاً: قول الله تبارك وتعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) رد على قول المشركين المستكبرين: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)، فلما قالوا: (أهؤلاء من الله من بيننا) أتى
الجواب
( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، فهو رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام هو معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم سبحانه وتعالى، كما أن فيه إشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله، وهذا لا يخفى.
قال الحافظ ابن كثير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل.
ويتضح هذا في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان الأسئلة المعروفة، فإنه قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم.
فقال له هرقل: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس.
أو كما قال.
وكذلك -أيضاً- لما قال قوم نوح لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].
وكان مشركوا مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) كقوله تعالى عنهم: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فهذا قول الكافرين في أهل الإيمان، لكن أهل الحق وأهل السنة والجماعة يقولون في أي شيء لم يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهذه قاعدة يتبعها أهل السنة والجماعة في أي قضية من قضايا البدع التي يزعم محدثها أنها تقرب إلى الله سبحانه وتعالى وأن فيها خيراً؛ فإنهم يرفعون هذا الشعار: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى بكل فضل، أما الكفار فكانوا يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، لأنهم يزدرونهم ويحتقرونهم، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]، فإنهم كانوا يظنون أنه ما دام أنهم أوتوا من الدنيا ومن زينة الدنيا وبهجة المجالس والمظاهر فإنهم -أيضاً- يستحقون أن يفضلهم الله في الدين، وهذا ليس بلازم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه هي القاعدة، بل ربما يُعطى الكافر من الدنيا أضعاف ما يعطاه المؤمن، وربما زيد في بلاء المؤمن، وهذه سنة مطردة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة -يعني: شدة- زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، إلى آخر الحديث المعروف.
ولذلك في هذه الآية الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: في حق الذين آمنوا: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]، فقال الله عز وجل في جواب ذلك: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:74]، فكم أهلك الله سبحانه وتعالى من الظالمين ومن الأمم الظالمة ممن كان عندهم من الزينة والأثاث والمظاهر وحسن المظهر أكثر مما أوتي هؤلاء! وهنا لما قالوا: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) قال عز وجل في جوابهم: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)؟! أي: الشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وفي نفس الوقت قال تعالى في المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لكن: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4]، فلا تغتر بالمظهر؛ إنما العبرة بحقائق الإيمان الراسخة في القلوب.
وروى ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرضة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا -جمع عتيق، أي: أجير- كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له.
فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ َ}، إلى قوله: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)).
قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم من الحلفاء، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، إلى آخر الآيات.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الواجب في الدعاء الإخلاص فيه؛ لأنه تعالى امتدحهم في دعائهم بأنهم (يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فاشترط في الدعاء الإخلاص، أي: أن تريد الله سبحانه وتعالى بدعائك، ولا تريد غير الله سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الطاعات لا تكون لغرض الدنيا.
قال محمد بن الحسن النفس الزكية: إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه وجب عليه أن يسلم الأمر له، فإن لم يفعل ذلك فسق؛ لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا.
ودلت الآية على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر، فقال: (يدعون ربهم بالغداة والعشي)، فلا شك في أن تخصيص وقتي الغداة والعشي بهذا الأمر يدل على مزية لوقتي البكور والعشي، وهذا بلا شك ثابت؛ لأن أشرف أوقات الذكر على الإطلاق في الليل والنهار هما هذان الوقتان: وقت الغداة بعد طلوع الشمس أو بعد طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس، أما وقت العشي فهو من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقيل: من بعد الزوال.
فالمقصود: أن تخصيص هـ(52/5)
إضافة في تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
قوله تعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) سببه أن الرسول عليه الصلاة والسلام همَّ أن يطردهم وأن يبعدهم، لعله يكون في ذلك سبب في هداية أولئك القوم، ولم يؤاخذه الله سبحانه وتعالى على هذا الهم، وإنما نزلت الآيات ناهية له عن ذلك.
ودلت الآية -أيضاً- على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ نصف يوم)، يعني: نصف يوم من أيام الله في الآخرة.
وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف؛ لكثرة ماله.
وروي أن علياً لم يخلف شيئاً بعد وفاته.
يقول: القاسمي: الحديث الأول رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام).
وأما حديث: (آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف)، فلم أجده بهذا اللفظ.
وقيل: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكِّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره، فبعض العلماء استنبط من هذه الآية الكريمة أنه لا ينبغي أن يُمنع أي إنسان يقوم بتذكير الناس في أي مكان يذكرهم فيه بالله سبحانه وتعالى، وبأمور الآخرة، سواء أكان في مسجد أم في طريق أم في غير ذلك.
وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، ويردد ذلك إلى الصباح، ويتأذى به الجيران؛ هل يمنع أم لا يمنع؟ واستدل من قال: لا يمنع بهذه الآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
واستدل أيضاً بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114]، إلى آخرها، لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الشيء الذي فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة معينة وفيه ابتداع فإنه -بلا شك- يمنع؛ لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا الابتهال وغير ذلك خيراً لسبقنا رسول الله وصحابته إليه، فلما لم يفعلوه دل على أنه ليس من الدين؛ لأنهم كانوا أولى بكل فضيلة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، لكن الاجتهاد في الدعوة يصلح له الاستدلال بالآيتين على نفس هذا المعنى، وأن من وقف يذكر الناس -سواء أكان في طريق أم في شارع أم في مسجد أم في أي مكان- ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى يريد وجه الله ويعظ الناس ويذكرهم بأمور الآخرة فلا حرج في ذلك، كما قال مالك بن دينار: (لو كان لي أعوان لأطلقتهم في شوارع البصرة- أو في جوانب الأرض يقولون ويصرخون في الناس: النار النار) أي: يحذرونهم من النار.
فلا ينبغي أن يمنع من يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يقول كلاماً مصادماً للشريعة، أو يحتوي على بدع أو أحاديث ضعيفة أو غير ذلك، فما دام أنه يدعو إلى الحق فلا ينبغي أن يمنع، واستدلوا بهذه الآية، وهذا هو الواضح من الآية الكريمة، فعجباً لهذا الزمن الذي أدركناه! حتى إننا نجد أن بعض المساجد تعامل على أنها إقطاعات، وكأن بعض الجماعات قد ورثتها كابراً عن كابر، وكأنها مقاطعات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وكل جماعة تفرض نظاماً معيناً على المسجد، بحيث إذا لم يكن المذكِّر من الجماعة ومن أعضائها ومن المنتمين إليها فإنه يمنع، حتى لو كان يتكلم بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك حرم المسلمون من خير كثير، فنجد في بعض المساجد أنه ممنوع أن يلقي أحد كلاماً إلا بإذن الإمام، وصحيح أننا نحترم الإمام، لكنه إذا استأذن الإمام ففي الغالب أنه يمنع، وإنما هذا مجرد إجراء روتيني لأجل عرقلة الدعوة وإيقافها، فواجب احترام الإمام، وواجب استئذانه، لكن استئذان الإمام صار يقصد به هدف معين، وهو إيقاف الدعوة وعدم تمكين من يعظ الناس، ولو كان الأمر على غير ذلك لأذن، لكنه لا يأذن إلا لأشخاص معينين، فالعبرة يما يقوله الشخص، ولذا لا ينبغي أن يمنع من يريد أن يقف في الناس ليذكرهم بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يدعو إلى بدع ولا إلى ضلالة، فما دام أنه يذكر بالله وبالآخرة فلا ينبغي لأحد منعه.(52/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة)
ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].
ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فلما أراد المشركون طردهم وإبعادهم قال الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، ثم أمر تبارك وتعالى أيضاً بأنه إذا جاءوك فرحب بهم وحيهم، فقال: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ))، أي: بشرهم بهذه البشريات.
فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام بأن أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الضعفاء وهؤلاء المساكين أن يقربهم، وأن يكرمهم بهذا الإكرام.
يقول البيضاوي: وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج، بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة.
هذه هي الموازين عند الله سبحانه وتعالى، فإنه وصفهم بالمواظبة على العبادة، والإخلاص فيها، فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، وهذا فيه مواظبة واستمرار، وقال: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وهذا فيه إخلاص.
فمدحهم بالعبادة وبالاستقامة وبالاستمرار على تلك العبادة، ثم وصفهم هنا -أيضاً- بأنهم يؤمنون بآيات الله فقال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا)، فأي مدح أعظم من أن يصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يؤمنون بآيات الله عز وجل، وأنهم يتبعون حجج الله عز وجل؟! ثم أمره أن يبدأهم بالتسليم فقال: (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبدؤهم ويبادر بالتسليم إكراماً لهم، والمعنى: فابدأهم أنت بالتسليم فقل: سلام عليكم، أو: أبلغهم السلام من ربهم عز وجل، أي: يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرَّب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة.
وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً.
فما رد عليهم شيئاً، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولا يخفى أن الآية تشمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد فتنزل الآية بياناً للكل، وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير في بحث سبب النزول أن قول السلف: (نزلت في كذا)، قد لا يقصدون به المعنى الحرفي لسبب النزول، أي: أنه حصلت واقعة معينة في شخص معين، ثم نزلت الآية في هذا الشخص، فلا يشترط أن يكون الأمر كذلك، فهذا الاصطلاح الذي يستعمل عند السلف بقولهم: نزلت الآية في كذا يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية بنزولها إثرها، وهذا بحث مهم جداً.
فالسلف حينما يقولون: (نزلت الآية في كذا)، ولا يكون ذلك هو سبب النزول الذي نزلت فيه فإنهم، يقصدون بذلك أن هذه الواقعة مما يشملها حكم الآية.
فقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة)، يعني: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يوجب على نفسه، وليس لأحد عليه حق واجب.
وقوله تعالى: (أنه من عمل منكم) هذه الجملة بدل من الرحمة.
وقرئ بكسر الهمزة: (كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة) إلى آخر الآية الكريمة، فيكون أيضاً تفسيراً للرحمة، لكن بطريق استئناف جملة جديدة.
وقوله: (بجهالة)، الجار والمجرور في موضع الحال، يعني: عمله وهو جاهل.
وقوله تبارك وتعالى: (بجهالة)، فيه معنيان: أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر: على أنها قالت عشية زرتها جهلت على عمد ولم تك جاهلا والمعنى الثاني للجهالة: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة.
والحكيم لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته، فعلى الأول يكون الجهل بمعنى: السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، وهو الذي نستطيع أن نقول إنه جهل عملي، فهناك جهل من الناحية العلمية ومعناه: أن الجاهل لا يعرف الضرر، ولا يعرف العواقب بل يجهلها، وهناك جهل بمعنى أن يكون الإنسان يعلم أن هذا مضرة ثم يقدم عليه، فيصير بهذا مساوياً للجاهل؛ لأنه سلك سلوك الجاهل الذي لا ينظر ولا يتدبر في عواقب الأمور.
وشاهد هذا المعنى من اللغة أي: استعمال الجهل بهذا المعنى، قول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالمقصود هنا بالجهل: الجهل السلوكي، وليس المقصود الجهل العلمي أي: من حيث المعلومات.
ونفس المعنى قد استعمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخروج من البيت: (اللهم! إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)، فهذا تعوذ من الجهالة السلوكية.
إذاً: الجهل بالمعنى الأول هو السفه والمخاطرة من غير نظر إلى العواقب، كما في قول الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول.
وعلى المعنى الثاني: يكون المراد الجهالة بمضار ما يفعله، وهذه هي الجهالة الحقيقية، أن لا يعرف مضار ما يفعله، وعواقب ما يسلكه من المسالك.
وقوله تبارك وتعالى: ((أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ))، فيه أن كل عاصٍ لله فهو جاهل؛ لأن الإنسان لا يقدم على المعصية إلا بجهل، فهو إما أنه أقدم على المعصية وهو لا يعرف ضررها ولا الإثم الذي تستوجبه، ولا العقوبة التي تتبعها، وإما أنه يعلم لكنه أقدم عليها مع علمه بذلك، وهو أيضاً بذلك جاهل؛ لأنه سلك مسلك الجهال بأن اقتحم هذه المخاطر وهذه المهالك.
وقوله تعالى: ((ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) فعل (أصلح) متعد، والمفعول مقدر، أي: (أصلح عمله) وذلك كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي).
وقد نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: (دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين)، فعلى الإنسان دائماً أن يعظم المؤمنين ولا يقدم عليهم الكافرين، وهذا عكس ما نحن عليه الآن في هذا الزمان، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، تجد الناس يلهجون بذكر الكفار ويمتدحون الكفار الذين هم جاهلون بالله سبحانه وتعالى وجاحدون به، وقد فتن البعض بهم فتنة شديدة، حتى نرى منهم من يعلق أعلام أمريكا وبريطانيا في السيارات وحول رقابهم! وهذه الأشياء التي نراها الآن هي فتنة وضلالة لهؤلاء الكفار، والآية تدلنا على أنه ينبغي لنا أن نعظم المؤمنين ولا نقول للذين كفروا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:51]، ولا نساويهم أيضاً بالمؤمنين.
ودلت الآية أيضاً على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن، فيجتهد المرء في أن يدخل السرور على أخيه المؤمن، وأن يبشره بما يصلحه؛ لأنه أمر بأن يقول لهم: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ))، إلى آخر الآية.
وقد أمر الله أن يقول لهم ذلك لتطييب قلوبهم، فعلى الإنسان أن يطيب قلب أخيه، وأن يتجنب ما يسوؤه، فلا تنقل إلى أخيك كلاماً يؤذيه حتى لو كان صحيحاً، وإلا كنت نماماً حمالاً للحطب، ولا تنقل إليه ما يسوؤه وما يؤذيه من القيل والقال، بل ينبغي أن تنقل إليه ما يسره؛ ولهذا استحب بعض العلماء أن تنقل لأخيك ما مدحه به غيره من الناس؛ وذلك لإدخال السرور عليه وتطييب قلبه.(52/7)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات) يعني: آيات القرآن الكريم في صفة المطيعين والمجرمين، فكل الآيات السابقة في تفصيل وشرح وتوضيح صفات الفريقين: المؤمنين والمجرمين.
وقوله تعالى: (ولتستبين سبيل المجرمين) بني لفظ (ولتستبين) على تأنيث الفعل بناءً على تأنيث الفاعل؛ لأن كلمة: (السبيل) تذكر وتؤنث، فتؤنث كما في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي).
وقرئ (ولتستبين سبيلَ المجرمين) بنصب (سبيل) والمعنى: لتستبين أنت -يا محمد- ولتستوضح سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم.
فهذا على قراءة من قرأ بنصب (سبيل).
أما هذه القراءة فهي برفع (سبيل) فقوله: (ولتستبين سبيلُ المجرمين) يعني: لتفتضح وتنكشف سبيل المجرمين، وهذه الآية في الحقيقة تحتاج لكثير من التوضيح، ولكن نريد الاختصار، فإن من مقاصد القرآن الكريم تفصيل وكشف وهتك سبل المجرمين من أعداء الدين، حتى يحذرها المؤمنون فلا يتورطوا فيها، فكشف هذه السبل للمجرمين وفضحها من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية كي لا ينخدع المسلمين بهم وبألاعيبهم.(52/8)
تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله من المهتدين)
ثم يقول تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56].
قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) قوله: (الذين تدعون) يعني: تعبدونه أو تسمونه آلهةً، ثم كرر الأمر فقال: (قل لا أتبع أهواءكم) وإنما كرر الأمر تأكيداً لقطع أطماعهم، أي: لا تطمعوا أبداً بأي احتمال أن أتبع أهواءكم: (قل لا أتبع أهواءكم) يعني: في عبادة الأصنام أو في طرد من ذُكر من المؤمنين المستضعفين.
(قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) أي: إذا فعلت ذلك، قال البيضاوي: (هو إشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم، واستجهالهم وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوىً)، وهذا الشعار مما نحتاج أن نتذكره دائماً في ظل غربة الدين التي نعيشها في هذا الزمان، فهذا هو الوصف اللائق بسبيل المجرمين، (قل لا أتبع أهواءكم)، فكل ما عليه أي إنسان ينحرف عن سبيل الله سبحانه وتعالى وعن صراط الله وعن دين الإسلام فليس له مسمىً إلا الهوى، ولا يجوز أن يسمى بأي تسمية فيها نوع من الاحترام له، ولا يجوز أن يسوى الإسلام بالكفر، ولا الحق بالباطل، ولا أن يقف معه على قدم المساواة، كما يتكلمون اليوم عن التعددية الحزبية والتعددية السياسية، بحيث يصبح الإسلام على قدم المساواة مع المفسدين من الشيوعيين والعلمانيين وأمثالهم من أعداء الدين، فكل هؤلاء في محل واحد هو الهوى، وكل هؤلاء أصحاب أهواء على اختلافها وتنوعها، فالباطل لا ينحصر، ولغاته كثيرة، أما النور فواحد لا يتعدد، فلذلك يقول الله تعالى: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) فكل من اتبع هؤلاء في أهواءهم يصير ضالاً ويحرم من نعمة الهداية، فما هم عليه هوى، وما نحن عليه هدى، فالعاقل لا يؤثر الهوى على الهدى، وعلينا أن ننظر بصفتنا مؤمنين باستعلاء وباعتزاز بهذا الدين وبأحكام الله سبحانه وتعالى، ولا نحقق ما يرومه أعداء الدين من محاربتنا وإذلالنا بحيث نتوارى في الطرقات ونختبئ وننكمش ونشعر بالخجل من انتمائنا إلى الدين، بل نعتز بأحكام ديننا وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وننظر إليهم لا بتكبر، ولكن باستعلاء المؤمن الواثق من منهجه، وأن هذا هو منهج الحق، وأن كل ما عداه وكل ما خالفه فهو هوى وليس هدى، وما هو عليه هدى بريء من الهوى.
وفي هذه الآية أيضاً تنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) يعني: إن اتبعت أهواءكم أكون قد ضللت لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعاً (وما أنا من المهتدين) للحق إن اتبعت ما ذكر، ولا شك أن في الآية تعريضاً بأن هؤلاء الكفار كذلك.(52/9)
تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به وهو خير الفاصلين)
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي) يعني: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ، لا يمكن التشكيك فيها، وهذه هي الثقة بالمنهج، والثقة بالله سبحانه وتعالى.
والثقة بالمنهج الذي أنت عليه معناه أن تكون على بصيرة، بحيث لا تنقاد، لا كما يحاولون أن يصوروا في التمثيليات والإعلام والكاريكاتير بأن يأتوا بشخص ملتحٍ عيناه مغمضتان وآخر يجره من رقبته! فلسنا نحن الذي نفعل ذلك، فالذين يسيرون بهذه الطريقة ويقادون من أعناقهم كالأنعام يعرفون أنفسهم جيداً، أما نحن المسلمين المعتزين بهدي نبينا فنحن كما علمنا الله تعالى هنا (قل إني على بينة من ربي)، فأنا أعرف أن اللحية مثلاً أمر الله، وأن الصلاة ركن أساسي من الإسلام، وأن تعظيم القرآن وتحسينه قضية لا ريب فيها، فتعرف ملامح منهجك وأدلته، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: على بصيرة أيضاً {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
يقول بعض السلف: (لو شك الخلق كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي) فإذاً العبرة أن تكون على بينة؛ ولذلك لا مرحباً بمن ينتمي إلى الدعوة مقلداً لمجرد اتباع من يحبه أو من يعجب به، أو ينقاد كما تنقاد العجماوات من رقابها، لا مرحباً به في صفوف الدعوة الإسلامية، لكن الذي ينتمي للدعوة لا بد من أن يكون على بصيرة، فيعرف هدفه ويعرف ملامح هذا الطريق، وما الثمن الذي لا بد من أن يدفعه إذا سلكه، وغير ذلك مما يعكس أنه بالفعل يردد هذه الآية عن بصيرة: (قل إني على بينة من ربي) ليس على بينة من أحد آخر، إنما البينة من الله سبحانه وتعالى، فيعرف الآية، ويعرف الحديث، ويعرف الدليل فيما يذهب إليه من الحق، وطول المعايشة مع القرآن الكريم وتدبر القرآن الكريم يعطي الإنسان مدداً، فإن القلب العضلي كما يتغذى بالأوعية الدموية، فإن خيوط النور التي تنبعث من هذا الكتاب الكريم هي أيضاً غذاء للقلب، وبدونه لا يحيا، وبدونه يضعف الإنسان، وهذا سر الضعف الذي ينتاب كثيراً من الناس حتى يجعلهم ينتكسون عن طريق الحق، وذلك لأنهم مقطوعو الاتصال بالقرآن، ولو أنهم عرفوا مثل هذه الآية: (قل إني على بينة من ربي) لعلموا أن المراد: أنا واثق بمنهجي، وأعرف أين مبتدأه، وأين خبره، وأين مصيري إذا أنا سلكت هذا المنهج، وماذا يكون مصيري إذا حدت عنه، أعرف دليل ما أفعله، وأتبصر بديني، ولا أنقاد لأحد انقياد الأعمى أو المقلد، وإنما أعرف كل شيء ببينة وبصيرة.
فقوله: (قل إني على بينة من ربي) أي: على بصيرة من شريعته التي أوحاها إليك، لا يمكن التشكيك فيها.
وقوله: (وكذبتم به) هذه الجملة إما أنها استئناف أو حال، وقوله: (به) الضمير هنا عائد على البينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد.
فالضمير في الآية يعود على البينة، والبينة مؤنث، فإذاً الضمير هنا يعود على معنى البينة وليس على لفظها، والبينة هي الوحي أو القرآن أو نحوهما.
وقوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به) يعني: من العذاب، فأنتم تستعجلون نزول العذاب وأنا لا أملك ذلك، وكما أني ((لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ)) فكذلك ليس عندي العذاب الذي تتعجلونه.
فهذا استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة، حيث اعتبروا أن السبب أو المسول لأن يكذبوا بهذه البينة هو أنهم حينما استعجلوه بالعذاب لم يأتهم بالعذاب، فيعدون ذلك دليلاً على عدم صدقه! فكذبوا بهذا القرآن حين قالوا له: لو كنت رسولاً حقاً فأنزل علينا العذاب.
وكذلك قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
فليس لهذا الأمر تفسير في نظرهم القاصر إلا أنه ليس برسول! ولم يرد على أذهانهم أن هذا لعله رحمة من الله سبحانه وتعالى بهم أنه يمهلهم ويستعتبهم، كما قال تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] يعني: إكراماً لك ما دمت فيهم لا ينزل عليهم العذاب.
فهو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، يعني: وفيهم مؤمنون يستخفون بإيمانهم يستغفرون الله تبارك وتعالى.
فهم دائماً كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48] أي: متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به إن كنت من الصادقين؟! بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم، فالله تعالى سبحانه وتعالى يقول له هنا: ((قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ))، أي: إن ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعةً إلى تكذيبه ليس في حكمي وليس في قدرتي، فليس في قدرتي أن أجيء به وأظهر لكم صدقه، أو ليس أمره بمفوض إليَّ.
((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) قوله: (إن الحكم إلا لله) أي: لو كان عندي ذلك لكنت أنا الحاكم، لكن إنما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً لله وحده، وقد حكم بتأخيره لما له من الحكمة العظيمة، لكنه قطعاً محقق الوقوع، فما دام الله سبحانه وتعالى أوعدكم فوعيده محقق الوقوع؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فتربصوا إنا معكم متربصون، فالمسألة هي مسألة وقت، فقد يشاء الله تعجيل العذاب، وقد يشاء تأخيره لحكمة لا يعلمها إلا هو، فهذا حكم يستأثر به الله سبحانه وتعالى، وهو واقع قطعاً حتى وإن تأخر؛ لأنه (يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله: (يقص الحق) أي: يبينه بياناً كافياً (وهو خير الفاصلين) أي: القاضين بين عباده تبارك وتعالى.(52/10)
تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر والله أعلم بالظالمين)
ثم قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام:58] قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به) أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضاً إليَّ من قبله تعالى لقضي الأمر بيني وبينكم بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم.
و (قضي) هنا بمعنى: قطع.
وقضاؤه كناية عن إهلاكهم، وفي بناء الفعل لما لم يسم فاعله من الإيذان بتعيين الفاعل الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب، ما لا يخفى.
قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الإمتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب؛ ولذلك لم يفوض الأمر إليَّ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب، يعني أن الله أعلم بالظالمين أنهم يستحقون تأجيل العذاب؛ لأنهم كلما تمادوا في كفرهم كلما ازداد استحقاقهم للعقاب، كما قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام:58] وبين ما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردته، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -وقرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد كما هو معروف- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) وهذا لفظ مسلم، فقد عُرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وأجَّل ذلك، مع أنه مكَّنه أن يهلكهم بملك الجبال، لكنه استأناهم وأعطاهم مهلة وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فكيف يكون الجمع بين هذا الحديث وبين هذه الآية: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله عليم بالظالمين)؟! والجواب -والله تعالى أعلم-: أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، أما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم صلى الله عليه وسلم، فالآية هذه في مقام محاورة، وقد وصل الحوار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفار إلى أنهم تحدوه بقولهم: لو كنت صادقاً فأنزل علينا العذاب عاجلاً الآن، وفي هذه الحالة جاءت الآية تشير إلى أن الرسول عليه السلام يجيبهم ويقول: (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) أي: لوقع بكم العذاب فوراً ما دمتم تطلبونه وتسألون تعجيله آية على صدقي.
أما الحديث فليس فيه أن الحوار وصل إلى هذا الحد، وإنما هم ردوا قوله ورفضوا الإيمان به، لكن لم يصل الحوار بينه وبينهم إلى أنهم تحدوه بأن ينزل عليهم العذاب، ولأنهم لم يفعلوا ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم سأل الله لهم التأخير والتأجيل رجاء أن يخرج الله سبحانه وتعالى من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً.
وبهذا ينتهي هذا الربع وهو تفسير الربع، الذي يبدأ بقوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام:36].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(52/11)
تفسير سورة الأنعام [59 - 71](53/1)
تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو إلا في كتاب مبين)
يقول تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب) مفاتح: جمع مفتح -بكسر الميم-، وهو المفتاح، ولأن اسم الآلة على وزن مفعل أو مفعال يكون المفرد بصيغة (مفتح) أو (مفتاح)، وقرئ: (وعنده مفاتيح الغيب) فهنا شَبه الأمور الجليلة التي يستنسخ منها بالأقفال ويبحث لها عن مفاتح وسيلة.
وقوله تعالى: (لا يعلمها إلا هو) هذا تأكيد لمضمون ما قبله، يعني أن الله سبحانه وتعالى عنده مفاتح الغيب، وهو مختص بعلمها، كما أن فيه إيذاناً بأن المراد الاختصاص من حيث العلم، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى ألتزم لكم بتعجيله، ولا معلوماً لدي لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرةً وعلماً فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
ولما بين تعالى تعلق علمه بالمغيبات وتأثر ذلك بالمشاهدات على اختلاف أنواعها وكثرة أفرادها أثبت -أولاً- اختصاصه سبحانه وتعالى بمعرفته مفاتح الغيب، وأنه لا يعلمها إلا هو، ثم بين أنه (يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) إلى آخره.
وقوله: (ويعلم ما في البر والبحر) أي: من الخلق والعجائب، ولا شك في أن كلمة (ما في البر)، أو كلمة (ما في البحر)، لو شرحت من المختصين في علوم الأسماك وعلوم البحار وعلوم النباتات والحيوانات وغير ذلك من العلوم وفصلوا لنا في أسماء الأنواع من خلق الله سبحانه وتعالى في البر والبحر لأتوا في ذلك بما يدهش، مع أن ما عندهم من العلم إنما هو كقطرة في بحر لجي، وما يعلمه الله سبحانه وتعالى مما وراء ذلك أكثر وأعظم.
بل بلغ علمه عز وجل إلى الإحاطة بالجزئيات الفائتة للحصر، فعلم الله سبحانه وتعالى لا يفوته شيء، على خلاف بعض الضالين الذين يزعمون أن الله يعلم الكليات ولا يعلم جزئيات الأمور -والعياذ بالله-.
يقول تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) أي: لا يحصل شيء على الإطلاق في هذا الوجود ولا حركة إلا بعلم الله عز وجل (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) قوله: (إلا في كتاب مبين) أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي.
وقوله عز وجل: (وعنده مفاتح الغيب) يدل على بطلان ما زعمته الإمامية من أن الإمام يعلم شيئاً من الغيب؛ إذ إن الشيعة الإمامية الرافضة -قبحهم الله- يزعمون أن الأئمة الاثني عشر يعرفون الغيب، ويذكرون عنهم معرفة كثير من أحوال الغيب، كما هو معلوم في غير هذا الموضع، فهذه الآية فيها رد عليهم؛ لأنه تعالى قال: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فلا يصح لأحد أبداً أن يدعي أنه يعلم مفاتح الغيب من دون الله كما يعلمه الله سبحانه وتعالى.
وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام، الذين يزعمون أنهم عن طريق الكشف أو الإلهام أو الكهانة والنظر في النجوم والذر بالرمل وغير ذلك يستطيعون أن يتوصلوا إلى معرفة الغيب، ويطاوعهم في ذلك الجهلة الذين لم يصححوا توحيدهم، ولم يفهموا عقيدة الإسلام، فهؤلاء يدعون ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم.
ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، من الكهنة والمنجمين والرمليين وغيرهم، الذين يزعمون أنهم مسلمون، وابتلي الإسلام بأن يصل إليه أمثال هؤلاء المعتدين الظالمين، وهذه الأنواع المفعولة لم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم فيها غير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى كاهناً أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم.
فهؤلاء الذين يسلكون هذه المسالك ويطاوعون الكهنة والمنجمين وغيرهم خطتهم خطة شؤم لا تعود على فاعلها إلا بهذا الوعيد الخطير: (من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، فالعجب كل العجب حينما يفتح الشيطان باباً من أبواب الأحوال الغيبية حتى على الذين يزعمون أنهم ملتزمون بالدين، بل حتى على الذين يزعمون أنهم ينتسبون للمنهج السلفي ويدعون الناس إلى التوحيد، فظاهرة علاج الجن والكلام معهم لا شك في أنها فتحت باب شر وشؤم ونحس علينا معشر المسلمين، فقد وجدنا من يستدرجهم الشيطان باسم علاج الناس وباسم الرقية، وهكذا، إلى أن وصل بعضهم إلى ممارسة شيء من هذه الكهانة، ولبست الشياطين عليهم كثيراً من الأعمال، حتى إن بعضهم صار يفعل كما يفعل هؤلاء، فإذا سرق شيء يأتونه ويخبرهم عن الذي سرقه، ويقول: أنا أستعين بالجن! إلى غير ذلك من ضلالات النحس التي انقلب بها هؤلاء الجهلة عن الدعوة الإسلامية، وشوهوا بها دعوة التوحيد.
ولكن نحمد الله تعالى على أن هذه الآن تكاد تخمد، حتى الذين أوغلوا في ذلك وتعمقوا إلى أقصى الحدود أغلبهم الآن قد رجع عن الخوض في هذا الموضوع ولله الحمد، فكفى خوضاً في هذا الطريق والانشغال به، ويكفى العدوان الذي حصل، فعلاج هذه القضية أن لا ننشغل بها ولا يفكر أحد أبداً فيها؛ إذ كم خربت من بيوت! وكم أحدثت من مآسٍ! ففي فترة الانشغال بهذا كان كل إنسان يظن أن الثاني يسلط عليه الجن، فيستعين بالجن ليؤذيه! وهذا من الهراء ومن السخافات التي ما زلنا نعاني بعض آثارها، وإن كان الوضع الآن أخف بكثير مما مضى، ولله الحمد.
فالشاهد من هذا الكلام أننا كنا نحن -معشر السلفيين- أولى الناس بأن نتبرأ من ذلك ونكون محققين لقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، لكن بعض الناس -مع الأسف- يلتزمون زوراً، وأغلب هؤلاء لا حظ لهم على الإطلاق من العلم الشريف، فلا تجد الواحد ممن يخوض في هذا الباب ممن ينشغل بالعلم أو يسهر الليالي في حفظ القرآن أو حفظ الأحاديث أو مدارسة دروس الفقه، لكن فتح له عيادة، فأحدهم تجد عنده معمل تحاليل طبية، فأياماً يعالج فيه الجن وأياماً يعمل تحاليل، ويستقبل مرضاه ويوغل في هذه الأشياء! فنحن أولى الناس بأن نبرأ من الانزلاق في هذه الهوة، فالذي سرق منه شيء يجيء ويغلق ما يسمى بالمندل، وفلان حصل له سحر فيقول أولئك الضالون: نريد أن نفك عنه هذا السحر ويبدءون يفكرون في كيفية معرفة السحر حتى يفكوه! ضلالات وهذيانات وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
فنحن أولى الناس بأن ندعو الناس إلى التوحيد، ونكون أشد الناس بصيرة بإزالة الشيطان وشركه، وللأسف أنه وقع بعض من ينسبون إلينا في هذه الأشياء! فهذه حقيقة من حقائق عقيدة التوحيد الواضحة الناصعة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو).
ثم إن هذا الجني الذي يزعم أنه يخبرك بهذه الأشياء التي غابت عنا أنت لا تعرف من هو، وما اسمه، وما شكله، وما دينه، حتى لو قال: إنني مسلم فما أدراك؟! ومن أين تعرف أنه صادق؟! ومن شهد له بذلك؟! ونجد اليوم أن من كانت عنده مشكلة مع زوجته يقول قريبه: هذا مسحور، ونحن نلاحظ بأن في عينيه كذا، وأعتقد أنه مسحور! فدائماً نسمع كلمة (مسحور) فنقول: دعوا هذا الكلام للعجائز، ولا يصح أبداً أن نكون نحن فيه، فما أدراك أنه مسحور؟! يقول: لقد ابتعدت عنه وهو متعلق بها جداً! فهل هذا دليل على أنه فيه سحراً؟! ثم يبدأ ذلك الشخص في العلاج ويفكر في أنه كيف يسلك مسالك السحر حتى يفك به السحر، ونفتح على أنفسنا باب هذه الضلالات وهذا الانحراف، فنأمل أن يسد هذا الباب، وأن نتعامل مع كل الظروف التي تصل إلينا معاملة البشر مع الأسباب التي خلقها الله، فالمريض يذهب للأطباء، ويسلك مسالك البشر الذين هم لحم ودم وعظم يتعاملون مع الأسباب التي سخرها الله سبحانه وتعالى لهم، لا أن تبقى هناك عشرات التخصصات للجن يعملونها! حتى العمليات الجراحية يعملها الجن! ثم نجلس لنقول كلاماً ما رأيناه ولم نعرف صدق من يقوله، ونظل نقول: إنه يوجد متخصص في السرطانات، وآخر في العقم! فالمرأة التي لا تلد يقال عنها: فسبب ذلك جني يمنعها من الإنجاب! فما هذا الخوض الشديد، ولماذا لم تزدهر هذه الطريقة في التفكير إلا في هذه السنوات الأخيرة؟! فليسلك الإنسان المسالك التي سخرها الله له (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه دواء).
أما قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فقد قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب.
وقال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق.
وقال الضحاك: خزائن الأرض وعلم نزول العذاب.
وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.
وقيل: هو انقضاء الأجل وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمارهم.
واللفظ أوسع من ذلك فإن مفاتح الغيب لفظ أوسع يشمل كل ما غاب عنا مما استأثر الله تعالى بعلمه، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يجيء المطر)، وهذا أخرجه البخاري.
والروايات في هذا المعنى كثيرة، وقوله: (ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام)، يعني: بعلم بغير آلة.
فلا يشكل على هذا بعض الأساليب الحديثة الآن التي تقوم بتصوير حركة الجنين أو نوعه وهو في بطن أمه؛ لأن هذا لا يتنافى مع أن الله سبحانه وتعالى يستأثر بعلمه؛ لأنه من الممكن بآلة أن نطلع على هذا، وبالتالي لا يصبح غيباً، بل يصبح شهادة، فلو أتينا بمشرط وفتحنا الرحم واطلعنا على الجنين فلا نكون بهذا قد اطلعنا على الغيب، وإنما صار شهادة،(53/2)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ينبئكم بما كنتم تعملون)
قال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60].
قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) يعني: ينيمكم فيه.
واستعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصل التوفي قبض الشيء بتمامه.
وقوله: (ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي: ما كسبتم في النهار.
فخصص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جرياً على المعتاد، فهذا هو الحال المعتاد لأغلب البشر، أن النهار للعمل وللسعي، والليل للنوم والراحة.
(ثم يبعثكم) يعني: يوقظكم.
وأطلق البعث ترشيحاً للتوخي (فيه) أي: في النهار (ليقضى أجل مسمى) أي: ليتم مقدار حياة كل أحد، حتى يستوفي كل منكم ما كتب الله له سبحانه وتعالى في هذا الأجل، فتمر بكم الأيام إلى أن يأتي الأجل المحسوم.
وقوله: (ثم إليه مرجعكم) أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت.
وقوله: (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) أي: في ليلكم ونهاركم، وذلك بالمجازاة عليه.
وهذا مبالغة في عدله سبحانه وتعالى.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)
قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61] يعني: هو المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً)) أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الكرام الكاتبون، كقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]، وقوله عز وجل: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18].
وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] الحكمة في إرسال الحفظة أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن المعاصي، ولذلك قال بعض العلماء لإخوانه: (هل لو كنتم تعلمون أن بينكم من يرفع عملكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟! قالوا: لا.
قال: فإن معكم من يرفع أعمالكم -وهم الملائكة- إلى الله سبحانه وتعالى) يعني أنه لو كان عليك من السلطان أو الحاكم رقيب يحصي عليك كل ما تقوله ويسجله ثم يعرض عليه بعد ذلك فلا شك في أن هذا سيكون زجراً عن التمادي فيما لا يصح من الكلام.
فالعبد إذا وفق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطَّلعين عليه، وهذه إشارة إلى وجود هؤلاء الملائكة الكرام الكاتبين حتى نكرمهم ونستحييهم.
وقوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت) يعني أسباب الموت ومباديه.
وقوله: (توفته رسلنا) أي: الملائكة الموكلون بقبض الأرواح.
قوله: (وهم لا يفرطون) أي: بالتواني أو التأخير، فلا يمكن أن يخلفوا الموعد، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كتب للرجل الموت في مكان محدد وفي لحظة محددة فلا يمكن أن يتقدمَ عن هذه اللحظة ولا أن يتأخر عنها طرفة عين، بل لا بد من أن يأتي في الموعد الذي كتبه الله سبحانه وتعالى.
وقال ابن كثير: (وهم لا يفرطون) أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين.(53/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق)
ثم قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) المقصود بمولاهم هنا: الذي يتولى أمورهم ويدبرها (الحق) أي: العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، قال ابن كثير: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) الضمير للملائكة يعني: رد هؤلاء الملائكة إلى الله سبحانه وتعالى، أو (ردوا) أي: الخلائق المدلول عليهم بأحد.
يعني في قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ثم بعد ذلك يرد هؤلاء الناس المتوفون إلى الله مولاهم الحق.
فإما أنها تعود إلى الملائكة، وإما أنها تعود إلى آحاد الناس الذين تتوفاهم الملائكة، وهذا يعني أنهم يردون إلى الله سبحانه وتعالى بعد البعث فيحكم فيهم بعدله، ولذلك قال: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) أي: ليحاكموا ويحكم فيهم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، وقال عز وجل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49] فقوله: ((أَلا لَهُ الْحُكْمُ)) أي: يومئذ لا حكم فيه لغيره (وهو أسرع الحاكمين) أي: يحاكم الخلائق في أسرع زمان.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذا الموضع الحديث المشهور الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان رجلاً صالحاً قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان.
فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج) يعني أن هذا كله يقال للعبد الصالح في أثناء خروج روحه إلى أن يتم خروجها، يكرر عليه هذا النداء الطيب: (فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال من هذا؟ فيقال: فلان فيقولون: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان.
فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل -المقصود التي فوقها- وإذا كان رجل السوء قالوا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج.
فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فسيفتتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان.
فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء.
فترمى من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثلما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثلما قيل في الحديث الأول) والأحاديث في هذا معروفة ومشهورة.(53/5)
الجمع بين قوله: (الله يتوفى الأنفس) وقوله: (يتوفاكم ملك الموت) وقوله: (توفته رسلنا)
قال الخازن: فإن قلت قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] في هذه الآية نسب التوفي إلى الله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، وقال هاهنا: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)) فنسب التوفية إلى الملائكة، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، لأن الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال:50] جاءت بصيغة الجمع، فدل على أن لملك الموت أعواناً.
فإذا قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] إن قلت: ملك واحد فنعم، ولكن دلت الآيات الأخرى على أن له أعواناً (توفته رسلنا)، وإذا قلنا ملك الموت اسم جنس فمعناه هؤلاء الملائكة، وإذا قرأت قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] فإن الله هو الفاعل للتوفي في الحقيقة، فالمتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع.
قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناوله حيث شاء، وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم.
ثم أمر تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ المشركين وأن يبكتهم بأن هؤلاء الذين اتخذوهم شركاءهم أحط مما يزعمون لهم من الصفات، والدليل على أنهم لا يستحقون هذه العبادة منكم أنكم عند الشدائد تنسونهم ولا تفزعون إليهم وإنما تمخضون الإخلاص والدعاء لله عز وجل.(53/6)
تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر)
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام:63].
قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر) أي: من شدائده، كخوف العدو وضلال الطريق (والبحر) كخوف الغرق والضلال عن الطريق وسكون الريح.
والمقصود من الظلمة في قوله: (ظلمات البر والبحر) الشدة، لاشتراك الشدة مع الظلام في الهول وإثقال الأبصار ودهش العقول، يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل وظهرت الكواكب فيه.
وقوله: (تدعونه تضرعاً) أي: تذللاً إليه تحقيقاً للعبودية (وخفية) يعني: سراً، تحقيقاً للإخلاص، فأنتم تتضرعون إليه في ظاهركم؛ لأنكم بذلك تحققون العبودية، ثم في الباطن تدعونه سراً، وبذلك تحققون الإخلاص في هذه الشدة.
وجملة (لئن أنجانا) حال من الفاعل بتقدير القول، يعني تقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) وهذا وعد منهم بأن الله سبحانه وتعالى إذا نجاهم من هذه الشدة المعبر عنها بالظلمات، ومعنى (لنكونن من الشاكرين) أي: من الشاكرين لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.(53/7)
تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:64].
بعد ما أمره تعالى أن يبكتهم بانحطاط شركائهم عما زعموا لهم؛ لأنهم يخصون الحق سبحانه وتعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم، تنبيهاً على أن الجواب عندهم معروف، فأنتم تلجئون إلى من؟ (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).
أو المقصود بالجواب هنا الإهانة لهم بقوله: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) يعني: ينجيكم منها من غير شفاعة من أحد ولا عون (ثم أنتم تشركون) أي: ثم أنتم بعدما تشاهدون النجاة من هذه الظلمة وهذه الشدة التي تعدوننا فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقسم حيث تحلفون (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) وتدعونه تضرعاً وخفيةً وتنسون ما يشركون، ثم بعد ذلك إذا نجوتم تنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه سبحانه وتعالى بالدعوة إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر! ولا شك في أن لكثير من الناس في هذا الزمان حظاً من هذا البلاء المتلاطم والمتراكم، فكم نسمع من القصص الخيالية التي يُلبس بها على الناس أن الشيخ الفلاني كان في أناس فوق سفينة وكادوا يغرقون، فقالوا: يا شيخ فلان ودعوه فنجاهم! ولا شك في أن هذه الصورة هي أقبح من هذه الصور التي حكاها القرآن عن المشركين الأوائل؛ لأن هؤلاء كانوا يوحدون الله سبحانه وتعالى بالدعوة ظاهراً وباطناً عند الشدة، ثم بعد ذلك يشركون للجهل، والآن نجد من يشرك بالله سبحانه وتعالى حتى في الشدة، ويتجه إلى البدوي والدسوقي والحسين وآل البيت إلى غير ذلك من هذه الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل، حتى إن الواحد منهم -كما حكى أكثر من واحد من العلماء عن هؤلاء الناس الذين يزعمون أنهم مسلمون- إذا سألته المحكمة أن يحلف بالله عز وجل حلف به كاذباً، فإذا قال له القاضي: احلف بالشيخ فلان تلعثم ونطق بالحق! وكأن الله سبحانه وتعالى أهون عنده من هؤلاء الذين يتخذهم أنداداً من دون الله عز وجل.
وقوله تبارك وتعالى: (تدعونه تضرعاً وخفية) استدل به بعض المفسرين على أن الإسرار بالدعاء أفضل من الجهر به، قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره.(53/8)
تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً لعلهم يفقهون)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65].
قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال المهايمي: أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد.
يعني أنكم وحدتم الله سبحانه وتعالى ودعوتموه ظاهراً وباطناً وأخلصتم له في الدعاء وأسررتم هذا التضرع وهذا الدعاء والتذلل لأنكم كنتم تخافون من الهلكة في هذه الظلمة وهذه الشدة التي طرأت عليكم، ثم أقسمتم ووعدتم بأن تكونوا من الشاكرين، فلما نجاكم الله سبحانه وتعالى وكشف عنكم هذه الغمة إذا بكم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك، فتشركون بالله سبحانه وتعالى، وتبدلون الشكر بالشرك، وإنما كان الدافع لكم هو أمنكم من الشدائد؛ لأنكم عدتم إلى حالة الأمن والرخاء واليسار، لكن العاقل إذا فكر يعلم أنه لا وجه للأمان منها، لاستمرار من سيلقوه -وهي القدرة الإلهية- على أنواع الشدائد من الجهات كلها، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وقدرته عز وجل واسعة، فيستطيع سبحانه وتعالى بقدرته العظيمة أن يعيد عليكم الكرة ويأتيكم بالشدائد بأي لون أو من أي جهة حتى لو كنتم تأمنون هذه الجهة، فهو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة، فكيف لا يكون قادراً على إنزال شدائد مثلها؟! فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم) يعني أن العذاب ممكن أن يأتيكم من كل جهة، فلا وجه للأمان وللفرار بأن الله أنجاكم فتعودون للشرك، فهنا حجة قوية جداً وحجة ظاهرة في إبطال هذا المسلك، فالذي جعلهم يعدون ويقسمون أنهم يوحدون ويشكرون لله سبحانه وتعالى هو الخوف من الهلكة، ثم بعدما أمنوا وزالت عنهم الشدة عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك ونكثوا عهدهم من بعد أيمانهم، والدافع إلى ذلك هو الشعور بالأمان، فالإنسان يكون في البحر وتكاد السفينة أن تغرق فيدعوا الله ويبتهل، ثم إذا نجاه للبر يعود إلى الشرك، وينسى هذا العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى به.
ألم يعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبعث عليهم عذاباً في هذا البر؟! بل الآية هنا فيها أن الله عز وجل قادر على أن يأتيكم بالعذاب من أي جهة، وقادر على أذاكم بأنواع عظيمة من العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقادر على أن يعيد عليكم هذه الشدائد وأمثالها ويأخذكم فيها.
يقول تبارك وتعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) يقول المهايمي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار من سيلقوه -وهو القدرة الإلهية- على أنواع الشدائد من الجهات كلها؛ إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإرسال النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء، أو من تحت أرجلكم كالخسف والطوفان، أو يلبسكم شيعاً، وهذا نوع آخر من العذاب الذي يعذِّب الله سبحانه وتعالى به أعضاء الأمم، وهو أن يخلطكم فرقاً خلط افتراق، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم ويذيق بعضكم بأس بعض، يعني شدة بعض، فيسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب.
وقوله: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) قوله: (نصرف) يعني: نحولها من نوع إلى آخر، فعند النظر والتتبع للآيات من أوائل هذه السورة إلى هذه اللحظة نجد أن الله سبحانه وتعالى ينوع لهم الحجج والمجادلة والدلائل والبراهين.
(لعلهم يفقهون) أي: يفهمون ويعتبرون فيكفون عن كفرهم وعنادهم.
روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: (قل هو القادر على أن ينزل عليكم عذاباً من فوقكم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك (أو من تحت أرجلكم) قال: أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال: هذا أهون، أو: هذا أيسر).
قال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يفسر به حديث جابر رضي الله تعالى عنه، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم ثنتين وأبى أن يرفع عنهم ثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الخسف والرجم) يعني أن هذه الأمة لا تعاقب بالخسف ولا بالرجم (وأبى أن يرفع عنهم الأخريين) وهما أن يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، فيستفاد من هذه الآية المراد بقوله: (من فوقكم أو من تحت أرجلكم) ويستأنس له -أيضاً- بقوله تعالى: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68].
وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، فصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة -بالجدب والقحط- فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
وليس معنى ذلك أن أي أمة من الأمم الإسلامية أو بلد من البلاد الإسلامية لا يهلكها الله سبحانه وتعالى بالغرق، فليس هذا هو المقصود في هذا الحديث، وإنما المقصود هنا شمول الأمة كلها والإتيان بالعذاب الذي يستأصل الأمة كلها، فهذا لا يقع، أما وقوع آحاد من الخسف ووقائع من الغرق والسيول وغير ذلك فهذا لا يتنافى مع الحديث؛ لأن المقصود عذاب يستأصل الأمة كلها، فهذا هو الذي لا يقع.
قال الخفاجي: فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب كما روى الترمذي وغيره؟ قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم.
أي أن: الخسف الذي يستأصل الأمة هذا هو الممنوع، وأما عدم إجابته له في جعل بأسهم بينهم فهو بسبب ذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم نصيحته لهم لم يعملوا بقوله.
وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (قل هو القادر) إلى آخره فقال: أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد) يعني ما يتعلق بالفتن التي ستقع فيما بعد مما ستطبق عليه الآية وما يقع بالمسلمين.
وبعض المفسرين لهم أقوال أخرى في هذه الآية، حيث قال بعضهم: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قالوا: هو أئمة السوء (أو من تحت أرجلكم) خدم السوء.
ولا شك في أن التهويل وتعظيم العذاب والفتن المتوعد بها في هذه الآية أعظم من أن يكون خادم السوء أو أئمة السوء؛ لأن العذاب كلما كان مراً على النفس شق عليها، فهذا القول ينبو ويقل عن مقام التهويل وشدة الوعيد في هذه الآيات الكريمة.
فالظاهر أن بعض السلف كانوا يتلون بعض الآيات لبعض المقامات إشعاراً بأن معناها يحاكي تلك الواقعات فقط، دون أن تكون الآية نزلت في تلك القضايا بأعيانها، فلا شك في أن من الحكام مثلاً من هو وراء السوء، أو أن ثلة من الناس يشتمون العلماء ويشتمون الأفاضل، ففي هذه الحالة يقال: إنه يصدق عليهم معنى الآية، لا أن هذا هو المراد من الآية أصلاً أو أنها نزلت فيه.(53/9)
تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق وسوف تعلمون)
قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:66].
قوله تعالى: (كذب به قومك) أي: بالقرآن المجيد (وهو الحق) أي: الكتاب الصادق في كل ما نطق به (قل لست عليكم بوكيل) أي: لم يفوض إليَّ أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق، إنما أنا منذر وقد بلغت.
وبعضهم أرجع الضمير في قوله تعالى: (وكذب به) إلى العذاب.
وقوله: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] أي: لكل خبر عظيم وقت استقرار لصدقه أو كذبه (وسوف تعلمون) أي: مستقر هذا النبأ ومآله وأن العاقبة له، كما قال تعالى {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].(53/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا)
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون)، يعني: بالطعن والاستهزاء (في آياتنا)، أي: المنسوبة إلى مقام عظمتنا، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا.
فحق آيات الله سبحانه وتعالى أن تعظم؛ لأنها كلام الله، فتعظم كعظمة المتكلم بها، وهو الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (وإذا رأيت الذين) (الذين) هنا كناية عن مشركي مكة، فقد كان ديدنهم الخوض في آيات الله.
(فأعرض عنهم) أي: لا تجالسهم وقم عنهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي: حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا.
(وإما ينسينك الشيطان) بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) يعني: إن أنساك الشيطان فجلست معهم فلا تؤاخذ به ما دام الذي دفعك إلى الجلوس معهم هو نسيان النهي والوعيد الوارد في هذه الآية، لكن إذا ذكرت النهي فبادر بالقيام، فلا تقعد معهم؛ لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز عناداً.
فالنسيان معفو عنه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).(53/11)
وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو
وهذه الآية الكريمة في سورة الأنعام هي المشار إليها في آية سورة النساء، وهي قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:140]، فالمقصود بقوله تعالى: (في الكتاب) هذه الآية التي في سورة الأنعام؛ لأن الأنعام نزلت قبل النساء {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140]؛ لأن في حضور المنكر مع إمكان التباعد عنه مشاركة لصاحبه، قال السيوطي في الإكليل: (في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو) فيؤخذ من هذه الآية أنه واجب على الإنسان أن يهجر مجالس اللغو ومجالس الملاحدة، وما أكثر مجالس الملاحدة! ومجالس الملاحدة اليوم متعددة، كمجلاتهم والنظر إلى التلفزيون وغير ذلك؛ لأن الحال الآن تنوع وتلون ألواناً كثيرة، فكم من آية يسخرون منها! وكم من حكم شرعي يستهزئون به! وكم من حديث يذكر في مقام الاحتقار والازدراء والعياذ بالله! فهؤلاء جميعاً من هؤلاء الملاحدة، كالممثلة التي رقصت في مسرحية على أنموذج للكعبة المشرفة، حيث صنعوا أنموذجاً للكعبة وصعدت الراقصة فوقه ترقص عليه -والعياذ بالله-!! فهذا إلحاد كفر بالله عز وجل واحتقار لما عظمه الله سبحانه وتعالى، وهو بيت الله الحرام، ومثلها الممثلة التي سخرت من كلمة التوحيد فقالت: (لا إله أُلَّا الله) والناس يضحكون، يضحكون بصورة صارخة على هذا الكفر وهذا الشرك والعياذ بالله، فالإنسان لا يجوز له أبداً أن يجالس هؤلاء الفسقة أو الملاحدة بتعبير أدق، وإلا كان شريكاً لهم في الإثم، والأنواع والأمثلة كثيرة جداً لشهرتها، والمفروض أن الإنسان يتجنب كل مجلس غلب على ظنه أن فيه الخوض في آيات الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا نوع من المجالسة لهؤلاء الفاسقين، سواء أكان في التلفزيون أم في الراديو أم في المسارح أم في المجلات، ومجلات الملحدين الآن معروفة ومشهورة، ومن ثم لا ينبغي للإنسان أن يجالسهم أو يطالع ما معهم إلا لمقصد شرعي.
قال السيوطي في الإكليل: (في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إلى التكليف، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه، ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات).(53/12)
الخوض في آيات الله المقصود به: الخوض بالطعن والاستهزاء
وقال الرازي: (ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وكتابه) قال: لأن ذلك خوض في آيات الله، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية ويعني بهذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] إلى آخر الآية الكريمة، فبعض هؤلاء استدلوا بأنها تنهى عن المناظرة في ذات الله تعالى وصفاته، باعتبار أن هذا خوض في آيات الله عز وجل، والجواب عن ذلك: أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء، فسقط هذا الاستدلال والله تعالى أعلم.
فالمقصود الخوض أي: بالطعن والاستهزاء، لكن الإنسان إذا تعلم مثلاً كيف يؤمن بأسماء الله عز وجل وصفاته، ويتعرف على قواعد السلف الصالح في ذلك فإن هذا ليس من الخوض، لأنه متعلم وطالب علم ومستفهم راغب في التعلم ومعرفة الحق من القرآن والسنة، فكيف يسمى هذا فوضى.
وفي هذا أيضاً رد على ذلك الرجل الذي كتب في الأسبوع الماضي في جريدة الشعب، وجريدة الشعب حاولت أن تتنصل من جريمتها، وعملت مقدمة: أننا نرحب بالرأي والرأي الآخر -حتى يتقنون بذلك عدوانهم- ونحن ما نوافق الكاتب في الكلام الذي كتبه في هذه المقالة، وإنما نحن فقط ضد هؤلاء الناس الذين يشغلون المسلمين بالأمور الفرعية التافهة إلى آخر هذه الإسطوانة التي حفظناها.
ثم كتب هذا الكاتب مقالة كلها ظلم وعدوان وتعد على السلفية، كان يسميها -فيما أظن- السلفية وقذائف التكفير، يعتبر أن السلفيين يقذفون الناس بقذائف التكفير، وهو سلاح تكفير العلماء والدعاة وغير ذلك، وحشا مقاله بالجهل وبالعدوان، وكان مما قاله: إن من ضمن المسائل التافهة أو القشور الفارغة التي يفرق بها السلفيون الأمة الكلام في القضايا الفرعية، مثل أسماء الله وصفاته إلخ.
فالرجل لا يعرف ما هي الأصول وما هي الفروع، وكل الفرق -حتى الفرق الضالة- متفقة على أن قضية التوحيد والأسماء والصفات أصل الأصول في الدين، وأن معرفة الله سبحانه وتعالى هي أصل التوحيد، فكيف يدرجها في الفروع والقشور كما يزعم؟! والحقيقة أن المقالة لا تستحق الاهتمام بها؛ لأنها كانت مبنية على الظلم، وهي نفثه مصدور، أي الإنسان الذي في صدره شيء ويريد أن ينفس عنه فقط، ليس فيها أي علم ولا حتى شبهة تستحق الرد عليها، كلها شتائم وإلقاء الكلام جزافاً واصطياد في الماء العكر؛ لأن ما جاء به كان في الرد على إحدى المقالات في مجلة سلفية وهي تتكلم عن تصرفات بعض الشيوخ المشاهير المتعلقة بانحرافات في قضية التوحيد في الصوفية والقبورية وشيء من هذا، فلأن ذلك الشيخ كان مشهوراً جداً فهو أراد أن يعكر الماء أولاً ثم يصطاد فيه، ليبين أن السلفيين يكفرون الناس! ولا شك في أن المنهج السلفي أضبط المناهج في قضية التكفير، وهو أمر معلوم للجميع.
فالشاهد أن معرفة صفات الله تعالى ونحو ذلك هذا ليس خوضاً في آيات الله، وإنما الخوض أن تنحرف عن منهج السلف بالتأويل والتمثيل والطعن والاستهزاء، هذا هو الخوض في آيات الله، أما أحد يتعلم -مثلاً- قضية القضاء والقدر، أو قضية أسماء الله وصفاته في ضوء فهم السلف الصالح وبالنقل عن العلماء والأئمة فهذا ليس من الخوض في شيء والله، تعالى أعلم.(53/13)
ثمار الآية الكريمة
وثمرة هذه الآية أحكام: الأول: وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله، أن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة، وأذكر مجلساً من هذه المجالس قال فيه وزير التعليم لإخوانه الذين كانوا يجلسون إليه: لا تقلقوا من موضوع الجماعات الإسلامية، فأنا سوف أتولى هذا الأمر، فلن أوصل طالباً إلى الجامعة إلا إذا كان لا يفرق بين مسلم ومسيحي على حد تعبيره! فأين هو من آيات القرآن الكريم؟! وكان رجلاً صادق وعد، وبر في هذا المنهج المعادي للإسلام في مناهج التعليم ومحو الولاء لله ورسوله ومحو الإسلام من كل مراحل التعليم حتى المراحل المبكرة جداً، ونزع أي لفظ يزرع بذرة التدين في قلب هذا البرعم! فحسبنا الله ونعم الوكيل.
لكن مهما أنفقوا ومهما أجهدوا أنفسهم في محاربة دين الله فلربما ينجحون لشهر أو شهرين أو لسنة أو سنتين، لكن الله سبحانه وتعالى سيحبط كيدهم قطعاً؛ لأنه مهما غير ومهما بدل ولو محا كلمة الله من كل كتب مدارس التربية والتعليم على المدى، ولو محا اسم الله واسم رسوله وأهلك كل شيء له علاقة بالدين فماذا سيفعل بالقرآن؟! نحن ضامنون أن القرآن سيبقى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المتكفل بحفظه، حيث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فأمثال هؤلاء يقذف الله سبحانه وتعالى بهم في هذا الإلحاد والانحراف هو سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] فكيف يظن أنه يكيد المسلمين ويكيد الله، والله سبحانه وتعالى سوف ينصر دينه ويبطل كيد أعداء هذا الدين مهما طال الأمد؟! فلا شك في أن العاقبة للمتقين وأن العاقبة للتقوى، فإذا كان وقف حياته على القضاء على الإسلام ومحو الاعتزاز بالإسلام والولاء له من قلوب الأجيال فإن غيره ممن كانوا أشد قوة واستكباراً في الأرض وحرباً لله ورسوله كانوا أولى بأن يفعلوا ذلك، لكن أطفأ الله نورهم، ولا يذكرون إلا باللعنة وبالدعاء عليهم من عباد الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يغار على أوليائه ويقول: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) فكيف بمن يعاديه هو عز وجل؟! فهو أولى بأن يبارزه الله بالحرب، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يخذل كل عدو لهذا الدين، وأن يخذلهم وأن يكيدهم كيداً ويرد كيدهم في نحورهم، فمثل هذا المجلس الذي قال فيه هذه الكلمة كان يجب على أي مسلم حضر أن يفارقهم، ولا يسمع مثل هذا الكلام.
ففي الآية وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله وبحججه أو برسله، أن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يجب الإعراض وترك الجلوس معهم إذا لم يطمع في قبولهم، فإذا انقطع طمعه فلا فائدة في دعائهم، ويجب القيام من مجالسهم إذا عرف أن قيامه سيكون سبباً في ترك الخوض، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف إذا كان وقوفه يوهم عدم الكراهة.
الحكم الثاني: جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض، فكما أنه يجب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله سبحانه وتعالى فإنه يجوز أن يجالس الكفار مع عدم الخوض؛ لأنه إنما أمر بالإعراض مع الخوض، وأيضاً قال تعالى: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] إلى هذه الغاية، يعني: إذا خاضوا في حديث آخر غير حديث الاستهزاء فإنه يزول التحريم هنا، والآية تدل -أيضاً- على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة إذا أظهروا المنكرات، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض، كما إذا كان للتذكير، فيمكن أن تجالس الظلمة والفسقة حتى الكافرين إذا كان ذلك بهدف التذكير بآيات الله، ودعوتهم إلى التوحيد وإلى الإسلام وإلى الاستقامة، أو إنكار المنكر.
وفي الآية -أيضاً- دلالة على وجوب الإنكار؛ لأن الإعراض إنكار.
قال: وتدل على أن التقية من الأنبياء بإظهارهم المنكر لا تجوز يعني أن الأنبياء وأئمة الدين لا يجوز لهم التقية؛ لأن هؤلاء إذا مارسوا التقية -وهم قدوة للبشر- فسوف يلتبس الحق بالباطل على الناس، وإنما يترخص من دونهم في التقية كما ذكرنا، خلافاً للإمامية؛ لأن الإمامية يجوزون على الأئمة الاثنى عشر التقية كما هو معروف.
كذلك الآية تدل على جواز النسيان على الأنبياء؛ لأن المخاطب في الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحكام الآية أن الناسي مرفوع عنه الحرج، وأن النسيان سببه وسوسة الشيطان والإعراض عن الذكر.(53/14)
تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون)
يقول تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:69].
يعني: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من خوضهم (ولكن ذكرى) يعني: أمروا بالإعراض عنهم ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين، لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم (لعلهم يتقون) أي: يبلغون مبلغ التوقي من شبهاتهم بالجلوس مع علمائه بدلهم.
فالمقصود من الآية أن أهل الخوض إذا جالسهم المتقون فليس عليهم شيء مما يحاسبون عليه من خوضهم (ولكن ذكرى) أي: لكن أمر المتقون بالإعراض خشية أنهم إذا لم يعرضوا فسيكون في ذلك فتنة لضعفاء المسلمين قليلي العلم أو ضعيفي الإيمان، فيجالسونهم اقتداء بهم، ومن ثم فربما وقع في قلوب بعضهم شيء من مطاعن هؤلاء المستهزئين.
وقيل في تفسيرها: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى) يعني: على المتقين إذا سمعوا خوضهم أن يذكروهم بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم.
وقد يستدل بهذه الآية (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون) على أن من جالس أهل المنكر وهو غير راض بفعلهم فلا إثم عليه، لكن آية النساء تدل على أنه آثم ما لم يفارقهم، فإذا كان قادراً على أن يفارقهم وجب عليه أن يفارقهم، وإذا بقي في المجلس دون أن يفارقهم وهو يقول: أنا غير راض وأنا كاره لفعلهم فإنه يبقى آثماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] يعني: إن قعدتم فإنكم مثلهم {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140] أي: إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم، لكن هي في حق المؤمن تكون إثماً، أما في حق الكافر فهي كفر، فالمثلية في مطلق المخالفة.
والمناظرات ينبغي أن تكون مغلقة وليست مفتوحة؛ لأنه لا يؤمن -أولاً- أن يطلق أحد من رءوس الكفر شبهة واضحة، فيعجز المناظر عن أن يرد عليه؛ لأنه بشر ربما غاب عنه الجواب، فينتهزها هذا الخبيث فرصة، وقد يأتي الجواب ضعيفاً، فتعلق بعض الشبهات بقلوب المستمعين من العوام أو من ضعفاء القلوب وضعفاء الإيمان، فيؤثر في إيمانهم، فالمفروض في المناظرة أن يحضرها من هو متسلح بالعلم وبالإيمان وباليقين، دون أن يحضرها عوام الناس، والله تعالى أعلم.
أما المناظرات التي يحضرها الغربيون فليس على بالهم إسلام ولا نصرانية، وإنما كما يقال في الكرة: لا ندري من نشجع فالواحد منهم يراها كأي مسرحية، فقد تجدهم أحياناً -وهم كفرة- يصفقون لـ ديدات تصفيقاً شديداً جداً، ومتى تحولوا إلى الإسلام؟! فهذا يتكلم بطريقة جيدة فيشجعه، والثاني يرد في المرة الثانية فيشجعه! فالموضوع لا يأخذونه بمأخذ الجد.(53/15)
تفسير قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً)
ثم يقول تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم) أي: الدين الذي كلفوا أن يدخلوا فيه فلو قيل: كيف يقال: (دينهم) وهم لم يدخلوا في الدين أصلاً؟ وكيف نسب إلى الكفار الدين وهو الإسلام؟! فالجواب أن المقصود هو الدين الذي دعوا إليه، والذي كلفوا أن يدخلوا فيه، وليس المقصود بذلك أنهم أسلموا، لكن نسب إليهم لأنهم دعوا إليه وكلفوه.
وقوله: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً) حيث بخلوا به واستهزءوا به.
(وغرتهم الحياة الدنيا) أي: اطمأنوا بها، وزعموا أن لا حياة بعدها أبداً، وأن السعادة في لذاتها، فـ (ذرهم) يعني: أعرض عنهم ودعهم، ولا تبال بتكذيبهم، وأمهلهم قليلاً، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم.
قال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام:70].
قوله تعالى: (وذكر به) أي: ذكر الناس بهذا القرآن.
وقوله: (أن تبسل نفس بما كسبت) أي: مخافة أن تبسل.
يعني: تسلم إلى الهلاك وترتهن بسوء كسبها وغرورها بإنكار الآخرة، يقال: أبسله لكذا أي: عرضه له ورهنه، أو أسلمه للهلكة.
وقوله: (ليس لها من دون الله ولي) يعني: ينصرها بالقوة (ولا شفيع) أي: يدفع عنها بالمسالمة (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) يعني: وإن تفدي كل نوع من أنواع الفداء بما يقابل العذاب لا يقبل منها؛ لبعدهم عن مقام الفداء، والعدل: الفدية؛ لأن الفادي يعدل المفدى بمثله (أولئك) يعني: أولئك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً (الذين أبسلوا) يعني: سلموا للهلاك بحيث لا يعارضه شيء (بما كسبوا) يعني: بهذا الاغترار من إنكار الآخرة والانهماك في الشهوات المحرمة.
وقوله: (لهم شراب من حميم) أي: من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، وتتقطع به أمعائهم، فمعنى (حميم): الماء الذي انتهى غليه، (وعذاب أليم) أي: بنار تشتعل بأبدانهم (بما كانوا يكفرون) أي: بسبب كفرهم.(53/16)
تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا لنسلم لرب العالمين)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) أي: أنعبد من دون الله ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه، ولا على ضرنا إن تركناه.(53/17)
تفسير سورة الأنعام [80 - 94](54/1)
تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان)
قال تبارك وتعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80].
قوله تعالى: (وحاجَّه قومه) أي: جادلوه وأرادوا مغالبته بالحجة فيما ذهب إليه من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه تارةً بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما.
(قال: أتحاجوني في الله وقد هدان) يعني: أتجادلونني في توحيد الله تعالى (وقد هدان) لإقامة الحجج ورفع الشبه عن نفي إلهية ما سواه، وقد ثبت أنها -أي: هذه الآلهة التي تعبدون من دون الله- ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص المفتقر بذاته، والناقص المحتاج إلى غيره لا يمكن أن يكون إلهاً؛ لأن كماله لا يكون مطلقاً.
وقال: (أتحاجوني في الله وقد هدان) بتشديد الجيم والنون، أي: بإدغام نون الجمع في نون الوقاية؛ لأن أصلها: (أتحاجونني) فنون الجمع أدغمت مع نون الوقاية، فصارت نوناً مشددة (أتحاجونِّي) وقرئ بحذف الأولى.
وقوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به) أي: لا أخاف معبوداتكم؛ لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع.
وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام به في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، وهذا هو حال الذين تدعوهم إلى توحيد الله وتبطل لهم بالأدلة عبادة غير الله عز وجل وإلاهية غير الله، فيقولون كما قال قوم هود لهود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] فهم -أيضاً- هنا خوفوا إبراهيم عليه السلام بأن هذه الآلهة إذا كنت تحذر منها ومن عبادتها فإنها قد تنتقم منك أو قد تؤذيك.
وهذا كما يحصل في زمننا هذا، فإذا دعوت رجلاً إلى التوحيد ونبذ عبادة القبور والأولياء والأضرحة وغير ذلك فإنه يحذرك من أن هؤلاء الأولياء سيصيبونك بكذا أو كذا، أو يصيبك الجنون، أو تختطف إلى صحراء لا تجد فيها أحداً، إلى غير ذلك من الأساطير التي تقال في مثل هذا الزمان، وكلها تخرج من هذا النبع الواحد، وهو تخويف الموحد الذي يدعوهم إلى التوحيد بآلهتهم، كقول قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54].
وهذا التخويف وإن لم يسبق له ذكر لكنه فُهم، أي: لم يرد في الآيات السابقة ذكر أنهم خوفوه بآلهتهم، ولكن يفهم وقوع هذا التخويف من قول إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:80] يعني: هذه الآلهة وهؤلاء الشركاء الذين تخوفونني بهم أنا لا أخاف منهم، ولا أخاف ما تشركون به.
قال ابن كثير: أي: ومن الدليل على بطلان قولكم أن هذه المعبودات لا تؤثر شيئاً.
يعني أن عجزها عن أن تنفع أو تضر هو أحد الأدلة على بطلان إلهيتها، فكيف أخافها؟! وإذا كان أحد الأدلة التي اعتمدت عليها في إبطال إلهيتها من دون الله هو أنها لا تستطيع أن تنفع ولا تضر لا نفسها ولا غيرها، ولا تؤثر شيئاً فلذلك لا أخافها، ولا أبالي بها مهما خوفتموني بها، فإن كان لها كيد فيكدوني بها ثم لا تنظرون.
يعني: إن كانت تستطيع فعلاً أن تكيدني فهيا حرضوها على أن تفعل ذلك، ولا تؤجلوني، بل قوموا بدعوتها إلى الانتقام مني إن كانت تستطيع.
ولا شك في أن هذا القول قول صاحب اليقين القوي الراسخ فيما يعتقده من إيمان ومن توحيد.
ثم قال عليه السلام: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) يعني: من إصابة مكروه بي من جهتها.
يعني: لو فرضنا جدلاً أنه أصابني مكروه من جهتها فإنه ليس هذا بفعلها ولا بتغييرها ولا يد لها في ذلك، وإنما سيكون هذا من جهة الله تبارك وتعالى، ولا يد لمعبوداتكم في هذا الضرر أصلاً.
فهو في الحقيقة لم يخف إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الخوف الذي أثبته هنا معلق بمشيئة الله وقدرته، فهو كَلاَ خوف منها، فما دام الخوف هو أن يحصل شيء بإذن الله وبإرادة الله فهو يساوي أنه لا خوف من هذه الآلهة وهذه الأصنام.
وقوله: (وسع ربي كل شيء علماً) كأن هذا هو علة الاستثناء الذي ورد في قوله: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) يعني: أحاط الله بكل شيء علماً، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال الخوف بي من جهتها؛ لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله أشعر بجواز وقوعه، وهنا إظهار في موقع الإضمار، وهو قوله: (وسع ربي كل شيء علماً) ولم يقل: (وسع كل شيء علماً) ليكون الفاعل ضميراً مستتراً يعود إلى لفظ الجلالة، ولكن كرر وأظهر الضمير فقال: (وسع ربي كل شيء علماً) وكذلك -أيضاً- تعرض لعنوان الربوبية بقوله: (ربي) إظهاراً منه عليه السلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلامه لأمره واعترافه بكونه تحت ملكه وربوبيته.
وقوله: (أفلا تتذكرون)، يعني: أفلا تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السموات والأرض.(54/2)
تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله)
قال تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81].
قوله: (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني: كيف أخاف معبوداتكم وهي مأمونة الخوف؟! وذلك بعدما وضح أنها لا تقدر على أن تضره، ولا أن تنفعه، ولا تنتصر لنفسها، ولا تستطيع أن تكيده، وتحداهم بهذا الذي قاله من قبل، فبيَّن قائلاً: (وكيف أخاف) أي: كيف يتسنى لي أن أخاف (ما أشركتم) من هذه الآلهة التي هي عاجزة وقاصرة عن أن تضرني وهي مأمولة الخوف؟! وقوله: (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) قوله: (ما لم ينزل به) الهاء تعود إلى الإشراك، يعني: ما لم ينزل بإشراكه سلطاناً.
و (سلطاناً) هنا بمعنى: حجة.
وهذا هو المعروف من أن السلطان في القرآن إذا ورد فالمراد به العلم أو الحجة.
فقوله: (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به) أي: بإشراكه (عليكم سلطاناً) أي: حجة؛ إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، والمعنى: ما لكم تنكرون عليَّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها؟! وكيف تنكرون عليَّ أني آمن من تهديداتكم بأن تنالني آلهتكم بسوء، وهذا هو موضع أمن في الحقيقة؟! لأنها لا تستطيع أن تسوءني، فلذلك أنا آمن وليس في قلبي أي خوف من أن تصيبني هذه الآلهة بأي شر.
وقوله: (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني: من معبوداتكم وهي مأمونة الخوف، ولا تستطيع أن تنالني بسوء.
وقوله: (ولا تخافون أنكم) يعني: ولا تنكرون على أنفسكم الأمن مع أنكم تأتون بأعظم موجب من موجبات الخوف والهول، وهو الإشراك.
وقوله: (فأي الفريقين) أي: أي فريقي الموحدين والمشركين (أحق بالأمن) يعني: من أحق بالأمن من لحوق الضرر (إن كنتم تعلمون)؟! أهو الذي يعبد الله سبحانه وتعالى الذي هو النافع الضار الذي وسع كل شيء علماً، والذي يملك مقاليد السموات والأرض وهو القاهر فوق عباده، الذي أوعدهم على الشرك بأشد النكال وأشد العذاب، فهو قادر على أن ينفذ وعيده، أم الذي يعبد هذه الآلهة التي تخوفونني بها وهي لا تملك لنفسها -فضلاً عن غيرها- نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟! فلذلك قال: (فأي الفريقين) من الموحدين والمشركين أحق وأجدر وأقدم بالأمن من لحوق الضرر (إن كنتم تعلمون) أي: تعلمون ما يحق أن يخاف منه، أو من أحق بالأمن، أو (إن كنتم تعلمون) يعني: إن كنتم من أولي العلم.
وجواب الشرط محذوف تقديره: (فأخبروني) أو: إن كنتم من أولي العلم فأخبروني.(54/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)
ثم بيَّن تعالى من له الأمن جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى على هذا السؤال الذي سأله الخليل عليه السلام فقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون؛ حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وإحسانهم لأجل التقريب والشفاعة، كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وهذه نفس الحجة التي تذكر الآن في هذا الزمان على ألسنة من يدعون الإسلام ويعبدون الأضرحة والمقامات والموتى من دون الله سبحانه وتعالى، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن نحن نتوسل بهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يقربوننا إلى الله، وأما نحن فبذنوبنا ومعاصينا وتقصيرنا لا يليق بنا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ فلابد من واسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهذه الواسطة هم هؤلاء الأولياء أو الملائكة أو الجن أو غير ذلك مما عبد من دون الله سبحانه وتعالى.
وأصحاب الهياكل أو أصحاب الأشخاص لم يقولوا: نحن نعبد الهياكل التي هي أجرام الكواكب نفسها، ولا الأشخاص الذين صوروهم، إنما قالوا: نحن نستغلها كي تذكرنا بعبادة الله، وتتوسط بيننا وبين الله، وهذا هو كما يقول عباد القبور والأضرحة في هذا الزمان إذا قامت عليهم الحجة، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن هؤلاء يقربوننا إلى الله، وهم وسائط وشفعاء -والعياذ بالله- إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الظلم الذي لابسوا إيمانهم به، وهو المقصود بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، فالموحدون لا يشوبون إيمانهم بشرك كحال هؤلاء الفريق الآخر الذين يلبسون إيمانهم بالشرك، حيث يزعمون أن هذه الأصنام تقربهم إلى الله زلفى.
وقوله: (أولئك لهم الأمن) يعني: يوم القيامة (وهم مهتدون) أي: إلى الحق.
وقوله: (وهم مهتدون) مبتدأ وخبر، ومعناه حصر للهداية في هؤلاء الموحدين، يعني: هم المهتدون لا غيرهم، ومن عداهم في ضلال.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال أصحابه صلى الله عليه وسلم: وأينا لم يظلم نفسه -فهموا أن الظلم هنا معناه المعاصي-؟ فنزلت: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13])، وهذا لفظ رواية البخاري، ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] إنما هو الشرك)، فهذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة عن ابن مسعود التي قال فيها فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] من جهة أن النزول يراد به تفسير الآية أحياناً، فيقال -مثلاً-: هذه الآية نزلت في كذا.
والمقصود أن هذه الآية تفسر هذا الموقف أو هذا الكلام، لا أنه كان سبب نزولها بالفعل، وهذا من الاصطلاحات الدقيقة للصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم، ورحمهم الله أجمعين.
فحينما يقول: نزلت الآية في كذا يعني: أن حكم الآية يدخل في هذا الموضوع المتكلم فيه، لا أنها نزلت فيه بالفعل، فالنزول هنا يراد به التفسير، فكلام ابن مسعود حين قال: (لما نزلت: ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13]) هل المقصود منه أنها نزلت بالفعل؟
الجواب
لا؛ لأن هذه الآية كانت نزلت قبلها، وهي في سورة لقمان، فمعنى قول ابن مسعود: (فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]) فيراد بسبب النزول هنا تفسير الآية، لا أنه بالفعل سبب نزولها، لسبب بديهي جداً، وهو أن آية لقمان كان نزولها من قبل.
ولـ ابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً: ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال: بشرك.
وقد نقل ذلك عن جملة كبيرة جداً من الصحابة والتابعين، فلا يُعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير الظلم هنا بالشرك، وذلك في قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) يعني: بشرك، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك؛ لأن هذا الحديث بين أن الآيات القرآنية يوضح بعضها ما أبهم في بعض.
وحصل نوع من اللبس عند الصحابة في أن الظلم يعم المعاصي فضلاً عن الشرك، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم في هذه الآية خاصة يقصد به الظلم الأكبر الذي هو الشرك في قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ففسَّر القرآن بالقرآن، وحيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفسير فلا يجوز النظر في غيره إذا خالفه، وأي تفسير يخالف ما ثبت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الأخذ به أو النظر فيه.
فمتى ما صح الحديث في تفسير آية فيجب أن نصير إلى هذا التفسير، فلو قيل: لا يلزم من قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أن غير الشرك لا يكون ظلماً! أي: قد يقول قائل: إن قوله تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))، هل معناه أن غير الشرك لا يكون ظلماً؟ فيجاب بأن التنوين في كلمة (بظلمٍ) للتعظيم، يعني أن أعظم الظلم وأخطر الظلم وأكثر الظلم هو الشرك، فالتنوين هنا للتعظيم، فهذا التعظيم أشار إلى نوع خاص من الظلم وهو الشرك، فكأنه قيل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم) وهذا الظلم العظيم هو المشار إليه في قوله تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد (لم يلبسوا إيمانهم بشرك)، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده.
وسياق الآية يؤكد أن هذا هو المقصود، فقوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) يعني: بالشرك الذي هو الظلم العظيم؛ لأن هذه القصة هي قصة إبراهيم عليه السلام من أولها إلى آخرها، وهي إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم هاهنا على ذلك، إذ كل سياق القصة في قضايا التوحيد وإبطال ألوهية ما عدا الله سبحانه وتعالى، وليس فيها أحكام شرعية، ولا فيها طاعات ولا عبادات، حتى يقال: إنه يحتمل أن الظلم هنا يقصد به المعاصي، وإنما كله في هذا السياق.
يقول القاسمي: حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآيات بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم.
وأبى تفسير الظلم بالكفر فإن هذا الكلام مدفوع.
يعني أن الزمخشري معتزلي، وعدو لدود من أعداء أهل السنة والجماعة، وهو مع براعته في بلاغة القرآن وفي إظهار إعجاز القرآن البلاغي، لكنه -للأسف الشديد- تلبَّس بهذه البدعة الغليظة، وهي مذهب الاعتزال، ولا يخلو تفسيره -مع نفاسته في باب البلاغة والإعجاز- من محاولة ليّ أعناق بعض الآيات حتى توافق مذهب المعتزلة، فلذلك تصدى له الإمام ناصر الدين في كتابه (الانتصاف) وكشف عورات مذهبه الاعتزالي، وأبان عن وجه الحقيقة فيما دسه الزمخشري من تفاسير أو آراء يحاول بها أن يطوع آيات القرآن لتصحيح مذهبه، ففي مثل هذه المواضع الحساسة تجد الزمخشري يضل ضلالاً مبيناً في تفسير الآيات، فمع وضوح الحديث -وهو متفق عليه- تعين تفسير الظلم هنا بأنه الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، إلا أنه أبى ذلك، وقال: لو فسرنا الظلم بالشرك العظيم أو بالشرك الأكبر فكيف يكون عنده الإيمان ويختلط بالشرك؟ وهل الشرك أو الكفر يجامع الإيمان؟! وفسرها بقوله: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم.
وأبى تفسير الظلم بالكفر؛ لأن لبس الإيمان بالشرك مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان على زعمه! وهذا الكلام مدفوع بأن الشرك يلابس الإيمان، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ويقال له كما قال الله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ} [البقرة:85] ولا شك أن تخصيص الأمان بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك متوقعين له.
وفي (الانتصاف): إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن، يعني أن العصاة مثل الكفار والمشركين في أنه لا حظ لهم في الأمن المذكور في قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين.
يعني أن الأمن لا يكون إلا لمن جمع بين أمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي، بأن يكون مؤمناً الإيمان الذي ينافي الشرك، وبريئاً من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون من هذا العذاب المؤقت، فإذا كانوا موحدين وماتوا على معاصٍ لم يتوبوا(54/4)
تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)
قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83].
قوله: (وتلك) الإشارة إلى الدلائل المشار إليها، وهي الدلائل السابقة التي استدل بها إبراهيم عليه السلام وحاج بها قومه، من قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74] إلى قوله تبارك وتعالى هنا: (وتلك حجتنا آتيناها) ومعنى (حجتنا) أي: التي لا يمكن نقضها، وهي حجة التوحيد، ودلائل التوحيد لا يستطيع أحد أبداً أن يهزمها.
قوله: (آتيناها إبراهيم) يعني: أرشدناه عليه السلام إليها، وعلمناه إياها بلا واسطة معلم، بل هو تعليم مباشر من الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) أي: آتيناه حجة ودليلاً على قومه الكثيرين ليغلب وحده.
يعني أن قومه كانوا كثيرين ومجموعة كبيرة من عباد الأصنام، وهو وحده، فانظر إلى الإبداع في هذا التعبير (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) أي: وحده في مواجهة كل قومه، ومع ذلك غلبهم عليه السلام بهذه الحجة الناصعة.
وقوله: (نرفع درجات من نشاء) يمتن الله سبحانه وتعالى على إبراهيم عليه السلام بأنه رفعه بالعلم والحكمة، وهذا على قراءة (نرفع درجاتِ من نشاء) وهناك قراءة أخرى: (نرفع درجاتٍ من نشاء).
وقوله: (إن ربك حكيم) يعني: في رفعه وقبضه (عليم) بحال من يرفعه واستعداده له.(54/5)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا)
قال تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84].
قوله: (ووهبنا له) أي: لإبراهيم عليه السلام.
لأن إبراهيم صار غريباً في قومه، ومحارباً من قومه أجمعين، فعوضه الله سبحانه وتعالى عن قومه الذين نبذوه العداء، ومن أجل ذلك اعتزلهم وما يعبدون من دون الله، فاعتزلهم لوجه الله، فامتن الله عليه سبحانه وتعالى بالتعويض؛ لأنه ما ترك أحد شيئاً لله إلا عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه، فلما اعتزل قومه ونبذهم لأجل الله عوضه الله سبحانه وتعالى بأن وهبه عِوضاً عن قومه لما اعتزلهم وما يعبدون.
وقوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) يعني: وهبنا له ولداً وولدَ ولدٍ، فالولد هو إسحاق، وولد ولد هو يعقوب، لتقر عينه ببقاء العقب، وأن عقبه ونسله امتدوا وانتشروا.
وقوله: (كلاً هدينا) أي: كلاً منهما هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49].
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، كما قال تعالى عنها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:72 - 73].
فبشروهما فتعجبا، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] يعني: لم يبشره فقط بأنه سيرزق بإسحاق ولداً ثم سيرزق ولدَ ولدٍ، وهو يعقوب عليه السلام، وإنما بشر -أيضاً- بأنه يكون نبياً من الصالحين، وسبق أن بينا أن وصف الأنبياء بالصلاح يكون مدحاً لمرتبة الصلاح، وكذلك وصف الأنبياء بالإسلام؛ لأنه لو كان المدح هنا لصفة الأنبياء أنفسهم لاستووا مع عوام أمتهم، لكن المقصود هنا مدح صفة الإسلام والصلاح؛ حيث يتصف بها الأنبياء عليهم السلام.
فقال تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين) وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
ولا شك في أن هذه الجملة من الآيات فيها دليل واضح على أن الذبيح كان إسماعيل ولم يكن إسحاق؛ لأنه لا معنى للابتلاء بذبح إسحاق وقد ضَمن أبوه أنه سيعيش ويولد له أولاد؛ لأنه قبل أن يولد إسحاق بُشِّر إبراهيم عليه السلام بإسحاق وبولد ولده يعقوب بن إسحاق، ولا معنى لأن يكون الذبيح هو إسحاق، فإذا كان من المضمون -والوعد أتاه من الله، ووعد الله لا يخلف- أن إسحاق سيعيش ويكبر حتى ينجب ولداً فهل يصح أن يكون الذبيح -وهو صبي صغير- إسحاق عليه السلام؟!
الجواب
لا يمكن ذلك، لكن اليهود -لعنهم الله- حنقاً على أهل الإسلام وأهل التوحيد من نسل إسماعيل عليه السلام يأبون الاعتراف بهذه الحقيقة، ويحاولون أن يحتجروا هذا الشرف بأن ينسبوا موضوع الذبيح إلى إسحاق عليه السلام.
وقوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يُتوهم أنه لا يعقد لضعفه قالت: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود:72] فربما يقع احتمال أن من يُنجب بعد هذا السن الكبير يكون عقيماً لا يولد له، فلذلك وقعت البشارة به وبولد اسمه يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام لأنه اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49].
ثم قال تعالى: ((وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)) يعني: ونوحاً هديناه من قبلك كما هديناك.
وعُدَّ هداه نعمةً على إبراهيم من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد؛ لأن نوحاً عليه السلام هو الأب الثاني للبشرية، قال ابن كثير: كل منهما له خصوصيات عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به -وهم الذين صحبوه في السفينة- جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم إنما كانوا من ذرية نوح عليه السلام أبي البشرية الثاني.
وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً إلا من ذريته، يعني: إذا كان كل البشر بعد نوح من ذريته فهذه صفة عامة، وإبراهيم عليه السلام كل الأنبياء بعده هم من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، وهذا مقطوع به، فلم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا وهو من ذريته، سواء أكان من نسل إسحاق، وهو يعقوب ومن بعده إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، أم من نسل إسماعيل عليه السلام، وهو سيد الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما من ذرية إبراهيم.
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58]، ثم قال: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم:58]، وقوله: (وهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته) يحتمل أن تكون الهاء عائدة على نوح أو على إبراهيم عليه السلام.(54/6)
تفسير قوله تعالى: (وزكريا ويحيى فضلنا على العالمين)
ثم قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:85 - 86].
اعلم أن المقصود من هذه الآيات وما قبلها وما يلحقها تعديد نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد ودحض الشرك، فذكر تعالى أولاً أنه رفع درجته بإيتائه الحجة على قومه وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزاً في الدنيا حسباً ونسباً، أصلاً وفرعاً؛ أصلاً لأنه تولد من نوح أول المرسلين برسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة أنبياء البشر، ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في قوله: (ومن ذريته) يعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن مساق اللفظ لبيان شئونه العظيمة، فأكثر المفسرين على أن الهاء تعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن سياق الآيات قبلها وبعدها هو في بيان رفعة شأن ومنزلة خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولأن مساق النظم لبيان شئونه العظيمة، فكأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك؛ إذ هدينا من ذريته داود وسليمان إلى آخره.
فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات، وذكر نوح عليه السلام لأن إبراهيم أحد أولاده، وكونه أحد أولاده يكون هذا من موجبات رفعته، وهذا حتى يبين الله سبحانه وتعالى رفعة شأن إبراهيم عليه السلام أصلاً وفرعاً، فذكر نوح ليبين رفعة أصله، وأنه من ذرية نوح عليه السلام.
والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين، وإقامة الحجة على المشركين ومحاجتهم؛ لأنه يريد أن يلزمهم، يعني: أنتم -أيها المشركون، أو أيها العرب- تنتمون إلى إبراهيم عليه السلام، وتنتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو إبراهيم عليه السلام الذي كان على خلاف ما أنتم عليه من اتخاذ الأنداد والشركاء، ولا يقال: إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه، فإن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل العمَّ أباً، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} [البقرة:133]، مع أن إسماعيل عم يعقوب، لكنه دخل في آبائه تغليباً.
وقال محيي السنة الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (ومن ذريته) أي: ذرية نوح عليه السلام، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس، وكان من الأسباط في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.
وقال: إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم وخرج معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم.
ومن قال: الضمير يعود إلى إبراهيم يقدر الكلام: (ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان هدينا)، لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم، ولذلك قاسم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على قوله تعالى: (نوحاً هدينا) من عطف الجملة على الجملة، فكأن إدخال لوط هو على سبيل التغليب، أي: أنه من ذرية أخيه، فذكر على سبيل التغليب؛ لأن من ذكر من الأنبياء هم من ذريته عليه السلام.
وبالجملة فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون في هذا تطرية في المدح لإبراهيم عليه السلام بالعود إليه مرةً بعد أخرى.
قال الحافظ ابن كثير في ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم: هذا فيه دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى لا أب له، ومع ذلك ذكر أنه من ذرية إبراهيم أو نوح، ولا تعارض.
فدل هذا على دخول ذرية البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليها السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، هل تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام (ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ: (يحيى وعيسى)؟! قال: بلى.
قال: أليس -يعني: عيسى- من ذرية إبراهيم وليس له أب؟! قال: صدقت.
فما ثمرة هذه المسألة؟ ثمرتها أن ذرية الرجل يدخل فيها بناته، فإذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف على بنيه دون ذريته فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، أي: أولاده الذكور وأولاد أولاده بنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، بما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) فسماه ابناً، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون: هذا تجوز.
وعلى أي الأحوال فالمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية وآية المباهلة.
وآية المباهلة هي قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الحسن والحسين ليطبق قوله تعالى: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فدل على أنه اعتبر الحسن والحسين -مع أنهما من ذرية بنته فاطمة عليها السلام- من أبنائه، فهذا -أيضاً- يؤيد ذلك.
والقائل بهذا الكلام الذي ذكرناه استدل بهذه الآية هنا، وهو ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح، وهو لا يمت إليهما إلا من طريق الأم؛ لأنه لا أب له، وكذلك في آية المباهلة، حيث قال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فجمع الحسن والحسين بعد ما نزلت هذه الآية، إلا إذا قيل: إن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن أولاد بنته هم من ذريته.
ولم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، كما هو ظاهر من الآية هنا، فإنه تعالى قال: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)) ولم يقل: وإسماعيل.
وإنما ذكر إسماعيل بعد ذلك في قوله: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا))، وإنما أخر ذكره لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم، ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وآله وسلم.
وإبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء.
واعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنهم أصول الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً.
فذكر في أول السياق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، أعني نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأن هؤلاء هم أصول الأنبياء، ولا شك في أن نوحاً أصل هذه الأصول كلها، وإبراهيم خرج منه هؤلاء الأنبياء، خاصة أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم الأكثرون، والسياق فيه الامتنان على إبراهيم بكثرة الأنبياء في ذريته، وهذا إنما أتى من إسحاق ويعقوب وذريتهما.
ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان، فبعد النبوة هناك مرتبة الملك والقدرة والسلطان، وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً، فلذلك قال تبارك وتعالى بعد ذلك: (وسليمان وأيوب) إلى آخره.
ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام، ومن المراتب مرتبة الصبر على الشدة بجانب الملك والسلطان، واجتمعتا في يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة.
ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليه السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر.
ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط، فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقد استدل بقوله تعالى: ((وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)) من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود من سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك، فاستدل بهذه الآية (وكلاً فضلنا على العالمين)، من قال بأن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن كلمة (العالمين) تشمل الملائكة.
وقوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا) ذكر الله سبحانه وتعالى نعمة الهداية في سياق تعديد نعمه على إبراهيم عليه السلام بشرف أصوله وبشرف فروعه؛ لأن الولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهدياً، فامتن عليه بذرية مهدية، أما إذا كانت الذرية غير مهدية فلا تعد نعمة، فأعظم النعمة أن تكون الذرية مهدية، فلذلك وصفهم بقوله: (كلاً هدينا).(54/7)