تفسير سورة الفاتحة(1/1)
مقدمة في فضل تعلم القرآن وتعليمه ومكانة أهله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قد صح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعطي القرآن الكريم اهتماماً عظيماً جداً، وعلى هذا ربى أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ومن مظاهر هذا الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى: أن إقراء القرآن وتحفيظ القرآن كان أول ما عمد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إبلاغ دعوته الكبرى، فكان مبعوثوه إلى مختلف الجهات أول ما يقومون بإقراء الناس القرآن.
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ عمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كتاباً أمره فيه بأشياء منها: أن يعلم الناس القرآن ويفقههم فيه كما جاء في سيرة ابن هشام.
وروى البخاري عن أبي إسحاق عن البراء قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا ويحفظاننا القرآن.
وكان مصعب رضي الله تعالى عنه يسمى: المقرئ، يعني: الذي يقرئ الناس القرآن ويعلمهم كتاب الله تبارك وتعالى.
وكان الرجل من المسلمين إذا هاجر من المدينة دفعه النبي صلى عليه وآله وسلم إلى رجل من الحفظة ليعلمه القرآن.
ولما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ثم أراد الرجوع إلى المدينة استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقرئهم القرآن ويفقههم في دينهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة، فبعث معهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء) إلى آخر الحديث كما هو في صحيح مسلم، وفيه ذكر غدر هؤلاء القوم بالقراء، حيث قتلوهم رضي الله تعالى عنهم.
وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإكرام أهل القرآن إكراماً خاصاً ومتميزاً، حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم سماهم اسماً ينبض بأعظم المعاني، حيث سمى أصحاب القرآن وأهل القرآن: أهل الله وخاصته، كما رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي من حديث أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يميز بين الناس ويرتبهم ترتيباً يخضع لحفظ كل منهم من القرآن الكريم، فمثلاً: في إمامة الصلاة يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، حتى عند دفن الموتى كان يقدم أكثرهم قرآناً، وعند اختيار أمير على مجموعة من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم اختار ذلك الصحابي الذي كان يحفظ سورة البقرة وقال: (أنت أميرهم).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله -يعني: من علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقصد) رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قوله: (وحامل القرآن) يعني: وإكرام حامل القرآن.
قوله: (غير الغالي فيه) يعني: الذي لا يغلو في تعامله مع القرآن، حتى يضيع غير ذلك من الواجبات عليه.
قوله: (والجافي عنه) وهو البعيد عن القرآن الهاجر للقرآن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فدل على أن أشرف الوظائف الانشغال بتعليم القرآن وتعلمه؛ ومن أجل هذا الحديث قعد الإمام الجليل أبو عبد الرحمن السلمي أربعين عاماً يقرئ الناس القرآن بجامع الكوفة مع جلالة قدره وكثرة علمه.
وسئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى أيهما أفضل الجهاد أم تعليم القرآن؟ فرجح تعليم القرآن في الثواب والفضل على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وعن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه -كما في الحديث الذي رواه الحاكم)، والله أعلم بصحته.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآناً، فإن كانوا في القراءة واحداً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحداً فأفقههم فقهاً، فإن كانوا في الفقه واحداً فأكبرهم سناً)، فهذا فيه رد على بعض الناس الذين حينما يختارون إمامهم في الصلاة يقدمون السن على ما عداه من الاعتبارات، وينبغي التقديم على الترتيب الذي دلنا عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآناً)، وهذا في حالة عدم وجود إمام راتب للمسجد.
وكان القراء أصحاب مجلس عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه وأصحاب مشاورته.
ففضل الاشتغال بالقرآن الكريم لا يدانيه فضل، وكل من انتسب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عامة، وإلى الدعوة السلفية بصفة خاصة، فينبغي أن يتميز باهتمامه بالقرآن العظيم، ووجود علاقة خاصة بكلام الله عز وجل.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
وقد ثبت في فضيلة حفظ كتاب الله عز وجل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقال لصحاب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
ومما يرغب في حفظ القرآن الكريم كثرة الأحاديث في فضل ذلك، ومنها: أن الله تبارك وتعالى لا يحرق أو لا يعذب بالنار صدراً هو وعاء للقرآن، فإن ضم القلب كلام الله تبارك وتعالى فيرجى من رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعذب بالنار هذا القلب الذي وعى القرآن وتشرف به، فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وجاء في بعض التفاسير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) أن الإنسان إذا نال شرف القرآن فعليه أن يستغني به عما عداه، عليه ألا ينزل إلى مرتبة التنافس مع الناس في الدنيا، وألا يذل نفسه وقد حمل القرآن الكريم، وأن يكون عزيزاً، وهذا على أحد أوجه تفسير الحديث.
فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، ويكفي أنك إذا شرفت بنيل إجازة من القراء المشايخ فقد نلت شرفاً عظيماً جداً لا يدانيه شرف، ويكفي أنك ستكون في سلسلة تظل تتدرج من شيخك إلى شيخ شيخك، إلى التابعين، إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى رب العزة، فكأنه حبل طرفه عندك والطرف الآخر عند الله عز وجل، فهل يعلم أحد شرف ونسب أعظم من هذا النسب؟! طرف سلسلة الإسناد تبدأ به وتنتهي بالله عز وجل! فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وشرف التفقه فيه فوق كل شرف، ألا ترى أنه لا يصد واحداً من أهل القرآن عن إمامة الناس في الصلاة، حتى لو كان أعرابياً أو عبداً مملوكاً أو حتى ولد زنا على قول الإمام أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني.
إذاً: شرف القرآن يرفع عنه كل وضيعة، ويؤهله لإمامة الصلاة التي هي من الوظائف الشرعية الشريفة.
كذلك القيام على خدمة المصحف الشريف وتعليمه للناس هو فخر الفاخرين، وشرف من يطلب الشرف، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وفي الحقيقة نحن مقصرون تقصيراً شديداً بالنسبة للاهتمام بتحفيظ القرآن ومدارسته، وقد قال بعض السلف: عجبت لمن لم يحفظ القرآن ولا يعلم تأويله كيف يلتذ بتلاوته؟! أي: عجبت ممن يقرأ القرآن وهو لا يعرف تفسيره كيف يلتذ بتلاوته؟!(1/2)
الفضائل التي اجتمعت للقرآن الكريم
الاشتغال بمعاني القرآن وتفسير القرآن، والاشتغال بتلاوته وحفظه وتجويده ومدارسته أمر مهم، ونحن على أعتاب هذا الشهر الكريم المبارك شهر رمضان، الذي أراد الله تبارك وتعالى أن يشرف هذا الشهر العظيم بربطه ربطاً وثيقاً بالقرآن، فقال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فاجتمع لهذا القرآن الشرف من كل الوجوه: شرف المكان، فقد أنزل في أشرف بقاع الأرض وهي مكة المكرمة والمدينة النبوية.
شرف النبي، فقد أنزل إلى أشرف نبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
شرف اللغة، فقد نزل باللغة العربية التي هي لغة أهل الجنة.
وقد نزل به أشرف الملائكة وهو جبريل عليه السلام.
وهو لأشرف أمة وهي أمة الإسلام، وأمة التوحيد.
ونزل في أشرف شهر، وهو شهر رمضان.
ونزل في أشرف ليلة وهي: ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1 - 2].
فاجتمع للقرآن العظيم هذا الشرف العظيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أصحابه من بعده، ثم السلف الصالح من بعدهم إذا دخل شهر رمضان يزيدون من الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى، حتى كان بعض السلف كـ سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك كل شيء من العلم، وانشغل فقط بتلاوة القرآن الكريم وتدبره.(1/3)
الطريقة المثلى لحفظ القرآن وفهم معانيه
نبدأ بتفسير القرآن تيمناً بهذا الشهر الكريم، واستدراكاً لما نحن مقصرون فيه بالفعل، وهذه حقيقة لا تنكر، وللأسف الشديد أن بعض أهل البدع عندهم اهتمام بالقرآن الكريم حفظاً ومدارسة وتلاوة أكثر منا مع ما هم عليه من المخالفة للسنة، ونحن أولى بالقرآن منهم، فعلينا أن نستدرك ونصحح التقصير الواقع منا في حق كتاب الله تبارك وتعالى.
فمن أجل ذلك نحاول أن نجتمع على هذه السنة الحسنة، وأن نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في محاولة لتنظيم موضوع حفظ القرآن بالنسبة للإخوة الحضور إن شاء الله تبارك وتعالى، وقد تم اختيار كتاب (قرة العينين)، وهو حاشية القاضي محمد كنعان على تفسير الجلالين، وسنتكلم إن شاء الله على هذا التفسير بالتفصيل، على أساس أننا نجمع بين حفظ القرآن ودراسة التفسير دراسة مختصرة ومبسطة.
وكثير من إخواننا الحضور قد حفظوا القرآن ولله الحمد، ومن الله عليهم بذلك، وحتى تكون لهم فضيلة أيضاً فإنهم يشاركوننا في المراجعة، وذلك بدراسة التفسير.
ولن تكون الجرعة كبيرة، حتى نعين أكبر قدر من الإخوة مهما تفاوتت ظروفهم وإمكاناتهم في أن نكون معاً في قافلة واحدة بإذن الله تبارك وتعالى، والمجال مفتوح لمن أراد أن يسبق، فيعطى سورة أخرى أو في نفس السورة بمعدل أكبر حسب ظروفه، لكن المعدل الذي سنجتهد إن شاء الله في حفظه هو ربع حزب في كل أسبوع، وأعتقد أن هذا أقل ما ينبغي، فإذا حفظنا بمعدل ربع حزب في كل أسبوع فإن شاء الله بعد أربع إلى خمس سنوات يكون قد حفظ الإنسان القرآن كله.
وقد يستبعد بعض الناس الزمن ويقول: خمس سنوات أو أربع سنوات هذا كثير! فنقول: ربما حاول شخص منذ عشر سنوات وهو إلى الآن لم يفعل شيئاً يذكر، ومعلوم أن الأيام تجري والزمان يجري، وطالب العلم يستثنى من كراهة طول الأمل، بل يستحب لطالب العلم طول الأمل؛ لأنه لولا طول الأمل لما أقدم أحد على حفظ القرآن، ولا على حفظ كتب السنة، ولا على طلب العلم الشرعي الشريف، فطول الأمل يباح لطالب العلم؛ من أجل تحصيل الفضائل، وتحصيل هذه العلوم العظيمة.
نرجو من الإخوة ألا يخيبوا ظننا فيهم، فكل واحد لا يبعد نفسه عن هذه القافلة إن شاء الله تبارك وتعالى.(1/4)
مميزات تفسير الجلالين وخصائصه
إن المتأمل في تفسير الجلالين -إذا كان على علم بالتفسير ويراجع كتب التفسير- يجد أن فيه مميزات عظيمة جداً، فما وضعت فيه الكلمة إلا بحساب دقيق على وجازته، فكل كلمة فيه موضوعة نتيجة اختيار ودراسة وتحقيق وتمحيص، والكتاب يجمع كثيراً جداً من المميزات التي سنلمسها بأنفسنا.
لكن كتاب تفسير الجلالين لا يستطيع أحد أن ينتزع منه الفائدة المرجوة إلا إذا درسه على غيره ممن يستطيع أن يوضح له سبب وجود هذه الكلمة بالذات دون غيرها في هذا الموضع، فربما كثير من الناس يقرءون فيه لوحدهم دون أن يكون لهم علم بالتفسير من قبل فيشعر أحدهم أنه كلام عادي، يعني: لا فائدة منه، والحقيقة بخلاف ذلك، ونحن لا نريد أن نتوسع في التفسير، بحيث إننا لا نزيد في التفسير على ربع حزب بحيث يواكب التفسير الحفظ.
تفسير الجلالين شمل كثيراً جداً من الفوائد على وجازته، ومن أجل أن ننهي تفسيراً كاملاً للقرآن في هذا الوقت الوجيز، فإننا سنأخذ في الأسبوع ربع حزب، والكتب كثيرة جداً في التفسير، لكن العبرة بأقل حجم وأكثر فوائد.
فمن مميزات تفسير الجلالين أن فيه تفسير المفردات الذي هو علم غريب القرآن، فعلم غريب القرآن موجود ضمن هذا التفسير بسهولة ويسر.
تجد أسباب النزول.
تجد القراءات المشهورة.
تجد الناسخ والمنسوخ.
تجد الإشارة إلى أحكام القرآن.
تجد الأحاديث المرفوعة التي فسر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض الآيات.
تجد الإعراب.
تجد كثيراً جداً من الفوائد.
وفي مقابل ذلك ستجد بعض المؤاخذات وهي تنحصر في أمور محدودة: الأمر الأول: تأويل بعض صفات الله تبارك وتعالى.
الأمر الثاني: الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة.
الأمر الثالث: الإسرائيليات.
من أجل ذلك قام القاضي محمد كنعان بعمل حاشية سماها: (قرة العينين على تفسير الجلالين)، فإن تيسرت لكم فبها ونعمت، وإن لم تتيسر فتفسير الجلالين أشهر تفسير موجود على الإطلاق، وهذا سر من أسرار اختيارنا له، وهناك بعض طبعات المصاحف الشريفة معها تفسير الجلالين، فما نذكر من فوائد مزيدة يمكن تقييدها بقلم في الهوامش.
وأرجو من الإخوة كما أنهم يجتهدون في حفظ القرآن يجتهدوا أيضاً في حفظ تفسير الجلالين بجانب حفظ القرآن، فإن هذا مما يعين على فهم التفسير.(1/5)
مقدمات متعلقة بتفسير الجلالين(1/6)
مقدمة محقق ومراجع تفسير الجلالين
يقول القاضي كنعان: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحمده حمداً يوازي نعمه، ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن تفسير الجلالين من أوجز التفاسير وأدقها عبارة، قال عنه في كشف الظنون: وهو مع كونه صغير الحجم كبير المعنى؛ لأنه لب لباب التفسير-يعني: خلاصة خلاصة التفاسير- لذلك اعتبره العلماء تفسيراً للمنتهين من طلبة العلم لا للمبتدئين منهم، ولا عجب في ذلك؛ فلقد تضمن تفسيراً للآيات بعبارات مختصرة موجزة اكتفى في كثير منها بالتلميح والإشارة، واعتنى مؤلفاه رحمهما الله تعالى اعتناءً كبيراً؛ ببيان وجوه القراءات والإعراب، حتى بات هذا التفسير خلاصة من خلاصات العلوم، لا يستفيد منه الفائدة المرجوة، ولا يدرك قيمته سوى طلبة العلم بين أيدي العلماء.
ولكنه مع ما فيه من فوائد لم يخل من إسرائيليات وروايات لا أصل لها، وأحاديث ضعيفة الإسناد أو موضوعة، نقلت إلى الجلالين من دون بيان ولا تنبيه، فأساءت هذه القصص والأخبار الباطلة إلى محاسن هذا التفسير ومكانته.
ومع ذلك فقد انتشر انتشاراً واسعاً؛ بسبب طباعته على هوامش المصحف الشريف، الأمر الذي دفع أكثر الراغبين في الحصول على نسخة من كتاب الله تعالى الذي بهامشه تفسير الجلالين، فتهافتت مؤسسات الطباعة والنشر على طباعته وتوزيعه بأعداد كبيرة لا تحصى، من دون تنبيه أو انتباه إلى ما فيه.
فلم نجد من بين دور النشر كافة من اعتنى بهذا التفسير كما هو الواجب حتى الآن، لا من حيث المعنى وذلك ببيان ما فيه من إسرائيليات وتفسيرات غير دقيقة؛ ليعرف القارئ وجه الصواب فلا يقع في اعتقاد باطل، أو يفهم معنىً غير صحيح لآية من كتاب الله عز وجل، ولا من حيث النص، وذلك بتحقيقه وضبطه وتحرير عبارة مؤلفيه الجلالين رحمهما الله تعالى، والغريب في الأمر أن ينتشر هذا التفسير كل هذا الانتشار، وتسمح السلطات في جميع بلاد المسلمين بتداوله، مع ما فيه من إسرائيليات وقصص باطلة وأخبار موضوعة! ثم يقول القاضي كنعان: لذلك رأيت واجباً علي بعد أن اطلعت على ما في تفسير الجلالين من فوائد مجهولة وغامضة، وما فيه بالمقابل من إسرائيليات وقصص وأقوال غير صحيحة، أن أقوم بمراجعته وقراءته على مهل، فأقبلت على العمل فيه بقراءة دقيقة وتحقيق هادئ، فتوقفت عند كل جملة غير مستقيمة المعنى فصوبتها، أو نقل غير محقق فبينت ما فيه ووجهته.(1/7)
أسباب عدم تفسير المحقق للقرآن وتوجهه لتحقيق الجلالين
بعض الناس قد يقول: لماذا بذل المحقق هذا الجهد الجليل في تصحيح ومراجعة تفسير الجلالين؟ فهلا وضع تفسيراً مستقلاً من البداية؟! قال كنعان: لم أرغب في ذلك لسببين: أولهما: قصور باعنا في هذا الفن، وتهيبنا الخوض في لجته؛ خوفاً من الوقوع في عثرات خطيرة كما فعل بعض المعاصرين الذين استهونوا هذا الشأن، فشت بهم الفكر، وعثرت أقلامهم عثرات جسام لا عذر لهم فيها، ولا مبرر يعفيهم من عقابها وعواقبها.
فهو لا يرى من قدر نفسه أنه يستطيع أن يستبد بتصنيف كتاب مستقل في تفسير كلام الله تبارك وتعالى كما سهل ذلك على غيره ممن تسنم هذه الذروة دون أن يتأهل لها، وبالتالي تخبط وصدر منه تعد على كلام الله، وعلى معاني كتاب الله تبارك وتعالى.
يقول كنعان: من ذلك قول أحدهم في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]: ولكنه رغم ذلك ترك للناس حرية اختيار الإله الذي يرضونه مصدراً لنظام حياتهم! انظر كيف فهم معنى: (لا إكراه في الدين)! فجعل معناها أن الله سبحانه وتعالى ترك للناس حرية اختيار الإله الذي يرضونه مصدراًَ لنظام حياتهم، بل ترك لهم حرية الكفر والإلحاد في الله تبارك وتعالى، ولكل إنسان أن يختار الإله الذي يعجبه! هذا الكلام فيه هدم للإسلام، وكل دين الإسلام يتحطم بمثل هذا التفسير المنحرف، وهذا عدوان على كتاب الله وليس تفسيراً لكتاب الله تبارك وتعالى.
هذا نموذج من نماذج التحريف الشديد في كلام الله، ومثله ما حصل من بعض المعاصرين أيضاً مثلاً في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] يقول: كل هؤلاء يمكن أن يدخلوا الجنة! واستدل بهذه الآية على أن الأديان كلها سواسية، فما دام أن اليهودي أو النصراني يؤمن بالله واليوم الآخر فقد يدخل الجنة! ثم يقول كنعان: وكأنه هو المفسر الذي لم يفسر قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال:39].
(فتنة) يعني: شرك، والمعنى حتى لا يبقى في الأرض شرك.
وإعراب (فتنة) فاعل، ولفظة (تكون) هنا تامة وليست ناقصة أو ناسخة، ففتنة فاعل لتكون.
ومعناها: أي حاربوا المشركين حتى لا يبقى على وجه الأرض شرك، وهذا هو الهدف الأسمى من رسالة الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
يقول أيضاً: ومن هذه النماذج تفسير أحدهم الأكل من الشجرة في قوله تعالى: {وَكُلا مِنْهَا} [البقرة:35] بقوله: إن الأكل هو العلاقة الزوجية بين آدم وحواء عليهما السلام من وطء وغيره، فهذا هو المقصود بالأكل من الشجرة! إلى غير ذلك من الأقوال التي قيلت بدافع من التسرع والعجلة وعدم التحقيق، وأحياناً بدافع التشوف إلى التجديد، وإنه لمنزلق خطير.
يقول: فلم أشأ أن أنشئ تفسيراً جديداً؛ لأن تفاسير القرآن الكريم كثيرة جداً ولله الحمد، وقد أخذ بعضها عن بعض، بل الذي ينقصنا هو القراءة الدقيقة الواعية لتلك التفاسير، والرجوع في فهم النص القرآني إلى مصادره الموثوقة؛ لكي لا يقول أحد في كتاب الله برأيه.
إذاً: هذا هو السبب الأول الذي منع المحقق من تصنيف مصنف مستقل في التفسير.
السبب الثاني: يقول: إن أي تفسير جديد لم يحقق الغاية التي نسعى إليها ألا وهي تبصير المسلمين بكتاب الله تعالى، ومساعدتهم على فهم آياته، وتنبيههم إلى ما في هذا التفسير وأمثاله من روايات وأقوال لا يجوز اعتقاد مضمونها؛ لأن التفسير الجديد لن ينتشر بين أيدي الناس على النحو الذي بلغه تفسير الجلالين، من حيث الشهرة وثقة الناس فيه.
فمهما ألف معاصر في التفسير فهل سيقبل عليه الناس كإقبالهم على تفسير الجلالين؟ لا، إذاً نستثمر شهرة هذا التفسير، وإقبال الناس عليه، بأن نقوم بتصحيحه، فنستفيد مما فيه، ونتجنب ما فيه من الأخطاء.
قال كنعان: فلدينا عدد من التفاسير الحديثة لا يعرفها أكثر الناس، فيكون إصلاح هذا التفسير الواسع الانتشار مع إبقائه على نحو ما هو عليه الآن بهامش المصحف الشريف أكثر فائدة وأعم نفعاً، بل نراه واجباً وجوب كفاية، لذلك قمنا بهذا الواجب بفضل الله تعالى وتوفيقه.(1/8)
اسم تحقيق تفسير الجلالين ومعناه
قال كنعان: تنامى هذا العمل وكبر حتى صار جزءاً يتكامل مع التفسير، فسميناه: قرة العينين على تفسير الجلالين.
ومن المناسب أن نعرف ما معنى قرة العينين؟ قال: قولهم: أقر الله عينه، القر ضد الحر.
يعني: القر هو البرد، ومعنى أقر الله عينه يعني: أبرد الله دمعته؛ لأن العرب عندهم أن الدموع نوعان: دموع ساخنة.
ودموع باردة.
فما الفرق بينهما؟ دموع الفرح تكون باردة، ودموع الحزن تكون حارة ساخنة.
يقول هنا: أقر الله عينه، يعني: أبرد الله دمعته، فهذا التعبير مقصود به أن يكون مسروراً، حتى إنه من شدة سروره يبكي دموعاً باردة.
وقال الأصمعي: أقر الله عينه، أي: أبرد الله دمعته؛ لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، وأقر: مشتق من القرور، والقرور هو الماء البارد، وقال غير الأصمعي: معنى أقر الله عينك أي: صادفت ما يرضيك فتقر عينك من النظر إليه.
وقال أبو طالب: معنى أقر الله عينه، يعني: أنام الله عينه، والمعنى: صادف سروراً أذهب سهره فنام.
وقال عمرو بن كلثوم: بيوم كريهة ضرباً وطعناً أقر به مواليك العيونا يعني: نامت عيونهم لما ظفروا بما أرادوا منه، هذا معنى: قرة العينين.(1/9)
ترجمة مؤلفي تفسير الجلالين وتحديد ما فسره كل منهما
قولنا: تفسير الجلالين، من هما الجلالان؟ ومن الأسبق منهما؟ الجلالان كلاهما من مصر.
لقد ألف هذا التفسير علمان مشهوران من أعلام الإسلام كل واحد من هذين الإمامين الجليلين لقبه جلال الدين، وهما: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد المحلي، نسبة إلى المحلة الكبرى مدينة في مصر، المتوفى عام 864 هجرية -يعني: سنة 1459 ميلادية، في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وفي النصف الثامن من القرن التاسع الهجري - والإمام المحلي هو الذي فسر فاتحة الكتاب وحدها، ثم من أول سورة الكهف حتى آخر سورة الناس.
أما الإمام الآخر فهو الإمام أبو الفضل عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر الأسيوطي أو السيوطي، بضم السين، نسبة إلى أسيوط أو سيوط بضم الهمزة والسين، إحدى مدن الجنوب في مصر، وتعرف الآن بأسيوط بفتح الهمزة، المتوفى سنة 911 هجرية- الموافق سنة 1505 ميلادية- وهو الذي فسر التتمة، فكمل ما لم يفسره الإمام المحلي من البقرة إلى الإسراء، وقد وهم صاحب (كشف الظنون) في نسبة هذا القسم إلى الجلال المحلي، فكثير من الناس يظن ما دام أن هذا تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، فيتوهم أن المحلي فسر من الفاتحة إلى الإسراء، والسيوطي كمل؛ لأن: المحلي فسر الفاتحة، فظن أنه واصل التفسير إلى الإسراء، لكن المحلي فسر الفاتحة فقط ثم فسر من الكهف إلى الناس، أما السيوطي فمن البقرة إلى الإسراء.
والإمام السيوطي رحمه الله تعالى وضع هذا التفسير وعمره اثنتان وعشرون سنة أو أقل منها بشهور، وذلك بعد وفاة الجلال المحلي بست سنين، وكتب كل هذا التفسير العظيم والدقيق دقة متناهية في أربعين يوماً! قال كنعان: لم يضع الجلالان رحمهما لله تعالى لهذا التفسير اسماً، بل عرف بين العلماء بتفسير الجلالين أو بالجلالين، وقد اعتمد الجلالان في تفسيرهما هذا على عدد من التفاسير، أشار إليها الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة، عند ترجمته للإمام موفق الدين الموصلي، فقال: وله التفسير الكبير والصغير جود فيه الإعراب وحرر أنواع الوقوف، وأرسل منه نسخة إلى مكة والمدينة والقدس، قلت: وعليه اعتمد الشيخ جلال الدين المحلي في تفسيره، واعتمدت عليه أنا في تكملته مع الوجيز وتفسير البيضاوي وابن كثير.
ولم يكتب الجلال المحلي مقدمة ولا خاتمة للقسم الذي فسره، أما الجلال السيوطي فقد كتب مقدمة مختصرة في أول سورة البقرة، وكتب خاتمة للقسم الذي فسره، وقد نقلناها من حيث كانت في آخر تفسير سورة الإسراء إلى هنا في هذه المقدمة لإفساح المجال ثمة للتفسير.
قال السيوطي في خاتمة ما فسره: هذا آخر ما كملت به تفسير القرآن الكريم الذي ألفه الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق جلال الدين المحلي الشافعي رضي الله عنه، وقد أفرغت فيه جهدي وبذلت فكري فيه، في نفائس أراها إن شاء الله تعالى تجزي، وألفته في مدة قدر ميعاد الكليم -أي: في أربعين يوماً-، وجعلته وسيلة للفوز بجنات النعيم، وهو في الحقيقة مستفاد من الكتاب المكمل، وعليه في الآي المتشابهة الاعتماد والمعول، رحم الله امرأً نظر بعين الإنصاف إليه، ووقف فيه على خطأ فأطلعني عليه، وقد قلت: حمدت الله ربي إذ هداني لما أديت مع عجزي وضعفي فمن لي بالخطا فأرد عنه ومن لي بالقبول ولو بحرف.
قوله: (فمن لي بالخطأ فأرد عنه) يعني: من يبحث لي عن خطأ فينصحني وأرجع عنه.
قوله: (ومن لي بالقبول ولو بحرف) يعني: من يضمن لي أن يقبل الله مني حتى ولو حرفاً واحداً مما كتبت.
ثم قال: هذا لم يكن قط في خلدي أن أتعرض لذلك؛ لعلمي بالعجز عن الخوض في هذه المسالك، وعسى الله أن ينفع به نفعاً جماً -وفعلاً نفع الله به نفعاً جماً-، ويفتح به قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صماً، وكأني بمن اعتاد المطولات وقد أضرب عن هذه التكملة وأصلها حتماً -يعني: أن بعض الناس سيعرض عن هذا التفسير؛ لأنه متعود على المطولات، مثل تفسير ابن جرير والقرطبي وغيرها من المطولات، فيصرفه عنه الحجم، دون أن يلتفت إلى المعاني العظيمة المركزة في هذا التفسير- فعدل إلى صريح العناد ولم يتوجه إلى دقائقها فهماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، رزقنا الله به هداية إلى سبيل الحق وتوفيقاً واطلاعاً على دقائق كلماته وتحقيقاً، وجعلنا به من الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.(1/10)
اهتمام العلماء بتفسير الجلالين ومكانته عندهم
لقد حظي تفسير الجلالين باهتمام عظيم جداً من العلماء منذ أن أُلف إلى يومنا هذا، وهذا دليل على مكانته عندهم، ولذلك فقد قام كثير منهم بشرحه وتوضيح دقائقه في مؤلفات وحواشي بلغت بعضها الأربعة مجلدات، وكما أشار كنعان في المقدمة أنه لطلاب العلم المنتهين وليس للمبتدئين، وأن المبتدئ يصعب أن يستقل بفهمه، بل لابد أن يقرأه على شيخ عالم بالتفسير، حتى يقف على حقائقه ودقائقه.
ويكفي أن هذا الكتاب ألفت فيه كثير جداً من الشروح والحواشي، فنذكر هنا بعضها: حاشية للشيخ محمد بن عبد الرحمن العلقمي، سماها (قبس النيرين على تفسير الجلالين).
حاشية للشيخ محمد بن محمد الكرخي، سماها (مجمع البحرين ومطلع البدرين على الجلالين)، في أربعة مجلدات، وله حاشية أخرى صغيرة عليه في مجلدين.
حاشية للحافظ الملا علي القاري، سماها (حاشية الجمالين على الجلالين).
حاشية للشيخ سليمان بن عمر الأزهري، وهي المشهورة بحاشية الجمل، سماها (الفتوحات الإلهية لتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية)، وهي في أربعة مجلدات.
فانظر إلى هذا الكتاب الذي حجمه صغير كيف في أربعة مجلدات أو أكثر! فما معنى هذا؟! وإذا قرأت الشرح تجده أصعب من الأصل، فهذا يدل على أنه فعلاً لب لباب التفسير، وخلاصة خلاصات التفسير.
وتوجد حاشية لتلميذ الشيخ الجمل الصاوي تسمى بحاشية الصاوي على الجلالين، وهي مشهورة هنا في مصر، ألفها الشيخ أحمد بن محمد الصاوي، وقال في مقدمتها: -ولما كان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير، وأجمع على الاعتناء به الجم الغفير من أهل البصائر والتنوير، وجاءني الداعي الإلهي بقراءته فاشتغلت به على حسب عجزي، ووضعت عليه كتابة ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل.
وحاشية الصاوي وحاشية شيخه الجمل من أشهر الحواشي على تفسير الجلالين.
وتوجد حاشية للشيخ سلام الله الدهلوي، سماها (حاشية الكمالين على الجلالين).
وحاشية للشيخ محمد بن صالح آل السعود السبعي الحسنوي المصري في ثلاثة مجلدات.
وحاشية للشيخ سعد الله بن غلام القندهاري، سماها (كشف المحجوبين عن خدي تفسير الجلالين).
وحاشية للشيخ مصطفى الدومي، سماها (ضوء النيرين لفهم تفسير الجلالين).
ثم قال كنعان: وأخيراً كتابنا المختصر الذي سميناه (قرة العينين على تفسير الجلالين).
ثم ذكر في المقدمة كلاماً مفصلاً في منهجه وعمله في هذا التحقيق، وذكر لماذا لم يتوسع ولم يفصل في موضوع التفسير العلمي، وهو الاتجاه الحديث من التفسير للقرآن الذي يسمى: التفسير العلمي! وليس معنى هذا أن ما عداه ليس علمياً، لا، بل التفسير العلمي بمعنى: المعاصر للعلوم الحديثة، كعلوم الطب والتشريح والفضاء وهذه العلوم الطبيعية الحديثة، وهو محاولة لكشف وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وقد طعن القاضي كنعان على هذا المنهج، وهو منهج ربط القرآن بالاكتشافات العلمية التي هي بعد في مرحلة النظرية التي يمكن أن يثبت فشلها إلى غير ذلك من المآخذ.(1/11)
تفسير سورة الفاتحة(1/12)
الأقوال في كون البسملة من الفاتحة أم لا
يقول الإمام جلال الدين المحلي رحمه الله تعالى: [سورة الفاتحة مكية، سبع آيات بالبسملة إن كانت منها، والسابعة (صراط الذين) إلى آخرها، وإن لم تكن منها فالسابعة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) إلى آخرها].
هناك إجماع على أن سورة الفاتحة سبع آيات، لكن الخلاف هل البسملة آية من الفاتحة أم ليست آية منها؟ وخلاصة الكلام في هذا: أنها آية منها في قراءة، وليست آية منها في قراءة أخرى، فعلى القول بأن البسملة آية من الفاتحة فتكون هي الآية الأولى، ثم تكون الآية الأخيرة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] إلى آخر السورة.
وإن لم تكن البسملة آية من الفاتحة، فتكون الآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وتكون الآية السابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
ويقدر قبل البسملة كلمة: أبدأ باسم الله أو أقرأ باسم الله، أو قولوا: باسم الله؛ لتكون مناسبة لقولنا فيما بعد: إياك نعبد، فمعناها: قولوا: (الحمد الله رب العالمين)، (الرحمن الرحيم)، قولوا: (إياك نعبد وإياك نستعين).
فيقدر في أولها (قولوا) ليكون ما قبل (إياك نعبد) مناسباً له؛ لكونها من مقول العباد.(1/13)
مشروعية التعوذ قبل التلاوة وبيان معنى الاستعاذة
يستحب قبل تلاوة القرآن أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فما معنى: أعوذ؟ أي: أستجير بالله دون غيره من سائر خلقه، يعني: أعوذ بالله من الشيطان أن يضرني في ديني أو أن يصدني عن حق يلزمني له.
ومن هو الشيطان؟ الشيطان هو كل متمرد من الجن والإنس، فأي شيء يكون متمرداً من جنس معين يطلق عليه شيطان، لماذا؟ لأن أخلاقه وطباعه وأفعاله تفارق وتشذ عن أخلاق وصفات وأفعال باقي جنسه، ولبعده عن الخير، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]، فدل على أن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين.
ومم اشتقت كلمة شيطان؟ اشتقت من مادة شطن بمعنى: بَعُدَ، يقال: شطنت داري من دارك، يعني: بعدت داري من دارك، ويقول الشاعر: نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها رهين نوىً: يعني: رحل وسافر، وشطون يعني: بعيد، بمعنى أن سعاد رحلت إلى مكان بعيد.
والرهين: فعيل بمعنى: مفعول، كما تقول: كف خضيب أي: مخضوب، ولحية دهين أي: مدهونة، ورجل لعين أي: ملعون، وكذلك الرجيم المقصود به: الملعون المشتوم، فكل مشتوم بقول رديء أو سب يطلق عليه لفظ المرجوم، والرجم هو الرمي بقول أو بفعل، وله شاهد من القرآن وهو قوله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46] يعني: لأرمينك، وهذا من الرمي بالقول.
وسمي الشيطان رجيماً لأن الله طرده من سماواته، ورجمه بالشهب والكواكب.(1/14)
أسماء سورة الفاتحة
سورة الفاتحة لها عدة أسماء منها: أم الكتاب.
السبع المثاني.
الشافية.
الكافية.
الواقية.(1/15)
فضل سورة الفاتحة
يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها -يعني: أم الكتاب-، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته).(1/16)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله)
يقول المفسر رحمه الله تعالى: [الحمد لله جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها، من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، والله علمٌ على المعبود بحق] يعني: كلمة إله تطلق على المعبود سواءً كان معبوداً بحق أم معبوداً بغير حق.
لذلك يطلق على كل ما عبد من دون الله إله، فالشيطان -مثلاً- إله يعبد بدون حق، قال الله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:44].
إذاً: الشيطان يعبد من دون الله بغير حق، والمال إله يعبد من دون الله بغير حق: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، والأصنام آلهة باطلة، وهكذا، فكل ما عبد عموماً مطلقاً فهو إله سواءً في ذلك الذي يعبد بحق أم بغير حق، والله سبحانه وتعالى وحده هو الإله المعبود بحق، لا إله إلا الله، معناها: لا إله حق إلا الله.
(لا) في قوله: لا إله ما إعرابها؟ (لا) نافية للجنس.
فأين خبرها؟ خبرها مقدر تقديره (حق) أي: لا إله حق إلا الله، ولا يجوز أن يقدر خبر (لا) النافية للجنس بكلمة موجود؛ لأنه توجد آلهة باطلة.
وجملة (الحمد لله) المقصود بها الثناء على الله سبحانه وتعالى، من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، والحمد هنا بمعنى: الثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله من صفات الجمال والكمال.(1/17)
تفسير قوله تعالى: (رب العالمين)
قوله تعالى: (رب العالمين) يعني: مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم، العالمين جمع عالم، فكل طائفة من هذه الأمم يطلق عليها عالم، عالم الملائكة، عالم الجن، عالم الإنس، وهكذا، كل هذه العالمين أو العوالم الله سبحانه وتعالى هو خالقها تبارك وتعالى.
مم تشتق كلمة عالم؟ مشتقة من العلامة.
لماذا سميت علامة؟ لأنها علامة على موجدها؛ وهو الله سبحانه وتعالى، فهي دالة عليه تبارك وتعالى.(1/18)
تفسير قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)
قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) أي: ذي الرحمة، وذي إرادة الخير لأهله.
وللفائدة فإن أكبر كتاب توسع في تفسير سورة الفاتحة هو كتاب (مدارج السالكين شرح منازل السائرين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين) للإمام ابن القيم، ففي الجزء الأول منه توسع جداً في تفسير الفاتحة، وعموم الكتاب هو شرح لمعنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ويقع الكتاب في ثلاثة مجلدات كبار.(1/19)
تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)
قوله تعالى: (مالك يوم الدين) هذه قراءة صحيحة عن عاصم وغيره أيضاً، وفي قراءة صحيحة أخرى (ملك يوم الدين).
ما المقصود بالدين هنا؟ الدين هنا المقصود به الجزاء، وهو يوم القيامة.
لماذا خص يوم الدين بأن الله سبحانه وتعالى يملكه، مع أن الله يملك يوم القيامة ويملك أيام الدنيا، فلماذا خص يوم الدين بذلك؟! لأنه لا ملك ظاهر في ذلك اليوم لأحد إلا لله تبارك وتعالى، والدليل من القرآن: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ لا يجيب أحد، فيجيب الله عز وجل نفسه قائلاً: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
أما قوله على القراءة الأخرى: (مالك يوم الدين) فمعناه: أنه مالك الأمر كله في يوم القيامة أو هو الموصوف بذلك دائماً كغافر الذنب، فصح وقوعه صفة لمعرفة.(1/20)
تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: نخصك بالعبادة من توحيد وغيره، فلا نوجه توحيدنا إلا إليك، ونطلب المعونة على العبادة منك وحدك لا من غيرك.(1/21)
تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين)
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] (اهدنا) أي: أرشدنا إلى الصراط المستقيم.
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وصراط إعرابها بدل.
(صراط الذين أنعمت عليهم) أنعم عليهم بالهداية.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} [الفاتحة:7] وهم اليهود.
{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهم النصارى.
فدل على أن الهداية ليست عند اليهود ولا عند النصارى، وإنما هي عند الذين أنعم الله تبارك وتعالى عليهم.
إذاً: هذه فائدة هي: أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى.(1/22)
استحباب قول آمين حين الفراغ من الفاتحة في الصلاة
في حاشية القاضي كنعان: يسن بعد قراءة الفاتحة قول: (آمين) في الصلاة وغيرها.
فمن السنة إذا سمع الإنسان الفاتحة سواءً داخل الصلاة أو غيرها أن يقول: آمين، لماذا؟ لما فيها من الدعاء، وكلمة (آمين) ليست من كلمات القرآن الكريم باتفاق العلماء، وهي اسم فعل طلب أو دعاء، ولا تقل: اسم فعل أمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تقول في حقه: فعل أمر، ولكن تقول: اسم فعل دعاء أو طلب، بمعنى: اللهم استجب! وهي اسم فعل أمر مبني على الفتح.
عن وائل بن حجر الحضرمي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7]، فقال: آمين، يمد بها صوته)، وآمين فيها حركتان فقط للمد الذي في أول الكلمة، وليس ست حركات كما يفعل بعض الناس، فحينما يقول الإمام: (ولا الضالين)، فقولوا: (آمين) وتمد بمقدار حركتين فقط؛ لأنها لو كانت ست حركات في (آمين) لشدد الميم.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).(1/23)
تفسير سورة البقرة [1 - 2](2/1)
مقدمة في تفسير سورة البقرة
يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمداً موافقاً لنعمه، مكافئاً لمزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وجنوده.
وبعد: فهذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي رحمه الله، وتتميم ما فاته، وهو من أول سورة البقرة إلى آخر الإسراء، بتتمة على نمطه، من ذكر ما يفهم به كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، وتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة على وجه لطيف، وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية، فالله نسأل النفع به في الدنيا، وحسن الجزاء عليه في العقبى بمنه وكرمه].(2/2)
أسماء سورة البقرة وآياتها وأحكامها
سورة البقرة جميعها مدنية بلا خلاف، وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية.
أما أسماؤها فتسمى: البقرة، وتسمى فسطاط القرآن؛ لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها، تعلمها عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه بفقهها وما تحتوي عليه من الإيمان والعلم والعمل في اثنتي عشرة سنة، أما ابنه عبد الله فقد تعلمها في ثمان سنين.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: سمعت بعض أشياخي يقول: في سورة البقرة ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر.(2/3)
فضائل سورة البقرة وخصائصها
قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة).
إن الإشارة إلى فضيلة سورة البقرة مما يشجعنا على مزيد الاهتمام، واعلموا أن من تيسر له حفظ سورة البقرة سهل عليه ما عداها من القرآن الكريم، وهذه من خصائص سورة البقرة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً تقرأ فيه سورة البقرة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، واقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما، واقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، تلاحظ التدرج في الحديث، القرآن كله أولاً، ثم الزهراوين، ثم البقرة وحدها، يعني: إما أن تحفظ وتقرأ القرآن كله، وإن كان ولابد دون ذلك فتقرأ الزهراوين البقرة وآل عمران، فإن كنت لا تستطيع فعليك بسورة البقرة.
وقوله: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وجاء في الحديث الآخر: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار) فالقرآن شافع مشفع، أي أن القرآن إذا شفع فيمن يكثر تلاوته أو يحفظه فإن شفاعته لا ترد.
وهناك سورة في القرآن ثلاثون آية، ما زالت تحاج عن صاحبها حتى أدخله الله الجنة، أو حتى غفر الله له، وهي سورة تبارك، فهي المانعة التي تمنع من عذاب القبر.
إذاً: القرآن شفيع لأصحابه الذين تطول صحبتهم وتطول صلتهم بكلام الله تبارك وتعالى.
قوله: (اقرءوا الزهراوين) يعني: المنيرتين، ففيه إعجاز وفيه وفرة الأحكام التي تضمنتها هاتان السورتان الجليلتان.
(اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -سحابتان- أو غيايتان -الغياية ما أظلك من فوقك- أو كأنهما فرقان من طير صواف) (فرقان) الفرق: هو القطعة من الشيء.
يعني: مصطفة.
قوله: (يحاجان عن أصحابهما) يعني: الذين يحفظونهما.
(اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) يعني: السحرة.
قال بعض العلماء: لا يمكنهم حفظها، أي: لا يستطيع الساحر أن يحفظ سورة البقرة، وقال بعض العلماء: المقصود من قوله: (لا تستطيعها البطلة) يعني: لا يستطيع سحر البطلة النفوذ فيمن يقرأ سورة البقرة، فقارئها لا يؤثر فيه سحر السحرة.
وهناك أحاديث كثيرة في فضيلة بعض الآيات من سورة البقرة كآية الكرسي، والآيتين الأخريين من سورة البقرة، نرجئهما إلى وقتهما بإذن الله تبارك وتعالى.(2/4)
تفسير قوله تعالى: (آلم)
قال الله تعالى: {آلم} [البقرة:1]، فسرها الإمام السيوطي رحمه الله تعالى بأصح تفسير وأوجز تفسير، فقال: [الله أعلم بمراده بذلك].
ويقول القاضي كنعان: [ليس لهذه الأحرف المنزلة في أوائل بعض السور معنىً مستقل بالفهم بالنسبة إلينا، بل إنها نزلت متقطعة وتقرأ كذلك، فهي سر الله تعالى في القرآن كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (نؤمن بها ونقرؤها كما نزلت)، ولكن ذلك لا يمنع منا التماس الحكمة من نزولها هكذا، فهي تشير إلى الحروف الهجائية العربية التي بها نزلت آيات القرآن تعجيزاً للعرب؛ لأنهم زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بالقرآن من عنده، وهم يعلمون أنه أمي لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، فلو كان زعمهم هذا صحيحاً لكانوا هم أقدر على الإتيان بمثله، بل بأحسن منه؛ لأنهم أهل اللغة، لكنهم عجزوا وبهتوا مع قيام التحدي إلى الآن، ولو استطاعوا لفعلوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]]، فهذا خلاصة الكلام.
وبعض العلماء جمع جميع الحروف المقطعة في أوائل السور، وحذف المكرر منها، يعني: جمع (الم) مع (حم) مع (عسق) مع (طه)، ثم حذف المكرر ثم كون منها جملة، وهذه الجملة التي ذكرها هي: (نص حكيم قاطع له سر)، ولكن هذا في مجال الحجاج العلمي لا يعتبر دليلاً علمياً.
وبعض العلماء يقول: هذه أسماء للسور، وبعضهم يقول: هي من أسماء الله تبارك وتعالى، لكن اختيار الإمام السيوطي رحمه الله تعالى هنا هو أفضل ما يقال: (الله أعلم بمراده بذلك)، لكن كما ذكرنا بعض العلماء أشار إلى أن هذه إشارة إلى إعجاز القرآن، واستدلوا بأن أغلب سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة يليها مباشرة ذكر القرآن الكريم، مثل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، وهكذا.(2/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)
قال الله تعالى: (ذلك الكتاب) يعني: هذا الكتاب وهو القرآن الكريم، فيستعمل (ذلك) للإشارة للبعيد، ويستعمل (هذا) في الإشارة إلى القريب، فالقرآن هنا قريب، فما السبب في أن الله سبحانه وتعالى قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ)، فأشار إليه بالبعيد؟ السبب أن (ذلك) تساوي (هذا)، ومعهود في لغة العرب التقارب بين هذا وذلك، يعني: أنه يذكر ذلك في موضع هذا وهذا في موضع ذلك، مثلاً قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة:6]، ذلك بمعنى: هذا، كذلك في قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:83]، (تلك) بمعنى: هذه، كذلك قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:252] بمعنى: هذه؛ لأنها قريبة.
كذلك العكس يستعمل هذا مكان ذلك كقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تنبئه في ركوب بعض الصحابة البحر المجاهدين في سبيل الله: (يركبون ثبج هذا البحر) والمقصود: ذلك البحر، فهنا استعمل (هذا) مكان (ذلك).
إذاً: قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] يعني: هذا الكتاب.
ومن قال: (ذلك) إشارة للبعيد على الأصل قالوا: هذه إشارة إلى بعد درجته وعلو منزلته في الهداية والشرف.(2/6)
المقصود بالكتاب في قوله: (ذلك الكتاب)
قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، ما هو الكتاب؟ هو القرآن الكريم، ولا يصح أبداً أن يقال: إن كلمة (الكتاب) هنا مشار بها إلى التوراة أو إلى الإنجيل، فهذا لا يقبل بحال من الأحوال، بل هي إشارة إلى القرآن الكريم.
(ذلك) أي: هذا الكتاب، يعني: الذي يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم.(2/7)
معنى قوله: (لا ريب فيه)
قوله تعالى: (لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه، ريب مصدر رابني، والريب: هو قلق النفس واضطرابها، وقد تستعمل كلمة ريب في الشك مطلقاً، أو مع تهمة، كحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فمعنى قوله: (لا ريب فيه) يعني: لا ريب ولا شك في أنه نزل من عند الله تبارك وتعالى.
والعرب مع بلوغهم النهاية في الفصاحة عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه، وقد بلغت حجته في الظهور إلى درجة لا يمكن للعاقل الذي يعي ويفهم أن يرتاب في القرآن، لكن العقل الذي فيه آفة وفيه مرض فهذا هو الذي يرتاب؛ لأن الواقع أن الكفار يرتابون في القرآن.
فالمقصود أن العاقل الذي يعي ويفهم آيات الله ويتدبر لا يقع أبداً في هذا الريب.
قال بعض العلماء: (لا ريب فيه): هذا خبر بمعنى النهي، يعني: لا ترتابوا فيه، فهذا الخبر المراد به الإنشاء، يعني: لا ترتابوا فيه.
ومن القراء من يقف على (ريب) يعني: يقرأ: (ذلك الكتاب لا ريب.
فيه هدىً للمتقين) يعني: ذلك الكتاب لا شك، ثم يقرأ (فيه هدىً للمتقين) فأيهما أولى: أن نقول: (ذلك الكتاب لا ريب) أم أن نقول: (ذلك الكتاب لا ريب فيه.
هدىً للمتقين).
لو قلت: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه أنه منزل من عند الله، وهذا أقوى من أن تقول: (فيه هدى)، ولذلك قال العلماء: الوقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، أولى؛ لقوله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2].
ولأنه يصير قوله: (هدى) صفة للقرآن كله، وذلك أبلغ من كونه فيه هدى، فالأول يدل على أنه كله هدىً للمتقين.
يقول: (لا ريب) لا شك فيه أنه من عند الله، وجملة النفي خبر مبتدؤه (ذلك)، والإشارة للتعظيم، (هدىً) خبر ثان، أي: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) هذا الخبر الأول، (هدىً للمتقين) خبر ثان.(2/8)
معنى قوله: (هدى للمتقين) وأقسام الهداية
قوله تعالى: (هدىً للمتقين) المقصود أنه هاد للمتقين، وبعض العلماء قالوا: يحتمل هدىً أن تكون مرفوعة على النعت أو أن تكون منصوبة على الحال.
وقوله تبارك وتعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهم يعملون الأعمال الصالحة؛ كي يقيهم ذلك عذاب النار، وأصل التقى في اللغة: قلة الكلام، ومنه قول القائل: التقي ملزم، يعني: لا يتكلم كثيراً.
وهنا ملاحظة مهمة جداً: قوله تبارك وتعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، ما نوع الهدى هنا؟ هداية الإرشاد والدلالة، وهذه الهداية يقدر عليها الرسل وأتباع الرسل، فهم يوصفون بأنهم هداة من هذه الحيثية، والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] يعني: توضح وتبين وترشد.
وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، (هديناهم) بمعنى: بينا وأوضحنا وأرشدنا.
كذلك قوله تبارك وتعالى في سورة الرعد: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] يعني: يبين ويرشد ويوضح ويفهم ويجادل عن الحق، فمعنى هذا النوع من الهدى: هداية الضال باعتبار أنه أُرشد إلى الحق، سواءً حصل له الاهتداء أم لم يحصل.
النوع الآخر من الهدى: هداية التوفيق والتسديد، وهو خلق الله تبارك وتعالى الاهتداء في قلب العبد، فالإنسان قد يرى الحق ثم لا يوفقه الله سبحانه لاتباعه كاليهود والنصارى الذين عرفوا الرسول عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون أنه رسول من عند الله، كما كان يعرف أبو طالب أنه رسول من عند الله، وكما كان يعرف فرعون أن موسى رسول من عند الله قطعاً بلا شك في هذا، لكن هؤلاء جحدوا واستكبروا وعاندوا.
ففرعون هداه موسى من حيث البيان والإرشاد والتوضيح، لكن هل وفقه الله باتباع الحق؟! هل غرس في قلبه إرادة ذلك الحق وسدده وصوبه؟! لا، فهذه الهداية فضل من الله سبحانه وتعالى يختص بها عباده الصالحين.
إذاً: النوع الآخر من الهدى: هو خلق الله سبحانه وتعالى الاهتداء في قلب العبد، يقول تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37].
قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فيه اختصاص للمؤمنين بالهداية الخاصة التي هي البيان والإرشاد والتوفيق والتسديد، وخلق حب الحق والانقياد إليه في قلب هذا العبد، وهذا محض فضل من الله سبحانه وتعالى، وما مفهوم المخالفة لهذه الآية؟ مفهوم المخالفة أن هذا القرآن ليس هدىً لغير المتقين، وإنما هو هدىً للمتقين، فغير المتقين ليس هذا القرآن هدىً لهم، وهناك آيات في القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى الذي استنبطناه من مفهوم قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، كقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44].
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
ويقول تبارك وتعالى أيضاً: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45]، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم أنذر من يخشى الساعة فقط أم أنذر جميع الناس؟ أنذر جميع الناس، لكن لما كان الذين ينتفعون بإنذاره هم المؤمنون المتقون، عبر بذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45]، وبقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، مع أنه كان نذيراً للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125].
ويقول تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64]، فهؤلاء الكفار كلما ازداد نزول القرآن ازدادوا طغياناً وكفراً، فليس هو -بهذا المعنى- هداية لهؤلاء، إنما هو هداية فقط للمتقين.
والهداية هنا ليست بالمعنى الأول للهداية وإنما هي هداية خلق إرادة الحق والتوفيق إليه وتسديده، فالقرآن في نفسه هدى لكن لا يناله إلا الأبرار كالدواء الموضوع في الصيدلية، بعض الناس يأخذه وينتفع به والبعض الآخر يعرض عنه، وبالتالي لا يكون سبباً في شفائه، ويتضاعف مرضه، فهل إعراض هؤلاء عن التداوي بالدواء يقدح في أنه دواء وشفاء؟ لا يقدح، لكن الذي يتعاطاه هو الذي ينتفع به، فلذلك القرآن هو هدى حتى للكفار، لكن لا يناله ولا ينتفع به إلا الأبرار، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، والمتقون هم الصائرون إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لاتقائهم بذلك النار.(2/9)
تفسير سورة البقرة [8 - 20](3/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
الناس هنا المقصود بهم المنافقون، وكلمة الناس أصلها: أناس، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً، وإذا دخلت (أل) على كلمة أناس فإنه يلزم أن تحذف هذه الهمزة، فلا يقال: الأناس، ولكن يقال: الناس، فحذف الهمزة مع لام التعريف كاللازم.
وسموا ناساً لظهورهم، ولأنهم من المخلوقات التي يؤنس بها؛ بعكس الجن، فإنهم سموا جناً لاجتنانهم واختفائهم، ومادة (جن) تأتي في كل ما خفي، يقول عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76]، والجنين في بطن أمه مستتر، والمجنون هو من غاب عقله واستتر؛ والجنة غائبة عنا لا ترى الآن.
إذاً الجن سموا بالجن لاجتنانهم، والإنس سموا إنساً؛ لأنهم يؤنسون ويشاهدون.
وقيل: سموا إنساً من الأُنس، وهو ضد الوحشة، والقول الأول أولى.
قوله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)) يعني: يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام.
قوله: ((وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)) جمع المؤمنين مراعاة لمعنى كلمة (مَنْ) في قوله: (ومن الناس من يقول) وأفرد الفعل (يقول) مراعاة للفظ (من).(3/2)
تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)
قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
(المخادعة) بوزن المفاعلة، وهي استعمال الخدع من الجانبين، وهذه المخادعة هي إظهار الخير واستبطان الشر.
ومخادعة المنافقين لله سبحانه وتعالى هي مخادعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
وهذه المخادعة تتمثل في أنهم يظهرون الإيمان والمحبة، ويبطنون الكفر والعداوة، من أجل إجراء أحكام الإسلام عليهم، وحقن دمائهم وتحصين أموالهم وغير ذلك، لكن عاقبتهم وخيمة، فقد فضحهم الله في الدنيا بالوحي؛ وفي الآخرة يكونون في الدرك الأسفل من النار.
والفرق بين خداع المنافقين وبين خداع الله سبحانه وتعالى والمؤمنين لهم أن خداع المنافقين لا ينجح ولا يكون له مفعول ولا أثر إلا على أنفسهم، فيعود وبال هذا الخداع على أنفسهم بإهلاكها وإشقائها، أما خداع الله سبحانه وتعالى فإنه يؤثر فيهم أبلغ التأثير، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54].
يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر؛ ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية.
فالمنافقون يظهرون الإسلام ليدفعوا أحكام الكفر عنهم، كالقتل والأسر وضرب الجزية عليهم.
قوله: ((وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ)) وفي القراءة الأخرى: (وما يخادعون إلا أَنْفُسَهُمْ) يقول السيوطي: لأن وبال خداعهم راجع إليهم، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة.
قوله: (وما يشعرون) يعني: وما يعلمون خداعهم لأنفسهم، والمخادعة هنا من واحد.
فالإمام السيوطي يرجح أن المخادعة هنا ليست مفاعلة تقتضي خداعاً من الجانبين، وإنما هي من جانب واحد كقولك: عاقبت اللص، فهل المعاقبة هنا من الطرفين؟ لا، فهذه الصيغة تقتضي وقوع المعاقبة من طرف واحد.
ثم يقول: وذكر الله فيها تحسين، وفي قراءة: (وما يخادعون).
وهنا قاعدة لا بد أن نستصحبها: فحينما يعبر الإمامان الجلالان عن القراءة، فإذا قال أحدهما: (في قراءة)، فهذه العبارة يشير بها كل من الجلالين إلى أن القراءة سبعية أو من القراءات العشر، أما القراءة الشاذة، فيوهنان الإشارة إليها بقولهما: (قُرئ) بصيغة المجهول.
فتكون إشارة إلى أن هذه قراءة شاذة؛ ولذلك أضاف القاضي كنعان في هذه الطبعة بعد كلمة (قرئ) كلمة: شذوذاً؛ حتى لا ينسى القارئ هذا المعنى.(3/3)
تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً)
يقول تبارك وتعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
المرض هو: السقم، وسبب هذا المرض ضعف يقينهم وضعف دينهم، وكما توصف قلوب المنافقين بالمرض والسقم، توصف قلوب المؤمنين بالسلامة، كما قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أو المقصود من قوله: (في قلوبهم مرض) مرض الشك ومرض التردد؛ لأن المنافق متردد، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام واصفاً المنافقين: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تَعِير إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة)، والعائرة هي: المترددة.
فالمرض هنا المراد به التردد، فهم لا يعرفون اليقين ولا الجزم، فمرض قلوبهم هو: التردد والشك؛ لأن سمة المنافق التردد؛ ولأن المريض متردد بين الحياة والموت.
قوله: ((فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)) يعني: فزادهم مرضاً آخر من حقد وحسد وغل بإعلاء كلمة دينه ونصرة رسوله والمؤمنين، فبالتالي ازداد المرض الذي في قلوبهم.(3/4)
الفرق بين عذاب الكافرين وعذاب المنافقين
قوله: (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم موجع، يبلغ إيجاعه غاية البلوغ.
ومنه يعلم إيثار كلمة (أليم) في عذاب المنافقين على (عظيم) المتقدم في عذاب الكافرين، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل ذلك عن الكافرين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] أما المنافقون فلأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولأنهم أسوأ حالاً من الكافرين، عبر عن عذابهم بالأليم، لأنه بالغ في الإيلام الغاية العظمى!!(3/5)
الكذب من الأسباب الموجبة للعذاب
قوله: ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) هذه الباء إما للسببية، أو للمقابلة، يعني: إما أن المعنى: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) بسبب كذبهم، وهو قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) وهم غير مؤمنين.
أو ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) أي: في مقابلة كذبهم حين قالوا: (آمنا بالله وباليوم الآخر).
وفي هذه الآية تقبيح للكذب وتنفير منه.
قوله: ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) إشارة إلى أن السبب في عذابهم واستحقاقهم هذا الوعيد هو أنهم كانوا يكذبون، ومعلوم أن الكذب أحد الأسباب الموجبة لتعذيبهم، أما الأسباب الأخرى فهي كثيرة ومعروفة كما سيتضح في هذه الآيات، لكن قد يعبر الله سبحانه وتعالى عن إهلاك الكافرين أحياناً ببعض الذنوب؛ تنفيراً منها وتغليظاً في حق فاعليها واستعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها، كما قال تبارك وتعالى في شأن قوم نوح عليه السلام: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، وقوم نوح كانوا كفرة، فإهلاكهم إنما كان بسبب كفرهم بجانب المعاصي، فتعظيماً لشأن الخطايا التي تدنسوا بها جعل السبب في تعذيبهم هو الخطيئات؛ استعظاماً لها وتنفيراً عنها فقال: (مما خطيئاتهم أغرقوا) وقال: هنا: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون).
إذاً: معنى قوله: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: شك ونفاق أمرض قلوبهم وجعل اليقين فيها ضعيفاً.
قوله: (فزادهم الله مرضاً) أي: بما أنزله من القرآن لكفرهم به؛ لأنه لا يجالس أحد القرآن إلا قام منه بزيادة أو نقصان، أما المؤمن فيزيد إيمانه، وأما الكافر فيزداد رجساً إلى رجسه، كما يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] إلى آخر الآيات، كذلك يقول تبارك وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
قوله: ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) وفي قراءة أخرى: (بما كانوا يكذّبون) بالتشديد، أي: بما كانوا يكذبون نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبالتخفيف بما كانوا يكذبون في قولهم: ((آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)).(3/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، هذه بداية نهيهم عن المنكر، ثم ثنى بعد ذلك بأمرهم بالمعروف؛ كي تتم النصيحة، ففي هذه الآية قال: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) فهذا نهي عن المنكر، وفي الآية الثانية قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] وهذا أمر بالمعروف.
وهنا شَرَعَ تبارك وتعالى في تعديد بعض مساوئهم المتفرعة والنابعة عن نفاقهم وكفرهم، فقال: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) والفساد في الأرض مثل: تهييج الحروب وإثارة الفتن، كما قال عز وجل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ومعنى إفساد المنافقين في الأرض: أنهم يمالئون الكفار على المسلمين، ويفشون أسرار المسلمين للكفار، ويغرون الكفار بقتال المسلمين، ويجرئونهم على نصب الحرب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لطمعهم في الغلبة عليهم.
قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) يعني: بما تفعلونه من تهييج الحروب وتأليب الكافرين على المؤمنين.
((قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) يعني: هم تصوروا إفسادهم في صورة الإصلاح؛ لأن في قلوبهم مرضاً.
وإذا مرض قلب الإنسان تنقلب عنده القيم وتنعكس عنده الموازيين، مثل المنافقين رأوا فسادهم إصلاحاً، وزين لهم هذا الإفساد فحسبوه إصلاحاً، ((قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) كقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8] فهذا تزيين، وكما قال تبارك وتعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].
قال بعض المفسرين: قوله: ((إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) يعني: بين المؤمنين وأهل الكتاب، وقوله تعالى عنهم: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] أي: نحن مصلحون بين المؤمنين وبين أهل الكتاب، فنحن نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما.(3/7)
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
يقول تبارك وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] يعني: لا يشعرون بكونهم مفسدين، وهذه الآيات عند عامة المفسرين في المنافقين؛ وزعم بعض المشايخ المعاصرين وهو أبو الفيض الغماري في كتاب له يتحدث عن إخبار النبي عليه الصلاة والسلام ببعض الأمور الغيبية، أن هذه الآيات ليس المراد بها المنافقين الأوائل، وإنما المراد بها أهل هذا العصر من المنافقين أو العلمانيين الذين يصورون أعمالهم في الأرض بصورة الإصلاح.
وذكر من وجوه كثيرة انطباق هذه الصفات كلها عليهم، خاصة أنهم مولعون باستعمال عبارة الإصلاح الديني، وإذا مدحوا واحداً سموه مصلحاً، واليوم يسمونه مفكراً إسلامياً مستنيراً.
وقد أفاض في ذلك فلا نطيل بذكر التفاصيل، ويُكتفى بهذه الإشارة، أما مصطلح الإصلاح الديني فتعبير خبيث لا يجوز أبداً أن يطلق، فالذي يحتاج إلى إصلاح هو واقع الناس، أما دين الله فلا يحتاج إلى إصلاح، الإصلاح إنما يكون لما يطرأ عليه فساد، أما الدين فهو وضع إلهي سائغ لذوي العقول السليمة؛ لما فيه صلاح دنياهم وسعادة أخراهم، هذا هو الدين وكله صلاح، فعبارة (الإصلاح الديني) عبارة خبيثة، يراد بها إدخال البدع، وتحريف لمعاني الإسلام بحجة الإصلاح، فترى القوم مولعين بهذه التعبيرات، فلان مصلح ديني، أو مصلح اجتماعي مع أنه من أشد المفسدين في الأرض: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.(3/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)
يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا)) يعني: هذا أمر بالمعروف بعد نهيهم عن المنكر في قوله: ((لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) [البقرة:11].
قوله: (كما آمن الناس) يعني: كما آمن الناس الكمّل وهم المؤمنون؛ لأن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، فالمقصود بالناس هنا هم المؤمنون.
قوله: ((قَالُوا أَنُؤْمِنُ)) هذا استفهام فيه معنى الإنكار، أي: هم يستنكرون على من يأمرهم بذلك، ويقولون: (أنؤمن كما آمن السفهاء) فسموا المؤمنين الكمّل سفهاء! والسفه: هو خفة وسخافة في الرأي يورثهما قصور العقل، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار، وقد وصف الله تبارك وتعالى النساء والصبيان (بالسفهاء) بهذا الاعتبار؛ لعدم إحسانهم تقدير عواقب الأمور وميزانها بالميزان الصحيح حيث قال عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5].
إذاً: هؤلاء المنافقون كانوا في يسار وسعة عيش، وكانوا في رياسة وجاه، وكان أكثر المؤمنين فقراء، منهم الموالي: كـ صهيب وبلال وخباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين فدعوهم سفهاء؛ تحقيراً لشأن هؤلاء الصحابة؛ لأنهم ضعفاء، وقد ذكر أبو سفيان لـ هرقل حينما سأله: (أضعفاء الناس اتبعوه أم وجهاؤهم وأشرافهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: كذلك أتباع الأنبياء).
الشاهد هنا أن قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ)) أي: الصحابة أو المؤمنون.
قوله: ((قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)) يعني: الفقراء الضعفاء كـ صهيب وبلال وخباب وغيرهم، نحن لا نفعل كفعلهم، فقال الله تبارك وتعالى رداً عليهم وذباً عن هؤلاء المؤمنين: ((أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)) يعني: لا يعلمون ذلك، فكأن السفاهة كلها منحصرة فيهم هم، لا في غيرهم، ولا تخرج عنهم.(3/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)
يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
(لقوا) أصلها لقيوا، فحذفت الضمة للاستثقال، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو، ثم ضمت القاف للمناسبة، فأصلها لقي فصارت لقوا.
قوله: ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)) يعني: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة نفاقاً ومصانعة وتَقيَّة، وليشركوهم فيما أصابوه من الخير ومن المغنم.
قوله: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) يعني: إذا خلوا منهم ورجعوا إلى شياطينهم وجلسائهم: ((قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) يقال: خلوت بفلان أو خلوت إلى فلان، يعني: انفردت معه، وخلا تكون بمعنى مضى في تفسير آخر، ومنه قولنا: القرون الخالية، يعني: السالفة والماضية.
قوله: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) يعني: إلى أصحابهم أولي التمرد والعناد، والشيطان يكون من الإنس ويكون من الجن، والدليل قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
قوله: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) أضيفوا إلى الشياطين لأنهم مشتركون معهم في الكفر.
قوله: ((قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)) أي: اطمئنوا نحن معكم وعلى ما أنتم عليه.
قوله: ((إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) يعني: إنما نحن في إظهارنا الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا خَلَوْا)) منهم ورجعوا ((إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) رؤسائهم.
((قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)) في الدين.
((إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) بهم بإظهار الإيمان.(3/10)
تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)
يقول عز وجل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعني: الله سبحانه وتعالى يسخر بهم.
قوله: {وَيَمُدُّهُمْ} يعني: يزيدهم على وجه الإملاء والاستدراج والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
والطغيان هو: مجاوزة الحد، والشاهد من القرآن قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] ومنه أيضاً كلمة الطاغوت.
قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ذكر الله سبحانه أنه يستهزئ بهم، لكن لم يبين هنا تفاصيل هذا الاستهزاء، وقد بينه في سورة الحديد في قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:12 - 13] فهذا هو استهزاء الله تبارك وتعالى بهم جزاء وفاقاً، والجزاء من جنس العمل.
قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} العمه بالهاء مثل العمى؛ لكن الفرق أن العمى عام في البصر وفي الرأي، أي: العمى في البصيرة وفي البصر، أما العمه فهو خاص بالرأي، وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه؛ ولذلك يقول: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: يزيدهم حيرة وتردداً وضلالاً.
قوله: (في طغيانهم) فيه إشارة إلى أن هذا الطغيان غمرهم دنسُه وعلاهم رجسُه، حتى غرقوا في هذا الطغيان، فهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، حيثما يمموا لا يرون إلا هذا الضلال، وهذا التردد، وهذا الطغيان!(3/11)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)
يقول تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
(أولئك) إشارة للبعد؛ للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء حالهم.
قوله: ((الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ)) الضلالة هي الجور عن القصد، والمقصود بها هنا العدول عن الصواب في الدين.
قوله: (بالهدى) يعني: بالتوجه إلى الضلالة بدل الهدى، والمقصود بالهدى هنا الاستقامة على الدين.
قوله: ((اشْتَرَوُا)) يعني: لتمكنهم من الهدى وسهولة وصولهم إلى الهدى لتيسير أسبابه عليه كأنه في أيديهم، بل إنهم يتصرفون فيه كتصرف المالك.
قوله: ((فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)) معلوم أن الشراء هو استبدال السلعة بالثمن، وأخذ السلعة بدلاً من الثمن أخذاً منوطاً بالرغبة فيها، والإعراض عن الثمن.
يعني: أنت إذا أردت أن تشتري أي جهاز مثلاً، وسعره غالٍ فكيف تتم عملية الشراء؟ تتم بأن تستبدل السلعة بالثمن، وما تفعل ذلك إلا لأنك تريد السلعة، فتضحي بالمال مقابل أن تنال السلعة، فهذا أصل عملية الشراء، فهذا الأخذ وهذا التبديل بين السلعة والثمن هو أخذ منوط بالرغبة في السلعة والإعراض عن الثمن، وتقبل مكانه وبدلاً منه هذه السلعة، فكذلك هؤلاء كأن الهدى كان معهم، وهم متمكنون منه، ثم زهدوا فيه ورغبوا عنه، واستبدلوه بالسلعة التي هي الضلالة، يقول عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
قد يقول قائل: كان يكفي لو أن الله سبحانه وتعالى اقتصر على قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]؛ لأنها تشير إلى نفس هذا المعنى؛ لكن بلا شك أن مثل هذا التعبير والتتميم يزيد المعنى وضوحاً، فهذه من مسالك البلغاء والفصحاء، كما في قول الخنساء، تصف أخاها صخراً فتقول: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نارُ تعني: هو إمام للهداة والأدلة كأنه علم يعني: جبل عال مرتفع شامخ، ولم تقتصر على هذا حتى أضافت قولها: في رأسه نار، فلم تكتف بوصفه بأنه جبل مرتفع حتى أضافت إلى ذلك اشتعال النار في رأسه من شدة الوضوح.
فقوله تبارك وتعالى: ((فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)) هذه إشارة إلى أنهم لا يفقهون في التجارة وما يستجلب الربح؛ فهم قد خسروا أعظم خسارة؛ لأنهم خسروا رأس المال، وهو هذه الهداية وهذا الهدى؛ فلذلك قال تبارك وتعالى: ((فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)).
وقال بعض المفسرين: ليس المقصود بقوله: ((وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)) الهداية الدينية فقط، فلما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم إلى طرق التجارة الصحيحة؛ لأنهم ليسوا خبراء بالتجارة، وهي: تحصيل أقصى قدر من الربح فضلاً عن ثبات رأس المال، فشأن التجار البصراء بالأمور الحرص على أعظم ربح ممكن، أما إذا أتى رجل يدعي أنه تاجر ثم إذا به يضيع الربح من أصله ثم يفقد أيضاً رأس المال فبلا شك أن هذا دليل على أنه غير عالم بأساليب التجارة الرابحة، وليس مثل التجار البصراء الذين عندهم بصيرة وعلم وخبرة بهذا العلم.(3/12)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الله يستهزئ بهم) والآية التي بعدها
يقول الإمام السيوطي رحمه الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي: يجازيهم باستهزائهم.
(وَيَمُدُّهُمْ) أي: يمهلهم.
(فِي طُغْيَانِهِمْ) بتجاوزهم الحد في الكفر.
(يَعْمَهُونَ) يترددون تحيراً، والجملة في محل نصب حال.
وقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي: استبدلوها به.
(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) أي: ما ربحوا فيها؛ بل خسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أي: فيما فعلوا.(3/13)
تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً)
قال عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] ثم ضرب الله تبارك وتعالى هذين المثالين لأحوال هؤلاء المنافقين فقال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
قوله: (مثلهم) أي: صفتهم في نفاقهم.
((كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) أي: مثل من أوقد ناراً، وقدر الإمام السيوطي هنا: ناراً في ظلمة، ولا بد أن يكون المعنى كذلك حتى يتم هذا المثل، وهذا من دقة تفسيره، وهو مأخوذ من سياق الآيات: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)).
قوله: ((نَارًا)) التنكير للتعظيم، يعني: أنه أوقد ناراً عظيمة في وسط هذه الظلمة.
قوله: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) أي: فلما أضاءت هذه النار ما حوله فأبصر واستدفأ وأمن مما يخافه.
وهذه من فوائد النار: أنها تعطي الدفء في البرد، وتعطي الإضاءة والهداية والرؤية، وأيضاً الأمن مما يخاف.
قوله: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) يعني: أطفأه، وجمع الضمير مراعاةً لمعنى: (الذي)؛ لأن معنى (الذي) الجمع.
يعني: أطفأ نارهم التي هي مدار نورهم فبقوا في ظلمة وخوف.
قوله: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) أي: حتى لا يبصروا ما حولهم فيبقوا متحيرين على الطريق خائفين.
وتأمل قوله تبارك وتعالى: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) فقد كان يمكن أن يقول: (ذهب نورهم) لكن قال: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) فهذا فيه إشارة إلى فقدانهم معية الله سبحانه وتعالى الخاصة للمؤمنين، ولم يعد لهم حظ من قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ولا من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فهذه إشارة إلى فقدانهم هذه المعية الخاصة التي إنما تكون للمؤمنين.
وأيضاً قال: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار لها فائدتان: الإشراق، والإحراق، فالإشراق هو النور، والإحراق هو النار، فبين هنا أن الله سبحانه وتعالى أذهب عنهم الإشراق الذي هو النور، وأبقى لهم الإحراق وهو العذاب بالنار! وقوله: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) لم يقل: ذهب الله بضوئهم؛ لأنه لو قال: ذهب الله بضوئهم، فيحتمل أن يبقى معهم أصل النور، لكن نفى عنهم أصل النور، ومنع عنهم مادة النور بقوله تبارك وتعالى: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) أي: أطفأه.
قوله: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) هنا جمع كلمة (ظلمات)، وهذا شأن الله سبحانه وتعالى في التعبير عن الحق والباطل، فالباطل لا يكاد ينحصر، وطرق الضلال كثيرة جداً، والأديان الباطلة والمذاهب الضالة لا تنحصر؛ ولذلك دائماً يعبر عنها القرآن بصيغة الجمع، تجدون في القرآن: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] دائماً تجد في القرآن الظلمات مجموعة والنور مفرداً؛ لأن الطريق إلى الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وإنما الذي يتعدد هو الباطل.
ولا يشكل على هذا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] حيث جاءت سبل السلام بصيغة الجمع؛ لأن سبل السلام هي أنواع الخيرات وأنواع الطاعات المتعددة، وكلها تصب في طريق واحد، وهو هذا النور، وهو هذا السبيل الذي هو سبيل الله؛ ولذلك لما خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً في الأرض قال: (هذا سبيل الله، ثم رسم على جنبتيه خطوطاً متفرقة، وقال: هذه سبل على رأس كل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]).
قوله: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) يعني: لا يبصرون ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون؛ فكذلك ارتباط المثل بصفة المنافقين الذين آمنوا بإظهار كلمة الإيمان، فاستمتعوا بها واستفادوا منها بحفظ أموالهم ودمائهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب، وأذهب الله عنهم هذا النور عند الموت؛ بحيث يجازون على ما كانوا يُكنُّون في صدورهم لا على ما كانوا يظهرون بين الناس.
والمنافق ينتفع في الدنيا بهذا النور الذي هو كلمة لا إله إلا الله، وبإظهارهم الإيمان والتوحيد ومحبة المؤمنين، ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) انتهت فترة استفادته من هذا الإظهار بالموت، انطفأ نوره، ولم يعد ينتفع بهذا النور، فهذا حاله بعد الموت! فالحاصل أنهم انتفعوا بكلمة: لا إله إلا الله مدة حياتهم القليلة، ثم قطع الله هذا الانتفاع عنهم بالموت، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب.(3/14)
تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
يقول تبارك وتعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
(صم) يعني: هم صم عن الحق، فلا يسمعونه سماع قبول.
قوله: (بكم) أي: خرس عن الخير فلا يقولونه.
قوله: (عمي) أي: عن طريق الهدى فلا يرونه.
قوله: ((فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) يعني: عن الضلالة.
فهذه إشارة إلى أن هؤلاء المنافقين قد سُدت عليهم سُبُل الهداية كلها، وهي: سمع، وبصر، وعقل، فهم صم عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، وإذا سمعوه فكما تسمع الأنعام كما قال الله عنهم: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، قوله: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) يعني: يرفع صوته وينادي البهائم أو العجماوات.
قوله: (بما لا يسمع) أي: لا يسمع الدعاء والنداء، كالحيوان من البقر والقرود وغيرها من العجماوات، إذا ناديت سمع صوتك، لكن لا يفهم الكلام، فهذا الكافر لو تلوت عليه المعلقات السبع يفهمها ويعرف معانيها، لكن لا يفهمون ما ينفعهم! وهذا الكلام حقيقي يجب استحضاره حين نتكلم وليس مجازاً، فهؤلاء على قلوبهم أقفالٌ كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالقلب له قفل والعياذ بالله، وضع الله سبحانه وتعالى على قلوب المنافقين أقفالاً، فلا يخرج الكفر والنفاق منها ولا يدخل الإيمان فيها، لا يسمح بالخروج ولا بالدخول، فداخلها -والعياذ بالله- هذا النفاق.(3/15)
تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات)
قال عز وجل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19].
قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) يعني: مثلهم كأصحاب صيِّب، والصيِّب هو المطر، أصله صيوب، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمتا، من صاب يصوب يعني: ينزل.
قوله: ((مِنَ السَّمَاءِ)) أي: كصيب من السماء، والمقصود بالسماء هنا السحاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69] يعني: من السحاب.
قوله: ((فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)) هذا التنكير للتفخيم والتهويل، كأنه قيل: في هذا السحاب ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف.
قوله: (ورعد) قيل: هو الملك الموكل به، وقيل: صوته.
قوله: (وبرق) يعني: لمعان بريقه الذي يلمع به، لكن الأولى أن يوصف الرعد بأنه قاصف، والبرق بأنه خاطف.
قوله: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)) يعني: أصحاب الصيب يضعون أصابعهم في آذانهم، والمقصود بأصابعهم الأنامل، فهذا من إطلاق الكل، مع إرادة الجزء.
قوله: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ)) يعني: من أجل الصواعق.
قوله: ((حَذَرَ الْمَوْتِ)) يعني: خوف الموت من سماعها، وكذلك هؤلاء المنافقون إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبَّه هنا بالظلمات، والوعيد عليه المشبَّه بالرعد، والحجج البينة المشبَّهة بالبرق، يسدون آذانهم؛ لئلا يسمعوه، فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم، وهو عندهم موت! وهذا المثل منطبق على أحوال هؤلاء المنافقين.
إذاً: المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فيه ظلمات) يعني: أن الوحي الذي ينزل من عند الله سبحانه وتعالى وهو القرآن يحتوي على وصف الكفر بالظلمات، ويحتوي على الوعيد على الكفر، وهو الذي شبهه بالرعد بقوله: (وَرَعْدٌ) والآيات التي تنزل عليهم كالرعد، وتنذرهم عاقبة هذا الكفر.
قوله: (وبرق) أيضاً في هذا الوحي برق ونور ساطع وحجج بينة، فهم يسدون آذانهم؛ لئلا يسمعوا هذه الحجج فيميلوا إلى الإيمان، ويتركوا دينهم؛ لأنهم يخافون إذا سمعوا هذا الوحي الذي فيه تنفيرٌ عن الكفر وترغيب في الإيمان أن تميل قلوبهم؛ ولذلك يضعون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق؛ حذر الموت الذي هو التحول مما هم عليه إلى الإسلام، كأن هذا التحول عندهم موت، فبالتالي يسدون منافذ الهدى؛ كي لا يصل الوحي إلى أسماعهم.
قوله: ((وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)) يعني: محيط بهم علماً وقدرة، فلا يفوتونه ولا يعجزونه، وهنا أظهر الله سبحانه وتعالى ما كان يمكن أن يضمر؛ لأن السياق يقتضي أن يقول: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بهم، فإظهار كلمة الكافرين في قوله: (والله محيط بالكافرين) لبيان أن ما دهمهم من البلاء وحل بهم كان بسبب كفرهم، كقوله تعالى: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران:117] فأظهر هذا الوصف، وهو أنهم قوم ظلموا أنفسهم؛ لأن الإهلاك الناشئ عن السخط والغضب لا عن قضاء وقدر فإنه يكون أشد على هؤلاء الكافرين؛ فلذلك أظهر وصفهم بالكافرين.(3/16)
تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم)
يقول تبارك وتعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20].
قوله: ((يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)) يعني: يأخذها بسرعة، وضوء البرق أضعاف ضوء الشمس؛ لأن ضوء البرق القاذف الذي نراه قوي جداً، ولو استدام قليلاً لربما أثر على بصر الإنسان.
قوله: ((كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)) يعني: مشوا في ضوء هذا البرق.
قوله: ((وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)) يعني: وقفوا أو جمدوا مكانهم بلا حراك، كما تقول: قام الماء إذا جمد وسكن، كذلك تقول: قامت السوق، يعني: كسدت وركدت.
إذاً: الله تبارك وتعالى يبين أن ما في القرآن من الأمثلة يزعج قلوب هؤلاء المنافقين، فهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين، وبيان ما هم فيه من التحير والجهل بما يأتون وبما يذرون، إذا أضاء لهم البرق مشوا مع خوفهم من أن يخطف هذا البرق أبصارهم؛ لكنهم أيضاً يريدون أن يستفيدوا من هذه الإضاءة التي تحصل من البرق.
إذاً: إذا ظهر البرق فهم بين أمرين: الأول: يخافون منه أن يخطف أبصارهم لشدة قوته.
الثاني: يريدون أن ينتفعوا بهذا الضوء؛ لأنهم واقفون في ظلمات.
قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)) أي: لو شاء الله في قصف الرعد أصمهم، أو في ضوء البرق أعماهم.
يقول السيوطي: قوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم قاموا) وقفوا، تمثيل لإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم، وتصديقهم لما سمعوا فيه مما يحبون، ووقوفهم عما يكرهون.
يعني: هذا هو حال المنافقين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج والبراهين فهذه الحجج تزعج قلوبهم، وهي المشار إليها في آيات القرآن بالبرق، فهذا البرق يزعج قلوبهم فهم إذا سمعوا فيه الوعيد والتهديد على عاقبة الكفر والكفرة والمنافقين خافوا، وإذا سمعوا فيه أشياء يحبونها فإنهم يصدقون بها ويأنسون بها ويريدون أن يستفيدوا منها، أما إذا أتاهم ما يكرهون فإنهم يقفون عما يكرهون، بمعنى: أنهم يعبدون الله على حرف، كحال من وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يريد أن يعبد الله على جانب واحد فقط وهو جانب الخير.
{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، قال: هذا دين حسن، أصبنا فيه خيراً من كثرة الأموال والصحة ونتاج الخيل والإبل إلى غير ذلك من متاع الدنيا.
((وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ)) أي: اختبار وابتلاء.
((انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)) أي: انقلب على عقبه.
{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
فإذا ابتلي في صحته بمرض أو في ماله بفقر أو بأي مصيبة في الدنيا تراه ينقلب على عقبيه ويقول: هذا دين سوء ما رأينا فيه خيراً، ويتطير ويتشاءم من هذا الدين والعياذ بالله، فهذا حال هؤلاء المنافقين.
قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)) يعني: ولو شاء الله لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بالباطنة، فكما طمس بصائرهم وختم على قلوبهم وأعمى قلوبهم عن رؤية الحق، كذلك أيضاً يمكن أن يفسد عليهم حواسهم الظاهرة، كما أفسد عليهم حواسهم الباطنة.
قوله: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) يعني: إن الله على كل شيء شاءه سبحانه وتعالى قدير، ومنه إذهاب ما ذكر من هذه الحواس.(3/17)
تفسير سورة البقرة [21 - 34](4/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا الله ربكم)
هنا التفات في أسلوب الخطاب حيث إن الله سبحانه وتعالى التفت مباشرة في خطابه إلى الناس أجمعين آمراً إياهم بأول صيغة أمر تأتي في القرآن، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني: كل المكلفين سواء منهم المؤمنون أو الكافرون، فكلهم مخاطبون.
قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحدوا ربكم، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يعني: يعبدونني وحدي؛ فكذلك هنا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يعني: اعبدوا ربكم وحده ولا تشركوا به شيئاً.
قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} يعني: أنشأكم ولم تكونوا شيئاً، والذي أنعم عليكم بنعمة الوجود بعد العدم.
قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: وخلق الذين من قبلكم.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني: لعلكم تتقون بعبادته عقابه وعذابه، و (لعل) أصلها في اللغة للترجي، لكنها في كلام الله سبحانه وتعالى لتحقيق الوقوع.(4/2)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22].
قوله: {جَعَلَ} يعني: خلق.
قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} يعني: بساطاً يفترش، لا هي غاية في الصلابة ولا هي في غاية الليونة، حتى لا تستطيعون أن تستقروا عليها، وإنما جعلت لكم فراشاً أي: بساطاً.
قوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} السماء هنا اسم جنس، أي: خلق السماوات سقفاً كالبناء يشد بعضه بعضاً، وهذه حقيقة ظهرت لمن يدرسون الفلك، فهم يعلمون هذا التناسق وهذا التماسك العجيب في تكوين هذه الأجرام السماوية، وثباتها ودورانها المحكم وغير ذلك مما يذهل العقول إذا تدبره الإنسان، فالسماوات بناء محكم يشد بعضه بعضاً، ودائماً يعبرون عن ذلك بالجاذبية، وإنما هي سنة الله سبحانه وتعالى وقوة الله وقدرة الله، وإلا فمن وراء كل هذه الخواص؟ إن المسبب الحقيقي لهذا التماسك والاتزان هو الله سبحانه وتعالى.
قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي: أخرج من أنواع الثمرات رزقاً تأكلونه وتعلفون به دوابكم.
قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} يعني: شركاء في العبادة.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: تعلمون أن الله هو المنفرد بخلقكم ورزقكم، وتعلمون أن هذه الأنداد لا تملك لكم رزقاً ولا خلقاً ولا ضراً ولا نفعاً.
فإذا كان هذا هو الحال، فإن الله سبحانه وتعالى لا يصلح أن يجعل له نداً واحداً فكيف بالأنداد الكثيرة؟! فإذا كان الأمر كذلك، وكان من يخلق ليس كمن لا يخلق، فلا يستقيم أن تجعل له شريكاً واحداً، فكيف بأنداد متعددة ومتكاثرة؟! فلا يكون إلهاً إلا من يخلق وهو الله سبحانه وتعالى.
وهنا إشارة إلى حقيقة إيمانية مهمة جداً، واستدلال بثلاثة أدلة على قضية من قضايا الإيمان، وهي قضية البعث والنشور، وهذا هو الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هان عليه وسهل عليه أن ينشئنا أول مرة فإن إعادتنا بالبعث والنشور يكون أسهل مرة ثانية.
الدليل الثاني: الإشارة إلى عظيم خلق السماء والأرض: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22]، والله تبارك وتعالى يقول في شأن السماوات والأرض: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] يعني: هي أعظم آية لمن علم، فمن خلق هذا كله فهو بالأولى قادر على إعادته، وهو أهون عليه وأسهل عليه.
الدليل الثالث على البعث والنشور: دليل حي وحسي نلمسه جميعاً وهو إحياء الأرض بعد موتها، فالذي يحيي الأرض بعد موتها -وهو سبحانه وتعالى- هو الذي يحيي الموتى، فهذا مظهر من مظاهر عموم قدرته على كل شيء سبحانه وتعالى؛ فلذلك يقول تبارك وتعالى هنا: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، فهذه إشارة إلى إحياء الأرض بعد موتها، فالذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].(4/3)
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)
قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23].
قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} أي: في شك، و (إن) كلمة تفيد الريب.
قوله: {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} هذا تعجيز وتحدِّ.
وقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] هذا التعبير للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم مع مكابرتهم وصدودهم هو الارتياب في شأنه؛ لكمال وضوحه وإعجازه كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، ولا شك أنه من عند الله، فهنا يقول: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة:23] وهذه إشارة إلى أنكم لا تجرءون على تكذيبه؛ ولكن أقصى ما تصلون إليه هو الشك فقط.
قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] هذا السياق إذا تأمله المؤمن يشعر أن القرآن له سلطة عليا وقاهرة هي التي تخاطب البشر، وتخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الروح التي تشعر بهذه القوى وبهذه العظمة مبثوثة في كل أجزاء القرآن، بحيث يستحيل أن يكون هذا الكلام هو كلام محمد عليه الصلاة والسلام، فتأمل نون العظمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم: {نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47] فاستشعر بهذه القوى العظمى المسيطرة التي هي حاكمة حتى على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهيمنة على قلوب المخاطبين بهذا الكتاب المجيد، وكقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فتأملوا هذا وأنتم تقرءون القرآن، وستشعرون بأن هذه القوة هي كلام الله سبحانه وتعالى.
قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] يعني: محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكره هنا فيه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بعنوان العبودية التي هي أشرف المقامات؛ إيماء إلى أن شرفه إنما هو بتحقيقه العبودية لله تبارك وتعالى، ولهذا الأمر قرائن في القرآن في كون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية لله هي أشرف المقامات، ومن الشواهد ما جاء في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وهذا في مقام الإسراء.
وفي مقام الدعوة قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] يعني: كاد الجن يزدحمون عليه طبقات فوق طبقات، وهذا في مقام الدعوة.
وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] في رحلة المعراج.
وقوله تعالى: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] في مقام الوحي؛ لأن هذه الآية عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] هي في عيسى عليه الصلاة والسلام، فالأنبياء يوصفون بالعبودية لله تبارك وتعالى؛ لكننا هنا نذكر ما يخص النبي عليه الصلاة والسلام، فالوصف بالعبودية يدل على التشريف العظيم.
قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] أضافه الله سبحانه وتعالى إليه تفخيماً له وتشريفاً لمقامه صلى الله عليه وسلم، والمقصود بقوله: {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: من القرآن.
يعني: إن كنتم في ريب أن هذا القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله فأتوا بسورة من مثله، وهذا أسلوب تحدٍّ وتعجيز، مثل قوله تبارك وتعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]، ماذا يقول؟! وكيف يجيب؟! وكذلك هنا هو من نفس الباب: تعجيز وتحدٍّ.
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم -وهو رجل أميّ لا يقرأ ولا يكتب- أتى بهذا القرآن الكريم مع ما فيه من الإعجاز والفصاحة التي لم يسبق لها نظير على الإطلاق، وأنتم رءوس البلاغة ورءوس الفصاحة، والعرب مشهورون بذلك خليقة وطبيعة وفطرة؛ فنحن لا نكلفكم مع هذا بأن تأتوا بمثل القرآن كله، ولكن ائتوا بسورة من مثله، وهو رجل أمي أتى بأضعاف هذه السورة التي ستحاولون أن تفعلوها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] أي: من مثل هذا القرآن المنزل (ومن) للبيان، يعني: ائتوا بسورة هي مثل القرآن في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب، فـ (من) هنا مثل قوله تبارك وتعالى حكاية عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، فهل {مِنْهُمْ} تبعيضية؟ لا، بل هي بيانية؛ وكذلك هنا: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} {مِنْ}: للبيان، يعني: سورة تكون مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب.
والسورة قطعة لها أول وآخر، وأقلها ثلاث آيات.
وليس هذا فحسب؛ لكن: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، استحضروا واستدعوا من شئتم من الجن والإنس ورؤسائكم وأشرافكم وعلمائكم وبلغائكم، وادعوا حتى آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، لتعينكم إن كنتم صادقين في أن محمداً قاله من عند نفسه، فافعلوا ذلك؛ فإنكم عربٌ فصحاء مثله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(4/4)
تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)
أكبر وأقوى وأعظم معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي التحدي بالقرآن، وألفت مئات الكتب في بيان إعجاز القرآن الكريم، وقد عجز المشركون عن أن يأتوا بسورة مثله، قال الله تبارك وتعالى لهم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] وهذا تحدٍّ، وبالفعل لم يجرؤ أحد منهم أن يواجه هذا التحدي، وكل من حاول أن يحاكي بلاغة القرآن، أتى بأشياء يضحك عليه كل من سمعه من العقلاء، فهذا مسيلمة يقول: الفيل، وما أدراك ما الفيل؟ ذو خرطوم طويل، وذنب قصير! وغير ذلك من الكلام البارد الذي إذا سمعه إنسان استخف عقل قائله وسفهه.
قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] يعني: إن لم تفعلوا ما ذكر من قبل بسبب عجزكم.
قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] يعني: ولن تفعلوا ذلك أبداً؛ لظهور إعجازه، وهذه الجملة {وَلَنْ تَفْعَلُوا} جملة اعتراضية.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} تعتبر أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنهم لم يفعلوا كما أخبر الله تبارك وتعالى هذا أبداً، ولم يستطيعوا ولم يجرؤ واحد منهم مع أن التحدي قائم، وهم حريصون على الطعن في الدين بكل مستطاع؛ فلذلك لم يفعلوا، فهذا أقوى وأظهر وأوضح وأجلى دليل على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] يعني: بالإيمان بالله وبأن القرآن ليس من كلام البشر، اتقوا النار التي وقودها الناس، والمقصود بالناس هنا هم الكفار، والحجارة هي أصنامهم المصنوعة من الحجارة، يعني: أنها من شدة الحرارة توقد بما ذكر لا كنار الدنيا توقد بالحطب ونحوه، فالناس أنفسهم هم الذين يكونون وقوداً للنار والعياذ بالله، وكذلك الحجارة تكون وقودها.
قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] أي: هيِّئت للكافرين يعذبون بها.(4/5)
تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى هذا الترهيب للكفر والكافرين ثنى بتبشير المؤمنين، والقرآن قد سُمي من هذه الحيثية مثاني؛ لأنه يثني دائماً الترغيب بالترهيب فقال سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:25] يعني: أخبرهم الخبر السار الذي يسعد ويسر، والذين آمنوا هم الذين صدقوا بالله تبارك وتعالى.
قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] يعني: من الفروض والنوافل.
قوله: {أَنَّ لَهُمْ} [البقرة:25] يعني: بشرهم بأن لهم.
قوله: {جَنَّاتٍ} [البقرة:25] أي: حدائق ذات شجر ومساكن.
قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تجري من تحت الجنات أو من تحت الأشجار والقصور الأنهار، والذي يجري هو ماء الأنهار.
قوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا} [البقرة:25] أي: كلما أطعموا من تلك الجنات.
قوله: {مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] يعني: هذا مثل الذي رزقنا قبله في الجنة؛ لتشابه ثمارها، بقرينة قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}.
قوله: {وَأُتُوا بِهِ} [البقرة:25] أي: جيئوا بالرزق.
قوله: {مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] أي: يشبه بعضه بعضاً في اللون ويختلف في الطعم.
قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [البقرة:25] يعني: من الحور وغيرها، {مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] يعني: من الحيض ومن كل قذر، {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] أي: ماكثون أبداً لا يخرجون.(4/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة)
لما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب في قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج:73]، وفي قوله: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ} [العنكبوت:41] فكأن اليهود استغربوا وقالوا: كيف تزعمون أن القرآن كلام ربكم وكلام إلهكم ثم يذكر هذه الأشياء الحقيرة، مثل: الذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله سبحانه وتعالى رداً عليهم هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] و (مثلاً) المفعول الأول و (ما) المفعول الثاني؛ لأن (ما) هذه اسمية إبهامية، وإذا دخلت كلمة (ما) الاسمية الإبهامية على اسم نكرة أبهمته إبهاماً تاماً وزادته شيوعاً وعموماً، كقولك: أعطني كتاباً ما.
أي: أعطني أي كتاب كان، فمعنى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة:26] يعني أن يجعل أي مثل كان، أو تكون (ما) زائدة لتأكيد حقارتها.
قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البعوض هو صغار البق قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} يعني: ابتداء من البعوضة فما هو أكبر منها، أي: لا يترك الله سبحانه وتعالى بيانه لما في هذا المثل الذي يضربه الله من الحكم أو معنى: {فَمَا فَوْقَهَا} يعني: ما دونها، فيكون المقصود ما يكون أقل منها في الصغر، فهذا من الأضداد.
إذاً: يريد الله سبحانه وتعالى أن يبين لهم أنه كما لا يستنكف الله عن خلقها كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها، وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بالذباب فقال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، وضرب المثل بالعنكبوت فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] فالتمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، بغض النظر عن الشيء الذي ضرب به المثل هل هو حقير أم عظيم، فالمقصود كشف هذه المعاني وتجليتها؛ فلذلك لا يستحيي الله أن يضرب مثلاً بهذه الأشياء.
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} [البقرة:26] الهاء تعود على المثل.
قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي: المثل الثابت الواقع موقعه {مِنْ رَبِّهِمْ}.
قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] إعراب (مثلاً) هنا: تمييز، يعني: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ و (ما) اسم استفهام وإنكار، يعني: أي فائدة في هذا المثل؟ فرد الله سبحانه وتعالى عليهم استنكارهم بقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] يعني: هذا المثل يضل الله به كثيراً عن الحق؛ لكفرهم به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين؛ لتصديقهم به.
قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] أي: الخارجين عن طاعته.(4/7)
تفسير قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة:27] هذا وصف الفاسقين، والفسوق هو الخروج، تقول: فسقت الرطبة يعني: خرجت.
يعني: ينقضون ما عهده إليهم في الكتب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27]، يعني: من بعد توكيده عليهم.
قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] يعني: من الإيمان بالأنبياء جميعاً دون تمييز ودون تفريق بينهم.
ويوجد خلاف في معنى: (ما الله به أن يوصل) فقال بعض العلماء: أمروا أن يصلوا العلم بالعمل، وقال آخرون: أراد الله أن يوصل الرحم، أو أراد الله أن يوصل الإيمان بجميع الأنبياء، تؤمن بموسى فإذا بعث عيسى تؤمن بعيسى فإذا بعث محمد عليه الصلاة والسلام تؤمن بمحمد، ولا تفرق بين الأنبياء.
إذاً: قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلة الرحم وغير ذلك.
قوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [البقرة:27] بالمعاصي والتعويق عن الإيمان.
قوله: {أُوْلَئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] يعني: أن مصيرهم إلى النار المؤبدة إن لم يؤمنوا.(4/8)
تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً)
قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] أي: كيف تكفرون -يا أهل مكة بالله- وقد كنتم نطفاً في الأصلاب فأحياكم في الأرحام وفي الدنيا بنفخ الروح فيكم؟! والاستفهام للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو الاستفهام للتوبيخ.
قوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:28] أي: عند انتهاء آجالكم.
قوله {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث والنشور.
قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] أي: تُردون بعد البعث، فيجازيكم بأعمالكم.(4/9)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض)
قال تبارك وتعالى تأكيداً على البعث الذي أنكروه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
يعني: خلق الأرض وما فيها لتنتفعوا به وتعتبروا.
قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يعني: بعد خلق الأرض قصد إلى السماء.
قوله: {فَسَوَّاهُنَّ} الضمير يرجع إلى السماء؛ لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه.
قوله: {فَسَوَّاهُنَّ} يعني: صيرها، وفي آية أخرى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت:12].
قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] يعني: يعلم على سبيل الإجمال وعلى سبيل التفصيل كل دقائق الأمور، أفلا تعتبرون أن القادر على خلق ذلك ابتداء -وهو أعظم منكم- قادر على إعادتكم؟ فخلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس، فمن خلق ذلك أفلا يقوى على إعادتكم أنتم؟!(4/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة:30] يعني: واذكر يا محمد: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] يعني: يخلفني في تنفيذ الأحكام فيها، وهو آدم عليه السلام.
قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] يعني: بالمعاصي.
قوله: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] يعني: يريقها بالقتل.
كما فعل بنو الجان حين كانوا فيها، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال.
وبعض العلماء يقول: فهمت الملائكة من كلمة (خليفة) أن الخليفة سيحكم بين الناس في أقضياتهم ونزاعهم، وفهموا أنه سيحصل فساد من هؤلاء المخلوقين، يحتاج إلى وجود خليفة يحكم بينهم في الدماء والأموال وغير ذلك، فمن ثم قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30].
قوله: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} يعني: نسبح متلبسين بحمدك؛ لأن التسبيح تنزيه لله عن النقائص التي لا تليق به، والتحميد إثبات الكمال له، فلذلك دائماً يقترن التسبيح بالتحميد، فنقول: سبحان الله وبحمده.
قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي: ننزهك عما لا يليق بك، ومعنى ذلك: أننا نحن أحق بالاستخلاف.
قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] أي: يقول تعالى: أنا أعلم ما المصلحة في استخلاف آدم عليه السلام، وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم، فقالت الملائكة: لن يخلق ربنا خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم منا لسبقنا له.
يعني: لأننا سبقنا قبل هذا الخليفة في الخلق فنحن أفضل منه، ونحن نرى ما لم يره هذا الخليفة، فخلق الله آدم من أديم الأرض -أي: وجهها، بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها، وعجنت بالمياه المختلفة، وسواه ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً.(4/11)
تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)
قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] يعني: أسماء المسميات كلها، حتى القصعة والقصيعة، والفسوة والفسية، والمغرفة، وغير ذلك، بأن ألقى في قلبه علم هذه الأسماء.
قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يعني: عرض المسميات، وفيه تغليب العقلاء وإن كانت المسميات تشمل العاقل وغير العاقل.
قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة:31]، فقال لهم تبكيتاً، وإلزاماً بالحجة لإظهار مكانة آدم: {أَنْبِئُونِي} [البقرة:31] يعني: أخبروني: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} [البقرة:31] يعني: المسميات.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] في أني لا أخلق أعلم منكم، أو أنكم أحق بالخلافة.(4/12)
تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)
قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:32]، تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك.
قوله: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] يعني: إياه.
قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] أي: الذي لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.(4/13)
تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم)
قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] أي: أنبئ الملائكة بأسماء المسميات، فسمى آدم كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها.
وقوله: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ} يعني: قال تبارك وتعالى للملائكة موبخاً ومنبهاً: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ} يعني: ما غاب في السماوات والأرض.
{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} يعني: ما تظهرون من قولكم: (أتجعل فيها) إلى آخره {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} يعني: ما تسرون من قولكم: لن يخلق الله أكرم عليه منا ولا أعلم.(4/14)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قوله: {وَإِذْ} يعني: واذكر إذ {قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} أي: سجود تحية بالانحناء.
وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} وهو أبو الشياطين، وهو من الجن أو أبو الجن، لكنه كان يعبد الله سبحانه وتعالى مع الملائكة، فشمله الأمر الذي شمل جميع الملائكة؛ لأن هذا الأمر شمل جميع الملائكة، حتى جبريل وإسرافيل لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] وهذا تأكيد للعموم، فدل على أن جميع الملائكة وجه إليهم هذا الأمر، وإبليس كان يعبد الله سبحانه وتعالى معهم فمن ثمّ شمله هذا التكليف.
وقوله: (أَبَى) أي: امتنع من السجود (وَاسْتَكْبَرَ) أي: تكبر عنه، السين هنا للمبالغة، وتفسيرها: تكبر عن أن يسجد.
وقوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يعني: في علم الله تبارك وتعالى، أو صار من الكافرين، لكن الأشهر أن يقال: (وكان من الكافرين) يعني: في علم الله تبارك وتعالى.
وقوله عز وجل هنا: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) هذا الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم، بدليل قوله تعالى في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:28] يعني: في المستقبل؛ لأنه لم يكن قد خلق آدم عليه السلام، فالأمر بالسجود كان قبل خلقه، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].
وفي سورة (ص) قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:71 - 72].
إذاً: كان أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل خلقه.(4/15)
الرد على قياس إبليس الفاسد
قوله عز وجل: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) لم يبين الله تبارك وتعالى هنا موجب استكبار إبليس، فما هو الذي دفع إبليس إلى الاستكبار؟ بين الله تبارك وتعالى الأمر الذي جعل إبليس في نظره يستكبر عن السجود لآدم عليه السلام فيما حكاه عنه بقوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وفي قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]، وفي قوله: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:33].
فهذا القياس الإبليسي هو الذي حمله على الاستكبار؛ فإبليس قاس نفسه على عنصره وهو النار، وقاس آدم على عنصره وهو الطين، ثم استنتج من ذلك أنه خير من آدم؛ لأن إبليس خلق من نار، وآدم خلق من طين، وكان ينبغي ألا يمتنع عن السجود مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تبارك وتعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34].
وهذا القياس يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار.
وينبغي أن يذكر هنا شيء مهم جداً وهو: أن وجود النص أدل دليل على فساد القياس.
فقول تعالى: (اسجدوا) هذا نص، فهذا أول وجه ينبغي أن يقدم على غيره في إبطال هذا القياس الفاسد، ولذلك يقول الإمام أبو السعود المالكي في (مراقي السعود): والخلف للنص أو اجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعا والخلف للنص: يعني: أي نوع من القياس فيه مخالفة أو مساومة للنص من قرآن أو سنة أو إجماع فقد دعا: أي سماه ودعاه: فاسد الاعتبار كل من وعا، أي: يسميه (فاسد الاعتبار) كل من عقل ووعى وعلم.
فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس، وقياس إبليس هذا باطل من وجوه: الأول: أنه فاسد الاعتبار لمخالفته النص الصريح كما بينا، فقد ورد الأمر من الله: (اسجدوا لآدم)، وواضح من سياق الآيات أن هذا الأمر شمل إبليس لعنه الله.
الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين؛ لأنه بنى هذا القياس على أساس أن النار خير من الطين، بل في الحقيقة أن الطين خير من النار؛ لأن طبيعة النار الخفة والطيش والإفساد والتفريق، أما الطين فطبيعته الرزانة والإصلاح، فالطين تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتعطيه النواة فيعطيكها نخلة مباركة، وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض النظرة وما فيها من الثمار اللذيذة والأزهار الجميلة والروائح الطيبة وستعلم أن الطين خير من النار، وإذا أردت أن تعرف أضرار النار ومفاسدها فانظر إلى عنبر الحرائق في المستشفيات، أو انظر إلى صفحة الحوادث في الجرائد تعرف أثر النار وطيشها وفسادها وخفتها.
ثالثاً: لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين كما زعم إبليس فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعاً والفرع وضيعاً، كما قال الشاعر: إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا يخاطب الشاعر رجلاً ينتسب إلى أجداد وآباء شرفاء وهو بئس الرجل؛ لأنه رجل سيئ، فماذا ينفعه ذلك؟! فشرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، وقال الآخر: وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة وباهلة قبيلة كان عامة العرب ينشدون الأشعار في هجائها ووصفها بالدونية والاحتقار والصفات الدنيئة.
فلا تنفع الإنسان أخلاقه التي تنتمي إلى باهلة وإن كان نسبه وسلالته تنتهي إلى هاشم، فكل هذا يؤكد أن شرف الأصل لا يستلزم ولا يستوجب شرف الفرع.(4/16)
حكم السجود لغير الله
أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام كرامة عظيمة من الله تبارك وتعالى لآدم عليه السلام، وهذا السجود اختلف المفسرون فيه، فبعضهم قال: إنه سجود تكريم لآدم، وقيل: السجود كان لله، وآدم قبلة، وقيل: إن السجود لآدم كان تحية، وقيل: كان السجود لآدم عبادة بأمر الله، وهو سبحانه الذي فرضه عليهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال أهل العلم: السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه، وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله.
أي: أن السجود كان لآدم بأمر وإيجاب الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله تعالى قال: (اسجدوا لآدم) ولم يقل: اسجدوا إلى آدم، وهذا يبطل قول من قال: إن آدم كان قبلة وإن السجود كان لله؛ لأنه لم يقل: اسجدوا إلى آدم أو إلى جهة آدم، لكن قال: (اسجدوا لآدم).
يقول شيخ الإسلام: فإن الله تعالى قال: (اسجدوا لآدم) ولم يقل: إلى آدم.
وكل حرف له معنىً، وفرق بين قولك سجد له وبين سجد إليه، قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت:37]، وقال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15] قال: وأجمع المسلمون على أن السجود للأحجار والأشجار والدواب محرم، وأما الكعبة فيقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، ولا يقال: صلى لبيت المقدس ولا صلى للكعبة؛ لأننا لا نعبد الكعبة، وإنما الكعبة قبلة للعبادة فقط.
فلذلك نقول: صليت إلى القبلة أو إلى الكعبة، ولا نقول: صليت للكعبة.
قال: والصواب أن صاحب الخضوع بالقلب والاعتراف بالعبودية لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى، وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر.
يعني: أن خضوع القلب والتعبد لا يكون إلا لله، وأما السجود في حد ذاته فشريعة من الشرائع يتبع الأمر، فلو أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسجد لأحد من خلقه لسجدنا طاعة واتباعاً لأمره، ولو أمرنا الله أن نسجد لأحد من خلقه لأطعنا؛ لأنه أمر صادر من الله عز وجل.
فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم، وكذلك سجود أخوة يوسف له كان تحية وسلاماً، ولم يأتِ أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين، وبالجملة أهل السنة قالوا: إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية لآدم عليه السلام.
وقالت المعتزلة: كان آدم بالقبلة يُسجد إليه، ولم يسجدوا له، قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآيات الكريمة حجة عليهم؛ فإن أهل السنة قالوا: وصالح البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت: الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.
ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس بقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62] فكان هذا السجود فعلاً تكريماً لآدم، والدليل هنا في قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62].(4/17)
نوعية الملائكة الذين سجدوا لآدم عليه السلام
واختلف العلماء في الملائكة الذين أمروا بالسجود: فقيل: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى، وقيل: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، وهذا قول عامة أهل العلم بالكتاب والسنة، أي: أن الأمر كان موجهاً إلى جميع الملائكة، والدليل قوله تبارك وتعالى في هذه الآية ونحوها، يقول ابن تيمية: ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) فانظر إلى التوكيد؛ فإنه تأكيد للعموم.(4/18)
جنس إبليس
اختلف العلماء في إبليس: هل كان من الملائكة أم لا؟ وفي المسألة قولان: أحدهما: أنه كان من الملائكة، وهذا قول أكثر المفسرين؛ لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم، فلولا أنه من الملائكة لما توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصياً، ولما استحق الخزي واللعن.
القول الثاني: أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة؛ لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس؛ ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، كما قال تعالى حاكياً عنه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فهذا يدل على أنه لم يخلق مما خلقت منه الملائكة الذين خلقوا من نور، ولأن إبليس له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم.
قال في الكشاف: إنما تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؛ لأن إبليس كان في صحبتهم، وكان يعبد الله عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع.
والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وممن صححه البغوي، وأجابوا عن قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.
وعلى أي الأحوال الخلاف في هذا الأمر موجود بين العلماء، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى لما حكى هذا الخلاف رجح ما يراه راجحاً كعادته في التحقيق، وهذا حري به، كما يعبر العلماء دائماً عنه فيقولون: قال الإمام المحقق ابن القيم الجوزية؛ لأن ابن القيم يتميز بتحقيق المسائل وتمحيصها من الناحية العلمية، ويذكر التفصيل في المسألة.
فبعض العلماء يقولون: إن الصحيح: أنه كان من الملائكة، وهذا نوع من الملائكة اسمهم الجن؛ لأنهم يخفون ولا يظهرون، والبعض قال: كان هو أبو الجن أو أصل الجن، لكن كان يعبد الله مع الملائكة، وإن لم يكن من جنسهم، فلذلك شمله الأمر معهم، حتى قال بعضهم: إنه كان منافقاً يظهر موافقة الملائكة في العبادة فقط.
يقول ابن القيم: الصواب التفصيل في المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته يعبد الله معهم، وليس منهم بمادته وأصله، فأصله من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت لم يتواردا على محل واحد، فمن يقول: هو من الملائكة يشير إلى صورته أنه كان مع الملائكة في عبادة الله، والذي يقول: ليس من الملائكة يتحدث عن أن أصله من نار، وليس كالملائكة الذين أصلهم من نور.
وقيل: إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار، وإنما سموا جناً لاستتارهم عن الأعين، فإبليس كان منهم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158] أي: وبين الجن؛ لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، والعياذ بالله! قيل: ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية، وقد سئل الشعبي: هل لإبليس زوجة؟ فقال: ذلك عرس لم أشهده! أي: حفل زواج ما كنت حاضراً فيه، قال الشعبي: ثم قرأت هذه الآية فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة.
وقال قوم: ليس له ذرية ولا أولاد، وذريته هم: أعوانه من الشياطين.(4/19)
تحديد وقت كفر إبليس
قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فيها قولان: أحدهما: أنه وقت العبادة كان منافقاً من الكافرين، يعني: كان يعبد الله مع الملائكة، لكن كان منافقاً كذاباً في هذه العبادة.
القول الثاني: أنه كان مؤمناً ثم كفر، يعني: أنه كان من الكافرين في سابق علم الله، أو صار من الكافرين، وهذا قول الأكثرين، أي: أنه كان مؤمناً ثم كفر.
والذي عليه الأكثرون أن إبليس هو أول كافر بالله.
واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس لعنه الله: فقالت الخوارج: إنما كفر بمعصية الله، وكل معصية كفر، وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، إذ ليس كل معصية كفراً.
وقال آخرون: كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله.
وقال آخرون: كفر لأنه خالف الأمر الشفهي من الله، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود، ومخالفة الأمر الشفهي أشد قبحاً.
وقال جمهور الناس: كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن واعتقد أنه محق في تمرده؛ لأن إبليس طعن في حكمة الله وأمره، وهذا كفر لا شك، بخلاف المعصية الظاهرة، واستدل أيضاً إبليس بقوله: أنا خير منه، فكأنه ترك السجود لآدم تسفيهاً لأمر الله وحكمته، وهذا الكبر عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).(4/20)
الرد على من قال: إن الشجرة التي نهي آدم عنها هي شجرة العلم والمعرفة
العلماء يقولون: إن السجود كان بعد خلق آدم، بعد أن أظهر الله شرف آدم عليهم بالعلم؛ وذلك بعد أن علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضها على الملائكة، فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31]، ثم قال: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) إلى آخر الآيات، والشاهد من ذلك: أن الله شرف آدم على الملائكة بالعلم، وبعدما شرفه بالعلم أمرهم بالسجود له.
وفي هذا التفسير رد على ما يدعيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن أصل انحرافهم في العقيدة في هذا الباب هو ابتداءً من قصة آدم عليه السلام؛ فهم اقتبسوا هذا القصة من الهنادكة والبوذيين والبراهمة وقدماء المصريين.
وهم يزعمون أن الله سبحانه وتعالى أباح لآدم وحواء أن يأكلا من أي شجرة من شجر الجنة ما عدا شجرة معينة، ويزعمون أنها شجرة العلم والبصيرة والمعرفة! ويزعم هؤلاء الكفار بأن الله سبحانه وتعالى كان يخشى من آدم؛ لأن آدم لو أكل من هذه الشجرة فسيصير عنده علم ومعرفة وبصيرة، فلذلك نهاه حتى يبقى بلا معرفة وبصيرة! قالوا: ولما خالف آدم الأمر، وأكل من شجرة المعرفة والبصيرة صار عنده علم ومعرفة وبصيرة، فلذلك -والعياذ بالله- غضب الله عليه، وطرده من الجنة من أجل ذلك!(4/21)
الرد عل من يزعم أن آدم وحواء ورثا البشرية الخطيئة
ليس عند أهل الكتاب أن الله سبحانه وتعالى تاب على آدم وحواء، بل تلوثا بالخطيئة، وليس هذا فحسب، بل ورثا البشرية هذه الخطيئة، وهو ما يسمونه بسر عظيم جداً من أسرار الكنيسة، وهو الخطيئة الأصلية، يعني: أن الإنسان يولد ملوثاً بالخطيئة! مع أن كل مولود يولد نقياً طاهراً كما يبين لنا النبي عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمته) فضرب المثل في النقاء والطهارة والصفاء والبراءة بالإنسان كما ولدته أمه بلا خطيئة.
وأما عند هؤلاء فأسوأ يوم وأسود يوم على الإنسان هو يوم تلده أمه؛ لأنه يولد بلا ذنب وبلا جريمة ومع ذلك يكون ملوثاً بخطيئة آدم، ولا يتطهر من هذه الخطيئة حتى الأنبياء!! وفي زعم النصارى أن الأنبياء الذين ماتوا قبل المسيح عليه السلام سوف يدخلون سجن جهنم بعد موتهم! حتى نوح وهود وكل الأنبياء؛ لأنهم يتحملون وزر وخطيئة آدم! وعليه بنوا هذه النظرية الغسانية المشركة التي اقتبسوها من قدماء المصريين، وهذا ثابت بالأدلة التاريخية، والهنود وأهل الوثنية اقتبسوا منهم نظرية أن الخطيئة لابد منها والعياذ بالله! وأن ربنا ينزل ويجسد ويذبح حتى يمحوا عن البشرية هذه الخطيئة، وهم مع ذلك يتناقضون، فإذا كان المسيح تحمل خطايا البشر فلماذا يشترطون التعميد؟! والتعميد عندهم هو: أن الطفل الذي لا يغطس في الماء الذي يسمونه مقدساً -والله أعلم هو منجس أم مقدس- يبقى حاملاً هذه الخطيئة! فمعنى ذلك: أنه رغم ما يزعمون من نزول المسيح وصلبه والعياذ بالله! فما زالت البشرية ملوثة في اعتقادهم، حتى إنهم في بعض الأراضي الموقوفة للكنيسة في بعض البلاد يمنعون دفن أي مولود أو أي إنسان إذا لم يكن قد عمد؛ لأنهم لا يعتبرونه قد دخل في النصرانية؛ لأن هذه عندهم صبغة مهمة جداً، ولابد أن يعمد بهذا الماء الذي يصفونه بأنه مقدس! وليس الآن أوان التفصيل في موضوع التعميد، لكن الشاهد أن هذه نقطة مهمة جداً في العقيدة بيننا وبين أهل الكتاب، وهذا بسبب تحريفهم كلام الله عز وجل، ولذلك انعكست هذه القضية في موقف الحضارة الغربية المعاصرة في العلاقة بين العلم والدين، فهم لهم انطباع أن هناك عداوة بين العلم وبين الدين مبنية ومأخوذة من هذا التصور الموجود في التوراة، وهو أن هذه الشجرة كانت شجرة المعرفة، فالدين هو دين الله، والعلم هو شجرة المعرفة، فالدين يكره العلم ويخاف منه، وبينهما عداوة، ولذلك الله سبحانه وتعالى حذر آدم أن يأكل من هذه الشجرة لأنه كان يخاف أن يصير لآدم بصيرة وعلم! -تعالى الله وحاشاه-.
فهذا الانطباع هو السبب في العداء بينهم وبين الدين والعلم دائماً، ويعتقدون أن الدين عدو للعلم، وأنهما متناقضان، ولا يمكن أن يلتقيا.
ثم جاءت التجربة الواقعية فأكدت هذا الأمر حينما حصل الصراع بين الكنيسة وبين الاكتشافات الحديثة، فكلما كان يكتشف علماؤهم نظرية أو حقيقة علمية كان القساوسة وعلماء الطبيعة والفيزياء -إن جاز هذا التعبير- يتصادمون، فلما حصل هذا الصدام حصل التمرد والكفر بالكنيسة وظهور دين العلمانية الجديد! فهم لما فقدوا الثقة في النصرانية لم يبحثوا عن الدين الحق، لكن هجروا الحق وذلك الدين المحرف معاً.
فقصة آدم عليه السلام لها تأثير خطير في التصور النصراني، وهي قضية أصلية جداً في العقيدة عندهم، وأن آدم وحواء لم يتب الله عليهما، وإنما نزلا ملوثين بالخطيئة، بل ورثا الخطيئة كل البشرية من بعدهم! هذا مظهر من مظاهر الانحراف عند أهل الكتاب، وهناك انحراف آخر عند الذين يتبنون نظرية دارون أو ما يسمى بنظرية التطور أيضاً؛ فهم ينكرون هذه الحقيقة التي يصدع بها القرآن، وينكرون أن أصل البشرية شيء اسمه آدم وحواء؛ لأن العملية عندهم موضوع خلية تركبت ونمت وحصل تطور عبر آلاف سحيقة من القرون، ثم كان منها الإنسان إلى آخر هذا الكلام! وليس الأوان أوان مناقشة هذا بالتفصيل، لكن هذه إشارة واضحة إلى فساد هذه العقيدة، وكما هو معلوم فقد بين القرآن أن بداية البشرية كانت خلقاً مباشراً من الله سبحانه وتعالى لآدم، ثم بعد ذلك لـ حواء، وليس كما يزعم أصحاب نظرية التطور، وقد هزمت الآن، وليس فقط بالأدلة الدينية حتى بالأدلة العلمية وأدلة علم الجينات أو الوراثة.(4/22)
تفسير سورة البقرة [35 - 49](5/1)
تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً)
قال تبارك وتعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].
قوله: (اسْكُنْ أَنْتَ) هذا تأكيد للضمير المستتر في (اسكن) حتى يعطف عليه (وزوجك) وقوله: (وَزَوْجُكَ) يعني: حواء بالمد، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر.
وقوله: (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي: كلا منها أكلاً رغداً، يعني: واسعاً كثيراً لا حجر فيه، فمعنى (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا): كلا منها أكلاً رغداً، ولابد من تقدير كلمة أكلاً، ورغداً هنا صفة.
قوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) يعني: لا تقربا هذه الشجرة بالأكل منها، وليس المقصود الدنو في حد ذاته، إنما المقصود الأكل منها، والشجرة قيل: هي الحنطة أو الكرم، وقيل: غيرهما.
وقوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني: فتصيرا من العاصين.
لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وخلق له زوجه وأقرهما في الجنة أباحهما الأكل منها بقوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة:35] أي: أكلاً واسعاً.
وقوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا) حيث للمكان المبهم، أي: من أي مكان من الجنة شئتما.
وأطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة الغاية حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه، يعني: إذا كان الله سبحانه وتعالى أباح لهما كل ما في الجنة، فإذا حرم عليهما شيئاً واحداً فقط لا يبقى لهما عذر في مخالفة هذا الأمر؛ لأن الله قد أباح لهما الكثير.
وهذا حتى الآن واقع معنا، فالناس دائماً يعيبون المتدينين، ويقولون لهم: أنتم كل شيء عندكم حرام! فنقول: لا، ليس كل شيء حراماً، بل إذا تأملت في نعم الله سبحانه وتعالى علينا وجدت كل شيء حلالاً إلا أشياء يسيرة، فالماء حلال، والعصير حلال، والفواكه حلال، واللحم حلال، ودائرة الحلال واسعة جداً، ودائرة الحرام ضيقة جداً.
فهنا كذلك الله سبحانه وتعالى أباح لهما كل ما في الجنة فقال: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي: أكلاً واسعاً من أي مكان شئتما، فلم يبق لهما عذر إذا خالفا هذا الأمر وقد وسع الله عليهما هذه التوسعة.
وقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي: هذه الشجرة الحاضرة، يعني: لا تقربا منها، ولم يقل: ولا تأكلا من هذه الشجرة، ولكن قال: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، وهذا مبالغة في تحريم الأكل منها، ووجوب الابتعاد عنها، وهذا نلاحظه في كثير من تعبيرات القرآن، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152].
وفي الحديث: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى يحوم حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)، فعلق النهي بالقربان منها مبالغة في تحريم الأكل ولزوم الاجتناب عنه؛ لأن القرب من الشيء يقتضي الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء تعمي وتصم، فالمحب لا يرى قبيحاً، ولا يسمع نهياً، فيقع في الحرام.
والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، فحكمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يحرم شيئاً إلا ويحرم كل وسيلة تسهل وتؤدي إليه، فلما حرم الزنا حرم كل سبب يقرب إليه، وسد الذرائع من بعيد، حتى يكون الناس في مأمن وفي حصن من ذلك، فأمر بغض البصر، وحرم إطلاق البصر فيما حرم الله سبحانه وتعالى، وأمر المرأة بالحجاب، ومنع مصافحة الأجنبية، ومنع الخلوة بها، ومنع سفر المرأة بدون محرم؛ لأن هذه كلها وسائل للاعتداء على الأعراض.
فالسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) فلما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة تدعو إلى المحبة، وذلك مفضٍ لارتكابه؛ صار النظر مبدأ الزنا.(5/2)
سبب العطف في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء
قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا} [البقرة:35] فعطف بالواو، وفي سورة الأعراف قال تبارك وتعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا} [الأعراف:19] وهذا عطف بالفاء يقول القاسمي رحمه الله: جاء في آية الأعراف (فكلا)، وفي آية البقرة بالواو؛ لأن كل فعل عطف عليه شيء وكان ذلك الفعل كالشرح، وذكر الشيء كالجزاء؛ عطف بالفاء دون الواو؛ لأن الفعل يقع في جواب الشرط، فإذا فهم من سياق النص عطف بالفاء لا بالواو، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة:58] يعني: كانوا خارج القرية، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إذا دخلتم فكلوا منها، يقول: لما كان الأكل ووجود الأكل منها متعلقاً بدخولها ذُكر بالفاء، وكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، ففيها معنى فعل الشرط وجواب الشرط، فجاء فيها بالفاء فقال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة:58].
وقال في الأعراف: {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} [الأعراف:161] بالواو دون الفاء لأنه من السكنى، وهو المقام مع اللبث الطويل، فقوله: (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) المقصود هنا: التعبير بالإقامة فيها، فهل الإقامة فيها تستلزم الأكل؟ لا، لا تستلزم أن يظل الإنسان مقيماً في القرية لا يقوم فيها بشيء غير الأكل، فالسكون هنا هو مجرد اللبث في القرية، فلذلك يقول: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} [الأعراف:161] بالواو دون الفاء لأنه من السكنى، وهو المقام مع اللبث الطويل، ومن دخل بستاناً قد يأكل منه وقد لا يأكل منه، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط عطف بالواو، فلذلك قال في هذه الآية: {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} [الأعراف:161] لكن في الآية الأخرى قال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة:58]؛ لأنهم كانوا خارج القرية، والمراد: إن دخلتموها فكلوا، أما هذه فالأمر منصب على معنى الاستقرار فيها، ولا يستلزم ذلك الأكل منها.
يقول: وإذا ثبت هذا نقول: قد يراد بـ (اسكن) الزم مكاناً دخلته، ولا تنتقل عنه، وقد يراد: ادخله واسكن فيه، فقوله تعالى هنا في سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا} [البقرة:35] يدل على أن آدم دخل الجنة، وكان موجوداً فيها، فلذلك عطف بالواو، فالمراد هنا: المكث، والأكل لا يتعلق به، فجيء بالواو، وفي الأعراف ورد الأمر قبل أن يدخل الجنة فقال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، والمراد: الدخول، والأكل متعلق به، يعني: إن دخلت فكل، فلذلك وردت بالفاء في الأعراف وبالواو في سورة البقرة.
ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة؛ إذ لا حاجة إليه؛ لأنه ليس المقصود أن تعرف عين تلك الشجرة، وما لا يكون مقصوداً لا يجب بيانه.
وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] أي: الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تبارك وتعالى.(5/3)
سبب أكل آدم من الشجرة
آدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل، وإلا فإن آدم لم يقصد المعصية والمخالفة، ولم يقصد أن يكون ظالماً مستحقاً للشقاء، لكن إبليس خدعه، كما أخبر الله عنه بقوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] فآدم عليه السلام كان من طهارة وبراءة قلبه وسلامة نيته لا يتصور أبداً أن مخلوقاً من خلق الله يحلف بالله كاذباً، وهذا يدل على براءة آدم من تعمد المعصية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الصواب أن آدم عليه السلام لما قاسمه عدو الله -أي: حلف له أنه ناصح- وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات: أحدها: القسم: (وقاسمهما).
والثاني: الإتيان بجملة اسمية لا فعلية: (إني لكما لمن الناصحين).
والثالث: تصديرها بأداة التأكيد.
الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر.
الخامس: الإتيان به اسم فاعل لا فعلاً دالاً على الحدث.
السادس: تقديم المعمول على العامل فيه.
ولم يظن آدم أن أحداً يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً؛ فظن صدقه، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة المعصية بعد ذلك باعتذار أو توبة.(5/4)
تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه)
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (فأزلهما إبليس) أي: أذهبهما، وفي قراءة (فأزالهما) أي: نحاهما.
وقوله: (عنها) أي: الجنة، بأن قال لهما: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21].
وقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أي: من النعيم.
وقوله: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) يعني: إلى الأرض.
وإذا قلنا: إن الخطاب هنا موجه إلى آدم وحواء فيقصد به آدم وحواء وما اشتملا عليه من ذريتهما.
وقوله: (بَعْضُكُمْ) أي: بعض الذرية (لبعض عدو) يعني: من ظلم بعضكم بعضاً.
وقوله: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي: موضع قرار.
وقوله: (وَمَتَاعٌ) يعني: ما تتمتعون به من نباتها.
وقوله: (إِلَى حِينٍ) أي: إلى وقت انقضاء آجالكم.(5/5)
تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)
قوله تبارك وتعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] يعني: ألهمه الله سبحانه وتعالى كلمات، وفي قراءة أخرى (فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ).
وقد بين الله تعالى هذه الكلمات في سورة الأعراف في قوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فلما تلقى هذه الكلمات دعا بها.
وقوله: (فتاب عليه) أي: قَبِلَ الله سبحانه وتعالى توبته.
وهل معنى ذلك أن حواء لم تقبل توبتها؟
الجواب
كلا! وإنما لم تذكر حواء في التوبة لأنه لم يجر لها ذكر في سياق هذه الآيات، لا أن توبتها لم تقبل، بل توبتها قبلت.
وقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) يعني: على عباده (الرَّحِيمُ) بهم.(5/6)
تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى)
قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا) يعني: من الجنة، (جميعاً) كرره ليعطف عليه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) وهذا فيه إدغام، يعني: أصلها (فإن ما) فأدغمت نون (إن) الشرطية في (ما) الزائدة، فصارت: (فإما).
وقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) يعني: كتاب ورسول.
وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) أي: فآمن بي وعمل بطاعتي.
وقوله: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني: في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.(5/7)
الخلاف في ماهية ومكان الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام
هناك خلاف كبير جداً بين العلماء في هذه الجنةالتي كان فيها آدم عليه السلام؟ فبعضهم قال: إنها كانت جنة في الأرض على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء، وقالوا: الهبوط يعني: الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة:61] واستدلوا بأدلة كثيرة.
وفريق آخر من العلماء قال: إن هذه الجنة هي جنة الخلد، وجنة المأوى، وليست جنة في الأرض.
يقول ابن مفلح رحمه الله: أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها الله آدم جنة الخلد دار الثواب، ثم قال: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال: إنها جنة في الأرض بالهند أو جدة أو غير ذلك فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول.
وقد استوفى الكلام فيهما الإمام العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابين هما: مفتاح دار السعادة، وكذلك كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
وابن القيم بعدما سرد بالتفصيل أدلة كل فريق من الفريقين لم يرجح، وإنما ختم كلامه ببيت شعر هو: إذا تلاقت الفحول في لجب فكيف حال الغصيص في الوسط يعني: أنه يعتذر عن الترجيح في هذه المسألة.(5/8)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] (بآياتنا) يعني: كتبنا.
وقوله: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: ماكثون أبداً لا يفنون ولا يخرجون.(5/9)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
لما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم في الآيات السابقة، تكلم عن بدأ الخلق، وذكر قصة آدم وحواء عليهما السلام، ودعا وخص من كل بني آدم بني إسرائيل بالذات، فخص سبحانه وتعالى بالخطاب بني إسرائيل -وهم اليهود- لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد جرى الكلام معهم هنا من الآية رقم (40) إلى الآية رقم (142)، فكل الخطاب في الآيات المقبلة إلى الآية رقم (142) هو في بني إسرائيل، يعني: أن مائة آية كلها في خطاب بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا أولى الناس بأن ينقادوا ويؤمنوا بهذا النبي الأمي العربي صلى الله عليه وآله وسلم.
ونلاحظ في هذه الآيات المائة أنه تارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بذكر إنعام الله سبحانه وتعالى عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وتارة بذكر عقوباتهم التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها، فقال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأن إسرائيل هو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد هيجهم الله تعالى بذكر أبيهم إسرائيل، كما قال لنا في أول سورة الإسراء: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] يخاطبنا بذلك؛ لأن الأب الثاني للبشرية هو نوح عليه السلام، وذكرنا بنوح؛ لأن نوح عليه السلام كان عبداً شكوراً؛ كان يأكل اللقمة فيحمد الله عليها، ويشرب الشربة فيحمد الله عليها، فهذا تعريض بنا نحن.
فقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] أي: كونوا كأبيكم نوح؛ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] أي: فكونوا أنتم كذلك شاكرين لله سبحانه وتعالى كأبيكم نوح، فهذا هو المقصود بقوله: (ذرية) يعني: يا ذرية (مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) أي: فكونوا مثله.
وهنا خاطب بني إسرائيل باسم أبيهم يعقوب عليه السلام تهييجاً لعواطفهم، وتذكيراً بأن هذا العبد الصالح كان مطيعاً لله، يعني: فكونوا مثله، وكأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن العالم! اطلب العلم، فكذلك هنا المراد: يا بني إسرائيل العبد الصالح المطيع لله! أطيعوا الله كما أطاعه أبوكم إسرائيل عليه السلام.
وقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل كثيرة جداً منها: اصطفاؤه منهم الرسل؛ لأن الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام كانوا جميعاً من ذرية يعقوب عليه السلام، ولم تخرج عنهم إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من ذرية إسماعيل عليه السلام.
ومن هذه النعم إنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وألا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه سبحانه وتعالى عنده.
فالنعم نص الله عليها في كثير من الآيات مثل قوله تبارك وتعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، ومثل قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49]، ومثل قوله تعالى: {ونريد أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ العهد هو: الميثاق، وقد أشير إليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] فهذا هو عهده، وهذا هو عهدهم.
أما عهدهم هم فهو في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} [المائدة:12] يعني: أن هذا هو حق الله على العباد، كما جاء في حديث معاذ.
إذاً: العهد الذي أخذه الله عليهم بينه الله في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة:12].
ومن هذا العهد أيضاً ما جاء في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فهذا أيضاً داخل في عهدهم.
أما عهد الله فهو: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] فهذا عهده، وهذا عهدهم، فعهد الله هو وصيته لهم بما ذكر في الآية، ومنها الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام؛ لأن الآية: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} [المائدة:12] ومنهم خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وعهده تعالى إياهم هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة.
وقوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي: اخشوني واتقوني أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل! والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به، وتتبعوه، فإن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه أحل بكم عقوبتي.(5/10)
تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم)
قوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] يعني: من القرآن، {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة:41] من التوراة، بموافقته له بالتوحيد، وإثبات النبوة: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، يعني: من أهل الكتاب، فهذه أولية نسبية، وإلا فإن أول من كفر بالكتاب هم كفار قريش، لكن المقصود هنا: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) ممن حقهم أن يكونوا أول المؤمنين به؛ لأن عندهم خبره في التوراة من قبل، فقوله (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن مَنْ خلفكم تبعٌ لكم، فإثمهم عليكم، فكل من يأتي بعدكم ويقتدي بكم في هذه السُّنة القبيحة، وهي التكذيب بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ فإثمه عليكم مع تحمله لإثمه.
{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} [البقرة:41] يعني: لا تستبدلوا، وهذه استعارة، (بآياتي) يعني: التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم (ثمناً قليلاً) أي: عوضاً يسيراً من الدنيا، أي: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] أي: خافونِ في ذلك دون غيري.(5/11)
تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)
قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] أي: لا تخلطوا الحق بالباطل، الحق الذي أنزلت عليكم، بالباطل الذي تفترونه (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) عطف يعني: ولا تكتموا الحق، وهو نعت وصفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: والحال أنكم تعلمون أنه الحق، والواو هنا (وأنتم تعلمون) واو الحال.
هنا يذكر القاسمي رحمه الله تعالى تنبيهاً فيقول: كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، فيقولون: أيها المسلمون يوجد في كتابكم عبارات أو نصوص أو آيات تؤكد أن التوراة هي كلام الله، وأن التوراة من عند الله كقوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:89]، وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس:37] وقد ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة بما يرد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها، ومعنى كون القرآن مصدقاً لما معهم، أي: مصدقاً لما تحتويه من صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصحة البشائر عنه؛ لأن التوراة محتشدة بعشرات الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسبق أن تكلمنا فيها من قبل في بحث الإيمان بالرسل، وأدلة صدق النبوة؛ والوقت الآن لا يحتمل التفاصيل، لكن معلوم أن الملائكة منذُ أن أتت بالبشارة إلى إبراهيم وهاجر بشرا أيضاً بخروج هذا النبي من نسل إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] أي: أنه جاء صدق ما عندهم في التوراة والإنجيل، بمعنى: أن أحوالهم جميعاً توافق البشائر.
قوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] أي: لا تكونوا أول كافر به من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثي، فهذه الأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول من خوطب بالقرآن من بني إسرائيل، أو هو تعريض بأنه يجب عليهم أن يكونوا أول من يؤمن به؛ لمعرفتهم به ولصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحي إليه، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا بخروجه صلى الله عليه وسلم، ويقولون للعرب: نحن ننتظر نبياً يبعث فننضم إليه ونهزمكم ونغلبكم، فلما بعث كفروا به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
ثم يقول تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، وهذا تقبيح لحالهم، لأنهم إن كانوا لا يعلمون فربما عُذِر الجاهل، لكن كيف بمن يعلم أن هذا هو الحق، ويعرض عنه؟! أي: ليس لكم عذر؛ لأن الجاهل قد يعذر، أما العالم فلا يعذر في جحوده الحق.(5/12)
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)
قال تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، هذا دليل على أن كل الأنبياء خوطبوا بالصلاة، وما خلت شريعة من الشرائع من إقامة الصلاة، وهنا الأمر متكرر في ظاهره (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فدار اللفظ بين التأسيس والتوكيد فيحمل هذا الأمر على التأسيس؛ لأن فيه معنىً زائداً.
إذاً نقول: إن قوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين) ليست تأكيداً لـ (أقيموا الصلاة) وإنما هي أمر زائد على مجرد إقامة الصلاة وهو: أن تكون في جماعة، فهذا أمر بصلاة الجماعة، وقوله: (وأقيموا الصلاة) أمر بتأدية الصلاة.
والأمر بإقامة الصلاة لا يأتي في القرآن بكلمة (صلوا)، ولكن يأتي بـ (أقيموا) يعني: مراعاة حدودها، وآدابها، وخشوعها، وحضور القلب فيها، وليس مجرد الصلاة، ودائماً القرآن يمتدح المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة، كما قال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3]، وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]، وقال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} [البقرة:177]، وما ذكر لفظ (صلى) إلا في المنافقين: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، إلى آخر الآيات، أما ما جاء في سورة المعارج من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، هذه في المؤمنين فما الجواب؟
الجواب
أنه أتبعها بمعاني إقامة الصلاة، فوافقت كل ما ورد في القرآن من التعبير عن ذلك بإقامة الصلاة، فإنه لم يقل: (إلا المصلين) وسكت؛ لكن أتى بمعنى إقامة الصلاة بقوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23]، ثم ذكر جملاً من الصفات وختم الآيات بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، فأضاف نفس معنى إقامة الصلاة إلى وصف المصلين.
يقول تبارك وتعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، هذا أمر بالصلاة مع المصلين، يقول الإمام السيوطي هنا: هم محمد وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله تعالى عنهم، ويؤخذ من هذا: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهنا أمرهم بصلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم.(5/13)
تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
قال السيوطي رحمه الله تعالى: ونزل في علمائهم، وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين: اثبتوا على دين محمد فإنه دين الحق، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يعني: يا أيها اليهود! أتأمرون الناس بالبر يعني: بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، (وتنسون أنفسكم) النسيان هنا بمعنى: الترك، والنسيان يأتي بمعنى ضد التذكر، وبمعنى الترك، فهنا: (وتنسون) يعني: تتركون أنفسكم فلا تأمرونها بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم تتلون الكتاب، يعني: التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل؛ لكن إذا قلنا: إن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فالكتاب المقصود به هو القرآن الكريم، فإنه يستقيم أن يكون الخطاب لليهود، وذلك إذا قلنا: إن الكتاب هو التوراة، فإذا قلنا: هو القرآن فيعم كل من يخاطب بهذا القرآن الشريف.
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يعني: أفلا تعقلون سوء فعلكم، وترجعون؟! فجملة النسيان هي محل الاستفهام الاستنكاري أي: كيف يحصل منكم ذلك؟ هذا هو المقصود.(5/14)
تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)
يقول تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، هذا أمر بالاستعانة بالصلاة، غير أن الآيات هنا لم تبين نتائج الاستعانة بالصلاة، لكن بينت آيات أخرى نتائج الاستعانة بالصلاة، مثل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فمن نتائج الاستعانة بالصلاة: النهي عما لا يليق، ومنها: أنها تجلب الرزق، لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، فالصلاة أفضل ما يفزع إليه الإنسان عند الكربات.
قوله: {وَاسْتَعِينُوا} [البقرة:45] أي: اطلبوا المعونة على أموركم بالصبر، وهو حبس النفس على ما تكره، وأفرد الصلاة بالذكر تعظيماً لشأنها، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة)، وقيل: الخطاب لليهود، لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة أمروا بالصبر، وهو الصوم؛ لأنه يكسر الشهوة، والصلاة بأنها تورد الخشوع وتنفي الكبر.
{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] (وإنها) يعني: الصلاة، (لكبيرة) يعني: ثقيلة، {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] أي: الساكنين إلى الطاعة.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة:46] يعني: يوقنون، والظن يأتي بمعنى الشك وبمعنى اليقين، ومثله قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20]، (إني ظننت) يعني: أيقنت (أني ملاق حسابيه).
إذاً: قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] أي: محشورون إليه يوم القيامة للجزاء، والظن هنا بمعنى: اليقين، كما في قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20]، وكذلك يقول تعالى في صفة المؤمنين: {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]، يقول ابن جرير: العرب قد تسمي اليقين ظناً، نظير تسميتهم الظلمة: سُدفة، والضياء: سدفة، فكلمة سدفة -بالسين والدال والفاء- بمعنى: الظلام وبمعنى: الضياء؛ كذلك تسمي المغيث صارخاً، والمستغيث صارخ أيضاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي سمي بها الشيء وضده، والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصى.(5/15)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] يقول القاضي: محمد بن كنعان في قرة العينين: قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40] قد قصت الآيات من الآية: (40) إلى الآية: (123) من سورة البقرة أخبار بني إسرائيل، واليهود منهم خاصة مع موسى عليه السلام، وطرفاً من أخبار النصارى، فالتبس على بعض الناس ما فيها من ثناء على بني إسرائيل، وما في آيات أخرى من ذم اليهود ولعنهم، وسبب ذلك عدم التفريق بين بني إسرائيل واليهود، والظن بأنهما شيء واحد، وهذا خطأ واضح؛ لأن القرآن الكريم فرق بينهما، فإذا جمعنا الآيات التي تذكر بني إسرائيل في مقابلة الآيات التي نزلت في اليهود، نرى أن إسرائيل هو لقب نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وأن بني إسرائيل هم أولاده، يوسف وإخوته وذرياتهم، يعني: يوسف عليه السلام لما انتقل إلى مصر، وكان له مكان من المجد والوزارة والجاه العظيم، واستجلب إخوته ووالديه إلى مصر، كثروا كثرة عظيمة، فهؤلاء هم بنو إسرائيل، يعني: يوسف وإخوته وذرياتهم، قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران:93]، فإسرائيل وبنوه كانوا مسلمين، فعندما يذكر الله تبارك وتعالى بني إسرائيل بخبر فالمقصود أولاد يعقوب، الصالحين والطالحين من ذريتهم لا اليهود، أما اليهود فهم الذين عبدوا عجل السامري ثم تابوا، واسمهم مشتق من هادَ بمعنى: تاب ورجع، ولكن توبتهم لم تكن صادقة، قال الله حاكياً عن موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] يعني: رجعنا وتبنا إليك، ويقول تعالى في أمرهم: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، وهم فئة من بني إسرائيل، وليسوا كل بني إسرائيل، فليس كل إسرائيليٍّ يهودياً، كما أنه ليس كل يهودي إسرائيلياً.
يقول تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) يعني: بالشكر عليها بطاعتي ((وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ)) يعني: فضلت آباءكم؛ لأن تفضيل الآباء شرف للأبناء، قال ذلك مع أنه يخاطب اليهود وبني إسرائيل الذين كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (عَلَى الْعَالَمِينَ)، هذا عام يراد به الخاص، أي: على عالَمِي زمانهم، واليهود كثيراً ما يتشدقون بهذه الآيات في المحافل الدولية، حتى كانوا في الأمم المتحدة من قبل يأتون بنصوص من القرآن لتثبت أحقيتهم بفلسطين، وبأن القرآن يمدحهم؛ ولذلك كان بعض العلماء لما كان يتناظر مع أحد اليهود وأراد أن يلزم العالم المسلم بقوله: أنا أقر بنبوة موسى، وأنت توافقني عليها، وفي نفس الوقت لا أقر بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فيلزمك أن توافقني أنا ولا أوافقك أنت! فأجابه العالم: إن كان موسى الذي بشر بمحمد فهذا الذي أوافقك على نبوته، وإن كان موسى الذي ما بشر به فهذا لا أقر بنبوته.
فالشاهد: أن هذه الآيات فيها امتنان على بني إسرائيل، على عالمي زمانهم، وليس على الإطلاق، فهذا عام أريد به الخاص؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بأن أنزل عليهم الكتب وجعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكاً.(5/16)
تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]، (واتقوا يوماً) أي: خافوا عذاب يوم، أو اتقوا ((يَوْمًا لا تَجْزِي)) يعني فيه: ((نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ)) المقصود هنا: نفس كافرة يعني: لا تجزي نفس كافرة عن نفس شيئاً، والمراد باليوم يوم القيامة، وهنا قراءتان: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ))، أو (لا تُقبل منها شفاعة) فلو أن الإمام قرأ في الصلاة: (ولا تقبل منها شفاعة) فلا ترد عليه؛ لأن هذه من القراءات المتواترة الثابتة.(5/17)
نفي الشفاعة عن الكفار
قوله تعالى: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)) أي: لا تجزي نفس كافرة عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، وهل يفهم من هذه الآية: أن الكافر له شفاعة؟ لا، وهذا أسلوب من أساليب العرب، فإنه يوجد حذف، لذلك ننظر إلى دقة الإمام السيوطي رحمه الله حيث يقول: لا تجزي نفس عن نفس شيئاً وهو يوم القيامة، ولا تقبل منها شفاعة أي: ليس لها شفاعة فتقبل، وهذا خلاصة بحث كبير، فالمعنى: ليس لها شفاعة أصلاً حتى تقبل، فهو لا ينفي قبول الشفاعة إن وجدت بل ينفي وجود الشفاعة من أصلها، وهذا التفسير من أدق التفاسير لهذه الآية، وهذا الأسلوب له نظائر مثل قول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود الديافي جرجرا هو يحكي هنا عن الجمل، فمن عادة الجمل أنه إذا طال به البعد عن المكان الذي يقيم فيه فيشم التراب، فهو يميز المسافات عن طريق رائحة التراب، فقوله هنا: على لاحب لا يهتدى بمناره: المقصود لا منار فيه أصلاً فيهتدى به، والصحراء القاحلة لا يوجد فيها منار أصلاً، لكن في الظاهر أن هناك مناراً، لكن هو يقول: على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود الديافي جرجرا (إذا سافه) يعني: شم (جرجرا) يعني: حن إلى الوطن أو إلى الأرض التي يقصدها، فمعنى: على لاحب لا يهتدى بمناره: يعني: لا منار فيه أصلاً.
ومن ذلك قول الشاعر: بأرض فضاء لا يسد وصيدها عليّ ومعروفي بها غير منكر الوصيد هو الباب كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، فالشاعر يقول: بأرض فضاء لا يسد وصيدها عليّ ومعروفي بها غير منكر فمعناه: أرض فضاء ليس فيها وصيد أصلاً، لكن الظاهر أن الشاعر يثبت الوصيد.
وهذا له نظير في القرآن كقوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44]، فمعنى ذلك: أن الأحلام الباطلة ليس لها تأويل فنكون بها عالمين، فهنا نفي لأن يكون للأحلام الباطلة تأويل، وليس إثبات أنها لها تأويل ونحن على تأويلها من الجاهلين، لكن قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، يعني: لا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين.
ومنه أيضاً في القرآن الكريم: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] المعنى: لا زينة لهن أصلاً حتى يتبرجن بها.
والشاهد من هذا كله: أن قوله تعالى: (لا تقبل منها شفاعة) يعني: ليس لها شفاعة فتقبل، كما حكى عن الكفار قولهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، وهذه نكرة في النفي فتفيد العموم (فما لنا من شافعين).(5/18)
أقسام الشفاعة المنفية
الشفاعة المنفية في قوله تبارك وتعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، هي شفاعة الكفار، وهناك نوعان من الشفاعة المنفية: أولاً: الشفاعة للكفار، ثانياً: الشفاعة لغير الكفار بدون إذن رب السماوات والأرض سبحانه، فدلت الآية على أن هناك شفاعتين منفيتين في الآخرة: شفاعة للكفار، أو الشفاعة لغير الكفار بدون إذن من الله سبحانه وتعالى، أما الدليل على نفي الشفاعة للكفار فقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد دلّت الآيات على أن الله لا يرضى لعباده الكفر، فإذاً: الكفار ليسوا من أهل الشفاعة، ولا يشفع لهم؛ وقد حكى الله عنهم في سياق التقرير أنهم يقولون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] فلا شفاعة للكفار أصلاً.
أما الشفاعة لغيرهم بدون إذن الله فدليل نفيها قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
والشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً باستثناء شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، لنقله من محل في النار إلى محل آخر منها، فهذه الصورة من صور تخصيص عموم الكتاب بالسنة.
وقد تمسكت المعتزلة كعادتهم بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ((ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع)) فعلم أنها لا تقبل الشفاعة للعصاة،
و
الجواب
أنها خاصة بالكفار، ويؤيده أن الخطاب للكفار من بني إسرائيل، فمعنى الآية: أنه تعالى لا يقبل ممن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحد من عذابه تعالى منقذ ولا يخلص منه أحد.
الزمخشري في كتابه الكشاف ينصر مذهب المعتزلة، والكشاف مطبوع مع حاشيته لـ ناصر الدين الذي دافع فيها عن أهل السنة، وتتبع الزمخشري بكل ضلالاته وعدوانه على أهل السنة.
ففي هذا الموضع: بدأ الإمام ناصر الدين بالرد على الزمخشري بعبارة -في الحقيقة- مفحمة، قال رحمه الله تعالى رداً على الزمخشري في هذا الاستدلال: من جحد الشفاعة فهو جدير بألا ينالها، وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله.
فهذه سنة الله، أن كل من كذب بشيء يطمع فيه أن يعاقبه الله بأن يحرمه منه، فالذي يكذب برؤية الله في الآخرة لن ينالها، لأنه مكذب بها، كذلك من كذب بالشفاعة فإنه سيحرم منها، والله تعالى أعلم.
وقوله في الحاشية: وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله، هذا من الأدب مع الله، حيث لم يقل: هم ينالون، وإنما قال: أولئك يرجون رحمة الله، يعني يطمعون في رحمة الله.
قال: ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما ادخرت لهم، وليست الآيات دليلاً لمنكريها؛ لأن قوله: (يوماً) في هذه الآية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48] نكرة، لم يقل: اليوم، ولكن قال: يوماً، أي يوم من الأيام، فهذا تنكيل، يقول: ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت المعدود للشفاعة، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها، واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] مع قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27].
ففيها إثبات للتساؤل فيحمل على أنهم في موضع لا يتساءلون وفي موضع آخر يتساءلون، فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغيرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلاً له، وكذلك الشفاعة في وقت من أوقات يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، أي نفس حتى ولو كانت مؤمنة، حتى الأنبياء أنفسهم يقولون: نفسي نفسي! ففي فترة من فترات يوم القيامة لا تجزي نفس حتى المؤمنة عن نفس شيئاً؛ لكن في يوم آخر تجزي نفس مؤمنة عن نفس شيئاً بالشفاعة، وأدلة ثبوت الشفاعة لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة.
إذاً: قوله تبارك وتعالى: (لا تقبل منها) بالتاء والياء (منها شفاعة) أي: ليس لها شفاعة فتقبل كما قال الله عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) والمقصود به: الفداء، قيل هنا: (عدل) لأنه يساوي المفدي، والعدل هو: مال يبذل بوزن الشخص الذي تفديه؛ لأنه يعدله ويساويه (ولا هم ينصرون) يعني: لا يمنعون من عذاب الله عز وجل.(5/19)
تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)
قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49].
قوله: (وإذ نجيناكم) أي: واذكروا إذ نجيناكم، يعني: نجيناكم أنتم المخاطبون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وآباءكم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا، (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، أي: يذيقونكم أشد العذاب، والجملة حال من ضمير: نجيناكم.
قوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)، هذا بيان لسوء العذاب، فهو يشرح ما هو سوء العذاب، فأتى بأقسى وأشد مظاهره (يذبحون) بيان لما قبله، (أبناءكم) يعني: المولودين، (ويستحيون نساءكم) يعني: يستبقون نساءكم للإذلال والخدمة، فلم يقتلونهن كي يُتَّخذن خادمات، وقتلهم لأبنائهم هو بسبب قول بعض الكهنة لفرعون: يولد في بني إسرائيل مولود يكون سبباً لذهاب ملكك؛ فكان فرعون يقتل الذكور، ويستحيي النساء، والإمام الزجاج له تعليق طيب جداً على عقلية فرعون، فيقول هنا: فالعجب من حمق فرعون! إن كان الكاهن عنده صادقاً فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذباً فما معنى القتل؟! يعني: من حمق فرعون الغبي الأحمق الذي يقول في حق موسى عليه الصلاة والسلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]؛ أنه سمع كلام الكاهن، فإن كانت هذه فعلاً نبوة وخبر صادق من هذا الكاهن، أنه سيولد ولد من بني إسرائيل يكون زوال ملك فرعون على يديه؛ فماذا فعل فرعون الأحمق؟ قتل أبناءهم الذكور، فإن كان هذا كائناً لا محالة فما فائدة القتل؟! فهل سيمنع ما سبق به قضاء الله؟ لا يمنع! وإن كان الكاهن كاذباً فما معنى القتل؟! فالحالتان تدلان على ضعف عقله تماماً، كما أظلم الله قلبه وأطفأ بصيرته حينما تتبع بجنوده موسى وطارده هو وجنوده، ورأى الآية العظمى من آيات الله سبحانه وتعالى، تخيل أن البحر الأحمر يتحول إلى طرق يابسة، تخيل هذا المنظر! قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، ما معنى رهواً؟ يعني: ساكناً، يتحول الماء إلى أرض يابسة والناس ينظروا إليه بقدرة الله سبحانه وتعالى! فلما فلق موسى عليه السلام البحر بالعصا، انفلق فلقتين، فوقف الماء مثل الجدار كالطود العظيم أي: كالجبل العالي، وسكن الماء، (واترك البحر رهواً) يعني: ساكناً، فجدار من ماء متماسك بقوة الله وقدرته سبحانه وتعالى، ففرعون عمي قلبه أن يعتبر بهذه الآية، رأى الماء واقفاً، ورأى موسى ومن معه من بني إسرائيل ينجون ويمرون، والبحر واقف، ومع هذا لا يلتفت إلى هذه المعجزة القاهرة، وهذه الآية العظيمة، بل استمر في مطاردة موسى عليه السلام داخل البحر! قال الله: (واترك البحر رهواً) يعني: اسلكه ساكناً فإنه سينطبق عليهم حينما يدخلون، وكان ما كان، بعدما كان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، جعلها الله من فوقه، يعني: كان يفخر بأن مياه الأنهار تجري من تحته، فعاقبه بجنس عمله، فأجرى المياه من فوقه، وأغرقه في اليم.
يقول تبارك وتعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً، فكل من يحكم مصر وهو كافر يسمى فرعون؛ كما أن كسرى لقب لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وتبَّع لمن ملك اليمن كاملاً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وخاقان لملك الترك؛ ولعتو فرعون اشتق من اسمه قولهم: تفرعن الرجل: إذا عتا وتمرد، وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم على ما روي في التوراة: خوفه من نموهم وكثرة تواجدهم، وكانت أرض مصرَ امتلأت منهم؛ فإن يوسف عليه السلام لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان فلسطين إلى مصر، أعطاهم ملكاً في أفضل أرض مصر كما أمره ملك مصر، وكان لهم في مصر مقام عظيم؛ بسبب يوسف عليه السلام فتكاثروا وتناسلوا، ولما توفي يوسف عليه السلام والملك الذي اتخذه وزيراً عنده؛ انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة، فرأى كثرة الإسرائيليين فقال لقومه: أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا، فهلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيخشى أنه إذا حدث حرب أنهم يحاربوننا ويخرجونا من أرضنا، فسلط عليهم رؤساء تسخير كي يذلوهم بأثقالهم، وكان كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة، فشق على المصريين كثرتهم وخافوا منهم، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً، ويأمرونهم بالعمل الشديد بالطين واللبن وكل فلاحة الأرض وغيرها من الأعمال الشاقة.
وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قص الله تعالى، ولم يزل الأمر من هذه الشدة عليهم حتى نجاهم الله بإرسال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقوله تبارك وتعالى هنا: ((وَفِي ذَلِكُمْ)) أي: في ذلك العذاب أو الإنجاء ((بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ))، كلمة (في ذلك) إشارة إما إلى ذلك العذاب أو إلى ذلك الإنجاء في قوله: ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ)).
إذاً: كلمة (بَلاءٌ) محتملة معنيين، فالبلاء إما أن يأتي بمعنى: النعمة أو بمعنى: النقمة، فإذا قلنا: (وفي ذلكم) الإنجاء (بلاء) أي: نعمة، وإذا قلنا: (وفي ذلكم) العذاب (بلاء) أي: نقمة، فبلاء بمعنى: ابتلاء أو بمعنى: إنعام؛ بحسب ما تترتب عليه الإشارة، إما إلى الإنجاء وإما إلى العذاب.(5/20)
تفسير سورة البقرة [51 - 66](6/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51]، قوله تعالى: ((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) فيها قراءتان: (واعدنا) وقراءة أخرى: (وعدنا) بدون الألف.
((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً))، المقصود: واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة؛ لأن الله أخبر أنه واعده ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر في قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142].
و (موسى) كلمة معناها باللغة العبرانية: المنشول من الماء؛ لأنه انتشله آل فرعون من الماء وهو في التابوت.
((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) أي: من أجل أن نعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها؛ لأن الخطاب ما زال موجهاً لبني إسرائيل، (وإذ واعدنا) يعني: واذكروا -يا بني إسرائيل- الوقت الذي واعدنا فيه موسى تتمة أربعين ليلة؛ حتى نعطيه بعدها التوراة، لتعملوا بها.
قوله: ((ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)) أي: العجل الذي صاغه لكم السامري إلهاً.
وكلمة (اتخذ) تتعدى لمفعولين، المفعول الأول: هو العجل والمفعول الثاني: محذوف وتقديره: ثم اتخذتم العجل إلهاً.
((ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)) يعني: من بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى موعد الله سبحانه وتعالى، ((وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)) أي: باتخاذه، والظلم في اللغة هو: وضع الشيء في غير محله، فهذا يسمى ظلماً، فقوله تعالى هنا: (وأنتم ظالمون) أي: باتخاذه، لوضعكم العبادة في غير محلها، فإن العبادة ينبغي أن توجه إلى الله سبحانه وتعالى وحده.(6/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك)
قال تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} [البقرة:52] أي: محونا ذنوبكم (من بعد ذلك) أي: من بعد ذلك الاتخاذ، فالاتخاذ هو الذي يعاتبون عليه، ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) أي: نعمتنا عليكم.(6/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)
قال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53].
(والفرقان) عطف تفسير على الكتاب يعني: ((وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)) الذي هو الفرقان، فعطف الفرقان على التوراة عطف تفسير، والمقصود من ذلك الكتاب الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، فنزلت الصفات منزلة تغاير الذوات، فعطفها عليها، كما يقول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وهنا القاسمي زاد ذلك توضيحاً فقال: ((وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ)) يعني: الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل كقولك: (رأيت الغيث والليث)، فهذا مثال آخر غير بيت الشعر، فهل معنى ذلك (رأيت الغيث) المطر (والليث) الأسد أم أنك تقصد مدح رجل بصفتين؟ تقصد مدح رجل واحد بصفتين فقلت: (رأيت الغيث والليث) وتريد الرجل الجامع بين صفة الغيث، وصفة الليث، فالغيث صفة الكرم كما في الحديث: (كان أجود من الريح المرسلة)، ومعنى المثل: رأيت رجلاً جامعاً بين الكرم والجراءة والشجاعة، ونحو ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48]، ثلاث صفات في وصف شيء واحد وهو التوراة، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] يعني: الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكرى.
((لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) يعني: لكي تهتدوا بالعمل بما فيه من الأحكام.(6/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
قوله: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ)) لمَنْ مِنْ قومه؟ للذين عبدوا العجل من قومه؛ لأن بني إسرائيل ليسوا كلهم عبدوا العجل، فسبط: (بني لاوي) لم يعبدوا العجل، فالخطاب هنا موجه للذين عبدوا العجل من قومه من بني إسرائيل، والقوم: اسم للرجال دون النساء، فالأصل في كلمة (القوم) أنها تطلق على الرجال دون النساء، والدليل من القرآن آية في سورة الحجرات هي قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] فغاير بينهما، فدل على أن القوم للرجال، ويقول الشاعر: ولا أدري وسوف إخالُ أدري أقوم آل حصن أم نساءُ يعني: أرجال هم أم نساء؟ فعبر عن الرجال بالقوم، وسموا قوماً لأنهم هم الذين يقومون بالأمور: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، فهم يقومون بالأمور، ويتولون الحروب والقيادة وغير ذلك.
((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ)) يعني: الذين عبدوا العجل: ((يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)) إلهاً، ما إعراب العجل؟ مفعول أول للمصدر، والمصدر هنا عامل: (باتخاذكم العجل) والمفعول به الثاني محذوف وتقديره: إلهاً، يعني: يا قوم! إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً؛ لأنهم قالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88].
(فتوبوا إلى بارئكم) أي: خالقكم، يعني: توبوا من عبادة العجل: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ))، ليقتل البريء منكم المجرم، والمقصود: الذين لم يعبدوا يقتلوا العجل الذين عبدوا العجل، ولم يكن الأمر موجهاً إلى جميع بني إسرائيل، وإنما كان الأمر موجهاً إلى الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا إخوانهم ممن تلطخوا بعبادة العجل.
((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)) الإشارة هي إلى القتل، يعني: فوفقكم الله لفعل ذلك، وأرسل عليكم سحابة سوداء مظلمة؛ لئلا يرى بعضكم بعضاً فيرحمه، حتى قتل منكم نحو سبعين ألفاً.
هذا هو القول الأول في تفسير: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) يعني: يقتل البريء منكم المجرم، وبعض العلماء قالوا: هذا خطاب للكل، أن يقتل بعضهم بعضاً، فجعل القتل للقتيل شهادة وللحي توبة، فالذي يقتل يكون شهيداً، والشهادة تمحوا عنه عبادة العجل، والذي يبقى حياً فإن هذا يكون توبة من الله سبحانه وتعالى عليه؛ لكن الذي اعتمده هنا الإمام السيوطي: قوله: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: ليقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل، والذين لم يعبدوا العجل هم من سبط (بني لاوي) سبط من أسباط بني إسرائيل من أبناء يعقوب عليه السلام، فهؤلاء اللاويون هم الذين لم يعبدوا العجل، ((فَتَابَ عَلَيْكُمْ)) أي: قبل توبتكم ((إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)).(6/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك)
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:55] يعني: وإذ قلتم وقد خرجتم مع موسى؛ لتعتذروا إلى الله سبحانه وتعالى من عبادة العجل، وسمعتم كلامه.
((يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)) يعني: عياناً: ((فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ)) يعني: الصيحة، فمتم (وأنتم تنظرون) ما حل بكم.
لكن هل قوله تبارك وتعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، كان موتاً بالنسبة لموسى عليه السلام؟! لا، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، فكان نوعاً من الغشيان، غشي عليه عليه السلام، أما هنا فقال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} [البقرة:56]، فالصيحة هنا: كانت موتاً (فأخذتكم الصاعقة) فمتم؛ لذلك انظر دقة السيوطي حيث يقول: (فأخذتكم الصاعقة) يعني: الصيحة فمتم، والدليل على تفسيرها بالموت أنه بعد ذلك قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة:56]؛ انظر إلى الدقة في اختيار الكلمات: ((فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ))، الصيحة، فمتم وأنتم تنظرون ما حل بكم.(6/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون)
قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56] ((ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ)) أي: أحييناكم ((مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) يعني: تشكرون نعمتنا لذلك الإحياء.(6/7)
تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام)
قال الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57] يعني: كانوا في فترة التيه في شدة الحر، فكان الله سبحانه وتعالى يظللهم بالغمام، وهو سحاب رقيق، فلذلك قال السيوطي: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) أي: سترناكم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، ((وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)) يعني: وأنزلنا عليكم في التَّيِه المن والسلوى، يقول هما: الترنجبين، وهو شيء مثل العسل الأبيض، يقع على الشجر فيأكله الناس، ولا أستطيع أن أقطع وأجزم بأنه موجود حتى الآن؛ لكن حكى لي أحد إخواننا الأفاضل أنه منذ عشرين سنة سافر إلى العراق، فأحضر معه نوعاً من (البودرة) البيضاء وطعمها كالعسل تماماً، يقول: إنهم في تركيا والعراق في الصباح يجمعونها من فوق أوراق الأشجار، وهي تسقط من السماء، وهذه الظاهرة موجودة في تركيا والعراق، فيجمعونها ويضيفون لها بعض المكسرات ويسمونها في المحلات (مَنّ السماء)، وأنا قد أكلت منها، لكن هل هذا هو الملف الله تعالى أعلم.
والطير السماني هو السلوى.
((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) يعني: ونزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تدخروا، وطبيعة اليهود معروفة، فكفروا النعمة وادخروا، فقطع الله تعالى عنهم النعمة لما ادخروا.
((وَمَا ظَلَمُونَا)) يعني: ما نقصونا وما ضرونا، ((وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))؛ لأن وباله عليهم؛ هذا معنى الظلم، فهم الذين ظلموا أنفسهم بقطع هذه النعمة عنهم.(6/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية وسنزيد المحسنين)
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] يعني: بعدما بقوا في صحراء التيه وخرجوا منها: ((وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا)) قلنا لهم بعد خروجهم من التيه: ادخلوا هذه القرية بيت المقدس أو أريحا.
((فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا)) يعني: أكلاً واسعاً لا حجر فيه: ((رَغَدًا))، أي: لا حجر فيه: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ)) يعني: ادخلوا بابها سجداً، والباب هنا المقصود به: باب القرية ((سُجَّدًا)) يعني: منحنين أو ركعاً، والانحناء قد يسمى سجوداً ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)) أي: منحنين؛ لأجل مهمة كبرى، وهل يمكن أن يدخلوا الباب وهم ساجدون؟ سيبقى الأمر صعباً أن يزحف على الأرض وهو ساجد، فلذلك تعيَّن أن يفسر قوله: (وادخلوا الباب) أي: باب القرية (سجداً) أي: منحنين، لكي يستطيعوا أن يمشوا، والمقصود: وهم راكعون.
(وقولوا حطة) يعني: مسألتنا حطةٌ؛ لأنها مرفوعة هنا، فلا بد أن تقدر كخبر، ولو قلنا إن تقديرها: (نسألك حطة) لكانت منصوبة، والمعنى: نسألك أن تحط عنا ذنوبنا، وتغفر لنا هذه الذنوب.
وهنا أمرهم بفعل وقول، أما الفعل فهو: السجود، والقول: أثناء الدخول يقولون: حطة، يعني: حُطّ عنا خطايانا، فهم عكسوا الفعلين، لا امتثلوا في الأمر ولا في الفعل.
وقوله: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)) في قراءة (يُغفر لكم خطاياكم).
((وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)) يعني: بالطاعة ثواباً.(6/9)
تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم)
قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]، المقصود: فبدل اللذين ظلموا أي: منهم.
((قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ))، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، يعني: استبدلوا الكلمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها كنوع من الاستهزاء، قالوا: حبة في شعرة، بدل كلمة (حطة)، وكأنهم زادوا فيها النون كما يقولون (حنطة)! ودخلوا يزحفون على أستاههم كما في حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قيل لبني إسرائيل: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)) [البقرة:58] فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة))، وفي رواية: (قالوا: حنطة) بدل حطة؛ وذلك استهزاء منهم، فاستهزءوا بأمر الله، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حنطة، يسخرون.
{فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} كان يقتضي السياق أن تكون الآية: (فأنزلنا عليهم) لكن وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في توضيح شأنهم؛ حتى يتكرر وصفهم بالظلم.
((فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا)) أي: طاعوناً، وقال بعض العلماء: ظلمة وموتاً، وقيل: الثلج ((رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ))، الباء هنا باء سببية، يعني: أنزل عليهم الرجز بسبب فسقهم، وأصل الفسق: الخروج، فسقت البيضة يعني: خرجت.
فهلك منهم في ساعة سبعون ألفاً أو أقل.(6/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه)
قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60] يعني: واذكر إذ (استسقى) أي: طلب السقيا، لما دخلوا في التيه لم يجدوا ماء، وكان هناك حر شديد، فقالوا: يا موسى! أهلكتنا وأخرجتنا من مصر وكنا هناك في عيش أحسن من هذا، وسنموت إن بقينا من العطش، فنريد ماءً (فاستسقى موسى لقومه)، وهذه السين تسمى: سين الطلب، مثل: استخار: سأل الله الخيرة، كذلك (استسقى) أي: طلب السقيا، ((وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)) وقد عطشوا في التيه: ((فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ)) كأن (ال) هنا للعهد الذهني، يعني: الحجر الذي هو معلوم من قبل، وهو الذي فر بثوب موسى عليه السلام، يقولون: هو صغير مربع كرأس الرجل، ((فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)).
قال السيوطي: (قلنا اضرب) فضربه، (فانفجرت منه) يعني: انشقت وسالت منه (اثنتا عشرة عيناً) بعدد الأسباط.
((قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ)) أي: قد علم كل سبط منهم مشربهم، أي: موضع شربهم، فلا يشركهم فيه غيرهم، (كلوا واشربوا) يعني: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله، ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ))، عثى يعني: أفسد.(6/11)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61] يعني: لن نصبر على نوع واحد من الطعام، وهو المن والسلوى.
((فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ)) (يخرج لنا) يعني: شيئاً: ((مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا))، (من) هنا: للبيان، ما الذي يخرج من الأرض؟ وما الذي تنبته الأرض؟ ((مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا)) أي: حنطتها، أو (ثومها) في قراءة ابن مسعود، وهنا أشار القاسمي إشارة طيبة إلى أن العرب أحياناً يبدلون الفاء بالثاء، يقول أحد العلماء: ((فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا)) يقول: هو الثوم؛ لقراءة ابن مسعود: (وثومها) وللتصريح به في التوراة في هذه القصة، فالفوم المقصود به: الثوم، وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء، مثل الإبدال الذي في لفظ الخيل والخير، فكثيراً ما يعبر العرب عن الخيل بالخير؛ ولذلك سمى النبي عليه الصلاة والسلام زيد الخيل بـ (زيد الخير)، والحديث ربط بينهما: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
يقول: ذكر ابن جرير شواهد إبدال الثاء فاء؛ لتقارب مخرجيهما، لذلك العرب يبدلونها كقولهم للأثاثي: أثافي، تقول: (ثالثة الأثافي)، فالعرب عندما كانوا يطبخون يأتون بحجرين صغيرين تحت القدر، ويأتون بحجر كبير وراءهما؛ لكي تكون ثلاثة أحجار، والإناء يستقر عليه، فيسمون الحجر الثالث: ثالثة الأثافي.
وقولهم: (وقعوا في عاثور شر) عاثور هو الحفرة، أو يقال: (عافور شر)، كذلك المغافير يقولون فيها: المغاثير.
((وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ)) أي: قال لهم موسى ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى)) أدنى: أخف ((بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) أي: بالذي هو أشرف، يعني: أتأخذونه بدله؟! والهمزة استفهام للإنكار، فأبوا أن يرجعوا، فدعا موسى الله سبحانه وتعالى بما طلبوه، والسيوطي يملأ ما بين الآيات بالمعاني التي ينبغي أن تكون موهبة الفهم يعني: فدعا موسى ربه سبحانه وتعالى بما طلبوه، فقال تعالى: ((اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)).
ما الفرق بين: ((اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ))، وبين قول يوسف عليه السلام: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] وبين قول فرعون لعنه الله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
قوله: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) هذه علم على مصر المعروفة، وقوله: (اهبطوا مصراً) أي: مصراً من الأمصار، فلم تكن علماً على مكان فنونت.
إذاً: قوله: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) أي: انزلوا مصراً من الأمصار، أيَّ بلدٍ، أنتم تسألون أشياء هينة لا تستحق هذا الذي تفعلونه كله، فانزلوا أي بلد فيها الثوم والعدس، فمعنى الكلام: اهبطوا مصراً من الأمصار فهذا شيء هيِّن، أنتم تطلبون شيئاً دنيئاً بالنسبة لما كان يعطيكم الله سبحانه وتعالى، انزلوا في أي بلد، فستجدون ما تطلبون، ولكن مصر الممنوعة من الصرف هي بلادنا، {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، أما قوله: (مصراً) بالتنوين يعني: بلداً من البلدان أو مصراً من الأمصار.
((اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)) يعني: فإن لكم فيه ما سألتم من النبات.
قوله: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)) أي: جعلت عليهم الذلة والهوان (والمسكنة) وهو أثر الفقر؛ لأن الفقير إذا اشتد فقره وعناؤه فإنه يسكن، فالفقر يقترن بالسكون وقلة الحركة، فلذلك يعبر به عن المسكنة، (والمسكنة) أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لليهود وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته، أي: طبعت عليهم فلا تفارقهم، مثل أي عملة معدنية عليها النقش المكتوب أو الرسم الموجود، فهذا هو السر في استعمال تعبير: (ضربت عليهم) يعني: لازمتهم فلا تفارقهم الذلة والمسكنة، كما أن الكتابة والنقوش التي تكون على المعادن -التي تسك- تكون لازمة لها لا تفارقها.
وهنا القاسمي أتى بمعنى عظيم جداً، يقول رحمه الله تعالى: والمسكنة مفعلة من السكون؛ لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر، والمسكين: مفعيل منه، وفي الذلة: استعارة بالكناية، ضربت عليهم الذلة حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة، فالذل يحيط بهم، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك، وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة؛ فإن اليهود أذل الفرق وأشدهم مسكنة، وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رءوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصي في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغت الكثرة أي مبلغ فهو مرتد بأثواب المسكنة.
وهذه الحقيقة لا يماري فيها أي إنسان يتعامل مع اليهود أو رأى اليهود واقترب منهم، حتى ولو كان اليهودي أغنى أغنياء العالم، فمهما يكن عنده من غنى فإنك تجد الذل والمسكنة وصفاً لازماً له لا يفارقه أبداً، أما ما هم عليه الآن فهذا خلاف الأصل، وهذا من العلو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]، ولكن سنة الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، إن عدتم إلى الإفساد عدنا لأن نسلط عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، فلا شك أنه لن يدوم لليهود ما هم فيه الآن من العلو والغلبة، وإن كنا نعتقد أنهم حتى في هذه الحالة ما زالت الذلة والمسكنة مضروبة عليهم قال الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، لا بد أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب حتى ولو كانوا أطفالاً يرمونهم بالحجارة، فما بالك بمن فوقهم؟! ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) (باءوا) يعني: رجعوا ((بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)).
((ذَلِكَ)) يعني: ذلك الضرب والغضب المشار إليه بقوله: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ))، (ذلك) أي: الضرب والغضب (بأنهم) أي: بسبب أنهم (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) كزكريا ويحيى عليهما السلام.
((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) أي: ظلماً، ومثل هذا القيد لا مفهوم له؛ لأن كل نبي قتل لا بد أنه قتل بغير حق، فهذا ليس له مفهوم مخالفة، مثل قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، فهل يفهم من ذلك أن الإماء إن لم يردن تحصناً يجوز أن يكرهن على البغاء؟! لا مفهوم له؛ وكذلك قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فهل يمكن لإنسان أن يقتل أولاده بسبب عدم الإملاق؟ لا، كذلك قوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، هل مَنْ يأكل الربا بنسبة ضئيلة، وليس أضعافاً مضاعفة يحل له الربا؟! لا، فهذا كله مما لا مفهوم له، كذلك هنا: ((وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ))، هذا بيان بأن كل قتل للأنبياء يكون بغير حق، ولا يمكن لأحد أن يقتل الأنبياء ويكون على حق، فهو مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117] فهل يمكن لإنسان أن يعبد إلهاً غير الله إذا كان عنده برهان على ذلك؟! لا، فهذا لا مفهوم له.
((ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) أي: يتجاوزون الحد في المعاصي.(6/12)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، هذه من الآيات التي ينبغي الرجوع إلى العلماء في تفسيرها كسائر آيات القرآن، فإن كثيراً ممن ينتسبون إلى العلم زوراً وبهتاناً في هذا الزمان يريدون هدم الإسلام بسوء تفسيرهم لهذه الآية، وتأويل المنتسب لها، فهذه الآية من الآيات التي ظهر في الأزمنة الأخيرة منحرفون انتسبوا إلى العلم زوراً وبهتاناً يستدلون بها على صحة كل العقائد الباطلة، يعني: كأن الأديان كلها حقٌّ؛ لأن كل هؤلاء سيدخلون الجنة! فهذا قطعاً وبإجماع المسلمين معنى فاسد لا يمكن أن يقصده أبداً عالم ولا إمام من أئمة المسلمين، وهذه الآية تحتمل في محاضرة كاملة مستقلة، لكن سنمر عليها مروراً سريعاً جداً بما يسمح به الوقت.
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)) قال بعض العلماء: يعني في الظاهر، وهم المنافقون، آمنوا في الظاهر، وليس إيمانهم حقيقياً؛ لأنهم عطفوا على أشكالهم، فبما أن الذين آمنوا في الظاهر من المنافقين: ((وَالَّذِينَ هَادُوا)) كفار، ((وَالنَّصَارَى)) كفار ((وَالصَّابِئِينَ))، كفار فأي إنسان من هذه الطوائف -المنافقون أو اليهود أو النصارى أو الصابئون- إذا آمن، يعني: تاب (إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً) فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أو يكون المقصود: (إن الذين آمنوا) بالأنبياء من قبل، (والذين هادوا) وهم اليهود، (والنصارى والصابئين) وهم طائفة من اليهود أو النصارى، ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) يعني: من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم وعمل صالحاً بشريعته؛ لأن شريعته صارت منسوخة: ((فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)).
أو: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)) وثبتوا على ذلك حتى الممات، من آمن منهم (بالله واليوم الآخر) يعني: في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، (وعمل صالحاً) أي: بشريعته، (فلهم أجرهم) أي: ثواب أعمالهم، ((عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)).(6/13)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)
قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63] يعني: واذكر إذ أخذنا ميثاقكم أي: عهدكم بالعمل بما في التوراة، (ورفعنا فوقكم الطور) يعني: وأخذنا ميثقاكم وقد رفعنا فوقكم الطور، فأخذ الميثاق كان حالة رفع الطور، حيث اقتلع الله الجبل من أصله ورفعه فوقهم، وقال: ((خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ))، خذوا هذه التوراة، واقبلوا العمل بها.
(وإذ أخذنا) يعني: واذكر إذ أخذنا ميثاقكم أي: عهدكم بالعمل بما في التوراة (ورفعنا فوقكم الطور) يعني: وقد رفعنا فوقكم الطور، أي: الجبل، واقتلعناه من أصله ورفعناه فوقكم لما أبيتم قبولها، ((خُذُوا)) أي قلنا: ((خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)) أي: بجد واجتهاد.
((وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ)) بالعمل به.
((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: النار أو المعاصي.(6/14)
تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك)
قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة:64] أي: أعرضتم، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:64] أي: من بعد ذلك الميثاق أعرضتم عن الطاعة: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة:64] لكم بالتوبة، أو بتأخير العذاب، {لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64].(6/15)
تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]، اللام هنا لام القسم: (ولقد علمتم) أي: عرفتم، (الذين اعتدوا) أي: تجاوزوا الحد، (منكم في السبت) وقصة السبت معروفة، وقد حصلت لأهل المدينة التي اسمها الآن (إيلات) على خليج العقبة، وكانت تسمى (أيلة).
((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)) أي: الذين تجاوزوا الحد منكم في السبت؛ لصيد السمك وقد نهيناهم عنه، ((فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) يعني: مبعدين، فمسخهم الله سبحانه وتعالى مسخاً حقيقياً فكانوا قردة، وهلكوا بعد ثلاثة أيام؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى أن القوم الذين يمسخون لا يعيشون، فيمسخون أولاً ثم يموتون، ولا يكون لهم عقب ونسل: ((فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) (خاسئين) يعني: مبعدين، فكانوا كذلك وهلكوا بعد ثلاثة أيام.(6/16)
تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها)
قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] يعني: تلك العقوبة، (نَكَالًا) يعني: عبرة لغيرهم مانعة من العمل بمثل ما عملوا: ((نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا)) أي: الأمم التي في زمانها وبعد زمانها، ((وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) أي: المتقين لله، وخصوا بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالموعظة، بخلاف غيرهم.(6/17)
تفسير سورة البقرة [67 - 81](7/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] يعني: واذكر إذ قال موسى لقومه، انظر دقة السيوطي في التفسير، يقول: (وإذ قال موسى لقومه) يعني: واذكر إذ قال موسى لقومه، وقد قُتل لهم قتيل لا يدرى قاتله، وقد سألوه أن يدعو الله أن يبينه لهم فدعاه، فأصل الآية هنا كأن فيها تقديماً وتأخيراً، فالذي حصل أن قتل لهم قتيل، ولم يعرفوا من الذي قتله، ففزعوا إلى موسى وقالوا له: ادع لنا ربك يبين لنا من الذي قتل هذا القتيل، فدعاه؛ فلذلك يقول تعالى: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))، أَيَّ بقرةٍ، (قالوا أتتخذنا هزؤاً) وفي قراءة أخرى: ((قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)) أو (هزءاً) ثلاث قراءات، وقولهم: (أتتخذنا هزؤاً) هذا من سوء أدبهم مع نبيهم عليه السلام، وهذه سنتهم وأخلاقهم، وهم يرون كل هذه المعجزات، سبحان الله!! (أتتخذنا هزءاً) بالهمز مع ضم الزاي وسكونها، أو (هزواً) بضم الزاي، مع إبدال الهمزة واواً، أي: مهزوءاً بنا! حيث نأتيك ونشكو لك أنه قتل منا قتيل، ولا ندري من قاتله، ونسألك أن تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يبين لنا الذي قتله، فتجيب علينا وتقول: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))، أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟! (أتتخذنا هزواً) أي: مهزوءاً بنا، حيث تجيبنا بمثل ذلك: ((قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))، يعني: أمتنع بالله من أن أكون من الجاهلين أي: المستهزئين، فلما علموا أن الموضوع عزم وجد وفرض لا هزل فيه، قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ فشددوا على أنفسهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة لقبل الله سبحانه وتعالى ذلك منهم؛ لكن شددوا على أنفسهم فعاقبهم الله بالتشديد عليهم؛ وذلك أن التوراة كان فيها آصار وأغلال، فقد كانت الشرائع أحياناً تنزل عقوبة لهم؛ لطبائعهم الخبيثة، فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن بعث لهم محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]؛ لأن في التوراة أصراراً وأغلالاً شديدة جداً، وهي تتلاءم مع طبيعتهم الخبيثة واللئيمة.(7/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)
فلما علموا أنه عزم أي: فرض لا هزل فيه: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] انتبهوا! هنا جاءت كلمة (ما هيَ) جاءت مرتين، في كل مرة عن سؤال مخالف لسؤال آخر، وعن موضوع غير الآخر فكيف نميز بينهما؟ ففي الحالة الأولى كان المسئول عنه سنها، والدليل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]، فالجواب يدل على أن السؤال كان عن السن.
الحالة الثانية: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70]، يعني: هل هي عاملة أم سائمة؟! بدليل: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71].
((قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ)) أي: ما سنها؟ ((قَالَ)) أي: موسى ((إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ)) يعني: ليست كبيرة السن ((وَلا بِكْرٌ)) يعني: ولا هي بكر صغيرة، ((عَوَانٌ)) أي: نَصَفٌ في سنها ((عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)) يعني: بين ذلك المذكور من السنين {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أي: ما تؤمرون به من ذبحها.(7/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها)
قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] أي: شديدة الصفرة، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين إليها، وهذا معروف فعلاً، فاللون الأصفر من الألوان التي تدخل السرور على النفس، ويدخل البهجة والفرحة والسرور على النفس.
وتخيل بقرة في لون أصفر صافٍ، يعني: لا يخالطه أي لون آخر، فسوف تدخل السرور على نفسك عندما تراها بهذا المنظر.
(فاقع لونها) أي: شديد الصفرة، (تسر الناظرين) أي: إليها من حسنها.(7/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا)
قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:70] يعني: أسائمة هي أم عاملة؟ أتشتغل في الحرث أم لا؟ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] أي: البقر المنعوت بما ذكر، ((تَشَابَهَ عَلَيْنَا))، لكثرته؛ فلم نهتد إلى المقصود.
{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70]، إليها، وفي الحديث: (لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد)، وهذا الحديث أخرجه الطبري بإسناد منقطع عن ابن جريج وقتادة السدوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي متصلاً.
فهم في هذه المرة تأدبوا مع الله وقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، فنفعتهم.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:71] يعني: غير مذللة بالعمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] أي: لا تثير الأرض؛ فهي بقرة معززة مكرمة لا تشتغل بالحرث، ولا تسقي الحرث، وكلمة (لا) هنا تنفي الاثنين، الذل وإثارة الأرض، يعني: هي معززة مكرمة، لا تعمل في الحرث ولا الزراعة.
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ)، ما لها؟ (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ)؛ لأن التي تثير الأرض تكون مذللة بالعمل، فهذه البقرة لا تثير الأرض، أي: لا تقلبها للزراعة، والجملة (تثير الأرض) صفة لذلول داخلة في النفي أي: لا تعمل في حراثة الأرض.
{وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71]، المقصود بالحرث الأرض المهيأة للزراعة، فهي لا تسقي الأرض المهيأة للزراعة.
{مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71]، (مسلمة) يعني: من العيوب وآثار العمل، ((لا شِيَةَ فِيهَا)) يعني: لا لون آخر فيها، ولا يخالط لونها الأصفر الفاقع أي لون آخر.
{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71]، انظر إلى سوء الأدب مع نبيهم عليه السلام، وكأنه من قبل لم يأت به! (قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)، يعني: نطقت بالبيان التام.
فطلبوها فوجدوها عند الفتى اليتيم المقيم مع أمه فاشتروها بملء مسكها ذهباً، والمسك هو الجلد.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] يعني: وما كادوا يفعلون بسبب غلاء ثمنها.
وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (لو ذبحوا أي بقرة كانت لجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم).(7/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها)
قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة:72] أصلها: فاتدارأتم، فأدغم التاء في الدال، أي: تخاصمتم وتدافعتم فيها، واتهم بعضكم بعضاً بقتل تلك النفس.
{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] أي: إن الله مظهر ما كنتم تكتمون من أمرها، وهذه الجملة اعتراضية، ومن هنا تبدأ أول قصة البقرة.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73]، الهاء تعود على القتيل، أي: اضربوا القتيل، أي: بجزء منها، فضرب بجزء منها، قيل: بلسانها أو عقب ذنبها، فحيي وصحى وأعيدت إليه الحياة، وقال: قتلني فلان وفلان لابن عمه ومات، نطق بهذا ومات، فحرم الميراث وقتل، لماذا حرم الميراث؟ لأن القاتل لا يرث، والقاعدة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، (كذلك) الإشارة هنا إلى الإحياء، يعني: كذلك مثل ذلك الإحياء الذي حصل مع هذا القتيل يحي الله الموتى، وهذا دليل رابع من أدلة البعث والنشور من الحزب الأول من سورة البقرة، والأدلة الثلاثة ناقشناها من قبل بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21].
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة:73] أي: دلائل قدرته.
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] أي: تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.(7/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)
قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:74] أيها اليهود وصلبت عن قبول الحق.
{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74] أي: من بعد ذلك المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات.
{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74] في القسوة.
{أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] يعني: أشد من الحجارة.
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} [البقرة:74]، هنا أيضاً إدغام حيث أدغم التاء في الشين لأن أصلها: (يتشقق) فأدغمت التاء في الشين فصارت (يشقق).
{فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] أي: ينزل من علو إلى سفل من خشية الله، وهذه حقائق ليست مجازاً، فالجبل قد يسقط من خشية الله، وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع، وأنتم ثابتون على هذه القسوة! {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] يعني: وإنما يؤخركم لوقتكم، وفي قراءة: (وما الله بغافل عما يعملون)، وعلى هذا يكون التفات من الخطاب إلى الغيبة.(7/7)
تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)
بعدما حكى الله سبحانه وتعالى بعض أحوال بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأفعالهم الذميمة، وأحوالهم الميئسة من إيمانهم، قال تبارك وتعالى مخاطباً المؤمنين: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75]، أي: أفتطمعون -أيها المؤمنون- أن يؤمن لكم اليهود بعد أن علمتم تفاصيل شئون أسلافهم الميئسة من إيمانهم، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة؟! فلا يأتي من أخلاقهم إلا مثل الذي أتى به أسلافهم، وهم يورثون طباعهم اللئيمة وخصالهم الذميمة إلى الأجيال من بعدهم، فالخطاب للمؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني: وقد كان طائفة منهم وهم أحبارهم؛ لأن سياق الآيات كما سيأتي يبين أن الذين كانوا يفعلون هذا الفعل هم الأحبار بالذات.
وعبر هنا بالللام في كلمة: (لكم) لكي يضمّن الكلام معنى الاستجابة، وهي مثل قوله تبارك وتعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، ولم يقل: فآمن به لوط؛ لأن المقصود أنه استجاب له لوط، فضمن معنى الاستجابة، فيكون المعنى: أفتطمعون في إيمانهم مستجيبين لكم؟ أو أن اللام هنا للتعليل، يعني: أفتطمعون في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم؟ (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني: طائفة منهم وهم أحبارهم.
(يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ) أي: في التوراة.
(ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ)، يغيرونه.
(مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) من بعد ما فهموه.
(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهم يعلمون أنهم مفترون كذابون.
والهمزة في قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ) للاستفهام الإنكاري، والمقصود: لا تطمعوا في إيمانهم فلهم سابقة بالكفر، وبقاياهم الموجودة في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه آباؤهم في العصر الموسوي.(7/8)
تحريف اليهود للتوراة
هذا هو أول موضع في القرآن يشار فيه إلى التحريف الذي وقع في التوراة، فقوله: (ثم يحرفونه) أي: ثم يغيرونه، يقول القاضي كنعان: لا شك أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام قد حرفت، وأن الإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام قد غير وبدل، وأن الذين فعلوا ذلك هم الأحبار والرهبان الذين يعلمون الكتاب ويقرءونه دون سواهم من عامة اليهود والنصارى.
فعلماؤهم قد ضلوا وحرفوا، وعوامهم قد قلدوا كما سيأتي الكلام على الطائفتين.
وهنا مسألة مشهورة جداً في مثل هذا الموضع وفي كثير من الكتب التي تتعرض لنقد عقائد النصارى وإثبات تحريف كتبهم، وهي: هل التحريف كان تحريفاً في المعاني فقط أم كان تحريفاً أيضاً في أصل كتبهم؟ حكي عن بعض العلماء وبعض السلف أن التوراة حفظت كما هي، والإنجيل حفظ كما هو، وإنما حصل تحريف في المعاني وليس في الألفاظ، وهذا القول مرجوح ومخالف لما ذهب إليه الجماهير وعامة العلماء في كافة الأعصار من أن التحريف يشمل الأمرين معاً: التحريف للمعاني بالتأويل، والتحريف أيضاً للألفاظ.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية وهو يؤيد تفسير ابن جرير الطبري: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] يعني: يغيرونه، يقول: ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75]، هو الأنسب باعتبار السياق -يعني: سياق الآيات القرآنية-، ولا يتوهم من ذلك دفع التحريف اللفظي عن التوراة، يعني: في هذا الموضع يمكن أن يقال: إن التحريف هنا تحريف للمعاني، لكن هذا لا ينفي أنهم حرفوا الألفاظ، فهذا ثابت في مواضع أخرى في القرآن، لكن في هذا الموضع بالذات الأقرب لسياق الآيات أن يقال: إن التحريف هنا تحريف معنوي.
ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظه، وأولوا بعضاً منها بغير المراد، وكذا يقال في الإنجيل، ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق: أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأن يبدلوا غالباً الأسماء في تراجمهم، ويذكرون بدلها معانيها، وهذا خطأ عظيم، ومنشأ للفساد، مثلما فعلوا في كلمة: (الفراقليد) أو كلمة: (حمد)، كما قال الله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] عليه الصلاة والسلام، فإنهم ترجموا معناها فقالوا: يعني: المستحق للحمد والمجد والثناء والمديح، فحولوها وترجموها بالمعنى، وبالتالي صارت تلك الكلمة المشهورة عندهم وهي: الفراقليد أو البراقليط، بالباء والفاء، وهذه الكلمة معناها في اللغة اليونانية القديمة التي ترجم إليها الإنجيل أولاً: الذي في اسمه حمد كثير، أو الأمجد، أو الأشهر، أو الذي يستحق الثناء والحمد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم من حيث الاشتقاق، فالفراقليد تعني: أفعل تفضيل من حمد يعني: أحمد، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى، ولكن في القوم سجية غير محدثة وهي التبديل والتحريف، هذه حرفة يهودية قديمة، وتأسى بهم في ذلك أيضاً النصارى، فحرفوها، والآن بدأت التراجم الحديثة تخلو من كلمة (الفراقليد)، لما رأوا أن هذه الكلمة قد استدل بها المسلمون، وجعلوا بدلها المعزي أو المخلص حتى يهربوا، وكل من يتابع التراجم المتعددة لكتبهم يجد عشرات الآلاف من الشواهد على هذا التحريف! يقول: وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام، فبحجة التفسير يزيدون في الكتاب الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى التفسير، ولا يفصلون بين كلام الله الأصلي وبين الكلام الذي يزيدونه! وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة، ثم ساق بعضاً منها.
وبعض علماء النصارى قال: إن يد المسلمين استطاعت أن تصل إلى الأناجيل وتحرفها، والدليل على ذلك وجود كلمة الفراقليد في الأناجيل، فهذا يدل على أن المسلمين وصلوا للإنجيل وحرفوا فيه! قال: إننا لا نستطيع أن ننكر أن الفراقليد تعني أحمد، فهذا يدل على أن المسلمين هم الذين وضعوها! وهذا مسكين، إذ إن هذه الكلمة في كل الكتب القديمة والحديثة، وهذه الكلمة موجودة عندهم من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب إذا قرأوا كلامه سيضحكون منه، لكن في نفس الوقت نحن نستفيد من ذلك الدلالة الواضحة والصريحة بوجود اسم أحمد عليه الصلاة والسلام في الأناجيل.
يقول أحد علماء النصارى في مسيرة البابا: إن بعضهم ذهب إلى أن روح القدس -من الوقاية- الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، وإن روح القدس تساهل معهم، يعني: أن روح القدس لم يثبت كتبة الأناجيل في كل الأحوال، لكنه أحياناً كان يتساهل معهم في التصحيح، أي: أنه لم يقهم عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم، حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات! وفيه أيضاً: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ.
إذاً: تحريف الأسفار الخمسة أمر بين بشهادة أحد علمائهم.
وفيه أيضاً في الفصل الواحد والثلاثين: إن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين: العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على ثمانية آلاف خطأ، فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها، وهذا هو المقصود.
إذاً: التحريف اللفظي مما لا ينكره أحد.
أما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، وأن كل ما في التوراة وكل ما في الإنجيل محرف فهذا إسراف، قال الحافظ ابن حجر في أواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]: إن القول بأنها -أي: هذه الكتب- بدلت كلها مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة تدل على أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وهذا كثير جداً، وهذا بحث في الحقيقة يطول، وسبق أن تكلمنا فيه في دراسة العقيدة في أدلة صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل قول المسيح مثلاً: (إنني يجب أن أذهب الآن، فإني إذا لم أذهب لم يأتكم الفراقليد، فإن الله سبحانه وتعالى سيبعثه ويجعل كلامه في فمه)، وهذه إشارة إلى أمية النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك القصة التي أخرجها البخاري في كتاب المناقب في باب قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، معنى ذلك: أن هذا من الحق الذي بقي في كتبهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم! إن فيها آية الرجم؛ فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت -يا محمد- فإن فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة)، والشاهد أن هذا يدل على وجود الرجم كما قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، وهو يدل على أنه بقي في التوراة والإنجيل شيء من الحق، مع ما حصل من التحريف فيهما.
ونكتفي بالإشارة إلى أن هذا البحث الطويل موجود في كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وفي مقدمة القاسمي في تفسيره من صفحة أربعين فما فوق، وفي كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وفي إغاثة اللفهان في الجزء الثاني أيضاً بحث مفصل حول موضوع التحريف الواقع في التوراة، وهل هو معنوي فقط أم لفظي ومعنوي؟(7/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:76]، الواو هنا تعود إلى طائفة من اليهود، جمعوا بين كفر اليهودية وبين النفاق.
قال السيوطي رحمه الله: (وإذا لقوا) أي: منافقوا اليهود.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:76]، آمنا بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي وهو مبشر به في كتابنا، فإما أنهم قالوا ذلك مجاملة لحلفائهم من الأوس والخزرج، أو أنهم قالوا ذلك باعتبار أن هذه حقيقة أجلى من أن تذكر؛ فكانوا لا يستطيعون أن ينكروها إذا قابلوا المسلمين.
{وَإِذَا خَلا} [البقرة:76] أي: رجع، {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا} [البقرة:76] أي: إذا انضم اليهود بعضهم إلى بعض، (قال) رؤساؤهم الذين لم ينافقوا لليهود الذين نافقوا عاتبين عليهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} [البقرة:76] أي: المؤمنين، {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76]، أي: أتحدثون المؤمنين بما فتح الله عليكم، يعني بما عرفكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل الفتح في اللغة الحكم والقضاء، أي: بما حكم الله عليكم وقضاه، وأخذ عليكم من الميثاق بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، ومعنى هذا الفتح: أن تؤمنوا به إذا بعث.
(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يعني: ليخاصموكم، واللام للصيرورة، والمقصود: ليصيروا خصماءكم عند ربكم، في الآخرة، ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه.
ومقصود هؤلاء الرؤساء: أن ذلك يكون أشد خزياً وفضيحة لكم؛ لأن الذي يعلم الحق ويكتمه واضح خزيه، وفضيحته أخف ممن علم الحق وأظهره ومع ذلك عانده.
إذاً: هؤلاء المنافقون اليهود يقولون: إن هذا سيكون أشد لخزيكم يوم القيامة، وأخزى لكم وأفضح؛ لأن من يعلم ويكتم أخف حالاً ممن يظهر الحق، ثم يظهر أيضاً مخالفته عناداً واستكباراً وجحوداً.
(لِيُحَاجُّوكُمْ) أي: ليخاصموكم، واللام للصيرورة، يعني: ليصيروا خصماءكم، وهي أيضاً لام العاقبة، (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يعني: في الآخرة، ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76] أنهم يحاجونكم إذا حدثتموهم؟ انتهوا عن هذا؛ لأنكم إذا ناقشتموهم سيقولون لكم: ألم تعترفوا من قبل بهذه الحقيقة؟!(7/10)
تفسير قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)
قال الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77].
((أَوَلا يَعْلَمُونَ))، الاستفهام هنا للتقرير، والواو الداخلة عليها للعطف.
((أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ))، ما يخفون وما يظهرون من ذلك وغيره؛ فيرعووا عن ذلك، وينكفوا عنه.
وبعد أن ساق الكلام في حق الذين حرفوا التوراة وهم الأحبار، انتقل الكلام إلى المقلدين الذين ضلوا بتقليد هؤلاء الرؤساء الضالين، فقال: {وَمِنْهُمْ} [البقرة:78] أي: اليهود، {أُمِّيُّونَ} [البقرة:78] عوام.
{لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:78]، أي: التوراة.
{إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، أي: لكن أماني، وهذا استثناء منقطع، أي: لكن يعلمون أماني، والأماني هي أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها، وقلدوهم في ذلك.
{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] (إن) بمعنى: ما، يعني: ما هم إلا يظنون، وذلك في جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره مما يختلقونه، فهم يظنون ظناً ولا علم لهم، والظن لا يغني من الحق شيئاً.
إذاً: قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، هذه الآية في حق المقلدين من اليهود.
(منهم)، من أهل الكتاب.
(أميون)، جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة.
(لا يعلمون الكتاب)، لا يدرون ما فيه؛ لأنهم لا يستطيعون الاطلاع على الكتاب؛ لأنهم لا يحسنون الكتابة، وصفة الأمية لا تعني عدم العلم؛ لأن العلم يحصل بواسطة طرائق أخرى أعلاها وأسماها وأجلها الوحي كما حصل لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهنا وصفهم بالأمية وبعدم العلم؛ فهم لا يدرون ما فيه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه أمي، لماذا؟ لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، فإن الله سبحانه وتعالى جعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من أجلى المعجزات، فمع كونه أمياً أتى بهذا الكتاب الذي أعجز الفصحاء والبلغاء، وتحدى به الإنس والجن أجمعين، فلم يقبل واحداً منهم التحدي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتنا إلى كتاب ولا حساب، وهذا ليس مدحاً للأمية لكنه إشارة إلى يسر الشريعة الإسلامية، وأنها شريعة سهلة يستطيع أن يطبقها الشخص الأمي البدوي في الصحراء وعالم الفلك سواء بسواء، إذ كلاهما يستطيع أن يعرف متى وقت الفجر والظهر والعصر عن طريق الظل والشمس، كذلك متى يدخل الشهر ومتى يخرج.
هذا معنى أمة أمية، يعني: شريعتنا شريعة تخاطبنا بما هو معهود للأميين البساطة والسهولة واليسر، فكل الناس يستوون في سهولة تحصيل العلم وتطبيق هذه الشرائع، قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه إشارة إلى أنه باق على أصل ولادة أمه، كما قال الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، أي: فهو باق على أصل هذه النسبة إلى أمه من ساعة ما ولد من بطن أمه وهو باق لم يكتسب التعلم بالكتابة والحساب.
وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، هذا استثناء منقطع، وتأتي فيه إلا بمعنى لكن، مثل قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، هل معنى ذلك: أن الله كتبها عليهم ابتغاء مرضاته؟ لا، لكن المقصود: ما أمرناهم بالرهبانية، وتحريم الطيبات، لكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات الله بالعبادات الشرعية، و (إلا) هنا أيضاً مثل قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157] أي: لكن اتباع الظن؛ لأن العلم يتنافى مع الظن، وكذلك قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16] يعني: لكن لم تعتزلوا عبادة الله، وليس المعنى أنهم يعبدون الله مع غيره.
وما الدليل على أن الاستثناء هنا منقطع في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]؟ لأن ما يتمنى وما يختلق وما يتلى ليس من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم، فإن هذه الأماني ليست من جنس الكتاب حتى تستثنى منه ويكون استثناءً منفصلاً، بل هي أماني وأكاذيب كان يخترعها أحبارهم.
فلذلك نقول: ليس ما يتمنى ويختلق ويتلى من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم.
(وأماني) جمع أمنية، أصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأعلت إعلال سيد وميت مع أن الألف فيهما أصلها الواو، وقال بعض العلماء: تمنى الشيء، يعني: قدره وأحب أن يصير إليه، وتمنى الكتاب قرأه، وتمنى أيضاً تأتي بمعنى كذب، يقول عثمان: ما تمنيت منذ أسلمت، يعني: ما كذبت منذ أسلمت.
فهم لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون الأماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة التي لا تستند إلى الكتاب بل هي على زعم رؤسائهم، مثلما ما حكى الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] فهذه أحلامهم وأمانيهم وأكاذيبهم، وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
أو يكون معنى الآية: لا يعلمون الكتاب لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد، وحمله البعض على القراءة، وقالوا: الأماني المقصود بها القراءة، واستشهدوا على ذلك بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: في قراءته.
وقال كعب بن مالك في عثمان رضي الله عنه: تمنى كتاب الله أول نيله وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل (تمنى) يعني: قرأ كتاب الله.
على هذا يكون تفسير الآية: لا يعلمون الكتاب إلا مجرد تلاوة فقط وألفاظ يقرءونها دون إدراك معانيها، وهذا القول قول مرجوح، ولا يتناسب مع قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، فالأمي لا يقرأ، فلذلك يترجح التفسير الأول: إلا أكاذيب اختلقها لهم أحبارهم ومنوهم بها، مثل قولهم: لو دخلنا النار فلن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، أو: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، أو: نحن شعب الله المختار، إلى غير ذلك من الأماني التي يمنيهم بها رؤساءهم وأحبارهم.(7/11)
تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)
قال تبارك وتعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79].
(ويل) شدة عذاب.
(للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) مختلقاً من عندهم.
(ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً) من الدنيا، وهم اليهود الذين غيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وآية الرجم وغيرها وكتبوها على خلاف ما أنزل.
(فويل لهم مما كتبت أيديهم) يعني: من المختلق.
(وويل لهم مما يكسبون) من الرشاة، جمع رشوة.
هنا وقفة يسيرة مع هذه الآية فقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، هنا اتجاهان في تفسير هذه الآية: الاتجاه الأول: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)، هذا تتميم مثل قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]؛ لأن الكلام لا يخرج إلا من الفم، لكن هذا التصوير والتأكيد بمثل هذه التعبيرات يريد أن يجعل المستمع أو القارئ كأنه مشاهد لحاله وهو يكتب بيده، تأكيداً للفعل النفسي أو للحدث.
(للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) على التفسير الأول: كما أنزله الله بدون اختلاق وبدون تحريف.
أي: أن الحجة تقوم عليهم بأيديهم.
(ثم يقولون) أي: أنهم يزيدون على الكتابة باليد الشهادة باللسان، شاهدين على أنفسهم، يقولون: (هذا من عند الله)، فالكتاب هنا جعل هذا التفسير باق على أصله، وانضم إلى الكتابة الفعلية الشهادة القولية وهم صادقون في هذا، ثم يطرأ بعد ذلك التحريف.
(ليشتروا به ثمناً قليلاً) من الدنيا.
هذا التفسير الأول، (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)، كما يقول رجل: كتبته مقراً على نفسي، وإنني قلت هذا وأنا في كامل قواي العقلية، فكذلك هذا التصوير.
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) على أصله الذي أنزله الله، ثم يشهدون أن هذا من عند الله.
وهذه حجة ثانية عليهم، (ثم يقولون هذا من عند الله) فهم يؤمنون به، ثم بعد ذلك يحرفونه، فيطرأ التحريف بعد هاتين الشهادتين القولية والعملية.
الاتجاه الثاني: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) فيحرفونه ويغيرونه، ثم يكذبون على الله ويقولون: هذا من عند الله، فيزعمون أن ما كتبوه بأيديهم هو من عند الله، (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
قوله تبارك وتعالى: (فويل لهم مما كتبت أيديهم) هذه الآيات في حق المتبوعين من الرؤساء، والآيات بدئت في حق المقلدين، (ومنهم أميون) جهلة لا يعلمون الكتاب.
(إلا أماني) كل ما عندهم: نحن أفضل الأمم، نحن شعب الله المختار، نحن سندخل الجنة، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً مثلنا أو نصرانياً، وهكذا.
(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) الأول ماضي والثاني مضارع، تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة -يعني: قالها في الإسلام ولها عموم يدل عليها- فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها)؛ لأنه أول من سن القتل ظلماً.
فكذلك هؤلاء الذين حرفوا الكتاب أضلوا بعدهم أمماً من المقلدين والأتباع، ولما كانت الكتابة قد استغرقت زمناً في الماضي، ولذلك عبر عنها بالماضي، فقال: (ويل لهم مما كتبت أيديهم) من هذا التحريف؛ لأن كلاهما يثبت وقوع تحريف بالكتابة.
وقوله: (وويل لهم مما يكسبون)، عبر عن هذا المعنى بالمضارع لإفادة استمرار الوزر، كما قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] والمقصود: الآثار التي تبقى بعد موتهم من السنن الحسنة أو السيئة.
والله أتى بوصف اللنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وبإشارة مدرجة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، وقد قال العلماء: كل كتاب منزل من السماء متضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بإشارات، فماذا تكون بإشارات، وليست في كل الأحوال إشارة واضحة وبينة تماماً؟ لو كان ذلك متجلياً للعوام لما عوتب علماؤهم على كتمانه، ثم ازداد الأمر غموضاً بنقله من لسان إلى لسان من العبري إلى السرياني إلى العربي، إلا أن محصلته عند الراسخين في العلم جلي، وعند العامة خفي، ولذلك توجه العتاب إلى العلماء؛ لأنهم كتموا هذا الحق؛ ولأنه لا يدرك هذه الإشارات إلا العلماء الراسخون.(7/12)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، وذلك لما أوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام وخوفهم بالنار ردوا وقالوا: لن تصيبنا النار إلا أياماً معدودة قليلة، ووصفها بمعدودة وصف دقيق جداً في التعبير عن هذا المعنى، يعني: حتى لو دخلنا النار فلن نخلد فيها: هذا كلام اليهود، لماذا؟ لأن كل معدود منقضي، وانظر إلى رمضان يقول الله تبارك وتعالى فيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، فما دام أن له عدداً فلابد أن ينقضي، ولذلك وصفها الله تعالى بأنها أياماً معدودات، فكل معدود منقضي، ولذلك قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، فهم يريدون أن يقولوا: حتى وإن دخلنا النار فلن نخلد فيها، ولن نمكث فيها إلا أياماً معدودات، وقد اختلف المفسرون في هذه الأيام المعدودات: فقال بعضهم -كما ذكر السيوطي -: هي أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل، أي: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوماً فسيبقون في النار أربعين يوماً فقط.
وبعضهم قال: سبعة أيام؛ لأن اليهود يزعمون أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وعن كل ألف سنة سيعذبون يوماً، وبالتالي يبقون في النار سبعة أيام.
{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] يعني: بأن الله سبحانه وتعالى لن يعذبكم سوى هذا المقدار! (قل)، قل لهم يا محمد.
(أتخذتم) أصلها: (أأتخذتم) فحذفت منها همزة الوصل استغناءً بهمزة الاستفهام، (قل أتخذتم عند الله عهداً) أي: ميثاقاً من الله بذلك.
{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80] يعني: إذا كان الله فعلاً وعدكم بهذا فلن يخلف عهده، لكن هذا لم يحصل وليس عندكم عهد من الله تبارك وتعالى بذلك.
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]، (أم) هذه منقطعة مقدرة ببل والهمزة، يعني: بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟! (بَلَى)، يعني بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، هذا هو المقصود.
قال تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين، لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، فيتعين على من أخطأ خطأ واحداً أن يدخل النار، ولابد من امتحانه في الدنيا، وأما من قال بالعكس فهذا لا يعلم عقيدته، لأن هذه عقيدة الخوارج، والسنة قد تواترت بخروج عصاة الموحدين من النار؛ فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، ويؤيد ذلك كونها نازلةً في اليهود، يعني: من كسب سيئة مثل سيئتكم، وكفر مثل كفركم أيها اليهود؛ فمجرد اكتساب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لابد أن يكون سببه محيطاً به، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة:81] أي: غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة، وسدت عليه هذه الخطيئة مسالك النجاة بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود، وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة، يعني: له حسنات ولكن هذه الحسنات تغمر في هذا البحر المحيط به من كل جانب وهو هذه الخطيئة التي هي خطيئة الشرك، فتحبط كل ما عنده من أعمال صالحة.
والقاعدة: أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، وهنا الخلود في النار معلق على أمرين فلا يتم بواحد منهما، حتى لو قلنا بأن السيئة معصية، لكن إذا انضمت إليها الخطيئة التي تحيط به تماماً بحيث تبطل كل عمله، وهي الشرك، حينها يقع في النار.
إن اكتساب السيئة وحدها لا يتوجب به الخلود في النار إذا قلنا بأن السيئة هي المعصية، وذلك حتى تنضم إليها خطيئته بالشرك، فتحيط به من كل جانب، وتبطل كل أعماله الصالحة، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
مثلاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، لا تتنزل عليهم الملائكة إلا إذا جمعوا بين الأمرين: يقولون: ربنا الله، ثم يستقيمون، كذلك حديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، فالمعلق على شرطين لا يتم بواحد منهما، فلابد من انتفاء الشرطين.
قال ابن جرير: قلت لـ عطاء: من كسب سيئة؟ قال: الشرك، وتلا، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل:89] أي: لا إله إلا الله وهي التوحيد، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]، والسيئة المقصود بها هنا الشرك، ولذلك من أسماء كلمة التوحيد: كلمة النجاة، وهي لا إله إلا الله، ولها أسماء كثيرة منها الحسنة، وكذلك السيئة تطلق على الشرك.
إذاً: لابد إذا تكلمت عن تفسير هذه الآية أن تربطها بتلك الآية، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:90] يعني: من جاء بالشرك، فالسيئة هنا مثل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة:81].
وقوله تبارك وتعالى: (بلى) يعني: ليس الأمر كما ذكرتم، بل إنها سوف تمسكم النار وتخلدون فيها.
و (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، يعني: إذا سألت رجلاً فقلت له: ألم تعط نسخة من تفسير الجلالين؟ فيجيب بقوله: بلى.
يعني: أخذت، لكن لو قال: نعم، فيكون المعنى أنه لم يأخذ، فإذا كان السؤال فيه نفي بعد صيغة الاستفهام فيكون الجواب في حالة الإثبات بـ: بلى، مثل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، تقول: بلى.
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، بلى، ولو قالوا: نعم.
لكفروا.
إذاً: (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، فقوله: (لن تمسنا النار)، يعني: بلى ستمسكم النار، ولو قال قائل: ألم تأخذ ديناراً؟ فقلت: نعم، لكان المعنى: لم آخذ ديناراً؛ لأنك حققت النفي وما بعده، فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت.
قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الآخر: نعم، كان ذلك تصديقاً لئلا شيء له عليه، ولو قال: بلى كان رداً كقوله: لا، بل لي عندك شيء، وفي التنزيل: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، ولو قالوا: نعم لكفروا.
الخلاصة: (بلى) يعني: ليس الأمر كما زعمتم، بلى ستمسكم النار وتخلدون فيها.
(من كسب سيئة) شركاً.
(وأحاطت به خطيئته) هنا بالإفراد، وفي قراءة أخرى الجمع (خطيئاته) أي: استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركاً.
(فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) روعي فيه معنى (من)، لا لفظ (من)، فـ: (من) قد تكون مفرداً لكن باقي الآية تراعي المعنى؛ (من) يعبر في لفظها عن واحد، لكن من حيث المعنى بالجمع، فروعي في (من) هنا معنى الجمع، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).(7/13)
تفسير سورة البقرة [82 - 91](8/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
(وإذ) أي: واذكر إذ، (أخذنا ميثاق بني إسرائيل) في التوراة، (لا تعبدون)، يعني: وقلنا: لا تعبدون، بالتاء والياء (لا يعبدون) خبر بمعنى النهي، وقرئ شذوذاً: (لا تعبدوا)، لكن القراءة الصحيحة بإثبات النون، فالفعل مضارع مرفوع بثبوت النون مثل قوله تعالى: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم)، جاء الفعل المضارع في المواضع الثلاثة مرفوعاً؛ لأن (لا) التي قبله ليست ناهية، فالجملة خبرية جاء النهي فيها بلفظ الخبر، وهذا أبلغ من صريح النهي، فمثلاً حديث: (لا ضرر ولا ضرار)، لا هنا نافية؛ فهو خبر لكن من حيث المعنى إنشاء، أو بعبارة أخرى: هو نفي يراد به النهي، مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهذه ظاهرها الخبر، والمقصود بها الإنشاء، ولا يمكن أن يكون المقصود بها الخبر؛ إذ ليس كل الحجاج فيهم أحد يرفث أو يفسق أو يجادل.
فكذلك هنا: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]، (لا) هنا لا نافية وليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية فسوف تكون الآية هكذا (لا تعبدوا إلا الله)، فيلزم حذف النون، لكن الآية: (لا تعبدون) فالفعل مرفوع، فدل على أن: (لا) هنا هي النافية، لكن من حيث المعنى: هي خبر مقصود به الإنشاء.
كل الكلام الكثير الذي قلناه الآن حول كلمة (لا تعبدون) لخصه السيوطي رحمه الله في ثلاث كلمات فقال: خبر بمعنى النفي.
قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: وأحسنوا بالوالدين إحساناً يعني: براً.
(وَذِي الْقُرْبَى) يعني: القرابة، وهذا عطف على الوالدين.
قوله: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، القراءة التي يعتمدها الجلال السيوطي: (حَسَناً).
أي: قولوا للناس حُسنا أو حَسناً، أي: قولاً حسناً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والرفق بهم.
وهذه الآية نحتاجها كثيراً جداً؛ لأن كثيراً من الإخوة الملتزمين يتصورون أن الفظاظة والإساءة والغلظة وسوء الخلق جائز مع الكفار، وهذه الآية دليل على استحباب التزام الرفق وحسن الخلق مع كل الخلق حتى لو كانوا كفاراً، كما قال الله واصفاً نبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية من الآيات التي ينبغي أن يفهمها الإخوة فهماً جيداً، (قولوا للناس) تشمل المسلمين والنصارى واليهود وكل خلق الله سبحانه وتعالى، فحسن الخلق واجب مع جميع الناس خصوصاً عند النصيحة أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالكلمة الطيبة صدقة.
فهذه الآية دليل على التزام أدب الرفق وحسن الخلق حتى مع المخالفين في العقيدة والدين، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، أما المبادأة بالظلم أو العدوان أو السب أو غير ذلك مما يتنافى مع حسن الخلق فلا يليق بالمسلم؛ لأن الله يقول: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، فلا يقابل القسيس ويصرخ في وجهه ويعتبر أن هذه بطولة، أو يشتمه بألفاظ قبيحة، وقد يجره ذلك إلى أن يقابله بالمثل فيسب الله أو يسب محمداً عليه الصلاة والسلام، فسداً لهذه الذريعة ينبغي تجنب ذلك.(8/2)
الفرق بين الإحسان والولاء مع الكفار
ينبغي أن نفرق بين الإحسان والولاء؛ لأننا الآن في زمان يعج بالفتن، ونحن الآن -والله تعالى أعلم- في الزمن الذي يصبح فيه الرجل مؤمناً ويمسي كافراً من الفتن والمحن التي تسلط علينا من كل جهة، وبالذات في شيء من أخطر قضايا العقيدة، بل هي القضية التي لم تتكاثر الأدلة على مسألة من مسائل التوحيد مثلما تكاثرت عليها بعد توحيد الله تبارك وتعالى، وهي قضية الولاء والبراء، ولم يعرف في الإسلام أدلة أعظم منها بعد التوحيد في أمور العقيدة من قضية الولاء والبراء، والناس الآن تذوب عقيدتها كما يذوب الملح في الماء، وحرب ليل نهار من كل الجهات سواء من الداخل أو الخارج، من الجهلة أو من علماء السوء، من الساسة أو من اليهود والنصارى، قضية تذويب قضية الولاء والبراء، ويصفون الشخص الذي يكفر اليهود والنصارى بأنه متعصب، حتى أصبحت كلمة التعصب الآن والتطرف وغيرها تطلق إطلاقاً معيباً وخطأً.
فموضوع التعصب لا يمس العقيدة، ولا يوجد شيء في العقيدة اسمه تعصب، وكونه يعتقد أن الكافر مخلد في النار، أو أن من قال: عيسى ابن الله.
فقد كفر، أو أن اليهود كفار، وغير ذلك من العقائد التي هي من أصول الإسلام والحد الفاصل بين الإيمان والكفر، هذا لا يمكن أن يدخل فيه تعصب، إنما التعصب يأتي في المعاملة فقط، ومتى يكون تعصباً؟ إذا كان لنصراني عندك حق، فجحدت هذا الحق أو ظلمته وضيعت ماله هذا هو التعصب، فالتعصب يكون في المعاملة، أما الاعتقاد فليس فيه تعصب؛ إنما هناك كفر وإيمان.
فقولوا للناس حسناً ليس معنى ذلك أن تزيف الحقائق، أو أن تحرف العقيدة أو تتنازل عنها، لكن (قولوا للناس حسناً) في المعاملة، فالمعاملة هي مجال التعصب والتسامح.
(وقولوا للناس حُسْناً أو حَسَناً) إذا قلنا: حَسَناً، نقدر كلمة: قولاً: أي قولاً حسناً، وفي القراءة التي بضم الحاء وسكون السين، على أنه مصدر وصف به مبالغة، كما تقول: رجل عدل، وممكن أن يقال: رجل عادل، لكن رجل عدل تصفه بالمصدر مبالغة في إثبات هذا المعنى له، كذلك كلمة: طول وكلمة: فطر ونحو ذلك.(8/3)
خرق اليهود للعهود والمواثيق
قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، وقبلتم هذا الميثاق، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ثم بعد قبوله توليتم وأعرضتم عن الوفاء به، وهذا فيه التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم، فالآية من أولها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، هذا كله حديث لهم، ثم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة:83]، يعني: تولى آباؤكم: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83].
الآيات التي تتكلم عن اليهود كثيرة في القرآن الكريم، وكذلك التي تتحدث عن بني إسرائيل في عصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمقصود بذلك آباؤهم، وأقصد الآيات التي تتكلم على جرائم ارتكبها آباؤهم ويخاطب بها ذريتهم من بعدهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ما زال يخاطبهم إلى يومنا هذا؛ لأن هذه إشارة إلى أن ما ركز فيهم من الطباع الخبيثة والخصال الذميمة واللئيمة لا تتغير، وينبغي أن نيئس من أن يتغير اليهود إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى؛ فهذه طبيعتهم.
وقد رأينا في الأحداث الأخيرة هذه المذبحة البشعة التي قام بها جبان من اليهود، عندما كان المسلمون يصلون في بيت الله سبحانه وتعالى وفي حالة سجود، وليسوا حتى في حالة قيام -فانظر كيف الجبن- قتلهم، وهل هذه بطولة؟ هل يعجز الإنسان عن أن يقتل آلاف الناس بهذه الطريقة؟! لا، لكنه الخبث والخسة اليهودية، هذا هو اللائق باليهود، ونحن نستغرب منهم هذا؛ لأن هذا هو الأصل، وهذه هي أخلاقهم وطباعهم، أناس قتلوا الأنبياء، قتلوا يحيى عليه السلام وأهدوا رأسه إلى امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل لما طلبته، فهم قتلة الأنبياء، وأخس خلق الله سبحانه وتعالى وأرذلهم، فلن تتغير هذه الطباع فيهم.
وفي التلفزيون البريطاني استضافوا بعض أحبار اليهود -لعنهم الله- من داخل فلسطين المحتلة، وسألوهم: ما رأيكم عما حصل في مسجد الخليل؟ فقالوا: هذا الإنسان بطل، لقد فعل ما نتمنى نحن جميعاً أن نفعله، ولكننا لا نجرؤ على ذلك! هذا الشخص بطل، وهذه بطولة؛ لأنه يقتل هؤلاء الأجانب الموجودين في بلاد ليست بلادهم، فهم يستحقون القتل وإلا فليخرجوا! فيصفون هذه الجرائم وهذه الخسة والنذالة بأنها بطولة.
كذلك مناحن بيجن نفسه كان مشرفاً على مذبحة دير ياسين المعروفة، وكان يقول في أحد كتبه متحدثاً عن القتل الذي ارتكبه ضد المسلمين: أنا أقاتل إذاً أنا موجود، مثل الذي قال: أنا أفكر إذاً أنا موجود، فهو لا يحس بوجوده في الحياة إلا إذا قتل، فالقتل والإجرام والخسة والنذالة هذه الطباع لا تتغير في اليهود أبداً، فلذلك لا تعجبوا إذا لاحظتم أن الآيات كلها تخاطبهم على أفعال فعلها أسلافهم، ثم يعاتب بها من كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا، لماذا؟ لأن طباعهم لا تتغير، {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75]، يعني: ايئسوا فلا أمل فيهم إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.(8/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:84]، وقلنا: لا تسفكون دماءكم، ولا تريقونها بقتل بعضكم بعضاً، وقلنا في قوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]، إشارة إلى أن المحسنين فيهم قلة، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة:83]، يعني: هناك قلة أحسنت، فلئلا يبخس الله سبحانه وتعالى هذه القلة حقها استثناهم، ولكن في نفس الوقت أشارت هذه الآية إلى أن الخير إذا صار قليلاً في الأمة والشر هو الغالب فإن ذلك لا ينجي الصالحين من عقاب الله إذا نزل؛ فإنه يعم الصالح والطالح، فوجود قلة من الصالحين لا يمنع العقاب الإلهي إذا فشى فيهم المنكر، وقل فيهم المعروف.
ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84]، قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم) يعني: اذكر إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم، فيقدر هنا: وقلنا: لا تسفكون دماءكم، (لا) هنا نافية، ولو كانت ناهية لقال تبارك وتعالى: (لا تسفكوا دماءكم)، لكن قال تبارك وتعالى: (لا تسفكون) بالنون كما أتى بها من قبل في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]، وكذلك: لا تسفكون، ولا تخرجون، عبر في هذه المواضع الثلاثة بالمضارع، وأتى بالفعل مرفوعاً بثبوت النون؛ لأن (لا) التي قبل هذه الأفعال ليست ناهية بل نافية، فما بعدها جملة خبرية لكن المقصود بها الإنشاء والنهي، وهذا يكون أبلغ من صريح النهي؛ كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهذه (لا) نافية، لكن المقصود بها النهي، ومثله حديث: (لا ضرر ولا ضرار) (لا) نافية لكن المقصود بها النهي عن الضرر، كذلك هنا: {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، (لا) نافية، والمقصود بها النهي عن سفك الدماء.
قال تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84]، هذا مما أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق به على بني إسرائيل، ألا يخرجوا بعضهم بعضاً من هذه الديار.
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84].
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، قبلتم ذلك الميثاق.
(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، وأنتم تشهدون على أنفسكم.(8/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم)
قال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:85]، مع أن الميثاق سبق وأقررتم به وهو أنكم لن تقتلوا إخوانكم، (ثم أنتم هؤلاء) أي: يا هؤلاء، فيقدر (يا) في التفسير، (تقتلون أنفسكم) يعني: يقتل بعضكم بعضاً.
إذاً: (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) أي: إخوانكم، عبر عن الإخوان في الله بالأنفس، وهذه من لطائف القرآن الكريم حيث يعبر عن الإخوة في الله بعبارة الأنفس إشارة إلى قوة الرابطة على الاجتماع على الإيمان وعلى العقيدة؛ فإنها تكون أقوى من رابطة النسب، وآية ذلك: أن الرجل المسلم الميت إن لم يكن له أقرباء يرثونه إلا ولد واحد من صلبه فقط يرثه، وهذا الولد كافر فإن هذا الولد لا يستحق أن يرث أباه، بل تؤول ثروة أبيه المسلم إلى بيت مال المسلمين، وتنفق على إخوانه في العقيدة، مع أن هذا ابنه الصلبي لكنه لا يستحق الميراث، لوجود حاجز الكفر حائلاً بينه وبين ميراثه، فينقطع الولاء بسبب العقيدة، فالعقيدة أقوى رباط يكون بين المسلمين، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وتصل شدة هذه الآصارة وقوة هذه الرابطة إلى حد التعبير عن الإخوة في الله بالنفس، أخوك كأنه نفسك التي بين جنبيك، ولهذا شواهد في القرآن الكريم، منها: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11]، أي: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، على أحد التفسيرين، يعني: على إخوانكم، وقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، يعني: بعض إخوانكم، يعني: يقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل.
وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: بإخوانهم، وكذلك قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29].
وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] يعني: أموال إخوانكم، فعبر عنها بأنها أموالكم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ} [البقرة:85]، هناك قراءة أخرى هي: (تظّاهرون)، يعني: تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء، ومعنى: تَظَاهرون أو تَظَّاهرون: تتعاونون.
{عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ} [البقرة:85]، بالمعصية.
{وَالْعُدْوَانِ} [البقرة:85]، بالظلم.(8/6)
ميثاق الله إلى بني إسرائيل بمفاداة أسراهم
قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة:85]، وفي قراءة أخرى: (وإن يأتوكم أسرى تفادوهم) وفي قراءة: (تفدوهم)، يعني: تنقذوهم من الأسر بالمال أو بغير المال.
وهذا مما أخذ عليهم في العهد: أن يخلصوا إخوانهم من الأسر بفدائهم بالمال.
{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة:85]، (وهو) يعني: الشأن، (محرم عليكم إخراجهم) هذا متصل بقوله تعالى: (وتخرجون)، والجملة بينهما اعتراض، أي على قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85].
فالجملة: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم)، تعود على الأولى يعني: كما حرم ترك الفداء حرم عليكم الإخراج، كما أن الله سبحانه وتعالى في ميثاقه الذي أخذه عليكم حرم عليكم ترك الفداء، وأمر ببذل المال أو غير المال من أجل تحرير إخوانكم من الأسر؛ كذلك حرم عليكم إخراجهم من ديارهم.
وكانت بنو قريظة من اليهود حالفوا الأوس، وبنو النضير حالفوا الخزرج، فكان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، هؤلاء مع الأوس وهؤلاء مع الخزرج، فكانوا يقاتلون إخوانهم، ويخربون ديارهم ويخرجونهم، فإذا أسروا -مع أنهم كانوا يقاتلونهم- امتثلوا بحكم الله وبعهد الله الذي أخذه عليهم في بذل المال لفدائهم! وكانوا إذا سئلوا: لم تقاتلونهم وتفدونهم؟ يعني: أنتم بقتالهم تسببتم في أسرهم أو أسرتموهم بالفعل، ثم بعد ذلك تبذلون المال لفدائهم! قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أخذ علينا الأمر بفداء أسرانا، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياءً أن تستذل حلفاؤنا، فقال تعالى منكراً عليهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، بعض الكتاب هنا هو الفداء، وعرفنا أنه الفداء من السياق المتقدم، فإنه يتبين أن الذي آمنوا به هو فداء الأسرى، أما البعض الذي كفروا به فهو ترك القتل، والإخراج، والمظاهرة، فهم أخرجوا إخوانهم وقتلوهم وظاهروا عليهم، فهنا الله سبحانه وتعالى وصفهم بالكفر ببعض الكتاب وبالإيمان ببعض آخر، فقوله تعالى: (وتكفرون ببعض) أي: الكفر بهذا والإيمان بهذا، وإن كانوا قد كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره، فهذه الآية دليل على أنه قد يجتمع في الشخص كفر وإيمان، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، كذلك هنا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، ولهذا بحث مستقل سبق أن ذكرناه بالتفصيل في بحوث حكم التفسير، ومن أراد التفصيل فليرجع لكتاب الصلاة وحكم تاركها لـ ابن القيم، حيث ناقش فيه تفصيل حكم الله إذا اجتمع الكفر والإيمان؛ فأيهما يغلب.
{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]، (خزي) هوان وذل، (في الحياة الدنيا)، وقد أذاقهم الله سبحانه وتعالى الخزي والهوان بقتل بني قريظة ونفي بني النضير إلى الشام وضرب الجزية عليهم.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، في نار جهنم.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، وفي قراءة: (عما يعملون).
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة:86]، وذلك بأن آثروها على الآخرة.
{فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]، لا يمنعون من العذاب، ولا يوجد من ينصرهم ويقيهم هذا العذاب.(8/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) اللام في (ولقد) لام القسم، فصدر الكلام بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء بهذا الكلام، و (آتينا) الإيتاء هو الإعطاء، ومعنى كلمة: (موسى) في اللغة العبرانية المنشول من الماء.
وقوله: (الكتاب) مفعول به ثاني، وهو التوراة، قيل: المراد فهم الكتاب، أي: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما في هذا الكتاب، فيكون الكلام على حذف المضاف، (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني: فهم الكتاب، وهذا التفسير ليس بظاهر، ولذلك اعتمد السيوطي رحمه الله تعالى هنا التفسير الأول، وهو أن المراد بالكتاب التوراة.
{وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}، أي: هذا مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون:44]، ومثل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44].
(وقفينا من بعده بالرسل)، التقفية هي: الأرداف والإتباع، مأخوذ من إتباع القفاء، وهو مؤخر العنق، فكون واحد يتلو واحداً يكون وصولهم تترا، فالمقصود هو أن يتبع بعضهم بعضاً، تقول: جئته من قفاه.
إذا جئته من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام، والقافية في اللغة هي القفاء، وفي الحديث: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) يعني: في مؤخر العنق.
وكل رسول جاء بعد موسى إنما جاء بإثبات التوراة والالتزام بحكم التوراة والأمر بلزومها إلى أن جاء عيسى المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قيل: كان الأنبياء بعد موسى إلى عيسى أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفاً كلهم على شريعته عليه السلام، ومنهم: يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله تبارك وتعالى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)، قرأ الحسن ويحيى بن يعمر: بتسكين السين، وهذه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة تميم.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني: التوراة، (وقفينا من بعده بالرسل) أي: أتبعناهم رسولاً في إثر رسول، (وآتينا عيسى بن مريم البيات) أي: المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، (وأيدناه) قويناه، وفي قراءة: (وآيدناه)، (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام.(8/8)
معنى قوله تعالى: (وأيدناه بروح القدس)(8/9)
تأييد الله لعيسى بروح القدس
قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] أي: قويناه، قوله: (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروح القدس هو جبريل عليه السلام.
كان جبريل عليه الصلاة والسلام يسير مع المسيح عليه الصلاة والسلام حيث سار يعينه ويلهمه العلوم، فلم يستقيموا مع ذلك، يعني مع أننا أيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات وبجبريل عليه الصلاة والسلام لكنكم -أيها اليهود- لم تستقيموا ولم تؤمنوا به ولم تتبعوه عليه الصلاة والسلام.
وقد قرأ مجاهد وابن محيصن: (وآيدناه) بالمد، وهما لغتان.
((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)) تشمل كل معجزة أوتيها المسيح عليه الصلاة والسلام، وقيل: المقصود الإنجيل.
ونلاحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أفرد المسيح عليه الصلاة والسلام عن سائر رسله، فإنه يقول تبارك وتعالى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:87] مع أن عيسى من الرسل الذين أتوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام، فخص عيسى عليه الصلاة والسلام وأفرده عن سائر الرسل الذين جاءوا بعد موسى لتميزه عنهم، لكونه من أولي العزم من الرسل، كما أنه كان صاحب كتاب وهو الإنجيل، وقيل: لأنه ليس متبعاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل الذين جاءوا بعد موسى، فإنهم ألزموا بالتوراة، أما المسيح عليه الصلاة والسلام فقد جاء بنسخ كثير من الأحكام التي كانت في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام.
ويلاحظ في القرآن الكريم نسبة المسيح عليه الصلاة والسلام إلى أمه، يقول تعالى: (عيسى بن مريم)، والمقصود بذلك الرد على اليهود الذين زعموا أن له عليه الصلاة والسلام أباً، فاليهود يرمون مريم عليها السلام بالفاحشة والعياذ بالله، قال الله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156]، فهم يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- ابن زنا، وأن له أباً والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى لم ينسبه إلا إلى أمه؛ إشارة إلى أنه لا أب له، وهذا هين ويسير في قدرة الله سبحانه وتعالى، فإنه لما بشرت الملائكة مريم بالمسيح عليه الصلاة والسلام قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:20 - 21]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فهذا فيه رد على اليهود -لعنهم الله- حيث زعموا أن للمسيح عليه الصلاة والسلام أباً.
ومن سأل وقال: من هو أبو المسيح؟ فنقول له: من هو أبو آدم؟ فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى لإظهار كمال قدرته، فإن الله سبحانه وتعالى نوع خلقه، وإن كان كل نوع من الخلق آية من آيات الله، فآدم عليه الصلاة والسلام خلق من غير أب وأم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، وحواء خلقت من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام، فحواء خلقت من رجل دون امرأة بقدرة الله سبحانه وتعالى، والمسيح عليه الصلاة والسلام خلق من أم بدون أب، وسائر البشر خلقوا من أب وأم، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى الدائمة في البشر.
وفي الحقيقة كل صورة من صور الخلق هي في حد ذاتها معجزة، لكن الله سبحانه وتعالى نوّع الخلق، لأن الأمور العادية يعتادها الناس فلا يلتفتون إلى ما فيها من الآيات البينات، لكونهم اعتادوها، فمثلاً: خروج الكتكوت من البيضة، أليست معجزة؟! لو اجتمع كل من على ظهر الأرض من علماء وخبراء وفنيين بكل ما أوتوا من علم، وأرادوا أن يخلقوا ذبابة أو فيروس أو بكتيريا، لم يستطيعوا ذلك، لكن الله سبحانه هو الذي انفرد بالخلق.
فالمقصود من ذلك أن هذه كلها آيات لله سبحانه وتعالى، وأن المسيح مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، حيث إنه نسب إلى أمه ولا أب له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فإذا سأل المشركون الملحدون وقالوا: فمن أبوه؟ فالجواب كما يزعم النصارى -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى هو أبوه، بل نقول لهم: من أبو آدم؟ بل من أم آدم؟ ولذلك أجاب الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهة بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
وعيسى بالعبرانية: (إيشور)، ومعناه: السيد، أو المبارك، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31]، أما مريم باللغة العبرية فمعناها: الخادم، سميت أم عيسى عليها السلام بهذا الاسم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: معناها: العابدة، أما معنى مريم في اللغة العربية فهي المرأة التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر، كالزير من الرجال، فهذان تعبيران معروفان في اللغة العربية، فالمرأة التي تتجرأ على الكلام مع الرجال بدون فجور تسمى مريم، والرجل الذي يحب الكلام مع النساء حتى لو لم يفجر يسمى زيراً، ويوجد خلاف ذلك، قال الأزهري: المريم المرأة التي لا تحب محادثة الرجال، وكأنه قيل لها ذلك تشبيهاً لها بـ مريم البتول؛ لانعزالها عن الناس وعدم اختلاطها بالرجال.(8/10)
روح القدس هو جبريل عليه السلام
((وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: روح القدس هو جبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا التعبير في حق جبريل عليه الصلاة والسلام كثير في القرآن والسنة كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل:102]، وقال تبارك وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] أي: جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال تبارك وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] وهو جبريل عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت رضي الله تعالى: (اهجهم -أي: المشركين- وروح القدس معك)، وقال له مرة: (اهجهم وجبريل معك)، فهذا تفسير واضح وصريح من النبي عليه الصلاة والسلام يدل على أن جبريل هو روح القدس.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لـ حسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدفع عنه إيذاء المشركين بشعره- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك) رواه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي موصولاً، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مر بـ حسان وهو ينشد الشعر في المسجد؛ فلحظ إليه عمر بعينه، كأنه ينكر عليه، أتنشد الشعر داخل المسجد؟! فكأن حسان فهم من هذا اللحظ وهذا النظر من عمر رضي الله عنه أنه ينكر عليه أو يهم أن يفعل به شيئاً، فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أجب عني -يعني دافع ونافح عني- اللهم أيده بروح القدس)؟ فقال: اللهم نعم، يعني أبو هريرة قال: نعم سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول ذلك، وفي بعض الروايات: (اهجهم وجبريل معك)، فهذا كله يدل على فضيلة المنافحة عن الإسلام كما في بعض الأحاديث الأخرى، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لهو أشد عليهم من النبل أو من السهام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أي: أن هجاء المشركين بالشعر أشد عليهم من وقع النبل، وهذه صورة من صور الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وهي الدفاع عن الإسلام ضد حملات أعدائه بالكلام، ولو بإنشاد الشعر، ولو بأي أسلوب من هذه الأساليب التي هي دون الصدام المسلح مع أعداء الله تبارك وتعالى.
الشاهد: أن جبريل يطلق عليه الروح القدس كما أطلق عليه الروح الأمين.
وكان حسان رضي الله تعالى عنه يقول في شعره: وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء وجبريل رسول الله فينا، يعني: رسول من عند الله يأتي بالوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، المقصود به في هذه الآية: جبريل عليه السلام.
قال النحاس: سمي جبريل روحاً، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحاً من غير ولادة والد ولده، فجبريل عليه السلام خلقه الله سبحانه وتعالى روحاً خلقاً مباشراً، لم يكن عن طريق ولادة من والد، كذلك سمي عيسى روحاً أيضاً لأجل هذا؛ لأنه خلق بكلمة: (كن)، فلذلك يسمى أحياناً كلمة الله، أو روح الله؛ لأنه ولد مباشرة بدون والد، وإنما ولد بكلمة الله، وبأمر الله.(8/11)
الحكمة من تخصيص عيسى بالذكر في قوله: (وأيدناه بروح القدس)
ألم يؤيد الأنبياء جميعاً بروح القدس؟ ألم يؤيد نبينا عليه الصلاة والسلام بروح القدس؟
الجواب
بلى، إذاً ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص المسيح عليه السلام هنا بأنه أيده بروح القدس؟ خص الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس؛ لأنه تعالى خصه به خصيصة لم تكن مع غيره، وهي: أن جبريل عليه السلام كان مع المسيح عليه السلام مؤيداً له من وقت صباه إلى حال كبره عليه السلام، كما قال تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة:110] كيف؟ {يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [المائدة:110] فهذا ما لم يقع لغيره من الأنبياء، فالأنبياء أوحي إليهم على كبر من السن، وجبريل كان يؤيدهم، لكن فيما بعد، أما المسيح عليه السلام فخص هنا بالتأييد لأن له خصيصة ليست لغيره، وهي: أن جبريل كان يؤيده منذ كان وليداً في المهد، والدليل قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:110] ما معنى كهلاً؟ هذه من آيات الله سبحانه وتعالى في حق المسيح عليه السلام، (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، الكلام في المهد معجزة بلا شك، وعيسى عندما يتكلم وهو في المهد هذه معجزة، لكن هل من المعجزات أن يتكلم الكهل؟! الكهل الكلام بالنسبة إليه ليست معجزة وليست آية؛ لأنها شيء طبيعي أن يتكلم، لكن الإشارة هنا إلى معجزة أخرى خاصة بالمسيح عليه السلام حيث اقترن كلامه وهو كهل هنا بشيء غير عادي، وهو أنه سيبقى في السماء إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بنزوله من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس وهو كهل، أي كبير في السن، فالمقصود بذلك اقترانه بمعجزة نزوله من السماء في آخر الزمان حاكماً بالقرآن، فيقول تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:110]، هذه خصيصة من خصائصه، ولأنه تعالى حفظه بجبريل حتى لم يدن منه الشيطان: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] هكذا قالت امرأة عمران أم مريم، (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا يطعنه الشيطان في خاصرته؛ فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)، وذلك استجابة لهذه الدعوة: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
هناك تفسير بأن (روح القدس) هو الإنجيل نفسه، قالوا: لأن الله وصف القرآن أيضاً بأنه روح، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فإن القرآن سبب الحياة الأبدية، والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش، وهذا التفسير رده الحافظ ابن كثير مستدلاً بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة:110] فذكر أنه أيده بالإنجيل، وأيده بروح القدس، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) تكرير قول لا معنى له، فالله أعز من أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم، فيكون تكرار بلا فائدة وبلا جدوى، فدل هذا على المغايرة، وأن روح القدس في أول الكلام ليس هو الإنجيل المذكور في آخره.
قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] المقصود: فلم تستقيموا، ولم تؤمنوا به، ولم تستجيبوا له، هذا هو جواب الكلام.(8/12)
اليهود قتلة الأنبياء
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى) أي: بما لا تحب أنفسكم من الحق، ولا بد أن نقول: من الحق لأهميتها.
(اسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن اتباعه.
هذا هو جواب (كلما)، وهو محل الاستفهام، والمراد بهذا الاستفهام التوبيخ.
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ) المقصود ففريقاً منهم (كذبتم) كعيسى عليه السلام، (وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)، وعبر عن الماضي بالمضارع لحكاية الحال الماضية، أي: قتلتم من الأنبياء كزكريا ويحيى.
هذا الذي اعتمده السيوطي.
قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ) قيل: أصلها بما لا تهواه أنفسكم، وحذفت الهاء حتى لا تطول الكلمة، (اسْتَكْبَرْتُمْ) يعني: استكبرتم عن إجابة هذا الرسول احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع على أهواء كما جاء في التنزيل، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل لفظ الهوى في الغالب إلا فيما ليس بحق، وفيما لا خير فيه، وهذه الآيات من ذلك، لكن قد يستعمل الهوى في الحق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وبعض العلماء يضعفون هذا الحديث وبعضهم يحسنه، ومنه أيضاً قول عمر رضي الله تعالى عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
أي: ولم يحب ما قلت، وقالت عائشة رضي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) والحديثان أخرجهما مسلم، فهذه من المواضع القليلة التي يستعمل فيها الهوى في غير سياق الذم، لكن الغالب استعماله فيما لا خير فيه وفيما ليس بحق.
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) قدم فريقاً في الموضعين للاهتمام، وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، والتقديم أحياناً يكون للقصر، لكن المقصود به هنا للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم، ثم هنا محذوف وهو كلمة (منهم)، يعني: فريقاً منهم كذبتم وفريقاً منهم تقتلون، وبدأ بالتكذيب ثم بعد ذلك ثنى بالقتل، لماذا؟ لأن التكذيب هو أول ما يفعلونه بالشخص، يبدءون أولاً بالتكذيب وبعد التكذيب يقتلونه، ولأنه المشترك بين المكذوب والمقتول، فيكذبون الرسول، وحتى الذي يقتلونه فإنهم لا يقتلونه إلا بعدما يكذبونه.
ويلاحظ في السياق: أن الخطاب لبني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة عظيمة جداً لفهم طبيعة هؤلاء المجرمين السفاحين القتلة اليهود لعنهم الله، حيث نسب الله القتل إليهم مع أن القتلة هم آباؤهم ولم ذاك؟ لأنهم يرضون بهذا القتل، ولحوق مذمته بهم، والمذمة ما زالت تلحق أيضاً بهؤلاء الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لرضاهم عن ذلك، وكما أشرنا من قبل؛ فإن نسبة هذه الأفعال إلى اليهود في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الطبيعة واحدة، الطبيعة الخبيثة اللئيمة والغدر والذل والهوان والخيانة وكل هذه الأخلاق الذميمة، فإن قلوب اليهود هي وعاء مستقر دائم لها، لا ينفك اليهودي أبداً عن هذه الأخلاق في كل الأمم -وهذه قاعدة- بغض النظر حتى عن الأدلة الشرعية، فبالاستقراء لا تزال فيهم هذه الصفات مغروسة في طباعهم لا يستطيعون منها فكاكاً ولا خلاصاً، والواقع الذي نعيشه خير شاهد على ذلك، وقد اهتم القرآن الكريم بالربط بين موسى ومحمد عليهما السلام، والربط بين القرآن وبين التوراة، وسردت كثير جداً من آيات القرآن الكريم للحديث عن بني إسرائيل، وكما تلاحظون فإن سورة البقرة بعامتها في الكلام على أحوال بني إسرائيل، إشارة إلى علاقة خصبة بين الأمة المحمدية وبين الأمة الإسرائيلية، هذه العلاقة التي ستستمر إلى آخر الزمان، حينما ينزل المسيح عليه السلام، وكل ما يحصل الآن في هذا الزمان هو عبارة عن تهيئة لما يؤمنون هم به ونؤمن نحن به، أمر واحد يؤمن به اليهود والنصارى والمسلمون، وهو أنه لا بد من صدام وملحمة عظيمة جداً، ومقتلة كبيرة تحصل بين أهل الإيمان وأهل الإسلام وبين هؤلاء الكافرين، مع اختلاف العقائد، وهم يجزمون بها قطعاً بلا شك وبلا جدال، لكن لا يظهرون لنا هذا، ويجزمون أن كل التحركات الموجودة الآن في العالم والتغييرات التي تحصل هي تهيئة لنزول المسيح المنتظر، هذا كلام اليهود في عام (2000)، وهم يحددون سنة ألفين لمجيء المسيح المنتظر الذي يحكم العالم -بزعمهم- من القدس ويعيد إليها اليهود، والنصارى يعتقدون نفس الشيء، لكن النصارى يعتقدون أن المجيء الثاني للمسيح هو بصفته -والعياذ بالله- إلهاً، والمسلمون يعتقدون أيضاً بمجيء المسيح، فالكل مجمعون على مجيء المسيح ولكن مع اختلافنا في حقيقة هذا المسيح؛ لأن اليهود يقولون: إن المسيح لم يأت بعد، والذي أتى هو ساحر وكذاب، ويسبون المسيح عليه السلام، ويقولون: إن المسيح الحقيقي هو الذي ننتظره، وسيأتي في آخر الزمان، وهم سيتبعونه، وهذا المسيح هو المسيح الدجال الأعور الكذاب، فهذا هو الذي سيتبعه اليهود كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يعتقدون بمجيء مسيح الضلالة المسيح الدجال، ومسيح الهدى وهو رسول الله عيسى عليه السلام ينزل من السماء ليحسم هذه المعركة، ويقتل بحربته الدجال، ويحكم بالقرآن وبالإسلام، ولا نريد التفصيل في هذا المعنى، لكن كل الأحداث التي تدور تنبع من هذه العقيدة، والتحضير لموقعة (هرم جد)، التي هي الملحمة الكبرى التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كائنة لا محالة، وستكون الكلمة العليا والظهور فيها للمسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قلنا: نسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع للحال الماضية استحضاراً لصورتها، ولفظاعتها واستعظامها، أو يكون (وفريقاً كذبتم) في الماضي (وفريقاً تقتلون) مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، ففواصل الآيات التي سبقتها كلها أفعال مضارعة بهذه الصيغة، فهذه تكون من باب المشاكلة لهذه الأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل السابقة، أو (وفريقاً تقتلون) إشارة إلى أنكم مستمرون في ذلك كما فعل آباؤكم في عهد موسى عليه السلام ومن بعده في قتل الأنبياء، وإنكم على ما كان عليه آباؤكم، فقد حاولوا بالفعل قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: (وفريقاً تقتلون) تحاولون قتله، ولولا أني عصمته لقتلتموه، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال، ولا ينافيه قتل البعض، والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة، سواء ترتب عليها القتل أو لا، (فريقاً تقتلون) إما أن يكون قتلاً حقيقاً للبعض، وإما أن يكون تسبباً في القتل ومباشرة لأسبابه كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنهم حاولوا قتله.
وقيل: لا حاجة إلى التعميم، ولا أن نقول: فريقاً قتلتم، وفريقاً باشرتم الأسباب معه؛ لأن الذي وقع منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام كان قتلاً بالحقيقة، فإنه عليه الصلاة والسلام قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ: (وهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم صرح بهذا قرب وفاته، وكأن الله سبحانه وتعالى كتب له أيضاً ثواب الشهادة عليه الصلاة والسلام؛ لأن أثر هذا السم ظل معه حتى قال: (هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، أي: هذا أوان خروج روحي ومفارقة الحياة، نتيجة لذلك السم الذي وجده بعدما نهش نهشة بسيطة من هذه الذراع المسمومة.
ونفهم من ذلك: أن قتل النبي عليه الصلاة والسلام لم يتحقق منهم زمان نزول الآية، بل الذي وقع مباشرة الأسباب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة، فالمقصود هنا من قوله: (فريقاً تقتلون) أيضاً مباشرة الأسباب، فلابد من التعميم بأن نقول بالقتل حقيقة أو بمباشرة الأسباب، أي: تعميم النوعين.
وقال بعض العلماء: لا حاجة إلى التعميم، بل نقول: قتل حقيقي فقط؛ لأنهم بالفعل قتلوا النبي عليه الصلاة والسلام، ورد فريق آخر من العلماء بأن هذه الآيات لما نزلت لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة بعد، ولم يكن بعد قد أفضى إلى الرفيق الأعلى، فلابد من التعميم بذكر النوعين، القتل المباشر أو التسبب في القتل كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حياً وقت نزول هذه الآيات.(8/13)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف)
قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] قالوا: -أي: اليهود- للنبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً: قلوبنا غلف، وغلف بتسكين اللام جمع أغلف، أي: مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول، ولا يصل إليها ما تقول من هذا الدين! قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88]، بل هنا للإضراب، يعني: ليست القضية أن قلوبهم غلف، بل هي أشد من ذلك، فقد لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول، وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم.
{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] (ما) زائدة لتأكيد القلة، يعني: إيمانهم قليل جداً، ويزيد هذه الآية إيضاحاً قوله تبارك وتعالى: (وقالوا قلوبنا غلف) الواو هنا واو عطف على استكبرتم، فتكون تفسيراً للاستكبار، يعني التكذيب بسبب الاستكبار، وعلى التقديرين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن استكبرتم وكذبتم فيها خطاب، فسواء كان العطف في (وقالوا قلوبنا غلف) على استكبرتم أو عطف على كذبتم ففي الحالتين يوجد صورة من صور البلاغة وهي الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فالالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتهم وإبعاداً لهم عن عز الحضور الذي يقتضيه سياق المخاطب.
وقولهم: (قلوبنا غلف) أي: لا فائدة منا، كما قال غيرهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، وقصدوا بهذا إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة، وقطع طمعه عنهم بالكلية، يعني: ليس هناك أي أمل، فلا تطمع أبداً أننا نستجيب لدينك! وقال السدي: يقولون: عليها غلاف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (غلف): قلبي عليه غلاف فلا يخلص إليه ما تقول، أي عندما تريد أن تقول لإنسان: لن يؤثر فيَّ كلامك، فتقول له: قلبي عليه غلاف فلن يصل إليه هذا الكلام الذي تقول، وقرأ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]، وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد له بما روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (القلوب أربعة -فذكر منها-: وقلب أغلف مغضوب عليه، وذاك قلب الكافر).
أي: أنه موضوع داخل غلاف.
والغلف جمع أغلف، مثل كلمة حمر جمع أحمر، وهناك جمع ثانٍ غلُف، لكن الغلْف بتسكين اللام جمع أغلف، كأحمر وحمر، والأغلف هو الذي لا يفقه، وأصله في الذي لم يختن، يعني: أن قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن وصول ما جئت به إليها، وهذا مثل قولهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] أو جمع غلاف، ويجمع على غلُف، يعني: إما أن قلوبنا غلف جمع أغلف أو جمع غلاف، كخمار وخمر، ويجمع على غلف، فهي داخل أغطية وأغشية وأغلفة فلا يصل إليها ما تقول من هذا الدين، أو هي أوعية للعلم، ونحن مستغنون عما تأتينا به، ولا نحتاج إلى ما عندك من العلم أو الوحي، فيمدحون أنفسهم ويزكونها لعنهم الله، أي: فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته، فقلوبنا مملوءة علماً فلا تسع بعد ذلك شيئاً، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، وما عندنا من التوراة نحن مستغنون به عن القرآن، فهذا تفسير آخر أنهم أرادوا أنها أوعية مملوءة بالعلم، فكيف لمثلنا أن يتبع إنساناً أمياً؟! وهذا تفسير بعيد.
عن ابن عباس قال: يقولون: (قلوبنا غلف) يعني أوعية مملوءة، ولا نحتاج إلى علم محمد ولا غيره، قال ابن جرير: (وقالوا قلوبنا غلف) جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بالعلم، لا يحتاجون معه إلى علم آخر، ولهذا قال تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم) أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)، هذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه، والمعنى: أن قلوبكم أصلاً خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الذي يوفق إلى الحق كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)؛ فقلوبكم أصلاً كانت مهيئة للهداية والانقياد للحق، والنظر الصحيح الذي يئول ويؤدي إلى الحق، لكن الله تبارك وتعالى أبعدهم وأبطل استعدادهم الخلقي الفطري للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة، وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، يعني: لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
أو المقصود: أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقاً وصدقاً، فهؤلاء اليهود رفضوا ما دعوتهم إليه من الحق ليس لأنه ليس حقاً ولا صدقاً، وإنما لأنه سبحانه وتعالى طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.
أو أن المعنى: أن الله سبحانه وتعالى أقصاهم عن رحمته؛ فأنى لهم ادعاء العلم الذي أعظم أثر له هو حصول رحمة الله، فالله سبحانه وتعالى طردهم من رحمته، فمن يطرد من رحمة الله لن يكون عالماً علماً ينفعه، فإذا كانت فعلاً قلوبكم فيها علم، فالعلم يكون سبباً لحصول الرحمة، وأنتم مطرودون من الرحمة، فالمسألة أنكم مطرودون مخذولون، وليست المسألة علماً تدعونه في قلوبكم.
{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] الفاء هنا سببية، يعني: بسبب لعنة الله إياهم، (فقليلاً ما يؤمنون) المقصود أنهم يؤمنون إيماناً قليلاً و (ما) مزيدة لتأكيد معنى القلة، (فقليلاً ما يؤمنون) قيل: أي يؤمنون ببعض الكتاب، وقيل: لأن المؤمنين منهم قليلون، وقيل: زماناً قليلاً يؤمنون فيه بالحق، قيل: هو زمن الاستفتاح، كانوا يستفتحون فيه على الذين كفروا، إذا حصل بينهم وبين المشركين قتال يقولون لهم: إن هذا الزمان زمان بعثة نبي، فنأوي إليه، وسنؤمن به ونقاتلكم ونغلبكم، أو هو زمان بلوغ الروح التراقي فيؤمنون عندما تبلغ أرواحهم التراقي، وقيل: هو إيمان مؤقت، وهو المشار إليه في قوله تبارك وتعالى حكاية عنهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران:72] حرب نفسية، أي: تظاهروا بالدخول في الإسلام في الصباح ثم ارتدوا عنه في المساء، وهذا طعن في هذا الدين وتشكيك للناس فيه، يقولون: لماذا ارتدوا؟! لأنهم ما وجدوا فيه خيراً -والعياذ بالله- فهذه الفترة قليلة (فقليلاً ما يؤمنون) يعني مثل هذه الفترة الوجيزة.
إذاً: (قليلاً ما يؤمنون) يعني: إيماناً قليلاً.
إما أن إيمانهم ببعض الكتاب، أو أن المؤمن منهم قليل، أو زماناً قليلاً يؤمنون وهو زمن الاستفتاح، لكن لما بعث فعلاً النبي الذي كانوا يستفتحون به كفروا، فإيمانهم كان إيماناً مؤقتاً لفترة قصيرة من الزمن، أو عند بلوغ الروح التراقي يؤمنون بحقيقة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، والهاء هنا تعود على أهل الكتاب، أو: الإيمان القليل وهو المذكور في قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) هذه الفترة فقط.
وقيل: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وقال الواقدي -وهو تفسير غريب في هذه الآية-: يعني لا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً، واستدل لصحة تفسيره بقوله: تقول: ما أقل ما يفعل فلان كذا! لشخص لا يفعل الشيء أبداً، ولا يفعله ألبتة، وقال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، يعني لا تنبت شيئاً، ورد الألوسي على الواقدي تفسيره، وقال: إنه قول بارد جداً، ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة!(8/14)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله)
قال تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) ما الذي معهم؟ التوراة، وما هو الكتاب؟ القرآن الكريم، (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء هذا الكتاب الكريم (يستفتحون) يستنصرون، يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان، هذا أحد التفاسير لمعنى (يستفتحون)، (فلما جاءهم ما عرفوا) من الحق، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم (كفروا به) حسداً وخوفاً على الرياسة، وجواب (لما) الأولى دل عليه جواب (فلما) الثانية، الذي هو: (كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
قوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب من عند الله) الواو هنا عاطفة على قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف).
وقوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب) كتاب بالتنكير للتعظيم، (من عند الله) ووصفه بأنه من عند الله أيضاً زيادة تشريف لهذا الكتاب، فمعروف أنه من عند الله، لكن ذكر هنا (كتاب من عند الله) فوصفه بأنه من عنده للتفريق والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع؛ لأنه من خالقهم وإلههم، أي: هو من عند الله الذي خلقكم، فأولى بكم أن تؤمنوا به.
(مصدق لما معهم) هنا جعله مصدقاً (لما معهم) باللام، ولم يقل: مصدقاً بما معهم؛ لأنه لو قال: مصدقاً بما معهم، كان فيه إعطاء وصف التبعية للقرآن لما معهم هم، وقد آمن وصدق بما معهم، لكن (لما معهم) فيه إعطاء القرآن وصف الهيمنة، كما قال: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48].
إذاً: لم يقل: مصدقاً بما معهم، فجعله مصدقاً له لا به، إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم، لكونه مشتملاً على الإخبار عنه محتاجاً في صدقه إليه، وإلى أنه في إعجازه مستغن عن تصديق الغير، فالقرآن يصدق غيره؛ لأنه نوه بالتوارة ومدحها، فهذه الحكمة من استعمال اللام بدل الباء في قوله: (مصدقاً لما معهم)، لكن لو قال: بما معهم، فكأن التوراة هي التي تشهد للقرآن، لكن الحقيقة أن القرآن مهيمن على ما عندهم من الكتب.
(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) الاستفتاح هو الاستنصار، ومعنى الفتح هو الحكم والقضاء، فالاستفتاح يعني أن يحكم الله سبحانه وتعالى ويقضي بينهم وبين أعدائهم بالنصر، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)، يعني: يستنصر بدعائهم وصلاتهم، ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، وكلمة النصر تعني فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم: فتحت الباب.
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
وقيل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) أي: يستخبرون عنهم، من بين وقت وآخر وهم يسألون: هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، مع أنكم كنتم تستفتحون به من قبل عليه الصلاة والسلام، لكن لما جاءهم كفروا به، وهذا مثل قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، إشارة إلى أن نوع كفرهم إنما هو كفر الجحود والاستكبار.
وهنا قوله تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) (ما) موصولة، أي: فلما جاءهم الذي عرفوا كفروا به، فإيراد الموصول هنا بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: فلما جاءهم كفروا به، ولكن قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فأورد الموصول ولم يستعمل الضمير؛ لأنه لو قال: (فلما جاءهم) سيكون الفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الكتاب أو على الرسول، وإنما قال: (فلما جاءهم ما عرفوا) والذي كانوا يستفتحون بمجيئه من قبل كفروا به، فهذا لبيان كمال مكابرتهم وجحودهم، أو (فلما جاءهم ما عرفوا) المقصود به هنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الكتاب على التفسير الأول، لكن المقصود بقوله: (جاءهم ما عرفوا) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد يعبر عن العاقل (بما) إذا أريد الصفة، فأحياناً يعبر العرب (بما) عن صفات من يعقل مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الكافرون: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] يعني إلهي الذي أعبده الذي صفته كذا وكذا، فعبر عن الله سبحانه وتعالى (بما أعبد)، ويقول تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] المقصود: ومن بناها وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، النساء عاقل، فعبر عنهن (بما)، لكن المقصود هنا الصفة في الطيب، فلذلك قال: (فانكحوا ما طاب لكم)؛ لأنه هنا يعبر (بما) عن صفات من يعقل، وهكذا (فلما جاءهم ما عرفوا)، وعلى التفسير الآخر يكون المراد: الكتاب، أي: فلما جاءهم الكتاب كفروا به، فتكون: (ما عرفوا) اسم موصول، أو: (فلما) الثانية تكرير لطول العهد، واقتضى الأمر التكرار لما بعد العهد، كما في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران:188]، فهذا تكرار أيضاً بسبب طول العهد أو الفصل.
وقيل: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) جوابه محذوف، وهو: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب المصدق، (فلما جاءهم كتاب) وهنا ليس تكراراً، وفي تفسير آخر: أن (لما) الثانية: (فلما جاءهم) ليست تكراراً لـ (ما) الأولى، وإنما هذه يقصد بها الأمر غير تلك، فالأولى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) تقديره: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب الذي يصدق ما معهم، أما قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا)، فالمقصود بها الرسول عليه الصلاة والسلام، (كفروا به) فهذه معاملتهم مع الرسول المستفتح به، ورجح هذا التفسير بأن لما الأولى المقصود بها شيء غير لما الثانية؛ لأن التكرار يحتمل التوكيد، أما هنا فيكون تأسيساً وليس تكراراً للمعنى؛ فالتأسيس أولى من التأكيد.
أي: أن أي كلام يحتمل أن يدور بين أمرين، إما أن يكون التكرار فيه للتوكيد أو لتأسيس معنى جديد، وما دام يحتمل الأمرين فيترجح أن يكون للتأسيس، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1]، وصدوا ممكن أن تكون بمعنى أعرضوا، فتكون توكيداً لمعنى الكفر، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:55] أي: أعرض عنه، ومثل: كلمني فصددت عنه.
يعني: أعرضت عنه، لكن كلمة صدوا ربما تحتمل معنى آخر، أي: كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم، مثل أي داعية للكفر والفساد، يصد غيره عن سبيل الله، فهنا توكيد لكلمة صدوا، فعلى القول الأول تكون تكراراً، وعلى القول الثاني تكون بمعنى صدوا غيرهم، وفيها معنى التأسيس لمعنى جديد، كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم.
كذلك هنا (ولما جاءهم كتاب من عند الله): (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فيحتمل أن التكرار للتوكيد لبعد العهد، أو للتأسيس؛ لأن هذه مقصود بها معنى غير الآخر، فقوله: (فلما جاءهم كتاب) هذه لها معنى مستقل جوابه وتقديره: كذبوا بالكتاب المصدق، (ولما جاءهم ما عرفوا) وهو الرسول المبعوث الذي كانوا يستفتحون به أيضاً كفروا به، فهنا يترجح التأسيس على التوكيد.(8/15)
تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم)
قال تبارك وتعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90].
(بئسما اشتروا) أي: باعوا (به أنفسهم) أي: حظهم من الثواب، و (ما) نكرة بمعنى شيئاً، تمييز لفاعل بئس، يعني بئس شيئاً، والتقدير: بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم (أن يكفروا) يعني: بئس الشيء كفرهم، (بما أنزل الله) من القرآن، (بغياً) مفعول له، مفعول لفعل يكفروا، وبغياً يعني حسداً، (أن ينزل الله) حسداً للمؤمنين على أن ينزل الله فضله على من يشاء من عباده، (ينزّل الله) أو (ينزِل الله) قراءتان بالتخفيف والتشديد (من فضله) الوحي، (على من يشاء) للرسالة (من عباده فباءوا) رجعوا (بغضب) غضب من الله لكفرهم بما أنزل، والتنكير هنا للتعظيم، (على غضب) استحقوه من قبل بتضييع التوراة والكفر بعيسى، (وللكافرين عذاب مهين) أي ذو إهانة.
وقوله تبارك وتعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يعني: على من يصطفيه ويختاره للرسالة، وقيل: المراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدوه؛ لأنه لم يكن منهم، وكان من العرب من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولده نبي سواه صلى الله عليه وسلم، وإضافة العباد إلى ضميره تعالى فيه تشريف، (على من يشاء من عباده)، هذا تشريف لكل الأنبياء عليهم السلام بإضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى.
(فباءوا بغضب) أي: رجعوا (بغضب على غضب) هنا تفسيران: إما أنه غضب على غضب يعني هما غضبان، وإما غضب على غضب المقصود تعدد هذا الغضب، فالذين قالوا: هما غضبان اختلفوا في تفسير ما الغضب الأول وما الغضب الثاني، قال بعضهم: الغضب الأول غضب الله سبحانه وتعالى عليهم لعبادتهم العجل، والثاني: بسبب كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الغضب الأول: هو بسبب كفرهم بالإنجيل، والثاني: بسبب كفرهم بالقرآن، أو كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو غضب أولاً بقولهم: عزير ابن الله، والغضب الثاني بقولهم: يد الله مغلولة، وبكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
القول الآخر: أنه ليس المقصود غضبين وإنما المراد به الترادف والتكاثر، وليس غضبان فقط، فهذا فيه إيذان بتجديد الحال عليهم، كما في قول الشاعر: ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث المقصود أنها رماح كثيرة.
(وللكافرين عذاب مهين) ويلاحظ أنه قدم قوله: (وللكافرين) ولم يقل: وعذاب مهين للكافرين، وهذا التقديم يفيد أن غير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، وهذا أمر مهم جداً، فالعذاب المهين في القرآن لا يأتي إلا في حق الكافرين فقط، أما من عداهم من عصاة الموحدين فلا يعذب للإهانة، وتلاحظ أن التقديم هنا لبيان هذا المعنى، وأن هذا النوع من العذاب -الذي يراد به الإهانة- إنما هو في حق الكافرين، ولذلك قدمه، فقال (وللكافرين عذاب مهين)، فعذاب الكافرين المقصود به إهانتهم، أما غيرهم من عصاة الموحدين فالمقصود بعذابهم تطهيرهم من أثر هذه الذنوب، وإذا استقرأت القرآن الكريم وتتبعت المواضع التي ذكر فيها: عذاب مهين، ستجد أن العذاب المهين لا يكون إلا في حق الكافرين كفراً أكبر والعياذ بالله، وتقديم هذا الخبر (وللكافرين عذاب مهين) يفيد أن غير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن، فلا متمسك للخوارج في أنه خص العذاب بالكافرين، فقد قالوا: هذا يدل على أن كل من يعذب فهو من الكافرين، فيرد عليهم بأن العذاب المهين لا يكون إلا للكافرين، ومن عدا ذلك من الموحدين يعذب عذاباً للتطهير لا للإهانة والإذلال، فالمسلم الفاسق أو الموحد العاصي فإنه سيعذب لكن ليس عذاب الإهانة.
روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر) أي: الغبار الدقيق الذي يرى في ظل الشمس، (يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، فتعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)، وهذا الحديث صحيح.(8/16)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91].
(وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) جمهور العلماء على أن المقصود به القرآن الكريم، وقال بعض العلماء: المقصود به كل ما أنزل الله من الكتب الإلهية على العموم، ومع هذا فإن جل الغرض الإيمان بالقرآن، لكن سلك مسلك التعميم إشعاراً بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به في أنه منزل من عند الله، وتنبيهاً على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيماناً بما أنزل الله، ويفهم منها: أنكم لا تؤمنون بما أنزل عليكم حتى تؤمنوا بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) نعم نؤمن بما أنزل الله، لكن فقط بما أنزل علينا نحن، ونستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، ولا نقبل من قرآنكم إلا ما يوافق حكم توراتنا فحسب، (علينا)، يعني: على أنبياء بني إسرائيل، وليس عليهم أنفسهم، وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغياً وحسداً على نزوله على من ليس منهم، ولو كان من بني إسرائيل لآمنوا، وفيها إشارة إلى أن كفرهم كان حسداً للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان من ولد إسماعيل، ولذلك يقولون دائماً في تعيير العرب: إنهم أبناء الجارية، احتقاراً لهم، وهم يحسدوننا من أجل ذلك على هذا الإسلام، ولم يؤمنوا بالرسول حسداً وبغياً.
أو قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) يعني على أنفسنا، أي: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا بهذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، أي: أنهم عندما قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) هذا فيه تعريض بالقرآن أنه ليس من عند الله، ودسائسهم مشهورة.
أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب على غير المراد منه.
(وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) يقولون: نحن نؤمن فعلاً بما أنزل الله، نحن نؤمن بما أنزل علينا، فحملوا اللفظ العام الآمر بالإيمان بكل ما أنزل الله -من القرآن وما عداه من الكتب- على ما أنزل عليهم فقط، والواجب أن يؤمنوا بجميع الكتب على وجه العموم.
(ويكفرون بما وراءه) بما سواه، وقيل: بما وراءه بما بعده، والمعنى واحد، فوراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام، فكلمة وراء من الأضداد، تأتي بمعنى الكلمة وضدها، كما قال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] المقصود بها هنا: أمامهم ملك، فلو مشوا بالسفينة قليلاً فإن جنود الملك سيأخذون السفينة لصالحهم، والوراء ولد الولد، الحفيد، ويقول تبارك وتعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] يعني: ما سوى ذلك، (ويكفرون بما وراءه) يعني: بما سواه، فالهاء تعود على قوله تعالى: (قالوا نؤمن بما أنزل علينا)، ما أنزل عليهم فقط، ويكفرون بما وراء ما أنزل عليهم.
(وهو الحق مصدقاً لما معهم) كلمة مصدقاً لما معهم تتضمن الرد على قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا)؛ حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها.
(قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين)؟ فأنتم تزعمون أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وأن آباءكم وأسلافكم قد آمنوا بما أنزل عليهم من التوارة، والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء، وأنتم تزعمون أنكم تؤمنون فقط بما أنزل عليكم، فماذا فعلتم على ما أنزل عليكم؟! هل التوراة تبيح لكم قتل الأنبياء؟! قال تعالى: (فلم تقتلون)، وعبر بالمضارع، مع أن كلمة: (من قبل) تشير إلى الماضي، فكان الأصل: فلم قتلتم الأنبياء من قبل، لكن أتى بها في صيغة المضارع للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وهذا شأنهم وديدنهم، وهذه عادتهم لا تتغير أبداً، هذه الطبيعة اللئيمة والخبيثة في القتل والغدر والخيانة، فالتعبير بالمضارع لاستمرار أسلافهم في العهد المحمدي وما بعده كما كانوا في العهد الموسوي وما بعده، فالقتل والغدر والخيانة من طبيعتهم ومن فطرهم التي لا يستطيعون منها فكاكاً، وتعلمون الحادث الذي حصل في رمضان السابق من قتل العدد الهائل غدراً وخيانة في داخل مسجد الخليل، فهذا فيهم أمر طبيبعي، ورغم أن الناس ثاروا وقاموا وكأن الأمر جديد على اليهود، إلا أن هذه هي طبيعة اليهود، تجد أحدهم في أحد كتبه يقول: أنا قاتل إذاً أنا موجود، هذا شعارهم! كما يقول الرجل: أنا أفكر إذاً أنا موجود، يعني لا يتصور وجوده بدون أن يكون سفاكاً للدماء قتالاً، ومعروف عن هؤلاء المذابح في صبرا وشاتلا ودير ياسين وغير ذلك من تاريخهم الأسود.
هتلر كان يقول: أنا قتلت نصف اليهود واستبقيت النصف الآخر حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول! يعني: حتى يذوقوا أخلاق اليهود ويعرفوا فساد اليهود في الأرض، فقتلت نصفاً وأبقيت نصفاً حتى يعلم الناس لماذا قتلت النصف الأول حينما يرون أخلاقهم وبقاياهم وماذا يفعلون! يقول العلماء: الخطاب لمن حضر محمداً صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم، وإنما توجه الخطاب لأبنائهم لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81]، فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، فلذلك كانوا راضين عن قتل الأنبياء، ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك نقول: (فلم تقتلون أنبياء الله) المراد به أسلافهم، وإن كان الخطاب موجهاً إلى من كانوا معاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأنهم كانوا يتولون أولئك القتلة الذين قتلوا الأنبياء، والله يقول: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، وقيل: إنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني: إن كنتم مؤمنين فلم رضيتم بقتل الأنبياء؟! وقيل: (إن) بمعنى (ما)، أداة شرطية، أي: لم رضيتم بقتلهم إن كنتم مؤمنين؟ وقيل: (إن) بمعنى (ما) نافية.
تنبيه: (فلم تقتلون أنبياء الله) لم، أصلها لما بالألف، وحذفت الألف فرقاً بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليها؛ لأنه إن وقف عليها بلا هاء كان لحناً، ونقف عليها بالهاء في غير القرآن، وهذا بحث متعلق بالتجويد وليس من صلب موضوعنا.
نختم بكلام السيوطي في تفسير هذه الآية، يقول: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله)، القرآن وغيره، قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) أي: التوراة، قال تعالى: (ويكفرون بما وراءه)، الواو هنا للحال، (بما وراءه) يعني: سواه أو بعده من القرآن، (وهو الحق) حال، (مصدقاً) حال ثانية مؤكدة، (لما معهم.
قل فلم تقتلون) يعني: قل لهم: (فلم تقتلون) أي: قتلتم (أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني: بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم لرضاهم به.(8/17)
تفسير سورة البقرة [106 - 120](9/1)
تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)
قال الله تبارك وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106].
قوله عز وجل: (ما ننسخ من آية) (ما) شرطية، ولذلك جزمت فعل الشرط وجواب الشرط، والنسخ هو الرفع والإزالة، تقول: نسخت الشمس الظل، أي: أزالت الظل، فقوله تعالى: (ما ننسخ من آية) أي: ما نُزل حكم آية، من الإزالة.
والنسخ على أنواع: إما أن يرفع حكم الآية لكن يبقى اللفظ، وإما أن يبقى الحكم ويرفع اللفظ، وهو ما يعرف بنسخ التلاوة، ولذلك يقول السيوطي: (ما ننسخ من آية) أي: نُزِل حكمها إما مع لفظها أو لا، وفي قراءة بضم النون (ما ننسخ) من أنسخ، فيكون تفسيرها على هذه القراءة: ما نأمرك أو نأمر جبريل عليه السلام بنسخها.
(أو نَنْسَأْها) وفي القراءة الأخرى: (أو نُنْسِها) وعلى قراءة (ننسأها) من النسأ، أي: نؤخرها، فلا نزل حكمها ولكن نرفع تلاوتها، أو نؤخرها في اللوح المحفوظ، وفي قراءة بلا همز (أو ننسها) أي: من النسيان، أي: نمحها من قلبك.
وجواب الشرط قوله تعالى: (نأت بخير منها) أي: أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر.
(ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ومما يشمله عموم قدرته: النسخ والتبديل، والاستفهام هنا للتقرير، والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية: (ما ننسخ من آية) أي: ما نبدل من آية بغيرها، كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن، (أو ننسها) أي: نذهبها من القلوب، كما أخبر بقوله: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وقرئ: (أو ننسأها) أي: نؤخرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن، وعلى هذه القراءة الثانية: (أو ننسأها) نشر على ترتيب هذا اللف، قوله: (نأت بخير منها) أي: من المنسوخة المبدلة، وذلك كما فعل في الآيات التي شرعت في هذه الملة الحنيفية، شرع فيها اليسر ورفع الحرج والعنت، فكانت خيراً من تلك الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وجاء فيها اليسر والسماحة، ورفعت الآصار والأغلال كما جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]؛ لأن بني إسرائيل شرعت لهم أحكام مغلظة عقوبة لهم وتأديباً، فرفعت في هذه الملة السمحة الحنيفية (أو مثلها) أي: مثل تلك الآيات الموحيات من قبل، فيوحي الله عز وجل إلى نبيه مثلما أوحى من قبل، كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره، مثل قول الله تبارك وتعالى في سورة الأعلى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] ويقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] إلى آخره.(9/2)
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)
قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:107].
(ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) أي: يفعل فيهما ما يشاء سبحانه وتعالى، (وما لكم من دون الله) أي من غير الله، (من ولي) (من) زائدة، والأصل أن تكون: (ما لكم من دون الله ولي ولا نصير)، (من ولي) يحفظكم (ولا نصير) يمنع عذابه عنكم إن أتاكم.
يقول القاسمي: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) فهو يملك أموركم ويدبرها، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ، (وما لكم من دون من ولي) يلي أموركم (ولا نصير) أي: ناصر يمنعكم من العذاب، وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزم والإيقان؛ لأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم، والعمل بموجبه من الثقة به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، فهذا الخطاب وربط هذا الموقف بصفة علم الله سبحانه وتعالى فيه إرشاد المؤمنين إلى أن يحسنوا ظنهم بربهم تبارك وتعالى، ويؤمنوا به حق الإيمان، ويعلموا أن الله سبحانه وتعالى لا يريد فيهم في الدين ولا في الدنيا إلا ما هو الخير والأفضل لهم.
وفيه إرشاد إلى عدم الإصغاء إلى أقاويل اليهود وتشكيكاتهم التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ.
ويجب أن نستصحب هنا أن هذه الآيات كلها تمهيد لما سيأتي عما قريب من الآيات التي فيها نسخ القبلة، فهنا نوع من الإرهاصات والتمهيد في القرآن الكريم لما سيأتي عما قريب من نسخ القبلة، فالسبب: تمهيد لقلوب المؤمنين كي لا تفتتن بأقاويل اليهود وتشكيكاتهم بسبب ما وقع من تغيير القبلة، كذلك أيضاً الآيات التي ستأتي عما قريب وفيها قصة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل وبناء البيت والتنويه بعظمة البيت وشرفه وعلو مقامه، ففيها أيضاً تنويه إرهاص وتقدمة بين يدي تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام.
فالمقصود: أن ينتفي عن المؤمنين الإصغاء إلى أقاويل اليهود وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة، وقالوا: إن التوارة أحكامها لا تنسخ، ولذلك جحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما من عند الله بتغيير من حكم التوارة، فأخبرهم الله سبحانه وتعالى أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد، وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة، وقد كثرت المطاعن التي يأخذها المستشرقون والببغاوات الذين يوردون شبهاتهم من وقوع النسخ في القرآن الكريم، وقد تولى الجواب عنها برد مفحم واف العلامة ابن خليل الرحمن الهندي رحمه الله في كتابه: إظهار الحق، وهو من أروع الكتب التي فيها تفنيد عقيدة النصارى، حيث ذكر فيه أمثلة وافرة مما وقع من النسخ في التوراة والإنجيل، وهي موجودة في الباب الثالث من هذا الكتاب.
قال بعض الفضلاء: نزلت هذه الآية لما قال المشركون أو اليهود: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، يشيرون إلى ما وقع من النسخ في بعض الأحكام، وفي الآية رد عليهم؛ لأن المقصود بنسخ الحكم السابق تهيئة النفوس لأرقى منه، وحتى ترقى النفوس إلى ما هو أعلى منه وأفضل، وهو معنى قوله تعالى: (نأت بخير منها)؛ لأن الخالق تعالى ربى الأمة المسلمة في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها بواسطة العوامل الاجتماعية إلا في قرون عديدة، لذلك كان نزول الأحكام عليها على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدل الله لها ذلك الحكم بغيره، وهذه سنة الخالق عز وجل في الأفراد والأمم على حد سواء، فإنك لو نظرت في الكائنات الحية من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان؛ لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية والأدبية معاً، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل فيافع فشاب فكهل فشيخ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها يريك الدليل على أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق، وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرج من الأدنى إلى الأرقى، فهذا باختصار ما أشار إليه القاسمي في هذا المعنى.(9/3)
تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)
قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108] قوله تعالى: (أم تريدون) (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، فهي تساوي بل والهمزة، يعني: بل أتريدون، وهذه تتكرر كثيراً في القرآن، ولذلك قال السيوطي رحمه الله تعالى: (أم تريدون) بمعنى بل وبمعنى همزة الإنكار، يعني بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى؟ يعني: كما سأله قومه بنو إسرائيل، والإشارة بذلك إلى قولهم: (أرنا الله جهرة) وغير ذلك من أسئلتهم.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: لم يبين هنا الذي سئله موسى من قبل ما هو، ولكنه بينه في موضع آخر وذلك في قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153].
(ومن يتبدل الكفر بالإيمان) أي: من يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها، (فقد ضل سواء السبيل) أي: أخطأ الطريق الحق، والسواء في الأصل هو الوسط.(9/4)
تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً)
قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].
(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) (لو) هنا مصدرية، ولو تأتي بمعنى أن، كقوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2] أي: ودوا أن تكفروا، كذلك هنا (لو) مصدرية بمعنى أن كقول الشاعر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المريض المحنق (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً) هذا مفعول له (من عند أنفسهم) يعني: حسداً كائنا ًمن عند أنفسهم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة، وهذه إشارة إلى أن الحسد إنما هو من أخلاق الكفار، وأنه يتنافى مع الإيمان، فالمؤمن ليس بحسود، ونرى في كثير من آيات القرآن أن الحسد قرين الكفر، وهو تمني زوال نعمة الله عز وجل عن الغير، (من بعد ما تبين لهم الحق) الموجود في التوراة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، (فاعفوا) عنهم، واتركوهم، وأعرضوا عنهم، (واصفحوا) أي: أعرضوا عنهم فلا تجازوهم بما يقولون، (حتى يأتي الله بأمره) فيهم من القتال، (إن الله على كل شيء قدير).
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى موضحاً بصورة أوسع المراد بقوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره): هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر، يعني: كلمة (أمره) مفرد، جمعها أوامر أو أمور، فأتى هنا بلفظ المفرد فاحتمل أن يكون (حتى يأتي الله بأمره) المقصود به الأمر الذي جمعه أوامر، أو بأمره الأمر الذي جمعه أمور، يقول: قال بعض العلماء الأمر هو واحد الأوامر، وقال بعضهم: هو واحد الأمور، فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي فإن الأمر المذكور وهو المصرح به في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وتكون مشابهة لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، والسبيل هو ما نزل فيما بعد من الأحكام فيما يتعلق بالمرأة التي تأتي الفاحشة، فكذلك هنا: (حتى يأتي الله بأمره) إذا قلنا: أمره هو واحد الأوامر، فالمعنى اصبروا واعفوا عنهم ولا تجازوهم إلى أن يأمركم الله بجهادهم، وجهاد أهل الكتاب شرع في سورة التوبة في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وعلى القول بأن الأمر.
واحد الأمور، فهو ما صرح الله سبحانه وتعالى به في الآيات الدالة على ما أوقع في اليهود من القتل والتشريد؛ كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:2 - 3]، والآية غير منسوخة على التحقيق، والنسخ الذي يقصده الشنقيطي رحمه الله تعالى هنا هو النسخ الاصطلاحي، فبعض الناس يقولون: إن آية براءة نسخت كل موادعة، نسخت الآيات الآمرة بالعفو والصفح والصبر والإعراض وعدم مؤاخذة المشركين والصبر على أذاهم، فيقول: الآية غير منسوخة على التحقيق، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل حدث حديثاً، ففي حالة الضعف كان هذا هو التكليف الخاص بالمؤمنين أن يصبروا ويعفوا ويصفحوا إلى أن يأتي أمر الله بجهادهم.
يقول تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:110] أي: من طاعة كصلة رحم وصدقة (تجدوه) أي: تجدوا ثوابه {تجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110] يعني: فيجازيكم به سبحانه وتعالى.(9/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111].
(وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً) هوداً جمع هائد، (أو نصارى) قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، أي قال اليهود: لن يدخلها إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى، وهنا تصحيح من القاضي محمد كنعان في الحاشية، يقول: قول السيوطي رحمه الله تعالى: قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا سهو من الجلال السيوطي رحمه الله، فإن التي أشار إليها لم ينزل بشأنها قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، بل نزل فيها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، وذلك أن اليهود والنصارى تناظروا، فقالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وكفروا بعيسى والإنجيل، فقال النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، ونحن نقول للفريقين: صدقتم، لا هؤلاء على شيء ولا هؤلاء على شيء، فقال النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحدوا نبوة موسى، وكفروا بالتوراة، فنزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء).
وهذه الآية إخبار عما يظنه كل فريق لنفسه من النجاة وللآخر من الهلاك، وليست مرتبطة بسبب النزول؛ لأنه لا يشترط أن كل آية في القرآن يكون لها سبب نزول، لكن هذا إخبار عن اعتقاد كل فريق من هذين الفريقين.
وفي قوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) أسلوب من الأساليب البلاغية، كلمة: (قالوا) فيها نوع من الإجمال، وهذا كلام ملفوف، ثم نشر وأوضح بقوله: (وقالوا) فالواو فيها لف، ثم نشر ما لفته الواو بقوله: (إلا من كان هوداً أو نصارى).
{تِلْكَ} [البقرة:111]، أي: القولة (أمانيهم)، أي: شهواتهم الباطلة، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111]، (قل)، أي: قل لهم، (هاتوا برهانكم) حجتكم على ذلك، انظر إلى أسلوب القرآن الكريم في طلب الاعتداد بالبرهان وبالحجة، وطلب إقامة الحجة والكلام بعلم، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، فالذي يدعي دعوى هو المسئول على أن يؤديها بالبرهان، لا أن يدعي الإنسان دعوى ويلزم من يدعوه إليها بأن يثبتها له، المفروض أنت الذي تدعو تكون مسلحاً بالبرهان ولا تتكلم إلا بما قام عليه الدليل والبرهان، وإلا كنت كاذباً، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)؛ فالصادق هو من يأتي بالبرهان، (إن كنتم صادقين) فيما تقولون.(9/6)
تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره)
يقول تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112] (بلى) المقصود بها: بلى يدخل الجنة غيرهم، اليهود قالوا: لا يدخل الجنة غير اليهود، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، ولا يشاركنا فيها غيرنا، فجاءت الآية بقوله: (بلى)، وهذا إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، ونحن نعلم أن بلى تأتي لإثبات ما نفي، وكأن قائلاً يقول: من هؤلاء الغير؟ فيأتي
الجواب
( من أسلم وجهه لله) أي: انقاد لأمر الله سبحانه وتعالى، وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، فإذا أسلم الإنسان وجهه لله سبحانه وتعالى فغيره من الأعضاء أولى؛ لأن الوجه هو أشرف أجزاء البدن، فحينما يسجد الإنسان على الأرض، ويضع وجهه وجبهته التي هي أشرف جزء في بدنه على الأرض تذللاً لله سبحانه وتعالى فأولى أن ينقاد لله غير ذلك من أعضاء بدنه، (بلى من أسلم وجهه لله) أي انقاد لأمره، (وهو محسن) أي: موحد لله سبحانه وتعالى موافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزيد حقاً من حقوق التوحيد وهو من أوكد حقوق التوحيد يقترن دائماً بتوحيد المعبود: ألا وهو توحيد الطريق الموصلة إليه، فأي إنسان لا ينجو إلا بهذين التوحيدين: توحيد العبادة، وتوحيد الاتباع، توحيد المعبود وهو الله سبحانه وتعالى، وتوحيد الطريق الموصلة إليه، وهو طريق على رأسه محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، (فله أجره عند ربه)، أي: ثواب عمله، وهو الجنة، (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني في الآخرة.(9/7)
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113].
(وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) أي: ليسوا على شيء يعتد به، وإن كانوا هم على شيء باطل، فلذلك لا بد هنا في تفسيرها أن نقول: ليست النصارى على شيء حق، ولكنهم على شيء باطل، فبما أنه لم يذكر صفة البطلان هذه فلا بد من هذا التقدير، أن تقول: على شيء معتد به من الدين، أو على شيء له قيمة يذكر أو ينجي، لأن ما معهم مهلكهم، فهذا إخبار عن كفر اليهود، قالوا: ليست النصارى على شيء، وبالتالي كفروا بالمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من أجل ذلك، (وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) أي: شيء معتد به، وكفرت النصارى بموسى، (وهم يتلون الكتاب) الفريقان: فريق اليهود وفريق النصارى (يتلون الكتاب)، والكتاب هنا اسم جنس؛ لأنهما في الحقيقة كتابان، التوراة والإنجيل، فالمقصود هنا اسم جنس، مثل قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] على أحد التفسيرين، وفي الكتاب المنزل على اليهود تصديق عيسى، وفي كتاب النصارى تصديق موسى، والجملة (وهم يتلون الكتاب) جملة حالية.
وهذه الواقعة بعينها وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كل طائفة من أهل البدع والضلال تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن، فهذا المعنى موافق لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) يعني: من غير اليهود والنصارى؟ فمما وافق فيه الضلال من الفرق الضالة في هذه الأمة اليهود والنصارى: هذا الانقسام والتفرق في الدين بأن تكفر كل طائفة من لا يوافقها، وكفرت كل طائفة الأخرى مع اتفاقهم جميعاً على تلاوة القرآن! (كذلك قال الذين لا يعلمون) يعني: كما قال هؤلاء، والإشارة إلى اليهود والنصارى، (قال الذين لا يعلمون) المقصود بالذين لا يعلمون هم المشركون من العرب وغيرهم، (مثل قولهم) هذا بيان لمعنى كلمة (كذلك)، أي: قالوا لكل ذي دين: ليسوا على شيء، فكما قالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وقالت النصارى لليهود: لستم على شيء، فإن هذه العبارة التي واجهوا بها الحق ليسوا هم وحدهم في ذلك، بل قالها أيضاً المشركون سواء مشركوا العرب أو غيرهم ممن دعاهم الرسل إلى التوحيد.
والآية فيها توبيخ شديد لليهود والنصارى، لماذا؟ لأنه وصفهم بأنهم أتوا بما أتى به الذين لا يعلمون، فالمشركون العرب كانوا أمة أمية، ولم ينزل عليهم كتاب من قبل، أما اليهود والنصارى فأنزلت عليهم الكتب، وفيها الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالرسل والرسالات والقدر وسائر أمور الإيمان، فكان المفترض أن يكون أهل الكتاب أول مؤمن بالقرآن، ففي هذه الآية توبيخ شديد لهم؛ لأنهم بفعلهم وبقولهم هذا نظموا أنفسهم -مع علمهم.
يقول تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يعني من أمر الدين، فيدخل المحق الجنة والمبطل النار.(9/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)
الآيات السابقة في توبيخ أهل الكتاب، فبعد توبيخ أهل الكتاب توجه الخطاب إلى المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وصدوهم عنه عام الحديبية، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام، وعمارة المسجد إحياء المكان وشغله بما وضع له.
عمارة المسجد لها معنيان: عمارة المساجد ببنائها، وأيضاً عمارة المسجد بإحياء هذ المكان وإشغاله بما وضع له، فالمسجد أقيم لعبادة الله، فعمارته بالاعتكاف، بصلاة الجماعة، بقرءاة القرآن، بمجالس الذكر، هذه العمارة أو أحد نوعي العمارة المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، والمقصود هنا توبيخ المشركين بعد توبيخ أهل الكتاب.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] يعني: لا أحد أظلم ممن صد عن بيوت الله سبحانه وتعالى كي لا يذكر فيها اسمه بالصلاة والتسبيح والذكر، (وسعى في خرابها)، خرابها إما أن يكون بالهدم أو بالتعطيل.
يقول السيوطي: نزلت إخباراً عن الروم الذين خربوا بيت المقدس، أو نزلت في المشركين لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية من البيت، وصحح القرطبي رحمه الله تعالى أنها عامة في كل مسجد إلى يوم القيامة، والآية عامة، والوعيد فيها عام لكل من يرهب أو يخيف أو يؤذي أو يتسبب في تخريب بيوت الله سبحانه وتعالى؛ فاللفظ هنا عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها قول ضعيف؛ لأن الآية: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله)، فإذا جاءت بصيغة الجمع وفي سياق العموم فلا يصح تخصيصها، ويكون القول بتخصيصها بمسجد واحد كبيت المقدس أو المسجد الحرام عام الحديبية قولاً ضعيفاً، فالقول الآخر للعموم يشمل هذه الأمثلة، ويشمل كل من يخرب بيوت الله سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة.
{أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] (أولئك) الذين يخربونها هذا التخريب (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، قال بعض العلماء: هو خبر بمعنى الأمر، والمقصود بذلك: أخيفوهم بالجهاد، فلا يدخلها أحد منهم آمناً، يعني: لا يدخلها المشركون الذين يخربونها آمنين أبداً، فأخيفوهم فلا يدخلون بيوت الله وهم آمنون، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة:114]، يعني: هوان بالقتل والسبي والجزية، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] وهو النار.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست، وعلى هذا القول فالخراب معنوي، أي أن معنى قوله: (وسعى في خرابها) خراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:25].
وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسي بالهدم، والآية نزلت فيمن خرب بيت المقدس، وهو بختنصر أو غيره، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7].(9/9)
تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)
قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115].
يقول السيوطي: نزلت لما طعن اليهود في نسخ القبلة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيث ما توجهت به الراحلة، لأنه في السفر يجوز للإنسان أن يصلي النافلة على الراحلة، ولا يشترط أن يستقبل القبلة في أثناء صلاة النافلة.
(ولله المشرق والمغرب) المقصود من المشرق والمغرب كل الأرض؛ لأن المشرق والمغرب هما ناحيتاها؛ لأن الأرض إما شرق وإما غرب، (فأينما تولوا) وجوهكم في الصلاة بأمره، فالمفعول هنا محذوف تقديره: وجوهكم، فأينما تولوا وجوهكم في الصلاة بأمره، (فثم) هناك، (وجه الله) أي: قبلته التي رضيها، (إن الله واسع عليم) واسع يسع فضله كل شيء، عليم بتدبير خلقه.(9/10)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً)
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
قوله عز وجل: (وقالوا) في بعض القراءات بواو: (وقالوا اتخذ الله ولداً) وفي قراءة أخرى: (قالوا اتخذ الله ولداً) وهما قراءتان سبعيتان متواتران، بالواو وبدون الواو، والمقصود بها اليهود والنصارى والمشركون، لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله، فالآية تعود على اليهود والنصارى وكل من زعم لله ولداً، {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، وكلمة (ولد) تعم الذكر والأنثى، كما في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فأدرج الذكر والأنثى في صفة الأولاد.
(وقالوا اتخذ الله ولداً) فقال الله سبحانه وتعالى رداً عليهم: (سبحانه) يعني: تنزيهاً له عن الولد، (بل له ما في السماوات والأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، ملكاً: فهو سبحانه وتعالى مالك من في السماوات ومن في الأرض، وخلقاً: فهو خالقهم سبحانه وتعالى، وعبيداً: فهو ربهم، والملكية تنافي الولادة، وعبر بما تغليباً لا يعقل، وإن دخل فيه من يعقل من الإنس والجن والملائكة.
(كل له قانتون) أي: مطيعون، كل بما يراد منه، وفيه تغليب العاقل، وإن كان القنوت والخشوع والانقياد لأمر الله لا يصدر فقط من العاقل، بل يصدر مما سوى الإنس والجن والملائكة من الكائنات، وقد سبق أن عرضنا بحثاً مستفيضاً في هذا الأمر بعنوان: عبودية الكائنات، ولخصنا فيه رسالة لبعض إخواننا الأفاضل وهي رائعة جداً في هذا الباب، وفيها إثبات العبودية للجبال والأحجار وغير ذلك من الجمادات، فكل الكائنات عبيد لله سبحانه وتعالى.(9/11)
تفسير قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] أي: موجدهما على غير مثال سابق، فكل كلمات الابتداع أو البدعة أو الإبداع هي للتعبير عن الشيء الذي يوجد دون أن يوجد له نظير من قبل، فالاختراع والابتداع على غير مثال سابق، فتقول مثلاً: هذا شيء بديع، يعني حسن بالغ في الحسن مبلغاً؛ بحيث أنه لم يسبقه نظيره في الجمال أو الحسن، كذلك قوله: (بديع السماوات والأرض) يعني: أنشأهما وفطرهما وخلقهما على غير مثال سابق لهما.
{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة:117] يعني: أراد أمراً، أي: إيجاد هذا الأمر، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] بالرفع، أي: فهو يكون، وفي قراءة بالنصب جواباً للأمر.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: (قالوا اتخذ الله ولداً) هذا الولد المزعوم -على زاعمه لعائن الله- قد جاء الرد عليه مفصلاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57].
وهذه الآية نحتاج إلى أن نزيدها إيضاحاً، ولذلك ننقل هنا كلام القاسمي رحمه الله تعالى: يقول: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون) يريد هنا الذين قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله، هؤلاء هم المقصودون بكلمة (وقالوا) بالواو، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم، وقولهم: إن لله ولداً، فقال سبحانه وتعالى: (سبحانه) أي: تقدس وتنزه عما زعموا تنزهاً بليغاً.
(بل له ما في السماوات والأرض) (بل) هنا كلمة يراد بها الإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات، أي: ليس الأمر كما زعموا، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة، فالله سبحانه وتعالى خالق هذه الموجودات بمن فيها هؤلاء الذين زعموا أنهم أولاد الله أو بنات الله، فهو خالقهم وهو مالكهم، وهو ربهم سبحانه وتعالى.
وقوله: (كل له قانتون)، التنوين في كلمة (كل) عوض عن الاسم الذي يكون مضافاً إليه، كما تقول مثلاً: كل رجل قائم، فبدل أن تكرر كلمة رجل تضع تنويناً في (كل) فينوب عن كلمة رجل، فتقول: كلٌ قائم، فالتنوين الذي يلحق كلمة كل هو تنوين التعويض عن المضاف إليه، فكذلك هنا (كل له قانتون) أي: كل ما فيهما.(9/12)
حجج نفي الولد عن الله تعالى
كل ما في السماوات والأرض كائن ما كان من أولي العلم وغيرهم (له قانتون) أي منقادون لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء، لماذا؟ لأن من حق الولد أن يكون من جنس الوالد؛ فهؤلاء الذين تعبدونهم أو الذين تزعمون أنهم أولاد الله كالمسيح وعزير والملائكة؛ كلهم قانتون لله سبحانه وتعالى منقادون له، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، فبالتالي لا يتصور أنهم يجانسون الله سبحانه وتعالى؛ لأن من حق الولد أن يكون من جنس الوالد.
قال الراغب في تفسيره: نبه على أقوى حجة على نفي ذلك، أي: أن هذه الآية فيها أقوى حجة على نفي الولد لله سبحانه وتعالى، يقول: وبيانها هو أن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله.
كل مخلوق في هذا العالم سواء كان مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً، مصنوعاً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، أي: بصفة عارضة، فمثلاً: صنعت السيارة للركوب وتوصيل الناس إلى الأماكن التي يحتاجونها، لكن هل السيارة مثلاً تتخذ غرفة لاستقبال الضيوف؟ يمكن أن يحصل للإنسان أن يستقبل ضيوفه مثلاً بصفة عارضة ويجلسهم في غير مكان الجلوس المعتاد، لكن هل هذا الغرض الأساسي لها؟ فهذا مثال في المعمولات المصنوعة، أما المخلوقات الطبيعية فأيضاً كل كائن خلق لهدف أساسي له غرض وكمال أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره عرضاً، فاليد مثلاً خلقت للبطش والتناول والأخذ والعطاء، فهذه وظيفة اليد، والرجل خلقت للمشي، وإن كان الإنسان قد يمشي على يديه، ويمكن أن يتناول الأشياء بقدمه، لكن هل هذا هو الغرض الأسمى المقصود منه؟ لا، كذلك السكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر.
يقول: إن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال والرجل للتناول، لكن ليس على التمام، والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه لما لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه؛ فجعل له بذراً لحفظ نوعه.
كل إنسان لابد أن يموت، له فترة حياة معينة ثم يموت بعدها، فمن أجل ذلك جعل الله سبحانه وتعالى الحكمة تعمير هذه الأرض وبقاء النوع الإنساني فجعل البذر -وهو ما يخرج من صلب الرجال- بذوراً وحرثاً كي يتوالى ويخلف بعضهم بعضاً، أجيالاً تخلف أجيالاً ولا تخرب الأرض، بل يبقى النوع الإنساني من خلال هذا التوالد ومن خلال هذا التناسل، ويقوي ذلك: أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، فهل الشمس أو القمر تفنى وتموت كما يموت النبات والحيوان؟ لا، ولذلك لم يجعل الله للشمس والقمر بذوراً حتى إذا ما فنيت أو ماتت يخلفها غيرها، فهذه المخلوقات لما لم يجعل الله لها سبحانه وتعالى الفناء الذي هو فناء النبات والحيوان لم يجعل لها بذراً.
يقول: ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم بلا ابتداء ولا انتهاء سبحانه وتعالى، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171] أي: هو منزه عن السبب المقتضي للولد، يعني: الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكون له ولد؛ لأن الله هو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وكل شيء هالك إلا وجهه، قال الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فالشاهد من هذا: أن الغرض من اتخاذ الولد؛ بقاء النوع الإنساني، فالله هو الباقي الذي لا يفنى ولا يزول ولا يبيد سبحانه وتعالى، فمن ثم لا حاجة لله سبحانه وتعالى الذي يتنزه عن الافتقار وعن الحاجة في الولد، فهو الغني وأنتم الفقراء إلى اتخاذ الولد، هذا هو المعنى الأول، ولذلك قال الله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً) انظر
الجواب
( سبحانه) تنزه، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] جاء
الجواب
{ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] تنزيهاً لك، هذا لا يليق بك، فكيف أقوله؟! كذلك هنا قال عز وجل: (سبحانه) هو منزه عن هذا؛ لأن هذا نقص، ولا يليق هذ النقص بالله سبحانه وتعالى.
يقول: ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما يعني: أن الإنسان يقتني الأولاد لفقره؛ يريد امتداد نسله، فهذا نوع من الفقر، ونوع من الاحتياج إلى امتداد النسل وبقاء النوع، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، أو الفقر إلى أن يعينه هذا الولد ويتحمل عنه مسئوليات الحياة، أو يعينه لشدة حاجته إليه.
قال: ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، وذلك لما تقدم أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه؛ لأن الإنسان غير كامل في نفسه، بين تعالى بقوله: (بل له ما في السماوات والأرض) أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره، فصار في قوله: (له ما في السماوات والأرض) دلالة ثانية، إذا كان الله سبحانه وتعالى غنياً حميداً له ما في السماوات والأرض فهل يحتاج ويفتقر إلى ولد؟ ثم زاد حجة بقوله: (كل له قانتون)، فإذا كان هو يملك هؤلاء جميعاً بما فيهم المسيح وعزير والملائكة، (بل له ما في السماوات والأرض) هؤلاء عبيده، وهو ربهم ومالكهم وخالقهم، فكيف يحتاج إليهم؟! ولما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72]، بين أن كل ما في السماوات والأرض مع كونه ملكاً له قانت له أيضاً: إما طائعاً وإما كارهاً وإما مسخراً، يعني كل من في السماوات والأرض قانتون بمعنى مطيعون منقادون، إما طواعية وإما رغم أنوفهم تجري عليهم أحكام الله، يمرضه إذا شاء أن يمرضه، ويميته إذا شاء أن يميته، ويبتليه إذا شاء أن يبتليه، ولا يملك دفعاً لأمره، هذا هو القنوت الاضطراري، وهو غير القنوت الاختياري الذي عليه أهل الطاعة والتوحيد، وهذا كقوله: {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، وهكذا أبلغ الحجة لمن هو على المحجة.(9/13)
الشبه التي جعلت اليهود والنصارى تنسب لله الولد
قال الراغب: إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؟ قيل: قد ذكر في الشرائع المتقدمة: أنهم كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك: أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب معبود الابن من وجه -يعني مخدومه؛ لأن الابن يخدم أباه- وكانوا يقولون للملائكة: آلهة، كما قالت العرب للشمس: إله، وكانوا يقصدون معنى صحيحاً، كما يقصد علماؤنا بقولهم: الله محب ومحبوب ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وكما يقال للسلطان: الملك، وقول الناس: رب الأرباب وإله الآلهة ومالك الملوك، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف، ويقوي ذلك: ما يروى أن يعقوب كان يقال له: بكر الله، وأن عيسى كان يقول: أنا ذاهب إلى أبي، ونحو ذلك من الألفاظ.
وهذه عبارات وجدت في الشرائع السابقة بهذه المعاني، وهي معاني صحيحة، لكنها ألفاظ متشابهة أدت إلى أن الجهلة فيما بعد طوروا لجهلهم هذه الألفاظ إلى معنى الولادة الطبيعية، فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا، فلا يصح في شرعنا أن نستعمل هذه العبارات تنزهاً عن هذا الاعتقاد، بل نهي عن ذلك في شرعنا واجتنب حتى صار إطلاقه -وإن قصد به ما قصده هؤلاء- قرين الكفر.
ثم قال عز وجل: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).
(بديع السماوات والأرض)، أي: مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق، وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت، ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة: مبتدع؛ لأنه أتى بما لم يسبق إليه السلف الصالح، ولأنه يأتي في دين الإسلام بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم بولادة عيسى بلا أب، وعلم عزير بلا تعلم، لأنهم قالوا: نحن نعبد عيسى لأن عيسى ليس له أب من البشر، فتشبثوا بهذا كحجة على عقيدتهم الباطلة بولادة عيسى بدون أب، وكذلك اليهود الذين عبدوا عزيراً تشبثوا بعلم عزير بلا تعلم، فقالوا: هو ابن الله، وتقرير الحجة من خلال هذه الآية وهي قوله: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) إن الله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها، فلا يبعد أن يوجد أحد بلا أب، أو يتعلم أحد بلا واسطة بشر.
يقول الراغب: ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة شرحها: إن الأب هو عنصر للابن منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد؛ لأن الأب عنصر الابن.
يعني الابن يتكون من أبيه، والله سبحانه وتعالى هو الذي أبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً.
(وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) أي: إذا أراد أمراً، والقضاء: هو إنفاذ المقدر، والمقدر: ما حد من مطلق معلوم.(9/14)
خلق الله المخلوقات بكلمة كن
هنا بحث مفصل جداً نختصره اختصاراً شديداً: بعض الناس أورد سؤالاً على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: إن كان هذا المخاطب (بكن) موجوداً فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ والجواب مفصل وطويل وممتع في نفس الوقت، لكن باختصار شديد جداً نقول: إن قوله تبارك وتعالى كما في هذه الآية: (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) هذا السؤال يكون صحيحاً إذا كان المخاطب معدوماً بالفعل، يقول تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] لكن هل ذلك الشيء معدوم؟ ليس بمعدوم في الحقيقة، بل هو معلوم، وسبق في علم الله سبحانه وتعالى بأنه يخلق، فذلك الشيء معلوم قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وبذلك كان مقدراً مقضياً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)، كما في صحيح مسلم، فهذا الشيء الذي يخاطب هو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، يعني: له وجود في علم الله، وكتب الله أنه يكون، فهو له وجود كتابي، وله وجود كلامي بقوله: (كن) أي: كن كما سبق في علم الله سبحانه وتعالى، وإن كانت حقيقته -التي هي الوجود العيني- ليست ثابتة في الخارج، لكنها ثابتة في علم الله، وفي كلام الله، وفي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ.
فإذاً الخطاب هو موجه إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخلق وكون، كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] فالذي يقال له: كن.
هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز علمي تقديري، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم.
ومعلوم أن جميع المخلوقات لا توجد عيناً في هذا الوجود إلا بعد وجودها في العلم والإرادة، أما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه الخطاب التكويني إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه، فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب حسب قدرته، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزاً لم يحصل، وقد يقول الإنسان: ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وقال القاسمي رحمه الله تعالى هنا: (وإذا قضى) أراد، (أمراً) إيجاد أمر، (فإنما يقول له كن فيكون) يعني فهو يكون.(9/15)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:118] من كفار مكة، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} [البقرة:118] هلا يكلمنا الله، يقترحون على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم الله خطاباً مباشراً، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118] يعني: مما اقترحناه على صدقك، ((كَذَلِكَ)) [البقرة:118]، كما قال هؤلاء {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة:118] من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم، فليست القضية قضية حجة، فإن الله سبحانه وتعالى لا يرسل نبياً إلا مؤيداً بالحجة والمعجزة والبراهين، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون جحوداً وعناداً، وإلا فجميع الأنبياء أتوا بحجج، فحتى لو استجاب الله سبحانه وتعالى لهم لما يطلبون لما ازدادوا إلا كفراً وعتواً، ولذلك أعرض الله سبحانه وتعالى عن إجابتهم.
{مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:118] من التعنت وطلب الآيات، {تشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] في الكفر والعناد.
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال في آية أخرى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] تشابه الكلام حتى كأن كل جيل كان يوصي الذي بعده: إذا أتاك النبي فقل له نفس هذا الكلام! كأنهم تواصوا به، وقيل: يوصي بعضهم بعضاً بها، فيكون ردهم بنفس الألفاظ والشبهات والشتائم والظلم، تشابهت قلوبهم في الكفر والعناد، وبالتالي تشابهت مواقفهم، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
{قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118] يعني: يعلمون أنها آيات فيؤمنون، فاقتراح آية معها تعنت، فهلا يوقنون بهذه الآيات التي جاءتهم، ولا يقترحون آيات جديدة؛ لأن هذا يكون تعنتاً.(9/16)
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)
قال عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة:119] يا محمد صلى الله عليه وسلم، {بِالْحَقِّ} [البقرة:119] أي: بالهدى، {بَشِيرًا} [البقرة:119] أي: تبشر من أجاب إليه بالجنة، {وَنَذِيرًا} [البقرة:119] أي: تنذر من لم يجب إليه بالنار، {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] وهي النار، وأصحاب الجحيم هم الكفار، أي: لا نسألك: ما لهم لم يؤمنوا؟ ولن نحاسبك على استجابتهم، لكن نحاسبك على البلاغ: هل بلغتهم أم لا؟ وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ، قال الله له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، وقوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فسؤال المرسلين: هل بلغتم البلاغ المبين أم لا؟ ولا يحاسب الأنبياء على كفر الكافر؛ لأن الهداية لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، فمعنى قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} يعني: لن نسألك ما لهم لم يؤمنوا، إنما عليك البلاغ، وعلى هذه القراءة تكون (لا) نافية، وفي قراءة بالجزم (ولا تَسألْ) بفتح التاء على الخطاب، على أنها ناهية، ينهاه عن أصحاب الجحيم فهم هالكون، فلا تسأل عنهم ولا تهتم لهم.(9/17)
تفسير قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى)
قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] أي: أن اليهود لن يرضوا عنك حتى تكون يهودياً، والنصارى لن يرضوا عنك حتى تكون نصرانياً، وهذا خبر الله سبحانه وتعالى، ومن أصدق من الله حديثاً؟ ومن أصدق من الله قيلاً؟ فنأخذ القضية على أنها يقينية مسلم بها، ولا نشك فيها لحظة، وأنهم بدون ذلك لن يرضوا، ومهما فعلتم لن يرضوا أبداً! ففي هذا مخرج من كثير من المضائق التي يعيشها المسلمون في هذا الزمان، يطبقون خداعهم ونفاقهم وكذبهم ودجلهم، لكن إذا استصحبنا هذه الآية، وأن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي يعلم دخائل نفوسهم، وما جبلوا عليه من الصفات الذميمة والغدر والخيانة والغش؛ لوجدنا المخرج، فالله يقول: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وما دمت لم تصل إلى هذه الغاية فلن يرضوا عنك أبداً مهما فعلت، وهذا مشاهد محسوس كما تعلمون.
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]، تنفي المستقبل، فهم لن يرضوا أبداً، ولهذا فإن مثل هذه المعاني جاءت في صيغة الاستمرار كثيراً، (ولا يزالون) استمرار، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] وغيرها من الآيات في نفس هذا المعنى تفيد ثبات هذا الموقف.
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120] أي: الإسلام (هو الهدى) وما عداه الضلال، ولا يمكن أبداً أن يوجد طريق آخر غير دين الإسلام يكون فيه هدى.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] (ولئن) هذه اللام لام القسم، أي: والله لئن اتبعت أهواءهم التي يدعونك إليها فرضاً، وإلا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم مما هو دون ذلك بكثير، فكيف بهذا الأمر الخطير، ولكن هذا نوع من الفرض لبيان هذه المعاني، كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].(9/18)
تفسير سورة البقرة [124 - 134](10/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
يقول السيوطي: (وإذ) واذكر إذ، (ابتلى) اختبر، (إبراهيم) إبراهيم مفعول به مقدم للاهتمام به، (ربه بكلمات) فالذي يبتلي هو الله سبحانه وتعالى، لكن قدم المفعول هنا للاهتمام؛ لأن المبتلى هو إبراهيم، وفي قراءة: (إبراهام)، وكلمة إبراهيم عليه السلام فيها ست لغات: إبراهيم وهي اللغة الفاشية المشتهرة، وإبراهُم، وإبراهَم، وإبراهِم، وإبراهام، وإبرهم كما قال عبد المطلب: عذت بما عاذ به إبرهم مستقبل القبلة وهو قائم وقال أيضاً: نحن آل الله في كعبته لم يزل ذاك على عهد إبرهم فاللغة الفاشية والمشهورة في ذلك هي إبراهيم، أما إبراهام فهي اللغة التي يتعامل بها أهل اللغات الأعجمية.
وإبراهيم باللغة السريانية يعني أب رحيم، وكثيراً ما يقع الاتفاق بين اللغة السريانية واللغة العربية، فإن كلمة إبراهيم تفسيرها: أب راحم لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل إبراهيم عليه السلام هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة، وقد دل على هذا ما خرجه البخاري في حديث الرؤيا الطويل عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في تلك الروضة العظيمة شيخاً كبيراً جالساً وحوله أطفال صغار كثيرون، فقال له الملكان: إن هذا إبراهيم عليه السلام، وحوله أولاد الناس الذين يموتون وهم صغار، فهو لرحمته بالأطفال كان كافلاً لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة.(10/2)
اجتماع الأمم على حب إبراهيم
قوله: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) يقول السيوطي: بأوامر ونواه كلفه الله سبحانه وتعالى بها، قيل: الكلمات هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وفرق شعر الرأس، وقلم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، كما جاء في بعض الأحاديث: (خمس في الرأس وخمس في الجسد)، ومنها كما ترون خصال الفطرة.
(فأتمهن) أي: أداهن تامات، (قال) الله تعالى له عليه السلام: (إني جاعلك للناس إماماً) أي قدوة في الدين.
وهذه من دقة السيوطي رحمه الله تعالى، إمام دين لا إمام دنيا كما سيأتي، وفعلاً هذا ما كان حيث جعله الله سبحانه وتعالى محل اجتماع الأمم كلها عليه، الأمم الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون كلهم مجتمعون على حب إبراهيم عليه السلام، واتخاذه إماماً وقدوة، والجميع يدعون أنه كان على دينهم، حتى اليهود يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يزعمون أنه كان نصرانياً، وبلا شك أن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن الخلاصة: أنه إمام وقدوة لجميع الأمم، فقد اجتمعت الأمم على محبته وإمامته، واعترف به كل أهل الأديان، سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو المسلمون، ونحن نعلم الأحداث الأخيرة التي وقعت في مسجد الخليل، والمجزرة التي حصلت للمسلمين وهم يصلون في رمضان ناشئة عن اليهود، الذين يعتبرون أن لهم حقاً في هذا المكان، حيث يزعمون أن فيه قبر الخليل عليه السلام وبعض آله، فالمسجد مبني أساساً وكان فيه المسلمون، والمسجد نفسه مقفل من الداخل، فقالوا: إبراهيم هذا أبونا، وأنتم -أيها المسلمون- تقولون هو أبوكم أنتم، فلابد لنا من نصيب في المسجد، ثم قسموا المسجد من الداخل بحبل، جزء صغير لليهود يصلون فيه، وكانوا يصلون أحياناً مع المسلمين في نفس الوقت داخل المسجد، وإذا بالحبل يتسع في نصيب اليهود، وينحاز على نصيب المسلمين إلى أن بلغ تقريباً الشطر أو أكثر من ذلك، ولما وقعت هذه الحادثة كنا نقول: كيف تمكنوا وبهذه السهولة أن يدخلوا المسجد ويقتلوا هذا العدد من المسلمين وبهذه البساطة؟! ثم بعد ذلك عرف أن هذا هو الوضع، وأن المسجد مقسم بحبل من الداخل بين اليهود وبين المسلمين، وأن اليهود يدخلون في نفس الوقت يصلون مع المسلمين اعتداداً بأبيهم إبراهيم عليه السلام.
(قال ومن ذريتي) يعني واجعل من أولادي أئمة، وبعض العلماء قالوا: هي على الاستفهام، يعني: ومن ذريتي ماذا يكون؟ كأن إبراهيم يسأل، وهذا تفسير آخر، (قال لا ينال عهدي الظالمين) أي: لا ينال عهدي بالإمامة الكافرين منهم، فدل على أن الإمامة تنال غير الظالم.
نعود لبعض التفصيل في تفسير هذه الفقرة من الآيات، يقول تبارك وتعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم، ذكر الجميع -سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو مشركي العرب- ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام، تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالف عالماً قط على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هنالك مصلى تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حث على الاقتداء به في توحيده وحنيفيته، كذا في ذكر الإسلام والتوحيد.
وهذا الربع من هذا الجزء يشتمل على معان عظيمة جداً في قضية الإسلام والتوحيد، وفي ذكر الإسلام والتوحيد.
(وإذ ابتلى) إذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التنويه، أي: واذكر لهؤلاء جميعاً من العرب واليهود والنصارى الذين يفتخرون بإبراهيم ويعتدون به عليه السلام، اذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ليتذكروا؛ لما فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم عليه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا في الآية التي قبلها مباشرة: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] أي: واذكروا -يا بني إسرائيل- إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتهون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرهم، أي: واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به، فوفوا وتمسكوا بالإسلام فكونوا مثله، فما لكم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد، والثبات على الوعد؛ ليجازيكم الله على ذلك جزاء المحسنين؟(10/3)
ابتلاء الله لإبراهيم وتوفيته بما ابتلي به
الابتلاء في الأصل الاختبار، (وإذ ابتلى) يعني اختبر، أي: تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، هذا هو تعريف كلمة الابتلاء أو الاختبار.
والاختبار تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، والاختبار إذا وقع من مخلوق في حق مخلوق فإنما يختبره ليظهر له ما لا يعلمه من حاله، وهو من الله لإظهار ما قد علم، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] (لنبلوكم) أو (ليبلوكم) أو ما شابه ذلك من الكلمات فإنما المقصود من هذا الابتلاء، مثل قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] حتى نعلم علم شهادة وإظهار بعدما علمناه علم غيب، فإنه بلا شك وقطعاً أن الله سبحانه وتعالى يعلم هذه الأشياء قبل وقوعها، وإنما يبتلي العباد ليعلم علم شهادة بعد وقوعها في عالم الواقع، فالاختبار من الله لإظهار ما قد علم، وعاقبة الابتلاء: ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً، فلذا تجوز إضافة الابتلاء إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] يعني: بشرائع وأوامر ونواه، وقوله (كلمات) يرجع تحقيقها إلى كلام الباري تبارك وتعالى، يعني أن الكلمات هي كلمات الله، وكلام الله الذي تكلم الله سبحانه وتعالى به، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة؛ لأنه صدر عن كلمة (كن) فهذا من باب تسمية الشيء بمقدمته، يعني عيسى عليه السلام خلق بكلمة: (كن) فلما خلق بكلمة (كن) التي هي مقدمة خلقه سمي كلمة الله من باب تسمية الشيء بمقدمته، كما قال سبحانه: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] كذلك أيضاً هنا (بكلمات) أي: كلام الله؛ لأن تكليف إبراهيم عليه السلام إنما تم بكلام الله، فتكلم الله مكلفاً جبريل أن يبلغ إبراهيم عليه السلام أحكاماً معينة: أوامر ونواهي، وشرائع، فتكلم الله بها فأوحاها جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فلذلك سماها كلمات، وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها.
قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا لحديث أو إجماع، ويرجح الفاطمي فيقول: وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام؛ فأسلم لرب العالمين، وابتلاؤه بالهجرة؛ فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، وابتلاؤه بالنار؛ فصبر عليها، ثم ابتلاؤه بالختان، فصبر عليه، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة، ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام من قيامه بتلك الكلمات حق القيام، وتوفيتهن أحسن الوفاء، وهذا معنى قوله تعالى: (فأتمهن) وهذا كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] أي: بالإسلام، أسلم ووفى؛ لأن الإسلام هو التوفية، فهنا عبر بقوله: (فأتمهن)، وفي الآية الأخرى قال: (وإبراهيم الذي وفى)، ووفى تساوي تمام الكلمة (فأتمهن) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(10/4)
عهد الله بالإمامة لإبراهيم ولذريته
قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124].
(قال) هذه جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال مقدر بعد الكلام، يعني: إذا كان إبراهيم عليه السلام أتم هذه الكلمات وامتثل هذه الشرائع التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، (فأتمهن) كأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ ما جوزي على هذه التوفية؟ قيل: قال له ربه: (إني جاعلك للناس إماماً)؛ فشكر الله بذلك صنيعه بإتمام هؤلاء الكلمات، ومعنى (إماماً) أي: قدوة لمن بعدك، والإمام اسم لمن يؤتم به، ولم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا كان مأموراً باتباع ملته، فهو أبو الأنبياء جميعاً، وكان هؤلاء الأنبياء جميعاً من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27].
(قال ومن ذريتي) إما أن يكون المراد: أن إبراهيم عليه السلام قال: (ومن ذريتي) يعني واجعل من ذريتي أئمة، وهذا حب الإمامة، وهناك فرق بينه وبين حب الرئاسة في الدين، والزعامة والظهور، فإن حب الإمامة إنما هو لخدمة الدين وللبذل في سبيله، والتمكن من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما التنازل عن الرياسة طلباً للظهور في الدنيا فهذا من الدنيا وليس من الدين، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في دعاء عباد الرحمن: أنهم يدعون الله تبارك وتعالى بسؤال وطلب الإمامة أيضاً، قال سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] يعني: اجعلنا نأتم بمن قبلنا، فنصلح لأن يأتم بنا من بعدنا.
{قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة كما جعلتني إماماً، قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] قال: قد أجبتك وعاهدتك أن أحسن إلى ذريتك، ولكن لا ينال عهدي الذي عهدته إليك بالإمامة الظالمين من هذه الذرية، وهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى علم أن من ذرية إبراهيم عليه السلام ظالمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في مواضع أخر أن منهم ظالماً وغير ظالم، وذلك في قوله عز وجل: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، وقال أيضاً: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
وعلى التفسير الآخر قوله: (ومن ذريتي) كأنها على الاستفاهم، يعني وذريتي كيف يكون الحال منهم؟ فأتى الجواب (لا ينال عهدي الظالمين) ولا تعارض، فقوله: (لا ينال عهدي) أي: بالإمامة الظالمين.
وقد اختلف العلماء في المراد بالعهد هنا، فأصح الأقوال: أن العهد هنا هو الإمامة، وقيل: الرحمة، والدين، والنبوة، والأمان، والميثاق، وأصحها: الإمامة في الدين؛ لإن هؤلاء الظالمين هم من ذريتك، وهم أبناء صلبك، ومن ذريتك من ناحية النسل، أما من ناحية الدين فإنهم بظلمهم وكفرهم وانحرافهم قد انتفت عنهم أبوتك إياهم، فليسوا أبناءك في الدين، وإن كانوا أبناءك من ذريتك، تماماً كما قال الله عز وجل في حق نوح عليه السلام: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46] وفي قراءة: (إنه ليس من أهلك إنه عَمِلَ غير صالح)، وهو قطعاً من صلبه، ولكن ليس على دينك، وليس من المؤمنين الذين وعدتك بإنجائهم، فهؤلاء -يا إبراهيم- ليسوا من أبنائك في الدين وإن كانوا من نسلك وذريتك.
وفي قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) إجابة خفية لدعوته عليه السلام، ووعد إجمالي منه تعالى بتشريك بعض ذريته بنيل عهد الإمامة، يفهم منها: أن من ذريته فعلاً من سينال الإمامة، أما الظالمون منهم الذين ليسوا أبناءه في الدين فلن ينالوا هذه الإمامة، كما قال تعالى: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)، وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، يعني: إن كنتم يا عرب أو يا يهود أو يا نصارى تزعمون أن أباكم إبراهيم عليه السلام، فإن كنتم من الظالمين الذين انحرفوا عن ملته فلن تكونوا أئمة في الدين، فتخلقوا بأخلاقه، ووفوا بالذي وفى به حتى تكونوا على طريقته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهذه إشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، لا يجزي أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون.(10/5)
المراد بالإمامة في قوله: (إني جاعلك للناس إماماً)
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة، والكشاف أوسع المقال في ذلك، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم بوجوب عصمة الأئمة ظاهراً وباطناً، يقول القاسمي: (إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ، إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك)، فالعهد هنا صحيح يراد به الإمامة، لكن ليس الإمامة التي هي السلطنة والملك والمنصب السياسي، لكنها إمامة الدين، فالمراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها.
قال: (وهل كانت إلا الإمامة في الدين، وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع)، لو كانت الآية بمعنى الإمامة التي هي السلطنة والملك والخلافة لا ينالها الظالم، لكان الواقع مخالفاً لذلك، لماذا؟ لأنه نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، وهذا لا يحتاج لشاهد، سواء في واقع التاريخ الماضي أو المعاصر، فقد وقعت الإمامة في أيدي الظالمين في فترات كثيرة في عهد الخلافة الأموية والعباسية وما بعدهما إلى يومنا هذا، فالواقع يشهد أن الإمامة التي لا ينالها الظالمون إنما هي إمامة الدين، مثل النبوة، أما الواقع فيشهد بأن السلطنة والخلافة والملك والحكم كثيراً ما تكون في أيدي الظالمين، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة، والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم، كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلاً.
وقضية الحاكم الجائر الظالم فيها تفصيل في كتب السياسة الشرعية ليس هذا أوانه وإن كنا قد فصلنا الكلام فيه في بحث: نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية.(10/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] (وإذ جعلنا البيت) يعني الكعبة.
(مثابة للناس) يقول السيوطي: مرجعاً يثوبون إليه من كل جانب، ومأمناً لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فلا يهيجه.
(واتخذوا من مقام إبراهيم) اتخذوا -أيها الناس- من مقام إبراهيم عليه السلام وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت (مصلى) أي: مكاناً تصلوا خلفه ركعتي الطواف، وفي قراءة: (واتَخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) على الخبر.
قوله تبارك وتعالى: (وإذ جعلنا) يعني: صيرنا، (البيت) يعني الذي بناه إبراهيم بأم القرى، وهو اسم للكعبة غالباً، كالنجم للثريا، والألف واللام تدخل للمعهود، والمخاطبون هنا في هذه الآية يعلمون أنه سبحانه وتعالى لم يرد هنا جنس البيت، وإنما يقصد بيتاً معهوداً في الأذهان، كما قال: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16]، مع أنه لم يصرح باسم الرسول، لكن أل هنا للعهد الذهني، والرسول هو موسى عليه السلام، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود.
(مثابة للناس) أي: مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ويحنون ويعودون ويئوبون إليه، و (مثابة) على وزن مفعلة من الثوَب، وهو الرجوع بالكلية، وليس مجرد رجوع فقط، إنما رجوع مع انجذاب القلب كما يجذب المغناطيس الحديد، فهكذا حال القلوب مع هذا البيت المشرف، وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له، لم يقل: وإذ جعلنا البيت مرجعاً للناس يرجعون إليه، لكن استعمل كلمة مثابة، لأنه رجوع مع انجذاب شديد، فالقلوب ترتمي وتنجذب إليه انجذاباً قوياً؛ فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل: محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال الهيولى بضم الياء مخففة أو مشددة، مادة الشيء التي يصنع منها، فهيولى الكرسي الخشب، أو هيولى المسمار الحديد، أو هيولى الملابس القطنية القطن، وهكذا.
والقائل هنا يمدح أحد المخلوقين ويذكر محاسنه، وبلا شك فإن الكعبة المشرفة أولى بهذا الثناء وهذا المديح؛ فهم يثوبون إلى البيت على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً، وكلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقاً، بل بالعكس تجد الذي يزور البيت الحرام ويشرفه الله سبحانه وتعالى بذلك لا يكون كمن لم يزره في شدة الشوق إليه، فإن من ذاق وعرف ليس كمن لم يذق ولم يعرف، فتجد من زاره لا يقضي منه وطراً، ولا يشبع أبداً من مجاورة هذا البيت والحج إليه، يقول: فكلما ازدادوا له زيارة ازدادت قلوبهم به تعلقاً، وازدادوا له تعطشاً واشتياقاً.
جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر ويقول آخر واصفاً الكعبة المشرفة: لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً فالإنسان إذا نظر من بعيد عنها ينجذب من جديد إلى النظر إليها كي يملأ عينه منها، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.
ويقول آخر: سل الله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يبذل الآلاف؟ تجد شركات الطيران والسفارات يصعبون على الناس الحصول على تأشيرات الحج والعمرة، ومع ذلك هل يتوقف الناس؟! لا، بل يثوبون إلى البيت، ويضحي المسلم بكل شيء، بالمال الذي يدخره، وبفراق أهله وأولاده، بترك عمله، بمفارقة وطنه، بكل هذه التضحيات! هل سيجد هناك منصباً دنيوياً فيعطيه أحد مالاً؟ هل سيجد جنات وبساتين ومناظر جميلة وجبال تكسوها الثلوج كما يجد الذين يحجون إلى سويسرا وأوروبا؟! لا يجد إلا الحر الشديد، وقد يجد المعاملة الغليظة من بعض أهل تلك البلاد، فلا شيء من أمور الدنيا يجذبه، وليس إلا هذا المغناطيس الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في هذا البيت المشرف، زاده الله تشريفاً وتكريماً.
فقد رضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمصاعب والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه.
فهذا معنى مثابة للناس، يثوبون إليه لايشبعون منه، إذا ذهبوا إليه يعودون منه من كل حدب وصوب، ومن كل جهة منجذبين إليه، هذا معنى قوله: (مثابة للناس).(10/7)
معنى وصف البيت بالأمن
قوله تعالى: (وأمناً) أي: موضع أمن، وهنا أطلق اللفظ لكن المقصود به الموضع، كقوله تعالى: {حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، وكقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وأمناً) يريد أمن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة ألا يبايعوه ولا يطعموه ولا يسقوه ولا يئووه، ولا يكلم حتى يخرج، فإن خرج أقيم عليه الحد.
يعني من أحدث حدثاً خارج الحرم ثم أوى إلى الحرم؛ يترك ولا يقرب منه أحد، حتى في الجاهلية كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم -مع أنهم كانوا مشركين- فيتورع عن أن يناله بسوء إلى أن يخرج من الحرم فيقتله، لكن ما دام أنه داخل الحرم فهو آمن.
قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم، (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً)، فالبيت المقصود به الكعبة المشرفة، لكن المراد من قوله: (وأمناً) كل الحرم، كما قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فهنا صرح بالكعبة، لكن هل المقصود الكعبة ذاتها؟ لا، لماذا؟ لأنه لا يذبح أحد الهدي داخل الكعبة؛ فالمراد: هدياً بالغ الحرم؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط.
فقوله: (مثابة للناس وأمناً) ليس فقط خبراً أنه آمن، لكنه فيه تكليف، بمعنى: أمِّنوا من يدخله، ولا تروعوا من يدخله، فهو خبر ومقصود منه أيضاً الأمر والإنشاء والتسلية، وهذا ظاهره خبر، والمراد منه الإنشاء وإصدار الحكم الشرعي لتأمين من يدخل البيت الحرام، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون، أهل مكة بالذات لا يقترب أحد منهم، ولا يؤذيهم ولا يروعهم أحد، اعتداداً بحرمة البيت، وهذا الأمان الذي شرعه الله لهم، وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.(10/8)
البيت الحرام مهوى أفئدة الناس
البيت الحرام تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] وهذه آية من آيات الله سبحانه تعالى، إذ تجد القلوب تنجذب إليه مهما كانت التضحية، ومهما كانت الأموال، ومهما كانت المشقة، ومع ذلك فألذ شيء عنده أن يرحل، خصوصاً الذين يأتون من الباكستان والهند، تجد علامات الفقر الشديد بادية ظاهرة عليه، وتجد الرجل قد أتى بزوجته، وربما بأبيه وجده ونسائه وأولاده، تمشي قافلة أسرة واحدة في حالة من الفقر البادي والظاهر عليهم، ومع ذلك يأتون وهم أشد الناس فرحاً بوصولهم إلى هذا البيت الحرام، فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي ظهور أثر استجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام.
جماعة من المنصرين في أندونيسيا ظنوا أنهم أفلحوا في استعباد واستغلال الفقر والجهل والمرض عند المسلمين هناك، فأقنعوهم في الظاهر، وانقاد لهم العشرات مقابل الأدوية والأموال والملابس والإعانة؛ لأنهم في حالة فقر شديد، فاستطاعوا أن يغرروا ببعض المسلمين الجهلة، واستجابوا في الظاهر لهؤلاء المنصرين المكفرين المبشرين بالنار، حتى أفلحوا وأخذوهم إلى الكنيسة وعمدوهم في الكنيسة، فقال لهم القسيس بعدما فرغ من تعميدهم: الآن نريد أن نكافئكم على دخولكم في النصرانية، كل واحد يطلب الأمنية التي يحبها، ونحن ننفذها له مهما كانت، فبصوت واحد أجابوا جميعاً وقالوا: الحج إلى مكة! ونسوا كل شيء، لماذا؟ لأن القلوب تهوي إلى هذا البيت الحرام، وكل مؤمن في قلبه إيمان وحب لله ورسوله عليه الصلاة والسلام يجد هذا الانجذاب، وهذا أثر إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: (إن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار)، والحرم المكي حرمه إبراهيم عليه السلام، والمدينة جعلها حرماً النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشرعه وشريعته، وما عدا ذلك فكل الأرض حلال، فليس في الأرض حرم إلا مكة والمدينة، وهناك خلاف في واد في الطائف، لكن الظاهر والمشهور أن الحرم حرمان: الحرم المكي والحرم المدني، والمسجد الأقصى لا دليل على أنه حرم، وكذا الحرم الخليلي، فليسا بحرم، ولا تنطبق عليهما أحكام الحرم، صحيح أن المسجد الأقصى من المواضع الشريفة، لكنه ليس حرماً؛ لأن كلمة حرم كلمة لها حدود وأحكام تخالف بها سائر أرجاء الأرض، فمثلاً: لا يدخلها الكافر، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، وغير ذلك من الأحكام، فلا يوجد حرم خليلي أو حرم إبراهيمي، فضلاً عن حرم الجامعة وحرم كذا وكذا، فكل هذا الكلام لا يجوز، فلا يطلق على هذه المواضع هذا اللفظ الشريف؛ لأن فيه تسوية لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى في غير هذين البلدين.(10/9)
الصلاة في المقام الإبراهيمي
قوله تبارك وتعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قرئ بكسر الخاء وقرئ بفتحها، إما أنه أمر معترض بين الجملتين الخبريتين أو بتقدير (واتخذوا)، أي: وقلنا اتخذوا، وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا، فتكون (واتخذوا) معطوفاً على جعلنا، أي: اتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله كما ورد عن مجاهد، وعنه قال: جمع (مزدلفة) ومنى ومكة، ويقال: مقامه الذي هو في المسجد الحرام، فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمة شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها، قال الراغب الأصفهاني: والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أو مدعى أو موضع صلاة، يقول القاسمي: أقول كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، ذكرنا من قبل أن البيت المقصود به الكعبة، وهو يطلق على الكعبة، لكن المقصود الأمن داخل الحرم كله، فالمصلي في الحرم كله آمن، إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، فلم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، مع أن هذا هو المعنى، لكنه عدل عن ذلك إلى هذا الأسلوب الحكيم في قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ولم يقل: واتخذوا منه مصلى، لوجوه: أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها، حيث أفرده للعناية بها جملة على حدة.
ثانيها: التذكير؛ لأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير بأن يحترم ويعظم.
ثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، ولم يقل: ومصلى، وإنما قال: (واتخذوا)، فعدل عن الخبر إلى الأمر، إظهاراً أن هذا تشريع من الله سبحانه وتعالى، فالتنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر تمهيداً للأمر باستقباله، لأن هذه الأجزاء في الآيات كلها فيها إرهاصات بين يدي أمر خطير سيحصل قريباً، وهو تحويل القبلة، فالتنويه بقصة بناء البيت وتشريفه وجعله مثابة للناس وأمناً، ثم الأمر باتخاذه مصلى، إرهاص وتقديم وتوطئة وتمهيد بين يدي الأمر الذي سيأتي قريباً بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فهذا تمهيد للأمر باستقباله، وإلزام لمن جادل فيه وهم اليهود، فإن اليهود جادلوا في تحويل القبلة، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم شرف هذه القبلة الجديدة، وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)) والحديث نصه في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية).
قال ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت.
ومن ذهب إلى هناك تمكن من أن يراه، وهم يضعونه داخل تلك القبة النحاسية، ويضعون عليه حراسة، لأن كثيراً من الجهلة يعمدون إليه ويتمسحون به، وهذا من البدع والضلال، ومن دقق النظر داخل هذه القبة الزجاجية رأى الحجر بالفعل، وعليه موضع قدمي إبراهيم عليه السلام كالحفر، وموضع القدمين واضح جداً في الحجر نفسه.(10/10)
تاريخ مقام إبراهيم
يقول ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، فلما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار، وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليه، وهكذا حتى أتم بناء جدران الكعبة، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري.
قال ابن كثير: وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً.
ومن تأمل في الجهة الشرقية من الكعبة يجد مكان المقام ما زال واضحاً، يقول ابن كثير: ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، يمين الداخل من الباب.
والحرم كان ضيقاً جداً من قبل، وكأن الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا -والله أعلم- أمر عند الفراغ من الطواف بصلاة سنة الطواف هناك، وناسب أن تكون الصلاة عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.
قال ابن كثير: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه، فالذي حوله من المكان اللصيق بالكعبة إلى المكان الموجود الآن هو عمر رضي الله تعالى، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
قيل: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه.(10/11)
تفسير قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل)
قال تبارك وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].
(عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي: أمرناهما (أن) بأن (طهرا بيتي) من الأوثان (للطائفين والعاكفين) المقيمين فيه، (والركع السجود) جمع راكع وجمع ساجد، والمقصود بهم المصلون.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي: أمرناهما ووصيناهما، (أن طهرا بيتي) عن كل رجس حسي ومعنوي، فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع، أو (طهرا بيتي) ابنياه على الطهر من الشرك به، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] الطائفين حوله، وعن سعيد بن جبير: هم الذين يأتون من الغربة، يعني الآفاقيين، يأتون فيطوفون حوله، (والعاكفين) المقصود بهم أهله المقيمون به أو المعتكفون فيه.
روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: قلت لـ عبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلماً أمير المؤمنين أن يمنع الناس الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون، لأن العين وكاء السه؟ قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون.
وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب.
قال في الكشاف: يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين، يعني: القائمين في الصلاة، كما قال: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، جمع راكع وساجد، والمعنى للطائفين والمصلين؛ لأن القيام والركوع والسجود هيئات المصلي.(10/12)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126].
يقول تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا) يعني: اجعل هذا المكان ذا أمن، وقد أجاب دعاءه، فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يقطع حشيشه، ولا يعضد شجره.(10/13)
رزق الله المجبى من كل مكان إلى مكة
قوله تعالى: (وارزق أهله من الثمرات) هنا يذكر السيوطي كلاماً يحتاج إلى دليل، يقول: وقد فعل بنقل الطائف من الشام إليه كما قيل، وكان أقفر لا زرع فيه ولا ماء، والطائف بلد قريب من الحرم كان أقفر لا ماء فيه ولا زرع، كان منطقة بلقعاً، فنقلت الطائف من الشام إلى هذا المكان، وهذا يحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم.
ولكن هل نحن نحتاج إلى بينة في تفسير هذه الآية؟! والله إنها لمن أعلام النبوة! وقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولا يكاد ينكرها أحد أبداً، اذهب إلى مكة تجد كل أسواق العالم موجودة هناك، كل الثمرات، كل الفواكه، ما شيء من الثمرات والأرزاق إلا ويجبى إلى هذ البلد مع أنه واد لا زرع فيه، حتى الزرع الذي يفتعلونه الآن ويصطنعونه تشعر أن الأرض تقول: هذا ليس لي، وما أطيق هذا، فالأرض تلك ليس من طبيعتها أن تقبل الزراعة، ولذلك فإنهم يتكلفون أموالاً طائلة في إرغام الزرع على أن يتواجد في تلك التربة عندهم، ومع ذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء، ولا يعلم مكان فيه من الخيرات والبركات وسعة الرزق ما يوجد في بلد الله الحرام، وهذا أيضاً أثر إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام، فإن الله بالفعل رزق أهله من كل الثمرات، {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57].
(وارزق أهله من الثمرات) هل كل أهله؟ لا، يقول تعالى: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) فهذا بدل من (أهلها)، وخصهم بالدعاء لهم موافقة لقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) فإبراهيم عليه السلام كما قال الله سبحانه وتعالى من قبل، لما قال له: (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) يعني: الظالمون من ذريتك لن يكونوا أئمة في الدين، والمحسنون منهم سيكونون أئمة في الدين، فالمحسنون هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولذلك إبراهيم عليه السلام أبدل من قوله: (وارزق أهله من الثمرات) قال: ليسوا كل أهله، لكن أدخل في دعائه (من آمن منهم بالله واليوم والآخر) فخصهم بالدعاء كي يوافق قوله تعالى من قبل: (لا ينال عهدي الظالمين).
قال تعالى: (ومن كفر) يعني: أرزق هؤلاء الصالحين المحسنين من آمن بالله واليوم الآخر وسأرزق أيضاً من كفر، ماذا أفعل معه؟ (فأمتعه) إما بالتشديد أو بالتخفيف، يعني: فأمتعه في الدنيا فقط، (قليلاً) مدة حياته القليلة، (ثم أضطره إلى عذاب النار) يعني: ألجئه إلى عذاب النار، فلا يجد عنها محيصاً، (وبئس المصير) أي: بئس المرجع فيها.(10/14)
أمان البيت الحرام
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنه من ذريتي، وهو مكة، (بلداً) كلمة البلد معناها المكان الذي يأنس الذي يحل به، (بلداً آمناً) أي: ذا أمن، لا يرعب أهله، وقد أجاب الله دعاءه، كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] والمقصود أمنوه، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، إلى غير ذلك من الآيات.
صحت أحاديث متعددة بتحريم القتال في مكة، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح)، فهو آمن من الآفات، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله، كما فعل بأصحاب الفيل.
وقوله تعالى في سورة إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم:35] بالتعريف، والكلام في هذا كثير ولن نفصل فيه الآن، لكن باختصار شديد: هنا قال: (اجعل هذا بلداً آمناً) بالتنكير باعتبار أنه لم يكن بنى البيت، وكان لا يزال في بداية بنائه، فلم يعمر بالحجاج والطائفين والمعتكفين وغير ذلك، وفي سورة إبراهيم قال: (رب اجعل هذا البلد)؛ لأن الكعبة كانت قد بنيت بالفعل، فقال: (هذ البلد آمناً).
(وارزق أهله من الثمرات) سأل إبراهيم ذلك؛ لأن مكة لم يكن فيها زرع ولا ثمر، فاستجاب الله تعالى له فصارت يجبى إليها ثمرات كل شيء، (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) هذه بدل من أهله، وهو بدل بعض، (وارزق أهله من الثمرات) بدل بعض من كل، (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) يعني: ارزق المؤمنين من أهله خاصة، وإنما خصهم بالدعاء إظهاراً لشرف الإيمان، واهتماماً بشأن أهله، فالذي يهمه هم أهل الإيمان، وهذا من مراعاة حسن الأدب في المسألة، حيث ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، في قوله: (لا ينال عهدي الظالمين)؛ فتأدب إبراهيم عليه السلام في الدعاء فلم يدخل الظالمين في دعوته، وإنما قال: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر)، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر، فقال الله تعالى معلماً أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض: (قال ومن كفر) يعني: رزقي في الدنيا أثر من آثار اسمي الرحمن، الذي هو رحمان الدنيا الذي تعم رحمته الكافرين والمؤمنين، ويرزق الجميع، ويعطي الجميع الصحة وأعراض الدنيا والأرزاق وغير ذلك مما هو مشاهد محسوس، فهذه الرحمة العامة تكون ابتلاء وفتنة للكافرين، ونعمة للمؤمنين، (قال ومن كفر) يعني: أنيله أيضاً ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق، فهو عطف على فعل محذوف دل الكلام عليه.
(فأمتعه) والمقصود بالمتاع الرزق عبر عنه بكلمة المتعة وما معنى المتعة؟ المتعة هي زاد قليل وبلغة، تخسيساً لحظهم من الرزق كما قال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران:196 - 197]، وكذلك قال هنا: (ومن كفر) يعني: أرزقه وأمتعه قليلاً، فهذا تخسيس لهذا المتاع الذي ينالونه وتحقير له، وأكد ذلك بقوله: (فأمتعه قليلاً) يعني: تمتيعاً قليلاً، سواء بنعمة الأمن أو بنعمة الرزق.
و (قليلاً) إما أن المعنى أن كمية المتاع تكون قليلاً أو أن زمان المتعة قليل إلى أن تنقضي آجالهم فيفضون إلى ربهم.
(ثم أضطره إلى عذاب النار) يعني: ألجئه إلى عذاب النار، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، وقال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] وقرئ (فأمتعه قليلاً ثم أضطره) بلفظ الأمر فيهما على أنهما دعاء من إبراهيم عليه السلام.
(وبئس المصير) يعني: عذاب النار، والمصير في اللغة هو ما ينتهي إليه الأمر.(10/15)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] يقول عز وجل: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد) (وإذ) أي: واذكر إذ يرفع إبراهيم القواعد والأسس، أو الجدر، (من البيت) يبنيه، متعلق بيرفع، (وإسماعيل) عطف على إبراهيم عليه السلام، وهنا يتقدر فعل: يقولان، أي: وهما يبنيان البيت يقولان: (ربنا تقبل منا) بناءنا هذا البيت الحرام، (إنك أنت السميع) للقول، (العليم) أي: بالفعل.
(ربنا واجعلنا مسلمين) أي منقادين لك (ومن ذريتنا) واجعل من أولادنا (أمة) جماعة (مسلمة لك) (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) من هنا للتبعيض؛ لأنه تقدم قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) وهو نفس المعنى الذي ذكرناه في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) كذلك ذكر هنا مراعاة لنفس هذا الأدب قالا عليهما السلام: (ومن ذريتنا)، يقصدا بذلك المحسنين من الذرية، كما في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]؛ فهي للتبعيض.
(وأرنا) علمنا، (مناسكنا) شرائع عبادتنا أو حجنا، (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)، سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعاً وتعليماً لذريتهما، وإشارة إلى أن هذا البيت هو موضع غسل الذنوب، فمن أراد أن يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه فليأت هذا البيت، وليدع الله سبحانه وتعالى فيه، فإنه مقام ومحل وموضع إجابة مثل هذا الدعاء.
(ربنا وابعث فيهم) أي: في أهل البيت الحرام، (رسولاً منهم) أي: من أنفسهم، وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكل نبي كان يدعو لنفسه ولقومه، أما إبراهيم عليه السلام فقد دعا لنفسه ولقومه ولهذه الأمة المرحومة؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، (يتلو عليهم آياتك) القرآن (ويعلمهم الكتاب) القرآن (والحكمة) ما فيه من الأحكام، (ويزكيهم) يطهرهم من الشرك، (إنك أنت العزيز) الغالب (الحكيم) في صنعه.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى هنا: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) أي: اذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية، ولم يقل: وقد رفع إبراهيم البيت وإسماعيل ودعوا بكذا وكذا، مع أن الكلام عن الماضي، لكنه عبر بصيغة المضارع الذي يفيد الاستقبال، لماذا؟ كي يستحضر الإنسان صورتها العجيبة، والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده.
وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة الحج أنه أراه موضع البيت، ولم يكن الأمر إلا تكليفاً من الله سبحانه وتعالى، حيث يقول عز وجل: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) يعني: عينا له محله وعرفنا إبراهيم به، وقد اختلف العلماء في تفصيل ذلك، قال بعضهم: الله سبحانه وتعالى دله على مكان البيت بسحابة، وكان ظلها على قدر مساحته، أي: جاءت سحابة مستطيلة فوقفت بحذاء البيت في السماء، وكان الظل موازياً لحدود الكعبة المشرفة، وقيل: دله عليه بريح تسمى الخدوج، كشفت عنه حتى ظهر أسه القديم، فبنى عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإبراهيم ليس هو الذي أسس البيت ابتداءً، لكن القواعد كانت موجودة، والذي فعله رفع البناء على الأسس التي كانت موجودة أصلاً، ولذلك قال تعالى في سورة الحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: دللناه عليه وعرفناه به، وفي هذه الآية قال: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) ولابد أن نقدر هنا: يقولان، مثل قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] تقدر هنا: يقولون.
وهنا ترك مفعول: تقبل، ولم ينص عليه، وما هو الذي يتقبل؟ ترك هكذا ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات، والتي من جملتها ما هما بصدده من البناء.
(إنك أنت السميع) لدعائنا، والسميع أبلغ من السامع؛ لأنها صيغة مبالغة، والاستماع يكون بمعنى القبول والإجابة، كقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الطويل الذي رواه مسلم: (أعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي: لا يستجاب، ومنه قول المصلي: سمع الله لمن حمده، يعني: استجاب الله لمن حمده، أو قبل الله حمد من حمده، وأنشدوا: دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول أي: يستجيب، وإلا فالله عالم بضمائرنا ونياتنا.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث مجيء إبراهيم عليه السلام لتفقد إسماعيل عليهما السلام، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله قد أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان أثناء عملية البناء: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).(10/16)
تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)
قال تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128].
(ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي: مخلصين لك وجوهنا، من قوله: أسلم وجهه لله، أو مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم واستسلم، إذا خضع وأذعن، والمعنى: أي زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك، (ومن ذريتنا) يعني واجعل من ذريتنا (أمة مسلمة لك).
ولم يبين هنا تبارك وتعالى من هي هذه الأمة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقولهما: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، لكن الله سبحانه وتعالى بين في سورة الجمعة أن تلك الأمة هي أمة العرب، وأن الرسول هو سيد الرسل عليه الصلاة والسلام، وذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:2 - 3]؛ لأن الأميين هم العرب بالإجماع، والرسول المذكور هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجماعاً، ولم يبعث رسول من ذرية إسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، فإن الدعاء هنا (ومن ذريتنا) من إسماعيل الذي هو ابن إبراهيم عليه السلام، وما خرج من ذرية إسماعيل إلا رسول واحد هو سيد المرسلين وأشرفهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيتحتم أن تكون الأمة هي أمة العرب، والرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث رسول من ذرية رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وثبت في الصحيح: أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم، ولا ينافي ذلك عموم رسالته إلى الأسود والأحمر؛ لأنه بعث لأمة العرب، ودعوته للعالمين كلهم في كل زمان ومكان.
و (من) في قوله: (ومن ذريتنا) للتبعيض أو للتبيين، كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55]، وإنما خص الذرية بالدعاء؛ لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.
(وأرنا مناسكنا) أي: عرفنا متعبداتنا، ومناسكنا جمع منسَك أو منسِك بفتح السين وكسرها، وهو المتعبد، وشرعة العبادة، يقع على المصدر والزمان والمكان، من النسك وهو العبادة والطاعة، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، فلذلك يقال في الذبيحة التي يتقرب الإنسان بها إلى الله: النسيكة، ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج، لشيوعها في أعماله ومواضعه، فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع، يعني عرفنا أعمال الحج والبقاع والأماكن التي نمارس فيها شعائر الحج، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وأن الشيطان تعرض له فرماه عليه السلام، قالوا: وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج، حيث كان متلقى عن الله بلا واسطة، لكونه علماً على آتي يوم الدين حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد، والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولاً من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة، وهي: العبادة والتقرب إلى الله تعالى واللزوم لما يرضيه، وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى: علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه.
(وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) هذا الدعاء للتفريط لأصحاب التقصير، فإن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السهو والنسيان، أو على سبيل ترك الأولى، فالدعاء منهما عليهما السلام لأجل ذلك.(10/17)
تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك)
قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]، وهذا إخبار عن تمام بقية دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام لأهل الحرم، أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، يعني من ذية إبراهيم عليه السلام، وهم العرب من ولد إسماعيل، وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته رسولاً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم، ومراده هذه الدعوة المذكورة في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)، فقد أخرج الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته) يعني: في علم الله كان هو خاتم النبيين، وآدم ينفخ فيه الروح، ثم قال: (وسأنبئكم بأول ذلك؛ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين)، وأخرج أيضاً نحوه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قلت: يا نبي الله! ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه يخرج منها نوراً أضاءت منها قصور الشام) وهذا الحديث صحيح.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أول أمري دعوة أبي إبراهيم) هي المذكورة هنا في هذه الآية {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، (وبشرى عيسى بي) وهي قول المسيح عليه السلام تصريحاً باسمه: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، بل إن البشارة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام من أجلِّ مقاصد رسالة عيسى، فكلمة الإنجيل معناها البشارة.(10/18)
تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم)
قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:130] يعني: لا يرغب عن ملة إبراهيم فيتركها {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] يعني: إلا من جهل جهلاً مركباً أنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى يجب عليها عبادة الله، أو استخف بها وامتهنها، {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة:130] أي: اخترناه، (في الدنيا) بالرسالة والخلة، فهو خليل الله تعالى، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130]، الذين لهم الدرجات العلى.
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة:131] يقدر قبل (إذ) واذكر (إذ قال له رب أسلم)، أي: انقد لله وأخلص له دينك، {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131].
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] (ووصى)، وفي قراءة أخرى (وأوصى بها) أي: بملة إبراهيم عليه السلام، (وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب)، ويمكن أن تكون كلمة (بها) تعود على الكلمة التي أشار إليها تعالى في سورة الزخرف: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] (إبراهيم بنيه ويعقوب) يعني: ويعقوب أيضاً أوصى بها بنيه، (يا بني) قال: يا بني (إن الله اصطفى لكم الدين) أي: دين الإسلام، (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، وهذا فيه نهي عن ترك الإسلام، وأمر بالثبات عليه إلى مصادفة الموت.
قوله تبارك وتعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) بين تبارك وتعالى ملة إبراهيم عليه السلام في قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161]؛ فملة إبراهيم عليه السلام هي دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وكذا أيضاً في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].
وقوله عز وجل هنا: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم)، كما قال السيوطي: لا يرغب، فالاستفهام هنا فيه إنكار واستبعاد أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لأن محمداً عليه الصلاة والسلام يتبع ملة أبيه إبراهيم عليه السلام، ولا يمكن أن يوجد إنسان عاقل سوي أريد به الخير يعرض ويترك ملة إبراهيم التي يدعو إليها محمد صلى الله عليه وسلم.
والسياق تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين، فلا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه، وحمل نفسه على السفه وهو الجهل، وسفه نفسه أبلغ من جهلها، إذ لم يقل تعالى: إلا من جهل نفسه، لكنه قال: (إلا من سفه نفسه)، لماذا؟ لأن الجهل ضربان: جهل بسيط، وجهل مركب، والجهل البسيط هو ألا يكون للإنسان اعتقاد في شيء، والجهل المركب هو أن يعتقد في الحق أنه باطل، ويعتقد في الباطل أنه حق، والسفه أن يعتقد ذلك، أي أن السفه هو عبارة عن النوع المركب من الجهل، فليس هو الجهل البسيط، لكنه النوع المركب من الجهل، فالجهل البسيط لا يعتقد صاحبه شيئاً، أي أنه لا يتخذ موقفاً محدداً، أما الجهل المركب فهو يجهل، ويجهل أنه يجهل، فيعتقد أن الباطل هو الحق، وأن الحق هو الباطل، والسفه أن يعتقد هذه العقيدة الباطلة ويرى الحق باطلاً والباطل حقاً، ثم هو في سلوكه العملي وفعله وتصرفه يتحرى الفعل بمقتضى ما اعتقده، فيدافع عن الآلهة الباطلة، ويضحي في سبيلها، ويدعو إليها بهمة ونشاط! هذا هو السفه.
فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم فإن ذلك لسفه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ كل نقيصة، وذلك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، جهل أنه مخلوق، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه، كما نلاحظ ذلك جلياً ظاهراً في الكفار، فهو يجهل أنه مخلوق، ثم هو ينكر خالقه تبارك وتعالى، وإذا لم يعلم أن له صانعاً فكيف يعرف أمره ونهيه وهو أصلاً لا يعتقد وجود الله؟! وكيف يتحرى أمراً أو نهياً لله تبارك وتعالى؟! وكيف يرى الأشياء ويحكم بقبحها وحسنها؟! ولكون معرفة النفس ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه، قال تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لماذا؟ لأننا إذا عرفنا أنفسنا وأبصرنا في أنفسنا وتدبرنا آيات الله سبحانه وتعالى في خلقنا وأنفسنا؛ فإن ذلك يدلنا على خالقنا وفاطرنا سبحانه وتعالى، فالتبصر بأحوال النفس يبصرنا بخالقها، وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، وقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فهذا معنى قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه).(10/19)
معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا)
قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا) أي: اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة، وتكثير الأنبياء من نسله، وإعطاء الخلة، وإظهار المناسك، وجعل بيته آمناً ذا آيات بينات إلى يوم القيامة، وكل هذه وجوه اصطفاء الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم أبي الأنبياء عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
وما وجه هذا الاصطفاء بالرسالة؟ جعله من أولي العزم من الرسل، وبالنبوة، وبالإمامة فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، وكان إبراهيم عليه السلام إمام لجميع الناس، وكل أهل الملل يتحرون أن ينتسبوا إلى إبراهيم عليه السلام، وأكثر الأنبياء من نسله، بل كل الأنبياء الذين أتوا بعده هم من نسله، سواء في ذلك الأنبياء الذين من نسل إسحاق ويعقوب، أو من نسل إسماعيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أعطاه الله الخلة، واتخذه الله سبحانه وتعالى خليلاً: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].
أما في الآخرة يقول تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] الذين لهم الدرجات العلى، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح؛ لأن هذا يدل على شرف وصف الإنسان بأنه إنسان صالح أو عبد صالح، لماذا؟ لأنه تعالى بين أن مقام إبراهيم عليه السلام المفخم المعظم في الآخرة إنما هو بكونه من الصالحين؛ فحيث جعل الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام متصفاً بالصلاح فهو حقيق بالإمامة لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين، فأعطاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا أعلى المراتب؛ فلا بد أن تكون رتبة الصالحين التي جعلها أيضاً لإبراهيم في الآخرة هي أفخم المراتب وأعلاها، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه والاهتداء بهديه، وفي هذا أيضاً أشد ذم لمن خالفه، كل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم، وإقامة للحجة عليهم؛ لأن أكثر ذلك معطوف على قوله تعالى: (اذكروا) في قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
فهذا تذكير، وما زلنا في سياق الكلام الذي يذكر الله سبحانه وتعالى ويعظ به بني إسرائيل وأهل الكتاب لما عندهم من أمر هذا النبي الكريم إبراهيم الخليل عليه السلام، ولما ذكر إمامته عليه السلام ذكر ما يؤتم به فيه، فإذا كان إبراهيم إماماً وإمامته شرفته بهذه الفضائل في الدنيا وفي الآخرة، ففي أي شيء نأتم بإبراهيم عليه السلام؟ وما الذي ينبغي أن نأتم بإبراهيم به حتى نحوز مثلما حاز في الدنيا والآخرة؟ وما هو سبب اصطفائه وصلاحه؟ الذي نأتم به فيه هو دينه وملته وما أوصى به بنيه، وما أوصى به بنيه سلفاً عن خلف، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه؛ لأن يعقوب عليه السلام ينتسب أهل الكتاب إليه، وهو إسرائيل عليه السلام.(10/20)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)
قال تبارك وتعالى مبيناً ما يؤتم بإبراهيم فيه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] معنى الآية: اصطفيناه؛ لأنه قال له ربه: أسلم، وذلك حين وقوع الاصطفاء، أي: انقد له، أخلص نفسك له، أو استقم على الإسلام واثبت على التوحيد، (قال أسلمت لرب العالمين) وظاهر الآيات الكريمة: أن هذا لفظ حقيقي، وأن الله سبحانه وتعالى خاطب إبراهيم بقوله: (أسلم) فأجاب إبراهيم عليه السلام بقوله: (أسلمت لرب العالمين)، وليس في كونه لفظاً حقيقياً أي مانع، وبالتالي لا يجوز تأويل كلمة: (قال أسلمت لرب العالمين) بقول بعض المفسرين: إنما هو ضرب مثل، ومعنى هذا القول: أنه أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام، فهذا الكلام ليس بشيء، لماذا؟ لأنه لا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما، ولا يوجد أي داع ولا أي مسوغ لأن نقول بأنه ضرب مثل.(10/21)
تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب)
قال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
(ووصى بها إبراهيم بنيه) هذا شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره، وفي الآية السابقة بين تكميله لنفسه: (إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)، وهذا هو انقياده لله سبحانه وتعالى في نفسه، فهو كمل نفسه بالإسلام ولم يقتصر على ذلك، بل سعى في تكميل غيره، وبدأ في ذلك بعشيرته الأقربين.
وكلمة: (وصى بها إبراهيم) الوصية تكون بأن تتقدم إلى غيرك في شيء نافع تحمد عاقبته، والضمير في قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه) إما أنه عائد لقوله: (أسلمت لرب العالمين) فوصى إبراهيم بهذه الكلمة -وهي أسلمت لرب العالمين- بنيه ويعقوب، وعلى هذا يكون رجوع الضمير مثل رجوعه في قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] فكلمة (وجعلها) الهاء فيها تعود إلى قوله عليه السلام كما حكاه الله عنه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]، ونلاحظ هنا أن إبراهيم عليه السلام عبر عن كلمة لا إله إلا الله بمعناها، لماذا؟ لأن لا إله إلا الله تتكون من شقين، شق فيه نفي، وشق فيه إثبات، (لا إله) معنى ذلك الكفر بالطاغوت، والكفر بكل إله باطل يعبد من دون الله، ونفي لكل ما عدا الله من الآلهة الزائفة، (إلا الله): إثبات لاستحقاقه وحده تبارك وتعالى بإفراده بالعبادة والتوحيد، فعبر إبراهيم عليه السلام عن كلمة لا إله إلا الله بشرح معناها: (إنني براء مما تعبدون) هذا معنى لا إله، كفر بالطواغيت، (إلا الذي فطرني) لكن الذي فطرني هذا استثناء منقطع، أي: ربي وخالقي سبحانه وتعالى هو الإله الذي أستمسك بعبادته وتوحيده، وإنما أبرأ مما تعبدون من دونه، (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) (وجعلها كلمة باقية في عقبه) أي: لا إله إلا الله جعلها كلمة باقية في عقبه، وكل طائفة من نسله توصي بها الذين من بعدهم، كما سيأتي بيان ذلك في وصية يعقوب عليه السلام، فلذلك أنثها، لأنها تعود إلى كلمة، (وجعلها كلمة) والمراد بها لا إله إلا الله، وكذلك هنا في قوله تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم) يعني بهذه الجملة التي قال فيها: (أسلمت لرب العالمين) وهي كلمة التوحيد وكلمة الإسلام، أو تأويل هذه الكلمة، أو أن قوله تبارك وتعالى: (ووصى بها) أي: بملة إبراهيم في قوله تبارك وتعالى الآنف الذكر: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)؛ فتكون الهاء عائدة إلى ملة إبراهيم عليه السلام.
ثم يقول تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) صيغة الجمع تفيد أن إبراهيم عليه السلام رزق من الولد غير إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، وعند أهل الكتاب في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج بعد وفاة سارة أم إسحاق امرأة أخرى اسمها: قصورة، فولدت له ستة من الأولاد، فعلى هذا يكون بنوه ثمانية.
(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) هذا معطوف على إبراهيم عليه السلام، والمقصود: ووصى يعقوب بنيه؛ لأن يعقوب أوصى بنيه أيضاً كما أوصى إبراهيم بنيه، والدليل قوله تبارك وتعالى: (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) كما سيأتي.
وبعض القراء قرءوا: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) بالنصب عطفاً على بنيه، ومعناه: أن إبراهيم وصى بهذه الكلمة بنيه ونافلته يعقوب الذي هو ابن ابنه، لماذا؟ لأن يعقوب ولد في حياة جده إبراهيم وأدرك من حياته خمس عشرة سنة، كما يستفاد من سفر التكوين في التوراة، فإن فيها: أن إبراهيم عليه السلام ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة.(10/22)
وصية الأنبياء لبنهيم عند الموت
قال الله على لسان كل من إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) يعني: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام الذي لا دين غيره عند الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ} [البقرة:132]، بما أن الله سبحانه وتعالى اختاره لكم، وأعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، ولا دين غيره عند الله تبارك وتعالى، فإنه يتسبب عن هذا الاصطفاء أني أقول لكم وأوصيكم: (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) فالفاء في (فلا) سببية، يعني تسبب عن هذا الاصطفاء لهذا الدين أنني الآن أوصيكم بهذه الوصية: (لا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، والمعنى: الزموا الإسلام -لأن الموت ليس بأيدينا- واثبتوا على الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم وأنتم ثابتون على الإسلام.
فالمقصود النهي عن حال بخلاف حال الإسلام وقت الموت، نظير ذلك قوله: لا تصل إلا وأنت خاشع، هل هذا نهي عن الصلاة؟ ليس نهياً عن الصلاة، ولكنك تنهاه عن ترك الخشوع في حال الصلاة، فهذه إشارة إلى أن الموت على حال غير حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، كما تقول في الأمر: مت وأنت شهيد، فليس مرادك الأمر بالموت، ولكن أن يكون على صفة الشهداء إذا مات، وهذه أشرف ميتة ينبغي أن يموت عليها الإنسان إذا أتاه الموت، وهي أن يموت على صفة الشهداء؛ لأن لها فضلية على غيرها.
وقد قرر سبحانه وتعالى بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك.(10/23)
تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)
لما حكى الله عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين وبالإسلام ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك، تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى، ومبالغة في البيان، لقوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، قوله تعالى: (أم كنتم شهداء) يقول السيوطي: ولما قال اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟ فنزل: (أم كنتم شهداء) (شهداء) هنا معناها حضوراً، وهذا مثل قوله تعالى حكاية عن المنافقين: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] يعني حاضراً، كذلك هنا قوله تعالى: (أم كنتم شهداء) يعني: أكنتم حضوراً أيها اليهود ساعتها؟ وكيف تزعمون علم ما لم تشهدوه ولم تحضروه؟ (إذ حضر يعقوب الموت) إذ (قال لبنيه) بدل من (إذ) قبله، (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) يعني من بعد موتي، فهذا ما ينبغي أن يكون عليه اهتمام الإنسان إذا حضره الموت: أن يوصي أولاده وذريته بالثبات على ملة الإسلام، لا أن ينشغل بأمور الدنيا وينسى هذه الوصية الخطيرة.
{قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا} [البقرة:133] هذا بدل من إلهك، (ونحن له مسلمون) وقد عد إسماعيل من الآباء.
قولهم: (نعبد آلهك) الخطاب ليعقوب، (وإله آبائك) من آباؤه؟ (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)، فإسحاق هو أبو يعقوب عليه السلام، أما إسماعيل فهو عمه، فعد إسماعيل من الآباء على سبيل التغليب؛ لأن العم بمنزلة الأب، كما أن الخالة بمنزلة الأم؛ لاجتماعهما في الأخوة، فهذه أخت الأم، وهذا أخو الأب.
و (أم) هذه للإنكار في قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)، والمقصود بهذا الإنكار: أنكم لم تحضروه وقت موته، فكيف تنسبون إليه ما لا يليق به؟ (تلك أمة قد خلت) الإشارة هنا إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما، لكنه أنث لتأنيث خبره، (تلك أمة) فالخبر -وهو (أمة) - مؤنث، فلذلك أنث لفظ الإشارة، مع أن المقصود به إبراهيم ويعقوب وبنيهما.
(خلت) أي: سلفت ومضت، (لها ما كسبت) من العمل، والمقصود: لها ما كسبت من جزاء العمل، (ولكم ما كسبتم) هذا استئناف، والخطاب هنا لليهود، (ولكم ما كسبتم) ما عملتم، أو ثواب أو جزاء ما عملتم، (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) كما أنهم لا يسألون عن عملكم، والجملة تأكيد لما قبلها.
قوله تعالى: (أم كنتم شهداء) يعني: ما كنتم حاضرين حينئذ، فهذه (أم) المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، يعني: بل أكنتم حضوراً، فهذا إنكار يفيد التقريع والتوبيخ، والشهداء جمع شهيد أو شاهد، بمعنى الحاضر.
وقوله: (إذ حضر يعقوب الموت) هل كان حضر الموت بالفعل؟ المقصود مقدمات الموت.
(إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) أي: أي شيء تعبدونه بعد موتي؟ والمقصود من ذلك: أن يقررهم بالثبات على الإسلام والتوحيد، وأخذ الميثاق منهم على الثبات عليهما.
انظر إلى همة الأنبياء عند فراق الدنيا! اهتمامهم هو بأعظم شيء في الوجود، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.(10/24)
الإسلام ملة الأنبياء قاطبة
قوله تعالى: (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) هذا العطف عطف بيان على (آبائك)، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه؛ لأن العم أب والخالة أم، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة، إذ لا تفاوت بينهما، ومنه حديث الترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر في العباس: (إن عم الرجل صنو أبيه) أي: مثل أبيه، ولا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، ومعنى صنوان وغير صنوان: النخلة ذات الساقين من جذر واحد، فكذلك عم الرجل صنو أبيه، يعني أنه لا تفاوت بين الأب والعم كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، وفي الصحيحين عن البراء رفعه: (الخالة بمنزلة الأم) متفق عليه.
(إلهاً واحداً) أي: نعبد إله آبائك إلهاً واحداً، والمقصود به: التبرؤ من الشرك للتصريح بالتوحيد.
ثم أخبروا بعد التوحيد بإخلاصهم في عبادتهم لقولهم: (ونحن له مسلمون) أي: لله وحده لا لأب ولا لغيره، (مسلمون) أي: مطيعون خاضعون، كقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83].
والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، والآيات في الباب كثيرة.
أما الأحاديث فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد وأمهاتنا شتى) أولاد العلات هم أولاد الضرائر، من صلب رجل واحد والأمهات مختلفة، فكذلك الأنبياء إخوة لعلات، إخوة في العقيدة، دينهم واحد، وكلهم دعاة إلى الإسلام، وإلى لا إله إلا الله، فكل رسالة أرسل بها نبي إلى قومه تتكون من شقين: شق مشترك بين جميع الأنبياء: لا إله إلا الله، ثم الشق الثاني: بيان الإيمان بالرسول الذي أرسل إليهم، فمثلاً: في عهد نوح عليه السلام: لا إله إلا الله، نوح رسول الله، وفي عهد موسى عليه السلام: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله، عيسى رسول الله، فإذا كانت لا إله إلا الله تشير إلى توحيد العبادة، فإن الشهادة الثانية تشير إلى توحيد الطريق الموصل إلى الله في عهد ذلك النبي، ونوح رسول الله لقومه خاصة، لأنه لم يبعث إلى البشر كافة إلا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.(10/25)
عبر وفوائد من وصية إبراهيم ويعقوب لبنيهما
اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين، منها: أنه تعالى لم يقل: وأمر إبراهيم بنيه، وإنما قال تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) فلفظ الوصية أوكد من الأمر؛ لأن الإنسان يوصي عند الخوف من الموت، كما قال الله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة:106]، فهي أخطر لحظة في حياة الإنسان، حين ينتقل إلى الدار الآخرة، حين يصدق الكاذب ويتوب المسرف، ففي هذا الوقت -وقت الخوف من حضور الموت- تكون الوصية مخلصة، وبأهم شيء يريد الإنسان أن يتركه لمن يوصيهم، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، لأنه مقبل على الله سبحانه وتعالى، فدل على الاهتمام بالموصى به والتمسك به.
ومنها: أنهما خصصا بنيهما بذلك؛ لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما أوصياهما بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره.
ومنها: أنهما عليهما السلام ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى، وما خلطا بالوصية بالتوحيد أي وصية أخرى، لا بمال ولا بشيء من الدنيا، ولا بأي قضية أخرى، وإنما محضا النصح بالتوحيد فقط، فهذا يدل على خطورة مثل هذه الوصية، وشدة الاهتمام بأمر التوحيد، وكان يمكن أن يوصيا أولادهما بأمور أخرى كثيرة مهمة، حتى من قضايا الدين، لكنهما اصطفيا واختارا أهم المهم، وأعلى مطالب الدين، وهو الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، ومن أجله خلقت الجنة والنار، وهو توحيد الله تبارك وتعالى، ولم يمزجا الوصية بأي وصية أخرى، لشدة الاهتمام في هذا الموقف الخطير بقضية التوحيد.(10/26)
تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت)
قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، أمة ترد في القرآن وفي لغة العرب بعدة معان، منها: أن تأتي بمعنى فترة من الزمان، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45]، يعني بعد فترة زمنية، وبعد حين وزمان.
ومنها: أن تأتي بمعنى الدين والملة، والدليل قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، يعني ملة واحدة هي ملة الإسلام، والخطاب للأنبياء عليهم السلام، كذلك أيضاً قوله تعالى حاكياً عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] أي: ملة ودين.
ومنها: الأمة بمعنى الشعب أو الجيل أو الجماعة كما في هذه الآية.
وهناك معان في اللغة العربية لا بأس بإيرادها استطراداً: الأمة بمعنى قامة الإنسان، فتقول مثلاً: هذا رجل حسن الأمة، يعني حسن القامة.
ومنها: الأمة الشجة التي تبلغ الدماغ، إذا شج الإنسان في رأسه حتى بلغت الدماغ فهذه تسمى أمة، يقال: رجل مأموم، ورجل أليم، يعني جرح جرحاً، أو شج حتى وصل أو بلغ الشج الدماغ.
أيضاً الأمة بمعنى: أم، تقول: هذه أمة زيد، أي هذه أم زيد.
والمقصود هنا بقوله: (تلك) إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين، (أمة) دين وجماعة، (قد خلت) سلفت ومضت، (لها ما كسبت) في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق، (ولكم ما كسبتم) مما أنتم عليه من الهوى الخاص بكم، ولا يسألون هم عن أعمالكم ولا تسألون أنتم عما كانوا يعملون، والمعنى: أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم.
قال الرضي: (هذه الآية دالة على بطلان التقليد؛ لأن قوله: (لها ما كسبت) يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنتبهوا على ما يلزمكم، فتستدلوا على الإيمان والتوحيد، وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق، يعني اتبعوهم لكن ببصيرة، اتبعوهم، ولكن عن طريق النظر في أدلة التوحيد)، ومعلوم أن اتباع الأنبياء عليهم السلام والإيمان بهم لا يسمى تقليداً، وهذا مما يرد به على الرضي، فاتباع الأنبياء عليهم السلام لا يسمى تقليداً؛ لأنه خارج عن حده المقرر في كتب الأصول؛ لأن كلام الأنبياء هو الدليل، لكن غير الأنبياء إذا اتبعتهم بدون دليل فهذا هو التقليد، أما الأنبياء فكلامهم نفسه حجة؛ لأنهم مؤيدون بالمعجزات التي تدل على أنهم مرسلون من قبل الله تبارك وتعالى.(10/27)
تفسير سورة البقرة [135 - 143](11/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا)
الإسلام كان وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب، ومع هذا لم يمتثل اليهود هذا التوجيه وهذا النصح، ولم يهتدوا بالأصفياء من أسلافهم، وإنما صاروا دعاة إلى الكفر، قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135] مع كل هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى من شأن التوحيد وملة إبراهيم عليه السلام لم يمتثلوا الهداية، وإنما صاروا دعاة إلى الكفر! يقول السيوطي رحمه الله عند قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا): أو هنا للتفصيل، يعني: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، وقائل الأول (كونوا هوداً) هم يهود المدينة، وقائل الثاني (كونوا نصارى) هم نصارى نجران.
(قل بل ملة إبراهيم حنيفاً) قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، يعني لن نتبعكم أنتم في دعوتكم إلى اليهودية أو النصرانية، بل نتبع ملة إبراهيم، فلذلك نصب بتقدير فعل نتبع، أي بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وحنيفاً: حال من إبراهيم، يعني مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيم.
(وما كان من المشركين) هذه تبرئة لإبراهيم الخليل عليه السلام من الشرك.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وقالوا) أي: الفريقان من أهل الكتاب (كونوا هوداً) يعني قالت اليهود: كونوا هوداً تهتدوا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا.
قوله تعالى: (قل بل ملة إبراهيم) بل نتبع ملة إبراهيم، ونهتم بسنته، ولا نتحول عنها كما تحولتم.(11/2)
معنى الحنيف في اللغة
(حنيفاً) يعني: نتبع إبراهيم حال حنيفيته، مستقيماً أو مائلاً عن الباطل إلى الحق، لأن الحنَف محركة يطلق على الاستقامة، ومنه قيل للمائل الرجل: أحنف، كما هو الحال في الطفل الذي يصاب بالكساح في عظامه، فيحصل تقوس وميل وانحراف في ساقيه، فهذا هو الحنف، فالعرب يسمون الرجل المائل أو الشيء المائل حنيفاً أو أحنف، وهذه عادة العرب كما يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، وأن تئول حاله وعاقبته إلى السلامة، فكذلك أطلقوا على الرجل المائل أحنف تفاؤلاً باستقامة حاله، وكذلك المكان المهلك يسمونه مفازة، يعني منجاة، تفاؤلاً أن تنتهي به إلى النجاة، ويطلق الحنف أيضاً في اللغة على الاستقامة، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى؛ المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا المصطلح يتكرر كثيراً جداً في القرآن وفي السنة، فعلينا أن نهتم به اهتماماً زائداً، والحنيف فيها قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، الذي يميل عن الدنيا واللهو إلى العبادة.
قال الزجاج: الحنيف في اللغة المائل إلى الشيء، أخذاً من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدمه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف ترققه وتقول له: والله لولا حنف برجله ودقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله هذا المعنى الأول، الحنيف المائل إلى العبادة.
المعنى الثاني: الحنيف يعني المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيفاً، نظراً له إلى السلامة.
وقيل: الحنيف المخلص الذي يوحد الله ويحج ويضحي ويستقبل الكعبة.(11/3)
شرك اليهود والنصارى
لما أثبت الله إسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: (وما كان من المشركين)، وفيه تعريض بأهل الكتاب، وإيذان ببطلان دعواهم باتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم: (عزير بن الله والمسيح ابن الله)، وهذا شرك.
وقد أفادت هذه الآيات الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان، وأن الدين المرضي عند الله الإسلام، وهو دعوة الخلق إلى توحيده تعالى وعبادته وحده لا شريك له، ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بدعوة الناس جميعاً إلى هذا الأصل، ولهذا أردف الله تبارك وتعالى قولهم هذا بقوله: (قولوا آمنا) وهذا أمر بالتوحيد.(11/4)
تفسير قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)
قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (قولوا) هذا خطاب للمؤمنين (آمنا بالله) وحده (وما أنزل إلينا) من القرآن (وما أنزل إلى إبراهيم) وهي الصحف العشر (وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) التفسير المشهور في الأسباط أنهم أولاد يعقوب عليه السلام، لكن القاضي محمد كنعان صاحب حاشية قرة العينين أتى بتنبيه يتعلق بأولاد يعقوب فقال: أولاد يعقوب وهو إسرائيل عليه السلام، اتفق العلماء على أن يوسف بن يعقوب نبي، أما إخوته فقد قال بعضهم: إنهم أنبياء، ودليلهم على ذلك: أنهم هم المعنيون بقوله تعالى: (والأسباط) الذين هم أولاد يعقوب عليه السلام.
ولكن الصواب: أن إخوة يوسف العشرة، ما عدا بنيامين ليسوا بأنبياء قطعاً؛ لأن ما صدر عنهم نحو أخيهم يوسف ووالديهم لا يصدر مثله من أنبياء، بل ولا يرضون بمثله، والأنبياء معصومون من مثل هذه الأشياء الشنيعة التي فعلها إخوة يوسف عليه السلام به وبأبيهم.
قال القاضي عياض في الشفا: وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم، وقال ابن كثير: لم يقم دليل على نبوتهم، وبمثله قال القرطبي والرازي، وقال السيوطي في رسالة سماها: رفع التعسف عن إخوة يوسف: لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين نبوتهم، وقال ابن كثير: ومن استدل على نبوتهم بقوله تعالى: (والأسباط) فليس استدلاله بقوي؛ لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل، وكان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي من السماء.
فبطون بني إسرائيل يقال لهم: أسباط، كالقبائل في العرب، وكالشعوب في العجم، ولا وجه لتفسير الأسباط بأولاد يعقوب لصلبه، بل هي تعني الجماعات الكثيرة.
(وما أوتي موسى) يعني من التوراة (وعيسى) من الإنجيل (وما أوتي النبيون من ربهم) من الكتب والآيات، (لا نفرق بين أحد منهم) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى (ونحن له مسلمون).
قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) بين الله عز وجل في سورة الأعلى أن الذي أنزل إلى إبراهيم كان صحفاً، كما قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] أما صحف موسى فهي التوراة.
(قُولُوا) يعني: أيها المؤمنون، وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم، حيث يلقنهم ولا يستنطقهم.
(آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ) يعني: آمنا بالأحكام التي كانوا متعبدين بها، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) من التوراة كما قال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام:154] وهي التوراة بالإجماع، {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} [الحديد:27].
(وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني ذكرهم وذكر وغيرهم، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الإيمان، وليس هذا في التفضيل؛ لأنه ثبتت المفاضلة بين الأنبياء {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فضل على سائر الأنبياء والمرسلين في الدنيا وفي الآخرة، فمعنى (لا نفرق بين أحد منهم) يعني: في الإيمان، نؤمن بهم جميعاً، ولا نكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى حيث كفر اليهود بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، وكفرت النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: منقادون، وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا).
وتلقين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بأن يقولوا هذه الشهادة العظيمة فيه إظهار لمزية فضل الله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يلقنهم ماذا يقولون تعبيراً عن إيمانهم وعقيدتهم في هذه الأمور الجسيمة.
وقد بين تبارك وتعالى في موضع آخر أن المؤمنين استجابوا لهذا الأمر، وفعلوا ذلك، وامتثلوا تكليف الله سبحانه وتعالى لهم، فهنا قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]؛ فبين في آخر سورة البقرة أنهم امتثلوا هذا الأمر بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] إلى آخر الآيات، وذكر جزاءهم على ذلك في آية أخرى فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:152].(11/5)
تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)
يقول تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] (فإن آمنوا) أي: اليهود والنصارى، (بمثل ما آمنتم به) يقول السيوطي: مثل زائدة، والمقصود: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، (فقد اهتدوا وإن تولوا) عن الإيمان به، (فإنما هم في شقاق) أي: في خلاف معكم، (فسيكفيكهم الله) يعني: سيكفيك الله -يا محمد صلى الله عليه وسلم- شقاقهم، (وهو السميع) لأقوالهم، (العليم) بأحوالهم، وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية عليهم.(11/6)
تفسير قوله تعالى: (صبغة الله)
قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة:138] هذا مصدر مؤكد لآمنا، ونصبه بفعل مقدَر، يعني صبغنا الله صبغة الله، فصبغنا الله بهذا التوحيد الذي نحن عليه، والمراد دينه الذي فطر الناس عليه، يقول السيوطي: والمراد بها دينه الذي فطر الناس عليه لظهور أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب، أليس الثوب إذا صبغته وغمسته في لون معين ينصبغ بهذا اللون ويظهر عليه أثره؟! كذلك نحن فطرنا الله على التوحيد، وظهر علينا أثر هذا التوحيد باعترافنا بتوحيد الله تبارك وتعالى.
{وَمَنْ أَحْسَنُ} [البقرة:138] يعني: لا أحد أحسن من الله صبغة، {صِبْغَةً} [البقرة:138] هنا تمييز، {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].
قوله تعالى: (صبغة الله) كأنه قيل صبغنا الله صبغة، أي: صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بالشبه، ولا تغلب صبغة غيره عليها، فصبغة الإسلام والتوحيد لا يمكن أبداً أن تتغير أو تتبدل أو يحل غيرها محلها، والصِبغة بالكسر ما يصبغ به وتلون به الثياب، فوصف الإيمان بذلك لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر وحمية وتنزيهاً لهم بآثاره الجميلة، ومتداخلاً في قلوبهم، كما أن فعل الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك، يقال: صبغ يده بالماء غمسها فيه، يقول ثعلب: دع الشر وانزل بالنجاة تحرزاً إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ وقال الراغب: الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها من البهائم، ووشحنا بها.
صبغنا بالفطرة وبالعقل كي يقودنا هذا العقل إلى التفكر والوصول إلى التوحيد، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، وهو المعني بقوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان التي ركب عليها تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ.
ولما كانت النصارى إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون: صبغناه، وهو التعميد، فهم يصبغون المولود في الماء المقدس عندهم، والذي لا يغمس في هذا الماء فإنه لا تصح نصرانيته، ولا يدخل الملكوت الأحمر! فبين تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن صبغة من الله تبارك وتعالى، وقال بعض المفسرين كـ الحسن وقتادة ومجاهد: (صبغة الله) دين الله، وقال بعضهم: إنها الشريعة، وقال بعضهم: هي الختان، وهي إشارة إلى مغزى واحد؛ لأن الختان من مقتضى هذه الشريعة.
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) استفهام للإنكار وللنفي، يعني لا صبغة أحسن من صبغته تعالى؛ لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها لما تولاها الحفيظ العليم، وهذه الصبغة من نوع الصبغات التي لا تزول أبداً؛ لأنها فطرة الله، ومن يصبغ مثل ما صبغنا الله؟! هو الذي صبغنا بالتوحيد والإسلام، بخلاف هذه الصبغة التي يفعلها هؤلاء؛ فيصبغ الله قلوبنا بالتوحيد صبغة لا تزول لثباتها؛ لأن الذي يتولاها هو الحفيظ العليم، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولذلك كان من ضمن أسئلة هرقل لـ أبي سفيان في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أي: هل يوجد من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه بعدما يدخل في الإسلام ينتكس ويرتد عنه؟ فذكرت أن لا، يعني لا أحد من الصحابة رضي الله عنهم يرتد بعد أن يدخل في الإسلام، ثم قال: وسألتك هل يرتد أحد منهم بعد أن يدخل فيه سخطة عليه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
فهذا فيه إشارة إلى نفس هذا المعنى الذي نذكره الآن.
(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) يعني هذه الصفة لا تزول بتوفيق الله تبارك وتعالى، فهذا فيه معنى الابتهاج والفخر والاعتزاز بهذه الصبغة، فتباً وسحقاً للذين يريدون أن يحرفونا عن صبغة الله التي اصطفاها لنا، وهي الشرف بهذا الإسلام وباتباع خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
{وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] يعني: شكراً له على هذه النعمة أن فطرنا على التوحيد، وصبغنا بصبغة الإسلام والإيمان، فنحن نشكر الله على نعمته هذه، ونشكر له سائر نعمه بأن نكون له وحده عابدين، ولذلك قال تعالى: (ونحن له عابدون) شكراً لتلك النعمة ولسائر نعمه، فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نؤكدها بالعبادة، ونقويها بها؟ والعبادة تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية، وهو عطف على (آمنا) داخل معه تحت الأمر (ونحن له عابدون).(11/7)
تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم)
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة:139] قل لهم: (أتحاجوننا) أي: أتخاطبوننا وتجادلوننا (في الله) أن اصطفى نبياً من العرب، ولم يكن هذا النبي من بني إسرائيل؟ (وهو ربنا وربكم)؛ فنحن سواء في هذه العبودية لله، فله أن يصطفي من عباده من يشاء، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، ليس لكم الخيرة، فالله سبحانه وتعالى كلنا سواء أمامه في العبودية، وكلنا مربوبون له، فله أن يصطفي من عباده من يشاء سبحانه وتعالى، وهو ربنا وربكم (ولنا أعمالنا) أي نجازى بها (ولكم أعمالكم) تجازون بها، فلا يبعد في أن يكون في أعمالنا ما نستحق به الإكرام، أو في أعمالكم ما تجازون عليه، فكلانا عبد مربوب لله تبارك وتعالى، فلا يبعد بعدما استوينا في هذه الأمور أن يكون في أعمالنا ما نستحق به إكرام ربنا، وقد كان بالفعل، فكانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، (ونحن له مخلصون) في الدين والعمل دونكم، فبالتالي نحن أولى بالاصطفاء.
قوله: (قل أتحاجوننا) استفهام إنكاري، والجمل الثلاث أحوال، (أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم)، هذه جملة حال، (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم)، حال ثانية، (ونحن له مخلصون) حال ثالثة.
قوله تعالى: (قل أتحاجوننا) المحاجة المخاصمة في الدين، (قل) منكراً لمحاجتهم وموبخاً لهم عليها، (أتحاجوننا في الله)، أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له، واتباع الهدى، وترك الهوى؟ (وهو ربنا وربكم) يعني المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ونحن وأنتم في العبودية له سواء (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20].
(ونحن له مخلصون) في العبادة والتوجه لا نشرك به شيئاً، بينما أنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان.(11/8)
تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)
لم يبق من البهت والكذب والافتراء والدعوى إلا أن اليهود يدعون أن أسلافهم كانوا على دينهم، فقال الله تبارك وتعالى موبخاً لهم: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]، يقول تعالى: (أم تقولون)؛ (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، وفيها إضراب عما قبلها، يعني: بل أتقولون، وهي بالياء في قراءة أخرى (يقولون).
(قل) قل لهم: (أأنتم أعلم أم الله) والمقصود: أن الله أعلم، وقد برأ إبراهيم بقوله: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً) فالذي أخبر هو الله سبحانه وتعالى، وهم ما شهدوا هذا الحال، فالله سبحانه وتعالى يبطل دعواهم بأن إبراهيم والمذكورين بعده من أبنائه كانوا هوداً أو نصارى (قل أأنتم أعلم أم الله) ف
الجواب
أن الله أعلم، والله الذي هو أعلم منكم أخبر بأنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] والمذكورون بعده تبع له؛ لأن المذكورين كما اتضح من سياق الآيات من يعقوب وبنيه كانوا جميعاً تبعاً لإبراهيم عليه السلام على ملة الإسلام.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:140] كتم يعني أخفى، (شهادة عنده) أي: كائنة عنده، (من الله) أي: لا أحد أظلم من هذا، وهم اليهود الذين كتموا شهادة الله في التوراة لإبراهيم بالحنيفية ولعقيدة التوحيد، (وما الله بغافل عما تعملون)، وهذا فيه تهديد لهم.(11/9)
تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)
قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:141]، لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين، ولم يدع لليهود متمسكاً من جهتهم؛ أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان، وأنه لا ينفعهم إلا ما كانوا عليه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض أحمرهم وأسودهم.
معنى الكلام: عليكم بترك الكلام في تلك الأمة، لا تجادلوا هذه الأمة المحمدية، أو المقصود: عليكم بترك الكلام في تلك الأمة الماضية، ولا تشتغلوا بالكلام بعد كل هذا في إبراهيم وإسماعيل وادعاء أنهما كانوا على اليهودية أو النصرانية، دعوكم من هذا، (تلك أمة قد خلت)، والإشارة إلى المذكورين في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:140]، عليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم بالنفع والفائدة، ولا تسألون إلا عن عملكم.
قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس صالحهم وطالحهم أنهم يفتخرون بآبائهم ويقتدون بهم في متحرياتهم، سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فأكد الله تعالى الكلام هنا بأننا ينبغي ألا نقلد الآباء والأجداد، وألا نفتخر بما كان عليه الآباء والأجداد، وقد ذكر هذا على أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك؛ تنبيهاً على أن الأمر سواء كان على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، يعني: سواء هذا الذي ذكرناه عن إبراهيم وإسماعيل وقع أو لم يقع، فأنتم غير مسئولين عن أفعالهم، فلا أنتم تثابون بأفعالهم ولا تعاقبون على مخالفاتهم إن فرض ذلك، وإنما: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، هذا لا يعنيكم أنتم، الآن انظروا فيما يدعوكم إليه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم عاب أيضاً عليهم تأكيداً وتنبيهاً على نحو ما قال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13]، وقوله: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، وقوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقوله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم، يعني كما يقول العرب: كل شاة تناط برجليها، يعني تعلق برجليها، يعني لها حالها المستقل، ولا شأن لها بالآخرين.(11/10)
تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)
قال الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (سيقول السفهاء) الجهال (من الناس) الناس المقصود بهم هنا اليهود والمشركون، (ما ولاهم) يعني: أي شيء صرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي عن استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس، والإتيان بالسين في: (سيقول) دالة على الاستقبال، وهي من الإخبار بالغيب، فهذا من علامة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
(قل لله المشرق والمغرب) أي: أن الجهات كلها ملك لله، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء فلا اعتراض عليه.
(يهدي من يشاء إلى صراط) أي: طريق مستقيم، وهو دين الإسلام، ومنهم أنتم، دل على هذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] يعني: أنتم -أيها المخاطبون- خير أمة أخرجت للناس، ومن أجل ذلك جعلناكم أمة وسطاً.(11/11)
أحاديث تحويل القبلة
روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت)، كان يحن إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، إلى الكعبة المشرفة، لكن في البداية صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت (وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه القوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد لله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت)، وهذا يؤخذ منه قبول خبر الواحد، وجواز العمل بخبر الواحد.
وروى مسلم عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم، ولفظه: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفنا نحو الكعبة).
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينا الناس في قباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)، وهذا لفظ مسلم.
فالأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متواترة، وفي هذا كفاية، وهذه الآية دليل واضح وبين على أن في أحكام الله تبارك وتعالى وفي كتابه ناسخاً ومنسوخاً، وهذا مما أجمعت عليه الأمة إلا من شذ، وإنكار الناسخ والمنسوخ هو من البدعة والضلالة ومن الشذوذ عن إجماع أمة المسلمين، فهذه الآية من أوضح الأدلة على وقوع النسخ في أحكام الله تبارك وتعالى.(11/12)
رد الله على السفهاء منكري تحويل القبلة
أعلم الله تعالى نبيه والمؤمنين أن فريقاً من الناس سينكرون تغيير القبلة، وسماهم سفهاء، فقال: (سيقول السفهاء) جمع سفيه، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقال أبو السعود (سيقول السفهاء) أي: الذين خفت أحلامهم وعقولهم بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر.
(ما ولاهم) أي: أيُ شيء صرفهم (عن قبلتهم التي كانوا عليها) أي: ثابتين على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، ومدار الإنكار يختلف، إن قلنا: إن هؤلاء السفهاء من اليهود فيكون مدار الكلام والإنكار يختلف عما لو قلنا: إن هؤلاء السفهاء هم المشركون، إذا قلنا: إن المقصودين بقوله تعالى: (سيقول السفهاء) اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحول عن بيت المقدس إلى الكعبة؛ لأنها قبلتهم، واليهود كانوا يحبون ذلك الثبات، أما إذا كانوا غير اليهود من المشركين فمدار الإنكار يراد به الطعن في الدين والقذف في أحكامه.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن: أنهم مشركو العرب، وعن السدي: أنهم المنافقون، قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
يقول الإمام الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى بعدما ذكر قول ابن عباس والحسن والسدي: ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا، وكل سفهاء.(11/13)
إرهاصات ما قبل تحويل القبلة
قوله تبارك وتعالى هنا: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) سبق أن أشرنا أن سنة الله تبارك وتعالى في الآيات العظام وفي الأمور الجسيمة أن يسبقها بإرهاصات تمهد القلوب لتقبل هذا الأمر الجديد، فهناك أمور عجيبة تحصل قبل وقوع الآية العظمى التي ستأتي، من ذلك مثلاً: إذا راجعنا سورة آل عمران تجد أن الله سبحانه وتعالى قدم بين يدي مولد المسيح عليه السلام من غير أب قصة امرأة عمران وزكريا، وكيف أنها رأت كرامات الله التي كان يكرم بها مريم عليها السلام، {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، ثم يقول تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38] وهذا تمهيد لحدوث الآية العظمى فيما بعد، فلما رأى هذه الكرامة، وأن الله قادر على أن يرزق من يشاء بغير حساب (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) فطمع في رحمة الله، فدعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له الولد فوهبه الله الولد مع أنه كان قد طعن في السن، فرزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام، فهذه إرهاصات ومقدمات تمهد القلوب لما هو أعظم مما سيأتي، وهو ميلاد المسيح عليه السلام، وهو من آيات الله سبحانه وتعالى.
كذلك نلاحظ أن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام حدث غير مجرى تاريخ البشرية كلها، فتجد إرهاصات كثيرة بين يدي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك: حادثة الفيل فقد ولد في نفس السنة، إشارة إلى أن هذا البيت وهذه البلدة وهذه الكعبة يراد بها أمر عظيم، ولذلك حماها الله سبحانه وتعالى من جيش أبرهة لما أراد هذا البيت وأهله بسوء، فحصلت حادثة الفيل، وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ كي تمهد أيضاً القلوب لحدوث مثل هذه المعجزة العظمى، وهذا الأمر المهم، وهو بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الجن وجدوا أن السماء حرست بالشهب والنيازك، وأنهم لن يستطيعوا أن يسترقوا السمع كما كان يحصل من قبل؛ وهذا أيضاً تمهيد بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك الإرهاصات: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأت أمي كأن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام).
ومن هذه الإرهاصات: هواتف الجن كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الجن كانوا ينطقون ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الممهدات، فكلها أمور تمهد لحصول أمر أخطر منها وأعظم.
وكذلك هنا أيضاً لو أننا تتبعنا الآيات السابقة في الأرباع الماضية، نجد إرهاصات وتقدمة وتوطئة وتمهيد لهذا الحدث الخطير، وهو حدث تحويل القبلة، وقد بدأت الآيات بالتنويه بدين الإسلام، ونسبة ذلك إلى ملة إبراهيم عليه السلام، وأنه كان مسلماً موحداً، وأن أبا الأنبياء الخليل عليه السلام كان على ملة الإسلام، وكذب من قال: إنه كان يهودياً أو كان نصرانياً.
ثم أتت قصة بناء الكعبة المشرفة، وفضل هذه الكعبة، ودعاء إبراهيم وإسماعيل ببعثة النبي عليه السلام بعد ذلك، ثم أتت الآيات تتحدث عن النسخ في آيات الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106]، وكل هذا تمهيد للقلوب؛ حتى إذا ما حصل نسخ للقبلة تكون القلوب قد تقبلت هذا الحدث، ولم يبق حجة لأعداء الدين أن يطعنوا وينفذوا من خلال هذه الثغرة، فهذا نوع من الإرهاصات نحو الحدث، وهو الذي ينبه الله أيضاً قبل وقوعه بقوله: (سيقول السفهاء)، فقبل أن يقولوا ينبهنا ويقول: (سيقول السفهاء) ويصفهم بالسفه، وقد كان ذلك بالفعل وقالوا كما أخبر الله تبارك وتعالى، فهذا خبر حصل قبل وقوع الحدث، وفائدته: توطين النفس واستعدادها على ما بعد الحدث.(11/14)
جواب الله للمشركين بصدد تحويل القبلة
إن الله تعالى يسلح المؤمنين بالحجج التي يهزمون بها أعداء الله من اليهود والمشركين، سيقول لكم السفهاء من الناس: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) فاعلموا الجواب من الآن، وقولوا لهم: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب شديد على الخصم الألد، مع ما فيه من دلائل النبوة، لماذا؟ لأنه أخبر عليه الصلاة والسلام عن غيب وقد وقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة.
(قل لله المشرق والمغرب) هذا جواب عن شبهتهم، وتقريره: أن الجهات كلها ملك لله، فهي لله من ناحية الملكية، وحدود الأرض من مشرقها إلى مغربها كل هذا ملك له تبارك وتعالى، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى، وما أمر به فهو الحق.
(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا فيه تعظيم لأهل الإسلام، وإظهار عناية الله تبارك وتعالى بهم، وتفخيم شأن الكعبة، كما فخمه عند إضافته إليه في قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، فهذه إضافة تفخيم وتشريف وتعظيم للكعبة المشرفة، كذلك هنا قال: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إشارة كما ذكرنا لتعظيم الكعبة وشرفها، وإشارة إلى شدة عناية الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة، حيث امتن عليهم بأن هداهم إلى هذا الحكم، وهو استقبال الكعبة المشرفة.(11/15)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)
قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].
يقول السيوطي رحمه الله: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) كذلك كما هديناكم إليه جعلناكم -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- أمة وسطاً، يعني: خياراً عدولاً، (لتكونوا شهداء على الناس) يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم، (ويكون الرسول عليكم شهيداً) ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم.
(وما جعلنا) يعني: ما صيرنا (القبلة) لك الآن الجهة (التي كنت عليها) وهي الكعبة.
إذاً: إعراب (التي كنت عليها) مفعول ثانٍ لـ: (جعلنا)؛ لأن (جعلنا) فعل يتعدى لمفعولين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الكعبة حين يصلي بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة أمر أن يستقبل بيت المقدس، فصلى إليه ستة أو سبعة عشر شهراً، ثم حول عنها.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] إلا لنعلم علم ظهور، (من يتبع الرسول) أي: يصدقه، (ممن ينقلب على عقبيه) أي: يرجع إلى الكفر شكاً في الدين، وظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره، وقد ارتد لذلك جماعة.
{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] (إن) مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي: وإنها كانت كبيرة، أي: التولية والانصراف إلى الكعبة، (لكبيرة) أي: شاقة على الناس، (إلا على الذين هدى الله) منهم، (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، بل يثيبكم عليها؛ لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل؛ لأن الصحابة تساءلوا لما نزل هذا الحكم عن صلاة الذين ماتوا قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، ولم يدروا ما يقولون فيهم، فأنزل الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا الحديث في البخاري.
(إن الله بالناس) الناس المقصود بهم هنا المؤمنون، (لرءوف رحيم) في عدم إضاعة أعمالهم، والرأفة هي شدة الرحمة، وقدم الأبلغ هو الرءوف على الرحيم مراعاة لرءوس الآي.(11/16)
حجية العمل بالسنة
قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143].
قبل أن نستطرد في شرح هذه الآية، هل في هذه الآية دليل على حجية السنة من القرآن؟ قد نسمع بعض الضالين المنحرفين يقولون: لا حجة إلا في القرآن، ونحن لا نعترف بالسنة! فإذا أردت أن تفحمهم، وتقيم عليهم دليلاً من القرآن نفسه، لو كانوا قرآنيين فعلاً ويحترمون القرآن لالتزموا بهذا الدليل من القرآن، هل هذه الآية تثبت حجية الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) جعلنا، النون تعود على الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن القبلة الأولى هل كانت بشرع الله أم بشرع الرسول عليه الصلاة والسلام؟ الرسول إذا شرع فإنما يشرع بإذن الله، لكنها ثبتت بمعنى آخر عن الله سبحانه وتعالى، فالذي أمر باستقبال البيت هو الله، ومن الذي أمر باستقبال بيت المقدس في أول الأمر؟ هل يوجد في القرآن دليل أو أمر يقول للمسلمين: استقبلوا بيت المقدس في الصلاة؟ أين هذا الدليل؟ الدليل على أن المسلمين كان عليهم أن يستقبلوا بيت المقدس في الصلاة لا نجده في القرآن الكريم، وإنما نجده فقط في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول: (وما جعلنا) فمن الذي جعل؟ هو الله، جعله في السنة؛ لأن السنة وحي مثل القرآن، فهذا من أوضح الأدلة الموجودة في القرآن -وما أكثرها- على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) يعني كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها جعلناكم أمة وسطاً، يعني عدولاً خياراً، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] خياراً عدولاً، كقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28] يعني: أعدلهم وأفضلهم، ويقول زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) تعليل للجعل المنوه به الذي تمت المنة به عليهم، أي: ما جعلناكم أمة وسطاً إلا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً.(11/17)
شهادة الرسل على أقوامهم
يتكرر في القرآن الكريم وصف الأمة بالشهادة، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً بالشهادة، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، فالشهود والشهادة هي الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر وإما بالبصيرة، وقد يقال للحضور كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، فكلمة الشهادة أولى بالحضور وإن كانت تقال على الحضور أو المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة، لكن الأصل فيها والأغلب أنها تكون في الحضور بالبصر، ويقال للمرأة التي يحضرها زوجها: مشهد، ولذلك سألت عائشة رضي الله عنها المرأة يوماً، قالت لها: أمشهد أم مغيب؟ يعني: زوجك حاضر أم مسافر.
وجمع مشهد مشاهد، ومنه مشاهد الحج، لماذا؟ لأنها تحضرها الملائكة ويحضرها الأبرار من الناس، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] يعني: يحضروا، وقال تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} [النور:2] يحضرون ويرون بالبصر، وقال تعالى حاكياً عن قوم صالح: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل:49] ما حضرنا، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] أي: لا يحضرون بنفوسهم ولا يسمعون بإرادتهم مجالس الزور، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تحضره ملائكة الليل وملائكة النهار.
فالشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، هذا هو تعريف الشهادة، فأنت حينما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، تعني: أنك بعدما تدبرت ورأيت الآيات واستحضرت معناها شهدت بهذه الآيات على وجود الله سبحانه وتعالى وتوحيده، فالشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، وليس عن تقليد، وقال تعالى: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] أي: أحضروا وشاهدوا خلق الملائكة؟ ثم قال تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف:19].
ومن ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] أي: على هؤلاء المشركين شهيداً، وقال تبارك وتعالى: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:69 - 70]، قيل: الشهداء وصف للأنبياء أنفسهم؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فشهيد كل أمة هو رسولها، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109].
وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [النحل:89]، ويقول تعالى هنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] (وسطاً) أي: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط هم الخيار العدول: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وهذا المعنى معروف في لغة العرب، ومنه قول زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقوله تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيداً)، لم يبين هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو في الآخرة؟ ولكنه بين في موضع آخر أنه يكون شهيداً عليهم في الآخرة، وذلك في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42].(11/18)
معنى وسطية الأمة
يقول القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) المعنى: كما أن الكعبة وسط الأرض، وهذا اكتشاف علمي اكتشف حديثاً، وهناك بحوث علمية مؤكدة بأن مكة هي مركز اليابس على سطح الكرة الأرضية، فانظر كيف استنبط القرطبي هذا المعنى من القرآن، يقول: كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أيها الأمة أمة وسطاً، أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم.
أي: أنتم أقل من الأنبياء وفوق كل أمم الأنبياء، فأنتم خير أمة أخرجت للناس، هذا أحد معاني الوسطية.
والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، وأفضل الأشياء الوسط.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) قال: (عدلاً)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي التنزيل الكريم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم، وقال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن في الأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططاً وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه وأكثره كلأً وماءً، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي هذه الأمة أمة وسط، يعني أنها مبرأة من الغلو أو التطرف كما يقولون على المصطلح الشائع الآن، فالتطرف أخذ الأشياء بطرف الأمور: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الخوادث حتى أصبحت طرفاً فالأخذ بأطراف الأمور سواء في الإفراط أو التفريط، الغلو أو الجفاء، هو التطرف، وذلك كأن تكون مغالياً في التعامل مع الأمور أو في فهمها، فهذه الأمة مبرأة من هذا الوصف، وكما ذكرنا من قبل مراراً: أن التعريف الوحيد الصحيح للمتطرف: هو كل من عدا المسلم من أهل السنة والجماعة، فكل رجل على غير ملة الإسلام فهو متطرف قطعاً ولا شك في ذلك، فاليهودي والنصراني والمجوسي والمشرك كلهم متطرف، وكل من ليس من أهل السنة والجماعة من المسلمين فهو أيضاً متطرف، فالخارجي متطرف، والمرجئ متطرف، والجبري متطرف، والقدري متطرف وهكذا، في كل قضية هناك طرفان ووسط، فالمعتدل الوحيد في هذا الوجود هو أولاً: المسلم، ثانياً: الذي يكون من أهل السنة والجماعة، وكل من خالفه في عقيدته ومنهجه فهو المتطرف.(11/19)
شهادة أمة محمد على غيرها من الأمم
هذه الأمة أمة وسط لأنها لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم, ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو حتى عبدوا المسيح عليه السلام، واليهود جفو حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ورموهم بعظائم الأمور، وفي الأثر: (خير الأمور أوسطها)، وثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول الله سبحانه وتعالى لنوح عليه السلام: من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، فذلك قوله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) [البقرة:143]).
من أين ستشهد هذه الأمة أن نوحاً بلغ؟! لأنهم يؤمنون بالقرآن، والقرآن حكى لنا أن نوحاً عليه السلام بلغ أمته، وهو خبر الله سبحانه وتعالى الذي لا مراء فيه.
وفي رواية ابن المبارك: (ستقول فيكم الأمم: كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟! فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى-يعني للمسلمين-: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا، فيقول الرب: صدقوا، فذلك قول الله عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)).
وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب ثناء الناس على الميت، حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت؛ لأن الشيء الثابت في صحة الوقوع كالواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل.
وقال أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي: المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، والبعض خصص ذلك بالصحابة رضي الله تعالى عنهم، والصواب أن ذلك يختص بالثقات المتقين.
ويقول تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا} [النحل:89]، وهذا أيضاً بنفس معنى هذه الآية الكريمة.
قوله تبارك وتعالى هنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، هذه اللام إما أنها لام الصيرورة والعاقبة، وإما أنها لام التعليل، فإذا قلنا: إنها لام الصيرورة والعاقبة، فالمعنى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً؛ فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطاً أن كنتم شهداء على الناس.
والناس هنا أهل الأديان الأخرى، وإذا قلنا أنها لام التعليل وهذا هو الأصل فالمعنى: جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا: أي: لأجل أن تكونوا شهداء على الناس أي رقباء عليهم، لدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى، وإنجائهم مما هم فيه من الزيغ والضلال، كما كان الرسول شهيداً عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم، وعلى هذا القول، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فكذلك هنا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا} [البقرة:143]، وهذا تعليل، أي: كي تكونوا شهداء على الناس، فالوسط بمعنى الخيار، وقد صرح به في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وإلى هذا المعنى يشير مجاهد في تفسيره لهذه الآية الكريمة حيث قال: لتكونوا شهداء لمحمد عليه الصلاة والسلام على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، لأنكم نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على الأمم.
يعني أن هذه الأمة نائبة عن الرسول عليه الصلاة والسلام في إقامة الحجة، فإذا قصرت هذه الأمة في ذلك فكيف يصلحون أن يكونوا شهداء؟ وكيف تكونون شهداء وأنتم ما بلغتموهم وقصرتم في إقامة الحجة عليهم؟ فلا بد أن نُشهِد نحن الأمم جميعاً على أحقية إرساله صلى الله عليه وسلم إليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة هذه الأمة كما وصفها الله تبارك وتعالى بذلك في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وكما وصف نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157]، ووصف المؤمنين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].(11/20)
هذه الأمة هي أشرف الأمم على الإطلاق
نحن في هذا الزمان لابد أن نعرف مكان هذه الأمة التي ننتسب إليها، وهذا الدين الذي ننتسب إليه، نحن لسنا من سقط المتاع، ولسنا بذيول الأمم، وإنما الموقع الطبيعي لنا أن نكون في قمة البشرية، وأن نكون مهيمنين عليها لقيادتها إلى الخير وإلى ما يرضي الله تبارك وتعالى، فهذه الأمة هي أكمل الأمم على الإطلاق، وإذا تمسكت بالقرآن والسنة فحينئذ تكون أكمل الأمم وأعلى الأمم وأشرف الأمم على الإطلاق، وليس ذلك على أساس اللون ولا العنصر ولا الأجناس ولا الغنى ولا الدنيا؛ ولذلك ذم الله هؤلاء السفهاء الذين يفتنون بالكفار ويغترون بما آتاهم الله سبحانه وتعالى من متاع الدنيا وتقلبهم في البلاد، ولا يمكن أبداً أن يكون تفضيلهم للكفار على أساس دينهم، وإنما تفضيلهم لهم على المسلمين هو على أساس أي شيء من أمور الدنيا، أو عرض من أعراضها: الغنى، المباني، الجمال، الخضرة، التفوق في أمور الدنيا، لكن لا يمكن أبداً أن يكون ذلك تكريم، قارن في أي شيء من أمور الدين وفي أمور الآخرة ستجدهم في أسفل سافلين بل أحط من البهائم والأنعام كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، ولذلك ندبنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر في الدين إلى من هو فوقنا، وننظر في الدنيا إلى من هو أسفل منا؛ كي لا نزدري نعمة الله علينا، فالذين يفتنون بهؤلاء الكفار يعكسون وصية النبي صلى الله عليه وسلم ويخالفونها، فهم ينظرون إلى من فوقهم في الدنيا، ولا ينظرون لحالهم في الدين!! فانظر لأي وجه من وجوه الافتتان بما عليه الكفار الآن، وماذا يساوي بالنسبة لبعدهم وانسلاخهم عن الدين! فهم كفار مشركون، يعبدون الشركاء والأنداد من دون الله، وانظر في أخلاقهم تجد الفساد والعناد والإجرام والانحراف، انظر إلى أخلاقهم في التعامل مع الأمم تجد الظلم والقهر والإذلال، وانظر لكل شيء من أمور الدين وأمور الآخرة تجدهم صفراً، فهم كالأنعام بل هم أضل من الأنعام، يعيشون للشهوات ويعيشون للدنيا، فالذي يفتن بهم لا يفتن إلا بسبب الدنيا، لكن إذا عظم الدين في قلبه لاحتقرهم ولعاداهم ولأبغضهم كما أرشدنا الله تبارك وتعالى، فنحن المسلمين لسنا من سقط المتاع، نحن أفضل أمة على الإطلاق إذا تمسكنا بالقرآن والسنة، فأكمل الأمم عقولاً وأهداها سبيلاً هي الأمة المحمدية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما قد ملأ العالم نوراً وهدى) وهذا نلمسه الآن بأيدينا في ظل انحطاط هؤلاء المشركين، وكيف أن أمة المسلمين -على ما فيها من الضعف- أهدى الأمم عقولاً، وأنضجها عقولاً، وأقومها بأمر الله تبارك وتعالى.(11/21)
من مظاهر وسطية وخيرية هذه الأمة
نقرأ الرسالة التي أرسلها شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جماعة عدي بن مسافر -فنتلوها عليكم باختصار لأن فيها فوائد عظيمة جداً متعلقة بهذه الآية ولا نستطيع أن نمر عليها مراً عابراً سريعاً- يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة، ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله وعما مضت عليه جماعة المسلمين -يعني أهل السنة، فهم ليسوا فقط أهل سنة ولكنهم أيضاً أهل جماعة يجتمعون- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة رواه عنه أهل السنن والمسانيد كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: (ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) هذا هو المقياس للفرق الناجية عن النارية، وهذه الفرقة الناجية هي أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين -يعني وسط في مواقفهم من هؤلاء- لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أرباباً، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80].
ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً، حتى جعلوه ولد زنا كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]-لأن اليهود ينكرون النسخ، ويعيبون المسلمين بوقوع النسخ، وأنكروا رسالة المسيح أيضاً؛ لأن المسيح أتى بنسخ بعض الشرائع في التوراة- فاليهود يعيبون النسخ وينكرونه، ولذلك أنكروا نسخ القبلة، وحكى الله أيضاً بقوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، كذلك فالمسلمون لم يجوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر ذلك عنهم بقوله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! ما عبدوهم! قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم) والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: إن الله يحكم بما يريد، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيماً، كذلك في صفات الله تعالى فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا -والعياذ بالله-: يد الله مغلولة، وقالوا -والعياذ بالله-: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك، والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا: إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب، والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له، فقراء إليه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
ومن ذلك أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب -وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء والكليتين- ولا الجدي في لبن أمه إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً من المحرمات -أما المحرمات من الطعام في الإسلام محصورة وضيقة جداً- والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت -يعني لا يعيشون معها في البيوت-، وأما النصارى فاستحلوا الخبائث، -أي: عكس التشديد الذي كان عند اليهود- أما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فإذا كان هذا حالهم أيضاً في الحلال والحرام، فكيف نعت الله المؤمنين في هذا الباب، يقول تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].
وهذا باب يطول وصفه.
وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله وبين المفسدين لدين الله، بين المجبرة وبين القدرية إلى أن يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء) ثم ناقش بالتفصيل طرفي النقيض في هذا الموضوع بين الفرق الضالة، كما ذكر وسطية هذه الأمة أهل السنة والجماعة في شأن الصحابة بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه ويبن هؤلاء الجفاة الذين يعادونه ويعادون عثمان رضي الله تعالى عنه.(11/22)
تفسير قول الله عز وجل: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] أي ما شرعنا القبلة، كقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة:103] إلى آخره، يعني: ما شرعها، {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] ليست هذه الجملة صفة للقبلة، وإنما هي صفة ثاني مفعولي جعل، أي: وما جعلنا القبلة والجهة التي كنت عليها أي: في مكة.
تستقبلها قبل الهجرة، يعني: الكعبة، وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، أو بمعنى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] يعني التي أنت عليها أو التي صرت إليها الآن، كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] يعني أنتم خير أمة، فكنت أنت عليها، أو التي كنت عليها حريصاً، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] يعني تطلبها، أي: حريصاً عليها وراغباً فيها، والدليل على هذا قوله تعالى فيما بعد ذلك: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] يعني لشدة حرصه على أن تحول القبلة.
{إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] يعني الحكمة في هذا التشريع؛ لنعلم من يتبع الرسول في كل ما يؤمر به، فيثبت عند تقلب الأحكام لما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له على أي حال {مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] أي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر ممن كان يظهر الاتباع، وأصل المنقلب على عقبيه هو الراجع مستدبراً في الطريق الذي كان قد قطعه منصرفاً عنه، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير.
قال ابن جرير: قد ارتد في محنة الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم في القبلة رجال ممن كان قد أسلم، يعني: هذا الامتحان والابتلاء بتحويل القبلة تسبب في ارتداد بعض من كان من المسلمين، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم فقالوا: ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا، وقال المسلمون فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت؛ لأن أول ما نسخ هو القبلة؛ فلذلك كان هذا الابتلاء وهذا الامتحان عظيماً حتى أن من المسلمين من قال: بطلت صلاتنا فيما مضى أي: التي كنا نستقبل فيها بيت المقدس، وكذلك بطلت صلاة إخواننا الذين ماتوا وهم لم يشهدوا هذا التحويل! وقال المشركون: تحير محمد في دينه، فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصاً لهم، ومعنى قوله تعالى: {عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] تثنية عقب، وهو مؤخر القدم، والانقلاب عليهما مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:23]، ومثل قوله {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [العلق:13].(11/23)
علم الله تبارك وتعالى
قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] هناك خلاف في تفسير هذه الآية، وباختصار شديد نقول: إن العلم الذي ينسب إلى الله سبحانه وتعالى نوعان: علم غيب، وعلم شهادة، فعلم الغيب هو: علم الله قبل التكليف، وعلم الشهادة هو: العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون منا، وكل ما يأتي فالله تعالى يعلمه، والله سبحانه لا يحاسبنا طبقاً لعلمه السابق، وإنما يحاسبنا بعد وقوع ما علمه فينا، فهذا هو الذي يترتب عليه الجزاء، فقوله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، وكذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، فظاهر هاتين الآيتين قد يتوهم منه الجاهل أن الله يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!! وهذا كفر والعياذ بالله؛ لأن العلم إذا كان حادثاً في حق الله سبحانه وتعالى فمعنى ذلك أن عدم وجوده يكون صفة نقص، وإذا كان يحدث له علم من جديد فمعناه أن هذا العلم لم يكن من قبل! وهذا وصف لله سبحانه وتعالى بعكس العلم والعياذ بالله، وهذا كفر، وهو ما يتوهمه بعض الجهال، لكننا نعلم قطعاً أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، فهو يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32]، وقال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] وهذا يعني أن الله يعلمها، وبين الله تبارك وتعالى أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه فقال عز وجل: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] فانظر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] بعد قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ} [آل عمران:154] فهو دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنه إذا كان عليماً بذات الصدور فهو غني عن الاختبار، لا يعزب عنه مثقال ذرة، فنحن نتوقف عند هذا اللفظ بالذات لأن هذا يتكرر في الآيات كثيراً.
فهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] فيها بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، فقوله {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] يعني: حتى نعلم علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا لا ينفي أنه كان عالماً به قبل ذلك، بل هو يعلم قبل ذلك، لكن علم الماضي الذي هو صفة من صفات الله لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، فالله لا يعاقبك طبقاً لعلمه فيك، لكن يعاقبك طبقاً لما عملته، وهو موافق لعلمه السابق، وفائدة هذا الاختبار: ظهور الأمر للناس، والله هو عالم السر والنجوى، عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه الجزاء؛ لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم، فتأويله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31] أي: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة؛ لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء والثواب والعقاب يقع على علم الشهادة، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: نختبرها ونظهرها.
وقال الطبري رحمه الله: ولنبلونكم -أيها المؤمنون- بالقتل وجهاد أعداء الله، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31] يعني: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهلَ الجهاد في الله منكم وأهلَ الصبر على قتال أعدائه، فيظهر ذلك لهم، ويَعرف ذوي البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة، وأهل الإيمان من أهل النفاق، يقول تبارك وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] وهذه الآية تؤيد هذا التفسير، (حتى نعلم) يعني: حتى يعلم حزبي وأوليائي المؤمنين الصادقين من المنافقين الكاذبين، لأن الله تبارك وتعالى أخبر أن معرفة الناس وتمييزهم الغرض منه أن ينكشفوا لأولياء الله، فيعلم من المؤمن ومن المنافق، من الصادق ومن الكاذب، وهذا يحتمل أن يكون من طريقين: إما وقوع الابتلاءات ثم يتمايز الناس ويظهرون من خلال الابتلاء، وإما من طريق آخر هو معرفة الغيب، وليس هناك سبيل لغير الله أن يعرف الغيب، وليس هناك سبيل للاطلاع على حقائق الناس من خلال معرفة الغيب؛ لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]؛ لهذا فإن الباب مسدود في حق البشر والمخلوقين، ولا يعلم الغيب إلا الله، فلم يبق إلا طريق واحد فقط حتى يعرف الناس الخبيث من الطيب، وهو وقوع الابتلاء في الجهاد وغيره (حتى نعلم) يعني: حتى يعلم أوليائي ويتميز الناس؛ ولذلك يقول تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران:179] من اختفاء أموركم وعدم ظهور حقيقة إيمانكم {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] يعني: حتى يميّز أوليائي وحزبي الخبيث من الناس من الطيب، فلا سبيل إلى ذلك إلا بالاختبار والابتلاء وإظهار علم الشهادة حين تقع هذه الأعمال.
يقول الإمام ابن جرير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس إلى الرئيس، وما فعل بهم إليه، فمثلاً تقول: فتح عمر بن الخطاب سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحاب عمر وجنوده، ونسب إليه لأنهم يأتمرون بأمره، فهو سبب في ذلك، كما قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين! مصر الله بك الأمصار، وفتح بك البلاد، فقوله: (بك) لأنه كان سبباً لذلك، أما الذي فتح فهم جنوده، فهذه هي عادة العرب، ونظيره حديث أبي هريرة في مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمك أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) فهنا نسب الله سبحانه وتعالى المرض والاستسقاء والاستطعام إلى نفسه، وكان ذلك لغيره.
وحكي عن بعض العرب سماعاً: أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري، ومعنى ذلك أن بعض العرب كان يشتكي، أو أن المقصود التعبير عن جوع أهله وعياله وعري ظهورهم، كذلك قوله تعالى هنا: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة:143] يعني ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي، {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] والتاء في قوله: (وإن كانت) تعود على التولية أو الجعل أو التحويل أي: التولية إليها أو الجعل أو التحويل (لكبيرة) أي: ثقيلة شاقة؛ لأن مفارقة الإلف بعد طمأنينة النفس إليه أمر شاق جداً، {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] يعني هدى الله قلوبهم فأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنهم كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً، لكن يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، يقول تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125]، ويقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].(11/24)
عدم ضياع أعمال المؤمنين
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] هذا تطمين، طمأنة لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين.
ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبيان أنهم يثابون على ذلك، يعني ما دمتم في الحالتين أطعتم أمر الله فلم تبطل صلاتكم كما توجستم، فقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء قال: وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي صلاتكم، وإنما عدل إلى لفظ الإيمان الذي هو عام في الصلاة وغيرها ليوحي لهم أنه لم يضع شيء مما عملوه ومن ثم يصح منهم، فينبغي أن يكون المسئول عنه حكماً أولياً ويكون الحكم في الإجابة كلياً.
وقوله عز وجل هنا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أتى بلفظ الخطاب دون الغائب ليتناول الماضين والباقين، لتغليب حكم المخاطب على الغائب في اللفظ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة، فلم يحبط الله صلاتهم إلى بيت المقدس لأنه رءوف رحيم، هذا تعليل بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة، فإن الله سبحانه وتعالى لأنه رءوف رحيم بكم لا يمكن أبداً أن يحبط صلاتكم إلى بيت المقدس، يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان -فالمرجئة يعتبرون أن الإيمان هو المعرفة فقط، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان ومنها الصلاة- فهذه الآية رد على المرجئة، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فسمى الصلاة إيماناً.(11/25)
تفسير سورة البقرة [144 - 154](12/1)
تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء)
لما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود؛ أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144].
هذه الآيات جاءت بعدما أخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين مسبقاً أنه سيحصل تحويل للقبلة، وأن السفهاء من الناس سوف يخوضون في هذا الأمر، {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:142 - 143].
فلما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة المشرفة لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وهي مفخرة العرب ومزارهم، وأيضاً لشدة حرصه على مخالفة أهل الكتاب واليهود؛ أجابه الله تبارك وتعالى إلى تطلعه بقوله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] و (قد) هنا للتحقيق، وليست للتقليل، وهي تأتي للتقليل وتأتي أيضاً للتحقيق كما هنا، (قد نرى) لتأكيد وقوع هذه الرؤية، يقول السيوطي: (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أي: في جهة السماء، متطلعاً إلى الوحي، ومتشوقاً للأمر باستقبال الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم؛ ولأنه أدعى إلى إسلام العرب؛ لأن العرب أيضاً يعظمونها، فإذا حولت القبلة إلى الكعبة المشرفة فهذا سيكون فيه تأليف لهم، وجذب لقلوبهم نحو الإسلام؛ لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام.
وفي هذه الآية الجليلة بيان لحسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينتظر، ولم يسأل ربه تبارك وتعالى ذلك، وإنما كان يتطلع بقلبه ويتطلع بعينه، وينظر إلى السماء منتظراً ومتشوقاً إلى نزول الوحي بالأمر باستقبال الكعبة المشرفة.
يقول تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] (فلنولينك) أي: لنحولنك إلى قبلة (ترضاها) أي: تحبها {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] (فول وجهك) يعني: في الصلاة، فاستقبل في الصلاة المسجد الحرام، (شطر) يعني: نحو (المسجد الحرام) أي: الكعبة المشرفة، وإنما لم يقل: فول وجهك شطر الكعبة؛ لأن المقصود استقبال الجهة، وليس عين الكعبة، وعين الكعبة معناه جسم الكعبة، وهذا يكون لمن هو قريب منها، أما من بعد عنها فإنه يستقبل الجهة فقط؛ ولذلك تكون الصفوف حول الكعبة مستديرة، لأنهم لو وقفوا بصورة صفوف مربعة في الجهات فإن الذين عند الأركان والزوايا لن يستقبلوا الكعبة، فلذلك لا بد على من كان مستقبلاً أحد الأركان أن يستقبل جسم الكعبة، وألّا ينعطف، بل يقع امتداد جسمه على جسم أو عين الكعبة المشرفة، فالقريب من الكعبة يجب عليه أن يستقبل عينها، ولذلك فالصفوف تكون مستديرة؛ لأنه بالاستدارة فقط يحصل هذا الاستقبال لكل المصلين.
أما من بعد عن الكعبة فواجبه أن يستقبل جهتها؛ ولذلك قال تعالى هنا: ((فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ)) أي استقبل في الصلاة (شطر) أي نحو (المسجد الحرام) ولم يقل: الكعبة، وإن كان المقصود هو الكعبة.
((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)) حتى يدفع الله تبارك وتعالى احتمال الخصوصية؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا الأمر كالأمر بقيام الليل خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك نص الله تبارك وتعالى على الأمر باستقبال الكعبة لسائر المؤمنين كي يدفع احتمال الخصوصية في ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)) الخطاب هنا للأمة، والمقصود ولوا وجوهكم في الصلاة؛ لأن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة.
((وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه أي: التولي إلى الكعبة، (الحق) أي: الثابت (من ربهم) لما في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتحول إليها.
((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) والخطاب هنا للمؤمنين، أي: عما تعملون أيها المؤمنون من امتثال أمره، والقراءة الأخرى بالياء ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) يعني: اليهود، والله ليس بغافل عما يعملون مثل استنكار أمر القبلة المشرفة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أما خطابه الخاص للنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) فتشريفاً له وإجابة لرغبته، وأما خطابه العام بعده فهو خطاب للأمة (وحيث ما كنتم) أيها الأمة؛ لأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه الصلاة والسلام به كما خص بقوله تبارك وتعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، ولأنه لما كان الأمر في تحويل القبلة أمراً له فقط خصهم بخطاب مفرد؛ ليكون ذلك أبلغ؛ وليكون لهم في ذلك تشريف؛ ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به، وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة.
((وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذا ينطبق على ما تقدم ذكره، فإما أن يكون الضمير في (أنه) يعود إلى الرسول أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله تبارك وتعالى، وإما أن يكون المراد القبلة نفسها، فجاز أن يكون المراد بقوله: ((لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها، ويحتمل أن يرجع الضمير في (أنه) إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وهذا المعنى هو الأقرب للسياق، فاليهود كانوا يعلمون مما في كتبهم أن الكعبة هي البيت العتيق التي جعلها الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق، فكان هذا التحويل حقاً، ففي هذه الحالة هم يلزمون بذلك، وعلى كلا الاحتمالين فهم يعلمون أن هذا الأمر حق من عند الله تبارك وتعالى.
يقول القاسمي: وثم وجه آخر في علمهم أحقية ذلك التحويل، وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وبيانه: أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ولكافة من اتبعه باستقبال الكعبة من جملة الاستعلان الذي هو مذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية، ويسمى: سفر الاستثناء، وهذا موجود في التوراة إلى اليوم: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، -يعني: أن موسى قبل موته ذكر بني إسرائيل بهذه البشرى- فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران)، وفي بعض الألفاظ الأخرى: (واستعلن من فاران).
فهذه البشارة تنبيه على موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، فالله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء وأشار إلى هذا بقوله: (جاء الرب من سيناء).
وأشار إلى نزول جبريل على عيسى عليه السلام بقوله: (وأشرق لهم من ساعير)، وساعير: هي البلدة التي ولد فيها المسيح عليها السلام، وذلك في قرية تدعى الناصرة.
وقوله: (وتلألأ أو استعلن من جبل فاران)، تلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، وأهل الكتاب لا يشكون أبداً أن كلمة فاران في كتبهم تعني: جبال مكة، أي: الجبال المحيطة بمكة، يقول القاسمي: ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب، فأهل الكتاب يعترفون فعلاً بأن فاران هي مكة، ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين يحاور إسماعيل عليه السلام هكذا: (وكان الله مع الغلام فكبر وكان ينمو رامي قوس، -كما جاء في الحديث: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) عليه السلام- وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران)، وفاران هي: الجبال المحيطة بمكة، فلا شك أن إسماعيل عليه السلام سكن في مكة، وفيها عاش وبها دفن.
يقول ابن الأثير: وفي الحديث ذكر جبل فاران وهو من جبال مكة بالعبراني، له ذكر في أعلام النبوة.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى قريب من هذا المعنى في سورة التين، يقول تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] وهذا تأييد لهذه البشارة التي بشر بها موسى عليه السلام، (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) والبلد المعروف بالتين والزيتون: فلسطين، وهي الأرض المباركة التي منها ساعير حيث ولد المسيح عليه السلام، فهذه إشارة إلى رسالة المسيح عليه السلام، (وَطُورِ سِينِينَ) وهو طور سينا، فهذه إشارة إلى رسالة موسى عليه السلام، (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) وهذه إشارة إلى مكة المكرمة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأهل الكتاب يعلمون أن تعظيم القبلة واستقبالها في الصلاة كان فعل إبراهيم وإسماعيل، وأنها تدخل في(12/2)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك إنك إذاً لمن الظالمين)
ولما ذكر تعالى أن أهل الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة، وأن الاستكبار عن الانقياد للحق صفة راسخة ثابتة فيهم لا تتبدل ولا تتغير، فأقسم الله تبارك وتعالى بعد هذه الآيات مباشرة فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْض} [البقرة:145] (ولئن) هذه لام القسم ((أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ)) يعني على صدقك في أمر القبلة، ((مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)) أي: لا يتبعون قبلتك، ولا يوافقونك أبداً في اتباعها عناداً واستكباراً، ((وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) فاستقبال القبلة من الأمارات والعلامات المميزة للمسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو المسلم) ((وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) وفي هذا قطع لطمعه في إسلامهم، وطمعهم في عودته إليها، فلن يعود أبداً إلى استقبال بيت المقدس.
{وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي: أن اليهود لن يتبعوا قبلة النصارى ولا العكس.
((وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ)) يعني التي يدعونك إليها ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)) يعني من الوحي ((إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)) يعني: إن اتبعتهم فرضاً فإنك من الظالمين.
يقول تعالى: ((وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ)) أي: من اليهود والنصارى (بكل آية) أي: برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق، (ما تبعوا قبلتك) أي: التي حولت إليها؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة بل قد قامت عليهم الحجة، ولو كانوا تركوا اتباعك والانقياد للإسلام عن شبهة عندهم، ثم أتيت لهم بالحجج التي تزيل هذه الشبهة فقد يتبعونك، والذي ينحرف عن الحق يكون لأحد سببين: إما بسبب الجهل، أو الهوى والعناد والاستكبار والجحود، فأما الجاهل فإنه يعالج بالعلم وإقامة الحجة، وأما مرض الهوى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]، وهنا يبين الله تبارك وتعالى أن مخالفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليست ناشئة عن شبهة عندهم، وإلا لكان يمكن أن تعالج بإقامة الحجة، لكن هي ناشئة عن عناد وجحود وتكبر عن الحق، وبالتالي لن تنفع معهم الحجج {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما} يعني مهما تأت بآية ((ما تبعوا قبلتك)) أي: لن ينقادوا إليك؛ لأنهم امتنعوا عن اتباعك لا عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، وإنما عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق، ((وما أنت بتابع قبلتهم)) وهذا حسم لأطماعهم في العود إليها، أو للمقابلة يعني: ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك، ((وما بعضهم بتابع قبلة بعض)) يعني فلا اتفاق بين فريقيهم مع كون الكل من بني إسرائيل.
قال الزمخشري: أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم -المسلمون- لا يتخلى عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده، وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدي بعضهم، يعني: تيئيس له وقطع لطمعه في إيمانهم.
قال الراغب: إن قيل: كيف أعلن بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ -فالمعلوم أن من أهل الكتاب فريقاً قد آمنوا وأسلموا، فكيف نفهم معنى قوله تبارك وتعالى: (ما تبعوا قبلتك)؟ - قيل: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، فهذا الحكم يعم الأغلب، فإذا شذ البعض فإنه لا ينافي هذا الحكم الكلي، بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا، وقد آمن بعضهم، لم يكن منافياً، وقيل: عني به أقوام مخصوصون.
أيضاً في قوله تبارك وتعالى: (وما أنت بتابع قبلتهم) إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته فمن المحال أن يرتد، ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق، ومعنى ذلك: أن الإنسان الذي يرتد وينتكس لم يصل إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يصل إلى المعرفة بالله، أما الذي يصل حق الوصول فإنه لا يترك أبداً دين الله سبحانه وتعالى ومحبته؛ ولذلك فالذي يرجع إنما يرجع من أثناء الطريق قبل أن يصل؛ لأنه بعد أن يصل لا يمكن أبداً بعد أن يتمكن من معرفة الله سبحانه وتعالى وحبه أن يؤثر عليه غيره؛ ولذلك قالوا: ما رجع من رجع إلا من الطريق، أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول.
وفي هذه الآية الكريمة أيضاً تنويه بفضل العلم، حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم؛ فلذلك ننبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، وذلك إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فأطلق لفظة العلم على الوحي والنبوة والدلائل والمعجزات، فدل على أن العلم أشرف المخلوقات لأنه ينتظم في معنى هذه الأمور الشريفة.
ودلت الآية على أن توجه الوعيد إلى العلماء أشد من توجهه على غيرهم؛ لقوله تعالى: (من بعد ما جاءك من العلم).(12/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)
قال عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] أي: يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم (كما يعرفون أبناءهم) أي: بنعته في كتبهم، قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد صلى الله عليه وسلم أشد، يعني من شدة انطباق الصفات الموجودة في التوراة وفي الكتب السابقة في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو يعرفه أشد من معرفته ابنه مع أن ابنه رآه بنفسه، وهذا وصف عن غيب لم يره، لكنه لما رآه صارت معرفته بالرسول صلى الله عليه وسلم أشد من معرفته بابنه؛ ولذلك أسلم عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ومن هذه البشارات قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] حتى صفات الرسول عليه الصلاة والسلام الجسدية وجدت في التوراة، ومن أبرزها ختم النبوة أو خاتم النبوة، وإلى اليوم فإن الإشارة إلى ختم النبوة وإلى العلامة التي بين كتفيه موجودة في التوراة وفي كتبهم، فهو لا يلتبس عليهم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلا تلتبس أشخاص أبنائهم بغيرهم، فشبه المعرفة العقلية الحاصلة بمطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية؛ لأن كلاً منهما يقيني لا اشتباه فيه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه: أتعرف محمداًَ كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه، فقبل عمر رأسه.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة:146] وإن من أهل الكتاب مع ذلك التحقق ومع ذلك الإيقان بصفته، (ليكتمون الحق) أي يخفونه ولا يعلنونه، (وهم يعلمون) أي: وهم يعلمون الحق، ويعلمون عاقبة ترك الحق، ولم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإن فريقاً منهم ليكتمونه وهم يعلمون؛ لأن في إظهار كلمة الحق وتفضيلها على الضمير إشارة إلى طبيعة هذا النبي، ولكنهم ينكرونه ويجحدونه (وهم يعلمون) وفي هذا إشارة إلى فظاعة ذنبهم، لأن المرتكب ذنباً عن جهل ليس كمن يرتكبه عن علم؛ ولذلك قال تعالى: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) الحق من ربك: يعني الحق كائن من ربك، (فلا تكونن من الممترين) أي: الشاكين في هذا الأمر، فلا تكونن من هذا النوع، وهذا أبلغ من قوله: الحق من ربك فلا تمتر، ولكن قال: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) يعني الشاكين، يقول الراغب: وليس هذا نهياً عن الشك؛ لأن الشك لا يكون بقصد من الشاك، بل قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين) حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].(12/4)
تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً)
قال تبارك وتعالى: ((ولكل وجهة هو موليها)) ولكل من الأمم (وجهة) أي: قبلة (هو موليها) يعني: موليها وجهه في صلاته، وفي قراءة: (ولكل وجهة هو مولاها) أي مأمور بالتوجه إليها، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] أي: بادروا إلى الطاعات وخذوا بها، {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة:148] أي: يجمعكم يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].(12/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)
ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر، فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:149] وهنا إنشاء حكم جديد بخلاف الآيات المشابهة لذلك عما قريب، (ومن حيث خرجت) أي: لسفر (فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) أو (عما يعملون) بالياء وبالتاء، فكرره لبيان أن حكم السفر وغيره سواء، فالمسافرون وغيرهم يستوون في اشتراط استقبال القبلة ما أمكن ذلك، فقوله عز وجل هنا: (ومن حيث خرجت) أي: ومن أي بلد خرجت للسفر، لأنه في الآية السابقة يقول تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ثم قال (وحيث ما كنتم) أي: في حالة الإقامة، أما هنا قال: (ومن حيث خرجت) والخروج يكون في السفر، (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام).
ولما عظم أمر القبلة وذكر انتفاء أقوال السفهاء وتنوع ضربهم وجدالهم كان الحال مقتضياً لما فيه تأكيد لأمرها وتعظيمٌ لشأنها، وتوهيةٌ لشبههم؛ فلذلك كرر الله تبارك وتعالى أيضاً الإشارة أو التنبيه إلى أمر استقبال القبلة فقال للمرة الثالثة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150] يقول السيوطي رحمه الله تعالى: كرره للتأكيد، (لئلا يكون للناس) أي: اليهود أو المشركين، (عليكم حجة) أي: مجادلة في التولي إلى غيره، وتنتفي مجادلتهم لكم، من قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وقول المشركين: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، فهذا معنى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة) فإذا قلنا إن الناس المقصود بهم هنا اليهود لعنهم الله، فتكون الحجة هي: أن يكون لهم ما يحاجونكم ويجادلونكم به، وهو قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، أي: كيف تجحد ديننا ولا تكون مثلنا على اليهودية أو النصرانية، ثم تستقبل قبلتنا؟ فيكون في تحويل القبلة إلى البيت الحرام إبطال لهذه الحجة، فهو يخالف دينهم ويخالف قبلتهم.
وإذا قلنا: المقصود بالناس هم المشركون، فإن المشركين قالوا: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته! فكان في تحويل القبلة إدحاض لهذه الشبهة.
(لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) يعني بالعناد، فإنهم يقولون: ما تحول إليها إلا ميلاً إلى دين آبائه، والاستثناء هنا متصل، والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء، (فلا تخشوهم) يعني: لا تخافوا جدالهم في التولي إليها، (واخشوني) أي: بامتثال أمري، (ولأتم نعمتي عليكم) وهذا العطف هنا هو على قوله: (لئلا يكون) يعني إنما عليكم أن تمتثلوا هذا الحكم وتنصاعوا إليه، أولاً: لئلا يكون للناس عليكم حجة، وثانياً: لأتم نعمتي عليكم، يعني بالهداية إلى معالم دينكم.
قال العلماء في قوله: (ولأتم نعمتي عليكم) إن في هذا الجزء من الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بفتح مكة وكافة جزيرة العرب والأرض، (ولعلكم تهتدون) يعني: إلى الحق.(12/6)
تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم)
قال تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:151 - 152] في الآية السابقة في قصة إبراهيم عليه السلام قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فهنا الزاي والكاف قريبة من ختام الآية: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129] ففيها الزاي والكاف، ففي آخر دعاء إبراهيم عليه السلام أن يزكيهم، وفي آخر الآية العزيز الحكيم، والتزكية بالزاي والكاف قرينة للعزيز الحكيم، أما هنا فقال: (يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
قوله تعالى: (كما أرسلنا) هذا متعلق بأتم أي: (ولأتم نعمتي عليكم) كما أرسلنا، يعني: أتمها أتماماً كإتمامها بإرسالنا فيكم رسولاً منكم محمداً صلى الله عليه وسلم، (يتلو عليكم آياتنا) أي: القرآن، (ويزكيكم) أي: يطهركم من الشرك (ويعلمكم الكتاب) وهو القرآن الكريم (والحكمة) وهي ما فيه من الأحكام، وقد ذكرنا من قبل أن أي آية يأتي فيها ذكر الكتاب مقروناً بالحكمة في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فلا بد من تفسير الحكمة بأنها.
سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا باتفاق من السلف، (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
(فاذكروني أذكركم) يعني: اذكروني بالصلاة والتسبيح وغيره (أذكركم) يعني: أجازيكم، وفي الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى قال: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه) متفق عليه.
(واشكروا لي) أي: نعمتي بالطاعة (ولا تكفرون) يعني: بالمعصية.
(كما أرسلنا فيكم) يعني: أيها العرب (رسولاً منكم) المراد به أيضاً من العرب، وفي إرساله فيهم ومنهم نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، ولأن المشهور من حال العرب: الأنفة الشديدة من الانقياد إلى الغير، فهم لا ينقادون لغيرهم من الأمم، فبعث الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب.
(يتلو عليكم آياتنا) أي: يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم؛ لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فتؤدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة.
(ويزكيكم) أي: يطهركم من الشرك والأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق (ويعلمكم الكتاب) يعني: القرآن، وهذا ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم، ففي صدر الآية (يتلو عليكم آياتنا) فهذا مجرد تلاوة الآيات، أما هنا (يعلمكم الكتاب والحكمة) وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها؛ ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) إشارة إلى أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل، وجهالة من الأمم، والخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم، فبعث الله تعالى النبي بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم، فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة، وذلك من أعظم أنواع النعم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164]، وفي هذا ذم لمن لم يعرف قدر هذه النعم، ذم للذين لا يشكرون الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ونعمة القرآن والوحي الذي علمنا الله به ما لم نكن نعلم، وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] قال ابن عباس: يعني: كفراً بنعمة الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأعظم نعمة امتن الله سبحانه وتعالى بها على البشرية هي بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأولين والآخرين، فهم بدلوا نعمة الله كفراً، أنعم الله عليهم بالرسول فكفروا به وكذبوه وجحدوه وحاربوه، (وأحلوا قومهم دار البوار)، ومن أجل ذلك ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره، فبعدما قال تعالى: (كما أرسلنا) الآية قال: (فاذكروني) يعني: كما أنعمت عليكم بهذه النعمة فاشكروها لي، فهناك ربط بين أول هذه الآية وبين الآية التالية، (فاذكروني أذكركم واشكروا لي) أي: هذه النعمة ولا تكفروا بها، (فاذكروني أذكركم) أي: اذكروني -أيها المؤمنون- بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم، وقد كان بعضهم يتأول ذلك: أنه من الذكر بالثناء والمدح، وقال القاشاني: اذكروني بالإجابة والطاعة: أذكركم بالمجيب والثواب، وهذا هو معنى ما قبله، لأن الله تعالى يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] إذا ذكرتموني بإجابتي وبطاعتي وبعبادتي أذكركم بالمزيد من النعم وبتواليها عليكم، (واشكروا لي) يعني: فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته لكم، (ولا تكفرون) يعني: لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم.
وقال السمرقندي: النعمة في الحقيقة هي العلم، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة وليس بنعمة، فالعلم لا يمل منه صاحبه، بل يطلب منه الزيادة، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة وهي نعمة بعثه رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة، ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ووقائعهم جعل الله تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرً} [البقرة:200] فالانشغال بذكر الله سبحانه وتعالى بدل القعود فيما كانوا عليه في الجاهلية، فإنهم كانوا إذا انقضت المناسك يتفاخرون بالآباء والأجداد وبالعظام البالية الجاهلية، فالله تعالى يقول لهم: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً) أي: دعوكم من موضوع الافتخار بالآباء، وانشغلوا بذكر الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هنا لما علم أن من طباع العرب: ولعهم وشغفهم بذكر آبائهم ووقائع آبائهم جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضاً عن أشعارهم، فالقرآن عوض عن الشعر الذي كانوا يتناشدونه، وذكرهم الله وذكر الله إياهم عوض عن التفاخر الذي كانوا يتفاخرون به بآبائهم، فهز عزائمهم بذلك بما يسره به من ذكره لهم، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) أخرجه البخاري.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) والأحاديث في فضل الذكر متواترة، ويكفي فيه هذه الآية الكريمة: (فاذكروني أذكركم) جزاء أن تذكروا الله أن يذكركم الله، ولذلك بكى أبي بن كعب لما علم أن الله سبحانه وتعالى تكلم باسمه، قال: (أذكرني باسمي؟ قال: نعم، فبكى أبي رضي الله تعالى عنه) وهذا بلا شك شرف عظيم أن يذكرك الله، فاذكر الله يذكرك الله.
أما قوله: (واشكروا لي ولا تكفرون) ففيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها، فالكفر هنا كفر النعمة لا الشرك به، والكفر يطلق إما على الستر والتغطية، تقول: كفر البذر يعني: غطاه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] والتكفير للبذرة يعني دفنها في الأرض وكذلك الكفر هنا المقصود به: لا تكفروا نعمتي، وليس المقصود به هنا: كفر التكذيب، وقد وعد الله تعالى على شكره بمزيد الخير فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] قال ابن عطية: اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، واشكروا لي أفصح وأبلغ من الشكر.
فيمكن أن تقول: أشكرك، أو تقول: أشكر لك، وأشكر لك أفصح وأبلغ، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] والذي أتى في القرآن أن الشكر يتعدى باللام، فيكون أبلغ وأفصح.(12/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)
أرشد الله تعالى المؤمنين إثر الأمر بالشكر إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر الله عليها، أو أن يكون في نقمة فيصبر عليها، كما جاء في حديث صحيح مرفوع: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
وذكر تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وفي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى)، أي: كان إذا اشتد به الأمر أو نزل به الكرب يفزع إلى الصلاة.
ثم إن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات، وصبر على المصائب والكربات.
وذلك أن الصبر معناه حبس النفس، وبهذا المعنى فهو إما صبر على ترك المحارم والمآثم، وإما صبر على فعل الطاعات، وإما صبر على المصائب والكربات، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود، أما الصبر الثالث -وهو الصبر على المصائب والنوائب- فهو واجب كالاستغفار من المعايب، فإنك تستغفر من المعايب والذنوب لأنك الذي تسببت فيها، أما الصبر على المصائب فإنه لا اختيار لك فيها، بل يقدرها الله سبحانه وتعالى عليك؛ ولذلك فإننا نحتج بالقدر في المصائب، ولا نحتج به في المعايب، فلا يجوز لإنسان أن يرتكب معصية ثم يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل! بل الواجب في المعاصي أن تظل إلى أن تلقى الله وأنت تستغفر وتندم وتتوب، حتى تعلم حالك عند الله، أما المصائب فهي التي تقول فيها: إنا لله وإنا إليه راجعون، وتصبر وتحتسب.
وقوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} خص الصلاة ههنا بالذكر لتكررها وعظمها.
(إن الله مع الصابرين) يعني بالمعونة.
وهذه الآية من الآيات التي فيها ذكر معية الله سبحانه وتعالى لبعض خلقه: (إن الله مع الصابرين) وهذه هي المعية الخاصة؛ لأن من آيات القرآن ما تذكر فيها المعية مع الخلق كافة، ومنها ما يخصص الله سبحانه وتعالى بها بعض عباده، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وفي قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فهذه معية عامة بمعنى أن الله سبحانه وتعالى مع خلقه أجمعين، وهذه المعية ليست معية للذات -أي: ليس معناها أن ذات الله سبحانه وتعالى تختلط بذوات خلقه، معاذ الله- لكن هي معية للصفات، فهو سبحانه مع العباد بالعلم والمراقبة والشهادة والخبرة بأحوالهم.
وجاء أيضاً لفظ المعية خاصاً كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فهذه المعية المذكورة في هذه الآية لا تشمل فرعون وجنده وسحرته فهي معية خاصة.
كذلك قوله تعالى حاكياً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
فلو كان المراد: معنا بذاته، لكان التعميم يناقض التخصيص -يعني: لو أن معية الله سبحانه وتعالى هي بذاته لكان التعميم في بعض الآيات يناقض التخصيص في البعض الآخر؛ لأنه سيكون مع الجميع بذاته، تعالى الله عن ذلك- لكنه قد عرف أن قوله (لا تحزن إن الله معنا) أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار.
كذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] خصهم بذلك دون الظالمين والفجار.
وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أنه يراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فعندما تقول: سرت مع القمر، ليس معناه أن تختلط ذاتك بذات القمر، بل القمر في السماء وأنت في الأرض، وكذلك حينما ترسل ابنك أو أخاك إلى أطراف الأرض وتقول له: إنني معك، فلا تعني بذلك أن ذاتك مع ذاته، كما في قوله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] فليس فيها اختلاط الذوات.
وكذلك قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146]، وقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقوله تعالى: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:75] ومثل هذا كثير، فامتنع أن يكون قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] دالاً على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق.
وبين شيخ الإسلام أن لفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته لكل موقف بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد، وهي المعية الخاصة لأولياء الله من الأنبياء والمرسلين والصالحين، أما المعية العامة فهي لكل الخلق، فهو معهم بالسلطان أي: بالعلم بالقدرة وغير ذلك، لكن في الحالتين ليست تقتضي اختلاط الذوات، بل هو على العرش عليم بما يفعله خلقه تبارك وتعالى.(12/8)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)
قال عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] (ولا تقولوا) هذا عطف على قوله من قبل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) يعني: لا تقولوا: هم أموات مثل غيرهم من الأموات, بل موتهم ذو صفة خاصة، فهم ليسوا كغيرهم من الأموات، وهذا هو المقصود من النهي هنا.
(بل أحياء) يعني: بل هم أحياء، وأرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت كما جاء في صحيح مسلم.
(بل أحياء ولكن لا تشعرون) أي: لا تعلمون ما هم فيه.
ففي هذه الآية ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا للشهداء: هم أموات، بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأصبحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت؛ ولذلك الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: (لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) يعني: لا تقولوا: هم أموات مثل غيرهم من الأموات، (بل أحياء) يعني بل هم أحياء.
ويقول القاسمي: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا للشهداء: أموات، بمعنى لا تسووهم بالأموات، لا تظنوا أنهم أموات كالأموات الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: (بل أحياء) بل قولوا: هم أحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عمران: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
فقوله في هذه الآية الكريمة في آل عمران: (بل أحياء عند ربهم) هذا تفسير لهذه الآية: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، (بل أحياء) نفهمها من قوله: (أحياء عند ربهم).(12/9)
تفسير سورة البقرة [178 - 188](13/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، (كتب) أي: فرض (عليكم القصاص) القصاص مأخوذ من التتبع، اقتص الأثر يعني: تتبعه، أو من القطع؛ لأن الذي يقتص من الجاني يقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، أو من المساواة والمعادلة، فأصل معنى القصاص العدل والتساوي والمساواة.
((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)) أي: فرض عليكم المماثلة، ((فِي الْقَتْلَى)) يعني: المساواة في القتلى، والمراد في وصف القتلى، يعني: من حيث الحرية والإسلام وغير ذلك.
إذاً: القصاص في القتلى بمعنى المماثلة، والسؤال الذي نريد أن نطرحه الآن: ما وجوه العدل والمساواة عند القصاص؟ في الوصف وفي الفعل، في الوصف يعني: لا يقتل الحر بالعبد، بل كما قال الله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178]، وكذا المماثلة في الإسلام، فلا يقتل مسلم بكافر.
وتجب المماثلة بالفعل بأن يقتل القاتل بمثل ما قتل، فيقتص منه بنفس الطريقة التي قتل بها ذلك المقتول.
(والأنثى بالأنثى) وكذلك جاءت السنة بأن الذكر يقتل بها، فقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم برض -أي: بدق- رأس يهودي بين حجرين لرضه رأس جارية) رواه الشيخان.
كذلك تعتبر المماثلة في الدين، فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر، ولو حراً؛ لماذا؟ لأن للإسلام التميز، والإسلام كمال، والكفر نقص، فلا يسوى بينهما، فلا يقتل المسلم ولو عبداً بكافر ولو كان حراً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري.(13/2)
خلاف الفقهاء في القصاص
هناك خلاف بين العلماء في هذه الآية، وفي ذلك أحكام مفصلة جداً، لكن نقول على وجه الاختصار: قوله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) أي: المعادلة والمساواة بينهم، ((الْحُرُّ بِالْحُرِّ))، لكن الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ذهب إلى أن الكلام فيما يتعلق بالقصاص انتهى عند قوله تبارك وتعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) يعني: العدل مطلق هنا في القتلى، فالحر يقتل بالعبد، والمسلم يقتل بالكافر.
وقوله بعد ذلك: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ليس شرحاً لما تقدم، ولا ربط بين قوله: (كتب عليكم القصاص) وبين ما أتى بعدها، وعلى هذا الأساس فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجوز قتل المسلم بالكافر؛ أخذاً بعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45].
أما جمهور العلماء فذهبوا إلى قوله تبارك وتعالى: ((الْحُرُّ بِالْحُرِّ))، وقال الإمام أبو حنيفة: إن العلة في وجود كلمة: (الحر بالحر والعبد بالعبد) ليس المقصود بها المساواة، فيجوز أن يقتل الحر بالعبد أو المسلم بالكافر، لكن المقصود بها الرد على ما كان سائداً عند بعض القبائل العربية، فقد كان عندهم أن القبيلة إذا كانت في عز ومنعة وفرسان وقوة، فقتل منهم عبد؛ فيأنفون أن يقتل به عبد مثله، لكن يقولون: لا يقتل العبد منا بعبد ونحن أشهر القبائل، وأرفع القبائل، وأعزها وأمنعها، ولابد أن يقتل به حر، وإذا قتلت منهم امرأة فيقولون: لا نقبل قتل امرأة في مقابلها، لكن لابد أن يقتل بها رجل، وإذا قتل منهم وضيع يقولون: لا نقبل في مقابلته إلا شريف، وهكذا.
فلهذا أبو حنيفة يذهب إلى أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} إشارة إلى إسقاط هذا المعنى الذي كان سائداً في بعض القبائل العربية.
أما جمهور العلماء فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبودية أثر من آثار الكفر، والعبد قد يكون مسلماً، لكن أصل سبب الاسترقاق هو الكفر، فالذي جلب له الرق هو الكفر، فوجود هذا الأثر منقصة فيه، فبالتالي لا يستوي مع الحر، والحر لا يقتل إلا بالحر، ولا يقتل الحر بالعبد، والأنثى بالأنثى، وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى؛ لأنه تعتبر المماثلة في الدين، ولابد أن يكون هناك اتفاق ومعادلة وتساوي في الدين، فلا يقتل المسلم بالكافر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري.(13/3)
معنى قوله: (فمن عفي له من أخيه شيء)
قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} يعني: من القاتلين، {مِنْ أَخِيهِ} يعني: من دم أخيه المقتول، وهذا اللفظ: (مِنْ أَخِيهِ) دليل على أن القاتل لا يكفر كفراً أكبر، ولا يكفر كل من فعل فعلاً سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال أيضاً: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ولا شك أن الذنب الذي يسمى كفراً يكون أخطر وأعظم من الذنب الذي لا يسمى كفراً، فهو كفر عملي لا يخرج من الملة إلا باستحلاله.
ومما يستدل به على أن هذا الكفر كفر غير مخرج من الملة قوله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فأثبت الإيمان مع وجود القتال، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، كذلك صدر الآيات هنا بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) فالخطاب للمؤمنين مع وقوع التقاتل بينهم، ثم قال أيضاً: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) مع وجود القتل لكنه سماه أخاً، فهذا يدل على بقاء أخوة الإيمان مع حصول هذه الكبيرة.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) يعني: من القاتلين، (مِنْ أَخِيهِ) أي: من دم أخيه المقتول، (شَيْءٌ) يعني: بأن ترك القصاص منه، وتنكير (شيء) يفيد سقوط القصاص بالعفو من بعض الورثة، يعني: إذا عفا بعض الورثة وبعضهم لم يعفو يسقط القصاص.
كذلك إذا عفي عن بعض القصاص يسقط كل القصاص، فقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه، وبالعفو من بعض الورثة.
وفي ذكر (أخيه) تعطف داع إلى العفو، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، فإنه ذكر وصف الإخوة كي يعطف قلب الذي سيقتص على قلب أخيه الجاني لعله يعفو عنه أو يرأف به، وفيه إيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان.
إذاً: فائدة التعبير بأخيه تعطف داع إلى العفو، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان.(13/4)
معنى قوله: (فاتباع بالمعروف)
قوله تعالى: (فمن عفي) (من) مبتدأ شرطية أو موصولة، والخبر (فاتباع بالمعروف) يعني: فعلى العافي اتباع القاتل المعفو عنه بالمعروف، يعني: إذا قبل منه الدية فليطالبه بالدية بلا عنف، وترتيب الاتباع على العفو يفيد أن الواجب أحدهما، وهو أحد قولي الشافعي.
والقول الثاني: أن الواجب القصاص، والدية بدل عنه، فله ألا يقتص على أن يأخذ الدية، فلو عفا ولم يسمها فلا شيء له، ورجح.
وقوله: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني: وعلى القاتل (أداء) أي: للدية، (إليه) أي: إلى العافي الذي هو الوارث، (بإحسان) يعني: بلا مطل ولا بخس، يعني: يؤدي الدية إلى العافي -وهو الوارث- بإحسان بدون أن يماطله ولا يضاره ولا ينقص من حقه.
{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: ذلك الحكم المذكور من جواز القصاص والعفو عنه على الدية (تخفيف) أي: تسهيل (من ربكم) يعني: عليكم.
{وَرَحْمَةٌ} أي: بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحداً منهما، كما حتم على اليهود القصاص وعلى النصارى الدية.
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي: ظلم القاتل بأن قتله، (بعد ذلك) أي: بعد العفو، فبعد أن يعفو لا يجوز أن يقتل القاتل، فإن هذا من الظلم، (فمن اعتدى) يعني: ظلم القاتل بأن قتله، (بعد ذلك) يعني: بعدما عفا، فلابد أن يلتزم بالعفو.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل.(13/5)
تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)
قال تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أي: بقاء عظيم، بخلاف تنكير كلمة حياة في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، فالمقصود بذلك حتى لو كانت أخس حياة، وهذا من صفة اليهود لعنهم الله، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي حياة حتى لو كانت حياة ذليلة فهم حريصون عليها، أما قوله هنا: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) يعني: بقاء عظيم.
{يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] يعني: يا ذوي العقول؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل ارتدع، فأحيا نفسه وأحيا من أراد قتله، فشرع القصاص ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: تتقون القتل لمخافة القود؛ لأن هذا فيه زجر لكم من تجاسر بعضكم على إراقة دم بعض.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: تتقون أن تقتلوا إذا قتلتم، أو يقتص منكم إذا اعتديتم على أرواح غيركم.(13/6)
كلام نفيس للقاسمي في هذه الآية
هنا كلام من أنفس ما يقرؤه الإنسان في إعجاز القرآن الكريم، ذكره القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والإنسان إذا لم يرتبط بالنور الذي آتاه الله سبحانه وتعالى لأهل العلم ربما لا يستطيع أن يتدبر ويتمعن في القرآن، وهذا أنموذج من نماذج التدبر في القرآن الكريم وهو من أروع ما يكون، والإنسان مع قلة علمه، وضعف وعيه في لغة العرب ولغة القرآن الكريم يعجب حينما يسمع العلماء يقولون: هذا الكلام لا يقوى على الإتيان به بشر، وهذا في القرآن كله لكن هناك مواضع إنما تظهر عند التأمل والتدبر من أولي العلم الراسخين في العلم، مثل قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80]، فالعلماء يتكلمون عن قمة البلاغة في هذه الآية، وهذا الأسلوب ولم يعرفه العرب على الإطلاق، لم يرتق له أي مخلوق من العرب قبل القرآن الكريم.
والآن سنذكر نموذجاً عملياً ونرى فعلاً أن هذا القرآن مستحيل أن يكون كلام البشر أبداً، ولا يقوى بشر على ذلك، يقول القاسمي: كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة، ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))، كيف يكون القصاص الذي هو قتل القاتل حياة؟ حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكاناً ومرساً للحياة، وعرّف القصاص ونكّر الحياة، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، وهذا يدل على أن في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل؟! كان يقتل بالمقتول غير قاتله كما يحصل الآن في الصعيد للأسف الشديد من عادة الثأر، يقتل القاتل فيقتلون رجلاً من العائلة يكون موازياً للمقتول في الوجاهة الاجتماعية أو غير ذلك من الأمور.
فهذا من آثار الجاهلية والعياذ بالله، فيجب أن يقتل القاتل، وليس بهذه الطريقة الفوضوية الجاهلية التي نراها في الصعيد.
يقول: وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة! وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل؛ لأن القاتل يمتنع من القتل، فإذا أراد أن يقتل، عرف أنه يقتل، فيرتدع وينزجر.
((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) يعني: أن تقتلوا، فإذا انكف القاتل عن القتل ماذا يحصل؟ يحيا هو ويحيا الذين كان يريد أن يقتلهم، فهي حياة له ولهؤلاء؛ لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود، والقود هو القصاص؛ سمي بذلك لأن القاتل كان يقاد بحبل إلى أن يقتص منه، فالقصاص سبب حياة نفسين.(13/7)
بلاغة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني بالغة إلى أعلى الدرجات؛ لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة.
فقد حاول العرب الفصحاء البلغاء أن يعبروا عن هذا المعنى بكثير من الألفاظ، وعددوها حتى تنوعت وتكاثرت، ومع ذلك لا يقوى واحد منها أبداً أن يوازى بكلام الله عز وجل.
مثل قولهم: قتل البعض إحياء للجميع.
وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل.
يقول القاسمي سننتقي أجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب ونقارنها بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فانتقى القاسمي أروع ما عند العرب في هذا الباب, وأبلغ وأفصح ما أثر عنهم في التعبير عن هذه المعاني.
يقول: وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، وقد كانوا قبل نزول القرآن متفقين على استجادة معنى كلمتهم، واستجادة لفظها، ومعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله والمخلوقين، الفرق بين قوله تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل كما بين كلام الله وبين كلام المخلوق، والفرق بينهما كالفرق بين الله وبين خلقه، وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته؟! قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أبلغ ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل، وإنما كان هذا أفضل ما كان عند العرب من البلاغة لقلة الألفاظ مع سعة المعاني، فهذه أقل الألفاظ التي أثرت عن العرب: القتل أنفى للقتل، وقد فضلت هذه الآية بعشرين وجهاً أو أكثر على قولهم: القتل أنفى للقتل.
وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وهذا كلام صحيح، كيف يقارن كلام الخالق بكلام المخلوق، حتى يقال: إنه أفضل من عشرين وجهاً؟! فلا وجه للمقارنة، ولكن العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك، وإن كان يخفى عليهم أضعاف أضعاف ما ذكروه مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى من الحكم، لكن من باب تدبر القرآن نتأمل في هذه الوجوه وننظر.
يقول: الأول: أن ما يناظره من كلامهم -وهو القصاص حياة- أقل حروفاً، فإن حروفه عشرة، وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر، فهذا أول الوجوه من حيث الوجازة.
الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، فحينما نقول: القتل أنفى للقتل، فنفي القتل لا يستلزم الحياة، لكن حينما يقول الله تبارك وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))، فالقصاص حياة، فهنا نص على ثبوت الحياة، في حين أن عبارة العرب إنما تنفي القتل فقط لكنها لا تنص على ثبوت الحياة، والحياة هي الغرض المطلوب من القصاص.
الثالث: أن تنكير حياة يفيد التعظيم، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة كقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، ذكرنا أنها حياة حتى ولو خفيفة، ويمكن أن يقال: القصاص حياة يعني: طويلة، ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس؛ ولذا فسروا الحياة فيه بالبقاء.
فإذاً: حياة تنكيرها يصير تعظيماً، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة، ولا كذلك المثل.
الرابع: أن الآية فيه مطردة بخلاف المثل، ففي كل قصاص حياة في كل الأحوال، أما القتل فلا يشترط أن كل قتل يكون أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، بل إنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، فلو قتل رجل آخر ظلماً فهل هذا القتل ينفي القتل أم أنه يكون مدعاة لمزيد من القتل؟ يكون مدعاة لحصول مزيد من القتل.
فإذاً: كلامهم ليس على إطلاقه، وليس مطرداً؛ لأنه ليس كل أنواع القتل تكون أنفى للقتل بل بعضها قد تكون مجلبة للقتل، بخلاف القصاص الذي هو نوع مخصوص من القتل، فلذلك نراعي هنا الفرق بين كلمة القصاص وبين كلمة القتل.
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة، فقولهم: القتل أنفى للقتل، تكررت فيه كلمة القتل، وهذا لا يخل بالفصاحة، لكن بلا شك أن الخالي من التكرار أفضل من الذي يشتمل على التكرار.
الوجه السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف (القصاص حياة)، بخلاف قولهم ففيه حذف، فتقديره: القتل أنفى للقتل من عدم القتل، فإن (أنفى) أفعل تفضيل لابد أن يقدر له محذوف.
أيضاً: حذف قصاصاً مع القتل الأول، وظلماً مع القتل الثاني، ففي المثل حذف كثير، فإن الذي يقصده العرب هو: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من عدم القتل، وحتى تفهم النص العربي لا بد أن تقدر كل هذا، أما الآية فهي مستغنية عن تقدير محذوف.
السابع: أن في الآية طباقاً؛ لأن القصاص عكس الحياة، بخلاف المثل، فإن العرب قالوا: القتل أنفى للقتل، فهنا تشابه واضح، بخلاف الطباق بين القصاص والحياة، وهذا من أنواع البديع.
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلاً ومكاناً لضده الذي هو الحياة، وهذا من أروع ما يكون؛ لأن أحد الضدين الذي هو الفناء والموت جعله محلاً ومكاناً لضد الموت وهو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، نقله في الكشاف، وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة، ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) كأن القصاص هو الذي تنبع منه الحياة، فهو بلا شك أروع ما يكون من البلاغة ومن البديع، فجعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال كلمة في: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ)).
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفية وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، فالكلام الذي تكون حركاته سهلة ومتتالية غير الكلام الذي يكون فيه بين وقت وآخر السكون، كما في الآية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لكن في المثل: القتل أنفى للقتل.
يقول: فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع.
يقول: نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة.
إذاً: هذا الفرق أيضاً من حيث اللغة، فالقتل أنفى للقتل غير (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
العاشر: أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه، فقولهم: القتل أنفى للقتل، هل الشيء ينفي نفسه؟! الشيء لا ينفي نفسه، فهذا فيه تناقض من حيث الظاهر.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير القاف، وبعدها عن غنة النون.(13/8)
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت)
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].
قوله تعالى: (كتب عليكم) يعني: فرض عليكم.
(إذا حضر أحدكم الموت) المقصود: إذا حضر أحدكم الموت يعني: أسباب الموت وأمارات الموت ومقدماته، وليس الموت الحقيقي؛ لأنه إذا حضر أحدنا الموت الذي تنزع فيه الروح لن يجد وقتاً للوصية، لكن المقصود هنا: أسباب الموت ومقدماته.
(إن ترك خيراً الوصية) إن ترك خيراً أي: مالاً، وهذه أحد المواضع التي سمى فيها القرآن الكريم المال خيراً، ونظيرها قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، (حب الخير) المقصود به المال، كذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:272]، المقصود به المال، وكذلك قول موسى عليه السلام كما حكاه الله تبارك وتعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] فالمقصود بالخير المال.
وقوله: ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) إشارة إلى إن المال الذي تحصل الوصية به ما كان مجموعاً من وجه حلال محمود، فهذا هو الذي يسمى خيراً، فإن المال لا يقال له خير إلا إذا كان كثيراً ومن مكان طيب، فالمال الذي يكون خيراً ويوصف بكلمة خير لابد أن يكون كثيراً ووفيراً وليس مالاً قليلاً، ومن مكان طيب، أي: من مصدر حلال، فهذا هو الذي يوصف بالخير، لكن مال قليل من مصدر حلال أو مال كثير من مصدر غير طيب لا يسمى خيراً.
فقوله تعالى هنا: ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)) فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا أتته علامات الموت أو أمارات الموت وليس عنده مال كثير، وورثته فقراء، فهذا لا يدخل في الأمر بالوصية هنا، إنما الوصية لمن ترك مالاً وفيراً.
((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) (خيراً) يعني: مالاً، (الوصية) وهو مرفوع بِكُتِب، وتقدير الكلام: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت، يعني: وقت حضور الموت، (إن ترك خيراً الوصية) يعني: فليوص.
((لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)) يعني: بالعدل، ولا يكون عدلاً إلا إذا لم يزد عن الثلث، ولم يفضل الغني.
وهذا الجزء من سورة البقرة حافل بالأحكام الشرعية الكثيرة جداً، فنحن نكتفي بهذه الإشارات العابرة ونرجو أن تفصل في أوقات أخرى.
الوصية تكون -كما ذكرنا- لمن ترك مالاً كثيراً وورثته أغنياء، فيوصي بالثلث ولا يزيد على الثلث، واستحب بعض العلماء أن يقلل عن الثلث كما نصح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وأيضاً لا يفضل الغني في إعطاء الوصية.
(حقاً على المتقين) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله.
(على المتقين) يعني: على المتقين الله، الذين يتقون الله.
وقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ)) يعني: فرض، وهذا الحكم منسوخ، وهذا الموضع أوضح نموذج يدل على جواز نسخ القرآن بالسنة، فإن هذه الآية منسوخة بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) والوارث هو الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فريضته في القرآن الكريم كما في سورة النساء، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى كل ذي حق حقه، فما دام الشخص يرث فليس له نصيب في الوصية، وهذا البلاء الآن منتشر للأسف بسبب جهل الناس، تجد الرجل يوصي لأولاده الذكور دون الإناث، ولا ينبغي أن يوصي للورثة ولو للذكور والإناث، والعطاء في حال الحياة هبة، أما أن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً كذا من أولاده فهذه وصية، والوصية لا تجوز للوارث؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطى هذا الوارث حقه بآيات الفرائض المعروفة في سورة النساء.
إذاً: الوصية تكون لغير الوارثين، فيعطي -مثلاً- الأقارب الذين لا يرثون مثل أولاد ابنه المتوفى أو غيرهم من أقربائه، ويجوز أن يوصي إلى جهة من جهات الخير مثل ملاجئ أيتام مستشفيات وغير ذلك من الأعمال الخيرية.
ووجوب الوصية منسوخ بآيات الميراث، وبحديث: (لا وصية لوارث) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(13/9)
تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)
قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة:181] يعني: من بدل الإيصاء من شاهد أو وصي.
(بعد ما سمعه) يعني: بعد ما علمه.
{فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} [البقرة:181] أي: إثم الإيصاء المبدل.
{عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:181]، السياق كان يقتضي أن يقال: فإنما إثمه عليهم، أي: على الذين سبق ذكرهم في قوله: ((فَمَنْ بَدَّلَهُ))، لكنه أقام الظاهر مقام المضمر إشارة إلى جريمتهم بالتبديل، وأنها التي تستوجب عقوبتهم كما سيأتي.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة:181] لقول الموصي.
{عَلِيمٌ} [البقرة:181] بفعل الوصي فمجاز عليه، ويترتب على أن الله سميع عليم أنه سيجازيه.
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة:182] أحياناً يطلق الخوف على العلم، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] أي: إن علمتم، كذلك هنا: (فمن خاف) يعني: توقع أو علم، تقول مثلاً: أخاف أن تمطر السماء، يعني: أتوقع وأظن أن تمطر، فالتوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم يطلق عليه الخوف.
(فمن خاف من مُوْصٍ) أو (من مُوَصٍّ) قراءتان.
(جنفاً) يعني: ميلاً عن الحق خطأً، فالجنف هو الميل عن الحق عن طريق الخطأ لا العمد.
(أو إثماً) بأن تعمد ذلك بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلاً.
(فأصلح بينهم) يعني: أصلح بين الوصي والموصى له بالأمر بالعدل، وهذا الإصلاح يترتب عليه تبديل الوصية؛ لأن الوصي مال عن الحق خطأ أو أَثِم بتعمد الجور والظلم في الوصية.
(فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم) بين الوصي والموصى له عن طريق إقامة العدل بينهم.
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182] أي: لا يأثم بهذا التبديل، بل هذا من فروض الكفاية، فيجب على المسلمين أن يتصدوا لمن يوصي وصية جائرة بأن يصلح بينهم بإقامة العدل وهو شرع الله سبحانه وتعالى.
(فأصلح بينهم فلا إثم عليه) أي: في ذلك التبديل لماذا؟ لأنه بدل الباطل بالحق الذي يوافق شرع الله، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182].(13/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام إن كنتم تعلمون)
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] (كتب) يعني: فرض عليكم الصيام.
(كما كتب) كما فرض على الذين من قبلكم، يعني: لستم وحدكم من الأمم في هذه الفريضة.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: المعاصي؛ لأن الصيام يكسر الشهوة الباعثة إلى المعاصي.
قال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] نصب بالصيام أو يقدر: صوموا أياماً معدودات.
(معدودات) أي: قلائل أو مؤقتة بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي، وقلله تسهيلاً على المكلفين، يعني: في كل السنة تصوم شهراً واحداً، لذلك قال: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، رحمة وتسهيلاً على المكلفين وتخفيفاً.
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة:184] يعني: حين شهود شهر رمضان.
{مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] أي: مسافراً سفر القصر، وأجهده الصوم في الحالين المرض أو السفر فأفطر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] (عدة) يعني: فعليه عدة ما أفطر، يعني: نفس العدد الذي أفطره يقضيه.
(من أيام أخر) يعني: يصوم هذا بدله.
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] يعني: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه (مرض مزمن).
{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] يعني: فدية هي طعام مسكين، يعني: قدر ما يأكله المسكين في اليوم، وفي قراءة بإضافة (فدية) وهي للبيان.
وقيل: (لا) غير مقدرة في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184]، فنحن قلنا: التقدير: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض مزمن فدية طعام مسكين، وقيل: (لا) غير مقدرة، وكانوا مخيرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية، ثم نسخ التخيير بتعيين الصوم بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، قال ابن عباس: إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما.
{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:184] يعني: بالزيادة على القدر المذكور في الفدية، بدل أن يخرج مداً أخرج صاعاً.
(فهو خير له) أي: التطوع خير له وأفضل.
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] (أن تصوموا) مبتدأ مصدر مؤول من أن والفعل، وخبره (خير لكم)، والتقدير: وصيامكم خير لكم من الإفطار والفدية.
{إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184] أنه خير لكم فصوموا تلك الأيام.(13/11)
تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] يعني: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر منه.
{هُدًى لِلنَّاسِ}، هدى حال، أي: هادياً من الضلالة.
{وَبَيِّنَاتٍ} أي: آيات واضحات.
{مِنَ الْهُدَى} مما يهدي إلى الحق من الأحكام.
{وَالْفُرْقَانِ} يعني: ومن الفرقان الذي يفرق به بين الحق والباطل.
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} يعني: من حضر ولم يكن مسافراً، {الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} تقدم تفسيره في الآية السابقة، فلماذا كرر؟ كرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم (فمن شهد)؛ لأنه قد يتوهم أن قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يعني: كلكم يجب أن تصوموا حتى لو كنتم مرضى أو مسافرين، فكرر الله سبحانه وتعالى هذه الرخصة للمريض وللمسافر لأنه قد يتوهم أن هذه الآية تنسخ ما قبلها في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184]، فكررها حتى يدفع هذا التوهم.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ولذا أباح لكم الفطر في المرض والسفر، ولكون ذلك في معنى العلة أيضاً للأمر بالصوم فقد عطف عليه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (ولتُكْمِلوا) بالتخفيف، وبالتشديد: (ولتُكَمِّلوا) في القراءة الأخرى: أي: عدة صوم رمضان.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} يعني: عند إكمال هذه العدة.
{عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: ما أرشدكم لمعالم دينه.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله على ذلك.(13/12)
تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)
سأل جماعة النبي صلى الله عليه وسلم: (أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) [البقرة:186]) يعني: قريب منهم بعلمي.
ويلاحظ أن هذه الآية امتازت عن غيرها من آيات السؤال كقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176]، يسألونك عن كذا، قل كذا، لكن في هذا الموضع بالذات لم يأت بصيغة يسألونك عن الله فقل إني قريب، لماذا؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يبادر ويخبر العباد بهذه الحقيقة، فمن رحمته بهم يفتح لهم هذا الباب من الخير الذي هو باب الدعاء.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي: قريب منهم، ويفسر القرب بالعلم بالسمع بالبصر بالإحاطة، وليس المقصود القرب بالذات، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه لا يمتزج بهم، تعالى الله عن ذلك.
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يعني: أجيبه ما سأل.
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} يعني: يجيبوا لي دعائي لهم بالطاعة.
{وَلْيُؤْمِنُوا بِي} يعني: يدوموا على الإيمان ويثبتوا عليه.
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: يهتدون.(13/13)
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] (الرفث) بمعنى: الإفضاء، والإفضاء يعدى بإلى، أما الرفث فيعدى بالباء، يقال: رفث بالمرأة، لكن لأن الرفث هنا بمعنى الإفضاء عداه بإلى فقال: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) يعني: بالجماع.
والرفث أصله قول الفحش، قال الله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، وكنى به هنا عن الجماع، وسنة الله سبحانه وتعالى التكنية عما يستقبح ذكره صريحاً كقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189]، وكقوله تبارك وتعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].
((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ))، نزل نسخاً لما كان في صدر الإسلام من تحريمه، وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء أو إذا نام قبل ذلك، فقد كان الإنسان إذا تعشى يحرم عليه بعد ذلك المفطرات بقية الليل، أو إذا نام قبل أن يتعشى فلا يحل له أن يأتي شيئاً من المفطرات أيضاً في الليل، كما حصل لـ قيس بن صرمة فغشي عليه نصف النهار من الجوع إذ تأخرت امرأته في تحصيل الطعام وغابت عنه ساعات، فلما رجعت وهو نائم قالت له: خيبة لك! فصام اليوم الثاني ولم يكن قد أفطر في اليوم السابق ولا تسحر، فغشي عليه في نصف النهار، رواه البخاري.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} هذا كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه، يقول الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء.
فالمفروض أن الزوج يستر امرأته وهي أيضاً تستره، فكل منهما لباس بمعنى أنه يستر الآخر كما أن الملابس تستر البدن، فكل منهما ينبغي أن يكون ستراً للآخر، فلا يكشف عيبه، ولا يفشي سره، ولا يظهر أي عيب فيه، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوءة، وعلى ذلك كني عن المرأة بالإزار، فوصفت بأنها إزار الرجل لأنها تستره.
وأيضاً سمي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه من تعاطي القبيح، والمحصن أحياناً يأتي بمعنى المتزوج.
إذاً: المعنى: (هن لباس لكم) يعني: أنتم تسترونهن وهن يسترنكم، وهذا ألطف من قول بعضهم: شبه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في الضم باللباس المشتمل على لابسه.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع قوله: ((هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ))؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، يعني: أشار بهذا التعبير إلى الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أحل لهم الرفث إلى النساء في ليالي رمضان بعد أن كان قد حرم عليهم؛ لأنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذلك رخص لكم في مباشرتهن، ولذلك قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}، اختيان النفس هو نزوعها إلى رغبتها، ومنه قولهم: خانته رجلاه، إذا لم يقدر على المشي.
أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحل لكم ذلك، علم الله أنه إذا لم يبح لكم هذا فإنكم كنتم سوف تختانون أنفسكم، فأحله رحمة بكم ولطفاً.
وفي الاختيان وجه آخر وهو أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بتعريضها للعقاب لو لم يحل ذلك لكم، قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة، ففيه زيادة وشدة.
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام، وقد وقع ذلك لـ عمر وغيره كما رواه أحمد وابن أبي حاتم بسند حسن وغيرهم، واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا صح هذا فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فيكون المعنى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يبح لكم ذلك، لشدة ومشقة ذلك عليكم.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: قبل توبتكم.
{وَعَفَا عَنْكُمْ} يعني: إذ أحل لكم إتيانهن.
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} أي: جامعوهن.
{وَابْتَغُوا} هذا الأمر على الإباحة ليس على الإيجاب؛ لأنه سبقه حظر، ومعنى (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا.(13/14)
معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم)
قوله تعالى: {وَابتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: ما أباحه لكم من الجماع أو ما قدره لكم من الولد.
قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، تأكيد لما قبله، أي: ابتغوا هذه الرخصة التي أحلها لكم، و (كتب) هنا بمعنى: جعل، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] يعني: جعل في قلوبهم الإيمان، وقوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53] يعني: فاجعلنا مع الشاهدين، وقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] يعني: سأجعلها.
وقد تكون بمعنى: قضى، (ابتغوا ما كتب الله لكم) يعني: ما قضى كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] يعني: إلا ما قضاه لنا، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] يعني قضى، وقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] يعني: قضي.
قال الراغب: في الآية إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة وهي: أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة، فمتى تحرى به حظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له، وإلى هذا أشار من قال: على الولد، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: الذرية والأولاد.
وقال هنا: ((وَابْتَغُوا)) أي: اطلبوا.
((مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)) أي: أباحه من الجماع أو قدره من الولد.(13/15)
معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)
قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} أي: الليل كله، وهذا الأمر على الإباحة، والمعنى: وكلوا واشربوا الليل كله، فهو مباح لكم.
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ} أي: يظهر.
{لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} يعني: من الفجر الصادق، أي: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر الصادق من الخيط الأسود من الليل، فقوله: (من الفجر) متعلق بالخيط الأبيض، وحذف (من الليل) المتعلق بالخيط الأسود.
شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد.
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي: ثم أتموا الصيام من الفجر إلى الليل، ولابد من تقدير كلمة (من الفجر) إلى الليل، وما الدليل على تقدير (من الفجر)؟ الدليل ما قبلها: (حتى يتبين لكم)، وقوله: (إلى الليل) يعني: إلى دخول الليل بغروب الشمس.
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} أي: نساؤكم.
{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} المقصود هنا الوطء، (وأنتم عاكفون) يعني: مقيمون بنية الاعتكاف {فِي الْمَسَاجِدِ}، وهذا نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود، وهذا لا يحل في الاعتكاف لا في الليل ولا في النهار.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} تلك الأحكام المذكورة حدود الله حدها لعباده ليقفوا عندها.
{فَلا تَقْرَبُوهَا}، هذا أبلغ من (لا تعتدوها) في هذا الموضع؛ لأنه إذا نهى عن الاقتراب فمن باب أولى أن ينهى عن التعدي.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ} يعني: بين لكم ما ذكر.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يعني: يتقون محارمه.(13/16)
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
قال عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض.
((بِالْبَاطِلِ)) أي: بالحرام شرعاً كالسرقة والغصب.
{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي: ولا تدلوا، فهنا (تدلوا) معطوفة على ما قبلها، فالمقصود: ولا تأكلوا ولا تدلوا، أي: لا تلقوا بها إلى الحكام، لا تلقوا بها أي: بحكومتها، وذلك: بإقامة الدعوى بها باطلاً، أو بالأموال رشوة.
{لِتَأْكُلُوا} يعني: بهذا التحاكم.
{فَرِيقًا} أي: طائفة.
{مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} أي: متلبسين بالإثم.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: أنكم مبطلون في هذا.
ونزيد هذا المعنى إيضاحاً: يقول تبارك وتعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)) قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل.
وهذا إشارة إلى حرمة مال المسلمين.
وقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) جعل مال الإخوة كأنه مالك أنت؛ فلذلك يجب الاجتهاد في حفظ أموال المسلمين كما تحفظ مالك، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: إخوانكم، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] يعني: لا يلمز بعضكم بعضاً، ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة، والعرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها؛ لأن أخا الرجل عندها كنفسه، فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه، فالفارق بين الحق والباطل في المال بين الذي يحل لك والذي لا يحل لك هو حكم الشرع، ليس الهوى وليس الاتفاق؛ لأن الناس قد يتراضون على أكل الأموال بالباطل، مثل بعض العقود المحرمة، كالذي يتعامل بالربا في عقد ربوي بالتراضي، ويقول: نحن متفقون.
فنقول: التراضي أحد شروط صحة البيع، لكن هناك شروط أخرى، وأهمها وأعظمها: أن توافق الشرع.
أيضاً: المال الذي يعطى لفرقة الموسيقى التي يأتون بها في الأفراح هو من أكل الأموال بالباطل، ويحرم على الرجل أن يدفع لهؤلاء مالاً، ويحرم على هؤلاء أن يأخذوا هذا المال؛ لأن الذي يحل ويحرم هو الله، والله حرم ذلك.
وهكذا أي نوع من العقود المحرمة مثل: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن الذي يدفع للسحرة والعرافين، والرشوة؛ كل هذا من أكل أموال الناس بالباطل، فكل مال يعطى للرجل وهو غير حلال له شرعاً فهذا من أكل الأموال بالباطل.
وقوله: ((بَيْنَكُمْ)) إما أنها ظرف (لتأكلوا) يعني: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو أنه حال من الأموال، أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم، (بالباطل) يعني: متلبسين بالباطل.(13/17)
تفصيل معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام)
قوله: ((وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)) المقصود أنكم تترافعون إلى الحكام، وتدعون دعاوى كاذبة في حق بعضكم حتى تأكلوا الأموال بالباطل.
وقوله: (وتدلوا) مجزوم عطفاً على النهي، يعني: ولا تدلوا، وفي قراءة أبي (ولا تدلوا) بإثبات لا الناهية، والإدلاء مأخوذ من الدلو، وهو إرسال الدلو في البئر للاستقاء، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل يتوصل به إلى شيء، فكل من ألقى شيئاً ليتوصل به إلى شيء يقال: قد أدلى، ومنه يقال للمحتج الذي يحتج ويقيم الحجة: أدلى فلان بحجته، كأنه يرسل الحجة حتى يصل إلى مراده، كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم إذا كان منتسباً إليه؛ فيطلب الميراث بتلك النسبة، يدلي إليه بقرابة، فكأنه اتخذ من هذه القرابة سبباً يوصله إلى حقه من الميراث.
والباء في قوله: (وتدلوا بها) صلة الإدلاء، والمعنى: لا تلقوا أمرها والحكومة بها إلى الحكام، أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش -وهو الواسطة الذي يمشي بينهما-) رواه أهل السنن، وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت -وهي: الرشوة، وتسمى أحياناً بالهدية، والإكرامية، والقهوة- احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان.
وولي الأمر إنما جعل ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية، وإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين، فالحاكم أو القاضي إنما جعل ليقيم العدل بين الناس، وليحمي الناس من ظلم بعضهم لبعض، فإن كان ظالماً فقد أتى بضد المقصود من ولايته، فيكون مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك.
((وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)) (بها) الهاء تعود إلى الحكومة، وكلمة حكومة معناها في مثل هذا السياق وفي كلام السلف ليس المعنى السياسي الذي يتبادر الآن إلى أذهاننا، بل المعنى رفع الدعوة إلى القاضي، هذه تسمى حكومة.
((وَتُدْلُوا بِهَا)) يعني: بهذه الحكومة والدعوة، وترفعونها إلى القضاء.
((إِلَى الْحُكَّامِ)) جمع حاكم، وهو منفذ الحكم بين الناس.(13/18)
معنى قوله تعالى: (لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم)
قوله تعالى: ((لِتَأْكُلُوا)) يعني: بواسطة حكمهم الفاسد وبالتحاكم إليهم.
((فَرِيقًا)) يعني: طائفة وقطعة.
{مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} (بالإثم) يعني: بأمر يوجب إثماً، كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، والحكم الفاسد الناشئ عن رشوة، وهذا لا يفيد الحل.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: وأنتم تعلمون أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبها أحق بالتوبيخ، فالتقييد بالعلم لزيادة تقبيح حالهم.
فقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} مثل: أكل المال، سرقة الأرض، غصب أي شيء من الحقوق، فيدلي بها إلى الحكام، أي: يرفع الحكومة والدعوة الظالمة الكاذبة إلى القاضي ويعطيه الرشوة.
{لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا}، قطعة من أموال الناس.
((بِالإِثْمِ)) الإثم إما الرشوة للحاكم الذي يطاوعكم في هذا الظلم، أو لا يكون الحاكم ظالماً لكن أنت تأتي بشاهد زور، أو تحلف يميناً غموساً محرمة، فهذه كلها أنواع من الإثم.(13/19)
معنى قوله تعالى: (وأنتم تعلمون)
قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، إشارة إلى قبح حالكم؛ لأنكم لا تفعلون هذا وأنتم جاهلون بهذا، لكن أنت تعلم في قرارة نفسك أن هذا المال ليس من حقك، فأنت تعلم ولست تجهل، فهذا فيه تقبيح وتوبيخ لحالهم، والمقصود إن خفي ظلمكم على الناس، فإنهم لا يعلمون ما في نفوسكم، فأنت تعلم أن هذا حرام عليك.
والناس الآن في أوضاع مؤلمة جداً،، الشيء الحرام عند بعض الناس هو الذي يعجز عنه، لكن ما قدر عليه يكون حلالاً، فالفيصل عنده ليس أن هذا الشيء حقي عند الله سبحانه وتعالى أم ليس حقي، لكن الفيصل عنده هل أقدر عليه أم لا أقدر؟ فإذا قدر عليه فهو حلال له، والحرام عنده هو الذي يعجز عنه، هذا حال كثير من الناس إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، وللأسف هذا في عامة ما حرم الله، تجد مثلاً الفروج الحرام منها عند بعض الفسقة ما عجز عنه، أما إذا قدر عليه فهو حلال عنده، وهذا بلا شك مصادمة لشرع الله تبارك وتعالى، وعدم خوف منه تبارك وتعالى.
هذه الآية المقصود بها أن الحاكم يحكم بما يظهر له، والقاضي بشر يتعامل مع الوثائق بما يظهره الناس من شهادات أو يمين أو غير ذلك، فيمكن أن تعلم أن هذا ليس من حقك، والقاضي حكم لك، فلا تعتقد أن هذا حلال لك، ما دمت تعرف أنه حرام فهو حرام، وحكم الحاكم لا يحله، والحاكم أو القاضي معذور؛ لأنه حكم بما يظهر له بحسب الوثائق، لكن إن كنت تعلم أنه عند الله سبحانه وتعالى ليس حلالاً لك فسيبقى حراماً، ولا يحله لك حكم الحاكم، ولذلك قال: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، وهذا تنبيه على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه، لا بما يظهر.
قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيأتي الآخر يريد حقه، فيجحد هذا المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آكل حرام، فإذا حكم له القاضي لا يحل له ذلك.
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) أي: عنده قدرة على الكلام وتأويل الكلام كحال كثير من المحامين الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى، وظيفته محامي، ويعتقد أنه يحل له أن يدافع عن الظالم، يكون الرجل قاتلاً ويدافع عنه، ويحاول أن يبرئه، ويفخر المحامي الظالم بأنه أخرجه من القضية كما تخرج الشعرة من العجين، وقد يكون المجرم تاجر مخدرات يحارب المسلمين أشد من الحرب النووية، ومع ذلك يفخرون بأن المحامي هذا ماهر؛ لأنه تمكن أن يبرئه تماماً من القضية، وهذا بسبب لحن القول، وقدرته على تزيين الكلام وزخرفته وتمويهه لستر هذه الجريمة أو غيرها من الجرائم، فالقاضي يحكم بما يظهر له.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إنما أنا بشر مثلكم -يعني: لا أعلم الغيب- وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له -في بعض الروايات: فأقضي له بنحو مما أسمع-، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار) إذا كنت تعلم أن هذا ليس من حقك، ولكن لأنك فصيح والآخر عيي لا يستطيع الكلام غلبته بالكلام، فأنا أحكم على ما يظهر لمن يأتيني بالبينة، فقد يكون صاحب الحق ليس عنده بينة، وضع أمانته عند خائن، ففي هذه الحالة إذا حكمت بما يظهر فاعلم أن ما تأخذه إنما هو قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها حسب خوفه من الله.
فدلت الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير حقيقة الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما حكم القاضي يلزم قضاءً لا ديانة في الظاهر فقط، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره؛ لأنه اجتهد، وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى في آخر الآية: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم.
قال قتادة: اعلم -يا ابن آدم- أن قضاء القاضي لا يحل لك حراماً ولا يحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض.
يعني: القضاء حسم الخصومة في الدنيا فقط، ولكنها ستحسم يوم القيامة، فليس كل ما تقدر عليه بحكم قاضي أو بسلطة أو بغير ذلك يكون حلالاً لك، إنما الحلال ما أحله الله.
يقول: واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المنكر للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.(13/20)
تفسير سورة البقرة [189 - 195](14/1)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)
قال الله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يسألونك) يعني: يا محمد صلى الله عليه وسلم.
(عن الأهلة) جمع هلال، لم تبدو دقيقة ثم تزيد حتى تمتلئ ثم تعود كما بدأت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس؟! (قل هي مواقيت) يعني: قل لهم: هي مواقيت، جمع ميقات.
(للناس) يعني: يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم.
العدد جمع عدة، أي: ليحصوا عدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، وصيامهم وإفطارهم.
(والحج) الحج يدخل فيما سبق لكن الله سبحانه وتعالى أفرد الحج بالذكر لبيان شرفه وفضيلته على ما عداه من الأعمال.
(قل هي مواقيت للناس والحج) عطف على الناس، أي: ليعلم بها وقت الحج، فلو استمرت على حالة واحدة لم يعرف ذلك.
(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) يعني: في الإحرام، بأن تنقبوا فيها نقباً تدخلون منه وتخرجون، وتتركوا الباب، وهم ناس من الأنصار كانوا يفعلون ذلك ويزعمونه براً.
(ولكن البر) يعني: ولكن ذا البر (من اتقى) يعني: الذي يتقي الله بترك مخالفته.
(وأتوا البيوت من أبوابها) يعني: في الإحرام وغيره، يعني: في حالة الإحرام كغير الإحرام ائتوا البيوت من أبوابها.
(واتقوا الله لعلكم تفلحون) أي: تفوزون.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت هذه الآية.
وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ يعني: لماذا القمر تعتريه هذه التغييرات زيادة ونقصاناً في حين الشمس تكون ثابتة على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية.(14/2)
معنى قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس)
قوله تعالى: ((قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)) يعني: معالم لهم في حل دينهم، فيعتمدون عليها في مواعيد حلول الدين، ولصومهم ولفطرهم وأوقات حجهم، وأجائرهم -يعني الإجارات- وأوقات الحيض، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصاً؛ ولهذا ميزها عن الشمس التي تبقى دائماً على حالة واحدة.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الأحكام الشرعية كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس، أما ما يتعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم بالأهلة أو بشهور الفرس فهذا حكم وذاك حكم آخر.
إذاً: أي فعل علق الله سبحانه وتعالى عمله على زمن معين فهذا يجب الالتزام فيه بالأهلة وليس بالتقويم الشمسي، كالزكاة مثلاً، إذا أراد الإنسان أن يبحث هل حال الحول على زكاته أم لا، فلابد أن ينتبه إلى أن المقصود الحول الهجري وليس الحول الميلادي، فلابد من اعتبار حول السنة الهجرية المعروفة.
كذلك عدد النساء لا تحسب إلا بالشهور الهجرية، كذلك أيضاً الحمل، وغير ذلك، فهذه الأحكام التي لها علاقة بالأحكام الشرعية لابد من الالتزام فيها بالشهور الهلالية، أما العقود التي ينشئها الناس فيما بينهم أو غير ذلك من الأعمال التي لم تربط بأفعال شرعية فهذه يرجع فيها إلى العرف بالأهلة أو بغيرها.
وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في آيات كقوله سبحانه وتعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]، وقال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12] أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب رحمة منه تعالى وفضلاً.
وإفراد الحج بالذكر هنا تنويه بشأنه، وتشريف له، وقال القفال: نكتة إفراده -يعني: النكتة في إفراد الحج بالذكر رغم دخوله في عموم ما قبلها- بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه، وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر غيرها كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية.
والجمهور من القراء على فتح الحاء من كلمة (الحج)، والحسن على كسرها في جميع القرآن، وقال سيبويه: هما مصدران كالرد والذكر، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.
والأهلة جمع هلال، وجمعه باختلاف زمانه، والمقصود هنا جمع هلال بمعنى أنه يختلف في الزمان من وقت إلى آخر، فالهلال غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، غرة القمر من أول ما يبدو الهلال من الليلة الأولى إلى ثلاث أو سبع ليال يسمى هلالاً، ثم يسمى بعد ذلك قمراً، وليلة البدر لأربعة عشرة.
قال أبو العباس: سمي الهلال هلالاً؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، فالإهلال رفع الصوت بالإخبار عن الهلال، وسمي بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يعجلها المغيب، وسمي بدراً لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر.(14/3)
سبب نزول هذه الآية
روى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط؟ يعني: كان يشغل السائلين تفسير هذه الظاهرة وبتعبير معاصر كأنهم كانوا يسألوه عن التفسير العلمي للزيادة والنقصان في الهلال، وكان يمكن أن يقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا ناشئ عن الظل حينما تكون الأرض بين الشمس والقمر، فإذا حجب ظل الأرض القمر لا يظهر منه شيء، ثم إذا انحسر قليلاً يبدو الهلال، وكلما مر الوقت فإنه يزيد حتى يصير بدراً ثم ينعكس كما هو معروف في دورة القمر.
فهذا كأنه سؤال عما لا يغني وعما لا يفيد، فلذلك كان الجواب بما ينفع، فلم يفسر لهم هذا الذي كانوا يسألون عنه، وإنما انتقل إلى ما يفيدهم ويعود عليهم بالنفع تماماً كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله: متى الساعة؟ فقال: (ما أعددت لها؟) فهو انصرف عن جواب سؤاله الذي لا يعنيه إلى ما يعنيه، ليس المهم متى الساعة، الساعة آتية ولو بعد أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة أو أكثر أو أقل، وهذا لا يعنيك أنت، أنت لن تخلد شئت أم أبيت، أنت لك ساعتك، وقيامتك أنت يوم تموت، أما عمر الدنيا فهذا لا يعنيك، وهذا مما استأثر الله بعلمه، فانتقل إلى جوابه عما يفيده وما يعنيه، فقال: (ما أعددت لها؟ قال: لا شيء غير أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).
كذلك هذان الصحابيان قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو أو يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ))، فهنا أجاب السائل بغير ما كان يطلب، ونزل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله، أو هو المهم له، فلما سأله عن السبب الفعلي للتشكلات النورية في الهلال، أجيب بما ترى من السبب الغائي تنبيهاً على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم؛ لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها، وهذه تترك لأهل الدنيا يتكلمون فيها، كعادة القرآن في أن أمور الدنيا يترك الله سبحانه وتعالى الأمر فيها للناس؛ لأن الله أوضع فيهم القوة والقدرة العقلية على استنباط واكتشاف هذه الأشياء، لكن الشرع يخبرنا بالأمور المهمة التي تفيدنا، مثلاً: صراخ المولود الطبيعي حين يولد نجد الأطباء لهم تفسيرات تتواءم مع علمهم وأمور الدنيا، فيقولون مثلاً: من أجل أن يتنفس ويتفتق حلقه وغير ذلك من الأشياء التي هي من فوائد هذا الصراخ، في حين أن الوحي أخبرنا عن سبب آخر لا يتعارض مع هذه الأمور التي يمكن أن يعلمها الناس من أمور الدنيا، فتركها لهم ليكتشفوها، أما الذي لا سبيل إلى دركه فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما من مولود يولد إلا ويستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)؛ وذلك استجابة لدعوة امرأة عمران وهي أم مريم عليها السلام حينما قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، فيثبت النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مولد يولد يطعنه الشيطان في خاصرته؛ إعلاناً له بالعداوة من أول لحظة، وأنه سيتلقاه بالعداوة كما عادى أبويه من قبل، فهذا إعلان لعداوته له من أول لحظة ينزل فيها إلى الدنيا، فهذا لا يمكن أن يصل إليه العلم البشري، فلذلك تكفل الله سبحانه وتعالى بإيحائه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام.
أما تفسيرات الظواهر الموجودة والمبثوثة في الآفاق وفي الكون وفي أنفسنا فتركت لأهل الدنيا يكتشفونها ويتحدثون عنها، أما الشرع فلا يهمه تفسير الهلال لماذا ينقص ويزيد وغير ذلك، فإنما يهمه الحكمة من وراء ذلك والغاية.
فذكر أن الغاية هي أن ذلك مواقيت للناس والحج.
يقول: فلو أجيبوا بأن اختلاف تشكلات الهلال بحسب محاذاته للشمس فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف، ثم تزداد المحاذاة والاستنارة حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ، ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية؛ لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ما يصلح ديننا ودنيانا.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال علي رضي الله عنه: من طلب علم النجوم تكهن.
وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع وجهل لا يضر) وإن كان لا يصح هذا الحديث.
على أي حال هذا أسلوب من الأساليب الحسنة في الجواب، إشعاراً بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه وليس عن كيفية تشكله، ونظيره عند العرب أن شاعراً أتته امرأته تشكو إليه من كثرة الضيفان وقرى الأضياف، ونحتاج إلى الاستشهاد بهذه الأشعار؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، يقول الشاعر: أتت تشتكي عندي مداولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي فلم يجبها فيما شكت إليه، وانتقل إلى ما يفيد ويجدي.
وكما قال أيضاً تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215]، سألوا عن بيان الشيء الذي يخرجونه، فأجيبوا ببيان المصرف الذي ينفقونه؛ لأن هذا هو الذي يفيدهم، فينزل سؤال السائل منزلة غير سؤاله لتوخي التنبيه له بألطف وجه على موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو هو أهم له إذا تأمله، وهذا بلا شك: ينشط السامع إلى ما سمعه، وهذا الأسلوب الحكيم لربما طابق المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقوف، وأبرزه في معرض المذكور، وهل ألان شكيمة الحجاج في ذلك الخارجي، وسل سخيمته حتى آثر أن يحسن على أن يسيء، غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: لأحملنك على الأدهم، فقال متغاضياً -أي: الرجل قالها بصيغة التغاضي-: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! فـ الحجاج كان يتهدده أنه يركبه على الفرس الأدهم، ويطاف به في الأسواق، وهذا أسلوب من أساليب المعاقبة من قبل.
فالرجل تغاضى عن ذلك وسحر الحجاج بأسلوبه حينما لجأ إلى هذا الأسلوب الحكيم الذي نتحدث عنه، فلما قال له: لأحملنك على الأدهم، أظهر له أنه فهم غير ما أراد، وهو يعلم حقيقة ذلك، ولكنه تغابى، وكأنه فهم أنه يريد أن يكرمه، وسيحمله على الفرس الأدهم، فقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب يعني: مثلك رجل شريف ذو سلطان ولا يليق بك أن تحمل على الأدهم، بل تحملنا على شيء أعظم من ذلك، فقال متغاضياً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، مبرزاً وعيده في معرض الوعد، مترتباً بأن يريه بألطف وجه أن امرأ مثله في مكمل الإمرة المطاعة خليق بأن يفد لا أن يوفد، وأن يعد لا أن يوعد.(14/4)
معنى قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)
قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189].
الباب: معروف، واستعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها، فكل شيء يوصل إلى شيء يسمى باباً، ويقال في العلم: باب كذا.
وقد ذكرنا أن سبب نزول الآية السابقة أنهم سألوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يكبر ويزيد إلى أن يصير بدراً؟ وكأن هذه الآية أيضاً فيها توبيخ لهم على الاهتمام بمالا يعنيهم في أمر العلم: ((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) يعني: انشغلوا بما يفيدكم، وهذا المعنى فصله ووضحه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى بكلام رائع في مقدمة كتابه الموافقات، وبفصل مستقل، وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس من العلم المختص بالنبوة؛ لأن ذلك عدول عن المنهج؛ وذلك أن العلوم ضربان: ديني ودنيوي يتعلق بأمر المعاش، كمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم، ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم، تصوروا لو أن الصحابة أنفقوا عمرهم مع النبي عليه الصلاة والسلام في تفسير كيف تهطل الأمطار، وكيف تدور الأفلاك، وكيف ينشأ عنها الليل والنهار، وكيف كذا وكذا مما يدرس الآن في العلوم الحديثة، فأي خسارة كانت ستعود على المسلمين إذا انشغل المسلمون والصحابة بذلك عما يصلح الدين وما يصلح الآخرة، وعن أركان هذا الدين، وعن تفاصيل العبادات والمعاملات، وتفاصيل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتفاصيل الأخلاق الإسلامية؟! هذه الأمور نعرفها بالخبرة البشرية، وبمرور الوقت تنكشف علوم الدنيا؛ لأنها متعلقة بالمعاش وبالدنيا.
أما الأمور الشرعية -وهو البر- فلا سبيل إلى أخذه إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحكام التقوى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا))، فعوتبوا عندما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما يمكنهم معرفته من غير جهته، فلو سألوا عالماً من أهل الهيئة فإنه سيشرح لهم موضوع الهلال كيف يزيد وينقص، فلما جاءوا يسألونه عما أمكنهم معرفته من غير جهته بين لهم أنه ليس البر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس مختصاً بعلم نبوته، ولكن البر هو مجرد التقوى؛ وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين.
قال أبو مسلم الأصبهاني: المراد بهذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء، فإنهم كانوا يؤخرون الحج عن وقته الذي عينه الله له، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.
وقد روى البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله تعالى عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها -يعني: من النافذة أو من فتحة الجدار- قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، وخالف هذه العادة التي كانت عند الأنصار في الجاهلية، فعيروه فنزلت: ((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا))، وقول البراء: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا إلى آخر الأثر؛ هذا بحسب ما ظنه هو، وليس معنى ذلك أنها نزلت فيهم فقط، ولكن نقول: هي تصدق على هذا الحال، لا أن ذلك كان سبب نزولها، فأحياناً يقول العلماء: نزلت هذه الآية في كذا، وليس المقصود أن هذا هو سبب النزول، وإنما المقصود أن هذه الآية تصدق على هذا الحال، وإن لم يكن هو سبب النزول.
((وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) أي: تحروا لكل عمل إتيان الشيء الديني منه، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه يصعب تناوله.
ثم قال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، حثاً لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه، وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.(14/5)
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)
قال تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، لما صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وصالح الكفار على أن يعود العام القادم، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، وتجهز لعمرة القضاء؛ خاف المسلمون ألا تفي قريش بذلك ويقاتلونهم، وكره المسلمون قتالهم في الحرم والإحرام والشهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يعني: لا تتحرجوا عن القتال إذا قاتلكم المشركون أثناء إرادتكم عمرة القضاء، حتى ولو كنتم محرمين، ولو كنتم داخل البلد الحرام، ولو كنتم في الشهر الحرام؛ لأنكم لستم البادئين بهذا العدوان.
((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: لإعلاء دينه.
((الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)) أي: من الكفار.
((وَلا تَعْتَدُوا)) أي: لا تعتدوا عليهم بابتداء القتال.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] أي: المتجاوزين ما حُد لهم، وهذا منسوخ بآية براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، وبقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] وقد سبق أن تكلمنا بالتفصيل في معنى النسخ هنا، وأنه ليس المقصود به المعنى الاصطلاحي المتأخر، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، ولكن النسخ هنا رفع الإيهام والإبهام يعني: حسب حال المسلمين من القوة والضعف، فإن كانوا في حال قوة وتمكين فإنهم يبدءون المشركين بالقتال، كما قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] إلى آخر الآية، وإن كانوا لا يستطيعون إلا الدفاع فيجب عليهم الدفاع، وإن كانوا لا يستطيعون الدفاع فيصبروا ويأخذوا بآيات الإعراض عن المشركين والصفح والصبر على الأذى، وقد سبق أن تكلمنا عن هذا بالتفصيل مراراً.(14/6)
تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)
قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] أي: حيث وجدتموهم، {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] أي: من مكة، وقد فعل بهم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح.
{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] (الفتنة) أي الشرك الذي يقع منهم (أشد) أي: أعظم، (من القتل) أي: من قتالهم في الحرم أو في الإحرام الذي استعظمتموه؛ لأنه إن كنتم تخافون أن يقاتلوكم وتنتهكوا بقتالهم حرمة الإحرام والشهر الحرام والبلد الحرام، فما هم عليه من الشرك وهم داخل الحرم الشريف وفي الشهر الحرام أشد من قتلكم إياهم.
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] يعني: في الحرم؛ لأن المسجد الحرام يطلق على عدة إطلاقات: يطلق على الكعبة نفسها كقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:97]، ويطلق على المسجد، ويطلق على مكة ومنى، قال الله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:25]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، ومعلوم أن الإسراء كان من بيت أم هانئ من داخل مكة، فقوله هنا: ((وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) يعني: في الحرم، وحدود الحرم أوسع من حدود مكة.
{حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] يعني: فإن قاتلوكم فيه، (فاقتلوهم) يعني: فيه، وفي قراءة: بلا ألف في الأفعال الثلاثة، يعني: (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم).
{كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191] يعني: كذلك القتل والإخراج جزاء الكافرين.(14/7)
تفسير قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)
قال تعالى: {فَإِنِ انتَهَوْا} [البقرة:192] أي: عن الكفر وأسلموا، لا بد أن ننتبه لهذا؛ لأن الله قال في آخرها: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:192]، والله سبحانه لا يغفر للمشرك، أو لا يرحم المشرك، فلا بد أن نفسر الانتهاء هنا بمثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا: فإن الله غفور لهم، رحيم بهم.(14/8)
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]، ما إعراب كلمة (فتنة).
(كان) هنا ليست ناسخة، بل هي تامة، والتقدير: وقاتلوهم حتى لا توجد فتنة، فكان هنا تامة مثل كان الله ولم يكن شيء معه، فالله: لفظ الجلالة هنا فاعل، ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة:280]، ذُو: فاعل.
((حَتَّى لا تَكُونَ)) أي: حتى لا توجد، ((فِتْنَةٌ)) أي: شرك.
ثم قال تعالى: ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) يعني: وحده لا يعبد إلا هو، ((فَإِنِ انتَهَوْا)) يعني: عن الشرك، فلا تعتدوا عليهم، دل على هذا التفسير قوله تعالى: ((فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)) يعني: فلا تعتدوا عليهم بقتل أو غيره، ومن انتهى وتوقف فليس بظالم، فلا عدوان عليه.(14/9)
تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام)
قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:194]، المقصود بالشهر الحرام: الشهر المحرم، فكما قاتلوكم فيه فاقتلوهم في مثله، وهذا رد لاستعظام المسلمين ذلك؛ لأن المسلمين استعظموا أن يقاتلوا المشركين في الشهر الحرام، فبين الله سبحانه وتعالى أنه إذا كان قتالكم إياهم على سبيل المقابلة بالمثل، فلا حرج عليكم في ذلك.
{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194] الحرمات: جمع حرمة، وهو ما يجب احترامه.
((قِصَاصٌ)) أي: يقتص بمثلها إذا انتهكت.
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] أي: بقتال في الحرم أو في الإحرام أو في الشهر الحرام، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] هذا من باب المقابلة فقط، ولكن هو في الحقيقة لا يسمى عدواناً بل هذا من العدل، فمن اعتدى عليك فقابلته بالمثل لا يسمى عدواناً، ولكن أطلق الله سبحانه وتعالى عليه عدواناً من باب المقابلة فقط؛ لاجتماعهما في نص واحدٍ كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فهل السيئة الثانية التي تقابل أنت بها الأولى تعتبر سيئة؟ لا، بل هذا من العدل، وهي حسنة، وهذا من باب المشاكلة اللفظية لوجودهما في نص واحد، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فأطلق على الفعل الأول لفظ العقوبة من باب المشاكلة أو المقابلة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] يعني: في الانتصار وترك الاعتداء.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] أي: بالعون والنصر.(14/10)
تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:195] أي: في طاعته كالجهاد أو في غيره، {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة:195] أي: بأنفسكم، عبر عن الأنفس بالأيدي، وهذه الباء يقول عنها النحاة: إنها زائدة، أي: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الجهاد؛ لأن هذا يقوي العدو عليكم.
{وَأَحْسِنُوا} [البقرة:195] أي: بالنفقة وغيرها، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] أي: يثيبهم على هذه النفقة.(14/11)
زيادة تفسير لقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)
قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، هذا تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، يعني: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم.
((وَلا تَعْتَدُوا)) يعني بابتداء القتال، أو (لا تعتدوا) بتعدي حدود الله، وتجاوز الآداب الشرعية في القتال، كقتل النساء أو الصبية أو الرهبان المتعبدين من أصحاب الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد، أو التمثيل بالجثث أو المفاجئة بالقتال من غير دعوة، فكل هذا داخل في العدوان.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: المتجاوزين حكمه في هذا.
((وَاقْتُلُوهُمْ)) يعني: هؤلاء الذي يقاتلونكم اقتلوهم، {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان أشد عليه من القتل، ففتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالتعذيب والإخراج من الوطن أشد قبحاً من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه في اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.
فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في الحرم، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين؛ لأن الفتنة أشد من القتل.
وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}؛ لأن حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، وهذا بمثابة الاستثناء من قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يعني اقتلوهم حيث ثقفتموهم إلا في المسجد الحرام فلا تبدءوهم بقتال في الحرم، إلا إذا قاتلوكم فيه، فهذا استثناء من عموم قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، يعني: اقتلوهم في أي مكان من الأرض وجدتموهم فيه إلا في المسجد الحرام، فلا تبدءوا بقتالهم حتى يبدءوا هم بقاتلكم فيه؛ مراعاة لحرمة الحرم.
((فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ)) يعني: في الحرم، فلا تفكروا في الفرار من الحرم، ولكن اثبتوا في الحرم، وقاتلوهم فيه؛ إذ لا حرمة لهم حينئذ عند المسجد الحرام.
{كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، لا يجعل لهم حرمة كما لم يراعوا حرمة الله في آياته، فدلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدءوا بالقتال فيه؛ دفعاً لصولتهم، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم وقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، وقال صلى الله عليه وسلم لـ خالد ومن معه يوم الفتح: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا)، فما عرض لهم أحد إلا أناموه، وأصيب من المشركين اثنا عشر رجلاً كما في السيرة، والله سبحانه وتعالى أحل لنبيه مكة ساعة من النهار كما جاء في الحديث: (وإن الله قد أحلها لي ساعة من النهار، وإن حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس) أي: أباح الله له مكة ساعة من النهار عند فتحها، وبعد ذلك عادة حرمتها، وحتى أنه يحرم حمل السلاح بمكة بعد ذلك إلى الأبد.
((فَإِنِ انتَهَوْا)) أي: عن القتال، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال القاسمي: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم تخلقاً بصفتي الحق تبارك وتعالى: المغفرة والرحمة، وقال بعضهم: (فإن انتهوا) أي: عن الشرك والقتال، (فإن الله غفور) لما سلف من طغيانهم، (رحيم) بقبول توبتهم وإيمانهم.
((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) أي: حتى لا توجد في الحرم فتنة، ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله).
((فَإِنِ انتَهَوْا)) يعني: عن قتالكم في الحرم ((فَلا عُدْوَانَ)) أي: لا سبيل لكم بالقتل ((إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)) الذين يبتدئون بالقتال.
قيل لـ ابن عمر: أنت صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج معنا في هذا القتال؟ -أي: القتال في الفتنة- فقال: يمنعني أن الله حرم ذلك، قالوا: فإن الله قال: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))! فقال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله، رواه البخاري، ثم ساق رواية أخرى فيها: قال ابن عمر رضي الله عنهما: (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة).(14/12)
زيادة تفسير لقوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام)
قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} يعني: مراعاة حرمة الشهر واجبة مع من راعى حرمة الشهر، وأما من هتكها اقتص منه، فهتك حرمته بهتكه لحرمته، فيقاتلون عند المسجد الحرام إذا قاتلوا فيه، فإن البادئ أظلم.
وقوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} القصاص بمعنى المساواة والعدل، فمعنى: (والحرمات قصاص) يعني: متساوية، فلا يفضل شهر حرام على آخر بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونهم، على أنا لا نهتك حرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام والحرم، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدهما؛ لأن هؤلاء المشركين قاتلونا في المسجد الحرام أو قاتلونا في الشهر الحرام فقاتلناهم، فهل معنى ذلك أننا نهتك حرمة الحرم؟! لا، نحن لا نهتك حرمة الحرم، ولا حرمة الشهر، وإنما نهتك حرمة من لم يراع حرمة الحرم ولا حرمة الشهر.
والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك، والقصاص المساواة، {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي: والحرمات ذوات قصاص.
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، هذا أمر بالعدل حتى مع المشركين، يعني: عاقب بقدر الظلم الذي وقع بك، ولا تتجاوزه وإلا كنت ظالماً؛ ولذلك قال: ((فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ))، وذلك لأن الحرمات قصاص كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].
((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) أي: في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم له، واتقوا الله أيضاً بألا تزيدوا في الاعتداء.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد.(14/13)
زيادة تفسير لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة)
قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:195] أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات، ومن أهمها صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) أي: إلى ما يقود ويؤدي إلى الهلاك، للتعرض لما تستوخم عاقبته جهلاً به.
يقول الراغب الأصفهاني: وللآية تأويلان بنظرين: أحدهما: أنه نهي عن الإسراف في الإنفاق وعن التهور في الإقدام، هذا هو التفسير الأول: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) يعني: لا تسرفوا في النفقة، أنفقوا ولكن لا تسرفوا في النفقة، ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) يعني: لا تتهوروا في الإقدام على مقاتلة الأعداء.
الثاني: أنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود في الجهاد.
إذاً: التفسير الأول: فيه النهي عن الإفراط في القتال وعن التهور في الإقدام.
التفسير الثاني: فيه النهي عن البخل بالمال، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة لأنكم إن امتنعتم عن النفقة في سبيل الله سيضعف جيش المسلمين، وبالتالي تهلكون جميعاً الفقير والغني.
قال بعض المفسرين: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) نهي عن البخل بالمال، ونهي عن القعود عن الجهاد، فإذا نكل الناس عن الجهاد فهذا إلقاء بالأيدي إلى التهلكة؛ لأن المشركين يعلون على المسلمين، فهو نهي عن البخل والإحجام عن الجهاد؛ ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]، ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال لتجرد المهاجرين عنها اشتهر في هذه الآية استدلال العلماء بهذا الحديث الصحيح الذي رواه جمع من العلماء منهم أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم، فأرسلوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيه! فصاح الناس: سبحان الله!! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه فقال: يا أيها الناس! إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار -ولم يذكر المهاجرين لأنهم تركوا الأموال والتجارة والبيوت وكل متاع الدنيا؛ ابتغاء رضوان الله سبحانه وتعالى، ونصرة لرسوله عليه الصلاة والسلام، فلما أتوا المدينة كانوا فقراء، والذين كان لهم أموال هم الذين كانوا يستوطنون المدينة من الأنصار- لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً -يعني: ما جهروا بهذا في المدينة، وإنما كان يستخفون به-: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها -أي: نجلس ونستثمر الأموال وننميها-؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا.
مع أن الرسول ما سمع منهم ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآية يرد عليهم هذا الذي قالوه خفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو أيوب: فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، رضي الله تعالى عنه.
يقول القاسمي: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ، بل بخصوص السبب، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال، يعني: في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها، وهذا هو الظاهر.
والأقرب -والله تعالى أعلم- في تفسير هذه الآية: ليس المقصود عدم الإسراف في النفقة؛ لأنه كما لا خير في السرف، فلا سرف في الخير، فلو أن إنساناً تصدق بماله في سبيل الله ابتغاء وجه الله فإنه لا يذم، أو أنفق المال في وجوه الخير كقرى الأضياف وإكرامهم، والنفقة على اليتامى والفقراء والمساكين أو في الجهاد في سبيل الله، فهذا لا يذم، فكما أنه لا خير في الإسراف؛ كذلك لا إسراف في الخير.
إذاً: معنى قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي: بترك النفقة؛ لأنكم إذا تركتم النفقة يضعف جيش المسلمين ويتقوى الأعداء فيهلكوكم ويستأصلوكم، أو: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) أي: بترك الجهاد، خلاف ما يفهم بعض الناس في هذا الزمان، كلما عملت أي شيء من أعمال الدين تجد من ينكر عليك ويقول: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ))! فيقولون: لمن ينصح الناس: (لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، ويقولون للذي يصلي في المساجد: (لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)!! إذاً: من يقوم بالدين؟! ترك هذه الأعمال هو عين إلقاء الأيدي إلى التهلكة، فتضييع الواجبات الشرعية هو عين إلقاء الأيدي إلى التهلكة.
هذا الرجل الذي حمل على صف الروم لا شك أنه سيكسر هؤلاء الرومان، لما يرون من شجاعة المسلمين، وبيعهم للدنيا، وكيف يخرج الواحد منهم وحده ولا يخاف منهم، ويطعن في كل هؤلاء، ويقابل كل هذا الصف، فيكفي الانكسار والهزيمة النفسية التي تحصل لأعداء الدين، فإنهم يقولون: هذا رجل واحد، فكيف بهذا الجيش العظيم من المسلمين؟! حينئذٍ تنكسر قلوبهم ويذلون، ويخافون ويرهبون من المسلمين، فهذا الرجل أدخل الرهبة والرعب في قلوب الكافرين حينما يرون هذا الاستبسال من جنود المسلمين، فهذا لا يسمى إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة؛ لأن الذي يدخل في صفوف الكفار ويقاتلهم غير منتحر، ولهذا نظائر كثيرة في التاريخ الإسلامي، كحادثة حديقة الموت المشهورة لما حملوا البراء على ترس ورموه داخل الحصن، مع تكدس الجيوش الكافرة فيه، فقاتلهم حتى تمكن من فتح الباب ودخل المسلمون.
إذاً: الجهاد في سبيل الله ليس إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة، الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو أن يضيع الجهاد، والنفقة في سبيل الله ليست إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة، بل البخل عن النفقة هو الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة.
وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروه، فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقبله، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فرده، وقال عمرو: قال الله: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)).
إذاً: هناك مذهبان في تفسير هذه الآية: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)): التفسير الأول: أنه نهي عن البخل عن النفقة في سبيل الله، ونهي عن ترك الجهاد.
التفسير الآخر: أي: بالإسراف في النفقة في الجهاد، وأيضاً التهور بالإقدام في الجهاد، فمن قال بالعموم ذهب هذا المذهب، ومن قال بالخصوص ذهب إلى ما ذهب إليه أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وعلى أساس الأخذ بالعموم يكون من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: التهور في الإقدام في الجهاد، قال الحاكم: تدل الآية -على أساس هذا التفسير- على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خاف الإنسان على نفسه، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف على نفسه؛ لأن كل ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وكما فعله أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفين، وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية، وتدل أيضاً على جواز مصالحة الإمام الكفار بشيء من أموال الناس إذا خشي التهلكة، ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا بترك ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يعزم إلا على ما يجوز.
والتهلكة والهلاك والهلك واحد، فهي مصدر، ولا أعلم في كلام العرب مصدراً على وزن التفعلة إلا التهكلة، وهو من نوادر المصادر، ولا يجرى على مثلها.
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أي: يثيبهم عليها، يعني: على النفقة وغيرها.
وهذا تأويل لصفة المحبة، حيث فسر (يحب) بمعنى: يثيب، فهو يؤول صفة المحبة التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه بالإثابة، وهذا مخالف لمنهج السلف في إمرار آيات الصفات على ما جاءت دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه.(14/14)
تفسير سورة البقرة [196 - 199](15/1)
تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)
قال تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يعني: أدوهما بحقوقهما، والإتمام هنا بمعنى: الفعل نفسه، أتموا يعني: أدوا.
وتوجد قراءة غريبة وهي: (وأتموا الحج والعمرةُ لله)، فمن قرأها ذهب إلى عدم وجوب العمرة، فقال: إنما الأمر متوجه إلى الحج؛ لكن القراءة المعروفة: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)) وقد استدل بها بعض العلماء على وجوب الحج والعمرة.
إذاً: (أتموا) من الإتمام، وذلك بتأديتهما تامتين بجميع مناسكهما المشروعة، لوجه الله تبارك وتعالى، أو يكون المقصود: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أن الإنسان إذا شرع في الحج أو العمرة ولو تطوعاً يجب عليه إتمامه، ولا يقطع الأداء كما قال تبارك تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فمن شرع في عبادة لزمه إتمامها، إذا كانت عبادة واجبة، أما أعمال التطوع لا يلزمه إتمامها إلا الحج والعمرة لهذه الآية: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)).
وهذه الآية اختلف العلماء فيها هل هي دليل على فرضية الحج أم لا، فمن قال: إنها دليل على فرضية الحج فإنه يفسر (أتموا) بمعنى: أدوا الحج والعمرة لله، فتكون مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وفريق آخر قالوا: هذه الآية ليست دليلاً على فرضية الحج، فإنها نزلت سنة خمس من الهجرة، والحج فرض بقوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وذلك في سنة تسع من الهجرة، وأجاب عن هذه الآية بأنها لا علاقة لها بموضوع الفرضية، وإنما هي توجب إتمامهما بعد الشروع فيهما فقط، ولا علاقة لها بفرضية الحج.
قال الراغب: (أتموا) خطاب لمن خرج حاجاً أو معتمراً، فأمر ألا يصرف وجهه حتى يتمهما، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل الإنسان فيها متنفلاً، وأنه متى أبطلها وجب قضاؤها، وقيل: إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة، وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإتمام شرائطها كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، واحتج به على وجوب العمرة، وإنما قال في الحج والعمرة: (لله) ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة، من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصهما بالذكر لله تعالى، حثاً على الإخلاص فيهما.(15/2)
معنى قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)
قوله تعالى: ((فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)) أي: إن حبستم عن إتمام الحج والعمرة فما استيسر من الهدي، وهناك خلاف مشتهر بين العلماء في الإحصار، هل الإحصار يكون بالعدو فقط؟ ذهب بعض العلماء إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {فَإِذَا أَمِنتُمْ}، فلا يقال لمن مرض: فإذا أمنتم، وإنما يقال ذلك لمن حبسه العدو.
وفريق آخر من العلماء قالوا: إن الإحصار يشمل الإحصار بالعدو، ويشمل الإحصار بالمرض أو بالسلطان الظالم أو بأي سبب من الأسباب التي يحصر بها الإنسان.
وقوله: (فما استيسر) أي: فاذبحوا أو فانحروا الواجب عليكم أو أهدوا ما استيسر من الهدي، والهدْي أو الهديّ جمع هدية، وهو: ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقرباً إلى الله تعالى.
والهدي يجب على من أحصر ما لم يشترط، فإذا اشترط الإنسان عند الإحرام فلا يجب عليه إذا أحصر أن يذبح هدياً؛ لأنه ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -أي: مريضة- فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)، فإذا أراد الإنسان أن يحرم بالحج أو العمرة، ويخشى أنه قد يحبسه حابس من سلطان ظالم أو عدو أو مرض أو غير ذلك من الأعراض، ويريد ألا يكون عليه هدي إذا أحصر؛ فيشترط عند الأحرام بأن يقول مثلاً: لبيك اللهم بعمرة، ومحلي من الأرض حيث تحبسني أي: محلي حيث حبستني.
يعني: أنا أحرم لكن بشرط: إن حبست وأحصرت فأنا محل ولست محرماً، وهذا يسمى الاشتراط في الإحرام.(15/3)
معنى قوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله)
قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} يعني: الموضع الذي يحل فيه نحر الهدي، والمقصود به موضع الإحصار، وهذا أقرب إلى يسر الإسلام من أن يقال: إن المحل هو أن يواعد رجلاً في الحرم ليذبحه له في موعد معين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حصره وأصحابه كفار قريش عن الدخول في الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بالحديبية، ولم يبعثوا بالهدي إلى الحرم.
قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يقول السيوطي: أدوهما بحقوقهما.
وهناك أقوال كثيرة في تفسيرها: القول الأول: (الإتمام) المقصود به: الأمر بالأداء كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] يعني: أداهن، ومنه أيضاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
القول الثاني في تفسير (وأتموا) يعني: إتمامهما بعد الشروع فيهما، فمن أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه، ولا يفسخه.
القول الثالث: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وهذا قول علي رضي الله تعالى عنه وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما بسفره، يعني: اجعل سفرة واحدة للحج، وسفرة واحدة للعمرة، وهذا دليل لمن فضل الإفراد على التمتع والقران، فإنهم استدلوا بهذا التفسير فقالوا: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، يعني: تنشئ سفراً مستقلاً لكل نسك، وقالوا: إن التمتع فيه جمع نسكين في سفر واحد، وذهبوا إلى أنه يجب على المتمتع الذبح ليجبر النقص في عبادته؛ لأنه لم يسافر لكل نسك، بل أدى الحج والعمرة في سفرة واحدة، فإنه يؤدي العمرة في أشهر الحج ثم يبقى في مكة متمتعاً حتى يوم التروية، فيهل بالحج، ففي سفرة واحدة أدى العمرة والحج وتمتع ووفر على نفسه مشقة سفر ثان، قالوا: يجب عليه الدم في حالة التمتع حتى يجبر هذا النقص الذي نشأ عن عدم سفرة أخرى، وموضوع المفاضلة بين أنواع الحج بحث طويل، وليس هو مقصود كلامنا الآن.
القول الرابع في معنى قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)): قال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما، لا لتجارة ولا لغير ذلك، يعني: أن تجرد النية لإرادة الحج والعمرة، وهذا لا يعني تحريم التجارة في الحج أو زيارة الأقارب أو صلة رحم أو غير ذلك، لكن قال: إتمامهما أن تكون قاصداً الحج أو العمرة فقط.
القول الخامس: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أدوهما كاملتين ظاهراً وباطناً.
يقول السيوطي: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) أدوهما بحقوقهما، (فإن أحصرتم) أي: منعتم عن إتمامهما بعدو (فما استيسر) يعني: ما تيسر (من الهدي) عليكم، يعني: عليكم أن تذبحوا ما تيسر أو تهدوا ما تيسر، وأقل ما يجزئ شيء شاة.
{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي: لا تتحللوا حتى يبلغ الهدي المذكور محله، يعني: حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار، بدلالة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر في الحديبية نحر في نفس الموضع، فيذبح المحصر في موضع الإحصار بنية التحلل، ويفرق اللحم على مساكين ذلك الموضع، ثم يحلق، وبه يحصل التحلل.(15/4)
معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية)
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} أذى كقمل أو صداع أو أي علة مرضية أدت إلى أن يحلق رأسه وهو محرم، ومعروف أن قص الشعر أو حلقه في أثناء الإحرام من محظورات الإحرام، وفي الأثر المعروف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً.
{فَفِدْيَةٌ} يعني: فعليه فدية؛ لأنه حلق {مِنْ صِيَامٍ} يعني: ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} ثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين {أَوْ نُسُكٍ} أي: ذبح شاة، و (أو) للتخيير، فيختار شيء من هذه الثلاث، وألحق به من حلق لغير عذر؛ لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر، فمن تعاطى من هذه الأشياء المحظورة في الإحرام فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وقوله تعالى: ((فَمَنْ تَمَتَّعَ)) أي: استمتع ((بِالْعُمْرَةِ)) أي: بسبب فراغه منها تمتع بمحظورات الإحرام، ويكون الإنسان متمتعاً بأن يؤدي عمرة في أشهر الحج، وهي من أول شوال، فمن أدى العمرة يمكث في الحرم ولا يخرج إلى مسافة قصر، واختلف العلماء إذا خرج مسافراً من مكة ثم عاد مُهلاً بالحج، والراجح أنه مفرد لا متمتع؛ لأنه سافر سفرتين للعمرة وللحج، فمن أدى -مثلاً- عمرة في شوال، ثم رجع إلى مصر، ثم أحرم بالحج من مصر وذهب ليؤدي الحج فهل هذا متمتع؟ لا ليس متمتعاً، وبعض العلماء يقولون: إنه لا ينقض تمتعه إلا إذا عاد إلى الميقات الذي أتى منه أو أي ميقات من المواقيت المعروفة أو إذا سافر مسافة قصر، وهذا أقرب الأقوال، وهو مذهب الإمام أحمد، فإذا خرج من مكة دون مسافة السفر وعاد مهلاً بالحج فلا زال متمتعاً.
قال الراغب: لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربعة شرائط: الأول: إيقاع العمرة في أشهر الحج، والتحلل منها في أشهر الحج.
الثاني: أن يتمم بالحج من سنته، يعني: إذا أدى العمرة، ثم بقي في مكة حتى حج السنة القادمة، فهل هذا متمتع؟ لا، فلابد أن يؤدي العمرة في أشهر الحج.
الثالث: ألا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج.
الرابع: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لأن أهل مكة ليس لهم تمتع، فلو أن رجلاً يعيش في مكة أدى العمرة في أشهر الحج، ثم أهل بالحج في يوم التروية، فهل هو متمتع؟ لا، فأهل مكة ليس لهم تمتع.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} أي: بسبب فراغه من العمرة بمحظورات الإحرام {إِلَى الْحَجِّ} أي: إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره ((فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)) وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به، ولا بد أن يذبح في يوم النحر؛ لقوله تعالى: ((حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)) والمحل نوعان: محل زماني، ومحل مكاني.
المحل المكاني: هو الحرم، سواء في منى أو في مكة، فالحرم كله منحر يذبح فيه.
المحل الزماني: هو: يوم النحر، فهذا هو المحل الزماني الذي يحل فيه ذبح الأنعام، أما الذبح قبل ذلك فهذا -والله تعالى أعلم- لا يصح.(15/5)
معنى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: من لم يجد الهدي، لفقد الهدي أو فقد ثمنها {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} يعني: عليه صيام ثلاثة أيام في الحج.
واختلفوا في صيام هذه الأيام الثلاثة، فبعضهم قال: في أشهر الحج، وبعضهم قال: بعد الإحرام بالحج، وأقرب الأقوال -والله تعالى أعلم- أنه يكون السادس والسابع والثامن من ذي الحجة، ولا يكون في التاسع (يوم عرفة) حتى لا يضعف عن الدعاء.
وبعض العلماء قالوا: يحرم بالحج، ثم يصوم وهو محرم.
وقام الدليل على جواز صيام أيام التشريق الثلاثة التي هي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهي بعد يوم العيد، وصوم أيام التشريق منهي عنه لغير المحرم الذي لم يجد الهدي.
إذاً: يجوز صوم الثلاثة الأيام يوم ستة وسبعة وثمانية من ذي الحجة، ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي، قاله السيوطي، وقد تقدم أن هناك دليلاً يدل على جواز صيامها.
{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي: إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل: إذا فرغتم من أعمال الحج، وفيه التفات عن الغيبة {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، هذا تأكيد لما قبله.
{ذَلِكَ} أي: الحكم المذكور، وهو الصيام على من تمتع: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني: بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي، فإن كان فلا دم عليه ولا صيام وإن تمتع.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: فيما يأمركم به وينهاكم عنه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.(15/6)
تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات)
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] يعني: وقت الحج أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، ومذهب الإمام مالك أن كل ذي الحجة داخل في أشهر الحج؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، والآية تقول: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ)) يعني: ثلاثة وليس اثنين.
ومن العلماء من قال: لا، فالآية (فمن فرض فيهن) تدل أنه يجوز أن ينوي الإنسان فيها بالحج، وهل يجوز أن يحج إنسان في اليوم العاشر من ذي الحجة؟ لا، فاليوم العاشر هو يوم العيد، فأصح المذاهب في هذا هو قول من قال: أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة؛ لأن اليوم التاسع يجوز بدء الحج منه، فالله يقول: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، (فيهن): ظرف لفعل الحج، وهذا لا يكون إلا من بداية شوال حتى اليوم التاسع من ذي الحجة.
((فَمَنْ فَرَضَ)) أي: على نفسه، ((فِيهِنَّ الْحَجَّ)) بالإحرام به، {فَلا رَفَثَ} يعني: لا جماع فيه، {وَلا فُسُوقَ} يعني: لا معاصي، {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} يعني: لا خصام في الحج، وفي هذه القراءة: (فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج)، وفي قراءة: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج)، والمراد النهي.
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة:197]، فيجازيكم به.
ونزل في أهل اليمن وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلاً على الناس، ويزعمون أنهم متوكلون، ويأكلون من الصدقات {وَتَزَوَّدُوا} يعني: ما يبلغكم لسفركم، {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} قيل: التقوى هنا ما يتقى به سؤال الناس، أي: المال الذي يقيك أن تسأل الناس.
{وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} يعني: يا ذوي العقول.(15/7)
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم)
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا} [البقرة:198] يعني: في أن تبتغوا، أي: تطلبوا.
{فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] بالتجارة في الحج، نزل رداً لكراهتهم ذلك، فبعض الناس كانوا يتحرجون من التجارة في الحج، فنزلت هذه الآية لإباحة ذلك، ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) وهذه الصيغة تفيد الإباحة.
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ} أي: دفعتم {مِنْ عَرَفَاتٍ} بعد الوقوف بها، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} بعد المبيت بمزدلفة للتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: المشعر الحرام هو جبل في آخر المزدلفة يقال له: قزح، وأغلب الناس لا يقفون هذه الوقفة، وهذه غير وقفة عرفات، ووقفة عرفات كل الناس يهتمون بها، أما وقفة المزدلفة فيندر من يهتم بها من الحجاج، وهي وقفة تكون بعد صلاة الفجر، فيصلي الحاج الفجر مبكراً جداً بقدر المستطاع ثم يستقبل القبلة، ويظل واقفاً يدعو حتى إذا أسفر جداً -يعني: ينتشر الضوء وتكاد الشمس أن تطلع- يتجه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، فهذه الوقفة من المواضع المباركة في الحج، ولكن أكثر الناس يغفل عنها، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم وقف في المشعر يذكر الله ويدعو حتى أسفر جداً) رواه مسلم.
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} لمعالم دينه ومناسك حجه، والكاف هنا للتعليل، يعني: لأنه هداكم، {وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ} يعني: من قبل هداه، {لَمِنَ الضَّالِّينَ} يعني: عن هذه الشرائع.(15/8)
معنى قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)
قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ثم أفيضوا يا قريش، وهو عام لجميع من حج ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) يعني: من عرفة، بأن تقفوا بها معهم، وكانوا يقفون بالمزدلفة ترفعاً عن الوقوف معهم، و (ثم) للترتيب في الذكر {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199] يعني: من ذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] أي: غفور للمؤمنين رحيم بهم.
والإفاضة هنا: ليست من المزدلفة، بل من عرفات مع أن سياق الكلام ظاهره أن الإفاضة من المزدلفة، على أن (ثم) للترتيب، فسياق الآيات: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:198 - 199].
فالأصل أن المعنى: أفيضوا من مزدلفة، لكن الأقرب أن (أفيضوا) هنا أي: من عرفات، و (ثم) هنا ليست للتراخي، بل هي للتفاوت بين الإفاضة من عرفات والإفاضة من المزدلفة.
فالأمر في قوله: (أفيضوا) إما أنه موجه إلى بعض الناس، أو أنه موجه إلى قريش بالذات؛ لأن قريشاً كانوا يترفعون على الناس ويتكبرون عليهم في الجاهلية، ويقولون: نحن أهل حرم الله، ونحن أولى بالكعبة.
فيترفعون عنهم أن يخرجوا مع الناس إلى عرفات اعتداداً بحرمة الحرم، وكانوا يسمون الحمس.
يقول القاسمي: في الخطاب وجهان: أحدهما: أنه لقريش، وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم، وتعظمهم أن يساووهم في الموقف، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، وقطان حرمه -أي: سكان حرمه- فلا نخرج منه، فيقفون في المزدلفة وسائر الناس بعرفات، وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي: من عرفات، يعني: أنتم وسائر الناس سواء.
إذاً: (ثم) هنا ليست لترتيب الأفعال، ولكن للتفاوت بين الإفاضتين.
القول الثاني: أن قوله: ((ثُمَّ أَفِيضُوا)) أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، والمقصود الناس هنا: إبراهيم عليه السلام، باعتبار أن إبراهيم عليه السلام يمثل المجتمع، وهذا على سبيل المدح لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الواحد قد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً على أنه يقوم مقامهم في الحكم، يقول الشاعر: وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد وقال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120] فأطلق على إبراهيم أمة؛ ولذلك قالوا: إن الناس هنا: ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) إبراهيم عليه السلام، يعني: من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام.
فإن قيل: (ثم) تستلزم تراخي الشيء عن نفسه سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط.
ف
الجواب
أن كلمة (ثم) ليست للتراخي، بل لذكر التفاوت بين الإفاضتين، أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة، واختلاف الحكم بينهما، فأحدهما صواب والأخرى خطأ، فالإفاضة من عرفات صواب، والإفاضة من مزدلفة خطأ على النحو الذي كانت تفعله قريش.
قال: التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} المعنى التعريضي كان المعنى لا تفيضوا من مزدلفة؛ ولكن أفيضوا من عرفة من حيث أفاض الناس، والمقصود من كلمة (ثم): التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب والأخرى خطأ.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} يعني: عما سلف من المعاصي {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكثيراً ما يأمر الله سبحانه وتعالى في نهاية العبادات بالاستغفار وبذكره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الصلاة استغفر ربه ثلاثاً.(15/9)
تفسير سورة البقرة [203 - 217](16/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات)(16/2)
معنى التشريق
التشريق في اللغة: هو تقديد اللحم، فاللحم يقطع قطعاً صغيرة ويجفف في الشمس، فهذا اللحم يسمى القديد، وتقديد اللحم اسمه عند العرب: التشريق، ومنه قيل: أيام التشريق، فبعض الحجاج يأتون باللحم -لحوم الهدي- فيقطعونها قطعاً صغيرة وينشرونها من أجل أن تجف حتى يأخذوها معهم إذا رجعوا من الحج ويأكلوها، فهذا هو التشريق.
وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، ويوم التروية هو يوم الثامن من ذي الحجة؛ لأنهم كانوا يحملون الماء في القرب حتى يرويهم، يليه يوم التاسع الذي هو يوم عرفة، ويلي يوم عرفة يوم العاشر وهو يوم النحر، أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر فهذه أيام التشريق.
واليوم الأول من أيام التشريق يسمى: يوم القر -من القرار-، واليوم الثاني يسمى: يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز لمن أراد أن يتعجل أن ينفر من منى ثاني يوم، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، واليوم الثالث من أيام التشريق يسمى: يوم النفر الثاني.
إذاً: التشريق هو تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تشرّق فيها أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.(16/3)
معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)
قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203].
قوله: (من تعجل) أي: بالنفر من منى بعد رمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام فلا يأثم بهذا التعجيل.
فيرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، كل جمرة يرميها بسبع حصيات، ثم من رمى اليوم الثاني، وأراد أن يدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمي يومها فهذا سائغ له، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، أي: إذا رمى الجمرات ونوى أن يتعجل لكنه قبل أن يخرج من منى ويغادرها غربت الشمس عليه، فيجب عليه في هذه الحالة أن يبيت، فمن أراد التعجل يجب عليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس.
(ومن تأخر) يعني: من أخر الرمي أو بقي في منى حتى رمى في اليوم الثالث (فلا إثم عليه)، أي: في تأخره، والسُّنة هي التأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة.
ولا يقال هذا اللفظ -أي: (فلا إثم عليه) - في حق من أتى بتمام العمل، والأصل أن كلمة (فلا إثم عليه) تقال في حق المقصر، ولا تقال أصلاً في حق من كمّل العمل وأتى بكماله، فقوله: (ومن تأخر فلا إثم عليه) هي مجرد مشاكلة للفظ الأول في قوله: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، وإلا فإن الذي يأتي بالعبادة على أكمل وجوهها لا يقال في حقه: (فلا إثم عليه)، ولكن هذا من باب المشاكلة، ولها نظائر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، هل السيئة التي تعاقب أنت فيها بالمثل تسمى سيئة؟ لا، فمثلاً: القصاص أو العقوبة بالمثل هي عدل، وسميت سيئة فقط لمجرد المشاكلة؛ لاشتمالهما في لفظ واحد مشاكلة للفظ الثاني.
كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، (عوقبتم به) هذه يراد بها الإيذاء الذي بدئ به، فهل هذا الابتداء للإيذاء يسمى عقوبة؟ كلا! لا يسمى عقوبة، لكن هذا من باب المشاكلة.
كذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، هل مقابلة المعتدي بمثل عدوانه يسمى عدواناً؟ في الحقيقة ليس عدواناً، لكنه عدل، لكن تسميته بالاعتداء من باب المشاكلة اللفظية، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى؛ لأن المقصود نفي الاسم عنه، يعني: أنه من حيث المعنى صحيح، فمن تأخر فلا إثم عليه.
وقيل: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة، أي: المقصود: فلا إثم في الحالتين، بمعنى: إباحة التعجل وإباحة التأخر.
وقيل: رفع الإثم أنه حق ظهورهما بإقامتهما الحج، فعجل أو تأخر، (فلا إثم عليه) يعني: ستغفر له ذنوبه، أو ستحط عنه آثامه بسبب أنه أدى الحج بشرطه.
(فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى سيغفر له ذنوبه وآثامه.
كذلك: (ومن تأخر فلا إثم عليه) أيضاً له نفس هذا الثواب، وعلى ذلك دل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والشرط في ذلك هو التقوى، لذلك قال: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فما دام الأول اتقى الله، والثاني اتقى الله، فحج ولم يرفث ولم يفسق كان جزاءه رفع الآثام عنه وتطهيره منها.
(لمن اتقى) أي: أن الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام إنما هو لمن اتقى؛ لأنه هو الذي ينتفع بهذا الحج، فالذي ينتفع بالحج هو الذي يتقي الله تبارك وتعالى، كما في قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38]، وكذلك قوله تعالى: (هدى للمتقين)، فكذلك هنا قوله: (فلا إثم عليه) إنما يكون هذا (لمن اتقى).
(واتقوا الله) أي: في جميع أموركم.
(واعلموا أنكم إليه تحشرون) أي: للجزاء على أعمالكم، وهذا تأكيد للأمر بالتقوى، وحث على التشديد في أمرها؛ لأن من تصور أنه لابد له من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى تقوى الله عز وجل.
والحشر: اسم لما يقع من أحداث ابتداء من خروج الموتى من الأجداث -من القبور- للبعث والنشور إلى انتهاء موقف الحساب ودخول الناس الجنة أو النار، هذا هو ما يطلق عليه اسم: الحشر.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (واذكروا الله): بالتكبير عند رمي الجمرات.
(في أيام معدودات): وهي أيام التشريق الثلاثة.
(فمن تعجل) أي: استعجل بالنفر من منى.
(في يومين) أي: في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار، و (تعجل) أي: بأن يرمي الجمار ثم ينفر.
(فلا إثم عليه): لا إثم عليه في التعجيل.
(ومن تأخر) أي: بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، (فلا إثم عليه) يعني: بذلك.
والمقصود: أنهم مخيرون في ذلك، ونفي الإثم في قوله: (فلا إثم عليه لمن اتقى) أي: اتقى الله في حجه.
(واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) يعني: في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.(16/4)
تفسير قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)(16/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا والله لا يحب الفساد)
يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].
قوله تعالى: (يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي: يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه.
(ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يحلف بالله على الإيمان به، يقول: الله يشهد أن في قلبي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، الله يشهد أنني صادق في ذلك، الله يشهد أنني مؤمن بالقرآن! فهو يحلف بالله على الإيمان به والمحبة له، وأن الذي في قلبه موافق للسانه؛ لئلا يُتفرس فيه الكفر والعداوة.
أو أن معنى: (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، وهذا معنى دقيق ينبغي التنبه له.
فحظك أنت منه الكلام المعذور والإقرار بالإيمان والتصديق، فهو يخبئ في قلبه ما الله مطلع عليه، وحظ الله منه أنه مطلع على ما في قلبه، فيجعل الله يرى في قلبه النفاق، وحظك أنت التصديق باللسان! يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يحلف بالله على الإيمان به والمحبة له، وأن الذي في قلبه موافق للسانه؛ لئلا يُتفرس فيهم الكفر والعداوة.
أو معناه: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، على نحو ما وصف به أهل النفاق، كما وصف الله أهل النفاق بقوله حاكياً عنهم حين قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، كقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء:108].
وقوله عز وجل: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] أي: شديد الخصومة والجدل بالباطل.
ثم يقول تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
(وإذا تولى) أي: إذا انصرف عمن خدعه بكلامه، سواء الرسول عليه السلام أو غيره، وانصرف من أمام هذا الذي قال له هذا الكلام المعقول، وأشهده على ما في قلبه من الإيمان والتصديق كاذباً.
(سعى) أي: مشى.
(سعى في الأرض ليفسد فيها): ليدخل الشُّبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى: فساداً، وهو إثارة الشبهات والتشويش على الناس بإيمانهم.
كذلك أيضاً: استخراج الحيل والأساليب التي بها يقوي الكفار على المسلمين فهذا فساد، كقول الله عز وجل حاكياً عن الملأ من قوم فرعون قولهم: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف:127] أي: يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم عقيدتهم.
إذا حصل هذا التشويش والتشكيك بإثارة الشبهات في الدين وفي العقيدة وفي غير ذلك من أمور الدين، فيحصل بذلك أن الناس ينقسمون ويختلفون، وبالتالي تتفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتسفك الدماء، وبيان هذا كثير في القرآن المجيد.
(ويهلك الحرث) أي: الزرع، (والنسل) أي: النواسل الناتجة.
قال بعض المحققين: إن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد، والتعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل.
أي: إذا أردت أن تعبر عن شخص تمادى في الإفساد فإنك تذكر أن هذا قد أدى إلى إهلاك الحرث والنسل.
(والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى فعله.
فكل فساد يبغضه الله سبحانه وتعالى ولا يرضى عنه، ولذلك نقول: إنه لا ينبغي أن يسمح بوجود الفساد حتى في الكفار، وبعض الناس يقول: عندي جهاز خبيث مثلاً كالدش أو هذه الأجهزة المعروفة بالفجور، فهل أعطيها لرجل نصراني؛ لأني أريد أن أتوب، فلو أعطيتها لمسلم فسيفسد أهله وأولاده؟! ف
الجواب
إن الله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد سواء أتى من مسلم أو أتى من كافر، وتقليل الفساد ما أمكن هو أمر يحبه الله عز وجل، سواء كان المفسد مسلماً أو كافراً.
وأنت تلاحظ في أوائل الآيات في سورة البقرة حينما حكى الله سبحانه وتعالى صفات هؤلاء المنافقين، بدأ أولاً بنهيهم عن الفساد، ثم ثنى بأمرهم بالإيمان، فدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على التفصيل الذي نذكره في مناسبات أخرى، فالله سبحانه وتعالى قبل أن يأمرهم بالإيمان قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12]، ثم قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13].
إذاً: (والله لا يحب الفساد) عامة، فكل فساد لا يحبه الله سبحانه وتعالى، سواء كان الذي قام به مسلماً أم مشركاً.(16/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم)
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
(إذا قيل له) أي: تذكيراً وموعظة له، (اتق الله) يعني: في النفاق، واحذر سوء عاقبته، أو (إذا قيل له اتق الله) أي: في هذا الإفساد الذي تفسده في الأرض، وهذا الإهلاك، وهذا الجدال بالباطل.
(أخذته العزة بالإثم) أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم وهو: التكبر.
فيقول مثلاً: نحن في حضارة منذ سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن يعقب طارئ يغيرنا عن عقيدتنا! فقوله تبارك وتعالى: (أخذته العزة) أي: يتكبر عن الانقياد للحق، تحمله الأنفة وحمية الجاهلية، يحمى ويحمر أنفه، أي: بحمية الجاهلية على الفعل بالإثم، وتدفعه هذه الحمية إلى إثم التكبر وعدم الانقياد للحق.
أو المعنى، (أخذته العزة بالإثم) أي: أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول الناصح.
(فحسبه جهنم) أي: فتكفيه جهنم إذا صار إليها واستقر فيها جزاءً وفاقاً.
(ولبئس المهاد) أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فراش عزته، والمهاد والمهد معروف، وكل شيء وطيء يطلق عليه: ممهد، كطريق ممهد، والمهاد يجعل تارة جمعاً وتارة يجعل الآلة، (مهاد) جمع مهد، أو (مهاد) الآلة التي هي الفراش.
وجعل جهنم مهاد الظالم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]، فكلمة التبشير أو البشارة أو البشرى مأخوذ من البشرة؛ لأن الإنسان إذا سمع الخبر الحسن الطيب يظهر على بشرته السرور والانشراح، فلذلك سميت البشرى لأثرها على البشرة وعلى الجلد والملامح.
كذلك في هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يتهكم بهم ويقول: (فبشرهم) وهم إذا سمعوا كلمة تبشرهم ينشرحون، فإذا صدموا بكلمة: (بعذاب أليم) يكون أمعن وأوغل في معاقبتهم وتوبيخهم والتنكيل بهم.
فكذلك هنا قال تبارك وتعالى: (ولبئس المهاد)، والمهاد: هو المكان الذي ينام عليه الإنسان أو يستريح أو يفترشه، فمهادهم هو جهنم، فهذا من نفس الباب.
وقال الحاكم عبارة ينبغي حفظها والاهتمام بها جداً وهي قوله: هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك نفسك.
وهذا حال أغلب الناس، وبعضهم إذا قلت له: اتق الله، يقول لك: أنا أتقي الله أحسن منك! أو يقول: عليك بنفسك، أو: هذا لا يخصك.
إلى غير ذلك من العبارات الغليظة.
فمن صور أخذ العزة بالإثم عند المنصوح أنه إذا قيل له: اتق الله، يقول: عليك نفسك.
فالإنسان إذا قيل له: اتق الله.
عليه أن يحمر وجهه ويصفر وتنتابه الرعدة والخوف والوجل والخشية من هذا التحذير، لا أن يتكبر على من يقول له: اتق الله، فقد قيلت لأشرف خلق الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، بل جعلها الله وصية لجميع الأمم الأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية من الأعمال الصالحة.
قال الزمخشري: ومنه: رد قول الواعظ.
فهو يدخل في هذا الإثم العظيم.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72].
ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال أتبعه بقسيمه المهتدي، ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول والتخلق بنعوت الثاني، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى في الآية السابقة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] أي: ولا يعجبك في الآخرة لمخالفته لاعتقاده.
إذا تكلم في الدنيا فيحسن الكلام ويعجبك كلامه جداً في الدنيا، كما يتكلم كثير من الناس في السياسة في الرياضة في الفن في أسماء الممثلين أو أسماء اللاعبين، تجده موسوعة في هذه الأمور الدنيوية، وإذا سمعت له في الآلات والأجهزة وكافة عروض الدنيا فتسمع منه ما يعجبك فقط في الدنيا ولو كانت حراماً، بخلاف الآخرة، فإذا أتى أمر الآخرة فكالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون شيئاً من أمور الآخرة مع أنها خير وأبقى، وهذا هو مفهوم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، إذا تكلم في الآخرة لا يعجبك، إما لأنه معرض عن الآخرة، وإما لفساد اعتقاده في الآخرة، كأن يكون عابداً للمسيح، أو يكون عابداً للأوثان أو غير ذلك من العقائد الفاسدة في الآخرة.
(وهو ألد الخصام) أي: شديد الخصومة لك ولأتباعك بعداوته لك، وهو الأخنس بن شريق كان منافقاً حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، يحلف أنه مؤمن به ومحب له، فيدنو من مجلسه، فأكذبه الله في ذلك، ومر بزرع وحمر -أي: حمير لبعض المسلمين- فأحرقه وعقرها ليلاً، كما قال تعالى: (وإذا تولى) أي: إذا انصرف عنك، (سعى) أي: مشى، (في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) وهذا من جملة الفساد.
(والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى به.
(وإذا قيل له اتق الله) أي: في فعله.
(أخذته العزة) أي: حملته الأنفة والحمية على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه.
(فحسبه جهنم) أي: كافيه جهنم.
(ولبئس المهاد) أي: لبئس الفراش هي.(16/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)
يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
قوله: (يشري) أي: يبيع نفسه بأن يبذلها في طاعة الله عز وجل.
(ابتغاء مرضاة الله) أي: طلب رضا الله عز وجل.
(والله رءوف بالعباد) حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به وتقصيرهم في أمره، وهذا يتعلق برحمة العباد في الدنيا وهي عامة للمؤمن والكافر.
تنبيه مهم: قال بعض العلماء: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح، مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه.
فالآية: (ومن الناس من يشري نفسه) تتضمن عكس الصفات السابقة كلها، وإن لم تنص عليها صراحة، فإن من يبيع نفسه لله، ويجود بها، فهذا يدل على أقصى غاية الجود، فالجود بالنفس يدل على أقصى وأعلى درجات الإيمان واليقين التي تستلزم ما عداها وما دونها من صفات الإيمان، فإن من يبيع نفسه لله لا يريد ثمناً لها غير مرضاته، فلا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق والإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا، وهذا هو المؤمن الذي يعتز بالقرآن وبإيمانه.
فهذه تتضمن الصفات المقابلة لصفات الفريق الأول، إلى أن يأتي في الدلالة على اتصاف المؤمن بهذه الصفات قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)، إذ بلغ اجتهاده في إرضاء الله إلى حد أنه حمل روحه على كفيه وجاد بها إرضاء لله، فهل مثل هذا يكون ذا وجهين؟! وهل مثل هذا يتكلم بلسانين؟! وهل مثل هذا يرتضي عرض الدنيا بدلاً عن الآخرة؟! إذاً: هذا الوصف يتضمن كل الصفات المقابلة لصفات الفريق الأول.
وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وأخرج ما في كنانته - أي: أخرج السهام من الكنانة- ثم قال: يا معشر قريش! لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وايم الله! لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم -ثم بعد هذا الإرهاب لهم يقول-: وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم.
فالباطل أمام المال يسيل لعابه، نسوا أنهم خرجوا يطاردون هذا المهاجر إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله، فبعدما أرهبهم بهذه الطريقة أغراهم بالمال فخضعوا أمام المال وسال لعابهم، فنسوا ما عندهم من العقائد الباطلة التي خرجوا يقاتلونه من أجلها، فلما قال لهم: وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!) ونزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
وهناك قول لبعض العلماء وهو: أن هذه الآية نزلت في قصة قريش، فإذا صحت فلا يعني ذلك أنها بالفعل نزلت في هذا الحديث بالذات، وإنما يعني أنها تصدق على هذه الواقعة، فإن من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في وجودها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع في أسباب النزول التي يدخلها قدر من الاجتهاد، لكن لا يعول في أسباب النزول إلا على ما صح منه، وارتفع عن درجة الضعف.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه) أي: يبيع نفسه.
والبيع قد يطلق على الشراء، والشراء يطلق على البيع، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، (البيعان) يعني: البائع والمشتري، فهو يطلق على البائع والمشتري.
(ومن الناس من يشري) أي: يبيع نفسه ويبذلها في طاعة الله.
(ابتغاء) أي: طلب.
(مرضاة الله) أي: رضاه، وهو صهيب لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة وترك لهم ماله.
(والله رءوف بالعباد): حيث أرشدهم لما فيه رضاه.(16/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)
يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
(السلم): بكسر السين وفتحها -إما السِّلم أو السَّلم- وكلاهما قراءة متواترة في السبع، والمقصود به الإسلام.
قال امرؤ القيس بن عابس: فلست مبدلاً بالله رباً ولا مستبدلاً بالسلم دينا يعني: بالإسلام، ومنه قول أخي كندة: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا يعني: للإسلام.
قال الرازي: أصل هذه الكلمة من الانقياد، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: انقدت وخضعت، والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى؛ لأن معنى الإسلام يعني: الخضوع والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى.
وغلب اسم السَّلم على الصلح وترك الحرب، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61]، وهذا -أيضاً- راجع إلى هذا المعنى؛ لأن المتخاصمين إذا رضوا بالصلح فكل طرف ينقاد للطرف الثاني ولا ينازعه، فهي من نفس هذا المعنى.
ومعنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه كافة.
فهذا أمر بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وكل شريعة نزل بها القرآن أو جاء بها المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ يجب عليكم أن تطيعوها وتنقادوا لها، وتستسلموا لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون أن تقولوا: هذا ظاهر وهذا باطن، وهذا قشر وهذا لب، وهذه أمور مهمة وهذه سفاسف، كما يقول بعض الجهلة، فإنه لا يجوز أبداً أن يطلق هذا على شيء تناوله النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو بنهي ودخل من العادة إلى العبادة بهذا الأمر أو النهي، لا يمكن أن يكون هذا من السفاسف، والسفاسف هي أمور الدنيا، أما شيء من أمور الدين فلا يجوز أبداً أن يطلق عليه سفاسف، صحيح هناك أصول وهناك فروع، وهناك مهم وهناك ما هو أهم منه، لكن لا يوصف أبداً أي حكم شرعي ثابت بالقرآن أو بالسنة بأنه سفاسف كما يقول بعض الجهلة من أفراخ هذا الزمان، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)، وسفاسف الأمور: هي أمور الدنيا لحقارتها، أما أمور الدين فكلها معالي.
نعم؛ هناك مراتب وهناك أصول وهناك فروع، وهناك ما هو أهم، وهناك ما هو مهم، فيراعى فعلاً مراتب الأعمال بالذات عند تناقضها أو اصطدامها، ويرجح الأهم، لكن لا يوصف شيء من أمر الدين أبداً بأنه قشور، وأننا ينبغي أن نهتم باللب؛ لأن الذي تراه أنت لباً يراه غيرك قشراً، فتصبح الأمور فوضى، فهذه الآية من أعظم ما يستدل به على إبطال هذه البدعة والضلالة، وهي تقسيم الدين إلى قشور ولباب، أو إلى مظاهر وجواهر.
ثم يتبع ذلك التقسيم المناداة بإهمال هذه القشور، والتمسك باللباب والروح! فبعضهم يقول لك: كن مع روح النص! فكأنه يقول: علينا أن نستمسك بروح النصوص لا بحرفيتها! وهم يريدون أن يهلكوا روح النصوص لا أن يتبعوا أرواح النصوص.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: التزموا بجميع شرائع الإسلام، وأنت -أيها المسلم- ادفع بهذه الآية في نحر كل من يعاندك أو يعارضك، إذا نصحته بقول الله أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورددت على قوله بأن هذه سفاسف أو أنها أمور تافهة، أو أنها قشور، فقل له: يقول الله عز وجل: (ادخلوا في السلم كافة) يعني: التزموا بكل وجميع شرائع الإسلام دون استثناء.
{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208] أي: طرقه التي يأمركم بها.
وقد جاء التعبير بخطوات الشيطان؛ لأن الشيطان خبير في استدراج الإنسان إلى المحرمات، فلا يأمره مباشرة أن يرتكب الفاحشة، لكن يسهل الأمر، يسهل له النظر في البداية، وربما زين له هذا بقوله: تأمل في خلق الله وإبداع الله في خلقه، كما يزيغ بذلك بعض زنادقة العصر فيقول: إن غض البصر لابد أن نفهمه فهماً عصرياً، أنت تنظر للمحرمات مثلاً من النساء المتبرجات أو غير ذلك وقلبك سليم، بنية التأمل في إبداع خلق الله وغير ذلك من الكلام! فهذا من خطوات الشيطان حيث يستدرج الإنسان خطوة خطوة.
كذلك أيضاً: الفسق والفجور يسمونه فناً، وأن الموضوع بعيد جداً عن هذا التفكير الحيواني الذي تتهموننا به يا معشر المتدينين!! وهم أشد الناس فساداً وغرقاً فيما حرم الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الشيطان يضل الإنسان عن طريق خطوات يتم فيها استدراج الإنسان خطوة خطوة، فلو أتى بك من أعلى السلم وقال لك: ارمِ نفسك! فستقول: لا، سأهلك! لكنه يأخذك خطوة خطوة، درجة درجة، وهذه حيلته: نظرة فابتسامة فكلام فسلام فموعد فلقاء! والله أعلم ما يكون من البلاء بعد ذلك! فهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى أنه يقول: (خطوات الشيطان)، عندما يستدرجك إلى الحرام.
وضمّ الطاء من (خُطُوات) وإسكانها لغة، أي: في اللغة يمكن أن تكون: (خُطُوات) أو (خُطْوات)، وقد قرئ بهما في القراءات السبع.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] أي: ظاهر العداوة أو مظهر لها.
كما أخبرناكم عن قصته مع أبيكم آدم عليه السلام وغيره مما شواهده ظاهرة.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) (السلم) بفتح السين وكسرها يعني: الإسلام.
(كافة) حال من السلم أي: في جميع شرائعه.
(ولا تتبعوا خطوات) أي: طرق (الشيطان) أي: تزيينه بالتفريق بين أمور الدين.
(إنه لكم عدو مبين) أي: بيّن العداوة.(16/9)
تفسير قوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات)
يقول تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209].
(إن زللتم) يعني: عن الدخول في السلم.
(من بعد ما جاءتكم البينات) أي: الآيات الظاهرة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق (فاعلموا أن الله عزيز حكيم).
يقول السيوطي: (فإن زللتم) أي: مِلْتم عن الدخول في جميعه.
(من بعد ما جاءتكم البينات) أي: الحجج الظاهرة على أنه حق.
(فاعلموا أن الله عزيز) لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم.
(حكيم) أي: في صنعه.(16/10)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)
يقول تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210].
(هل ينظرون) يعني: هل ينتظرون، وكلمة: (نظر) تماماً ككلمة: (انتظر) يقال: نظرت وانتظرت إذا ارتقبت حضوره، وهذا استفهام إنكاري في معنى النفي، (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) يعني: لا ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة بعد طول الحلم عنهم (إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام).
ظلل: جمع ظلة، كقُلل جمع قلة، أي: في ظلة داخل ظلة، وهي ما يستر من الشمس، كما يقال: الشمسية لكل ما يسترك من الشمس، فهي عبارة عن طبقات بعضها داخل بعض، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة؛ لما لها من الكثافة التي تحجب على الرائي ما فيها، وتجعله لا يرى ما فيها من شدة كثافتها.
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] عطف على لفظ الجلالة أي: ويأتي جند الله من الملائكة الذي لا يعلم كثرتهم إلا هو، وهذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض يعني: (والملائكة) فهو عطف على ظلل أو الغمام.
(وقضي الأمر) أي: أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه.
قال الراغب: نبه به على أنه لا يمكن في الآخرة تلاقي ما فرط منهم في الدنيا.
(وإلى الله ترجع الأمور) أي: فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة، وراجع إليه تعالى؛ لأن الله مالك يوم الدين، يقول يوم القيامة: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، فلا يجيبه أحد سبحانه وتعالى، فيجيب نفسه عز وجل قائلاً: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فكذلك هؤلاء الذين كانوا نافذي الملك، وكان لهم قدرة على التصرف والرياسة والملك والحكم والتحكم في الناس؛ فكل هذا راجع إلى الله تعالى يوم القيامة.
(وإلى الله ترجع الأمور) يقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إليهم، فلو أن ملكاً مثلاً خرج من بلاده واستناب مثلاً ولي العهد، فبعد أن يقضي الزيارة ويرجع يقال: رجع الأمر إلى الأمير أو رجع الأمر إلى الملك، بمعنى أنه أخذ ما كان قد وكله فيه، أو فوضه فيه، فبنفس هذا المعنى يكون قوله: (وإلى الله ترجع الأمور) ولله المثل الأعلى سبحانه.
وقيل: (الأمور) هي الأرواح والأنفس دون الأجسام، وهذا تفسير آخر، وسماها أموراً من حيث أنها إبداعات مشار إليها بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فكأن معنى (الأمور) على التفسير الثاني: الأرواح كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29].
وقد قرئ في السبع: (تُرجعُ الأمور) بمعنى: تُرد، وبفتحها: (تَرجِعُ الأمور) بمعنى: تصير، كقوله تعالى: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، والمعنى في القراءتين متقارب؛ لأنها ترجع إليه تعالى، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة.(16/11)
بيان خطأ السيوطي في تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)
يقول السيوطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: (هل ينظرون) أي: ما ينتظر التاركون الدخول فيه، (إلا أن يأتيهم الله) يعني: إلا أن يأتيهم أمر الله، كقوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33] أي: عذابه.
اهـ.
وفي مثل هذه المواضع في التفسير لا يجوز الاعتماد على كلام الجلالين، أي: في مواضع التأويل المخالف لمنهج السلف، وهذا من المواضع التي خالف فيها السيوطي منهج السلف، ولابد من الاعتماد في مثل هذه المواضع على منهج السلف، فلا نقول مثلاً: (والله يحب المتقين) أي: يثيبهم! أو {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، أي: يثيبهم! بل هذه صفة من صفات الله لا يجوز تأويلها وتعطيلها.
كذلك قوله هنا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] هذه الآية لها أسباب تدل على أن هذا الوعيد أخروي، ولذلك قال ابن كثير في معنى هذه الآية: يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ولهذا قال تعالى: (وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور) كما قال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23]، وقال عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات أخر، ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
والقول في الصفات كالقول في الذات، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فمن قال: كيف يجيء الله سبحانه وتعالى؟ فيقال له: كيف ذاته؟ فسيقول: لا أعلم كيفية ذاته، فيقال له: وكذلك لا نعلم كيفية صفاته؛ فالكلام على الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلأنك تثبت ذاتاً لا كذوات المخلوقين، كذلك تثبت صفات لا كصفات المخلوقين، فالسلف يقولون: نحن نجري هذه الصفات على ظاهرها، ويعنون أن ظاهرها هو ما يليق بالله سبحانه وتعالى، والظاهر لائق بالله سبحانه وتعالى، يعني: إذا سمعت صفة من صفات الله كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، أو: {يَدُ اللَّهِ} [المائدة:64] أو غير ذلك من الصفات، مثل: أن الله يحب أو يفرح أو يعجب، أو غير ذلك من الصفات، فظاهرها هو كما يليق به سبحانه وتعالى، وليس ظاهرها مشابهة المخلوقين، فمن قال كما قال السلف: ظاهرها على ما يليق بالله، فبالتالي لن يحتاج لها إلى تأويل ولا إلى تعطيل، ولا إلى غير ذلك من المسالك الضالة.
ومن العلماء من فهم أن ظاهرها هو مشابهة المخلوقين، فاحتاج إلى أن ينفي الصفة ليحترز من ذلك فقال: الظاهر غير مراد، ومعنى القول بأن الظاهر غير مراد، أي: إذا قال: (استوى على العرش) يكون ظاهر الكلام غير مقصود؛ لأن ظاهره يقتضي التشبيه، وهو مشابهة المخلوقين كما يزعمون.
وهذا المسلك يترتب عليه كثير من المخاطر، وأول شيء أنه لما سمع صفات الله لم يقل: هي كما يليق بالله سبحانه وتعالى، وإنما قال: كالمخلوقين، فانصرف ذهنه إلى التشبيه، فأراد الهروب من هذا التشبيه فوقع في حفرة أخرى وهي حفرة التعطيل، فعطل الصفة وأنكرها، فبالتالي يكون قد حرف الكلام؛ لأنه نفى عن الله ما وصف به نفسه.
أما منهج السلف ففيه السلامة من هذا؛ لأنك لا تقع في التشبيه، بل أنت تقول: ظاهرها هو كما يليق بالله سبحانه وتعالى، وتؤكد ذلك بقولك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فكما أننا لا نعلم كيفية ذات الله، كذلك لا نعلم كيفية صفاته، وقد مر الكلام في هذا مرات كثيرة.
ومجيء الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف، فقد جاء في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بخطمين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن).
وعن أسيد بن حضير قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس -يعني: هاجت وتحركت ومالت- فسكت عن القراءة فسكنت، فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى لا يراها حتى اختفت، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: اقرأ يا ابن حضير -المقصود: يا ليتك لم تتوقف عن القراءة- قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً، فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم).
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (هل ينظرون) يعني: ما ينتظر التاركون الدخول فيه (إلا أن يأتيهم الله): أمره، كقوله: (أو يأتي أمر ربك) أي: عذابه.
واللفظ أنه يأتي الله، فكيف يصح هذا التأويل وفيه نفي لصفة الإتيان؟! أما المنهج السلفي فسيثبت ما وصف الله به نفسه كما يليق به سبحانه.
(في ظلل): جمع ظلة (من الغمام) أي: السحاب (والملائكة وقضي الأمر) يعني: تم أمر هلاكهم (وإلى الله تُرجَع الأمور) وفي قراءة أخرى: (تَرجِع الأمور) يعني: سيجازي كلاً بعمله في الآخرة.(16/12)
تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة)
يقول تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة:211] أي: (سل) يا محمد! (بني إسرائيل)، وهذا تبكيت لهم وإلزام لهم بالحجة، (كم آتيناهم) (كم) استفهامية، وهي معلَّقة بـ (سل) عن المفعول الثاني، فـ (كم) ثاني مفعولي لـ (آتينا)، ومميزها قوله: (من آية بينة) أي: ظاهرة كفلق البحر، وإنزال المن والسلوى؛ فبدلوها كفراً.
ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:211] أي: يبدل ما أنعم الله به عليه من الآيات؛ لأنها سبب الهداية (من بعد ما جاءته) أي: يبدلها كفراً بدل أن يتعظ بها ويستدل بها على الإيمان والتوحيد والرسالة.
(من بعد ما جاءته): كفراً.
(فإن الله شديد العقاب) ولذلك قال تعالى في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].
يقول البقاعي: لما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام، لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر، وفي جبل الطور، وقبة الزمان، وما في ذلك على ما نقل إليهم من وفور الهيئة وتعاظم الجلال؛ قال تعالى جواباً لمن قال: كيف يكون هذا؟ وهو إشارة إلى إتيان الله سبحانه وتعالى والملائكة في ظلل من الغمام، فجاء الجواب مباشرة: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:211]، فإن بني إسرائيل عندهم علم من هذا، وهذا موجود ومكتوب في كتبهم، وهو مجيء الله سبحانه وتعالى في ظلل من الغمام والملائكة.(16/13)
تفسير قوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا)
قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:212]، الذين كفروا: سواء من أهل مكة أو غيرها (الحياة الدنيا) أي: لزخارفها الظاهرة بالتمويه، فأحبوها لهذه الزينة الظاهرة.
(ويسخرون من الذين آمنوا) أي: وهم يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم كـ بلال وعمار وصهيب، فيستهزئون بهم ويتعالون عليهم بالمال.
يقول الحرابي: ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر بالله، واستحباب زينة الدنيا نوع من أنواع الكفر؛ لقوله قبل ذلك قال: (ومن يبدل نعمة الله) يعني: كفراً (من بعد ما جاءته)، ثم قال هنا: (زين للذين كفروا) فالافتتان بزينة الدنيا من خصال الكفار، حيث أن نظر العقل والإيمان يبصر غايتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق.
(ويسخرون من الذين آمنوا) يهزءون منهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، إلى آخر الآيات.
ثم يقول تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212] (الذين اتقوا): وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوى؛ لحضهم عليها، وإيذاناً بترقب الحكم عليه، فلم يقل: والذين آمنوا، لكن قال: (الذين اتقوا) حتى يلفت نظر المؤمنين إلى أنهم إنما نالوا ذلك بصفة التقوى.
(والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) يقول: (والذين اتقوا) الشرك، وهم هؤلاء الفقراء.
(فوقهم يوم القيامة) أي: أنهم في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين، أو: لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]، وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:22 - 23]، فالمهم أن المؤمنين يضحكون أخيراً، ولذلك قال بعض العلماء: يحتمل قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212] وجهين: الأول: أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا.
الثاني: أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، والمقصود: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40]، فإن كل ما دخل تحت الحساب والحق والتقدير فهو مُتناهٍ، وما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب، فهو ثواب إلى ما لا نهاية؛ لأنه إذا دخل في الحساب صار محصوراً معدوداً، أما إذا كان بغير حساب فلا نهاية له ولا حصر.(16/14)
تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)
يقول تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال السيوطي: أي: على الإيمان، فاختلفوا بأن ثبت بعضهم على الإيمان وكفر البعض الآخر، وكلمة: (فاختلفوا) ليست من كيس السيوطي، بل هي من فقهه، حيث إنه قدر الكلام: (كان الناس أمة واحدة) فاختلفوا (فبعث الله النبيين)؛ لأنه لو لم نقدر كلمة (فاختلفوا) قبل بعثة الأنبياء فكأن الآية تعني أن الأنبياء بعثوا كي يفرقوا الناس بعد أن كانوا متوحدين! وهذا مستحيل.
إذاً: معنى الآية: (كان الناس أمة واحدة) فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213].
والدليل على صحة تقدير هذه الكلمة موجود في الآية نفسها، في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [البقرة:213] إلى آخر الآية.
(فبعث الله النبيين) يعني: إليهم.
(مبشرين) يعني: من آمن بالجنة.
(ومنذرين) يعني: من كفر بالنار.
(وأنزل معهم الكتاب): (الكتاب) هنا اسم جنس بمعنى: الكتب.
(بالحق) يعني: أنزله بالحق.
(ليحكم بين الناس) يعني: يحكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه، أي: من الدين.
(وما اختلف فيه) أي: في الدين.
(إلا الذين أوتوه) يعني: الكتاب، فآمن بعض وكفر بعض.
(من بعد ما جاءتهم البينات) يعني: الحجج الظاهرة على التوحيد.
(بغياً) من الكافرين (بينهم).
(فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق) (من) هنا للبيان وليست للتبعيض؛ لأن كل ما أنزل في الكتاب هو حق.
(بإذنه) أي: بإرادته.
(والله يهدي من يشاء) أي: هدايته.
(إلى صراط مستقيم) وهو طريق الحق.(16/15)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة)
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214].
أنزلت هذه الآيات لما أصاب المسلمين الجهد والمشقة يوم الأحزاب، حيث أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاء شديد بعد حصار المدينة، فقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} [البقرة:214] يعني: بل حسبتم.
{أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا} [البقرة:214] و (لما) تنفي إلى وقت التكلم، أي: ولما {يَأْتِكُمْ مَثَلُ} [البقرة:214] أي: شبه ما أتى الذين خلوا من قبلكم من المؤمنين والمحسنين، فتصبروا كما صبروا.
وكأن سائلاً يقول: ما مثل الذين خلوا من قبلهم؟ ما الذي حصل لهم؟ فأتى
الجواب
{ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [البقرة:214] أي: شدة الفقر.
{وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] أي: المرض.
{وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214] أي: أزعجوا بأنواع البلاء.
{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة:214]، بالنصب أو الرفع (حتى يقولَ) أو (حتى يقولُ).
{الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:214]، استبطاءً للنصر؛ لتناهي الشدة عليهم.
{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] أي: متى يأتي نصر الله الذي وعدَنَاه؟ فأجيبوا من قبل الله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] أي: قريب إتيانه.(16/16)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون)
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215] أي: الذي ينفقونه، والسائل هو: عمرو بن الجموح وكان شيخاً ذا مال، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما ينفق وعلى من ينفق.
(قل) يعني: قل لهم: {مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215]، بيان شامل للقليل والكثير، وفيه بيان الشيء المنفق، الذي هو أحد شِقّي السؤال، وأجاب عن المصرف الذي هو الشق الآخر بقوله: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215]، وكلمة: (من خير) تطلق على المال {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215] أي: هؤلاء أولى بهذا الجانب.
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215] يعني: إنفاق أو غيره.
{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، فيجازي عليه.(16/17)
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)
قال عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] يعني: فرض عليكم القتال للكفار.
{وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] يعني: مكروه لكم طبعاً لمشقته.
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216]، لميل النفس إلى الشهوات الموجبة لهلاكها ونفورها عن التكليفات الموجبة لسعادتها، فلعل لكم في القتال -وإن كرهتموه- خيراً؛ لأن فيه إما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر، وفي تركه -وإن أحببتموه- شراً؛ لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [البقرة:216] يعني: ما هو خير لكم.
{وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] يعني: ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به.(16/18)
وقفة عند قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] هذا في قتال المتعرضين لقتال المسلمين، كما قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190].
والمراد بقتالهم: جهادهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم.
قال بعض الحكماء: سيف الجهاد والقتال هو آية العز -أي: علامة العز-، وبه مُصّرت الأمصار، ومُدّنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وحفظت الشرائع والقوانين، وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر، وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالاً، وخط الاستواء جنوباً، وجدران الصين شرقاً، وجبال البرانس غرباً، فيجب على المسلمين ألا يتملصوا من قول بعض الأوروبيين: إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف، فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئاً، فإن المنصفين منهم يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة، وإنما التملص منه يضر المسلمين.
أي: التبرؤ من الجهاد، فبعضهم يجعل الإسلام كأنه وضع داخل قفص الاتهام، وكأنه هو المحامي الذي يدافع ويبرر جريمة الجهاد، ويقولون: لا، كل الغزوات كانت دفاعاً ورداً للعدوان، ولم يكن هناك مبادأة، وغير ذلك من هذا الكلام الاستسلامي الانهزامي! وأخطر ما في التملص من هذا الكلام هو أنهم يضرون المسلمين؛ لأن هذا سيقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل، فيخلدون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتقتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها: السيف أو الكوخ، ولعلكم سمعتم كلمة كلينتون أو قرأتموها في الأيام الأخيرة حينما قال: إننا اتفقنا -هو وميتران - على ألا تقوم قائمة لإسلام قوي، وسنستعين على ذلك بالدول الإسلامية ذات الموارد الفقيرة! يقول هذا العالم: فيجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] لعلهم يتحفزون إلى مجاراة الأمم القوية.
{وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] المقصود هنا: الكراهة الجِبِلّية الطبعية، وهي أن الإنسان يكره أن يُقتل أو يموت، لكن شرعاً: المؤمن يحب الجهاد، فلا تناقض.
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة:216] كالجهاد في سبيل الله.
{وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] كما ذكرنا.
{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، بعض العلماء قال: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] المقصود صنف معين من الأعراب وغيرهم، فهم الذين يصدق عليهم أنهم لا يعلمون، وأما المؤمنون الراسخون فقد أعلمهم الله من عنده ما علموا أن القتال خير لهم، وأن التخلف شر لهم، حتى إن علمهم ذلك ظهر على ألسنتهم بما يسيل الدموع وينير القلوب من شدة علمهم بهذه الحقيقة، فحين شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى غزوة بدر، قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! امض بما أمرك الله فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) [المائدة:24]، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت إلى برك الغماد -وهو مكان وراء مكة بخمس ليالي مما يلي البحر- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له) ثم قام سعد بن معاذ فقال: (امض -يا رسول الله- لما أردت ونحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً).
فقوله: (ما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً) يدل على أن الصحابة من الراسخين في الإيمان، وهم برآء من هذه الكراهة، بل تضلعوا من علم الوحي حتى أيقنوا بمحبة هذا الجهاد، ولم يكرهوه.
ثم قال سعد: (إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، فلعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله).
ونحن إذا توسعنا في هذا الكلام سنجد نماذج عظيمة جداً من السلف رضي الله تعالى عنهم في الجهاد؛ لأنه لا يمكن أن هؤلاء يكرهون الجهاد في سبيل الله أبداً، بل كما قال خالد بن الوليد لبعض قواد الكفار: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة! وكما في قصة عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه لما أسر مع مجموعة من المسلمين، وأغراه ملك الروم أن يتنصّر ويخلي سبيله فأبى، فأتى بأسير ووضع في إناء زيت يفور ويغلي ثم أخرج وهو عظام تلوح.
فعرض عليه الدخول في النصرانية فأبى، فعُلق عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأمر الملك أن يرمى بالسهام قريباً من يديه ورجليه ورأسه؛ إخافة له وإرهاباً فأبى، ولما وضعوا في هذا الإناء الذي يغلي أحد الأسرى وأخرج فإذا هو عظام تلوح بكى في هذه اللحظة، فطمع الملك في تنصّره لما رآه يبكي، فعرض عليه النصرانية فقام فأبى، فقالوا: إذاً ما يبكيك؟! قال: حينما رأيت هذا الأسير الذي قد فعل به كذا، تذكرت أن لي نفساً واحدة، وكنت أود أن لي سبعين نفساً تعذب كلها في الله كما عذبت هذه النفس! فبكى لأن له نفساً واحدة فقط ستعذب هذا العذاب في سبيل الله.
هل يمكن أن هذا يكره الجهاد في سبيل الله؟!! إذاً: هناك نماذج في الحقيقة تطول جداً من سير السلف تثبت أنهم ما كرهوا القتال في سبيل الله.
فهذان تفسيران للآية: الأول: إما أن يكون {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] يعني: كراهة طبعية كقول عائشة: كلنا يكره الموت.
الثاني: أن قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] أي: في طبقة معينة من الناس كالأعراب وغيرهم، أما الذين رسخ إيمانهم وتعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الوحي فهم لا يكرهون الجهاد، بل بعضهم كان يبكي لما اعتذر لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حملهم معه للجهاد كما قال الله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].(16/19)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
اختلف المفسرون في هؤلاء الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هم أهل الشرك أفضوا إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام، وقيل: هم أهل الإسلام.
(يسألونك) فإما أن الواو تعود إلى أناس من المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم القتال في الشهر الحرام، وإما أنها تعود إلى المشركين؛ لأن المشركين كانوا يعيرون المسلمين ويقولون لهم: ما حكم القتال في الشهر الحرام في شرعتكم وفي دينكم وقد تجاوزتم هذا الحكم بإجراء القتال في الشهر الحرام؟ والمقصود بالشهر الحرام: شهر رجب، وكان شهر رجب يدعى عند العرب: الشهر الأصم؛ لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً لهذا الشهر، وكانوا يعظمونه أكثر من بقية الأشهر الحرم، فكانوا يسمونه الشهر الأصم؛ لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ولا قتال.
وقد أخرج الطبراني في الكبير والبيهقي في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً واستأمر عليهم أبا عبيدة، فلما انطلق ليتوجه طاعة لأمر الرسول عليه السلام ولشدة خوفه وحبه للرسول عليه السلام فلم يملك نفسه أن بكى صبابة وشوقاً إلى الرسول عليه السلام وحزناً على فراقه، فبعث مكانه عبد الله بن جحش واستبقى أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه، وهذا كان قبل غزوة بدر الكبرى، وسمي عبد الله بن جحش في هذه الغزوة: أمير المؤمنين؛ لكونه أميراً على جماعة من المؤمنين، وهذا يرويه ابن مسعود، فلقي الصحابة ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، وكانوا يظنون أنه ليس من الشهر الحرام، وكان ذلك اليوم يحتمل أن يكون آخر يوم من جماد الآخرة أو أول رجب، وهم لم يقطعوا بذلك، وظنوا أنه من جماد الآخرة، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام.
فأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217]، فبعض الناس قالوا: هؤلاء الصحابة الذين قتلوا في الشهر الحرام إن كانوا قد فعلوا ما عليهم بسبب جواز وإباحة القتال في هذه الظروف التي كانوا فيها، فهم على أقل تقدير ليس لهم أجر لفعلهم هذا، فأنزل الله تعالى الآية التي تليها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، لإثبات أن لهم أجراً في هذا.
وأخرج ابن مندة في الصحابة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يظنون تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب.
وفي رواية ابن أبي حاتم وصححها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي في جيش على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش، وبعث معه كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة -موضع بين مكة والطائف- ارصد بها عيراً لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم)، فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، ولم يستكرههم بل خيرهم من شاء أن يستمر معه فليستمر، ومن شاء أن يعود فليعد، قال: فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، أما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، ولئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على مقاتلتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: قد أحلّ محمد الشهر الحرام، ويروى أن اليهود أيضاً دخلوا في هذه المعمعة ولم يفوتوا الفرصة، بل ضلوا يخوضون في التشنيع على المسلمين، واستعملوا بعض العبارات كنوع من التفاؤل بإثارة الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: عمرو أي: عُمرت الحرب، الحضرمي: حضرت الحرب، قتله واقد: وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك وبهم، ولما كثر الكلام في هذه الحادثة، وأكثر الناس في ذلك القيل والقال أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة.
قوله تعالى: (قتال فيه) هذا بدل من الشهر وهو بدل اشتمال: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) فهو بدل اشتمال من الشهر؛ لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، وسؤالهم إنما كان عن الشهر؛ لأجل القتال فيه، فأبدل (قتال) من (الشهر) كما أنشد سيبويه: فما كان قيس ملكه ملك واحد ولكنه بنيان قوم تهدّما قوله: ملكه ملك واحد بدل اشتمال.
تقول مثلاً: أعجبني زيد علمه، فـ (علمه) بدل اشتمال؛ لأن زيداً يشتمل على العلم ويشتمل على غيره، فأبدل منه هذا، كذلك تقول مثلاً: نفعني زيد كلامه، فـ (كلامه) بدل اشتمال من زيد، ومثله قولك: سُرق زيد ماله، أو: سلب زيد ثوبه، وهكذا.
فقوله: (قتالٍ فيه) بدل من الشهر؛ لأن القتال يقع في الشهر.(16/20)
تفسير سورة البقرة [229 - 242](17/1)
تفسير قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)
قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) يعني: إلا أن يخاف الزوجان.
(أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) يعني: ألا يأتيا بما حده لهما من الحقوق.
وفي قراءة (إلا أن يُخافا) بالبناء للمفعول، أي: يخافا من قبل ولاة الأمور.
فـ (أن لا يقيما) بدل الاشتمال من الضمير فيه، وقرئ شذوذاً بالفوقانية في الفعلين، أي: (إلا أن تخافا أن لا تقيما) وهذه قراءة شاذة.
قوله تعالى: ((فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)) هذه الآية دليل على جواز الخلع، والخلع هو: أن تختلع المرأة من زوجها، وهذا جائز إذا كان بعذر وبسبب، أما المرأة التي تطلب من زوجها الخلع من غير ما سبب فقد ورد فيها وعيد شديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المختلعات أو المنتزعات هن المنافقات)، فلا يجوز للمرأة أن تطلب من زوجها الطلاق بين الحين والآخر لأتفه الأسباب أو بدون سبب أو بسبب اختلاف، لكن إن كان هناك سبب وجيه وبأس وعذر فلها أن تطلب الطلاق ولا حرج عليها، أما أن تطلبه لغير ذلك فقد ثبت في ذلك هذا الوعيد الشديد.
يقول تعالى: ((فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)) لا جناح على الرجل ولا على المرأة فيما افتدت به نفسها من المال ليطلقها، فلا حرج على الزوج في أخذه، فهذا معنى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي: ليس على الزوج حرج في أن يأخذ هذا المال الذي تفتدي نفسها به، وليس هناك حرج -أيضاً- على الزوجة أن تبذل هذا المال لتفتدي نفسها به.
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: تلك الأحكام المذكورة حدود الله: (فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).(17/2)
تفسير قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره)
قوله تعالى: (فإن طلقها) هذا مرتبط بما قبله، حيث قال تعالى: (الطلاق) يعني: التطليق (مرتان)، ثم قال: (فإن طلقها) يعني: إن طلقها الزوج بعد الثنتين (فلا تحل له من بعد) يعني: من بعد الطلقة الثالثة لا تحل له (حتى تنكح زوجاً غيره) أي: حتى تتزوج زوجاً غيره ويطأها، للحديث الذي رواه الشيخان، فلا تحل له بعد الطلقة الثالثة حتى تتزوج زوجاً غيره ويطأها؛ لأن كلمة (تنكح) كما هو معلوم لفظ مشترك بين العقد وبين الوطء، فبالتالي نص هنا في التفسير على الوطء كي لا يظن أنه يكفي مجرد العقد؛ لأن الحديث دل على ذلك، ودلت الشريعة على تحريم نكاح المحلل، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، وسماه النبي عليه الصلاة والسلام بالتيس المستعار، فمن الحيل المحرمة نكاح التحليل.
فلذلك قال: (حتى تنكح) يعني: تتزوج (زوجاً غيره) ويطأها، ولابد من وطئها؛ لحديث رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي -أي: طلقني الطلاق البتة ثلاثاً- فتزوجني عبد الرحمن بن الزَّبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوبة -أي: هو عنين- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، وهذا كناية عن الوطء.
فيجب أن يكون النكاح الثاني مقصوداً لذاته، لا لتحليل المرأة للزوج الأول، فأي نكاح لابد أن يكون الزوج ناوياً فيه التأبيد، لابد أن ينوي التأبيد، وأي عقد زواج يكون مؤقتاً فهو نكاح متعة، وهذا قد نسخ وحرم، فعقد النكاح لمدة معينة لا يجوز عندنا أهل السنة، وإنما يجب أن يكون على التأبيد، والتأبيد أن ينوي أن يعيش معها إلى الأبد ويتزوجها إلى الأبد.
فلذلك ينبغي أن يكون هذا النكاح الثاني مقصوداً لذاته لا لمجرد التحليل، فمن وطأها لابد أن ينوي، لا أن ينوي بالوطء أن يحللها لزوجها، لكن ينوي بالعقد أن يتزوجها إلى الأبد.
يقول: يجب أن يكون النكاح الثاني مقصوداً لذاته لا لتحليل المرأة للزوج الأول، فإن قصد به التحليل كان الطرفان آثمين بالإجماع مع خلاف في صحة العقد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله المحلل والمحلل له) رواه النسائي والترمذي.
قوله تعالى: (فإن طلقها) الفاعل هنا الزوج الثاني، (فإن طلقها) أي: الزوج الثاني طلقها لأي سبب، فهو نوى التأبيد لكن حصل بينهما نزاع أو أي شيء حتى طلقها لا لقصد التحليل، لكن طلقها لمشاكل عائلية.
(فإن طلقها) أي: الزوج الثاني (فلا جناح عليهما) يعني: الزوجة والزوج الأول (أن يتراجعا) يعني: أن يتراجعا إلى النكاح بعد انقضاء العدة، ولابد من هذا الشرط، لابد أن يكون النكاح بعد انقضاء العدة.
{إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] أي: تلك المذكورات حدود الله.
(يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: يتدبرون.(17/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن)
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231].
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قاربن انقضاء عدتهن {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.
وإنما كان معنى (بلغن) قاربن لأنه لو كانت العدة قد انقضت بالفعل فلا يمكنه أن يمسكها، بل تكون قد بانت منه بينونة صغرى، لذلك فسر قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) بأن معناه: قاربن انقضاء عدتهن.
فقوله تعالى: (فأمسكوهن) الإمساك لابد أن يكون في جزء من العدة، وهو الذي يكون عند اقتراب نهاية العدة.
قوله تعالى: (فأمسكوهن بمعروف) أي: أمسكوهن بأن تراجعوهن.
وقوله تعالى: (بمعروف) أي: من غير إضرار.
وقوله تعالى: (أو سرحوهن بمعروف) أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن.
وقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) أي: ولا تمسكوهن بالرجعة.
(ضراراً) مفعول له.
(لتعتدوا) أي: تعتدوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل العدة، وذلك أن ينوي الرجل بمراجعتها تطويل العدة، فإذا قاربت العدة الانتهاء يراجعها، ويتعسف في استعمال هذا الحق الذي أعطاه الله إياه كي يطيل عليها عدتها، يعني فيراجعها من جديد ثم يطلقها لتطول عليها العدة؛ لأنها إذا طلقت منه ستكون لها الحقوق المادية من المتعة أو المهر، أو مؤخر الصداق، لكن هو يمسكها بنية أن يضايقها ويؤذيها كي تطلب هي الافتداء فتبرئه من حقوقها، فيمسكها بنية الضرار.
ولا شك أن هذه الأشياء متفشية إلى الآن، حتى إن بعض الذين يزعمون أنهم متدينون نجد أن الإنسان منهم إذا غلبه الهوى والظلم والتعسف لا يلتفت إلى هذه الأمور الشرعية، وقد رأينا ذلك في أناس كثيرين.
إلا أن التقي -كما قال بعض السلف- ملجم، فليس كل ما يقدر عليه يفعله، فالتقوى تلجمه وتكبح هواه وبغيه.
وبعض الناس الحلال عنده هو ما قدر عليه، والحرام هو ما عجز عنه، فإن قدر على مال كان عنده حلالاً له، وإن قدر على عرض كان حلالاً له، والحرام هو الذي عجز عنه، وليس الحرام عنده ما حرم الله، وليس الحلال عنده ما أحله الله سبحانه وتعالى! فإذا كنت قادراً على الظلم فتذكر أن الله أقدر عليك منك على المظلوم، حتى ولو كانت المرأة لا يوجد لها من يدافع عنها أو يحميها أو يتولى صيانة حقوقها، وبالتالي يُعدُّ هذا التصرف منه منافياً لما أوصى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم) يعني: أسيرات عندكم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) يعني: أنتم في حرج إذا ضيعتم حق هذين الضعيفين: اليتيم والمرأة.
فالشاهد أن الرجل لا يجوز له أن يمسكها ضراراً.
تجد الرجل يتزوج مثلاً، ثم يطلق مرتين ويبقي الثالثة، ثم يتزوج امرأة أخرى، ويضعها على ذمته دون أن يراجعها، فتصبح معلقة لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة، ولا شك أن هذا يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، ومثل هذه التصرفات لا يأتي بها من يخاف الله سبحانه وتعالى أو يستحيي من الله، فليس كل ما تقدر عليه أو ما يوفره لك القانون أو يحرره لك المحامي يكون حقاً لك، فإذا كنت تتقي الله فينبغي أن تلتزم بشرع الله عز وجل.
قال تعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ)) أي: بالرجعة (ضِرَارًا) أي لأجل الضرار لتعتدوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء، فيضيق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال، أو تتنازل عن حقوقها عنده.
قال تعالى: ((وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)).
هنا عدة قراءات، فقد قرئ (هُزواً) بالهمزة مع ضم الزاي (هُزُءًا)، وبالهمزة مع سكون الزاي (هُزْءًا)، وفي قراءة بضم الزاي وإبدال الهمزة واواً، وهي رواية حفص عن عاصم أي: مهزوءاً بها.
والمعنى: لا تهزءوا بآيات الله بأن تخالفوها ولا ترفعوا بها رأساً ولا تلقوا لها بالاً.
ثم يقول تعالى: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) يعني: بالإسلام.
((وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ)) [البقرة:231] أي: القرآن.
(والحكمة) يعني: ما في القرآن من الأحكام.
وحيث ما وردت الحكمة مقترنة بالكتاب في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فالمقصود بها السنة، وهذا لا يتعارض مع تفسير السيوطي للحكمة هنا بما في القرآن من الأحكام، ولكن المعروف أن الحكمة هنا هي السنة كما سبق الاستدلال على ذلك.
((يَعِظُكُمْ بِهِ)) يعني: اذكروا هذه النعمة بأن تشكروها وتعملوا بهذه الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى وامتن بها عليكم.
((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) أي: لا يخفى عليه شيء.(17/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجهلن فلا تعضلوهن)
ثم يقول تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] ليس المقصود ببلوغ الأجل هنا مقاربة انقضاء عدتهن، بل المراد بـ (بلغن أجلهن) هنا انقضاء العدة بالفعل، حيث بانت من زوجها بينونة صغرى.
فـ (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) أي: انقضت عدتهن (فلا تعضلوهن) الخطاب هنا للأولياء، والعضل: هو مضارة المرأة بأن يمنعها من زوجها.
أي: أن يأتيها زوج كفء فلا يزوجها، فهذا هو العضل، وهو صورة من صور التعسف أو سوء استعمال السلطة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى الأولياء.
وهذه الآية من أوضح الأدلة على أن الولي هو صاحب الحق في تزويج المرأة، فالنهي عن العضل يثبت أن له سلطة، وأن الولي أبا المرأة -مثلاً- أو وليها الشرعي هو الذي يتولى تزويجها؛ لأنه لو كان الأمر إليها لما احتيج إلى النهي عن العضل، فالنهي عن العضل لأن سلطة التزويج من سلطة الولي فقط، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي)، والآيات في هذا كثيرة، منها الآية التي أشرنا إليها سابقاً في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221]، و (تُنكِح) فعل مضارع، وماضيه (أنكح).
وأما (ولا تَنكَحوا المشركات) فهو من (نَكَح) بمعنى: تزوج، أي: فلا تتزوجوا المشركات، أما حينما نزوج نحن بناتنا فيقول تبارك وتعالى: (ولا تُنكحوا) يعني: لا تُزوجوا بناتكم المشركين، فلم يقل: لا يَنكَحن هن المشركين حتى يؤمنوا؛ لأنه لا سلطة للمرأة في التزويج، فالسلطة هي للرجل، ولذلك قال: (ولا تُنكِحوا المشركين) يعني: لا تزوجوهن بناتكم حتى يؤمنوا.
وهذا أيضاً دليل على اشتراط الولي في النكاح.
وقوله تبارك وتعالى: ((فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن))، والخطاب هنا للأولياء، أي: لا تمنعوهن من أن ينكحن أزواجهن، وليس المراد: أي أزاوج! وإنما أزواجهن المطلقون لهن، وهو الزوج الذي طلقها فيما مضى حتى انقضت عدتها منه وبانت منه بينونة صغرى.
يقول السيوطي: (فلا تعضلوهن) خطاب للأولياء، أي: لا تمنعوهن من أن ينكحن أزواجهن المطلقين لهن؛ لأن سبب نزولها أن أخت معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه طلقها زوجها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، وأخته هذه كان يتقدم إليها كثير من أشراف الناس ووجهائهم، فكان يتأبى عليهم، وفضله هو بتزويجها.
فلما تزوجها طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فأراد أن يراجعها فمنعه معقل بن يسار وأبى وأخذته الحمية وقال: أكرمتك وزوجتك إياها فطلقتها ثم لم تراجعها حتى انقضت العدة، وبعد ذلك تطلب أن تراجعها! فأصر ألا يعيدها إليه، وهي ترغب أن تعود إلى زوجها، فلما نزلت هذه الآية قال معقل: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك تعظيماً لأمر الله سبحانه وتعالى.
وهكذا الإيمان {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
ولا شك أن قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) إنما هو إذا تراضوا بينهم بالمعروف؛ لأن المرأة إذا امتنعت عن العودة إلى زوجها الذي بانت منه بينونة صغرى فلا تلزم بالقبول إذا خطبها بعد ذلك.
وقد رغب الله في إرجاع المرأة إلى زوجها الأول إذا خطبها بعد انقضاء عدتها؛ لما كان بينهما من العلاقة القائمة والمعاشرة الطويلة، فلا يؤمن أن يقع نوع من العلاقة والمواصلة المحرمة بينهما؛ لما كان بينهما سابقاً من الارتباط والعلاقة، فإذا سد الباب الحلال عليهما قد ينفتح باب الريبة في العلاقة بينهما لقوة العلاقة بينهما فيما مضى، ولذلك كان هذا الحكم سداً لهذا الباب من أبواب الفتنة.
قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي: المطلقين لهن.
(إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (إذا تراضوا) الواو تعود على الأزواج والنساء.
(بينهم بالمعروف) أي: المعروف شرعاً؛ لأن المعروف هو ما عرفه الشرع، والمنكر هو ما أنكره ونهى عنه.
(ذلك) أي: ذلك النهي عن العضل (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويخشى الله سبحانه وتعالى ويتقيه هو الذي ينتفع بهذه الموعظة.
(ذلكم) يعني: ترك العضل (أزكى لكم وأطهر) (أزكى) أي: خير لكم وأطهر لكم ولهن، أي: للأزواج والزوجات، فهو أطهر لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة السابقة بينهما.
(والله يعلم) أي: ما فيه من مصلحة.
(وأنتم لا تعلمون) أي: ذلك، فاتبعوا أمره.(17/5)
تفسير قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن)
قال تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233].
(يرضعن) الكلام فيها مثل (يتربصن)، فظاهرها الخبر ولكن المقصود الأمر، يعني: ليرضعن.
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) (حولين): يعني عامين (كاملين) هذه صفة مؤكدة.
(لمن أراد) يعني: ذلك الحكم لمن أراد (أن يتم الرضاعة)، ولا زيادة عليها، فلا تزيد الرضاعة على سنتين هجريتين.
وقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهم بالمعروف) (وعلى المولود له) أي: الأب (رزقهن) يعني: إطعام الوالدات، فينفق عليها، فـ (رزقهن) أي: الإطعام، (وكسوتهن) يعني: النفقة والكسوة عن الإرضاع إذا كن مطلقات.
(بالمعروف) أي: بقدر طاقته.
{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:233] أي: إلا طاقتها.
(لا تضار والدة بولدها) الباء هنا سببية، يعني: لا يجوز أن تضار امرأة بسبب ولدها، كأن تكره -مثلاً- على إرضاعه إذا امتنعت، أو تمنع من إرضاعه إذا رغبت، وهذا -أيضاً- من الأخلاق السيئة الموجودة الآن في كثير من الرجال والنساء، تجد البعد عن شرع الله سبحانه وتعالى وضعف اليقين في القلوب، نجد الذي يستطيع أن يفعل فعلاً لا يتورع أبداً، والشيطان يربي هذه الأخلاق السيئة، وقل من تجده يفارق زوجته بالتي هي أحسن؛ لأن ضعيف التقوى إذا قدر فإنه لا يرحم ولا يتورع عن أي نوع من الأذى، تجد المرأة وأسرتها يحاربون على أن يحجبوا الابن عن أبيه، وتجد الرجل -أيضاً- يحاول أن ينكر بقدر استطاعته مصادر دخله، بحيث إذا رفعت القضية إلى القاضي لا يستطيع القاضي أن يفرض عليه مبلغاً كبيراً من المال بسبب قلة دخله.
لماذا لا تتراضوا بينكم بالمعروف؟! ولماذا لا تُحكِّموا شرع الله سبحانه وتعالى بصدق، فتعطى المرأة حقها ويعطى الزوج حقه؟! وقوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها) يعني: بسبب ولدها بأن تكره -مثلاً- على إرضاعه إذا امتنعت.
(ولا مولود له بولده) أي: ولا يضار -أيضاً- الأب بولده أي: بسبب ولده- بأن يكلف فوق طاقته.
وإضافة الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف، فأضاف الله سبحانه وتعالى الولد إلى الأم فقال تعالى: (لا تضار والدة بولدها)، وهذه الإضافة المقصود بها الاستعطاف يعني: لتتذكر أن هذا هو ولدها فكيف تجعله سبباً لشقائها وسبباً في تعذيبها؟! كذلك قوله تعالى: (ولا مولود له بولده) ليعلم الطرف الآخر من النساء أن هذا ولده، فهذا نوع من الاستعطاف، فهو ولده فكيف تجعلونه سبباً في شقائه بمضارته؟! وهذا يفيد أن الولد لأبيه؛ لقوله تعالى (ولا مولود له بولده)، أما الأم فقال: (والدة)، وقال: (والوالدات)، وحين ذكر الأب قال: (مولود له)، فالولد مختص بأبيه، فهو له، وهو من كسبه.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) فاختص الأب بهذا.
قال تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) الذي يرث الأب إذا مات هو الصبي ابنه، فقوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) يعني: يجب على الوارث -الذي هو الصبي- أن ينفق على الأم التي ترضعه، فيعطيها الكسوة والطعام في أثناء فترة الرضاع مثلما يجب على المولود له المتوفى أيضاً، والذي يرضع -وهو الوارث- لا يتمكن من أن يعطي الأم نفقتها حال رضاعه، فإذاً لابد أن يكون المقصود ولي هذا الصبي؛ لأنه هو الذي يكون متمكناً من المال ويرعاه ويقوم بحاجاته منه.
فالمقصود بقوله هنا: (وعلى الوارث) أي: وارث الأب وهو الصبي، أي: على وليه في ماله.
و (على) هنا تطلق بمعنى الوجوب، فيجب على الولي أن ينفق من مال الصبي على أمه في الرضاع.
(مثل ذلك) يعني: مثل الذي على الأب للوالدة من النفقة والكسوة.
قال تعالى: (فإن أرادا) أي: الوالدان (فصالاً) أي: فطاماً له قبل الحولين، (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور).
فانظر كيف الإسلام يراعي مستقبل الأطفال حتى في حال فراق الوالدين، فتصور أن الأب والأم في حالة طلاق، لكن أوجب الله عليهما أن يتشاورا ويتحاورا فيما هو الأصلح لهذا الولد، ما هي مصلحته في الناحية البدنية وغيرها.
(فإن أرادا فصالاً عن تراض) من غير أجبار وإكراه (وتشاور) يوجد أخذ ورد وشورى لأجل مصلحة هذا الصبي.
(فإن أرادا) أي: الوالدان (فصالاً) أي: فطاماً له قبل الحولين (عن تراض) أي: اتفاق منهما (وتشاور) يعني: بينهما لتظهر مصلحة الصبي فيه.
(فلا جناح عليهما) يعني: لا جناح عليهما في ذلك إن رأيا أن المدة إذا قلت يكون في ذلك مصلحة الولد، فلا جناح عليهما ولا يتحرجا من قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، ما دام في هذا مصلحة لهذا الصبي.
قوله تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) (إن أردتم) هذا خطاب للآباء فقط (أن تسترضعوا أولادكم) يعني: تطلبون لهم مراضع غير الوالدات، فإذا كنت تريد أن ترضع ولدك غير هذه الأم المطلقة (فلا جناح عليكم إذا سلمتم) يعني: لا جناح عليكم في هذا الاسترضاع، وهو طلب المرضع غير الأم.
(فلا جناح عليكم) أي: فيه (إذا سلمتم) أي: إليهن (ما آتيتم بالمعروف)، أي: إلى المرضعة غير الأم.
أي: إذا سلمتم إلى هذه المرضعة التي تسترضعونها ما آتيتم -أي: أردتم إيتاءه- لهن من الأجرة (بالمعروف) أي: بالذي تطيب به النفس.
(واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) يعني: لا يخفى عليه شيء مما تعملون.(17/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشراً)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234].
قوله تعالى: (والذين يتوفون) يعني: يموتون، والفعل مبني لما لم يسم فاعله (يُتَوفون)، وليس (يَتوفون) بالبناء للفاعل، ولذلك يحكى أن الخليل بن أحمد مشى في جنازة، فسأله سائل فقال: من المُتوفي؟ قال: الله.
فغضب، ومن هنا بدأ في تدوين علوم النحو وضبط علوم اللغة، فنذر نفسه لحفظ اللسان العربي وقواعد اللغة العربية وفهم اللغة العربية؛ لأن الرجل قال له: من المتوفي؟ فرد عليه وقال: الله هو الذي يتوفى.
فالله يتوفى الأنفس، أما الميت فيسمى "متوفى"، فهذا هو الصحيح، أن تقول: (متوفى) أو: (توفي فلانٌ)، أو تقول: (توفاه الله)، ولا تقول: (تَوَفَّى).
يقول: (والذين يتوفون منكم) يعني: يموتون.
(ويذرون) يتركون (أزواجاً يتربصن بأنفسهن) (يتربصن) أيضاً هنا ظاهره الخبر والمقصود به الإنشاء وهو الأمر، يعني: ليتربصن بأنفسهن يعني بعدهن عن النكاح، فيحبسن أنفسهن عن الزواج لمدة أربعة أشهر وعشر ليال، فهذه الآية موضوعها مدة إحداد المرأة على زوجها المتوفى.
والمدة أربعة أشهر وعشر ليال، لا وعشرة أيام؛ لأنه لو كانت وعشرة أيام لقال: (أربعة أشهر وعشرة).
وهذا في غير الحوامل، فالمرأة إما أن تكون حاملاً أو حائلاً، فالمرأة الحامل عدتها أن تضع حملها، ودليله آية الطلاق، وهي قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فلو أنها بعد وفاة الزوج -مثلاً- بيومين أو ثلاثة وضعت حملها فقد انقضت عدتها، فيمكن أن تكون العدة أياماً قليلة، ويمكن أن تقارب تسعة أشهر، فأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن.
أما المرأة الحائل فعدتها أربعة أشهر وعشراً، والأمة على النصف من ذلك بالسُنَّة.
(فإذا بلغن أجلهن) أي: انقضت عدة تربصهن فانقضت الأربعة الأشهر والعشر الليالي.
(فلا جناح عليكم) يعني: أيها الأولياء (فيما فعلن في أنفسهن) أي: فيما فعلن في أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب، وقد وردت السنة ببيان جواز هذا كما في حديث سبيعة الأسلمية وقول أبي السنابل بن بعكك لها.
(بالمعروف) أي: شرعاً.
(والله بما تعملون خبير) أي: عالم بباطنه كظاهره.(17/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء)
قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] هذا أيضاً من أحكام إحداد المتوفى عنها زوجها، وهو أنه لا يجوز لأحد أن يصرح بطلب زواجها، لكن يعرض.
فقوله: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم) المقصود: ما لوحتم به من خطبة النساء، والمراد النساء المتوفى عنهن أزواجهن وهن في العدة، أما إذا انقضت العدة فيجوز التصريح، لكن المقصود هنا في أثناء العدة.
(ولا جناح عليكم فيما عرضتم به) أي: لوحتم.
(من خطبة النساء) أي: المتوفى عنهن أزواجهن في العدة، كقول الإنسان مثلاً: إنك لجميلة، ومن يجد مثلك؟ وربَّ راغب فيك، هذا كله تعريض.
(أو أكننتم في أنفسكم) فأنتم إما أن تُعرِّضوا، وإما أن تضمروا في أنفسكم قصد نكاحهن، (أو أكننتم) يعني: أضمرتم.
(في أنفسكم) أي: من قصد نكاحهن.
(علم الله أنكم ستذكرونهن) يعني: بالخطبة فلا تصبرون عنهن، فأباح لكم التعريض، فنفس لكم ووسع لكم في هذا الأمر؛ لأن الله علم أنكم قد لا تمسكون أنفسكم عن الاقتراب من هذا الأمر فأباح لكم التعريض.
(ولكن لا تواعدوهن سراً) يعني: نكاحاً.
(إلا أن تقولوا قولاً معروفاً) (إلا) هنا بمعنى (لكن)، فهو استثناء منقطع، أي: لكن يباح لكم أن تقولوا قولاً معروفاً والمعروف هو ما عرف شرعاً، والذي عرف شرعاً هنا هو إباحة التعريض.
(إلا أن تقولوا) يعني: لكن أن تقولوا قولاً معروفاً.
أي: ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك.
(ولا تعزموا عقدة النكاح) يعني: لا تعزموا على عقد النكاح.
(حتى يبلغ الكتاب) يعني المكتوب من العدة (أجله) أن ينتهي.
(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) يعني: ما في أنفسكم من العزم وغيره فاحذروه أن يعاقبكم إذا عزمتم، فلا تعزم عقدة النكاح، فإذا عزمت فهذا مخالف لهذا التشريع.
(واعلموا أن الله غفور) أي: لمن يحذره (حليم) بتأخير العقوبة عن مستحقها.(17/8)
تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)
قال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:236]، وفي قراءة (ما لم تُماسُّوهن) بضم التاء، أي: تجامعوهن.
{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] يعني: أو لم تفرضوا لهن فريضة.
والفريضة هي المهر؛ لأن أحد أسماء المهر: الفريضة، فهو الأجر أو المهر أو الفريضة.
والمقصود: لا تبعة عليكم في الطلاق -عدم المسيس والفرض- بإثم ولا مهر.
فقوله تعالى هنا: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، الكلام هنا في النساء اللاتي عقد عليهن، كمن تزوج امرأة فعقد عليها ولم يبن بها (ما لم تمسوهن) يعني: لم تطئوهن.
وأيضاً إذا لم يفرض لها مهراً، ومعروف أن العقد لا يكون إلا بمهر، ولا يجوز بحال من الأحوال التعاقد على إسقاط المهر، فلا يجوز أبداً إسقاط المهر قبل العقد، لكن يمكن للمرأة بعد العقد أن تتنازل عن المهر، لكن لا يجوز أبداً أن يتزوج الإنسان ويسقط المهر الذي فرض شرعاً لإظهار خطر المحل، لكن لا يشترط، فيصح العقد إذا لم يسم المهر ولم يحدد مهر معين.
ويصح العقد بتقديم جزء من المهر وتأخير الجزء الآخر، لكن لا يجوز أبداً العقد على أن يسقط المهر، بل لابد من مهر وإن لم يعين، ولم تحدد قيمته.
والدليل هذه الآية: ((لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)) يعني: لم تحددوا الفريضة التي هي المهر.
فهذه حالة امرأة معقود عليها لم يسم مهرها.
فقوله تعالى: (ما لم تمسوهن) أي: تجامعوهن (أو تفرضوا) يعني: أو لم تفرضوا لهن فريضة.
أي: مهراً.
و (ما) مصدرية ظرفية، أي: لا تبعة عليكم -في الطلاق زمن عدم المسيس وعدم الفرض- بإثم ولا مهر.
(ومتعوهن) يعني: أعطوهن ما يتمتعن به.
(على الموسع قدره) أي: على الغني الموسر منكم قدره (وعلى المقتر قدره) أي: الضيق الرزق عليه قدره فلا ينظر إلى قدر الزوجة ولكن ينظر إلى استطاعة الزوج؛ لأنه لم ينسب القدر إلى المرأة.
(متاعاً بالمعرف) (متاعاً) المقصود به: (تمتيعاً)؛ لأن الفعل (متعوهن) مصدره (تمتيعاً) (بالمعروف) أي: شرعاً.
و (بالمعروف) متعلق بـ (متاعاً) أو متعلق بصفة (متاعاً) المقدرة.
(حقاً) صفة ثانية أو مصدر مؤكد.
(على المحسنين) أي: المطيعين.(17/9)
تفسير قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن)
قال تعالى مبيناً حالة أخرى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:237] هذه حالة أخرى، وهي حالة معقود عليها لم يمسها زوجها -أي: لم يطأها- لكنه فرض لها فريضة المهر، فحدد قدره بالضبط، والفريضة من الفرض، وهو القطع، أي: محددة.
(فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) أي: قبل أن تطئوهن.
(وقد فرضتم لهن فريضة) أي: المهر (فنصف ما فرضتم) يعني يجب لهن، ويرجع لكم النصف، وهذا في المعقود عليها التي لم يدخل بها ومهرها محدد معلوم، فأنتم لكم النصف وهي تعطى النصف أو يجب لهن النصف، فنصف ما فرضتم يجب لهن، ويرجع لكم النصف.
(إلا أن يعفون) (إلا) بمعنى لكن (أن يعفون) أي: الزوجات فيتركنه، فإذا عفت عنك وسامحتك في هذا النصف؛ فلا حرج في ذلك.
(أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) وهو الزوج، إما أن تعفو الزوجة وإما أن يعفو الزوج فيترك لها الكل.
وعن ابن عباس قال: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يعني: الولي، فإذا كانت محجورة فلا حرج في ذلك، يعني أنه إذا كانت المرأة محجوراً عليها ولا تملك التصرف فلا حرج أن يعفوا الذي بيده عقدة النكاح الذي هو وليها، فله أيضاً أن يفعل ذلك.
(وأن تعفوا أقرب للتقوى) (أن تعفو) مبتدأ، فهو مصدر مؤول في محل رفع مبتدأ، و (أقرب) خبره.
(ولا تنسوا الفضل بينكم) أي: أن يتفضل بعضكم على بعض.
(إن الله بما تعملون بصير) يعني سيجازيكم به.(17/10)
تفسير قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)
قال تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238].
(حافظوا على الصلوات) أي: الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها.
(والصلاة الوسطى) وهي العصر أو الصبح أو الظهر أو غير ذلك، وأقواها الأول، فأقوى الأقوال أن الصلاة الوسطى هي العصر، وأفردها بالذكر لفضلها (حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى) فبعد أن عمم خصص.
(وقوموا لله قانتين) (قوموا لله) يعني: في الصلاة، وهذه الآية دليل على فرضية القيام في صلاة الفريضة (وقوموا لله قانتين) قيل: مطيعين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل قنوت في القرآن فهو طاعة) أخرجه الطبراني في الأوسط.
وقيل: (قانتين) أي: ساكتين؛ لحديث زيد بن أرقم: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: (وقوموا لله قانتين)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) رواه الشيخان.
(فإن خفتم) يعني: خفتم من عدو أو من سبع (فرجالاً) الرجال: جمع راجل.
أي: صلوا مشاة (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً)، وهذا اللفظ مثل قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] أي: يأتون مشاة وراكبين على الجمال الهزيلة التي هزلت من طول السفر، فكذلك هنا (رجالاً) جمع راجل، أي: مشاة، والمقصود: صلوا رجالاً.
يعني: وأنتم واقفون على أرجلكم.
(أو ركباناً) جمع راكب، أي: صلوا وأنتم راكبين مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، ويومأ بالركوع والسجود، (فإن خفتم فرجالاً) يعني: فصلوا رجالاً أو ركباناً.
(فإذا أمنتم) يعني: من الخوف الذي ذكرنا أمثلة منه، كخوف من عدو أو من سبع أو السيل.
(فإذا أمنتم فاذكروا الله) يعني: صلوا.
فـ (اذكروا الله) هنا بمعنى: صلوا.
(كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) يعني: كما علمكم ما لم تعلموه قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها، والكاف بمعنى مثل، و (ما) مصدرية أو موصولة.(17/11)
تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240].
قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية) يعني: فليوصوا وصية.
أي: يوصي الزوج لزوجته بعد موته أن يكون لها هذا القدر من المتاع.
و (وصية) منصوب بفعل محذوف تقديره (فليوصوا وصية)، وفي قراءة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجاً وصيةٌ) أي: عليهم وصية.
قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية) يعني: فليوصوا وصية.
(لأزواجهم متاعاً) يعني: وليعطوهن متاعاً، يعني ما يتمتعن به من النفقة والكسوة.
(متاعاً إلى الحول) يعني: إلى تمام الحول الواجب عليهن تربصه؛ لأن هذا هو الحكم الماضي في فترة الإحداد، فقد كانت سنة كاملة كما سيأتي في هذه الآية.
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً) يعني: يوصون وصية لأزواجهم متاعاً، فـ (وصية لأزواجهم) أولاً، وثانياً: (متاعاً) يعني: يعطوهن متاعاً، وهو ما يتمتعن به من النفقة والكسوة.
(إلى الحول) يعني: إلى تمام الحول من بعد موتهم الواجب عليهن تربصه.
(غير إخراج) هذه حال، يعني: غير مخرجات من مسكنهن.
وهذه قمة البلاغة في الحقيقة، والإنسان إذا تأمل هذا يظهر له أنه لا يمكن أن يكون كلام البشر، والحمد لله.
(غير إخراج) يعني: غير مخرجات من مساكنهن، بل تقر في البيت.
(فإن خرجن فلا جناح عليكم) يعني: إن خرجن بأنفسهن (فلا جناح عليكم) يعني: يا أولياء الميت (فيما فعلن في أنفسهن من معروف) يعني: شرعاً.
كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها.
(والله عزيز حكيم) يعني: عزيز في ملكه، حكيم في صنعه.
والوصية المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية الميراث، وهي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12]، فهذه الآية تنسخ آية الوصية هنا، فهذه الوصية نسختها آية الميراث.
إذاً: الوصية الواجبة هنا في هذه الآية منسوخة بآية الميراث.
وكذلك تربص الحول المذكور في قوله تبارك وتعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، فتربص سنة كاملة إذا مات زوجها من أول الموت إلى حول سنة هجرية كاملة بعد موته منسوخ بآية البقرة السابقة، وهي قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فنلاحظ في ترتيب الآيات أن الناسخ مقدم على المنسوخ، وأما من حيث الوقوع في الواقع فهذا الحكم كان أولاً ثم أتى الحكم الآخر في الآية الناسخة، وهي: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً)، فهذه الآية السابقة هي المتأخرة في النزول، والسكنى ثابتة عند الشافعي رحمه الله تعالى، فيثبت لها حق السكنى.(17/12)
تفسير قوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف)
قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] (متاعاً) يعني: يعطين متاعاً (بالمعروف) أي: بقدر الإمكان.
(حقاً على المتقين) يعني: يُعطَيْنهُ حقاً على المتقين أي: المتقين الله تعالى، كرره ليعم المنسوخة أيضاً؛ إذ الآية السابقة في شأن المطلقة التي لم تمس، فالمتاع في قوله تبارك وتعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] هو في شأن المرأة التي طلقت ولم تمس، فهذه الآية تشمل جميع النساء، سواءٌ المبتوتة أو التي لم تبت؛ ولذلك قال: (حقاً) أي: متاعاً بالمعروف حقاً على المتقين.
كرره ليعم هذه المرة كل المطلقات، وليس اللائي لم يبتتن فحسب.
(كذلك) أي: كما يبين لكم ما ذكر (يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) أي: تتدبرون.(17/13)
خلاصة أحكام المطلقات
هنا فائدة من روائع البيان للصابوني نختم بها الكلام فيما يتعلق بحكم المطلقة قبل الدخول، فأحكام المطلقات ذكرتها الآيات وذكرت أنواعهن، وهن كالآتي: الأولى: مطلقة مدخول بها مسمىً لها المهر، ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها أن عدتها ثلاثة قروء، ولا يسترد منها شيء من المهر، فقال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، فهذا هو الدليل على أن المدخول بها المسمى لها المهر عدتها إذا طلقت ثلاثة قروء، ولها المهر لا يسترد منها شيء من المهر، والدليل: ((وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)).
الثانية: مطلقة غير مدخول بها ولا مسمى لها المهر، فهذه ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها أنه ليس لها مهر وليس عليها عدة، وإنما لها المتعة بالمعروف؛ لقوله تعالى: ((لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ))، وليس عليها عدة لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، ولها المتعة لقوله تعالى: (ومتعوهن).
الثالثة: مطلقة غير مدخول بها، أي: معقود عليها، لكن فرض لها المهر، فهذه لا عدة عليها، ولها نصف المهر، والدليل قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237].
الرابعة: مطلقة مدخول بها وغير مفروض لها المهر، ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فهذه المطلقة المدخول بها يجب لها مهر المثل، وإذا كانت موطوءة بشبهة فيفرض لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى أن يثبت لها مهر المثل.
وهل المتعة واجبة لكل مطلقة؟ دل قوله تعالى: ((وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)) على وجوب المتعة للمطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، وقد اختلف الفقهاء: هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟ ذهب الحسن البصري إلى أنها واجبة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241].
وقال مالك: إنها مستحبة للجميع وليست واجبة؛ لقوله تعالى: ((حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) وقوله: ((حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ))، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.
وذهب الجمهور -الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى أنها واجبة للمطلقة التي لم يفرض لها مهر؛ لأن هذه هي التي قال الله في شأنها: (ومتعوهن)، وأما التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة، وهذا مروي عن ابن عمر وابن عباس وعلي رضي الله عنهم، ولعله يكون الأرجح وفيه الجمع بين الأدلة، والله أعلم.
والحكم الأخير: ما معنى المتعة؟ وما هو قدرها؟ المتعة: ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة لمطلقته إيناساً وإكراماً ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها، وتقديرها مفوض إلى الاجتهاد.
قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
وقال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة.
وقال أبو حنيفة: أقلها درع وخمار وملحفة، ولا تزاد على نصف المهر.
وقال أحمد: فيها درع وخمار بقدر ما تجوز فيه الصلاة، ونُقل عنه أنه قال: هي بقدر يسار الزوج وإعساره لقوله تعالى: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)، وهي مقدره باجتهاد الحاكم، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح، والله تعالى أعلم.(17/14)
تفسير سورة البقرة [243 - 252](18/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:243].
(ألم تر) بمعنى: ألم تعلم، والرؤية إما تكون رؤية بصرية، وإما أن تكون بمعنى الرؤيا العلمية، كقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] يعني: ألم تعلم، وكذلك هنا (ألم تر) يعني: ألم تعلم.
(ألم ترى إلى الذين خرجوا) يعني: ممن تقدمكم من الأمم، خرجوا من ديارهم التي ألفوها لما وقع فيها مالا طاقة لهم به من الموت، وقع بهم كرب وبلاء، إما أنه الطاعون كما جاء في بعض الروايات، وإما أنهم دعوا إلى الخروج من ديارهم التي اعتادوا عليها وألفوها إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، والأظهر أنهم دعوا إلى الخروج إلى الجهاد.
ولفظة (ألم تر) قد تذكر لمن تقدم علمه بالفعل، وقد تذكر لمن لم يتقدم له علم بالفعل.
فيمكن أن يكون المعنى ألم تعلم.
ويمكن أن تقال لشخص علم بالفعل وقُصد من هذه الصياغة التعجب أو التعجيب، والتقرير والتذكير، كما تقول -مثلاً-: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟! ويكون قد علم ما يصنع فلان، لكن المقصود منه التعجب من فعله ومن حاله.
فقوله عز وجل هنا: (ألم تر) تقال لمن تقدم علمه، فتكون للتعجيب والتقرير، كإخبار من يعرف التاريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه.
وفعل (رأى) متعدٍّ أصلاً، ولا يحتاج إلى حرف الجر (إلى)، لكن لما ضمن الفعل معنى (تنظر) عدي بـ (إلى)، يعني: ألم تنظر إلى، وفائدة استعارته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له.
(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) ألوف في العدد جمع ألفٍ، أو ألوف جمع آلف، كشاهد جمعها شهود، كذلك (وهم ألوف)، وهذا قول آخر، بمعنى أنهم خرجوا وهم مؤتلفون، لم يدفعهم إلى الخروج من ديارهم أنهم كانوا متقاتلين فيما بينهم أو متناحرين أو متخاصمين، إنما كانوا مؤتلفين.
فقوله تعالى: (وهم ألوف) إما أن يكون في العدد جمع ألف، أو: وهم ألوف مؤتلفون ومجتمعون جمع آلف بالمد كشاهد وشهود.
أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم وخصام، ولكن حذر الموت، و (حذر) مفعول له، أي: فراراً من الموت.(18/2)
قدرة الله تعالى على الإماتة والإحياء
قوله تعالى: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) كان يمكن أن يقول الله تبارك وتعالى: فأماتهم الله بدل قوله: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم)، وإنما جيء به على هذا التركيب للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد لأمر الله ومشيئته، وتلك مشيئة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف، فلذلك قال: (فقال) ولم يقل: (فأماتهم) إنما قال: (فقال لهم الله موتوا) يعني: ماتوا في الحال في وقت واحد أجمعين.
كأنهم أمروا بالموت فامتثلوه في الحال دون توقف ودون إباء أو اعتراض، فلذلك أتى بهذه الصيغة كي يبين قدرته تبارك وتعالى ومشيئته التي لا راد لها، قال لهم الله: موتوا.
فماتوا في الحال! وهذا كقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
(ثم أحياهم) هذا عطف بـ (ثم) إما على مقدر يستدعيه المقام، والمعنى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا فماتوا ثم أحياهم، فتكون (أحياهم) معطوفة على (فماتوا).
وحذف قوله: (فماتوا) للدلالة على الاستغناء عن ذكره، فإنه لا أن يتخلف مراد الله تبارك وتعالى عن إرادته، فالله أراد منهم أن يموتوا، فلا يتخلف أبداً مراد الله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلما قال لهم: موتوا كان لابد أن يموتوا كما أراد الله، وقد ماتوا بالفعل، ولشدة اليقين بوقوع هذا المراد من الله سبحانه وتعالى لم يذكر (فماتوا)؛ لأن هذا واقع ولابد، لاستحالة عدم وقوعه، فاستغني عن ذكره باستحالة عدم وقوع مراد الله.
أو تكون (ثم أحياهم) معطوفة على (قال) (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) والتقدير: (قال ثم أحياهم)، فهي معطوفة على (قال) فهذه فعل ماض وهذه فعلٌ ماض.(18/3)
فضل الله تعالى على الناس
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قاطبة بما في ذلك أولئك الذين قال لهم الله: موتوا ثم أحياهم، فتفضل الله عليهم بذلك ليعتبروا بما جرى عليهم من قدرة الله سبحانه وتعالى في إماتتهم ثم إحيائهم، فيعتبروا بهذه العبرة فيفوزوا بالسعادة.
وأما الناس الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضل على الجميع ليشكروه.
(إن الله لذو فضل على الناس) هؤلاء الذين أماتهم ثم أحياهم وكل من يسمع قصتهم أيضاً الله ذو فضل عليهم لما هداهم إليه من الاعتبار والاستبصار بقصتهم.
فتفضل الله على الجميع ليشكروه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243] يعني: لا يشكرون فضله كما ينبغي.(18/4)
الحث على الجهاد
روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله).
ومعلوم أن سورة البقرة نزلت في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأُمِر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وقص لهم من الأنباء ما فيه باعث لهم على الجهاد، وتبشير لهم بالفوز والعاقبة وإن كانوا في قلة وضعف، حتى لو كانوا في قلة وضعف فلا يمنعنهم ذلك من الخروج في سبيل الله، ما داموا مستمسكين بحبل الوثاق والصبر والمصابرة، وما قص الله من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة؛ لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة.(18/5)
الحكمة من ذكر القصص في القرآن
قال الدهلوي ولي الله في الفوز الكبير: واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله -يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى- كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة ما قرع سمعهم، وهذا من مقاصد القرآن، تذكر القصص كي تكون عبرة للجميع.
وذكر لهم إجمالاً قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقى هذه القصص أباً عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل، فإنها كانت مألوفة عند العرب، مألوفة لأسماعهم؛ لأنهم كانوا يخالطون اليهود العرب في قرون كثيرة.
وانتزع من القصص المشهورة ما ينفع في تذكرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها، والحكمة في ذلك أن القرآن الكريم لو سرد تفاصيل القصص وتفاصيل كل الأحداث التي تتعلق بهذه القصص فإن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو سمعوا الخصوصيات يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر والاعتبار الذي هو الغرض الأصلي هنا.
فإذا ذكرت القصة كلها من أولها إلى آخرها بجميع ما يتعلق بها من أحداث ووقائع، فالناس ينجرون إلى متابعة تسلسل الأحداث، وينبهرون به، وينجذبون إليه، ويفوتهم الاعتبار، فلذلك القرآن الكريم ما ذكر كل تفاصيل قصصهم، وإنما ذكر ما ينفعهم لأجل الاعتبار.
وهذا يظهر لنا إذا قارنا بين كثير من قصص القرآن الكريم وبين نفس القصص إذا ذكرت في التوراة مثلاً، فنجد القصص في التوراة موجودة بتفاصيل عجيبة جداً، وتفاصيل كثيرة جداً، بما في ذلك الأسماء، ومواقع البلاد، وأنواع الضيوف، والطيور وغير ذلك من تفاصيل وخصوصيات القصة، أما القرآن الكريم فحذراً وتجنباً لما يحصل من العوام، لأنهم إذا سمعوا القصص بجميع خصوصياتها وتفصيلاتها يميلون إلى هذه الخصوصيات وتسلسلها، وينسون وينشغلون عن موضع العبرة، مع أن العبرة والاعتبار والتذكر هو الغرض الأصلي من سردها، فيذكر الله من القصة في القرآن.
ونظير هذا الكلام في موضوع القصص ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة! ولذلك ينبغي أن ينتبه الإنسان إذا درس علم التجويد ألا يلبس عليه الشيطان بأن يصرف كل همه إلى مراعاة قواعد التجويد ومخارج الحروف دون الاعتبار بالمعاني.(18/6)
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)
قال تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] من المخاطبون هنا في قوله: (وقاتلوا)؟ إما أن يكون المخاطبون هم الذين أماتهم الله ثم أحياهم، فبعدما أحياهم أمرهم قائلاً: (وقاتلوا في سبيل الله)، وإما أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون المقصود تحذيرهم، أي: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فلا ينفعكم الهرب، ولكن قاتلوا في سبيل الله إذا استنفرتم إلى الجهاد.
قال المفسرون: في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال دليل على أنها سيقت بعثاً على الجهاد، فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168].
وقوله: (سبيل الله) السبيل أصلاً هو الطريق، سميت المجاهدة سبيلاً إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله.
فالجهاد سبيل الله لأنه يحمي الحق وينشره في ربوع الأرض، والقتال في سبيل الله شرع لإزالة الضرر العام، والضرر العام هو منع الحق وتأييد الشرك، فالجهاد هو لإزالة هذا المانع.
وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] باعث على صدق النية والإخلاص، (سميع عليم) سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم وضمائركم.
فهذا حث على أن يكون الجهاد في سبيل الله لا رياء ولا سمعة ولا لطلب الغنيمة، كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).(18/7)
تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].
هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة، وهذه الآية مكررة في الكتاب الكريم في أكثر من موضع، يقول القرطبي: (من ذا الذي يقرض الله) طلب القرض في هذه الآية هو تقريب للناس بما يفهمون، هذا هو الأسلوب الذي يفهم به الناس، وهذا نوع من البساطة في التعبير حتى يفهموا عن الله سبحانه وتعالى آياته، والله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه إعطاء المؤمنين وإنفاقهم في الدنيا بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في طلب الجنة بالبيع والشراء كما يأتي في سورة براءة، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة كما في الحديث المعروف.
وأشير هنا إلى أن قوله سبحانه وتعالى: (من ذا الذي يقرض الله) لا نفهم منه كما فهم اليهود -لعنهم الله- حينما قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء) يسخرون من القرآن الكريم، فقالوا: الله -سبحانه وتعالى- يستقرضنا ويسألنا القرض، فالله فقير ونحن أغنياء.
وقد علم ما رد الله سبحانه وتعالى عليهم في مقالتهم الشنيعة هذه.
ففي حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!)، إذاً معنى قله: (مرضت فلم تعدن)، أنك لو أتيته لنلت ثواب عيادة المريض.
(يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك -سألك سقيا الماء- عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟!).
فمن نفس هذا الباب جاء قوله تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا))، فهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كني عنه ترغيباً لمن خوطب به.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله! وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح.
قال: أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وفيه أم الدحداح وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح! قالت: لبيك.
قال: اخرجي؛ فقد أقرضته ربي عز وجل.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب عرق لـ أبي الدحداح مدلل في الجنة)، وفي رواية: (كم من عذق رداح في الجنة لـ أبي الدحداح).
قوله تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)) يعني: طيبة به نفسه بغير من ولا أذى، (فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)، وهذا كقوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
ولما رغب رهب، فرغب أولاً في إقراضه سبحانه وتعالى بهذه الآية، ثم أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال: ((وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ)) أي: يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على من يشاء.
وما دام الذي يبسط ويقبض والذي يوسع ويضيق الرزق هو الله سبحانه وتعالى إذاً فلا تبخلوا بما وسع عليكم؛ لئلا يبدل الله سبحانه وتعالى السعة التي أودعها فيكم بالتضييق.
((وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) يعني: يوم القيامة فيجازيكم.
قال المهايمي: وكيف ينكر بسط الله وقبضه وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله الملوك الذين هم سلالة الملوك وأبناء الملوك؟! فالله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، فالملك الذي هو سبط الملوك ومن سلالتهم يمنعه الله الملك ويؤتيه للفقير! وهو أيضاً سبحانه وتعالى يقوي الضعفاء في الجمع القليل ويضعف الأقوياء في الجمع الكثير، فلا ينكر هذا، وهذا تمهيد بين يدي هذه القصة التي حكاها الله سبحانه وتعالى عن الملأ من بني إسرائيل، حيث آتى طالوت الملك مع أنه لم يكن من سبط الملوك ولم يكن من سلالة الملوك، وأيضاً نصر جنوده الذي كان فيهم داود عليه السلام على قوم جالوت رغم قلة عَدَدِهم وعُدَدِهم بالنسبة إليهم.(18/8)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (أم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف)
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [البقرة:243] استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، يعني: ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف أربعة يعني إما أربعة آلاف، أو ثمانية، أو عشرة آلاف، أو ثلاثون، أو أربعون أو سبعون ألفاً، كلها أقوال.
(حذر الموت) هذا مفعول له، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففروا، وهذا الذي قاله السيوطي مرجوح، والأرجح أنه دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا من وجه عدوهم حذر الموت، وهذا القول أقرب، ويشير إليه قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] فخافوا القتال مع كثرة عددهم، فالفرار من الطاعون لا يستدعي الإشارة إلى أنهم ألوف، بل الذي يستدعي الإشارة إلى أنهم كانوا ألوفاً هو دعوتهم إلى القتال.
(فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم) ماتوا ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل، فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت.
وقوله: (عليهم أثر الموت) هذه المبالغة لا دليل عليها؛ لأنه يقول: عاشوا دهراً بعدما أحيوا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن! واستمرت في أسباطهم، وهذا القول -كما ترى- حكاه السيوطي بغير دليل، فلا ينبغي التعويل عليه.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:243] ومن هذا الفضل إحياء هؤلاء، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [البقرة:243] وهم الكفار {لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243].
والقصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال، ولذا عطف عليه {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:244] أي: لإعلاء دينه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة:244] لأقوالكم {عَلِيمٌ} [البقرة:244] بأحوالكم فيجازيكم.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة:245] يعني: بإنفاق ماله في سبيل الله {قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] يعني: بأن ينفقه لله عز وجل عن طيب قلب -كما ذكرنا- بغير من ولا أذى، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245]، وفي قراءة أخرى: (فيُضعِّفه له).
{أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] من عشرة إلى أكثر من سبعمائة.
{وَاللَّهُ يَقْبِضُ} [البقرة:245] أي: يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء {وَيَبْسُطُ} [البقرة:245] تقرأ بالصاد أو السين، أي: يعطيه لمن يشاء سبحانه.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245] يعني: في الآخرة بالبعث فيجازيكم بأعمالكم.(18/9)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل)
قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
(ألم تر إلى الملأ) الملأ هم القوم ذوو الشارة والتجمع.
(من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم) نكر اسم هذا النبي، فلم يقل: لنبيهم أو النبي وإنما قال: (لنبي لهم)؛ لعدم وجود مقتض لتعريفه، ولن نستفيد شيئاً إذا عرفنا اسمه، والذي يفيدنا هو العبرة، وزعم الكتابيون أنه (سموائيل).
(ابعث لنا ملكاً) أي: أقم لنا أميراً.
(نقاتل) أي: معه وعن أمره، فيقودنا ويأمرنا بالجهاد وينظمنا في الجهاد.
(في سبيل الله) وذلك حين ظهرت العمالقة قوم جالوت على كثير من أرضهم.
(قال هل عسيتم) يعني: قال لهم نبيهم لما قالوا له ذلك: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا)، والمعنى: أنا أتوقع أنكم أناس غير جادين في هذا الطلب، فأتوقع منكم أنكم لا تقاتلون، فهذا مجرد كلام منكم.
فأراد أن يقول: (هل عسيتم أن لا تقاتلوا) بمعنى: أنا أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل (هل) مستفهماً عما هو متوقع عنده ومضمون، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن؛ لأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] يعني: (قد أتى) فهو تقرير، وفي (عسيتم) قراءة أخرى بكسر السين سبعية.
(قالوا وما لنا أن لا نقاتل) يعني: أي سبب لنا في ترك قتال عدونا أن لا نقاتل في سبيل الله؟ (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) أي: والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجاباً قوياً مِنْ أخذ بلادنا وسبي أولادنا.
(فلما كتب عليهم القتال) يعني: بعد إلحاحهم (تولوا) أي: أعرضوا عن قتال عدوهم جبناً، (إلا قليلاً منهم) من المؤمنين.
(والله عليم بالظالمين) وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى.
وثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على جملة من الأحكام: الأول: وجوب الجهاد؛ لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيراً من سلوك طريقهم، ولأن شرائع من قبلنا تلزمنا.
الثاني: أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم، لذلك قالوا لنبيهم: (ابعث لنا ملكاً) أي: أميراً يأمرنا، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، وفي رواية: (إذا كان ثلاثة في سفر).
الثالث: مما تدل عليه الآية: وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب؛ لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، وقد ذكر أهل علم المعاملة أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميراً ودليلاً وإماماً، وهذا محمود؛ إذ بذلك ينقطع الجدال، وينتظم أمرهم، ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل مسجد ونحو هذا.
قال الحاكم: وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم، ووجه ذلك أنه قال: ((هَلْ عَسَيْتُمْ))، وهذا نوع من التأكيد عليهم، وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبي، وكذلك أن الإمام أو الخليفة ينبغي له أن يجدد عهده مع جنده على السمع والطاعة، ويؤكد مواثيقهم معه.(18/10)
تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً)
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]، هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم، يعني: قال لهم بعدما أوحي إليه ما أوحي: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)) يعني: ملَّكه عليكم، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم، وطالوت اسم أعجمي كـ جالوت وداود؛ لذلك لم ينصرف، وإن كان بعض العلماء زعم أنه اسمٌ عربي مأخوذ من الطول، لما وصف به من البسطة في الجسم؛ لكن هذا البناء ليس من أبنية العرب، فمنع صرفهُ؛ للعلمية وشبه العجمة، وقد زعم الكتابيون أنه المعروف عندهم: بـ شاءول.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ثلاث جرائم، جريمة إثر جريمة -لعنهم الله- فهذا اعتراض على نبيهم؛ بل على الله تعالى بعدما أوحى الله إليه ما أوحى؛ لأن نبيهم لا يتكلم لهم من قبل نفسه، وإنما بالوحي، وهذه هي عادة القوم في سوء الأدب مع الأنبياء ومع الله عز وجل، قالوا: ((أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا)) يعني: كيف يكون له الملك علينا ((وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))؟! يعني: لأن فينا من هو من سلالة الملوك الذين توارثوا الملك، وهذا ليس من أبناء الملوك، قال الحرالي: فثنوا اعتراضهم، يعني: هم أولاً اعترضوا فقالوا: ((أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا))، ثم ثنوا بجريمة ثانية فقالوا: ((وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))، فافتخروا بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم، فكان فيهم حظ من فخر إبليس حيث قال حين أُمر بالسجود لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، وهؤلاء أيضاً قالوا: ((وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))، قال الحرالي: وثلثوا جرائمهم بقولهم: ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ))، فهذا كما عبر عنه بعض العلماء: استصنام للمال، جعلوا المال صنماً يعبد: ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ))، فصار لهذا الملك مانعان من استحقاق الملك في نظرهم: الأول: أنه ليس من سبط الملوك.
الثاني: أنه مملق، أي: فقير ليس عنده مال، والملك لا بد له من مال يعتضد به.
قال الحرالي: فكان في هذه الثالثة -يعني قولهم: ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)) -: استصنام المال -أي: اتخاذ المال صنماً يعبد- وأنه مما يقام به الملك، وإنما الملك بإيتاء الله، وليس بالمال، فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم.
{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وفقره رد عليهم أن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فهذا هو الجواب الأول على باطلهم وهو: أن ملاك الأمر إنما هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم.
ثانياً: أن العمدة في الملك وفور العلم، ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وبسطة البدن؛ ليعظم خطره في القلوب، ويقدر على مقاومة الأعداء، ومكابدة الحروب، وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر، فالله الذي آتاه الملك، زاده بسطة في العلم والجسم، فصار في غاية الوفرة من القوة العلمية، والقوة العملية، التي هي أساس القائد والأمير.
{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247] يعني: من غير إرث ولا مال، إذ لا يشترط على الله تعالى شيء، فهو الفعال لما يريد، فلا رادَّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]؛ وليس لأحد أن يشترط على الله شروطاً، فيقول: يشترط في الملك أن يكون من سلالة كذا أو من سبط الملوك أو يشترط أن يكون ذا مال، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يصطفي، وهو الذي يؤتي الملك، فهو الذي اصطفاه عليكم، وهو الذي زاده بسطة في مؤهلات الملك، فزاده بسطة في العلم والجسم (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} فهو الفعال لما يريد، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] أي: يوسع على الفقير ويغنيه، وهو يعلم من يليق به الملك ممن لا يليق به، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، يعني: لم يقل تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء وهو واسع عليم) وإنما قال: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]، فكرر لفظ الجلالة لتربية المهابة في قلوبهم من الله سبحانه وتعالى.
وثمرة هذه الآية: أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث، وأن الحِرف الدنيئة لا تمنع الغنى والسيادة؛ لأنه روي أن طالوت كان دباغاً أو سقاءً مع فقره.
وتدل هذه الآيات على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولى، فيكون سليماً من الآفات، عالماً بما يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم؛ رداً على ما اعتبروه، فدائماً يشير القرآن إلى مؤهلات الإمامة، وهي: القوة العلمية والعملية كما في قوله تبارك وتعالى حاكياً عن يوسف على السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وكذلك في قوله تبارك وتعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45]، وكذلك في قول بنت الرجل الصالح: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ)) يعني: الجماعة ((مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)) أي: من بعد موت موسى، يعني: ألم ينته علمك إلى قصتهم وخبرهم؟ ((إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ)) هو شمويل، وأحياناً يقولون: صاموئيل ((ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا)) أي: أقم لنا ملكاً ((نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: نقاتل معه في سبيل الله، يعني: تنتظم به كلمتنا، ونرجع إليه.
((قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ)) قال النبي لهم: (هل عسيتم) بالفتح والكسر، ((إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)) والاستفهام لتقرير التوقع بها يعني: أنا أتوقع منكم جبنكم هذا ما قاله لهم نبيهم ((قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)) يعني: بسبيهم وقتلهم، وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت، أي: لا مانع منه مع وجود مقتضيه، يعني: لا يوجد مانع، وفي نفس الوقت المقتضي موجود، فيجب أن يوجد الفعل وهو القتال، قال تعالى: ((فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ)) لما فرض عليهم القتال ((تَوَلَّوْا)) عنه وجبنوا ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت كما سيأتي إن شاء الله ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) فمجازيهم.
وسأل النبي -أي: المذكور في الآية السابقة- ربه إرسال ملك، فأجابه إلى إرسال طالوت: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى)) يعني: كيف ((يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))؛ لأنه ليس من سبط المملكة ولا النبوة، وكان دباغاً أو راعياً ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)) يعني: يستعين بها على إقامة الملك ((قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ)) قال النبي لهم: (إن الله اصطفاه عليكم) أي: اختاره للملك ((وَزَادَهُ بَسْطَةً)) أي: سعة، بالسين والصاد ((فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)) وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ، وأجملهم وأتمهم خلقاً {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} إيتاءه، لا اعتراض عليه، ((وَاللَّهُ وَاسِعٌ)) أي: فضله ((عَلِيمٌ)) بمن هو أهل له.(18/11)
تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت)
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248] يعني: لما طلبوا منه آية على ملكه، قال: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة:248] يعني: الصندوق، يقول السيوطي: كان فيه صور الأنبياء أنزله الله على آدم إلخ هذه من المآخذ الشديدة على السيوطي في تفسير الجلالين، وهي التساهل في سرد مثل هذه الإسرائيليات بلا سند وبلا دليل، كما سبق أن أشرنا إلى قوله رحمه الله تعالى في قوله تبارك وتعالى: ((فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)) حيث قال: فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن! ما الدليل على هذا؟ أيضاً قال السيوطي هنا: إن التابوت -وهو الصندوق- كان فيه صور الأنبياء أنزله الله على آدم واستمر إليهم فغلبتهم العمالقة عليه، وأخذوه، وكانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه في القتال ويسكنون إليه! وقد رد القاضي كنعان على قول السيوطي: كان فيه صور الأنبياء، فقال: لقد تساهل السيوطي رحمه الله في هذا من غير دليل، ثم إن قوله هذا مخالف لإخباره تعالى عما في التابوت؛ لأن الله ما قال: فيه صور الأنبياء، وإنما قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:248]، وأيضاً ففي تصوير الأنبياء بعد وغرابة، بالإضافة إلى أن حكم التصوير في الشرائع السابقة غير معلوم لدينا، فلنقف عند حدود ما أخبر الله تعالى به، ولنترك المبالغة؛ فإنها غير محمودة.
وهذه الملاحظات أنتم مسئولون عنها في التفسير؛ حتى لا تعتمد كلام السيوطي فيها، فتذكر الكلام الأصح.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:248] يقول: (فيه سكينة) أي: طمأنينة لقلوبكم {مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة:248] أي: تركاهما، وهي نعلا موسى، وعصاه، وعمامة هارون، وقفيز من المنّ الذي كان ينزل عليهم، ورضاض من الألواح يعني: فتات من الألواح {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] هذا حال من فاعل يأتيكم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} [البقرة:248] يعني: على ملكه {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248]، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت؛ فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، فاختار من شبابهم سبعين ألفاً.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)) أي: إن علامة أن ملكه من الله تعالى ((أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)) أن يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو صندوق التوراة: ((فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) فيه وقار وجلال وهيبة، أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل، يتقوون به على الحرب، (وبقية) أي: جملة مما ذهب جلها ((مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ)) يعني: من آثارهم الفاضلة.
((تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ)) أي: في رد التابوت إليكم، ((لَآيَةً لَكُمْ)) لعلامة لكم على أنه ملكه الله ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: بآيات الله وأنبيائه.
قال البقاعي رحمه الله: التابوت -والله أعلم- الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات، ويسمى تابوت الشهادة، وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم، ويتقدمون به أمام الجيش، فيكون ذلك سبب انتصارهم، وكان العمالقة أصحاب جالوت قد أخذوه منهم في جملة ما أخذوا من نفائسهم، وقد ذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملاً لهم على قبول قيادة طالوت لهم، قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.(18/12)
تفسير قوله تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود)
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] أي: فلما التقى الجيشان قال لهم طالوت: ((إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)) وهذا فيه إشعار بأنه محذور تناوله ولو مع الطعام؛ فمنعهم من تناوله كشراب، ومنعهم أيضاً من تناوله ولو مع الطعام.
ثم قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) من اغترف غرفة واحدة فلا يخرج عن كونه مني؛ لأنه في معنى من لم يشربه، وبلا شك فإن هذا امتحان وابتلاء شديد؛ ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب الذي ينقاد لشرع الله، وبلا شك أن الذي يغترف غرفة ففتنته أشد مع شدة الحر، فعند أن يتناول غرفة واحدة من الماء، يكون شوقه إلى المزيد أكثر.
وفي قراءة: (إلا من اغترف غَرْفةً بيده) يعني: أي غرفة سواء كانت قليلة أو كثيرة، أما على قراءة: (غُرفة بيده) فهي إعلام بملئها.
((فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) يعني: شربوا منه إلى حد الارتواء، ولم يكتفوا بغرفة واحدة، وإنما شربوا وتمادوا في الشرب إلى حد الارتواء، قال تعالى: ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) لم يشربوا إلا بما أذن الله تعالى.
((فَلَمَّا جَاوَزَهُ)) الهاء تعود على النَّهر أو النهَر ((فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ))، المشار إليه طالوت ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) الذين شربوا غرفة واحدة أو لم يشربوا، ((قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)) فقد سلبت شجاعتهم، يظنون هنا بمعنى: يوقنون.
((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ)) أي: أنهم يرجعون إليه بعد الموت، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((فَلَمَّا فَصَلَ)) أي: خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس، وكان الحر شديداً، وطلبوا منه الماء (قال إن الله مبتليكم) أي: مختبركم (بنهر) يعني: ليظهر المطيع منكم والعاصي، وهذا النهر هو: النهر الذي بين الأردن وفلسطين: ((فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)) من مائه؛ لأن النهر المقصود به ماء النهر؛ لأن النهر هو الأخدود نفسه.
((فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)) أي: من مائه ((فَلَيْسَ مِنِّي)) أي: من أتباعي ((وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)) يعني: يتركه ((فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) بالضم أو بالفتح غُرفة أو غَرفة بيده، فاكتفى بها ولم يزد عليها فإنه مني ((فَشَرِبُوا مِنْهُ)) يعني: لما وافوه شربوا بكثرة ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) فاقتصروا على الغرفة التي اغترفها كل واحد منهم كما تقدم، روي أنها كفتهم لشربهم ودوابهم، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وهذه الحكاية ضعيفة جداً.
((فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) الذين اقتصروا على الغرفة، ((قَالُوا))، أي: الذين شربوا ((لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ)) يعني: لا قوة ((لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)) أي: بقتالهم، وجبنوا ولم يجاوزوه.
(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يوقنون ((أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ)) أي: بالبعث، وهم الذين جاوزوه، (كم) بمعنى: كثير ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ)) أي: جماعة ((قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بإرادته، ((وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) أي: بالعون والنصح.(18/13)
تفسير قوله تعالى: (ولما بروزا لجالوت وجنوده)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] أي: ظهروا لقتالهم وتصافوا يعني: وقفوا صفوفاً {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا} [البقرة:250] أفرغ أي: أصبب {عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250] بتقوية قلوبنا على الجهاد، {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:250 - 251] أي: كسروهم بإذن الله وبإرادته: {وَقَتَلَ دَاوُدُ} داود كان في عسكر طالوت، وهذا خير دليل على أن داود بعد موسى عليه السلام؛ لأن في صدر القصة ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)) قال الله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:251] الهاء تعود إلى داود عليه السلام ((وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)) آتاه الله الملك في بني إسرائيل، (والحكمة) أي: النبوة بعد موت شمويل وطالوت، ولم يجتمعا لأحد قبله أي: الملك والنبوة لم يجتمعا معاً لأحد قبل داود عليه السلام.
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] كصنعة الدروع.
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] هذا بدل بعض من الناس {لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251] بغلبة المشركين، وقتل المسلمين، وتخريب المساجد {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] وسنة التدافع من سنن الله سبحانه وتعالى، يدفع الناس بعضهم ببعض؛ كي لا تفسد الأرض.(18/14)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين)
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] أي: هذه الآيات (آيات الله نتلوها) أي: نقصها، (عليك) يا محمد صلى الله عليه وسلم {بِالْحَقِّ} [البقرة:252] أي: بالصدق {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] التأكيد بإن وغيرها ردٌّ لقول الكفار له صلى الله عليه وسلم: (لست مرسلاً) فالله سبحانه وتعالى يحامي عنه ويقول: ((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ))، يشهد له بصدق رسالته صلى الله عليه وآله وسلم.(18/15)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَلَمَّا بَرَزُوا)) أي: ظهروا ((لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) أي: صبه علينا، حتى نثبت لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولاً؛ لأنه ملاك الأمر: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) أي: في ميدان الحرب، فلا نهرب منه ((وَانْصُرْنَا)) أي: لأننا مؤمنون بك، ((عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) أي: بك، وهم: جالوت وجنوده، وهذه الآية تدل على أن من حَزَبَهُ أمرٌ فإنه ينبغي له سؤال المعونة والتوفيق من الله والانقطاع إليه تبارك وتعالى.
ونلاحظ في سياق هذه الآيات وصف طالوت وجنوده بأنهم معسكر الإيمان، ووصف جالوت وجنوده بأنهم معسكر الكفر؛ ولذلك قال هنا: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، وجالوت وجنوده هم العمالقة الفلسطينيون الذين كانوا كافرين في ذلك الوقت، فانظر كيف يجعل القرآن مقياس الولاء والبراء هو الإيمان أو الكفر، ليست الجنسية أو الوطنية أو القومية، فتجد هنا أن القرآن يربينا على الولاء للمؤمنين أياً كانوا، وعلى شريعة أي نبي، ما داموا تابعين له على الإسلام، فهؤلاء الذين كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام كانوا مسلمين موحدين، أما جالوت وجنوده مع أنهم كانوا فلسطينيين فقد كانوا كافرين، ولا شك أن الفلسطينيين مسلمون اليوم، أما اليهود فهم أخبث أعداء الله سبحانه وتعالى، وأكفر خلق الله، فينبغي أن يدور الإنسان مع القرآن حيث دار، فالولاء والبراء على أساس الإيمان والكفر، لا على أساس الانتماء للوطن.
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] (فهزموهم) أي: هؤلاء القليلون هزموا أولئك الكثيرين (بإذن الله) أي: بنصره، إذ شجع القليلين وجبن الكثيرين (وقتل داود) وكان داود في جيش طالوت (جالوت) الذي كان رأس الأقوياء، (وآتاه الله الملك) أي: أعطى الله داود ملك بني إسرائيل (والحكمة) أي: الفهم والنبوة (وعلمه مما يشاء) من صناعة الدروع وغيرها.
((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ)) الذين هم أهل الشر (ببعض) من أهل الخير، أي: بغلبة الكفار، وظهور الشرك والمعاصي كما قال تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40] {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] أي: مَنَّ عليهم بالدفع، فالله سبحانه يدفع عن الضعفاء فساد الأقوياء بالسيف.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] أي: تلك المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت، وانهزام جالوت، وقتل داود إياه وتملكه؛ آيات الله؛ إذ هي أخباره بالمغيبات، وتدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته.
((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)) أي: ينزل عليك جبريل بها ((بِالْحَقِّ)) أي: اليقين الذي لا يرتاب فيه ((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) بما دلّت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير مُعلِّم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر.
وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة، كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين، كأنه يقال له: لقد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمنَّ عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك؛ لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة، ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم، والوبال في ذلك يرجع عليهم.
((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) هي كالتنبيه على ذلك، فستجري عليك السنة التي جرت على إخوانك السابقين من المرسلين.(18/16)
قصة طالوت وجالوت في التوراة
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هذه القصة مسوقة في الإصحاح السابع عشر من سفر صاموئيل الأول، ولا حرج في تلاوة هذه الإسرائيليات التي تكون موافقة لما عندنا، جاء في هذا السفر في التوراة: وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب، فاجتمعوا في (سوكاه) التي ليهوذا ونزلوا بين (سوكيا) و (هريقاء) في (آكفيدميل)، واجتمع شاءول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطن، واصطفوا للقاء الفلسطينيين، وكان الفلسطينيون وقوفاً على جبل من هنا، وإسرائيل وقوفاً على جبل من هناك، والوادي بينهم، فخرج مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من (جتا)، طوله ستة أذرع وشبر -يعني: ثلاثة أمتار تقريباً؛ لذلك كانوا يسمون العماليق- وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابساً درعاً وزنه خمسة آلاف شاقل، وجرموق نحاس، ورمحه ستمائة شاقل حديد، وحامل الترس كان يمشي قدامه، فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم: لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب، أما أنا الفلسطيني وأنتم عبيد لـ شاءول؟ اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليّ، فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيداً، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيداً وتخدموننا، وقال الفلسطينيّ: أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم، أعطوني رجلاً سنتحارب معاً -تلاحظون الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن وبلاغته وبين هذا الكلام! وأنا أظن أن النسبة إلى فلسطين ليست فلسطيني، بل فلسطي- ولما سمع شاءول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جداً، وداود هو ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا الذي اسمه يفتى، وله ثمانية بنين، وقد شاق وكبر بين الناس، وذهب بنو يفتى الثلاثة الكبار، وتبعوا شاءول إلى الحرب، وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب: إليائاب -وهو البكر- وأبينا دابو وشمتو، وداود هو الصغير، والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاءول، وأما داود فكان يذهب ويرجع من شاءول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم، وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحاً ومساءً أربعين يوماً، وكان شاءول هو وجميع رجال إسرائيل في وادي البطن يحاربون الفلسطينيين، فبكَّر داود صباحاً وترك الغنم مع حارس، وحمل وذهب كما أمره يفتى إلى الجيش خارج إلى الحرب، واصطف الإسرائيليون والفلسطينيون صفاً مقابل صف، فقال رجل من إسرائيل: أرأيتم هذا الرجل الصاعد، ليعير إسرائيل، فيكون الرجل الذي يقتله يغنيه الملك، ويعطيه بنته، ويجعل بيت أبيه حراً في إسرائيل، فكلم داود الرجال الواقفين معه قائلاً: ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل؟ ومن هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحي؟ فكلمه الشعب مثل هذا الكلام قائلين: كذا يفعل بالرجل الذي يقتل، يعني: يثاب بكذا وكذا.
وسمع أخوه الأكبر إليائاب كلامه مع الرجال فحمي غضبه على داود وقال: لماذا نزلت؟ فقال داود: ماذا عملت الآن؟ أما هو كلام؟ -يعني: أنا ما شاركت في الحرب، وما خالفت كلام أبي، لكن أنا الآن أتكلم-، فتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام، فرد له الشعب جواباً كالجواب الأول، وسمع الكلام الذي تكلم به داود وأخبروا به أمام شاءول فاستحضره، فقال داود: عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني، فقال شاءول لداود: لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني فهو رجل حرب منذ صباه، فقال داود لـ شاءول: كان عبدك يرعى لأبيه غنماً فجاء أسد مع دب -يعني: أراد أن يقيم له الدليل على أنه شجاع وأنه يستطيع القتال- وأخذ شاة من القطيع فذهبت وراءه، ولما قام عليّ أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته، قتل عبدك الأسد والدب جميعاً، وهذا الفلسطيني الأغلف يكون لواحد منهما ليرى صفوف الله الحي، وقال داود: الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني، فقال شاءول لداود: اذهب وليكن الرب معك.
وألبس شاءول داود ثيابه، وجعل خوذة من نحاس على رأسه، وألبسه درعاً، فتقلد داود ذلك ولم يكن من قبل قد جرب، فقال داود لـ شاءول: لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها، ونزعها داود عنه -أي: خلع الدرع، لأنه لا يستطيع أن يمشي بها- وأخذ عصاه، وانتقى له خمسة حجارة ملساء من الوادي، وجعلها في كنف الرعاء الذي له -أي: في الجراب-، ومقلاعه بيده، ليتقدم نحو الفلسطيني، ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره؛ لأنه كان غلاماً أشقر جميل المنظر، فقال الفلسطيني لداود: ألعلي أنا كلب حتى تأتي إليّ بعصا؟! ولعن الفلسطيني داود! وقال الفلسطيني لداود: تعال إليّ لأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية، فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي، فأقتلك وأقطع رأسك وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل، وتعلم هذه الجماعات كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب؛ لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا، وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني، ومد داود يده إلى الكنف وأخرج منه حجراً، ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته، فارتز الحجر في جبهته، وسقط على وجهه إلى الأرض فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر، وضرب الفلسطيني وقتله، ولم يكن سيف بيد داود، فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده -يعني أخذ سيف جالوت - وقطع به رأسه، فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا، فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين إلى الوادي وحتى أبواب عقرون إلى آخر القصة.
تلاحظون الفرق الشاسع بين القرآن الكريم والتوراة، والقرآن لا يذكر كل هذه التفاصيل، ويكتفي بذكر موضع العبرة.(18/17)
تفسير سورة البقرة [253 - 256](19/1)
تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)
قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
قوله تعالى: (تلك الرسل) تلك: مبتدأ، والرسل: صفة، والخبر: (فضلنا بعضهم على بعض) يعني: بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)) كموسى، ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ)) أي: محمداً صلى الله عليه وسلم (درجات) يعني: رفعه على غيره درجات، بعموم الدعوة والنبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة.
وهذا فيه إشارة إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة).
وليست هذه الخمس فقط هي خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي كثيرة جداً، وقد خصها بعض الأئمة بعلم مستقل من علوم الدين يسمى: الخصائص النبوية، وأشهر ما ألف في ذلك وأقدمه: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض، والخصائص الكبرى للسيوطي، وظهر مؤخراً مختصر لأحد العلماء، وقد حقق أحاديثه بعمل جيد، فهذا علم مستقل من علوم الدين وهو معرفة خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تكلمت هذه المصنفات على مئات الخصائص، وأيضاً الغماري له كتاب في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ)) أي: قويناه ((بِرُوحِ الْقُدُسِ)) يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار.
((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ)) يعني: لو شاء الله أن يهدي الناس جميعاً ((مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)) من بعد الرسل من أممهم ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ))؛ لاختلافهم، وتضليل بعضهم بعضاً، ((وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا))؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك ((فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ)) أي: ثبت على إيمانه ((وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)) دعوى المسيح ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)) هذا تأكيد، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) يعني: من توفيق من شاء، وخذلان من شاء.(19/2)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)
قوله تبارك تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم، وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، فهذه الآيات توضح ما أجمله في قوله: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، فبينت آيات أخر أن ممن كلم الله موسى عليه السلام.
وقال ابن كثير: (منهم من كلم الله) موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه.
قال مقيدة -أي: الشنقيطي - عفا الله عنه: تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبنيه قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] وأمثالها من الآيات، فإنه ظاهر بأنه غير واسطة الملك، وإنما كان تكليماً مباشراً من الله سبحانه وتعالى.
ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك، يعني: الله سبحانه وتعالى كلم آدم عليه السلام، وآدم بلغ حواء كما قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة:35]، فالتكليف لآدم.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: (نعم، نبيٌّ مكلم)، فهذا يدل على دخول آدم عليه السلام في قوله تعالى: ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)) يعني: بلا واسطة.
قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى عليه السلام.
وقال ابن جرير: لأن آدم كان هو النبي أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً -وهو الرسول- بقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة:38] أي: رسل.
وقد وصف نوح عليه السلام بأنه أول رسول في حديث الشفاعة: (فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]، وهذا يشكل على ما تقدم أن آدم رسول! والظاهر: أنه لا طريق للجمع بين هذه النصوص إلا من وجهين: آن آدم أرسل لزوجه في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل على هذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة ففيه: (ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) فمفهومه: أن آدم عليه السلام أول رسول من الله إلى زوجه حواء في الجنة، وليس رسولاً إلى أهل الأرض، فلا تعارض، فقوله: (إلى أهل الأرض) لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، لكن المقصود به الاحتراز عن رسالة آدم إلى زوجه في الجنة كما ذكرناه، ويستأنس له بكلام ابن عطية الذي ذكرناه سابقاً عند حديث: (نعم، نبي مكلم)، قال ابن عطية: وقد تأوّل بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا يبقى التكليم خاصية لموسى عليه السلام.
أما الوجه الثاني للجمع فهو أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل إلى قوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} [يونس:19] يعني: كانوا على الدين الحنيف حتى كفر قوم نوح، وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة:213] إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فبلا شك أن من أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم عموم رسالته إلى البشر كافة، وهو الرسول الوحيد الذي بعث إلى الناس كافة، أما من قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].
وأشار أيضاً في مواضع أخر إلى أن من هؤلاء الذين رفعهم الله درجات إبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وإن كانت الخلة ليست خاصة لإبراهيم عليه السلام، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ومن ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأشار في موضع آخر إلى أن من هؤلاء الأنبياء الذين فضَّلهم الله، ورفعهم درجات داود عليه السلام في قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55].
وأشار أيضاً إلى أن منهم إدريس عليه السلام في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57].
وأشار إلى أن منهم عيسى لقوله: ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)).(19/3)
حكم التفضيل بين الرسل وذكر أفضلهم
في قوله تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) إشكال قوي معروف، وجهه أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصعقون -أو يُصعقون- يوم القيامة فأكون من أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)، فهنا يخبر في الحديث بقوله: (لا تخيروني على موسى) يعني: لا تقولوا: أنا خيرٌ من موسى عليه السلام، وفي رواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله)، وفي رواية: (لا تخيروني من بين الأنبياء).
قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء، ولا تفضلوا بين أنبياء الله) أي: لا تقولوا: فلان خيرٌ من فلان، ولا فلان أفضل من فلان.
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل.
يعني: يحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن التفضيل كما في هذا الحديث، وكما في قوله أيضاً: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) قبل أن يوحى إليه بتفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين كقوله مثلاً: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ولا فخر).
الثاني: أن هذا قاله من باب هضم النفس فقال: (لا تخيروا بين أنبياء الله).
الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاتم يعني: في هذه الحال بالذات ينهى عن وقوع المفاضلة فيها؛ لأن سبب ورود الحديث: أن رجلاً يهودياً قال: والذي اصطفى موسى على العالمين! فغضب المسلم ولطمه منكراً عليه؛ لأن الله اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام على العالمين.
الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به.
واختار القرطبي أن منع التفضيل إنما هو في خصوص النبوة، يعني: في أصل النبوة لا تفاضل، وإنما يحصل التفاضل في أمور أخر زائدة على النبوة، وجوز القرطبي التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات، فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص -التي هي الخصائص- والألطاف والمعجزات المتباينة، أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما يتفاضلوا بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، وهذا قول حسن فيه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ.
وقد أشار ابن عباس إلى هذا المعنى فقال: إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم -يا ابن عباس - فضله على أهل السماء؟! فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29]، وهذا في حق الملائكة، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، فأرسله إلى الجن والإنس.
وأشار أيضاً القاسمي إلى بعض الفوائد التي تتعلق بهذه الآية: ((تِلْكَ الرُّسُلُ)) فيقول: هذه إشارة إلى من ذكر منهم في سورة البقرة، أو تلك الرسل المعلومة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) بأن خص بمنقبة ليست لغيره ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)) هذا تفصيل للتفضيل، أي: منهم من فضَّله الله بأن كلمه من غير واسطة، وهو موسى عليه السلام، ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) يعني: كإبراهيم اتخذه الله خليلاً، وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك.
والظاهر أنه أراد بقوله تعالى: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثر المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤت صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على مرِّ الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لقوله: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) فاكتفى بهذا عن أن يقول: إنه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا فيه زيادة تعظيم وتفخيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا فيه شهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس بغيره، فمن شدة تميزه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء لم يكن هناك داع للتصريح باسمه؛ بل قال تعالى: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ))، على أساس أن هذا معروف فلا يحتاج للتنصيص على اسمه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، كما يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم.
ويريد به الذي عرف واشتهر بتلك الأفعال، مثل رجل يستطيع رفع أوزان ثقيلة جداً، وهو معروف في وسط مجموعة من الناس، فتقول: من رفع هذه الأثقال؟ فيقول: أحدهم أو أحدكم أو بعضكم، وهو معروف أنه لا يفعله إلا هذا، فيكون الإيهام وعدم التصريح أفخم من التصريح به، كما سئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث؟ يعني: بذلك نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي.
لم يفخم أمره، فلو صرح لكان أضعف من أن يقول: لو شئت لذكرت الثالث، فكأن الثالث هذا معروف، وليس محتاجاً أن يذكر أنه متمكن من الشعر.
قالوا: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم.
وقوله: ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)) كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ((وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) وهو جبريل عليه السلام.
قوله تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني: من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين، وتشعُّب مناهجهم، وتكفير بعضهم بعضاً ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)).(19/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ))، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال، (مما) من هنا: تبعيضية، يعني: من بعض ما رزقناكم، قيل: وهو أمر إيجاب، وإذا كان الأمر هنا على سبيل الإيجاب فالمراد بالنفقة الزكاة، والذي يرجح ويؤكد ويقوي القول بأن المراد هنا: النفقة الواجبة؛ الوعيد الذي عقب الله سبحانه وتعالى أمره بالنفقة هنا فقد قال: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) فوصف مانع هذه النفقة بالكفر والظلم، وهذا الوعيد يدل على أنه أراد النفقة الواجبة، وليس نفقة التطوع.
فقوله: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، عنى بهم مانعوها، فالمقصود بالكافرين هنا: مانعوا الزكاة.
وقال الأصم وأبو علي: أراد النفقة في الجهاد.
وقال أبو مسلم وابن جريج: أراد الفرض والنفل، وهو المتجه، يعني: أن المقصود بالنفقة الواجبة والنافلة.
((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ)) وهو يوم القيامة ((لا بَيْعٌ فِيهِ)) لأن الإنسان ما دام السوق قائماً يستطيع أن يبيع، فعن طريق هذا البساط التجاري يستطيع أن يحصل مالاً في الدنيا ينفع به نفسه، أما في الآخرة فيقول تعالى: ((لا بَيْعٌ فِيهِ)) يعني: لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب، فالإنسان في الدنيا يبيع ويشتري فيحصل على المال، وهذا المال إما أن ينفقه في سبيل الله وإما أن يفتدي به، أما في الآخرة فلا يستطيع أن يبيع، ولا يستطيع أن ينفق، فإذا قصر في النفقة في الدنيا لا يستطيع أن يفتدي بماله نفسه في الآخرة؛ لأنه لا بيع فيها، (ولا خلة) يعني: لا صداقة تنفع، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، والمتقون لا يمنعون الزكاة.
((وَلا شَفَاعَةٌ)) فلا تتكلوا على شفعاء {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]، وهذا الاستثناء لا بد منه؛ لأن النفي هنا ليس لمطلق الشفاعة يعني: ليست كل الشفاعات منتفية في الآخرة كما هو معلوم من مقتضى الجمع بين هذه الآية وغيرها من النصوص في القرآن أو في السنة التي تثبت أن هناك شفاعة مشروطة بأن تكون بإذن الله تبارك وتعالى كما سيأتي.
((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) الكافرون هنا المراد بهم تاركوا الزكاة، وهذا الأسلوب معروف في القرآن، وله نظير في فريضة الحج قال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] فعبر عن تارك الحج بالكفر؛ لأن هذا من فعل الكفار، وقال الله في الزكاة أيضاً في سورة فصلت: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7].
إذاً: قوله: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، واستعمال لفظة (الكافرون) بدل (التاركون الزكاة) للتغليظ في هذه المعصية وللتهديد كما في قوله تعالى في آخر آية الحج: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] ولم يقل: ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين، فآثر لفظة: (من كفر) على من لم يحج، للتغليظ ولبيان أن ترك الزكاة من صفات الكفار، ويحتمل أن يكون المعنى: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) أي: لأنفسهم لوضع الأموال في غير مواضعها، فلا تكونوا -أيها المؤمنون- مثلهم في عدم الإنفاق فتضعون أموالكم في غير مواضعها.
وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يمنع منها من مرض أو غيره.
يوم القيامة هو يوم الموقف الأكبر، لكن كل إنسان منا له يوم القيامة موقف خاص به، وله ساعة وله يوم آخر نسبي، وهي لحظة موته التي بها يبتدئ رحلته إلى اليوم الآخر، فبمجرد خروج روحك فأنت تنتقل من الدنيا إلى الدار الآخرة؛ فلذلك ينبغي أن ننفق: كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:10 - 11]، وقال هنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
قال السيوطي: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)) زكاته ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ)) فداء ((فِيهِ وَلا خُلَّةٌ)) يعني: صداقة تنفع ((وَلا شَفَاعَةٌ)) يعني: بغير إذنه وهو يوم القيامة، وفي قراءة بنصب الثلاثة: (من قبل أن يأتي يوم لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ).
((وَالْكَافِرُونَ)) أي: بالله أو بما فرض عليهم، ((هُمُ الظَّالِمُونَ)) لوضعهم أمر الله في غير محله.(19/5)
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
قال تبارك وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].
((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو، فإن كلمة (الإله) تطلق على الإله الحق والإله الباطل، وهناك أدلة من القرآن تدل على أن هناك آلهة باطلة، كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم:81]، وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود:101]، قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق والإله الباطل، فالشيطان (إله) لكن إله باطل، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]، والطاغوت هو الشيطان، وقال تعالى: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه:97] وهو عجل السامري، وفي السنة حديث معروف يدل على أن المال إله يعبد: (تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالآلهة الباطلة كثيرة جداً لا تنتهي ولا تنحصر، ومنها ما يعبد برضاه، ومنها ما لا يعبد برضاه، ومنها ما لا يشعر كالأحجار والأصنام، والمسيح عيسى عليه السلام إله باطل عبده النصارى زوراً؛ وكذلك عزير عليه السلام عبده اليهود، وهما بريئان بلا شك من هذا؛ كذلك الأولياء والصالحون قد يعبدون بعد موتهم، وهم غير راضين عن هذا، أما الآلهة التي عبدت من دون الله وهي راضية فإنها تكون في النار يوم القيامة.
إذاً: نحن لا نقدر: (موجود) في خبر لا التي للجنس في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فلا نقول: التقدير لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة كثيرة باطلة غير الله، لكن نقول: لا إله حق إلا الله، يعني: لا إله يعبد بحق إلا الله سبحانه وتعالى، أما كل إله دون الله عز وجل فهو إله باطل، ويجب أن تكفر به.
يقول السيوطي هنا رحمه الله تعالى: (الله لا إله) أي: لا معبود بحق في الوجود (إلا هو الحي) أي: الدائم البقاء (القيوم) المبالغ في القيام بتدبير خلقه.
((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ)) أي: نعاس ((وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) ملكاً وخلقاً وعبيداً.
((مَنْ ذَا الَّذِي)) يعني: لا أحد ((يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) يعني: إلا بإذنه له فيها، فلا تكون شفاعة إلا بأن يأذن الله لمن يشفع في هذه الشفاعة ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) أي: الخلق ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) أي: من أمر الدنيا والآخرة ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته ((إِلَّا بِمَا شَاءَ)) يعني: إلا بما شاء أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل.
((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) قيل: أحاط علمه بهما، وهذا القول ضعيف، وقيل: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)) أي: ملكه، وقيل: الكرسي نفسه مشتمل عليهما لعظمته، لحديث: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) يقول القاضي كنعان: هذا حديث موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يوجد مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وأخرج الآجري وأبو حاتم البستي في صحيحه والبيهقي وذكر أنه صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما السماوات السبع! في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء) يعني: صحراء شاسعة مترامية الأطراف، ألقيت فيها حلقة صغيرة، فكل السماوات السبع بما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في أرض فلاة، قال: (وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) يعني: النسبة بين العرش وبين الكرسي كالنسبة بين الكرسي وبين السماوات السبع، فالعرش غير الكرسي وأعظم منه، وبعض العلماء قالوا: إن الكرسي هو العرش، لكن هذا الحديث يثبت أن العرش غير الكرسي، وهو أعظم منه، وهذا هو الصحيح، وذهب بعضهم إلى أن العرش هو الكرسي، وعلى هذا القول مشى الجلالان في هذا التفسير، وقد نبهنا على ذلك في مواضعه.(19/6)
تفسير القاسمي لآية الكرسي
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ)) أي: الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء (القيوم) أي: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم.
وهذه الآية تثبت أن الله سبحانه وتعالى لا يغفل أبداً عن تدبير أمر هذا الكون كله، لكن هذا بطريق الالتزام المقتضي عدم الغفلة التي يتنزه الله عنها، وقد أكد ذلك بالنص الصريح فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))، فهذا تأكيد لقيوميته؛ لأنه لا يكون قيوماً من كان يغفل عن تدبير مصالحه، فالله لا يغفل أبداً، وبالتالي لا تأخذه النعاس ولا النوم.
و (السِّنَة) على وزن عِدَة، وهي شدة النوم أو أوله أو النعاس، قال المهايمي: السنة فتور يتقدم النوم، الفتور الذي يكون في أول مبادئ النوم هو السنة، ثم يكون النوم الذي هو أعمق، وهو: حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه تمنع الحواس الظاهرة من الإحساس.
والسنة والنوم على هذا منقصان للحياة، ومنافيان للقيومية؛ لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم، ونفى النوم أولاً التزاماً، ثم نفاه تصريحاً بقوله: ((الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، فإنه يلزم من حياته وقيوميته أنه لا يغفل أبداً سبحانه وتعالى، ثم صرح فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) وهذا النفي يدل على ثبوت كمال ما ينافيه.
ومن كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليها بقوله: ((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ)) يعني: من الملائكة والشمس والقمر والكواكب ((وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: من العوالم المشاهدات، وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:93 - 94].
قوله: ((مَنْ ذَا)) يعني: مَن مِن الأنبياء أو من مِن الملائكة فضلاً عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام؟! يعني: إذا كان الأنبياء والملائكة أنفسهم لا يملكون شفاعة إلا بإذن الله، فكيف تزعمون أنتم -أيها الكافرون الذين خاطبهم القرآن- أن أصنامكم وآلهتكم تملك الشفاعة من دون الله؟! الأنبياء والملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن الله.
وإذا كان هنا نفي هذا النوع من الشفاعة، فبالأولى أن فيها نفياً لأن يقاوم الله سبحانه وتعالى أحد أو أن يناصبه أو يبطل إرادته.
((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ)) أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعني: بتمكينه تحقيقاً للعبودية كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وهذا من جلاله وكبريائه عز وجل، فلا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام: (آتي تحت العرش -يعني: لا يشفع مباشرة- فأخر ساجداً فيدعني الله ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع -صلى الله عليه وسلم- قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)، وقال له أبو هريرة: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت -يا أبا هريرة - ألا يسألني عن هذا الحديث أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فهذه الشفاعة هي لأهل الإخلاص والتوحيد بإذن الله، ولا تكون أبداً لمن أشرك بالله.
المشركون يدعون لآلهتهم الشفاعة، وهم ليسوا بموحدين ولا مخلصين، فبالتالي ليسوا من أهل هذه الشفاعة.
قوله: (يعلم ما بين أيديهم) يعني: ما عملوه بالفعل من أمور الدنيا أو مما يخصهم.
((وَمَا خَلْفَهُمْ)) يعني: ما حجب عنهم ولم يعلموه؛ لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم، وهو محيط بعملهم فيما علموا وما لم يعلموا، فهذه الجملة كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، فقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) هو الشهادة، وقوله: ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) هو الغيب.
وقوله: ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلاً على نبوته.
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الكرسي: العلم.
وقوله: ((وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)) يعني: لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض، كما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:89]، فأخبر أن علمه وسع كل شيء فكذلك قوله: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)).
قال ابن جرير: وقول ابن عباس هذا يدل على صحة قول من قال: إن العلماء هم الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني: أنهم الذين تصلح بهم الأرض، ومنه قوله الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب يعني: بذلك علمه في حوادث الأمور ونوالها، وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن: أن الكرسي في الآية: هو العرش، وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان؛ ولذلك قال تعالى على لسان سليمان: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، يقول: فالعرش والكرسي هما شيء واحد.(19/7)
تنبيه مهم في طبعة تفسير القاسمي
الغماري صوفي، وعليه ملاحظات شديدة ليست هينة، وعنده بدع غليظة، وهو ليس سلفياً، بل يحارب السلفية -سامحه الله وعفا عنه-، لكن مع ذلك لما ذكر نبذة عن التفاسير المشهورة المطبوعة ومنها تفسير القاسمي ذكر تعليقاً مهما جداً، فقال: إن الشخص الذي قام على أول طبعة لمحاسن التأويل للقاسمي كان شخصاً مخبولاً أو في عقله شيء! هكذا وصفه، ودلل على ذلك بأنه أتى إلى بعض المواضع التي لم تعجبه من كلام القاسمي فضرب عنها صفحاً وأضاف إليها كلاماً من عنده، وعلل ذلك بأن القاسمي إمام محقق لا يليق به أن يوجد هذا الكلام في كتابه، فحصل منه تحريف في الكتاب، وحرف بعض المواضع على خلاف ما ذكره القرطبي نفسه في المخطوطة الأصلية، وعلل استحلاله لهذا التحريف أن ابن القاسمي فوضه بأن يعدل ما يراه مناسباً، وقال له: إذا وجدت شيئاً لا يليق بمقام الوالد فلك أن تغيره! فنخشى أشد الخشية مما نالته يد هذا المعتدي؛ لأنا نجد القاسمي نفسه السلفي واضح جداً، وإذا قرأتم مقدمة هذا التفسير التي طبعت في الجزء الأول منه والتي سماها: تمهيد خطير في قواعد التفسير، نجد أن القاسمي ينتصر لمنهج السلف بكل وضوح، ولا يسلك أبداً مسلك الذي يمسك العصا من النصف؛ لكنه دائماً في قضايا العقيدة السلفية من الناس الواضحين جداً في هذا الباب، فيصعب جداً أن يكون كلام القاسمي الأصلي لهذه الآية التي ليس فيها إلا حكاية قولين، أنه اعتمد أن الكرسي هو العلم، وقول آخر أشار إليه عرضاً وهو: أن الكرسي هو العرش، ويبعد جداً أن القاسمي لا يذكر هذا وهو رجل مطلع على السنة، ومطلع على الأحاديث، وتغيب عنه الآثار التي دلت على أن الكرسي غير العرش وغير العلم.
ويوجد هنا تعليق سأقرؤه عليكم لكي تعلموا أن هذا هو فعلاً الذي كان يليق بـ القاسمي، فالله أعلم من المسئول عن ترحيل هذا الجزء من أعلى إلى أسفل، من المتن إلى الحاشية، يقول المعلق: كان المؤلف رضي الله عنه فسر الكرسي بما يأتي: الكُرسي: -بالضم وبالكسر- السرير والعلم، كما في القاموس، قال الأزهري: والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره، وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: الكرسي الذي يوضع تحت العرش إلى داخله، وبالفتح الكرسي هنا الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته، يقول: ثم إن المؤلف عدل عن ذلك إلى ما تراه.
أي الكلام الأول: بأن الكرسي هو العلم، وأتى بمقولة: التراث والعلماء سلاطين الأرض إلى غير ذلك، والله أعلم من الذي عدل في الحقيقة؛ لكن أنا أحببت أن أنوه إلى هذا الأمر لئلا تغتروا بمثل هذا التأويل.(19/8)
معنى قوله تعالى: (ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)
قوله تعالى: ((وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)) لا يثقله، ولا يشق عليه، يقال: آده الأمر أوداً وأووداً بلغ منه المجهود والمشقة، أي: لا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض، فلا يفتقر إلى شريك، ولا ولد، وكيف يشق عليه (وهو العلي العظيم)؟! قال ابن جرير في معنى (العلي): قال بعضهم: يعني بذلك علوه عن النظير والأشباه، تعالى أن يكون له نظير عن كذا، وقال آخرون: (العلي) على خلقه، بارتفاعه مكانه عن أماكن خلقه؛ لأنه تعالى فوق جميع خلقه، وخلقه دونه، كما وصف نفسه أنه على العرش، فهو عالٍ بذلك عليهم.
(العظيم) أي: أعظم من كل شيء، ذو الجلال والكبرياء والفخر والقدرة والسلطان.(19/9)
فضل آية الكرسي
آية الكرسي لها شأن عظيم، وفضل كبير، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أعظم آية في كتاب الله، وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم، والأحاديث كثيرة في فضل آية الكرسي، ويكفي فيها هذه الإشارة اختصاراً.
فإن قلت: لم فضلت هذه الآية وورد في فضلها ما ورد؟ قلت -أي: في الجواب-: كما فضلت سورة الإخلاص وصارت ثلث القرآن، فضلت مثل هذه الآية وكانت أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفة الرب تبارك وتعالى، ولاشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة، فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار، وكما أن القرآن أفضل ذكر؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، فإن أفضل ما يذكر الله به من هذا الذكر هو ما تمحض لذكر رب العزة سبحانه وتعالى.
وفي القصة المعروفة لما كان يكرر الصحابي سورة الإخلاص في كل ركعة في الصلاة، وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سر ذلك فقال: (إني أحبها لأن فيها صفة الرب، قال: إن حبك إياها قد أدخلك الجنة، وإن الله يحبك بحبك إياها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وكذلك هنا: أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ لأنها تمحضت لذكر أعظم مذكور، وهو الله سبحانه وتعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، فهي إثبات للكمال ونفي للنقص.(19/10)
تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)
قال تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256].
قال الله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) يعني: لا إكراه على الدخول فيه.
وقد ذكر الإمام النحاس في ناسخه قولاً سديداً في معنى هذه الآية فقال: من العلماء من قال: هي منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا الإسلام فقال: (أمرت أن أقاتل الناس)، وقال بعض العلماء: ليست منسوخة، ولكنها نزلت في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون هم أهل الأوثان، إذ هم الذين نزل فيهم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [التوبة:73]، واحتج لذلك: (بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تَسلمي؛ فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب، قال عمر: اللهم اشهد، ثم تلا: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، اللهم اشهد: يعني أني بلغتها، ودعوتها، فكانت الآية تعني: لا سبيل إلى إكراهها على الدخول في الدين.
وممن قال: إنها مقصورة على اليهود والنصارى: ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجلي بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول بلا شك قول صحيح: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) يعني: لا يكره أحد على الدخول في الدين، فهذا إنما هو في اليهود والنصارى، وإلا فالمشركون لا يقبل منهم إلا الإسلام، ولذلك نلاحظ أن السيوف التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم تنوعت، فهناك سيف على المشركين، وسيف على أهل الكتاب، وسيف على أهل القبلة.
أما سيف المشركين فهو قوله تعالى في سورة البراءة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} أي: من الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5].
أما السيف الذي على أهل الكتاب فهو المذكور في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
أما السيف الذي سُل على البغاة من أهل القبلة، فدليله في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، والبغاة هم الذين يخرجون على الإمام المسلم بسبب تأويل فاسد كما هو معروف ومفصل في كتب الفقه.
أما من أعلن قبوله للإسلام وشهد الشهادتين، ودخل في حكم الإسلام؛ فهذا لا يقال في حقه: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، فما دمت مسلماً فعليك إذاً أن تحترم قوانينه وشريعته ونظمه، فلا ينبغي لمسلم أعلن إسلامه وشهد الشهادتين أن يضيع الصلاة أو الزكاة -إن وجبت عليه- أو الحج أو غير ذلك من واجبات الدين، ويقول: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))! لا يجوز له أن يعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، فإن هذا لغير المسلم.
أما المسلم فيجب عليه أن يحترم نظم هذا الدين وقوانينه وشريعته، وإن كان هذا لا تعتمده القوانين الوضعية، وأي دولة إذا أراد أحد رعاياها أن يغير نظمها ودساتيرها وقوانينها يحاكمونه بتهمة الخيانة المتعمدة، وأقل ما يكون في حقه أن يقتل؛ لأنه خرج عن النظام أو يريد أن يغيره، وإذا كان هذا في القوانين الوضعية -ولا يعد هذا إكراهاً ولا سبيلاً إلى أن يقولوا: لا إكراه في هذا- فكيف بدين الله سبحانه وتعالى؟! فمن دخل في هذا الدين يجب عليه أن يحترم شريعته، وألا يحيد عنها، فلذلك لا ينبغي أبداً الرجوع في هذا إلى بشر فمثلاً: من تركت الحجاب لا يحتج لفعلها بقوله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، تقال هذه الآية في حق يهودية أو نصرانية، أما المسلمة فينبغي أن تذكر بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فالإنسان عبد لله مقيد بأوامر الله عز وجل، ليس حراً في أن يبتدع ما شاء من الشرائع بعد أن أعلن انتماءه إلى الدين.
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} يعني: لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بينٌ واضح جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله إلى الإسلام وشرح صدره ونوره بصيرته دخل فيه على بينة، ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرهاً مغصوباً؛ فالنفي بمعنى: النهي، وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير من العلماء.
((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) ظاهر الخبر النفي، ومعناه النهي، يعني: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين.
إذاً: ما الجواب عما هو مشهور عن بعض السلف من أنه قال: نحن خير الناس للناس، نسوقهم إلى الجنة بالسلاسل؟ هل هذا إكراه في الدين؟ هذا تفسيره أن المسلمين في حالة الجهاد مع الأعداء يحصل من نتائج المعركة أنهم يأسرون بعض الكفار، فيؤخذون بالسلاسل إلى ديار الإسلام؛ فإذا عاشوا وسط المسلمين ورأوا الإسلام مطبقاً، وأنصتوا لعقيدة التوحيد؛ فإنهم يدخلون في هذا الدين أفواجاً.
فمن علم الله في قلبه منهم خيراً فتح قلبه وشرح صدره للإسلام، فتكون السلاسل هي التي قادته للدخول في الإسلام، وليس المقصود بذلك الإكراه على الدين.(19/11)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)
قال القاسمي: لما بين الله تعالى دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً أخبر بعد ذلك بأنه لم يبق مع إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، والإكراه لا يتنافى مع كون الدنيا دار ابتلاء.
وبعض الناس ينخرفون في فهم آيات الله، ويخدعون الناس بأن الإسلام يقدس حرية الرأي، بمعنى: حرية الكفر! ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فيظنون أنها على التخيير، يعني: أنت حر، اكفر أو آمن؟! فهذه حرية شخصية! ليس هذا هو المقصود؛ لأن هذا فيه إبطال وإفساد لمعاني كلام الله، وإنما المقصود بهذا التهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]، والدليل أنه قبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، فلا يوجد تخيير بين الحق والباطل، وللأسف أن كبار الخطباء استدل على تقديس حرية الرأي في الإسلام بما وقع بين الله سبحانه وتعالى وبين إبليس، ويقولون: حتى إبليس قد أعطاه الله حرية الرأي!! وهذا في الحقيقة إفساد لمعاني القرآن، وهذا تأثر ذميم بهذه الأفكار الإلحادية التي تشيع الآن بين المسلمين في زمن الغربة، ولا ينجو منها إلا من أراد الله سلامته من هذه الفتن التي تحيط بنا من كل جانب، إلى هذا الحد يستدل على حرية الرأي بأن إبليس ترك الله له حرية الرأي ليعبر عما في نفسه! وهذه الآية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} انظر إلى قوله بعدها: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]؛ كذلك: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) [فصلت:40] أي: فسوف تحاسبون.
هذا المقصود، وليس معناها: التخيير والإباحة، وإلا كان هذا تحطيماً لدين الإسلام كله، لأنه يدخل في: (اعملوا ما شئتم): عبادة الأصنام، وشرب الخمر والفواحش وغير ذلك، وليس هناك قول يفسد الإسلام أكثر من هذا التأويل القبيح.
فليعلم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين، وإنما لحماية الدعوة إلى الدين، والإذعان لسلطانه، والحكم بالعدل، فحكمة الجهاد إزالة الحواجز التي تعيق وصول الدعوة إلى عباد الله لإنقاذهم من النار، فهذا الذي فعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم وجزاهم عنا خيراً، فهم فتحوا البلاد، وتركوا الأوطان، وأنفقوا الأموال، وبذلوا النفس والنفيس، وأراقوا الدماء من أجل أن ينقذوا البشرية من الخلود في نار جهنم بالكفر -والعياذ بالله-؛ وذلك بالدخول في دين الإسلام، ويكفي أن هناك أصقاعاً وبلاداً ممتدة من أطراف الأرض كشرق آسيا كلها من الهند إلى الفلبين والصين ما فتحت بسيف واحد، وإنما فتحت بأناس انتدبوا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكانوا يتقمصون أزياء التجار -كما يقول أحد الكتاب الأوروبيين- ويتاجرون ويتجهون إلى شرق آسيا، وكان الواحد منهم داعية في لباس تاجر، ليس هدفه التجارة؛ لكن الدعوة، فكان المسلم إذا نزل بلداً من البلدان يجتمع إليه الناس من حسن خلقه، ولما يستمعون من دعوته إلى التوحيد، وإصابة الحجج والبراهين وإبطال عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وكانوا بخلقهم وحسن مسلكهم أعظم سفراء للإسلام، وعلى أيديهم أسلمت أمم كاملة، فأغلب هذه البلاد ما استعمل السيف فيها أبداً، مثل إندونيسيا والفلبين والصين وغيرها من البلاد التي فيها ملايين المسلمين كماليزيا، وغيرها أيضاً ما دخلها الإسلام بالسيف أبداً، إنما بالخلق الحسن وبالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
المقصود من الجهاد هو إزالة الجيوش التي تقف عقبة في سبيل إيصال الحق إلى عباد الله عز وجل، فإذا زالت هذه العقبة فحينئذٍ يتعاملون مباشرة مع الشعوب، لماذا؟ لأن سنة الله سبحانه وتعالى التي ذكرها في القرآن الكريم لا تتخلف، وسنة الله أن الباطل خبيث ونجس لا يتغير ولا يتطهر أبداً شيء ثبت فيه، وهذه القاعدة التي أشير إليها هي قوله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، فالباطل لا يعرف عهوداً ولا مواثيق ولا قوانين، ولا أخلاق ولا أعراف ولا دين، ولا حقوق إنسان ولا أي شيء، وفي الغرب عندهم مثل مشهور يقولون فيه: القوة هي الحق، لا يوجد شيء اسمه حق، لكن متى كانت معك العضلات والقوة فهذا هو الحق، افرض على الناس عقيدتك وباطلك وفسادك ما دامت القوة معك! فهذا المبدأ هو الذي عليه الكفار في كل بقاع الأرض وذيولهم وأحذيتهم، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، ولا يستحيون، ولا يوجد عندهم أدنى قدر من الاستحياء حتى فيمن يحملوا أسماء المسلمين من هؤلاء الأنذال الذين يفنون أعمارهم ويوقفون حياتهم في الصد عن سبيل الله، وإعلان الحرب على الله ورسوله وعباد الله المؤمنين، وفتنتهم في دينهم، لعنهم الله وأخزاهم وقصم ظهورهم! فالمقصود: ما أكره أحد على الدخول في دين الإسلام أبداً، لكن من دخل في الدين فإنه يكره على احترامه؛ لأن هذه شريعته وهذا نظامه.
قوله تعالى: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) أي: بالشيطان وبما يدعو إليه من عبادة الأوثان.
((وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) وحده، ((فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))، والعروة الوثقى أحد أسماء كلمة النجاة كلمة الشهادة لا إله إلا الله، ولذلك يقول هنا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] أي: فقد تمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصل؛ فهي في نفسها محكمة، مبرمة قوية، ورأسها قوي شديد.
روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال: رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأني في روضة خضراء، وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف -أي: وصيف- فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة، واستيقظت وإنها لفي يدي، وعبد الله بن سلام كان من كبار أحبار اليهود، استيقظ وهو يمسك هذه العروة في يده، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: (أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت).
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، هذا اعتراض تذليلي حامل على الإيمان، رادع عن الكفر والنفاق؛ لما فيه من الوعد والوعيد.(19/12)
تفسير سورة البقرة [257 - 263](20/1)
تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)
قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى شأن هذه الولاية، وكيف أنه يتولى عباده المؤمنين فيخرجهم من الظلمات؛ شرع تبارك وتعالى في ذكر نماذج من هدايته للمؤمنين، وتوليه عباده وأنبياءه بالنصرة والحجة والبرهان على مناوئيهم، فبدأ أولاً بذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود، فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، فهذا أنموذج لولاية الله عز وجل لأوليائه بالنصرة والتأييد والحجة والبرهان.
قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ))، هذه ألف التوكيد، وهي في الكلام بمعنى التعجب أي: اعجبوا من هذا الذي (حاج إبراهيم في ربه) أي: جادل إبراهيم في ربه.
((أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)) يعني: لأن الله آتاه الملك، فحمله بطره بنعمة الله على ذلك، وهو الملك الكافر نمرود، ولا شك أن في هذا التعبير إشارة إلى أن الملك فتنة على من أوتيه؛ ((أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ))، فبدل أن يحمد الله سبحانه وتعالى حملته هذه النعمة لما آتاه الله الملك على المحاجة في الله، وهذا أقبح وجوه الكفر في موضع ما يجب عليه من الشكر، كما تقول في شخص: عاداني فلان لأني أحسنت إليه! تريد أنه فعل عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان الذي صار إليه، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]، أهذا شكر نعمي ورزقي عليكم أنكم تكذبون بآياتي وبرسلي؟! وهذا من نفس هذا الباب، قال تبارك وتعالى هنا: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ))، فمع أن الله آتاه الملك، وأنعم عليه به، إلا أنه أبدل النعمة كفراناً وبطراً وكبراً.
(إذْ) بدل من (حاجّ): ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ)) يعني: لما قال له النمرود: من ربك هذا الذي تدعونا إليه؟ ((قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)) يعني: يخلق الحياة والموت في الأجساد، كان المقصود بقوله هنا: (يحيي ويميت)، نفخ الروح في الجسم، وإخراجها منه بإذن الله تبارك وتعالى، فقال النمرود: ((قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) يعني: بالقتل والعفو، ودعا برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فظن أن هذا يعطيه حقاً أنه يحيي ويميت! فلما رآه إبراهيم عليه السلام غبياً لا يفهم ولا يعقل ولا يعرف أصول المناظرة، قال إبراهيم: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ))، فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أوضح منها، فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).
فهذا الطاغية سلك مسلك التلبيس والتمويه؛ وهذا يدل على جهله، ويتضح من الآيات: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه بالإحياء والإماتة قال: ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ))، لكن الإحياء والإماتة أمر له حقيقة وله مجاز، وإبراهيم عليه السلام قصد الحقيقة، بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدخل الروح في البدن فيحييها أو ينزعها منه ويخرجها فيميتها، فإبراهيم ما أراد إلا الحقيقة، أما النمرود فإنه فزع إلى المجاز وموه على قومه ((قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) يقول: إني إذا أتيت برجلين فأقتل هذا فأكون أنا الذي قد أمته، وأعفو عن هذا، فأكون قد أحييته.
فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وليس معنى ذلك أن إبراهيم عليه السلام ما استطاع أن يبطل حجته، إلا أنه لما رآه غبياً لا يعقل ولا يفهم انتقل إلى ما لا يستطيع أبداً أن يموه به على العوام، وانتقل معه من الخصام إلى أمر لا يحتمل إلا الحقيقة، ولا مجاز فيه على الإطلاق، فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)).
فلما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوازه من الجلاء -الظهور- بحيث لا يخفى على أحد؛ لأن هذا الجواب الذي أجاب به هذا النمرود واضح في بطلانه بحيث لا يحتاج إلى جهد في إبطاله، فبطلانه يغني عن إبطاله، وسقوطه يغني عن إسقاطه، فما انشغل بالجواب عنه؛ لأن هذا تمويه حيث يقول: أنا أحيي وأميت بهذا المعنى، فكان التصدي لإسقاط كلامه من قبيل السعي في تحصيل الحاصل؛ لذلك انتقل إبراهيم عليه السلام إرسالاً لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج المكابرة أو المشاغبة أو التلبيس على العوام.
فقال إبراهيم عليه السلام: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا)) أنت ((مِنَ الْمَغْرِبِ))، ولا شك أن من قدرته تبارك وتعالى أنه لا تقوم الساعة حتى يأتي الله سبحانه وتعالى بالشمس من المغرب، فهذه من علامات الساعة الكبرى، أن تطلع الشمس من المغرب؛ لأن الله وحده هو الذي يقدر على ذلك تبارك وتعالى.
((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))، لما قال له: فائت بها من المغرب، يعني: إذا كنت كما تدعي تحيي وتميت، فالذي يحيى ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته، وفي تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فائت بها من المغرب: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))، تحير ودهش وأرغم بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا.
((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) بالكفر إلى محجة الاحتجاج، أي: أن الله لا يهديهم إلى إقامة الحجة وإلى فهم الحجج والبراهين، وما يحتج به، فلا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16].(20/2)
تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها)
قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259] إلى آخر الآية.
((أَوْ كَالَّذِي)) يعني: أو رأيت كالذي، النموذج الأول هو قصة إبراهيم عليه السلام، فيها تعهد الله سبحانه وتعالى لأوليائه بأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويؤيدهم بالحجة والبرهان، وهذا مثال آخر أيضاً فيه إخراج الله سبحانه وتعالى لأوليائه من ظلمات الحيرة والاشتباه إلى نور الحجة والبرهان.
((أَوْ كَالَّذِي)) الكاف زائدة، والمعنى: كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمات الاشتباه إلى نور العيان والشهود: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ))، والقرية سميت قريةً لاجتماع الناس فيها، ومنه قولهم: قريت الماء، أي: جمعته، فالقرية سميت قرية لاجتماع الناس فيها.
((مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ)) يقول السيوطي هنا: هي بيت المقدس، وكان راكباً على حمار، ومعه سلة تين وقدح وعصير، وهو عزير عليه السلام، وقيل غيره، قال ابن كثير في تاريخه: المشهور أنه عزير نبي من أنبياء بني إسرائيل.
((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا))، (وهي خاوية) أي: ساقطة (على عروشها) والعروش هي السقوف، وذلك لما خرب بختنصر بيت المقدس، وتلاحظون أن السيوطي رحمه الله أحياناً يعتمد على بعض الإسرائيليات، لكننا إذا وقفنا على ما أوقفنا الله عليه فلن يؤثر هذا بشيء، سواء صح أنها بيت المقدس أو غيرها؛ فهذا مما لم يتعرض الله سبحانه لبيانه صراحة.
((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ)) هذا الوصف يبين مفهومه ما ذكره السيوطي بقوله: راكباً على حمار ومعه سلة تين وقدح وعصير، يعني: معه طعام وشراب، وكان راكباً على حمار، وهذا وفقاً لما يأتي من الآيات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}، وقال له: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، (وهي خاوية) أي: ساقطة حيطانها، ومعنى ذلك أنها سقطت سقوفها، وبعدما سقطت السقوف سقطت الحيطان فوق السقوف، هذا معنى: (وهي خاوية) أي: ساقطة حيطانها على عروشها أي: سقوفها، لما خربها بختنصر.
((قَالَ أَنَّى يُحْيِي)) يعني: كيف يحيي ((هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)) استعظاماً لقدرة الله تبارك وتعالى.
((يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)) بأن يعمرها ويعيد أهلها إليها ويحييها بعد موتها.
((فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ)) يعني: أبقاه ميتاً مائة عام ثم بعثه، وكان إبقاؤه ميتاً مائة عام يكفي لأن يزول بدنه تماماً ويتلاشى، (ثم بعثه) جمع أجزاؤه بعد تفرقها، وبعث روحه إلى بدنه، قال بعض المفسرين: أنه أحيا سبحانه وتعالى جزءاً من بدنه ثم أراه باقي الأجزاء وهي تجتمع بعضها إلى بعض، وينفخ الله سبحانه وتعالى فيها الروح وهي الحياة.
قال: (ثم بعثه) أي: أحياه ليريه كيفية ذلك، (قال كم لبثت) يعني: قال الله تبارك وتعالى له: ((كَمْ لَبِثْتَ))، قال بعض العلماء: إن الذي قال له ذلك هو جبريل أو سمع هاتفاً من السماء، لكن سياق الآيات يظهر أن القائل هو الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله عز وجل بعد ذلك: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}، وهذه نون العظمة إشارة إلى أن الذي قال له هو الله سبحانه وتعالى: ((قَالَ كَمْ لَبِثْتَ)) أي: كم مكثت ميتاً؟ ((قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))، وقد قال أصحاب الكهف أيضاً: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، فالمقصود هنا: أنهم قالوا ذلك على سبيل التفكير أو التخمين أو استقصاراً للمدة، يقول السيوطي: لأنه نام أول النهار فقبض، وبعث عند الغروب، يعني أول يوم من موته كان في بداية النهار في الصباح، ثم أحيي بعد مائة سنة عند الغروب، وأول ما سئل: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، لما ظن أن الشمس قد غربت، فلما رأى أن الشمس قد بقي عليها وقت يسير للغروب، وما زال القرص ظاهراً، استدرك فقال: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)).
لأنه نام أول النهار فقبض وأحيي عند الغروب فظن أنه نفس اليوم، وهل هذا يعتبر كذباً؟ ليس كذباً، ولكنه إخبار بما عنده، كما لو سألتك مثلاً: هل أخوك في البيت؟ فأنت على حسب علمك أنه ليس في البيت قلت: ليس في البيت، وهو في الحقيقة في البيت، فليس هذا كذباً، وإذا أطلق عليه كذب فهو من حيث اللغة وليس من حيث الشرع الذي يستوجب الإثم، كقوله في الحديث: (كذب أبو السنابل) يعني: أخطأ، وكل إخبار بما يخالف الواقع فهو كذب، لكن من الكذب ما يأثم به صاحبه، ومنه لا يأثم به صاحبه، فإذا سمينا هذا القول منه: ((لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) كذباً؛ لأنه يخالف الحقيقة، فنقول: هذا كذب لا يأثم عليه؛ لأنه لا يقصد الإخبار بخلاف الحقيقة، وهو غير متعمد، وإنما يقوله تقديراً وتخميناً وإخباراً بما عنده.
ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى سأله هذا السؤال؟ الحكمة ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشئونه، يعني: أنت أيها العبد لا تحيط علماً بما يخصك أنت، وبقيت ميتاً مائة عام وأنت لا تدري، وأنت غافل، حتى إنك لتظن أنك بقيت يوماً أو بعض يوم، حتى الأمور التي تخصك أنت لا تعرفها، ولا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً.
وأيضاً: من الحكمة من السؤال بيان أن إحياءه لم يكن بعد مدة يسيرة؛ لأنه لو أحياه الله سبحانه وتعالى بعد مدة يسيرة ربما يحصل توهم أن البعث هين في الجملة، إذ إن جسمه ما زال باقياً، أما والأمر أنه أماته مائة عام حتى زال جسمه بالكلية وتحول إلى تراب، وتفرقت أجزاؤه، ثم يحييه الله تبارك وتعالى؛ فإحياؤه بعد مدة طويلة تنحسم به تماماً مادة استبعاد وقوع البعث والنشور، ثم يطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى عندما يقول: كم لبثت؟ فيقول: لبثت يوماً أو بعض يوم، فيقول الله له: ((بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)).
((فَانظُرْ)) بعدما بين له أنه لبث مائة عام نبهه إلى آية أخرى يراها الآن في هذه الحال بعد مائة عام، وهي من آثار وبدائع قدرته تبارك وتعالى، وهي إبقاء الغذاء فقال: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259]، فالطعام الذي من طبعه أن يتسارع إليه الفساد والتعفن بقي على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغير! ((فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ))، وهو التين، أو غير التين في قول آخر، ولا إشكال في ذلك، ((وَشَرَابِكَ)) أي: العصير، ((لَمْ يَتَسَنَّهْ)) يعني: لم يتغير مع طول الزمان، مع تداعيه إلى الفساد، والهاء في (يتسنه): قيل: أصل في الكلمة، من سانهت، وقيل: مشتقة من: ساميتُ، وفي قراءة بحذفها: (لم يتسن)، ويحتمل أن يكون الضمير هنا في قوله تبارك وتعالى: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، إما أنه عبر عن المثنى بهاء المفرد، وهذا جائز في اللغة، ويحتمل أن يكون الضمير لأقرب مذكور، ويكون عائداً إلى الشراب؛ لأنه أقرب، ثم تكون هناك ثمّ جملة أخرى حذفت بدلالة هذه عليها، فيكون التقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنه، وإلى شرابك لم يتسنه.
{وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259]، انظر إلى حمارك كيف هو؟ فرآه ميتاً، ورأى عظامه بيضاً تلوح نخرة، وكأن الله عز وجل يقول له: فعلنا ذلك لتعلم أن الله على كل شيء قدير.
{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} [البقرة:259] على البعث والنشور، ونحن بلا شك إذا أردنا أن نسرد من القرآن أدلة البعث والنشور فمن الأدلة الواضحة هذه القصة التي حكاها الله سبحانه وتعالى.
وروي في بعض الآثار الإسرائيلية: أنه بعدما عاد إلى قريته وجدها قد عمّرت، وأحياها الله بعد موتها، ثم لقي جارية كانت لهم، قد طعنت جداً في السن، فسألها عن عزير، فقالت: عزير قد افتقدناه من كذا وكذا سنة، فقال لها: أنا عزير، قالت: لو كنت عزيراً فإن عزيراً كان نبياً، وكان يمسح على المريض فيبرأ بإذن الله، وكانت قد عميت، فمسح على عينها فأبصرت، ثم رجعت إلى قومها تقول لهم: إن هذا هو عزير! فوجد حفيده يكبره بخمسين سنة! ولا شك أن أهل القرية لما رأوه يعود بعد مائة سنة بنفس الأمارات التي تدل على أنه هو؛ لا شك أن هذا آية للناس الذين عاصروا هذه الواقعة، وآية لمن يأتي بعدهم من الأجيال، ويسمع هذه العبرة كما قصها الله سبحانه وتعالى في كتابه.
((وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ)) أي: عظام حمارك، (كيف ننشزها) كيف نحييها، -بضم النون والزاي-، وفي القراءة الأخرى: (كيف نُنشرُها) بالراء، وقرئ شذوذاً بفتح النون، من أنشر ونشر لغتان، وعلى قراءة: (كيف نُنْشِزُها) أو (ننشُزها) أي: نحركها ونرفعها، من النشر وهو الارتفاع.
{كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة:259]، فنظر إليها وقد تركبت العظام، وكسيت لحماً، ونفخ فيها الروح، فأول نوع من أنواع البعث أن الله سبحانه وتعالى نفخ الروح في الحمار، فقام الحمار ونهق علامة على عودة الحياة إليه بالصوت أيضاً! {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} [البقرة:259]، لهم بالمشاهدة والمعاينة {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] يعني: أعلم علم مشاهدة (أن الله على كل شيء قدير)، وفي قراءة: (فلما تبين له قال اعلم) على أنها أمر من الله سبحانه وتعالى له: (أن الله على كل شيء قدير).(20/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى)
قال الله تعالى مبيناً كيف أنه يتولى عباده فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويؤيدهم بالحجة والبراهين: (وإذ) يعني: واذكر إذ؛ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، ليصير علمي عين يقين بالرؤية بعدما كان عندي علم يقين؛ لأن العلم درجات: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين.
لو أخبرتك بأن في هذه الحجرة عسلاً وكنت تقطع بصدقي فهذا علم يقين، فإذا فتحت لك الغرفة ودخلت ورأيت بعينك العسل فهذا عين يقين، أما إذا ذقته ووجدت طعمه ومذاقه فهذا حق اليقين؛ فالعلم نفسه على مراتب، فإبراهيم عليه السلام أراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين بالمشاهدة عياناً، وهذا أكمل، وبلا شك أن الإنسان دائماً يكون مستشرفاً إلى مطالعة ما يخبر عنه، فالذي لم ير الكعبة يكون دائماً متطلعاً إلى أن يراها، فنحن لا نرى الملائكة، ولذا تجد عندنا استشراف وتطلع إلى أن نرى الملائكة، نريد أن نرى كل ما هو غائب عنا، وهذا من فطرة الإنسان، حب الاستطلاع، والاستزادة في مراتب العلم ودرجاته.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}، قال تعالى له: أو لم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟! سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيبه بما سأله فيعلم السامعون غرضه، وهذا تنبيه مهم جداً سنفصله عما قريب إن شاء الله تعالى: ((قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى)) يعني: آمنت، {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، لكن سألتك ليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، يعني: أعرف أنك تحيي الموتى عن طريق الوحي، وعن طريق الاستدلال بالأدلة على البعث والنشور، فأريد أن أضيف إلى ذلك أيضاً دليل المعاينة والرؤيا.
إذاً: المقصود: بلى آمنت، ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فقلبي ساكن مطمئن لحقيقة البعث والنشور لما أوتيته من العلم بالوحي، ومما يؤيد هذا التفسير، وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام أن الله سبحانه وتعالى قال في مناقشة إبراهيم عليه السلام للنمرود: ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ))، فإبراهيم عليه السلام يعرف أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحيي ويميت، فهذه الآية بلا شك تدل على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام.
لكن تضافر الأدلة وتواردها أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة واليقين.(20/4)
سبب سؤال إبراهيم رؤية إحياء الله للموتى
جمهور العلماء على أن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً قط في إحياء الموتى، ما شك إبراهيم عليه السلام، ولا ينبغي له أن يشك، وإذا كان الأنبياء معصومين من كبائر الذنوب ومن صغائر الذنوب، فكيف يجوز على الأنبياء الشك؟ وكيف يظن أن نبياً من الأنبياء يشك في الله سبحانه وتعالى؟! فجمهور العلماء أنه لم يشك قط في إحياء الله سبحانه وتعالى للموتى، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من استشراف وحب رؤية ما أخبرت عنه؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) رواه أحمد والحاكم وغيرهما، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
فهنا تأكيد لهذه القاعدة أنه: ليس الخبر كالمعاينة، يقول الله تبارك وتعالى عن حال أهل الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، لكن لماذا لم يول صلى الله عليه وسلم فراراً، ولم يمتلئ رعباً من هذا؟ لأن الخبر ليس كالمعاينة، فالله سبحانه وتعالى وصف له حالهم وهم رقود في الكهف، ثم قال: لو زدت إلى ذلك السماع والإخبار المعاينة بالبصر؛ لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، فهذا يؤكد أنه ليس الخبر كالمعاينة.(20/5)
تنزيه إبراهيم عن الشك
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نفي الشك تماماً عن إبراهيم عليه السلام؛ لأن الشك هو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، بحيث لا تملك أن ترجح أحدهما على الآخر، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) معناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أولى وأحق بالشك، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، هذا هو المعنى المقصود، ومن شروط الإيمان: اليقين المنافي للشك والريبة، فأي تردد في قضايا الإيمان يحبط الإيمان كله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، لكن إذا آمنوا ثم ارتابوا فهذا يحبط الإيمان؛ فلذلك الشك يتنزه عنه المؤمن، فمقصود الحديث: لو كان إبراهيم قد شك، فنحن أولى منه بالشك، فبما أننا لا نشك فإبراهيم عليه السلام أولى وأحرى ألا يشك، ولا يجوز الشك على الأنبياء، هذا وهو خليل الرحمن سبحانه وتعالى، وهو إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال أيضاً لما حكى عن إبليس: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40]، وإذا لم تكن لإبليس عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ وإنما أراد إبراهيم عليه السلام أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين،
و
السؤال
كان عن كيفية الإحياء، والسؤال بكيف هو للسؤال عن الحال.
ونظير هذا
السؤال
أن يقول القائل: كيف يحكم زيدٌ في الناس؟ فهل يفهم من هذا السؤال أنه يشك في أنه يحكم؟ لا يشك بأنه يحكم؛ لأن هذا مقر أن زيداً إذا كان حاكماً أو قاضياً فهو يحكم؛ لكن السؤال هنا هو عن كيفية الحكم، فهل هو حال الحكم يعدل أم يجور؟ كيف حكمه في الناس وكيف سيرته؟ فالمقصود ليس الشك في أنه يحكم، ولكن المقصود هو السؤال عن حاله من العدل والإنصاف وغير ذلك، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته.
قد يتلاعب الوهم ببعض الخواطر، فيطرق إلى إبراهيم شكاً من هذه الآية، فأتى هذا الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؛ ليقطع به صلى الله عليه وسلم دابر هذا الواهم، يعني: ونحن لم نشك، فلئلا يشك إبراهيم عليه السلام أحرى وأولى.
وسؤال إبراهيم عليه السلام إنما كان عن كيفية الإحياء: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى))، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فإنما هو طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، يعني: أنت مطالب بأن تؤمن بالبعث والنشور والإحياء، لكنك غير مطالب بأن تؤمن بكيفية البعث والنشور، وكيفية هذا الإحياء، وهذا من السؤال عما ليس بشرط أو ما لا يتوقف الإيمان على علمه.(20/6)
سبب قول الله لإبراهيم: (أولم تؤمن)
السؤال
إذا كان سؤال إبراهيم هو عن كيفية الإحياء، والعلم بكيفية الإحياء ليس من واجبات الإيمان، وليس من شروط صحة الإيمان، فهو سؤال ما لا يتوقف الإيمان على علمه، فلماذا قال الله تبارك وتعالى: ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ))؟
الجواب
لما كانت هذه الصيغة (كيف) تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية، لكنها قد تستعمل في الاستعجاز أيضاً، مثاله: لو أن رجلاً أتى يدعي أنه يستطيع أن يحمل الجبل فوق رأسه، فتقول له أنت: أرني كيف تحمل الجبل؟ فكيف هنا المقصود بها الاستعجاز، أو يدعي مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له: أرني كيف تحمل هذا؟ فالصيغة في الأصل ظاهرة في السؤال عن الكيفية، لكن لما كانت قد تستعمل في السؤال للاستعجاز، ولما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال، وقد أحاط علم الله تبارك وتعالى بأن إبراهيم عليه السلام مبرأ عن أن يسأل استعجازاً والعياذ بالله؛ فلذلك أراد الله سبحانه بقوله: ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)) أن ينطق إبراهيم بقوله: (بلى) وأنه مؤمن، وأن هذا ليس شكاً منه عليه السلام، وليس استعجازاً، فهو سأله حتى يأتي بهذا الجواب، فيبعد وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام كلما تليت هذه الآية إلى أن يرفع القرآن.
قال: (أولم تؤمن)؟ قال: (بلى) يعني: آمنت، أنا مؤمن بلا شك بالبعث وبالنشور والإحياء، وبهذا يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى، وليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهماً لا يلحقه فيه شك.(20/7)
سبب قول إبراهيم: (ليطمئن قلبي)
سؤال آخر: ما موقع قوله تبارك وتعالى: ((قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) فهل كان القلب غير مطمئن؟
الجواب
أنه قال ذلك ويريد به: ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء؛ لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد (ليطمئن قلبي) حينما أرى، فلا أظل أتخيل كيف يحصل هذا الإحياء؟ ويشير السيوطي رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله رحمه الله تعالى: (وإذ) يعني: واذكر: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} يعني: قال تعالى له: أولم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟ سأله مع علمه بإيمانه بذلك، ليجيبه عما سأله فيعلم السامعون غرضه، (قال بلى)، آمنت، (ولكن) سألتك (ليطمئن) أي: يدخل بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، وكي لا أسرح وأحوم في التخيلات عن كيفية ذلك الإحياء؛ لأنني إذا رأيتها استقر قلبي إلى كيفيتها حينما أراها معاينة.(20/8)
إجابة الله لدعاء إبراهيم
قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، أي: إذا أردت الطمأنينة (فخذ) والفاء دخلت على (خذ)؛ لأنها واقعة في جواب الشرط المقدر، أي: إذا أردت الاطمئنان ((فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ))، إما أن تقول: صُرهن، أو صِرهن يعني: أملهن إليك، يعني: هات أربعة أنواع من الطيور وضمهن إليك، ولماذا سأل الله سبحانه وتعالى أن يضمهن إليه؟ لأنه إذا ضم هذه الأنواع من الطيور سواء كانت الغراب والنسر مثلاً أو غيرها من الأنواع التي ذكرها بعض العلماء، والمهم هي: أربعة أنواع مختلفة يضمها إليه حتى تكون قريبة جداً من عينه وحسه، ويضمها إليه فيراها فيتأملها، ويعرف أشكالها وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ليعرف أنها هي التي أحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها، ولا يتوهم أنها غير تلك، ويعرف هذه الطيور بعلاماتها وبأسمائها، وبأشكالها وبأحجامها، وأمره أن يضمهن إليه حتى يتيقن صفاتها، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، لماذا؟ حتى يكون على يقين أنها نفس العصا التي قال فيها: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18]، ويؤكد له أنها نفس العصا، بحيث إذا رأيتها انقلبت حية آمنت بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قلبها حية، وأعادها مرة أخرى بقدرته تبارك وتعالى؛ فكذلك هنا قال: ((فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)) يعني: أملهن إليك، وقطعهن بعدما تتحقق منهن وتضمهن إليك، فصِّل الرءوس وخلِّط اللحم بالعظام بالعصب بالريش، يعني: صارت كتلة مسحوقة من اللحم والدم والعصب والعظام، فقد قطعها إرباً، وخلط بعضها ببعض ومزجها في كتلة واحدة.
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة:260]، ثم اجعل على كل جبل من جبال أرضك: {مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}، ثم ادعهن إليك، بعد أن تضع كل جزء على جبل من الجبال نادي هذه الطيور بأسمائها، فتحيا بإذن الله ((يَأْتِينَكَ سَعْيًا)) أي: يأتينك مسرعات.
وقوله تبارك وتعالى هنا: ((ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا))، في الأصل أن الطيور تطير، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى عبر عنها هنا بالسعي؟ لأنها لو كانت تطير في الهواء، فقد لا يستطيع التحقق من صفاتها التي تثبت منها من قبل لما ضمهن إليه وتأمل في صفاتهن؛ ولذلك قال: ((ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا))، ولم يقل: طيراناً؛ لأنها إذا كانت ساعية كان ذلك أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة، ويستطيع أن يتحقق من صفاتها وهي تمشي على الأرض أكثر من أن يتحقق منها وهي تطير في السماء.
{وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يعجزه شيء، {حَكِيمٌ} في صنعه، فأخذ طاووساً ونسراً وغراباً وديكاً، وفعل بهن ما ذكر، وأمسك رءوسهن عنده ودعاهن: فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتى تكاملت، حتى جاء في بعض كتب التفسير: أنه كان يمسك -مثلاً- رأس النسر وينادي الطاووس، فيأتي جسم الطاووس عند الرأس، فإذا قرب له رأس النسر اقترب إليه! والله سبحانه وتعالى أعلم.(20/9)
أدلة البعث والنشور
قبل أن أتجاوز هذه الآية أشير إشارة سريعة إلى أن أدلة البعث والنشور قد تكاثرت جداً في القرآن الكريم، وسبق أن ذكرناها ودرسناها بالتفصيل في كتاب (الإيمان باليوم الآخر) للدكتور عمر الأشقر حفظه الله في الجزء الثاني في صفات اليوم الآخر وهو القيامة الكبرى، فنعيد تذكرتكم بالعناوين فقط دون الأمثلة.
أولاً: من أدلة البعث والنشور إخبار العليم الخبير بوقوعه يوم القيامة، وهذا له صور شتى.
ثانياً: الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104].
ثالثاً: الاستدلال بأن القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه.
رابعاً: الاستدلال بقدرته تعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
خامساً: إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، مثل: قوم موسى عليه السلام، وهذه القصص أكثر ما تكون في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56]، فهذا بعث ونشور بعد الموت.
وكذلك قوله تبارك وتعالى في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243].
وقوله تعالى: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)).
وقوله تعالى هنا حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)).
سادساً: ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات بعد موتها، فالذي قدر على أن يحيي الأرض بعد موتها قادر على بعث الناس ونشورهم.
سابعاً: ما ذكرناه من أن حكمة الله تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، ولا يمكن أبداً أن تكون من حكمة الله عز وجل أن تنتهي الدنيا بهذه الصورة، نجد المظلوم قد ظلم الناس وأخذ حقوقهم، وآذاهم وعذبهم واضطهدهم ثم يموت الظالم والمظلوم، فالحكمة تقتضي أن هذه ليست النهاية، بل لا بد من يوم آخر ينتصف فيه المظلوم من ظالمه، ويعاد الحق إلى صاحبه.(20/10)
تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله)
قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
(مثل الذين) أي: صفة نفقات الذين (ينفقون أموالهم في سبيل الله) أي: طاعته، (كمثل حبة أنبتت) يعني: حبة ألقيت في الأرض ثم أنبتت ساقاً، وكانت الساق على سبع شعب، وخرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة، فصارت الحبة الواحدة سبعمائة بمضاعفة الله تبارك وتعالى لها.
لا شك أن هذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة؛ لأن فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، ومصداقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه؛ حتى تكون مثل الجبل) متفق عليه.
الفلو: هو المهر الصغير، وقيل: هو الفطيم من أولاد ذوات الحوافر، ولا شك أن قوله سبحانه وتعالى: ((كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)) أقوى وأبلغ وأعظم وأعجز، وهل هناك إعجاز أكثر من أن تقول: كمثل حبة صارت سبعمائة؟ لا، لماذا؟ لأن هذا التفصيل يبين أن الله ينميها ويضاعفها لصاحبها شيئاً فشيئاً ويربيها؛ فكذلك أيضاً الذي ينفق ماله في سبيل الله تبارك وتعالى ينميها الله له، فتضاعف بسبعمائة ضعف، وفي الحديث عن خريم بن فاتك الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف).
((وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)) يعني: يضاعف أكثر من ذلك لمن يشاء، وقد وردت هذه المضاعفة في السنة في عدة نصوص منها قوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)، وقال الله عز وجل: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، متفق عليه، ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) رواه الإمام أحمد ومسلم.
فبلا شك أن الإنسان الذي عنده يقين بوعد الله سبحانه وتعالى وفي خبر الله لا يفرط في هذا الباب من أبواب الخير، ولا يفرط فيه إلا إنسان مغبون محروم.
وإذا كنا نصدق بمثل هذه الآيات فلا ينبغي أن يكون سلوكنا على ما نحن عليه من الشح عن النفقة في سبيل الله، وانظر كيف يتهافت الناس على الأرباح إذا وجدت شركة تجارية تعطي ربحاً عشرين بالمائة والذي سيزيد فالناس إليه أزيد، ويهرع الناس إليه من كل مكان، وإذا كان سيضاعفها إلى 200% مثلاً، فكيف سيكون حال الناس؟ هم على يقين من الدنيا، ويرغبون في المضاعفة، فإذا صدّقنا الوعد منه سبحانه وتعالى بهذه المضاعفة، وأن الصدقة الواحدة بسبعمائة صدقة؛ فلا يفرط في هذا شخص يوقن به إلا مغبون أو ضعيف اليقين بما وعد الله سبحانه وتعالى؛ فلذلك مثل هذه الآيات تغسل قلوبنا من الشح الذي يصيبها بتأثير الدنيا، القرآن ينظف قلبك باستمرار إذا ربطت نفسك به، فختم القرآن وتلاوة القرآن وسماع القرآن يطهر عقلك ومفاهيمك من هذا الدرن الذي يصيبها من جراء هذه البيئة الملوثة، القرآن ينقي ويطهر قلوبنا ويعلينا إلى القيم والموازين الصحيحة.
((وَاللَّهُ وَاسِعٌ)) فضله، ((عَلِيمٌ)) بمن يستحق المضاعفة.(20/11)
تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى)
قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} [البقرة:262].
قوله عز وجل: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ))، لا يعقبون ما أنفقوا مناً ولا أذى، هنا عبر الله سبحانه وتعالى: بـ (ثم) {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى}، هل (ثم) هنا على بابها على التراخي وتباعد الأزمنة؟
الجواب
لا، ليست لتباعد الأزمنة، لكن استعيرت (ثم) هنا من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، أو لإظهار التفاوت بين الإنفاق وبين ترك المن والأذى، فالسياق هنا يأبى حملها على الطرفين، والمقصود هنا: تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، ولإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وفي قول آخر: أن ثم لا تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، يعني: عنصر التفاوت الزمني موجود، لماذا التفاوت الزمني؟ المقصود: الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء زمان بقائه، وهو هنا ليس لتراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، لكن لدوام وجود الفعل وتراخي زمان بقائه، يعني: أنهم ينفقون أموالهم (ثم لا يتبعون) بل يستمرون على نفقة المال محصنين هذه الصدقة من المن ومن الأذى، متمادين في ذلك إلى النهاية، حتى يلقوا الله سبحانه وتعالى دون أن يفسدوا صدقاتهم بالمن والأذى، فمعناها: ليس لتراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ولكن معناها: دوام وجود الفعل، وتراخي زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى: (ثم استقاموا)، إذ معناها داوموا على الاستقامة دواماً متراخياً ممتداً، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الميل إلى الهوى والشهوات، فالمقصود بذلك الثبات حتى الممات: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يعني: ثبتوا على ذلك إلى الموت، وإلى الخاتمة الحسنة.
والسين في قوله: (ثم استقاموا) للتنفيس، ففيها تنفيس ومد، كقوله: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، في حين أنه قال في سورة الشعراء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فقطع أن الله سبحانه وتعالى يهدي؛ لكن المقصود هنا دوام الاهتداء، واستصحابه إلى النهاية؛ كذلك قوله: ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى)) يعني: يداومون على تناسي الإحسان وترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية وتقليد المنن بسببه ثم يتوبون، لا، بل هم مستمرون على ستر صدقاتهم، أو المحافظة عليها وصيانتها من المن والأذى، لا ينقضون ذلك بمن ثم يتوبون منه، بل هم لا يرتكبون أصلاً المن والأذى.
((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا)) أي: لا يعقبون، ((مَا أَنفَقُوا مَنًّا)) مناً على المنفق عليه، وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقاً، والواجب أن يكون المنفق مخلصاً {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]؛ لكن إذا منّ عليك، فمعنى ذلك أنه يريد حقاً في مقابلة صدقته؛ ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى))، الأذى يكون بذكر ذلك لغيره، والمن أن تمن على الشخص الذي أنفقت عليه نفسه، والأذى أن تخبر غيره بأنك مننت عليه، وذلك مما يؤذيه، وهو يكره أن يعرف الناس أنك أديت إليه ذلك المعروف.
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} يعني: ثواب إنفاقهم الموعود به من قبل وهو المضاعفة.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، (لا خوف عليهم) فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ((وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) على فائت من زهرة الدنيا؛ لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك، وهذا كله في الآخرة.(20/12)
تفسير قوله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)
قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].
(قول معروف)، كلمة طيبة ودعاء للسائل، وكلام حسن، ورد على السائل جميل.
(ومغفرة) عن ظلمه القولي أو الفعلي، إذ ممكن أن السائل يسيء أحياناً في سؤاله ويلح، أو يضايقك بطريقة فيها نوع من الأذية، وهنا حث على أن تغفر له هذا الإلحاح؛ فإنك تثاب على ذلك، وقد أرشد الله تبارك وتعالى إلى هذا الأدب في قوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10].
والمغفرة أن تسامحه وتعفو عنه في إلحاحه إذا فعل، أو إذا ظلمك بظلم قولي أو فعلي، (ومغفرة) ربما إذا لم تعطه يسيء إليك بكلام أو بفعل، فأنت أيضاً هنا إذا فتح الله عليك واستحضرت هذه الآية واعتبرت بها، فتحتسب الأجر بالصبر عليه، وأن تغفر له وتسامحه في هذه الإساءة.
((خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)) لماذا؟ لأن الصدقة التي يتبعها (منّ وأذى) ماذا يترتب عليها؟ لا يحصل بها ثواب الصدقة؛ ثم يحصل إثم الأذى، شخص تصدق يريد وجه الله سبحانه وتعالى، ويريد الثواب الذي يضاعفه الله من الواحد إلى السبعمائة ضعف، فهو يتصدق لأجل الله، ثم بعد ذلك منّ أو آذى الذي أحسن إليه، فعادت صدقته عليه وبالاً وشؤماً عليه؛ لأنه أولاً: أحبط ثواب صدقته، وأوقع نفسه فيما لا طائل من ورائه، وثانياً: حصل إثم الأذى؛ لأنه سيعاقب على هذا الأذى؛ فلذلك يقول تعالى: ((قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) كلمة طيبة (ومغفرة خير) من مثل هذه الصدقة، لماذا خير؟ لأنه سيحبط ثواب الصدقة أولاً، ثم يحصل إثم الأذى.
((وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)) بالمنّ والتعيير له بالسؤال، إذا كان الشخص ممن يحل له السؤال، ((وَاللَّهُ غَنِيٌّ)) عن صدقة العباد، ((حَلِيمٌ)) بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي.(20/13)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] يعني: لا تبطلوا أجور صدقاتكم، ولا تحبطوا هذا الثواب بالمنّ والأذى.
((كَالَّذِي)) يعني: إبطالاً كإبطال نفقة الذي (ينفق ماله رئاء الناس.
وفي هذه الآيات الكريمة تقبيح لشأن المن، والعرب كانت تقول لمن يعطي صدقة ثم يمن بها: هذه يدٌ سوداء، وتطلق العرب على ما يعطى من غير مسألة: هذه يد بيضاء، أما الذي يعطى عن مسألة فيقولون: يد خضراء، يقول الشاعر: وصاحب سلفت منه إلي يد راثت عليه مكافاتي فعاداني لما تيقن أن الدهر حاربني أبدى الندامة فيما كان أولاني وقال آخر: أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنان وقال ثالث: أحسن من كل حسن في كل وقت وزمن صنيعة مربوبة خالية من المنن(20/14)
تفسير سورة البقرة [283 - 286](21/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة)
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283].
قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى، ولابد من ربط هذا الشرط بما قبله، يعني: إن كنتم على سفر وتداينتم؛ لأن صدر هذه الآية مرتبط بالآية التي قبلها، وهي أطول آية في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282] فلابد من ربط هذه الآية بما قبلها يعني: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى وكنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة، يعني: الذي يستوثق به في هذه الحالة: رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه.
وهذا الرهان إنما يكون إذا لم يأمن بعضكم بعضاً بلا وثيقة، والدليل على هذا أنه سبحانه قال بعد ذلك مباشرة: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة فيه وبأمانته عن الوثيقة ((فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)) يعني: من باب: أدِ الأمانة إلى من ائتمنك (فليؤد الذي اؤتمن) وهو الشخص المدين، وإنما عبر عنه بذلك ولم يقل: فليؤد المدين الدين وإنما قال: (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) لأن الرجل إذا وثق فيك وكان بوسعه ألا يعطيك هذا المال إلا باستيثاق برهن أو غيره، فإنه يجب ألا تخيب ظنه وقد أحسن الظن فيك.
وكثيراً ما يحصل نزاع بين الناس بسبب هذا الأمر، ويشتكي كثير من الناس من أن بعض الناس لا يؤدي الحقوق إذا حان أجلها، بل منهم من يجحد ويماطل! فنذكر في هذا المقام عبارة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حينما قال: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان.
فإذا كان الشخص فعلاً متصفاً بصفة الأمانة فالأمين لا يمكن أبداً أن يخون إلا أن يشاء الله، لكن الذي يحصل أنك تضع ثقتك في غير موضعها، ولكن اؤتمن غير أمين فخان، فهذا هو الواقع الذي يحصل، فالله سبحانه وتعالى كما ترون قد أنزل أطول آية في القرآن -وهي آية الدين السابقة- لأجل حفظ مال المسلم في جنيهات معدودة، فبين كيف تحفظ له؛ ولذلك يعتبرون هذه الآية من آيات الرجاء، وهناك بحث لطيف يذكره بعض العلماء وهو مبحث بعنوان: ما هي أرجى آية في القرآن؟ وفي المقابل أيضاً ما هي أخوف آية في القرآن؟ فبعض العلماء ذهب إلى أن أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي والكبائر من الموحدين هي هذه الآية آية الدين، ووجه ذلك أن هذه الآية تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يرعى ويحفظ ويشرع من التشريعات ما يضمن حق المسلم ويراعي شئونه حتى في أشياء دقيقة، فأنزل أطول آية في القرآن لحفظ مال يسير من الدريهمات أو الجنيهات، وإذا كان كذلك فلا شك أن عناية الله سبحانه وتعالى بعبده المؤمن في عرصات القيامة وفي أهوالها يرجى أن تكون أعظم، وأن تكون رحمته أوسع، فهذا هو وجهها.
بعض الناس يستحيي في هذا المقام من كتابة الدين، وهذا غير صحيح؛ لأن الاستيثاق بالكتابة أو بالإشهاد ليس معناه أنك تخونه أو أنك لم تثق به، لكن هذا يكون لاعتبارات كثيرة، منها: أنك يمكن أن تموت أنت أو يموت هو وبالتالي ينتقل لورثته الحق، وورثته إذا قالوا: أين ما يثبت أنه كان لك دين على الميت؟ فلا شك أن التوثيق يثبت الدين ويحسم الخلاف ويضبط حقوق الناس.
والأمر الآخر: أن بعض الناس قد ينسى، فبعض الناس يكون حريصاً في قلبه على أن يوثق الدين، لكنه يستحي وهذا الاستحياء لا يسمى استحياء لكنه عجز، وهو لا يدخل في الحياء المحمود وإنما هو عجز.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم - وذكر من هؤلاء الثلاثة- رجل أدان ديناً فلم يشهد عليه) أي: أقرض رجل رجلاً مالاً ولم يشهد عليه ولا كتبه، فلما جاء موعد حلول أجل الدين وطالبه به جحده وقال: ما لك عندي شيء، فهنا إذا دعا صاحب المال على هذا المدين المقترض لا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاءه عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الأحكام ما يضمن له حقه، وهو الذي بمحض إرادته تخلى عنها وتنازل عنها، أو هو الذي وضع ثقته في محل لا يستحقها، أي: ائتمن شخصاً وهو غير أمين.
فالشاهد من ذلك: أنه إذا دعا عليه لا يستجاب له، وكيف يدعو عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الطويلة التي هي أطول آية في القرآن، ثم هو بمحض إرادته لم يعمل بها، فليلم نفسه ولا يلم غيره؛ فهو الذي قصر.
يقول تبارك وتعالى هنا: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة والأمانة عن أن يأخذ منه رهناً.
(فليؤد الذي اؤتمن أمانته) المقصود به: المدين، وإنما عبر عنه بذلك لأنه العنوان لتعينه طريقاً للإعلام؛ لأنه لا يوجد طريق للإعلام الحق سوى الائتمان والثقة ولحمله على الأداء (أمانته) أي: دينه، وإنما سمي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به.
(وليتق الله ربه) يعني: في رعاية حقوق هذه الأمانة، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التحذير والتأكيد ما لا يخفى.
(ولا تكتموا) يعني: أيها الشهود! لا تكتموا الشهادة.
(ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال الزمخشري: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فإنه آثم)، وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده.
يعني: الرجل هو الآثم وليس قلبه فقط.
قال الزمخشري: قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها في قلبه، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إلى القلب؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني، ومما عرفه قلبي؛ ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: قد تمكن الاسم في أصل نفسه، وملك الاسم أشرف مكان فيه وهو قلبه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، ولكنه أيضاً متعلق بالقلب (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).
فاللسان عبارة عن ترجمان عما في القلب؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح.
(وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى (ولم تجدوا كاتباً فرهان) وفي القراءة الأخرى (فرهُنُ) وكلاهما جمع رهن (مقبوضة) مقبوضة أي: تستوثقون بها، وهذا القيد الذي جاء في هذا الحكم معلق بقيدين (إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً) فالقيد الأول: أن يكونوا في السفر، والقيد الثاني: عند افتقاد الكتَّاب، لكن بينت السنة جواز الرهن في الحضر، وجواز الرهن مع وجود الكاتب، حتى لو وجدنا كاتباً وأمن بعضنا بعضاً ولم نكتب فلا حرج في ذلك.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) فهذا كان في الإقامة ولم يكن في السفر، وهم كانوا في المدينة، وسيجدون كاتباً، لكنه مع ذلك لم يكتب.
فالتقييد بما ذكر من السفر ووجود الكتاب؛ لأن التوثيق فيه أشد؛ فالتوثيق في حالة السفر يحتاج الإنسان إليه أكثر من حالة الحضر.
وأفاد قوله تعالى: (فرهان مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن يعني: أنه لابد من قبض الشيء المرهون، وأن يحوزه الشخص المرتهن.
وأفاد قوله: (مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن.
(فإن أمن بعضكم بعضاً) أي: أمن الدائن المدين على حقه فلم يرتهن (فليؤد الذي اؤتمن) أي: المدين (أمانته) دينه (وليتق الله ربه) في أدائه (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم لإقامتها (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) خص بالذكر لأنه محل الشهادة، ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين.(21/2)
تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)
قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
قوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) يعني: يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، ومعنى التفريق هنا هو في الإيمان، وليس معناه عدم المفاضلة بين الأنبياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضل الأنبياء بعضهم على بعض؛ لأن بعض الناس يتوهم أن الاعتقاد في أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء هو من التفريق بين الرسل!! ليس هذا هو المقصود، وإنما (لا نفرق بين أحد من رسله) يعني: في الإيمان، بل نؤمن بجميع الرسل.
وقوله: (وقالوا سمعنا) يعني: سمعنا ما أمرنا به سماع قبول.
(وأطعنا غفرانك ربنا) يعني: نسألك غفرانك ربنا.
(وإليك المصير) أي: المرجع للبعث.
ولما نزلت الآية التي قبلها شكا المؤمنون من الوسوسة، وشق عليهم المحاسبة بها، والآية التي قبلها هي قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] إلى آخر الآية فلما نزلت شكا المؤمنون من الوسوسة؛ لأن الوسوسة مما يشق عليهم أن يحاسبوا بها، والخواطر التي ترد على القلب ليس في طاقتهم أن يدفعوها، فأنزل الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286].(21/3)
تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)
قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286].
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وهذا كلام مستأنف من الله سبحانه وتعالى أي: اطمئنوا فإن الله لن يكلفكم إلا ما في طاقتكم، ولن يحاسبكم على هذه الوساوس والخواطر ما لم تتكلموا أو تعملوا بها.
ويحتمل أن تكون هذه العبارة من باقي ذكر المؤمنين ودعائهم.
وقوله: (وسعها) يعني: ما تسعه قدرتها.
(لها ما كسبت) يعني: من الخير، والمقصود ثوابه.
(وعليها ما اكتسبت) أي: من الشر، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوست به نفسه.
(ربنا لا تؤاخذنا) يعني: وقالوا: (ربنا لا تؤاخذنا) أي: بالعقاب، (إن نسينا أو أخطأنا) يعني: تركنا الصواب لا عن عمد، كما أخذت به من قبلنا، وقد رفع الله سبحانه وتعالى ذلك عن هذه الأمة كما ورد في الحديث الصحيح: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فسؤالهم اعتراف منهم بنعمة الله سبحانه وتعالى، وقد رفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ولأن من خصال هذه الأمة رفع الآصار ورفع المشقة وإعذار الأمة بهذه الأعذار، كالإكراه والجهل والنسيان وغير ذلك، فمن خصائص هذه الأمة العذر بالإكراه، فهذه من الآصار التي كانت على من قبلنا، فمثلاً إذا تأملنا حكاية الله سبحانه وتعالى عن أصحاب الكهف، أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف:20] ثم ذكروا احتمالين فقط {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] يعني ما كان لهم عذر في أن يعودوا في ملتهم، بل كان يجب عليهم أن يثبتوا على الدين، فإما أن يرجموا وهم ثابتون عليه، وإما أن يعودوا كفاراً، فلم يكن لهم سعة في الاعتذار بالإكراه؛ وإنما هذا من خصائص هذه الأمة.
(ربنا ولا تحمل علينا إصراً) يعني: أمراً يثقل علينا حمله.
(كما حملته على الذين من قبلنا) يعني: بني إسرائيل، وإذا تتبعنا شرائع التوراة وجدنا من ذلك شيئاً عظيماً جداً، ففي التوراة كثير من الآصار والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برفعها، فالشرائع السابقة كانت تأتي خاصة لكل أمة تعالج العوج الذي في أخلاقها وفي قلوبها، وكانت بنو إسرائيل من أكبر الأمم عوجاً وعتواً وعناداً، فكما أنهم لما عاشوا تحت القهر بسبب فرعون وملائه أذلوهم واستعبدوهم وآذوهم واضطهدوهم؛ فمشوا على الخنوع والمذلة، فمن أجل ذلك عوقبوا بالتيه في الأرض حتى ينشأ جيل جديد يتحرر من آثار هذا الذل الذي عاشوا عليه من قبل، كذلك العوج الذي في أخلاق وطباع اليهود -لعنهم الله- أدى إلى أن الله سبحانه وتعالى كان يشرع لهم كثيراً من الآصار والأغلال عقوبة لهم، وكان يتم التشديد عليهم بسبب تنطعهم وعنادهم وعتوهم، وخبث طباعهم ولؤمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160] بكذا وبكذا، هذه كلها باء السببية أي: بسبب كل هذا الإجرام من اليهود -عليهم لعائن الله- حرم الله عليهم الطيبات، وانظر في قصة البقرة، أمروا أن يذبحوا أي بقرة عندما قال لهم موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] لكن لما شددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فإذا تتبعنا هذه الأحكام سنجد كيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أجمعين، ورحمة لليهود، لكنهم أبوا وبقوا في هذه الآصار والأغلال كما سنبين إن شاء الله.
فكان من هذه الآصار أن التوبة تكون بقتل النفس، فإذا أرادوا أن يتوبوا يقتل بعضهم بعضاً، كما قال الله: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] وكذلك في الزكاة كان الواحد منهم يخرج ربع المال في الزكاة، وكذلك كان الواحد منهم إذا تنجس ثوبه فإنه يقطع ويقرض موضع النجاسة من الثوب، وغير ذلك من الأحكام الشديدة.
ولهذا فإن هذا اعتراف بنعمة الله سبحانه وتعالى {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] أي: الذين عاقبتهم بهذه التشريعات، وقد فعل الله سبحانه وتعالى ذلك فخفف عن هذه الأمة، وهذا الباب واسع جداً، ولضيق الوقت لا نستطيع أن نفصل فيه القول، فهذه الشريعة تميزت برفع الحرج ورفع الآثار ورفع الأغلال، وبالسماحة وباليسر حتى قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة).
(ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) المقصود بقوله: (لا طاقة) يعني: لا قوة لنا به من التكاليف والبلاء.
(واعف عنا) أي: امح ذنوبنا.
(واغفر لنا وارحمنا) الرحمة فيها الزيادة على المغفرة.
(أنت مولانا) أي: سيدنا ومتولي أمورنا.
(فانصرنا على القوم الكافرين) يعني: بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم، فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، وفي الحديث (لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقب كل كلمة: قد فعلت) أي: رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأي شرف أن ننتسب إلى هذه الأمة المرحومة! فتأمل إذا قرأت هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يجيبك ويقول لك بعد كل دعاء: قد فعلت، قد فعلت، قد فعلت! وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أيتها الأمة.(21/4)
تنبيهات تتعلق بالآيات الآخيرة من سورة البقرة
هناك بعض التنبيهات تتعلق بهذه الآيات الأخيرة: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] قال الزجاج: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين ختمها بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] آمن الرسول بتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بجميع ذلك المذكور قبله وغيره، فكأن هذا تأكيد لكل ما مضى من الأحكام في هذه السورة العظيمة، أي أن موقف المؤمنين من جميع ما تقدم من هذه الأحكام وهي مئات الأحكام في سورة البقرة كان هو الإيمان والتسليم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] فصدقه عليه الصلاة والسلام بما أنزل إليه وتخلق به حتى صار خلقه القرآن صلى الله عليه وآله وسلم.
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] قال الزمخشري: لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي مجبولة عليه وأمارة به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فالشهوات النفس مجبولة عليها ووراءها النار، والجنة تحتاج إلى مجاهدة، فأسهل شيء على الإنسان أن يدخل النار؛ لأن النفس تعينه على فعل المعاصي والكبائر بل والكفر الذي يئول به إلى النار؛ ولذلك تحتاج النجاة من النار إلى مجاهدة، بخلاف الذي يريد أن يدخل النار فهذا سهل عليه؛ لأن الشهوات تجذبه كما يجذب الضوء الفراش الأحمق، ونفسه وهواه وشيطانه تسول له وتجذبه إلى هذه الشهوات، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وهي أمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت بذلك مكتسبة فيه، فلهذا قال: (وعليها ما اكتسبت) ولم يقل: (ما كسبت)، ففي الخير قال: (ما كسبت) وفي الشر قال: (اكتسبت)، ومعروف أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فقال هنا في الشر: (اكتسبت)؛ لأنها تنجذب إلى هذا الشر وتحصله بالاجتهاد.
ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله وصفت بما لا دلالة له على الاعتماد والتصرف فقال: (لها ما كسبت).(21/5)
أمثلة من آصار اليهود
قوله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] هو ما كلفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان، وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا حوالى خمس صفحات وهي تؤكد ما وصف به هذا التفسير (محاسن التأويل) من أنه أحياناً ينساق وراء الإسرائيليات، لكن له عذر في بعض المواضع، فإنه أراد أن يأتي بأمثلة حية من التوراة التي بين يدي القوم على هذه الآثار والأغلال التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها.
فمثلاً: من ضرب أباه وأمه يقتل قتلاً! ومن سرق إنساناً وباعه أو وجد في يده يقتل قتلاً! ومن شتم أباه وأمه يقتل قتلاً.
وإذا مات إنسان في خيمة -مثلاً- فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام! وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس! وكل ماء مكشوف لم يسد ويربط على فمه فهو نجس!! وهناك أشياء كثيرة جداً بهذا المعنى، مثل إيجاب القتل في القصاص يعني لا تقبل دية من القاتل المذنب بل إنه يقتل! وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما فإن أباه وأمه يمسكانه ويأتيان به إلى شيوخ مدينتهم ويقولون لهم: ابننا هذا معاند ومارد ولا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير؛ فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت!(21/6)
معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا)
قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) أي: من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول (ربنا ولا تحمل علينا إصراً) هذا طلب رفع شدائد التكليف، أما قوله: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) فهذا فيه رفع شدائد البليات.
(واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فإن من حق المولى أن ينصر عبده وأن يتولى أمره على أعدائه، وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله تعالى حسبما مر في تضاعيف السورة الكريمة هي غاية مطلبهم.
ثم تختم هذه السورة الطويلة بقوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، وهو لتمكين كل الدين، فأقصى غاية عند المؤمنين والمسلمين الصادقين إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
يقول الرفاعي فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ليس ناهياً عن قتال المشركين وأعداء الدين، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة دون الإحواج إلى القتال، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام وماطر السهام.(21/7)
فضل الآيتين من آخر سورة البقرة
روى البخاري والجماعة عن أبي مسعود رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) قيل: كفتاه من كل سوء، وقيل: كفتاه عن قيام الليل، يعني: أنه يؤجر كأنه قام هذه الليلة كلها، فهذه من الأذكار الليلية، وتقال في أي وقت من الليل، ويفضل أن الإنسان إذا خشي أنه لا يأتي بهما أن يأتي بهما في أول الليل حتى لا يفوته هذا الثواب العظيم.
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش لم يعطهن أحد قبلي).
وأخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: ((إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)) [النجم:16] قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً إلا المقحمات) يعني: الكبائر.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -وهذا في مسلم - قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لما يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته) فلا يسمع بمثل هذا الثواب ويزهد فيه إلا إنسان خاسر!! وأخرج الترمذي والنسائي والدارمي والحاكم وصححه عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان).
فهذه الرحلة الطويلة التي يقطعها الإنسان إذا قرأ سورة البقرة؛ كأن الله سبحانه وتعالى جعل نهاية هذه السورة العظيمة المباركة هدية للمؤمنين ومكافئة للمؤمنين إذا ختموا هذه السورة الكريمة؛ فلذلك كان الحسن البصري رحمه الله تعالى -كما أخرج عبد بن حميد في مسنده- إذا قرأ آخر البقرة يقطعها ويقول: يا لك نعمة! يا لك نعمة! إذاً: أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بهذه السورة العظيمة، وبالذات خواتيمها، ولها من الفضل ما ذكرناه.(21/8)
فضل سورة البقرة
رويت في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران).
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أي السحرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما) أي: تأتي هاتان السورتان تجادلان عن الإنسان الذي يكون قد استحق العذاب فتأتي هذه السورة تحامي عنه، فنعم المحامي ونعم المدافع!! تجادلان عن صاحبيهما وتشفعان له.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت التي قرأ فيه سورة البقرة)، ولفظ الترمذي: (وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان).
وينبغي أن نكف عن هذه الظاهرة الشائعة الآن، وهي أن بعض الناس يظن أنه يرضي ضميره بأن يشغل التسجيل والشرائط لسورة البقرة في البيت!! فهل التسجيل الذي يثاب أم أنت الذي تثاب؟! أما وجدت سبيلاً إلى القراءة بلسانك وبقلبك؟! فينبغي أن تقرأ أنت، أما هذا التسجيل فهو حديد، وأنت الذي تطالب بقراءة سورة البقرة، وهذا من الاستهتار الذي يدخل في العبادات، فهو لا يقرأ ويظن أنها تقرأ سورة البقرة في البيت عن طريق التسجيل، صحيح أنه من الممكن أن يكون ذلك عند العجز كرجل أو امرأة عجوز لا يستطيع أن يقرأ أو أمي أو إنسان له أي عذر من الأعذار، لكن لا ينبغي أن تكون القاعدة أن ينوب عنا التسجيل، بحيث إن الإنسان يظن أنه يثاب إذا قرأ سورة البقرة بحديد أنطقه الله سبحانه وتعالى من معدن أو جماد!! فأنت المتعبد بالتلاوة، فينبغي ألا يزحف التكاسل في حياتنا إلى حد أن نقيم هذه الجمادات التي لا تعقل مقام عقولنا وقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا.
وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي).(21/9)
خاتمة تفسير القاسمي لسورة البقرة
القاسمي رحمه الله تعالى ختم تفسير سورة البقرة باقتباس جميل جداً هو في الحقيقة في غاية الروعة، وما أشد مناسبته لختام سورة البقرة؛ لأنه جمع فيه الفضائل العظيمة جداً في القرآن، يقول رحمه الله تعالى: تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد، كله يثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويحيي ويميت ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور النازلة من عنده دقيقها وجليلها والصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وصلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم ما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوقاتهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم.
ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها.
ويذكِّر عباده بفقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر لهم غناءه عن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.
وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه بألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومذهب فسادهم، والدافع عنهم، والحامي لهم، والناصر لهم، والكفيل لمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق وناصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
وإذا علمت القلوب من القرآن أن الله جواد رحيم جليل، هذا شأنه؛ فكيف لا تحبه، وتتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل من سواه؟! وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو رضاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟! اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وأعنا على إكمال ما قصدناه بفضلك يا أرحم الراحمين!(21/10)
تفسير سورة آل عمران [1 - 20](22/1)
تفسير سورة آل عمران
سورة آل عمران مدنية، وآياتها مائتان، سميت بذلك لأن اصطفاء آل عمران -وهم عيسى ويحيى ومريم وأمها- نزل فيه منها ما لم ينزل في غيرها، وذلك بضع وثمانون آية، وقد جعل هذا الاصطفاء دليلاً على اصطفاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعله متبوعاً لكل محب لله ومحبوب له سبحانه.
وتسمى الزهراء؛ لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتابين من شأن عيسى عليه السلام.
وتسمى الأمان؛ لأن من تمسك بما فيها أمن من الغلط في شأن المسيح عليه السلام.
وتسمى الكنز؛ لتضمنها الأسرار العيسوية.
وتسمى المجادلة؛ لنزول نيف وثمانين آية منها في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران.
وتسمى سورة الاستغفار؛ لما فيها من قوله {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وتسمى طيبة؛ لجمعها أصناف الطيبين في قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
والمراد بعمران هو والد مريم عليه السلام، كما يأتي التنويه به في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33].(22/2)
تفسير قوله تعالى: (الم.
الله لا إله إلا هو الحي القيوم والله عزيز ذو انتقام)
{الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:1 - 4].
قال تعالى: ((ألم)) الله أعلم بمراده بذلك، حيث إن هذا من المتشابه.
((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) سبق تفسيره في سورة البقرة في آية الكرسي.
(نزل عليك) يعني: يا محمد.
(الكتاب) أي: القرآن.
(بالحق) أي: متلبساً بالحق أي: بالصدق في أخباره.
(مصدقاً لما بين يديه) يعني: مصدقاً بما قبله من الكتب.
(وأنزل التوراة والإنجيل) والتوراة بالعبرانية معناها: الشريعة، والإنجيل معناه: البشارة، وأصل الإنجيل بشارة؛ لأن أحد مقاصد بعثة عيسى عليه السلام الأساسية هي ما عبر عنه في قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، ولذلك تأتي في نصوص الإنجيل -حتى بعد تحريفها- كثير من النصوص التي تدل على أن هذا كان هدفاً ومقصداً أساسياً لبعثة عيسى عليه السلام.
وهناك رجل من كبار أحبار الكلدانيين وهو داود الأشوري وكان من الأحبار، وقد أسلم وأنار الله قلبه بالإسلام فكتب كتباً قيمة، هي في الحقيقة من أرقى الكتب في هذا الموضوع، وأفرد بعض الفصول لهذه المسألة، وقد ناقش أن كلمة الإنجيل تعني البشارة، وقال: إن العبارة المشهورة عند النصارى عبارة محرفة وهي قولهم: المجد لله في الأعالي، وفي الناس المسرة، وعلى الأرض السلام، قال: إن حقيقة هذه الكلمة هي: المجد لله في الأعالي وفي الناس أحمد، وعلى الأرض إسلام.
وأتى بالنقول التي تدل على هذا.
فإذاً حتى كلمة الإنجيل تعني باللغة العبرية الأصلية: البشارة، والبشارة هي التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(وأنزل التوراة والإنجيل من قبل) يعني: من قبل تنزيل القرآن.
(هدىً للناس) هذا حال بمعنى: هاديين من الضلالة.
وقوله: (للناس) يعني: لمن تبعهما، وعبر هنا في (التوراة والإنجيل بـ (أنزل)، لكن في القرآن قال: (نزل عليك الكتاب بالحق) لأن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، فكلمة (نزل) تقتضي التكرار، لأن القرآن نزل مفرقاً بحسب المناسبات والنوازل.
أما التوراة والإنجيل فقد أنزل كل منهما دفعة واحدة.
وقوله: (وأنزل الفرقان) بمعنى: الكتب الفارقة بين الحق والباطل، وذكره بعد ذكر هذه الثلاثة من الكتب ليعم كل ما عداها، فيعم أيضاً صحف إبراهيم عليه السلام، وكل كتاب أنزله الله على نبي.
ثم قال تعالى: (إن الذين كفروا بآيات الله) أي: بالقرآن وغيره، (لهم عذاب شديد).
(والله عزيز) أي: غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده.
(ذو انتقام) يعني: ذو عقوبة شديدة لمن عصاه لا يقدر على مثلها أحد، وليس من أسماء الله الحسنى المنتقم، لكن قال سبحانه: (والله عزيز ذو انتقام).(22/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء العزيز الحكيم)
((إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:5 - 6].
قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض) يعني: لا يخفى عليه شيء كائن في الأرض (ولا في السماء) لعلمه تبارك وتعالى بما يقع في العالم من كليٍّ وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يجاوزهما أعني الأرض والسماء.
(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وغير ذلك.
(لا إله إلا هو العزيز) أي: في ملكه (الحكيم) في صنعه.(22/4)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات إن الله لا يخلف الميعاد)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:7 - 9] قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) أي: واضحات الدلالة.
(هن أم الكتاب) يعني: أصل الكتاب المعتمد عليه في الأحكام.
(وأخر متشابهات) يعني: لا تفهم معانيها، فلها معانٍ لكن لا تفهم كأوائل السور.
وفي موضع من القرآن وصف الله كل القرآن بأنه محكم، وذلك في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ومعنى كونه محكماً: أنه ليس فيه عيب في ألفاظه ولا في معانيه.
وفي موضع آخر وصفه بأنه متشابه، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] ومعنى كونه متشابهاً: أنه يشبه بعضه بعضاً في الحكم والصدق.
قوله تعالى: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)) أي: ميل عن الحق.
((فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)) أي: طلب الفتنة لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس.
((وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) أي: ابتغاء تفسيره أو حقيقته، فإما أن يكون تأويله بمعنى تفسيره فيفسر له تفسيراً باطلاً لا أصل له، وإما أن يكون تأويله بمعنى حقيقته وهو الأقرب؛ ومعنى حقيقته كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] يعني: حقيقته واقعاً كما هو، وهذه الأشياء التي لا يعلم تأويلها إلا الله مثل الروح {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] كذلك مفاتح الغيب الخمس المعروفة، كذلك مثلاً معاني الحروف المقطعة في أوائل السور، كذلك نعيم الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) وهنا تقف وقفاً لازماً، أي: لا يعلم تأويله إلا الله وحده، ثم تستأنف وتقول: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) أي: الثابتون المتمكنون في العلم، وهذا مبتدأ وخبره ((يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) يعني: بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه.
((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) كل من المحكم والمتشابه هو من عند الله تبارك وتعالى.
((وَمَا يَذَّكَّرُ)) بإدغام التاء في الذال؛ لأن أصلها يتذكر، والمعنى: وما يتعظ (إلا أولوا الألباب) أي: أصحاب العقول.
ويقولون أيضاً إذا رأوا من يتبع المتشابه: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا)) يعني: لا تزغ قلوبنا عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما أزغت قلوب أولئك.
((بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) أي: أرشدتنا إليه.
((وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ)) أي: من عندك.
((رَحْمَةً)) أي: تثبيتاً {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
(ربنا) أي: يا ربنا.
(إنك جامع الناس ليوم) يعني: تجمعهم ليوم أو في يوم.
(لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وهو يوم القيامة، فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت بذلك.
(إن الله لا يخلف الميعاد) يعني: موعده بالبعث، وهذا فيه التفات عن الخطاب.
روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) [آل عمران:7] إلى آخرها وقال: فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).(22/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً والله شديد العقاب)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران:10 - 11].
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} [آل عمران:10] يعني: لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم.
(من الله) أي من عذاب الله شيئاً.
(وأولئك هم وقود النار) الوقود: بفتح الواو ما يوقد به.
(كدأب) المقصود به: دأبهم كدأب، يعني: عادتهم كعادة (آل فرعون والذين من قبلهم) من الأمم كعاد وثمود.
(كذبوا بآياتنا فأخذهم الله) أي: أهلكهم.
(بذنوبهم والله شديد العقاب).
ونزلت هذه الآية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً من بدر ودعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا له: لا يغرنك منا أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون فنون القتال، لكن إذا قاتلتنا سترى أننا نحن الناس، فنزلت هذه الآيات في الرد على اليهود لعنهم الله!(22/6)
تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:12 - 13].
(قل للذين كفروا) يعني: قل يا محمد (للذين كفروا) من اليهود.
(ستغلبون) في قراءة أخرى (سيغلبون) يعني: في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك.
(وتحشرون) وفي قراءة (ويحشرون) أي: في الآخرة.
(إلى جهنم) فتدخلونها.
(وبئس المهاد): يعني الفراش.
(قد كان لكم آية) أي: عبرة، وذكّر الفعل (كان) هنا مع أن فاعله مؤنث (آية)؛ وذلك لأنه فصل بينهما بالخبر (قد كان لكم آية).
ومعنى (آية): علامة، أي: يا أيها اليهود قد ظهرت لكم آية على صحة دين الإسلام، إذ لو كان الإسلام غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة بالحق الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به.
(في فئتين) أي: فرقتين (التقتا) يوم بدر بالقتال.
ويوم بدر وصفه الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات بأنه بينة كما قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه فرقان كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41] وهو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل.
((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا)) يعني: أن ما حصل في بدر كان علامة على صحة دين الإسلام.
((فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: في طاعته، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ومعهم فرسان وست أدرع وثمانية سيوف، وأكثرهم رجالة لم يكونوا راكبين.
((وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ)) أي: الكفار.
(يرونهم مثليهم) يعني: يرون الكفار مثليهم، أي: مثلي المسلمين، وكانوا نحو ألف رأي العين، يعني: رؤية ظاهرة معاينة، وقد نصرهم الله مع قلتهم.
(والله يؤيد بنصره من يشاء) أي: يقوي بنصره من يشاء نصره.
(إن في ذلك) المذكور (لعبرة لأولي الأبصار) أي: لذوي البصائر، أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.(22/7)
تفسير قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والله عنده حسن المآب)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
قال تعالى: ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)) وهي ما تستميل النفس وتدعو إليه، زينها الله ابتلاءً أو زينها الشيطان.
(من النساء) قدم النساء لعراقتهن في الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) وقال أيضاً: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
((وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ)) أي: الأموال الكثيرة (المقنطرة) أي: المجمعة.
(من الذهب والفضة): وخصهما بالذكر من أنواع الأموال لأن من ملك الذهب والفضة وهما أصل المال يستطيع أن ينال كل ما يتحصل بهما.
(والخيل المسومة) أي: الحسان.
(والأنعام) أي: الإبل والبقر والغنم، وقد بين تبارك وتعالى أن الأنعام ثمانية أزواج فقال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ثم قال: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144]، (من الضأن اثنين) أي: الذكر والأنثى ويسميان: الكبش والنعجة، (ومن المعز اثنين) التيس والعنز (ومن الإبل اثنين) يعني: الجمل والناقة.
(ومن البقر اثنين) الثور والبقرة؛ ولذلك قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6].
(والحرث) وهو الزرع.
(ذلك) أي: المذكور (متاع الحياة الدنيا) يعني: يتمتع به فيها ثم يفنى.
(والله عنده حسن المآب) أي: المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره.(22/8)
تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها والمستغفرين بالأسحار)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:15 - 17].
هذه الآيات جاءت مباشرة بعد قوله تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] فبعدما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء التي هي أصول الفتنة في الدنيا وجذورها أشار إليها جميعاً بقوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
فهذا هو الذي زين للناس وهذا الذي يبتلى الناس بفتنته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وهذه هي التي تراد لذاتها من عباد الدنيا، أو ترغب في تحصيل ما لم يذكر من متاع الدنيا، وأشار تبارك وتعالى لكل هذا بقوله: (ذلك متاع الحياة الدنيا) أي: كالبلاغ الذي ينبغي أن يتبلغ الإنسان به لفترة وجيزة في سفر قصير.
وهذا يتوافق مع ما يرد في القرآن الكريم ثم في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التحذير من فتنة الدنيا، الأمر الذي يحقق صدق تلك المقولة المشهورة: حب الدنيا رأس كل خطيئة! فإنك إذا فتشت وراء أي معصية تقع تجد حب الدنيا وراءها، فالحروب التي تقع إذا فتشت عن أسبابها تجد أنها ترجع إلى حب الدنيا، والاطمئنان لها والخلود إليها والركون إليها، فأما الشهوات فمعلوم كيف يهلك كثير من الناس بسببها، والحروب التي تقع على نطاق فردي أو على نطاق أممي وجماعي فإنما هي من أجل قطعة من الأرض فيها بترول أو معادن أو ثروات زراعية أو غير ذلك من الثروات، والتناحر والتحاسد الذي يكون بين الجار وجاره، وبين الأخ وأخيه، وبين الإنسان وشريكه كله بسبب حب الدنيا، فما يخطر ببالك شيء إلا يكون حب الدنيا هو سببه وهو من ورائه، حتى التنافس على الرئاسات وعلى الوجاهات وعلى الشهرة، وإن كان ليس تنافساً في الدنيا، فإنه تنافس في حظ من حظوظ الدنيا.
فلذلك إذا أخرج الإنسان الدنيا من قلبه سلم من هذه الآفات جميعاً؛ لأنه لن يحوز شيئاً من الدنيا إلا وهناك من هو أكثر منه حظاً فيه؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ومن لم يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها فلم أر إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها ناهشتك كلابها فالسلامة هي في ترك الدنيا والإعراض عنها إلا ما يتبلغ به ويوصله إلى الدار الآخرة، على حد قول بعض الصالحين في الشعر الذي هو ذكره النووي في مقدمة رياض الصالحين: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وقال علي رضي الله عنه للدنيا: (غري غيري، لي تشوفت أم إلي تزينتِ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيهن) أو كما قال رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وهنا أشار الله تعالى لكل هذه الفتن الدنيوية بقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] ثم لما أخبر الله تبارك وتعالى بحال الدنيا وفتنتها أخبر أن ما عنده خير مما في الدنيا وإن كان محبوباً؛ لأنه إذا كان قد زين لنا فتنة الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فهذا أيضاً قد زين لنا، وما زين لنا لابد أن نحبه وأن نميل إليه بطبعنا وبما ركب فينا من الميل لهذه الدنيا، فأشار أولاً بقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رب! كيف وقد زينتها؟! فنزل قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15].
فأراد الله تبارك وتعالى بهذه الآيات أن يخبرنا أن ما عنده خير مما في الدنيا وإن كان محبوباً؛ لنترك ما نحبه من فتنة الدنيا لما نرجوه، حيث إنه أعظم وخير؛ لشهادة الله سبحانه وتعالى هنا في الآية: ((قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)) إلى آخر الآية.
واختلف العلماء في منتهى هذا الاستفهام: فمنهم من قال: إنه يقف عند قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) ثم يكون
الجواب
( للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) إلى آخرها.
ومنهم من قال: إن الاستفهام ينتهي عند قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم) فيكون
الجواب
( جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).
قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلك) أي: بخير من الشهوات المزينة لكم من زهرة الدنيا وزينتها الزائلة لا محالة؛ ولذلك نلاحظ أن القرآن يذم من يؤثر الحياة الدنيا، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37 - 38] فالذي يؤثر الحياة الدنيا هو الخاسر كما يعلم هذا من تتبع الكثير من الآيات في القرآن الكريم.
(للذين اتقوا) يعني: للذين اتقوا الله سبحانه وتعالى ولم ينهمكوا في شهواتهم.
(عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) يعني: تنخرق بين جوانبها، ونحن قلنا من قبل إن النهر هو عبارة عن الشق الذي يكون في الأرض، فالأصل أن يقال: ماء النهر هو الماء الذي يجري في هذا الشق، لكن أطلق تجاوزاً استعمال النهر في المياه التي تجري، والنهر في الأصل هو الخندق المحفور، فمعنى هذا أنها تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
و (للذين اتقوا) خبر المبتدأ الذي هو (جنات) يعني: جنات للذين اتقوا، و (تجري) صفة لها، والعندية في قوله تبارك وتعالى: (للذين اتقوا عند ربهم) مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقاتها، لأنها أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى.
(خالدين فيها) أي: ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا، والذي يعمل أعمالاً صالحة في سنوات محددة لا تساوي الحياة الخالدة إلى أبد الآباد في جنات النعيم، إنما يدخل الجنة ويخلد فيها برحمة الله سبحانه وتعالى، لكن ما هو السر في أن الكافر يخلد في جهنم مع أنه عصى الله سنوات محددة، والمؤمن يخلد في الجنة مع أن عمل كل منهما محدد، والخلود الأبدي لهما بلا نهاية؟! قد أخذنا في كتاب (فضائل النية) أن من فضائل النية أن يحصل بها الخلود في الجنة أو الخلود في النار.
فالخلود في النار كان بسبب نية البقاء على الكفر، والمؤمن من كانت نيته أن يبقى على طاعة الله سبحانه وتعالى حتى لو عاش بلا نهاية، فكانت نيته تلك سبباً للخلود في جنة الرضوان.
(وأزواج مطهرة) أي: أزواج مطهرة من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية، مما لا تخلو منه نساء الدنيا غالباً، وتلاحظون هنا كيف أنه سبحانه وتعالى بعد ما ذكر زينة الدنيا من حب الشهوات من النساء وغيرها ذكر بعدها نعيم الجنة وما فيه من الأزواج المطهرة من الآفات والأدناس، فهن مطهرات من الحيض والنفاس وغير ذلك من الأذى الذي يوجد في نساء الدنيا، فهذه إشارة إلى أفضلية نساء الآخرة على نساء الدنيا، ولذلك يستحب علماء السلف للشباب أن يكثروا من التشوق إلى الحور العين.
كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! تشوقوا إلى الحور العين؛ لأنه يحرض ويحض على الأعمال الصالحة التي تبذل في خطبة الحور العين، ومن أهم وأفضل المهور للحور العين كما يقول بعض الشعراء: أيها النائم دعني لست أصغي للمنام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام الخلد والفردوس في دار السلام وعروساً فاقت الشمس مع بدر التمام أحسن الأتراب قداً في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام فالذي يخطب به الحور العين هو الأعمال الصالحة كالجهاد في سبيل الله وقيام الليل وقراءة القرآن، لا كما يحصل من العناء والشقاء في سبيل الحصول على الحور الطين.
النساء في الدنيا خلقن من طين.
قوله: (ورضوان من الله) هنا التنوين والتكبير للفظ (رضوان) أي رضوان من الله سبحانه وتعالى قدره عظيم، وهو أعظم لذة للروح والجسد وأكبرها، كما قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أنه أكبر من كل هذا النعيم، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]، وهذا يتضمن رداً على الكفرة من المستشرقين والنصارى وغيرهم ممن يطعنون في دين الإسلام بزعم أنه دين شهواني، وذلك حين رغب في الحور العين في الجنة، قال هؤلاء: لقد أتاكم من جانب الملاذ الحسية، فهذا من جهلهم وظلمة قلوبهم؛ لأن الإنسان روح وجسد، فكما أنه يتنعم ب(22/9)
تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16].
(الذين يقولون) قيل: إنها بدل من قوله: (للذين اتقوا)، فإذا قلنا إنها بدل تكون مجرورة في محل رفع بتقدير (هم الذين)، أو نصب على المدح.
(ربنا) أي: يا ربنا، لكن حذفت أداة النداء.
(إننا آمنا) أي: صدقنا (فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).
قال الحاكم: في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله ثم يدعو.
بمعنى: أن هذا نوع من التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا الأدب يؤخذ من مواضع كثيرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]، فتوسلوا هنا بإيمانهم.
ومنها: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران:193]، إلى آخره، هذا توسل بالأعمال الصالحة، وأشرفها وأعظمها الإيمان.
ومن الأدلة أيضاً: سورة الفاتحة، فإنها بدأت بالثناء على الله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5]، ثم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فقبل الدعاء أتى أيضاً بالتوسل بالعمل الصالح.
ومن السنة حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار وتوسل كل منهم بصالح عمله، ثم فرج الله سبحانه وتعالى عنهم.(22/10)
تفسير قوله تعالى: (الصابرين والصادقين والقانتين)
قال الله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
(الصابرين) أي: على البأساء والضراء وحين البأس، وكذلك الصبر عن المعاصي والشهوات، وقيل: الصبر على الطاعات.
(والصادقين) أي في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم.
(والقانتين) أي: المطيعين لله الخاضعين له.
(والمنفقين) أي: أموالهم في سبيل الله تعالى وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات.(22/11)
اهتمام السلف بالطاعات وخاصة الاستغفار
قوله تعالى: (والمستغفرين بالأسحار) أي: أن الله سبحانه وتعالى وصفهم بهذه الطاعات، ومع هذه الطاعات الصبر والصدق والقنوت والإنفاق في سبيل الله، وختمها بالاستغفار في الأسحار؛ وفي هذا إشارة إلى أنهم شديد والخوف من ربهم، مع أنهم يأتون بهذه الطاعات، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، ليس معنى الآية: (يؤتون ما آتوا) أي: يؤتون ما آتوا من الطاعات من صدقة وصلاة وصيام وغير ذلك ثم هم مع ذلك يخافون أن لا يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم، فلذلك وصفهم مع الطاعات بشدة الخوف الذي يدفعهم إلى أن يستغفروا.
(والأسحار) جمع سَحَر أو سَحْر، وهي الوقت الذي قبيل طلوع الفجر، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، قال الحرالي: ويفهم من هذا أنهم يتهجدون في الليل كما قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
وقال الرازي: اعلم أن المراد منه من يصلي بالليل، ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء.
أي: من يكون له ورد من قيام الليل ثم يكون له في النهاية ورد الاستغفار.
يقول: لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك.
وقد روى ابن أبي حاتم: (أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح).
وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة).
وروى ابن جرير عن حاطب قال: (سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه).(22/12)
علاقة حديث النزول بالعقيدة والرد على منكر نزول الرب سبحانه
ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه، عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟).
وفي رواية لـ مسلم: (ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم)؟ وفي رواية: (حتى ينفجر الفجر)، يعني: أن ذلك الفضل يظل إلى أن ينفجر الفجر.
سبق أن تكلمنا أن المبدأ الذي أرساه السلف في عقيدة الأسماء والصفات مقتبس من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهو سبحانه يثبت السمع والبصر، لكن ليس كمثله شيء كما بينا ذلك مراراً، فالمشكلة أن بعض الناس لم يلتزم بهذه القواعد الذهبية في فهم العقيدة السلفية في الأسماء والصفات فيقعون حتماً في إحدى الضلالتين أو كليهما معاً، فهو ينفر طبعاً من التشبيه إلى التعطيل، فينفي الصفة.
أحياناً تصدر أسئلة غريبة عن مثل هذا الحديث، فإذا قلت: ينزل ربنا لا كنزول المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، تجد البعض يتصور نزولاً كنزول المخلوقين والعياذ بالله، فلذلك تجد الأسئلة الشيطانية الغريبة كقولهم مثلاً: الكرة الأرضية مستديرة، ومعروف أن الليل يكون في مكان والنهار في مكان آخر ومعنى ذلك: أن الليل يكون موجوداً مدة أربعة وعشرين ساعة، فمعنى ذلك: أن هذا النزول سيستمر طول الليل؟ وهذا السؤال صادر عن اعتقاد تشبيه الخالق بالمخلوق، أما إذا قلت: (ليس كمثله شيء) فلن تحتاج أبداً لذكر هذه الأسئلة.
وبعضهم يسأل: هل هذا النزول يستلزم أن يخلو منه العرش أم لا؟ لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ إن نزول الله عز وجل لا كنزول المخلوقين، أما أنت فنزولك يستلزم أن تنزل عن شيء، ويستلزم خلو هذا المكان منك، لكن الله سبحانه وتعالى في استوائه على عرشه ليس كمثله شيء، ونزوله في الثلث الأخير ليس كنزول المخلوقين، فلا نحتاج إذا طبقنا فهم السلف الصالح لمثل هذه الإيرادات.
لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لما تكلم عن تفسير هذا الحديث في هذه الآية قال: وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه: ما جاء في كتاب النسائي مفسراً عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر منادياً فيقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟)، والفرق في الرواية واضح! فالحديث المشهور الذي ذكرناه: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟) والمتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
فهنا الإمام القرطبي قال: إننا نحمل هذا الحديث على ذاك الحديث ونفسره به، يقول: لو صححه أبو محمد عبد الحق فإنه يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وتكون الرواية الأولى: (ينزل ربنا) من باب حذف المضاف، وقد روي: (ينزل ملك ربنا).
وهو الشاهد من هذا الكلام الذي استروح له الإمام القرطبي رحمه الله تعالى والإمام ابن عطية.
واسم الإمام ابن عطية الأندلسي هو أبو محمد عبد الحق بن غالب كان من أعيان أئمة المالكية المضربين في العلم.
وللإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب يسمى (شرح حديث النزول)، ناقش فيه هذه النقطة فقال رحمه الله تعالى رداً على هؤلاء الذين قالوا في تأويل الحديث: (ينزل ربنا) أنه بمعنى: أنه ينزل ملك من عند ربنا: فإن قلت: الذي ينزل ملك، قيل: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الملائكة لا تزال تنزل بالليل والنهار إلى الأرض كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64]، وفي الصحيحين أيضاً في الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، إلى آخر الحديث، كذلك حديث (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر)، إلى آخر الحديث.
فإذاً نزول الملائكة أمر مستمر فما وجه تخصيص ثلث الليل الآخر؟ الوجه الثاني: أنه قال فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، وهذه العبارة لا يجوز أن يقولها الملك! بل الذي يقول الملك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وذكر في البغض مثل ذلك، فهذا فعلاً ينادي به ملك من عند الله، فالملك إذا نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطبة كما قال جبريل في الحديث هنا: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه).
يقول شيخ الإسلام معلقاً على تأويل حديث نزول الله: هذا تأويل من التأويلات القديمة للجهمية، فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى عليه السلام، وقالوا: إنه أمر ملكاً فكلمه، فقالوا في قوله: (وكلمه ربه) أي: كلمه ملك ربه.
يقول شيخ الإسلام: هذا من تأويلات الجهمية، وهو باطل إذا لو كلمه ملك لما قال الملك: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، فالملائكة رسل الله إلى الأنبياء، تقول كما كان جبريل عليه السلام يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64]، ويقول: إن الله يأمرك بكذا، ويقول كذا، ولا يمكن أن يقول ملك من الملائكة ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي))، ولا أن يقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، ولا يقول: (لا يسأل عن عبادي غيري) كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما وسندهما صحيح.
وهذا أيضاً مما يبطل حجة بعض الناس، فإنه احتج بما رواه النسائي في بعض طرق الحديث أنه يأمر منادياً ينادي، إشارة إلى الحديث الذي احتج به القرطبي تبعاً للإمام ابن عطية رحمه الله، فإن هذا إن كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرب يقول ذلك، ويأمر منادياً بذلك، جمعاً بين الحديثين، لا أن المنادي هو الذي يقول: (من يدعوني فأستجيب له)، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه خلاف للفظ المتواتر، الذي نقلته الأمة خلفاً عن سلف.(22/13)
فضل الاستغفار بالأسحار
قال بعض الصالحين لابنه: يا بني! لا يكن الديك أحسن منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم.
والحكمة في تخصيص الأسحار كونها وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية والنفحات السبحانية، ومعروف أن أفضل أوقات العبادة وقت غفلة الناس عنها، لذلك يعظم ثواب من ذكر الله سبحانه وتعالى في السوق؛ لأن السوق مكان الغفلة والاشتغال بالدنيا، فمن ذكر الله في الغافلين فإنه ينال ثواباً عظيماً، كذلك ثبتت فضيلة شهر شعبان، وعللها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهر يغفل عنه الناس ما بين رجب ورمضان، هكذا أوقات غفلة الناس تضاعف فيها الأجور، وعند ذلك تكون العبادة أشق، والنية خالصة، والرغبة وافرة من عباده مع قربه تعالى وتقدس.
في الآية فضيلة الاستغفار في السحر، وأن هذا الوقت أفضل الأوقات.
وجاء في كتب التفسير في قوله عز وجل: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:97 - 98] أنه أراد أن يؤخر ذلك إلى وقت السحر؛ لأنه أدعى للإجابة.
يقول الرازي: واعلم أن الاستغفار في السحر له مزيد أثر في قوة الإيمان، وفي تمام العبودية، من وجوه: الأول: أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب.
الثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية كانت الطاعة أكمل.
الثالث: نقل عن ابن عباس {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، يريد المصلين صلاة الصبح.
قالوا: إن الصلاة هنا سميت استغفاراً؛ لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة.
إذاً: ينبغي أن نتواصى بهذا الأمر، وهو الاهتمام بالاستغفار في السحر؛ لأننا إذا كنا محتاجين إلى الاستغفار من قبل حاجة ماسة وشديدة، فنحن الآن في ظروف يعتبر الاستغفار فيها مثل سفينة نوح، فنحن في أوضاع كلها شؤم، وكلها تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتنذر بنزول عذاب من الله سبحانه وتعالى يستأصل من شاء من عباده، وقد بارزنا الله بكل أنواع المعاصي، ومن آخرها ما يسمى بمؤتمر السكان وغير ذلك من ألوان محاربة الإسلام.
والآن نسوا كلمة التطرف والإرهاب وعادوا للحقيقة وهي محاربة دين الإسلام محاربة صريحة بلا خجل ولا استحياء، لا من الخالق ولا من المخلوقين، ولا يرفع هذا البلاء إلا الاستغفار، أعني: أن الاستغفار قد يحول دون نزول البلاء والعذاب؛ لأننا حشدنا كل ما يستنزل غضب الله سبحانه وتعالى، وأصبح الطعن في الكتاب والسنة وظيفة عند الملحدين كما ترون في مزبلة الصحافة المصرية المسماة روز اليوسف، ولا يجوز لأحد أن يدخل هذه المجلة في بيته، وأن يريها أولاده وبناته وزوجته؛ لما تحويه من الفسوق والفجور، ويكفي أن أمثال هؤلاء الملاحدة الزنادقة حينما يكتبون فيها يكتبون بالخط العريض مقالة عنوانها كفر بواح وردة عن الدين مثل "الأخطاء النحوية في القرآن الكريم" ومقالة مثلاً في الدفاع عن المرأة الهندية التي شتمت الرسول عليه السلام وطعنت في القرآن، وإظهارها في مظهر المظلومة، وأن هذا ضد الحريات، وأنها مضطهدة، وغير ذلك من الأشياء التي ذكرنا مقتطفات منها ومن بعض الكتب الممنوعة مثل: "آيات شيطانية" لـ سلمان رشدي ورواية "أولاد حارتنا" للخبيث نجيب محفوظ وغير ذلك من كتب الإلحاد والكفر والزندقة، والله تعالى أعلم.
إذا لم يتداركنا الله سبحانه وتعالى برحمته فسيعمنا جميعاً عذاب، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء والملاحدة والزنادقة منا.
يقول تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فالاستغفار قد يكون مانعاً يحول دون نزول العذاب على العامة والخاصة.
ويقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ * فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32 - 32]، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، يعني: كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجوده صلى الله عليه وسلم أمن من العذاب، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، هذا هو الأمان الثاني ضد العذاب، وذكر بعض العلماء أقاويل كثيرة في تفسير هذه الآية منها: أن (هم) هنا تعود على من هو موجود في وسطهم من المؤمنين ممن يستغفر، فلما خرجوا وتزيلوا عذبهم الله سبحانه وتعالى يوم بدر وغيره.
حكي: (أن رجلاً من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم رجع عما كان عليه، وأظهر الدين والنسك، فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك، قال: كان لي أمانان مضى واحد وبقي الآخر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فهذا أمان.
والثاني: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
إذاً فهذه الأمة كان لها أمانان: الأول: في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وهو وجوده فيهم، فلا ينزل العذاب كرامة له عليه الصلاة والسلام.
الثاني: هو الاستغفار، فهو سبب آخر للأمن من العذاب.
فالذي بقي لنا أن نستغفر الله سبحانه وتعالى من هذه الذنوب.
قال الزمخشري: الواو المتوسطة بين الصفات في قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] للدلالة على كمالهم في كل واحدة منهم.(22/14)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) والآيتين بعدها
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} قل يا محمد لقومك: (أؤنبئكم) أي: أأخبركم.
((بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ)) المذكور من الشهوات، وهذا استفهام تقرير.
((لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)) الشرك.
((عِنْدَ رَبِّهِمْ)) خبر مبتدؤه ((جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ)) أي: مقدرين الخلود (فِيهَا) إذا دخلوها.
((وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)) من الحيض وغيره مما يستقذر.
((وَرِضْوَانٌ)) بكسر أوله وضمه، لغتان -أي: قراءتان سبعيتان- أي رضاً كثير.
((مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ)) عالم ((بِالْعِبَادِ)) فيجازي كلاً منهم بعمله.
((الَّذِينَ)) نعت أو بدل من الذين قبله في قوله تعالى: ((للذين اتقوا)).
((يَقُولُونَ)) يا ((رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا)) صدقنا بك وبرسولك صلى الله عليه وسلم.
((فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)).
((الصابرين)) على الطاعة وعن المعصية نعت.
((والصادقين)) في الإيمان.
((والقانتين)) المطيعين لله.
((والمنفقين)) المتصدقين.
((والمستغفرين)) الله بأن يقولوا: اللهم اغفر لنا.
((بالأسحار)) أواخر الليل، خصت بالذكر لأنها وقت الغفلة ولذة النوم.(22/15)
تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو)
قال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
((شهد الله)) أي: علم وأخبر، أو: قال أو بين (أنه لا إله إلا هو) معبود حقيقي.
((والملائكة)) وشهد بذلك الملائكة.
((وأولوا العلم)) وفي مقدمتهم الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشرف أولو العلم.
(وأولوا العلم) وهذه مرتبة جليلة للعلماء، إذ لو كان هناك أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء، ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ))، والعلم هنا المقصود به العلم بالدين وبالعلوم الشرعية كعلم التوحيد وغيره.
هناك حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ويقل العلم ويظهر الجهل)، كما هو الحال في هذا الزمان.
فإذا نظرنا في أحوال الناس نجد أن العلم بالدنيا يزيد، والعلم بالدين يقل، فدلت الآية على أنه إنما أراد بالعلم علوم الآخرة وليست علوم الدنيا.
((قائماً بالقسط)) أي: بالعدل في أحكامه تبارك وتعالى.
((لا إله إلا هو)) كرره تأكيداً.
وليبني عليه قوله: ((العزيز)) فلا يضام جنابه عظمة.
((الحكيم)) فلا يصدر شيء عنه إلا على وفق الاستقامة.
هذا التكرار معروف عند العرب؛ فإذا طال عهدك بالكلام تعيد ما ذكرته حتى تصل الأول بالآخر؛ لأن الكلام هنا طال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] حتى يصلها بالعزيز الحكيم.
هنا يقول السيوطي: (شهد الله) أي: بيّن لخلقه بالدلائل والآيات.
((أنه لا إله)) أي: لا معبود في الوجود بحق.
((إلا هو)) شهد بذلك ((والملائكة)) بالإقرار.
((وأولوا العلم)) من الأنبياء والمؤمنين بالاعتقاد واللفظ.
((قائماً)) بتدبير مصنوعاته، ونصبه على الحال، والعامل فيها معنى الجملة أي: تفرد بذلك.
((بالقسط)) يعني: بالعدل.
((لا إله إلا هو)) كرره تأكيداً.
((العزيز)) في ملكه ((الحكيم)) في صنعه.(22/16)
تفسير قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)
يقول السيوطي: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19].
((إن الدين)) المرتضى.
((عند الله)) هو ((الإسلام)) أي: الشرع المبعوث به الرسل أجمعون المبني على التوحيد.
هل المقصود منه الإسلام العام أم الإسلام الخاص؟ المقصود الإسلام العام ((إن الدين عند الله)) الذي لا يقبل لا من الأولين ولا الآخرين سواه هو الإسلام.
إذاً: الإسلام هو الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء، وهو دين آدم ونوح وموسى وإبراهيم وعيسى، وهو قاسم مشترك في دعوة جميع الأنبياء: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
((وما اختلف الذين أوتوا الكتاب)) أي: اليهود والنصارى في الدين؛ بأن وحّد بعض وكفر بعض ((إلا من بعد ما جاءهم العلم)) بالتوحيد، ما اختلفوا بسبب عدم الحجة أو البيان، وإنما ((بغياً بينهم)) حسداً وظلماً وعدواناً.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي: المجازاة له.
قوله تبارك وتعالى هنا: ((وما اختلف)) في الكلام تقديم وتأخير، والمقصود: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.(22/17)
تفسير قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله)
قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20].
((فإن حاجوك)) أي: خاصمك الكفار يا محمد في الدين.
((فقل)) أي: فقل لهم.
((أسلمت وجهي لله)) أي: انقدت له أنا ((ومن اتبعن)) وخص الوجه بالذكر لشرفه فغيره أولى.
((وقل للذين أوتوا الكتاب)) من اليهود والنصارى.
((والأميين)) مشركي العرب.
((أأسلمتم)) هذا استفهام قصد به الأمر، أي: أسلموا.
((فإن أسلموا فقد اهتدوا)) من الضلال.
((وإن تولوا)) عن الإسلام.
((فإنما عليك البلاغ)) أي التبليغ للرسالة.
((والله بصير بالعباد)) فيجازيهم بأعمالهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.(22/18)
تفسير سورة آل عمران [21 - 41](23/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].
قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ))، وهم اليهود لعنهم الله، فقد قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيال عليه السلام قتله قاض يهودي لما نهاه حزقيال عن منكر فعله.
وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم عليهما السلام، وسعوا بالفعل إلى قتل المسيح عليه السلام، لكن الله عز وجل أنجاه منهم.
ولما كان اليهود الذين في المدينة راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم.
وقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) إشارة أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً، ومعلوم أن مثل هذا القيد لا مفهوم له، أي لا يفهم منه أنه يمكن أن يقتل رجل نبياً ويكون على حق، فمفهوم المخالفة هنا ملغي غير معتبر، بل كل من يقتل نبياً أو يؤذيه فهو بلا شك على غير الحق، ولهذا المفهوم نظائر في القرآن الكريم، وذلك مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فليس معنى ذلك أنه يجوز قتلهم لسبب آخر غير خوف الإملاق؟ ومثل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فليس معنى ذلك أنه يجوز أكل الربا إن كان قليلاً لا يصل إلى أضعاف مضاعفة.
ومثل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، هل يحتمل أن يعبد رجل غير الله ويكون له عنده برهان عليه؟ لا يمكن، فمفهوم هذا لا يعتبر بل هو ملغي.
إذاً: فكل قتل للأنبياء يكون بغير حق، ولكن الحكمة من نصه تعالى هنا على قوله: (بغير حق) الإشارة إلى أنهم يعتقدون أن قتلهم للأنبياء محرم عليهم، وأنه ليس لهم حق في قتلهم.
إن رأس يحيى عليه السلام لما قطعوه أهدوه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
فقتل الأنبياء حرفة يهودية قديمة، فهم مجرمون سفاكو دماء سفاحون، لم تتغير فيهم هذه الطبيعة الخبيثة.
لا شك أن ما هم عليه من قتل الأنبياء بغير حق فكذلك هم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)، وهذا وإن كان في اليهود نزوله، لكنه عام في كل من يتصف بهذه الصفات، فإن قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ بسبب أنهم يأمرونهم بالقسط، أقبح وأسوأ أنواع الكبر، كما قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، وهذا رواه مسلم، فيجمع بين التكبر على الحق وبين غمط الناس وذلك ببخسهم منازلهم وبخسهم حقوقهم، ولهذا لما تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فلذلك قال تعالى: ((فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)).
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ))، وفي قراءة: (يقاتلون).
((بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ))، أي بالعدل.
((مِنَ النَّاسِ))، وهم اليهود روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً، فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم.
(فبشرهم) أعلمهم.
(بعذاب أليم) أي: مؤلم، وذكر البشارة تهكم بهم، ودخلت الفاء في خبر إن لشبه اسمها الموصول بالشرط.(23/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حبطت أعمالهم)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22] يقول السيوطي: قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ))، أي: بطلت.
((أَعْمَالُهُمْ)) ما عملوا من خير كصدقة وصلة رحم.
((فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) فلا اعتداد بها لعدم شرطها، وشرطها هو الإيمان الصحيح.
((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين من العذاب.
فقوله تعالى هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))، أي: بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم أيضاً من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم، ولا ننخدع بالوضع الراهن الذي وصل إليه اليهود قبحهم الله في هذا الزمان، فهذا استثناء ليس هو الأصل، إذا جئنا للأصل والقاعدة: أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا، أما ما نحن فيه فهذا من الأحوال النادرة، باعتبارنا والله أعلم في آخر الزمان وهذا خلاف الأصل.
وما هم عليه اليوم هو من العلو الذي عادوا إليه، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه سيعود لتسليط عباد له أولي بأس شديد عليهم، حتى يؤدبوهم ويذلوهم كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، أما حدوثها في الآخرة فإبدال الثواب بالعذاب المقيم.
((وما لهم من ناصرين)) أي: ليس لهم ناصرون ينصرونهم من عذاب الله.
وقد دلت الآيات على عظم حال من يأمر بالمعروف وعظم مقامه وشرفه عند الله سبحانه وتعالى، ودلت أيضاً على عظم ذنب قاتله، وأن ذنب من يقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ذنب عظيم؛ وذلك لأنه قرنه بالكفر بالله تعالى وقرنه بقتل الأنبياء.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وتدل هذه الآيات على صحة ما قاله بعض العلماء: إن للإنسان أن يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه، أو كان في ذلك تلف نفسه؛ لما يكون فيه من إعزاز دين الله عز وجل وتقوية قلوب أهل الإيمان، وإضعاف قلوب الفاسقين، كما جاء في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).(23/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23].
قوله: ((أوتوا نصيباً من الكتاب)) أي: من التوراة، والمراد بهؤلاء أحبار اليهود.
((يدعون إلى كتاب الله)) وهو هنا القرآن.
((لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ))، هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، إذا قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله.
وفي الآية تعجب واستغراب كيف للإنسان بعد أن علم أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الحكم هو حكم الله عز وجل، ثم يتولى عن ذلك ويعرض عن حكم الله تبارك وتعالى.
((وهم معرضون)) هذا حال من ((فريق)).
((وهم معرضون)) أي: معرضون عن قبول حكمه.(23/4)
وجه حمل لفظ كتاب الله في الآية على التوراة
ومن المفسرين من حمل قوله تعالى: ((يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ))، لا على القرآن فقط كما ذكرنا وإنما حملوه على التوراة أيضاً، حيث أشاروا إلى أن هذا إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التعزير.
يعني: تسويد وجوههم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ))، المقصود بهذا التفسير به أيضاً التوراة، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
هذه القصة مروية في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم ((فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [آل عمران:93]، فوضع الذي كان يقرؤها منهم إصبعه على آية الرجم، فطفق يقرأ دونها وما وراءها، فنزع الرسول عليه الصلاة والسلام يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما صلى الله عليه وسلم فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، يقول ابن عمر: فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة).(23/5)
فوائد وثمرة الآية الكريمة
قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان: الأولى: أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة، وقد قال العلماء رضي الله تعالى عنهم: يستحب أن يقول: سمعاً وطاعة؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]، أو يقول: نعم وكرامة، أو: على العين والرأس، أو غير ذلك من العبارات المهذبة التي تليق بالأدب مع حكم الله سبحانه وتعالى وكتابه، لا كما يقول بعض الأجلاف المعتدين الظالمين من عبارات قد تكفرهم! وزير العري والسفور لما صدر حكم المحكمة من أيام قليلة في قضية الحجاب، أول تصريح بادئ الرأي قال: سنحترم حكم القضاء.
يا خبيث! وأين أنت من حكم الله الذي نزل من فوق سبع سماوات؟! آيات الحجاب التي تعبدنا الله بها في القرآن الكريم، أما تؤمن بها؟! قلها صراحة وأرحنا، ولا تخادع الناس وتقول: أنا مسلم.
كيف يصدر قراراً يمنع الحجاب، ثم بعد ما يفضحه الله سبحانه وتعالى ويصدر الحكم ببطلان هذا القرار، إذا به يستأنف الحكم إصراراً وعناداً على هذه المحادة والمحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذله وأن يقصم ظهره، وأن يريحنا من شره وأمثاله.
الثمرة الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ونزلت الآية مقررة له.(23/6)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24].
((ذَلِكَ)) يعني ذلك التولي وذلك الإعراض.
((بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) الباء هنا سببية يعني: بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم، فهم غروا أنفسهم وخدعوا أنفسهم لما دعوا إلى كتاب تبارك وتعالى ليحكم بينهم، ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) أي: هم يعلمون أنهم آثمون، وأنهم عاصون، لكنهم يغرون أنفسهم ويقولون: حتى لو عذبنا بسبب هذه الأشياء فنحن لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات.
((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: من الكذب والقول الباطل من أنهم لن يعذبوا إلا أياماً معدودات، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل، كما مر نظير ذلك في قوله تبارك وتعالى في أوائل سورة البقرة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، أي: يمنون أنفسهم بهذه الأماني، على ما يقوله لهم أحبارهم من هذه الأماني الكاذبة.(23/7)
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه)
قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:25]، أي: فكيف يصنعون أو كيف تكون حالهم -إذا جمعناهم ليوم- اللام هنا بمعنى في، يعني: في يوم.
((لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك فيه وهو يوم القيامة.
((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)) أي: جزاء ما عملت من خير أو شر.
((وهم لا يظلمون)) الضمير يعود لكل نفس على المعنى، وإلا فالأصل أن يكون الضمير (وهي لا تظلم نفس شيئاً)، لكن لم ينظر إلى اللفظ وإنما نظر إلى المعنى؛ لأن كل نفس تعبر عن عدد كبير، فلذلك قال تعالى: (وهم لا يظلمون)؛ لأنه في معنى كل إنسان، أي: لا يظلمون لا بزيادة عذاب ولا بنقصان الثواب.(23/8)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) والآيتين بعدها
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ)) ألم تنظر: ((إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا)) أي: حظاً.
((مِنَ الْكِتَابِ)) أي: التوراة.
((يُدْعَوْنَ)) هذا حال.
((يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ))، أي: عن قبول حكمه، نزلت في اليهود زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهما بالرجم فأبوا، فجيء بالتوراة فوجد حكم الرجم فيها فرجما فغضبوا.
السيوطي كأنه يميل إلى القول إلى أن لفظ (كتاب الله) في الآية المقصود به التوراة.
قوله: (ذلك) أي: ذلك التولي والأعراض.
((بِأَنَّهُمْ قَالُوا)) أي: بسبب قولهم.
((لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) هنا السيوطي يميل إلى تفسير هذه الأيام المعدودات بأنها أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم.
((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) من قولهم ذلك.
إذاً: إعراب كلمة ((ما)) في قوله تعالى: ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) هو أنها اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل رفع فاعل.
((فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ)) يعني: كيف يكون حالهم إذا جمعناهم في يوم.
((لا رَيْبَ)) أي: لا شك ((فِيهِ)) وهو يوم القيامة: ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ)) من أهل الكتاب وغيرهم جزاء ((مَا كَسَبَتْ)) عملت من خير وشر، ((وهم)) أي: الناس ((لا يظلمون)) بنقص حسنة أو زيادة سيئة.(23/9)
تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء بغير حساب)
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
(قل اللهم مالك الملك) أي: مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود بحيث يتصرف فيه كيفما يشاء، إيجاداً وإعداماً، وإحياء وإماتة، وتعذيباً وإثابة، من غير مشارك ولا ممانع.
(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هذا بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة، فلا يوجد مالك في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، ما الذي عندك؟ لا الملك ولا الرياسة ولا الحكم، ولا حتى أرواحنا التي بين جنبينا ما هي إلا ملك لله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون.
(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هي تؤكد ما قبلها وتحققه وتجزم به، ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ))، يعني أنت المالك لهذا الملك كله على الحقيقة، وملكيتك له ملكية كاملة وتامة وشاملة لا يشاركك فيها أحد، ولا يمانعك فيها أحد.(23/10)
أسباب الحصول على الملك وأسباب نزعه
(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) فكلمة: (تؤتي) الذي يؤتي الملك هو الله الذي يملك كل ما في الدنيا وكل ما في هذا الوجود، فهو الذي يعطي، فلذلك أثر في النظم الكريم لفظ: (تؤتي) على لفظة (تملك) إشارة إلى أن مالكية غيره هي على سبيل المجاز، أما الملكية الحقيقية فهي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بعض السلف إذا سئل عن شيء معين كان يملكه، يقول: هي لله عندي، ويتحرج أن يقول: هي ملكي.
يقول تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، لم يقل: أن استغنى؛ لأنه في الحقيقة يظل فقيراً إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنه يرى نفسه أنه استغنى، وهو لا يملك شيئاً في الحقيقة وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بأن الملك يناله من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب؛ لأن العرب كانت من أذل الأمم قبل الإسلام، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا لله)، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل وذلك عندما رأى كأنه ينظر في النجوم وقال لهم: إني أرى ملك الختان قد ظهر، فقالوا له: إنه لا يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم.
وفسر ذلك بأنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
كانت الأمم كلها تحتقر العرب وكانوا في أذل الأوضاع وفي ذيول الأمم، فالله سبحانه وتعالى اصطفى أمة العرب بهذا الدين، وأعزها بهذا الدين كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، أي فيه رفعة شأنكم ومجدكم، فإذا كفرت هذه الأمة بنعمة الله سبحانه وتعالى، فمن عدل الله فيها أنه يعيدها إلى ما كانت عليه من قبل، وهو الذل والهوان والصغار، ولا يترجم لهذا المعنى شيء أبلغ مما نحن فيه الآن من الذل والصغار والدمار الذي حل على هذه الأمة لما تخلت عن دينها، وبحثت عن العزة في غير جناب ربها تبارك وتعالى، يتذللون على أعتاب أمريكا وعلى أعتاب الغرب وغيرهم الكفار، ويتمسحون بأحذيتهم، ومع ذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فهاهم المسلمون في البوسنة والهرسك ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، فهم في انحراف شديد جداً عن الإسلام ما بين خمر وفواحش وفساد في النساء وفي الرجال، وعدم صلاة وغفلة عن الدين إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما رضي عنهم الغرب، وعاملهم على أنهم ما زالوا أعداء لهم.
فهم لم يعودوا إلى دينهم، فكذلك كل هؤلاء الذين يبتغون العزة في غير جناب الله لم يجدوا إلا الذل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)، قد يقول قائل: كيف يعيش الغرب الكافر في ذل وصغار مع أنهم يعيشون في قصور، ويعذبون الناس، ويجولون في الأرض متكبرين مغرورين يتقلبون فيها كيفما يشاءون؟ نقول: مهما أظهروا من العزة فهم في الحقيقة مهزومون في أنفسهم.
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم الخيول، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
لا يمكن أبداً لهذا الذي يحارب دين الله سبحانه وتعالى أن يكون آمناً، لابد أن يكون في قلبه انهزام، ومهما أظهر من عناد أو تبجح أو إصرار على محاربة الله ورسوله فهو في الحقيقة ذليل حقير، ولابد أن يكون منهزماً ومغموراً بالذل، لكن عندما تكون إنساناً ضعيفاً وأنت متوكل على الله سبحانه وتعالى موحد لله، طائع لله، قائم بحق الله، أنت أقوى منه وأعز، حتى وإن كان في أبهته وغروره وزينته.
فالشاهد الذي دفعنا إلى هذا: أن الله سبحانه وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أن العرب كانوا أحقر أمة، ومن آياته أنه آتاهم ملكه وائتمنهم على دينه، وجعلهم سادة العالم كله حتى امتدت دولتهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في مدة وجيزة جداً تقل عن خمسين سنة.
الدولة الإسلامية انطلقت من قلب الجزيرة العربية وحطمت تماماً فارس والروم، وامتدت شرقاً وغرباً حتى تغلغلت في أحشاء سويسرا، ودخلت على حدود فرنسا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
من الذي آتى هذه الأمة الضعيفة المهينة الذليلة هذا الملك؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى: ((تؤتي الملك من تشاء)) إشعار بأن الله ينيل ملك فارس والروم للعرب، مع أنهم كانوا من أبعد الأمم عن الملك، حتى ينتهي الأمر إلى أن يطلب الله الملك من جميع أهل الأرض، وذلك بظهور ملك يوم الدين، فآتى الله هذه الأمة الملك والتمكين على سائر الأمم؛ بسبب تمسكها بالدين، وإقامة دين الله تبارك وتعالى.
يقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، فكما هو معلوم أن أقوى مؤثر في الإنسان هو مؤثر البيئة المحيطة به (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولا يوجد شيء يغلب تأثير البيئة إلا شيئاً واحداً فقط وهو العقيدة والدين.
تجد أن الناس في هذه البيئة كسالى مقصرون خاملون متخلفون، فلم يلغ هذه الصفات ولم يطهرهم من هذه الرذائل إلا الإسلام، فإذا تخلوا عن الدين فإنهم سيعودون إلى الوضع الأصلي، وهذا ما نحن فيه الآن، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدينه ويعيد المسلمين إلى عزهم ومجدهم.(23/11)
تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل)
قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] ((تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ))، أي: تدخل أحدهما في الآخر؛ إما بالتعقيب وإما بالزيادة أو بالنقص.
((وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ))، كالحيوان من النطفة والنطفة منه، والبيض من الطير وعكسه، وقيل: ((تخرج الحي من الميت)) أي: تخرج المؤمن الحي من صلب الكافر الميت.
قال القفال: والكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقد قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه} [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فهديناه، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة، وأخرج النبات من الأرض فصارت حية وكانت قبل ذلك ميتة فقال: {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، وقال: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر:9]، وقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، أي: ترزق رزقاً واسعاً غير محدود من غير تضييق ولا تقصير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، يعني: لا يحسب ما يعطيه، فكذلك هنا قال تعالى: ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).(23/12)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك) والآية بعدها
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ونزلت لما وعد صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون: هيهات! يعد أتباعه ملك فارس والروم، فنزل قوله تعالى: (قل اللهم) يعني: يا ألله (مالك الملك) أي: يا مالك الملك.
(تؤتي الملك) أي: تعطي الملك (من تشاء) من خلقك.
(وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء) تعزه بإيتائه الملك.
(وتذل من تشاء) أي: بنزعه منه (بيدك) أي: بقدرتك.
السيوطي فسر اليد بالقدرة، وهذا تأويل باطل بلا شك.
(بيدك الخير) أي: والشر.
قوله: أي: والشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق الخير وهو الذي يخلق الشر، وإن كان لا يحب الشر، ولا ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى.
(إنك على كل شيء قدير).
(تولج) أي: تدخل (الليل في النهار وتولج النهار) أي: تدخله (في الليل) فيزيد كل منهم بما نقص من الآخر.
(وتخرج الحي من الميت) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة.
(وتخرج الميت) كالنطفة والبيضة (من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) أي: رزقاً واسعاً.(23/13)
تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء والله رءوف بالعباد)
قال تبارك وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:28 - 30].
(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) أولياء جمع ولي ومعانيه كثيرة منها: المحب والصديق والنصير.
قال الزمخشري: نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرر ذلك في القرآن، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، لذلك قال بعض الصحابة محذراً: (ليحذر أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، وتلا هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، إلى آخر الآية).
والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] إذا فقد موضوع الولاء والبراء من قلوب الناس فإنه ستقع فتنة وفساد كبير جداً، إن قضية الولاء والبراء من أكثر القضايا التي تظاهرت عليها الأدلة في القرآن والسنة بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، فهي أصل متين من أصول الدين، لكن في ظل العلمانية التي تزخر بها وسائل الإعلام الآن، وفي ظل دعاوى حقوق الإنسان المزعومة، تعتبر التفرقة على أساس الدين جريمة، أما الإسلام فيفرق -لا التفرقة العنصرية- لكنه تفريق على أساس الدين؛ لأنه يقسم الناس إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن يحب في الله ويبغض في الله، فإذا انهار هذا الجدار وقع الفساد، كما قال تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، وذلك كما نرى اليوم، فإن انهيار هذا الحاجز بين المسلمين والكافرين أدى إلى التمييع والذوبان بين الحق والباطل بحيث يلتبس على عامة الناس.
قوله: (من دون المؤمنين) أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، والمعنى: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان؛ لأنه كلمة (دون) تستعمل في المكان، فتقول: مثلاً: زيد دونك، أي: تحتك، وأنت لست تريد المكان، وإنما تريد أن زيداً دونك في الشرف، فجعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخِسّة كالاستفال في المكان؛ ولذلك قال تعالى هنا: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)).
وقوله تعالى: (من دون المؤمنين) أي: حال كونكم متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً، بمعنى: أن يترك المؤمنين ويوالي الكافرين، أو يوالي المؤمنين ويوالي معهم المشركين، فلا ينبغي لمؤمن أن يوالي ويحب بقلبه وجوارحه أعداء الله تبارك وتعالى.
ففيه إشارة إلى أن الأحق بالموالاة هم المؤمنون، وأنهم الذين يستحقون الموالاة، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة.
قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) أي: أن من يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء، فالله سبحانه وتعالى بريء منه وهو يفعل ذلك؛ لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان، كما يقول بعض الشعراء: تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب أي: تحب عدوي ثم تزعم أنني صديقك، ليست الحماقة عنك ببعيدة.
قوله تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) أي: إلا أن تخافوا منهم محذوراً، فأظهروا لهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه؛ لأن البغض بالقلب فرض عين على المسلم في كل حال؛ لكن يجوز إظهار الموالاة تقية إذا خشي على نفسه بشرطه.
كما روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم)، يعني: تقية.
فثمرة هذه الآية: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) هو تحريم موالاة الكفار.
إذاً: هناك مسالك محددة يستنبط منها الحكم بالتحريم.
والدليل على التحريم في هذه الآية هو النهي المستفاد من قوله: (لا) وهي هنا ناهية.
ومن أقوى ما يستفاد منه التحريم قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) أي: من يوالي الكفار، ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) وقضية البراء من الكفار وبغضهم في الله سبحانه وتعالى من أخطر الفتن التي يتعرض لها الناس، فلا شك أن الناس يتأثرون كثيراً بهذا الواقع.
فتضيع معالم الدين بسبب الإلحاح والتكرار على هذه المبادئ وهذه الديانة الجديدة التي طلعت تحت مسمى: حقوق الإنسان، ونحن قد ذكرنا من قبل أن أعظم حق من حقوق الإنسان هو ألا يحال بينه وبين هذا الدين، وأن من حق كل إنسان أن يسمع سماعاً صحيحاً عن الإسلام، وأن كل من يشوه الدين أو يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى أو ينفر الناس من دين الله عز وجل، فهو منتهك لأعظم حق من حقوق الإنسان.(23/14)
تفسير قوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:29].
هذا توعد لمن أراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم أو إظهارها، أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الكفر.
وهذا فيه تخويف للناس من أن يقعوا في ذلك.(23/15)
تفسير قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً)
قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
قال تبارك وتعالى من قبل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]؛ وقال هنا أيضاً: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] فكرره؛ ليكون على بالهم ولا يغفلون عنه.
وقيل: التكرار هنا ليس للتأكيد فحسب، بل فيه إشارة إلى أن تحذير الله سبحانه وتعالى في قوله: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ))، باعثه، والدافع له هو رأفة الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده؛ لأنه سبحانه وتعالى غني عن تعذيبهم، قال عز وجل: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147]، الله سبحانه لا يريد أن يهلككم أو يعذبكم؛ لأنه رحيم بكم، ورءوف بكم، ومن رأفته أنه يحذركم نفسه حتى لا تتعرضوا لعقابه، وكذلك قال: ((وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)).(23/16)
تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون) إلى قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس) الآيات
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)) أي: يوالونهم.
((مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: من غير المؤمنين.
((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) أي: يواليهم.
((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) أي: ليس من دين الله في شيء.
((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) مصدر تقيته، أي: تخافوا مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التقاة: التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان)، رواه البيهقي في السنن والحاكم وغيرهما.
وهذا قبل عزة الإسلام، ويجري حكم التقية في كل بلدة ليس الإسلام قوياً فيها.
((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) أي: يخوفكم الله نفسه أن يغضب عليكم إن واليتموهم.
((وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) أي: المرجع فيجازيكم.
((قُلْ إِنْ تُخْفُوا)) أي: قل لهم إن تخفوا.
((مَا فِي صُدُورِكُمْ)) أي: ما في قلوبكم من موالاتهم.
((أَوْ تُبْدُوهُ)) أي: تظهروه.
((يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ)) يعني: وهو يعلم ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ومنه تعذيب من والاهم.
ثم يقول تعالى: ((يَوْمَ تَجِدُ)) أي: اذكر: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ))، أي: ما عملته ((مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ)) أي: ما عملته ((مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا))، أي: أن النفس التي عملت السوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
فإذاً: (وما عملت) ما: هنا مبتدأ خبره: (تود) ((لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا))، يعني: غاية في البعد فلا يصل إليها.
((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) كرر للتأكيد: ((وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)).(23/17)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، أي: قل لهم يا محمد: ((إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)).
يقول السيوطي: إن معنى يحببكم يثيبكم، وهذا التأويل مرفوض وغير مقبول؛ لكن منهج السلف في هذا إثبات صفة المحبة لله عز وجل.
((وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) أي: إن اتبعتموني يغفر لكم ما قد سلف.
((رَحِيمٌ)) أي: رحيم بكم.(23/18)
تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول)
قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ)) أي: قل لهم: أطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به من التوحيد.
((فَإِنْ تَوَلَّوْا)) أي: أعرضوا عن الطاعة.
((فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))، فيه إقامة الظاهر مقام المضمر؛ والمقصود أن الله لا يحبهم، لكن أبرز صفة الكافرين إيماءً إلى أن سبب بغض الله سبحانه وتعالى أو عدم محبته لهم هو هذا الكفر.
لم يقل: (فإن تولوا فإنه لا يحبهم)؛ لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره، أنشد سيبويه يقول: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقير فحين عظم الموت فكرر ذكره.
يؤخذ من هذه الآية: أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر، إذ لو كان محباً له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة قد تجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر: لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع وعمر بن أبي ربيعة المخزومي يتكلم عن محبوبته ويقول: ومن لو نهاني من حبه عن الماء عطشان لم أشرب يعني: أنه لو نهاني -من حبه- عن الماء، وقال لي: لا تشرب، وأنا عطشان وأعاني الظمأ الشديد لم أشرب؛ طاعة ومحبة لامتثال أمره.
وقد أجاد من قال: قالت وقد سألت عن حال عاشقه بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد فإذا كان هذا في مخلوق ضعيف يحبه إنسان فيطيعه هذه الطاعة، فكيف بطاعة الله سبحانه وتعالى؟! يقول: (قالت وقد سألت عن حال عاشقها) أي: سألت صديقاً لعاشقها يعرف أحواله وأخباره فتقول: بالله صفه ولا تنقص ولا تزد، فأجابها بهذا
الجواب
( فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ) أي: لو كان يكاد يموت من شدة العطش، وكنت أنت حاضرة، وقلت له: قف عن ورود الماء لم يرد.
أي: أنه يقدم طاعتك التي فيها الموت على الحياة التي فيها معصية لأمرك مع شرب الماء.
قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة.(23/19)
تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33].
قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى)) أي: اختار للنبوة، أو اصطفى بالنبوة آدم ونوحاً.
(وآل إبراهيم وآل عمران)، بمعنى: أنفسهما، ولا شك أنه لا يفهم من الآية أن هذا الاصطفاء لكل من انحدر من ذرية هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وإنما المقصود الثناء على المؤمنين منهم والصالحين، ولا يدخل في هذا الثناء من كفر بالله تبارك وتعالى من ذرية إبراهيم وعمران.
وآل إبراهيم: هم عشيرته وذوو قرباه، وهم: إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما، ولا شك أن من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يدخل في الاصطفاء بطريق الأولى، وعدم التصريح به اختلف فيه المفسرون؛ ولم يصرح الله تبارك وتعالى هنا بأفضلية محمد صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الأنبياء المذكورين عليهم السلام؛ للإيذان باستغنائه صلى الله عليه وسلم عن أن يذكر في هذا السياق؛ ولكمال شهرة أمره في الخلة، فإن الله سبحانه وتعالى اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولشهرة مقامه الشريف حتى على لسان من سبقه من الأنبياء، فإنه كما قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: (أنا دعوة أبي إبراهيم)، والمقصود دعوته التي سبق الكلام عليها في سورة البقرة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] إلى آخر الآية، فلشدة شهرته بأنه أفضل خلق الله سبحانه وتعالى أجمعين، أو أفضل بني آدم على الإطلاق لم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر هنا في هذا السياق.
أو لم يذكر؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم جاوز مرتبة الاصطفاء، وارتفع على جميع الأنبياء والمرسلين، فالرسل عليهم الصلاة والسلام خلقوا للرحمة، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلق بنفسه رحمة ولم يخلق للرحمة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وكما جاء في بعض الأحاديث قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة)، ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى أماناً للخلق مؤمنهم وكافرهم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه الله أمنت البشرية كلها من العذاب الذي يستأصل هذه البشرية، فلن يهلك الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بسنة عامة، أو بعذاب عام يستأصلهم كما حصل للأمم الكافرة من قبلهم.
إذاً: هو داخل في هذا الاصطفاء بطريق الأولوية، وإنما استغني عن ذكره؛ لأن رتبته أعلى من مجرد الاصطفاء المذكور هنا.
((وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ)) اصطفى آل عمران؛ لأنه جعل فيهم عيسى عليه السلام؛ لأن من آل عمران عليه السلام عيسى، وعمران هنا هو والد مريم التي هي أم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
((عَلَى الْعَالَمِينَ)) أي: عالمي زمانهم، أما الذي فضل على العالمين بإطلاق فهو نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله (عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: بجعل الأنبياء من نسل هؤلاء المذكورين، ويستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين؛ لأن العالم يشمل الأنبياء ويشمل الملائكة، فهذه الآية مما يحتج به لمذهب من فضل الأنبياء عليهم السلام على الملائكة.(23/20)
تفسير قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض)
قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34].
((ذريةً)) أي: نسلاً.
((بعضها من بعض)) أي: أن هذه الذرية مسلسلة في وراثة هذا الاصطفاء؛ وأن بعضها من ولد بعض.
((وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).(23/21)
تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً)
قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35] ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ)) أي: اذكر إذ قالت امرأة عمران، واسمها: حنة، لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله عز وجل، فلما أحست بالحمل قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
(إِنِّي نَذَرْتُ) أي: نذرت أن أجعل، (لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).
يقول الزجاج: كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، وهذا في شريعتهم، أي: لو أن الأب نذر ابنه للتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى كان على الولد أن يطيع أباه في ذلك، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في مكان العبادة.
وقال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثلما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان إن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح مثل هذا النذر.
وانظر إلى قولها: ((ما في بطني)) ولذلك قدر السيوطي -وهذا من دقته في التفسير- في الجملة السابقة: ((إذ قالت امرأة عمران)) قال: لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله وأحست بالحمل، فقوله: أحست بالحمل، استنبطها من قولها: ((ما في بطني)) لأنها أحست بهذا الحمل.
((محرراً)) أي: عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس.
هذا التعبير في غاية الدقة في الحقيقة، فهو يتحرر من أن يعبد الدنيا، ويتذلل في طلبها؛ ليكون خالصاً لعبادة الله وحده.
معنى قولها: ((نذرت لك ما في بطني محرراً)) أي: نذرته وقفاً على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري، فلم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم؛ لأن الناس يطمعون من وجود الذرية إشباع ما في الفطرة من الاستئناس بالأولاد، كذلك أيضاً الاستنصار بهم، والاستعانة بهم، فهي تنازلت عن حظ نفسها من هذا الولد.
يقول العلماء: وهكذا على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلبه بالوجه الذي طلبت امرأة عمران وطلب زكريا حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] أي: صالحة.
وما سأل إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
وقال تعالى في دعاء عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] هبة من الله سبحانه وتعالى.
فهكذا الواجب أن يطلب الولد لا من أجل الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم، فانظر إلى امرأة عمران لما منّ الله تعالى عليها بالولد نظرت أن حظها من الأنس به متروك، فنذرته على خدمة الله تعالى في مكان العبادة، وهذا نذر الأحرار من الأبرار.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: وأرادت بقولها: ((محرراً)) أي: محرراً من رق الدنيا وأشغالها.
وهذه إشارة إلى أن من لا يشتغل بطاعة الله سبحانه وتعالى اشتغالاً محضاً فهو لا بد له من نوع من الاسترقاق لمطالب الدنيا ومآربها، ويشبه هذا ما حكاه القرطبي أيضاً عن رجل من العباد أنه قال لأمه: يا أمه! ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت: نعم، فسار حتى تبصر، ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت: من؟ فقال لها: ابنكُ فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك.
هذه القصة قد يكون فيها شيء من النظر.
و ((محرراً)) كما ذكرنا مأخوذ من الحرية، والحرية ضد العبودية، ومن هذا تحرير الكتاب، يقال: الكتاب الفلاني حرره المصنف الفلاني، وخلصه من الاضطراب والفساد، والمحرر: هو الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، تقول: طين حر، أي طين لا رمل فيه، وهناك عبارة مشهورة عند الناس يقولون: ذهب حُر، أي: لم يخالطه النحاس ولا غيره.
((فَتَقَبَّلْ مِنِّي))، التقبل: هو أخذ الشيء على وجه الرضا.
((إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ)) أي: السميع للدعاء، والمقصود بالسميع هنا هو المجيب، كما تقول في الصلاة: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله سبحانه وتعالى.
((الْعَلِيمُ)) أي: بالنيات.(23/22)
تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى)
قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] قال بعض المفسرين: هلك عمران بعد ذلك وهي حامل، كلمة هلك تأتي في سياق الذم، كما تقول: هلك الطاغوت الفلاني مثلاً، لكن قد يعبر بها أحياناً عن الموت، كما قال تبارك وتعالى حاكياً على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]، كذلك قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176] أي مات؛ ولذلك يشيع في مسائل الميراث هلك هالك عن كذا وكذا.
((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا)) أي: ولدتها جارية.
يعود الضمير في قوله: ((وضعتها)) إلى مذكور من قبل في الآية السابقة: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} [آل عمران:35 - 36]، الضمير يعود إلى؟ إلى ((ما)) التي في قولها: ((ما في بطني محرراً)) والأصل أنه يكون مذكراً؛ لكن أنث على المعنى؛ لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله.
أو يكون على تأويل: ((فلما وضعتها)) أي: هذه النسمة أو هذه النفس، وهي مؤنث.
((فلما وضعتها)) أي: ولدتها جارية، وكانت ترجو أن يكون غلاماً، إذ لم يكن يحرر إلا الغلمان، قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] إما أنها قالت ذلك على سبيل الاعتذار، أو أنها تحسرت؛ لأنها كانت أنثى، إذ جهلت قدرها، ولو علمت أم مريم عليها السلام قدر مريم لما تحسرت، لكن إن قلنا: إنها تحسرت فيكون ذلك على أنها جهلت قدر مريم عليها السلام.
((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ)) أي: معتذرة أو متحسرة، إذ جهلت قدرها: ((رَبِّ)) أي: يا رب، ((إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)) أي: أن الله عالم بما وضعت.
وفي قراءة: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتُ))، بضم التاء، أو: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتِ)) بكسر التاء على أنه خطاب من الملائكة.
((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ))، هذه جملة اعتراض من كلامه سبحانه وتعالى.
((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى))، أي: ليس الذكر الذي طلبتُ كالأنثى التي وهبت؛ لأن الذكر يحرر ويقصد للخدمة، والأنثى لا تصلح لها؛ لضعفها وعورتها، وما يعتريها من الحيض ونحوه، مما يمنع أن تتفرغ لهذه العبادة.
((وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ))، ومريم في لغتهم هي العابدة، سمتها بذلك تفاؤلاً ورجاء أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها.
وهكذا ينبغي عند اختيار الأسامي أن يتفاءل الإنسان عندما يسمي ابنه أو بنته، عسى أن يكون مثل هذا المسمى.
((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا)) أي: أولادها، ولم يكن لها من الذرية سوى المسيح عليه السلام.
((مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) بمعنى: المرجوم المطرود، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، وهذا رواه الشيخان وغيرهما.
فقوله: (ما من مولود يولد): هذا يعم كل مولود بما في ذلك الأنبياء والمرسلين، وإلا لما كان لاختصاص مريم وعيسى عليهما السلام بهذا الأمر معنى.
ليس معنى ذلك: أن الشيطان إذا نزغ أو نفث في خاصرة هذا المولود أنه يكون مسلطاً عليه؛ لا يشترط ذلك؛ لأن الأنبياء معصومون من ذلك: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] لكن هو عبارة عن إعلان بالعداوة منذُ اللحظة الأولى، لا شك أن هذا الصراخ الذي يحصل من الطفل المولود عند ولادته له سببان: السبب الأول: سبب مادي يمكن التوصل إليه بالخبرات البشرية والعلم البشري، فلذلك تركه الله سبحانه وتعالى للأطباء والمتخصصين في هذا المجال، برقي علمهم يكتشفون هذه الأسباب، وفوائد الصراخ بالنسبة للمولود وغير ذلك.
السبب الثاني: وهو السبب الغيبي الذي لا يمكن أن يدرك بالحواس، ولا بتجارب ولا بعلوم مادية تترقى من وقت لآخر، فهو سبب غيبي لا نراه؛ ولذلك أخبرنا عنه الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً)، كما جاء في بعض الروايات: (يصرخ)، لماذا يصرخ؟ السبب الذي لا نستطيع أن نعرفه إلا من طريق الوحي، هو هذا الذي ذكره عليه الصلاة والسلام، وهو: (أن الشيطان يعلن له العداوة منذُ اللحظة الأولى فينخسه ويطعنه في خاصرته أو في جنبه فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه، استجابة لدعوة امرأة عمران حينما قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، فهذا الحديث يدل على إجابة هذه الدعوة.(23/23)
تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن)
قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا)) أي: قبل مريم من أمها، والقبول هو أخذ الشيء على وجه الرضا.
((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)) يعني: أنها صالحة؛ لأن تكون محررة، وأن امرأة عمران وفت بنذرها، وذلك كما جاء في بعض التفاسير: أنها لفتها في خرقة وأرسلتها إلى المسجد، وورد أنها ربتها حتى كبرت وصلحت لخدمة المسجد فأرسلتها؛ لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لم يفته أن ينوه على شيء مهم جداً قال: حتى لو كانت تصلح في شريعتهم أن تقوم بخدمة المسجد، فلعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام.
واستدل بالحديث المتفق عليه: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت) والحديث معروف، فمعنى ذلك: أن هذا كان في بداية الإسلام، وفي صدر الإسلام؛ كذلك كانت المرأة تصلح أو الأنثى تصلح في شريعتهم لمثل هذا، ولم يكن الحجاب بنفس الصورة في الإسلام موجوداً عندهم، فلأجل ذلك كانت في المسجد، والله أعلم.
بعض القضايا نريد أن نتوقف عندها قليلاً: فأولى هذه القضايا: قوله تعالى هنا: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، يخبرنا سبحانه وتعالى بهذه القضية السالبة، والكفرة والملحدون الآن يقولون: بل الذكر كالأنثى فيجعلونها موجبة، فلا شك بعد قول الله سبحانه وتعالى في صدق هذه السالبة، وكذب هذه الموجبة.
((فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا))، أي: أنشأها بخلق حسن.
وجاء في التفسير أنها من حيث معدل النمو قد كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام، وأتت بها أمها.
وهناك تفاسير أخرى لقوله تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي: بجعل ذريتها من كبار الأنبياء.
والتفسير الأول يحتاج إلى دليل مرفوع.
أما التفسير الثاني فقد جعل الله من ذريتها المسيح عليه السلام من أولي العزم من الرسل ومن كبار الأنبياء.
قال الزمخشري عند قوله تعالى: ((وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)) مجاز عن التربية الحسنة، هي العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، كالصلاح والسداد والعفة والطاعة.
وأتت بها أمها الأحبار سدنة بيت المقدس، فقالت: (دونكم هذه النذيرة خذوها، فتنافسوا فيها؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم عمران، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع.
فالأقرب أنهم تنافسوا أيهم يكفل مريم تنافساً في الخير؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون ذلك ويتنافسون عليه، لا كما زعم بعضهم أنهم أصابهم فقر، وتنازعوا فيمن يتحمل نفقتها كأنهم كانوا متضررين من ذلك، فحسماً للنزاع اقترعوا.
هذا بعيد! فقال زكريا: (أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، ومن غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها، فثبت قلم زكريا، فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تعالى: ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)) [آل عمران:37])، أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضاً كان له مثل هذه الكرامة، وذلك عندما كان مأسوراً عند الكفار، فكان يوجد عنده قطف من العنب في الشتاء، والله أعلم.
((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)) أي: ضمها إليه، أصل كلمة: ((زكريا)) تذكار الرب، يعني: تذكر الرب سبحانه وتعالى، وهي تقرأ: ((زكريا)) أو (زكرياء) والمكفل هو الله سبحانه وتعالى: ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا))، إذاً: إعراب زكريا مفعول ثان.
((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ))، المحراب: هو أشرف المجالس؛ لأن المحراب هو الغرفة والموضع العالي، وهو سيد المجالس ومقدمها وأشرفها.
وسمي محراب المسجد بهذا الاسم؛ لانفراد الإمام فيه وبعده عن القوم يقال: فلان حرب لفلان؛ يعني: إذا كان بينهما مباغضة ومباعدة وخصام، فيعبرون عن ذلك بكلمة: (حرب) لأن فيه معنى البعد.
وقيل: المحراب مأخوذ من المحاربة؛ لأن المصلي يحارب الشيطان، ويحارب نفسه بإحضار قلبه.
وعلى أي الأحوال فالمحراب المقصود به أنه أشرف الأماكن وأكرم المواضع من المجلس، وأشرف المسجد هو مقام الإمام.
((كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ))، (كلما) صيغة عموم تعم الوقت كله، أي: كلما دخل الغرفة ((وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)) أي: من أين لك هذا؟ ((قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، مع أنها كانت صغيرة؛ لكنها أجابت هذه الإجابة التي تفصح عن يقينها وإيمانها، بالله عز وجل، ((هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) أي: أنه يأتيني به من الجنة.
ثم ذكرت التعليل؛ حيث قالت: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، الحساب هنا بمعنى: التضييق والتقتير.
فقولها: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ))، فيه كرامة لـ مريم عليها السلام.
((بِغَيْرِ حِسَابٍ)) أي: رزقاً واسعاً بلا تبعة، أو ((بِغَيْرِ حِسَابٍ)) أي: بغير تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق تفضلاً منه تبارك وتعالى ومحض فضل ومنّة من الله عز وجل.(23/24)
تفسير قوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه)
قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38].
زكريا عليه السلام رأى هذه الآية وهذه العلامة على قدرة الله سبحانه وتعالى، فلما رآها قد رزقها الله سبحانه وتعالى شيئاً في غير حينه وفي غير أوانه وكان يتوق إلى الولد، حينها طمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، فلما سمعها تقول له ذلك: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37].
((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ))، أي: أنه طمع في أن يحقق الله سبحانه وتعالى له ما يصبو إليه؛ لأنه لما رأى أن الله سبحانه وتعالى رزقها الفاكهة في غير حينها، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير حينه قادر على الإتيان بالولد حين الكبر، وكان أهل بيته انقرضوا.
((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ))، أي: لما دخل المحراب للصلاة في جوف الليل: ((قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ)) أي: من عندك، ((ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)) أي: ولداً صالحاً.
((إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)) أي: مجيب الدعاء.(23/25)
وقفة مع قوله تعالى: (هب لي ذرية)
نود أن نقف وقفة عند قوله تعالى: ((هَبْ لِي)).
نقول: إن الذرية هبة من الله سبحانه وتعالى، ونعمة من الله عز وجل لا ينبغي أبداً السعي في إنقاصها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم زدنا ولا تنقصنا)، والملحدون اليوم يقولون: اللهم انقصنا ولا تزدنا، هؤلاء سفهاء العقول والأحلام، حالهم وطريقتهم في التعامل مع ما يسمونه: الانفجار السكاني، يريدون بذلك أن يستروا خيبتهم وفشلهم وتآمرهم على شعوبهم باسم الانفجار السكاني، وكأن الناس لم تخلق إلا بأفواه فقط لتأكل، ولم تخلق معها أيدي تعمل وتكتسب! قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق أي: أن عقولهم هي الضيقة.
فحالهم كحال شخص عنده ثوب، هذا الثوب قصير عليه جداً، فيريد أن يحل مشكلة الثوب القصير! فيقوم ببتر ساقيه حتى يناسب طول الثوب! مثلاً: في مصر بلد الخير والفضل العميم من الله سبحانه وتعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] بكل ما فيها من الخير، فإنه لا يستثمر من أرض مصر ويستغل إلا بنسبة قد لا تصل إلى (5%) من مساحة الجمهورية كلها، ثم نشكو بعد ذلك ضيق الرزق، إنما هو ضيق العقول والتآمر على المسلمين.(23/26)
تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب)
قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39].
((فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ))، قيل: الملائكة على ظاهرها، وقيل: المقصود بها: ملك واحد وهو جبريل عليه السلام.
((وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)) أي: المسجد أو مكان العبادة.
((أَنَّ اللَّهَ)): يعني: بأن الله، وفي قراءة بالكسر: بتقدير أن الملائكة أو أن جبريل قال: (إن الله).
((يُبَشِّرُكَ))، إما يُبشِّرُك، أو يَبْشُرك، البَشَرة هي ظاهر الجلد.
((بِيَحْيَى))، يحيى أصلها في لغتهم: يوحنا، ومعناها في نعمة الرب.
((مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) أي: بكلمة كائنة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة: كن؛ لأن هناك آية أخرى فصلت ما هي هذه الكلمة كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) أي: يحيى، مصدقاً بعيسى أنه روح الله وأمره وكلمته؛ لكن روح المسيح كباقي أرواح المخلوقات، أي أن قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] ليس المقصود البعضية أو الجزئية والعياذ بالله، لا يمكن أبداً أن يكون المسيح جزءاً من الله سبحانه وتعالى معاذ الله، هذا كفر بلا شك.
لكن المقصود بـ (من) هنا، مِن الابتدائية أي: أن ابتداء خلقه منه سبحانه وتعالى، وذلك كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] هل كل ما في السماوات والأرض جزء من الله؟! لا، لكن ابتداء خلقها من الله، كذلك قوله: ((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) هي (كن).
أما قوله: ((وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)) [السجدة:9]، فكل مخلوق ينفخ الله فيه من روحه، وهذه الروح مخلوقة بلا شك خلقها الله، كما تقول: بيت الله، ناقة الله، هذه إضافة تشريف، فروح الله يعني: الروح التي خلقها الله له.
ويقول تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9].
((وَسَيِّدًا)) أي: متبوعاً يسود قومه ويفوقهم ((وَحَصُورًا)) أي: ممنوعاً من النساء من غير علة، بمعنى: أنه لا يرغب فيهن؛ بسبب اشتغاله بطاعته لله سبحانه وتعالى وعبادته، فإنما يمتنع من ذلك عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة؛ لأن هذا بلا شك وارد في سياق الثناء على يحيى عليه السلام، فالثناء يكون بالأمر المكتسب، لا بالأمر الجبلي، بهذا يبطل قول بعض المفسرين: إنه كان عنيناً لا يأتي النساء.
وصيغة (حصور) بوزن فعول، وهي بمعنى: حاصر، أي: أنه يحصر نفسه عن الشهوات، ونقول: إن هذا لعله كان في شرعهم، أما شرعنا فهو بخلاف ذلك، فإنه لا يمدح الإنسان بالزهد في هذا الأمر، بل بالعكس حرض نبينا صلى الله عليه وسلم على هذا، ونهى عن التبتل كما نهى عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، وكما نهى أبا هريرة عن الاختصاء، وكما قال في حديث الرهط الثلاثة: (وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
إذاً: ديننا وشرعنا بخلاف ذلك، وإنما فيه حث وتحريض على النكاح، أما الرهبانية في هذه الأمة فهو الجهاد، وقال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، وفي حديث عياض بن حمار المشهور في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وأهل النار خمسة)، فذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر -أي: لا عقل- له، والذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، أي: من لا يطمح في أن يتزوج ويكون له أهل أو يجتهد في توسيع رزقه.
قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، هذا من دناءة الهمة وخستها، يقول: حتى لا أتحمل المسئولية، وإذا انضم إلى ذلك ما يدعو إليه من الفواحش، فإن الأمة تصير إلى المهالك والمفاسد.
((وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ))، أي: ناشئاً من الصالحين؛ لأنه من ذرية قومٍ صالحين ومن أصلابهم، أو كائناً من جملتهم، والصالح: هو الذي يؤدي لله ما افترض عليه، ويؤدي إلى الناس حقوقهم، هذا حد الرجل الصالح.
وروي (أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها عليه السلام).(23/27)
تفسير قوله تعالى: (قال رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40].
قال عز وجل حاكياً عن زكريا عليه السلام: ((قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ))، قال بعض المفسرين: لما تحققت البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر! ((قَالَ رَبِّ أَنَّى)) أي: كيف؟ أو من أين؟ ((يَكُونُ لِي غُلامٌ)) أي: ولد.
قولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: أنه سيكبر ويصير غلاماً، ولا يموت طفلاً، وقولهم للكهل: غلام، بمعنى: أنه كان من قبل غلاماً.
((وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ))، أي: بلغت الكبر وبلغني الكبر.
قال بعض المفسرين: ليس المقصود هنا أن زكريا يستبعد هذا الأمر، وإنما كان يريد أن يستفهم عن كيفية وجود الولد، هل ستعود زوجته شابة؟ لأنها كانت عاقراً، وكان كبيراً في السن، أم يأتي وهما على هذه الحال قد بلغا من الكبر عتياً.
أو أن قوله: ((رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)) كان على وجه التواضع، بمعنى: بأي منزلة أستوجب هذا وأنا لست مستحقاً لهذه الكرامة أو لإجابة هذا الدعاء.
((وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)) أي: بلغت نهاية السن مائة وعشرين سنة.
((وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)) أي: معقورة قد بلغت ثمانية وتسعين سنة: ((قَالَ كَذَلِكَ)) أي: أن الأمر كذلك في كونه يخلق غلاماً منكما، وأنتما كبيران في السن، بمعنى: أنكما لن ترجعا شباباً.
((اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) أي: لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى سبب.
ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله أن يسأل هذا
السؤال
(( رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)) كي يأتي المقصود من الجواب بإظهار قدرة الله عز وجل.
وهنا في قصة زكريا قال: (يفعل) أما في قصة المسيح: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ} [آل عمران:47]، وسنوضح الفرق إن شاء الله.(23/28)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41] ((قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)) أي: علامة على حمل امرأتي، وسأل الآية لأن شأن الحمل في بداية وقوعه يكون خفياً، وأعراض الحمل تتأخر، فأراد أن يعلمه الله به من أوله، وأن يجعل له آية ظاهرة يعلم بها حصول الحمل من بدايته؛ كي يستصحب الشكر من بداية حصول هذه النعمة ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً.
((قَالَ آيَتُكَ))، أي: آيتك عليه.
((أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ)) أي: تمنع من كلامهم، بخلاف ذكر الله تبارك وتعالى فلا تمنع عنه.
((ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)) يعني: بلياليها، جمعاً بين هذا وقوله تعالى: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10].
((إِلَّا رَمْزًا)) أي: إشارة، والإشارة لا تكون إلا باليد أو بالرأس، أي: تتكلم مع الناس بالإشارة؛ ولذلك بوب الإمام البخاري في صحيحه بقوله: باب وقوع الطلاق بالإشارة، وهو يفيد وقوع الطلاق بالإشارة بالنسبة للأخرس الذي لا يتكلم.
والمعنى: أنه يحال بينه وبين الكلام من غير آفة فيه، إنما هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، بحيث إنه إذا أراد أن يتكلم كلاماً عادياً لا يستطيع أبداً، أما إذا أراد أن يذكر الله أطلق الله لسانه؛ لكن يتعامل مع الناس بالرمز وبالإشارة بالشفتين أو باليد أو بالرأس وغير ذلك، وذلك لمدة ثلاثة أيام.
يقول محمد بن كعب رحمه الله تعالى: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا؛ لأنه منعه من الكلام وأمره في نفس الوقت بذكر الله تبارك وتعالى.
((وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ)) أي: صل؛ لأن التسبيح يطلق على الصلاة أحياناً.
((بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)) أي: أواخر النهار وأوائله.(23/29)
تفسير سورة آل عمران [42 - 51](24/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم)
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42].
((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ)) أي: واذكر إذ قالت الملائكة، أي: جبريل عليه السلام.
((يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)).
((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ)) أي: اختارك، بالتقريب وبالمحبة.
((وَطَهَّرَكِ))، أي: وطهرك عن الرذائل، أو وطهرك عن مسيس الرجال.
((وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)) أي: أهل زمانك، وهذا فيه موضوع طويل ليس مقام بسطه الآن: وهو هل مريم هي أفضل نساء زمانها فقط أم هي أفضل النساء على الإطلاق؟ وهل مريم عليها السلام نبية أم ليست نبية؟ والصحيح -والله تعالى أعلم- هو المتفق عليه أن مريم ليست نبية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلا رجالاً، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل:43]، وكلام الملك لها لا يكفي دليلاً على كونها نبية؛ لأن الملك تصور لها في في صورة رجل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] وكان جبريل يتصور في صورة دحية الكلبي، وفي حديث عمر بن الخطاب: (إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر -إلى آخر الحديث- فقال: ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
فهل صار الصحابة بمجرد أن يشاهدوا جبريل عليه السلام أنبياء.(24/2)
تفسير قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك)
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].
((يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ)) أي: أطيعيه شكراً على هذا الاصطفاء.
((وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)) أي: صلي مع المصلين.
قال مجاهد: سجدت حتى تقرحت ركبها، أو جبهتها.(24/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب)
{ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44].
((ذَلِكَ)) أي: المذكور من أمر زكريا ومريم عليهما السلام: ((مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ))، أي: من أخبار ما غاب عنك.
((نُوحِيهِ إِلَيْكَ)) يا محمد عليه الصلاة والسلام، يعني: أنه ليس هناك سبيل لمعرفة هذا الغيب إلا الوحي، فهذه من علامات صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره عما كان من قبل ولم يشهده، والإتيان في ذلك بما هو مهيمن على كل ما خالفه، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام لأجل حكم كثيرة منها: أن يبين لهؤلاء اليهود والنصارى من بني إسرائيل ما اختلفوا فيه من شأن المسيح عليه السلام، حتى يأتي بالقول الفصل في كل من تنازعوا فيه، فالقرآن حاكم على ما جاء قبله ومخبر بالصدق في ذلك، فهذا كقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ نادينا) [القصص:44]، وكقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص:46]، وكقوله في قصة يوسف عليه السلام: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49]، فهذه إشارة إلى أن مصدر هذه الأخبار كلها الوحي لا غير.
((وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ)) أي: في الماء يقترعون ليظهر لهم ((أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ))، أي: أيهم يضمها إليه وأيهم يربيها.
قال العلماء: هذه الآية أصل في جواز القرعة عند التنازع.
((وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ))، أي: في كفالتها، وكما ذكرنا أنهم يختصمون تنافساً في حيازة هذا الشرف، لا تدافعاً كما زعم بعض الناس.(24/4)
تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك)
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45].
((إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ)) أي: اذكر إذ قالت الملائكة وهو جبريل عليه السلام: ((يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)) أي: بولد.
فالمقصود بالكلمة هو الولد يحصل بكلمة من الله بلا واسطة أب، فهذا من إطلاق السبب وإرادة المسبب.
((اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)).
يجوز في غير القرآن أن تقول: بكلمة منه اسمها، لكن ذكَّر الضمير الراجع إلى الكلمة؛ لكونها عبارة عن مذكر وهو المسيح عيسى بن مريم.
وبدأ باللقب لأنه أشهر، ولذلك كثير من العلماء يشتهرون بألقابهم.
((اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) المسيح معناه: المدهون بدهن القدس، أو المسيح بمعنى: أنه كان لا يوجد له أخمص قدمين، أو المسيح بمعنى: أنه كان كثير السياحة في الأرض، أو المسيح بمعنى: أنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ بإذن الله تبارك وتعالى.
والمسيح: مسيح الحق وهو المسيح عليه السلام، ومسيح الضلالة وهو الدجال الأعور.
وفي قوله: ((اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) أنه ابن مريم لا ابن الله، كما يزعم الملحدون من النصارى، وصرح بنسبته إليها تنبيهاً على أنه يولد بلا أب، ولو كان له أب لنسبه إليه.
فهذا فيه رد على ملاحدة النصارى الذين يزعمون أنه ابن الله.
((وجيهاً)) أي: ذا جاه.
والوجيه: هو المحبب المقبول، وهو ذو الجاه والمنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة.
((وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا)) بالنبوة.
(والآخرة) بالشفاعات والدرجات العلى.
((وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ))، أي: من المقربين عند الله تبارك وتعالى يوم القيامة.(24/5)
تفسير قوله تعالى: (ويكلم الناس في المهد وكهلاً)
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:46].
((وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ))، والمهد: هو الموضع الذي يهيأ ويوطأ للصبي لينام فيه، وهو يكلم الناس حال كونه طفلاً، ويكلمهم حال كونه كهلاً.
فهو عليه السلام مجرد أن ولد تكلم كلاماً حكيماً ذا معاني سامية ورفيعة؛ لأن كلام الأنبياء أكمل وأعظم وأفصح الكلام، قال لهم وهو في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، بدأ بالإعلان عن العبودية {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:30 - 31]، إلى آخر الآيات.
كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين لا شك أنه في غاية الإعجاز، وفي ذلك أيضاً بشارة ببقائه وامتداد أجله وأنه لن يموت صغيراً، بل يبقى إلى أن يشاء الله.
أما الكهل: فهو من بدأ الشيب يخالط شعره، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو من الأربعين إلى الخمسين، وقيل له: كهل؛ لانتهاء شبابه وكمال قوته، والانتهاء ليس معناه: أنه انتهت قوته، بل الانتهاء هو وصولها إلى أكمل ما يكون في هذه السن، بمعنى: أن الإنسان يكون كاملاً بدنياً وكاملاً عقلياً تتوافر قوته العقلية والبدنية، ومنه يقال: قد اكتهل النبات، أي: بلغ عنفوان قوته ونموه ونضجه.
الغلام يكون طفلاً ثم بعد ذلك إذا اقترب من البلوغ يسمى: مراهقاً، فالمراهق هو من كان قبل البلوغ، ثم بعد المراهق يسمى: محتلماً، ثم إذا بدأت اللحية تنبت فيه يقال: اتصلت لحيته، ثم يوصف بأنه مجتمع، ثم كهل، والكهل هو ابن ثلاث وثلاثين سنة.(24/6)
الحكمة من تكليم عيسى عليه السلام الناس في المهد وعند الكهولة
أما الحكمة من تكليمه الناس في تلك الحال ففيها قولان: الأول: أنه تكلم لتبرئة أمه مما قذفها به اليهود لعنهم الله من البهتان: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30].
قال ابن عباس: (تكلم ساعة في مهده ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق)، أي: أنه لم يتكلم باستمرار، وإنما أنطقه الله سبحانه، ثم عاد مثل سائر الأطفال.
القول الثاني: أنه تكلم لتحقيق معجزته الدالة على نبوته.
فإن قيل: قد علم أن الكهل يتكلم، إذاً: ما الحكمة من قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [آل عمران:46]؟ ف
الجواب
أنه يتكلم في المهد كلاماً مستوياً مع كلام الكهل، مع أن فارق السن كبير.
فالمقصود أن الكهل هو الحليم، أو أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره وأنه يبلغ سن الكهولة.
روي عن ابن عباس قال: (((وَكَهْلًا)) قال: ذلك بعد نزوله من السماء عليه السلام)، وهذا تفسير قوي، وقد مال إليه الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى في كتابه (فصل المقال في رفع عيسى حياً ونزوله وقتله الدجال)، فتكلم بالتفصيل على هذا الأمر.
وفي قوله: ((وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)) إشارة إلى أن المسيح عليه السلام سينزل في آخر الزمان؛ لأن كلامه في المهد معجزة؛ إذاً لا بد أن يكون هناك مظهر من مظاهر الإعجاز في كلامه كهلاً، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان يكلمهم بهذا الكلام.
وفي قوله: (وَكَهْلًا) إشارة إلى أنه يمر بالمراحل التي يمر بها سائر الأطفال، وأنه مع الأيام ينتقل من حال إلى حال، ولو كان عيسى عليه السلام إلهاً لم يدخله هذا التغيير.
أي: أن الزمان ومرور الأيام تؤثر فيه بالنمو وبالزيادة وغير ذلك مما هو من صفات الحوادث من التغير والتفاعل، والله سبحانه وتعالى لا يغيره شيء.
((وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: وجعلناه من الصالحين.(24/7)
تفسير قوله تعالى: (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر)
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47].
((قَالَتْ رَبِّ)) تخاطب الله سبحانه وتعالى.
((أَنَّى))، أي: كيف؟! ((يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)) أي: بتزوج ولا غيره.
والمسيس: هو الجماع.
((قَالَ كَذَلِكِ)) أي: قال جبريل: الأمر كذلك، من خلق ولد منك بلا أب، هذا أمر الله سبحانه وتعالى.
((يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)) أي: قد يخلقه بسبب وقد يخلقه بدون سبب، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد أرقته على صخرة لكان منه الولد، وليخلقن الله نفساً هو خالقها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
((كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يشاء)) أي: لا يحتاج إلى سبب ولا يعجزه شيء.
وصرح هاهنا بالخلق بقوله: ((يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)) أما في قصة زكريا قال: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]؛ لأن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكون أنسب بهذا المقام؛ لئلا يبقى لمبطل شبهة.
((إِذَا قَضَى أَمْرًا))، أي: إذا أراد خلقه.
((فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))، أي: فهو يكون من غير تأخر ومن غير حاجة إلى سبب، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] أي: إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر.(24/8)
تفسير قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران:48].
{وَيُعَلِّمُهُ} [آل عمران:48]، بالياء، وفي قراءة: (ونعلمه) بالنون.
((الْكِتَابَ)) إما الكتابة نفسها أو الخط، أو الكتاب هنا المقصود به جنس الكتاب، أي: جنس الكتب الإلهية.
((وَالْحِكْمَةَ))، وهي تهذيب الأخلاق.
((وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))، إذا قلنا: إن الكتاب المقصود به جنس الكتب الإلهية فيكون ذكر التوراة والإنجيل هنا من باب ذكر الخاص بعد العام، وإنما خصصا بالذكر لشرفهما وزيادة فضلهما على غيرهما.(24/9)
تفسير قوله تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم)
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:49].
((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: ونجعله رسولاً، (ورسولاً) منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على: ((وَيُعَلِّمُهُ)).
((إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: إلى جميع بني إسرائيل، فالمسيح عليه السلام ما أرسل إلا إلى بني إسرائيل، وهو نفسه قال ذلك حتى في الإنجيل الذي بين أيديهم: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة).
ما أرسل نبي من الأنبياء إلى جميع البشر، إنما اختص بذلك خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما الأنبياء فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، فموسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17]، كان كل طلبه من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل.
كذلك المسيح عليه السلام إنما كان رسولاً إلى بني إسرائيل، وإنما بولس الخبيث أو شاول كان يهودياً وهو الذي أفسد الديانة النصرانية، وكان يعذب النصارى ويضطهدهم أشد الاضطهاد، ثم تظاهر بولس بالدخول فيها ليفسدها.
فهو الذي ابتدع مسألة الذهاب في أقطار الأرض ليعمدوا النصرانية وينشروها باسم كذا وكذا، وموضوع التبشير الذي ابتدعه بولس الخبيث تحت زعم أنه حصل له رؤيا أو كشف أو شيء من هذا، فيمكن أن يكون من الشفافية، ويمكن أن يكون كذاباً؛ لأنه نفسه كان شيطاناً.
على أي الأحوال فالمسيح عليه السلام ما بعث إلى البشرية كلها، وما يسمى الآن بالتبشير ودعوة الناس إلى النصرانية كله افتراء وباطل؛ لأن المسيح لم يبعث إلى القبط ولا إلى الفرنجة ولا إلى كذا وكذا، وإنما بعث إلى قومه بني إسرائيل فقط، أما الديانة التي ينبغي أن تكون عالمية فهي ديانة واحدة فقط وهي الإسلام، ودعوة واحدة وهي دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ))، أي: في الصبا أو بعد البلوغ، فنفخ جبريل في جيب درعها، وجيب درعها هو فتحة الصدر، فحملت، وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم.
فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم: ((أَنِّي)) أي: بأني رسول الله إليكم، ((قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ))، الآية هي العلامة على صدقه، وهي ليست آية واحدة بل آيات متعددة، فالتنكير هنا للتفخيم، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: جئتكم متلبساً ومحتجاً بآية من ربكم، وهي علامة على صدقي.
قوله: (أَنِّي) وفي قراءة بالكسر استئنافاً، أي: (بآية من ربكم إني أخلق لكم).
((أَخْلُقُ)) أي: أصور.
فلا يصح هنا إلا أن نفسر كلمة: (أَخْلُقُ) بمعنى: أصور؛ لأنه لا يجوز إسناد فعل الخلق بمعنى الإيجاد إلى غير الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى كما قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، فلا خالق على سبيل الإيجاد إلا الله سبحانه وتعالى، وما فعله المسيح عليه السلام كانت معجزات أجراها الله تعالى على يديه؛ تصديقاً له ليؤمن بنو إسرائيل برسالته ويتبعوه.
((أَنِّي أَخْلُقُ لكم)) أي: أصور لكم.
((مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)) أي: مثل هيئة الطير، فالكاف هنا اسم مفعول.
((فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ))، الضمير هنا يعود على الكاف الذي في قوله: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ).
((فَأَنفُخُ فِيه)) أي: في المصور الذي هو مثل هيئة الطير.
((فَيَكُونُ طَيْرًا)) أي: حقيقياً ذا حياة، وفي قراءة: (فيكون طائراً).
((بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بإرادته وأمره لا باستقلال مني.
يقول السيوطي: فخلق لهم الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقاً، يطير وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق.
وهذا الكلام يحتاج إلى خبر مرفوع إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم.
((وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ))، أي: أشفي، ((الأَكْمَهَ)) الذي ولد أعمى.
((وَالأَبْرَصَ)) وخصا بالذكر؛ لأنهما داء إعياء، وكان بعثه في زمن الطب.
فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان.
أي: أنه اشترط عليهم إذا دعوت الله فشفاكم أن تؤمنوا، فوافقوا.
فيقول: فأبرأ بإذن الله في يوم خمسين ألفاً، والله تعالى أعلم بصحة ذلك.
((وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ))، كرره لنفي توهم الألوهية فيه؛ لأن هذه معجزات قاهرة فعلية، فأحيا عاذر صديقاً له، وابن العجوز، وابنة العاشر، أي ابنة الذي كان يجبي الضرائب والعشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال.
وكل هذا الكلام من الإسرائيليات التي تحتاج إلى نوع من التحفظ.
((وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ))، أي: مما تخبئون مما لم أعاينه، فكان يخبر الشخص بما أكل وبما لم يأكل بعد، ولم يقل هنا: بإذن الله؛ لأنه علم من السياق أن هذا كله إنما هو بإذن الله عز وجل، فاستغنى عن إعادته لشدة ظهوره.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ}، أي: هذا المذكور فيه دلالة لكم على صدقي في دعوى الرسالة.(24/10)
تفسير قوله تعالى: (ومصدقاً لما بين يدي من التوراة صراط مستقيم)
يقول تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران:50].
(ومصدقاً) أي: وجئتكم مصدقاًَ.
((لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)) أي: جئت مقرراً ومثبتاً لما قبلي.
((وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))، فهذا فيه دليل يؤيد القول بأن المسيح عليه السلام نسخ بعض شريعة موسى عليه السلام.
بعض العلماء يقولون: لم يحصل نسخ وإنما كانت هناك أشياء مبهمة ومختلطة عليهم وضحها لهم، والله تعالى أعلم.
فأحل لهم من السمك والطير ما لا شوكة له يؤذي بها.
وقيل: أحل الجميع؛ لأن كلمة (بعض) تأتي بمعنى: كل.
((وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: جئتكم بآيات تعلمون بها صدقي، وإنما وحد الآيات وعبر عنها بكلمة آيةٍ؛ لأن الكل من جنس واحد.
قوله: ((مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: من عند ربكم، كرره تأكيداً وليبني عليه: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) أي: فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته.
((إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا))، أي: هذا الذي آمركم به ((صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))، أي: طريق مستقيم، فكذبوه ولم يؤمنوا به عليه السلام.(24/11)
الأسئلة(24/12)
حكم اتخاذ المحاريب في المساجد
السؤال
ما حكم اتخاذ المحاريب في المساجد؟
الجواب
بالنسبة لموضوع المحراب قد يحتج بعض الناس بما هو موجود في القرآن الكريم من تكرار هذا اللفظ، فباختصار شديد نقول: إن المحراب إذا أطلق الآن فهو التجويف الذي يصنع في المساجد.
واتخاذ المحاريب لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الخلفاء الأربعة فمن بعدهم، وإنما حدث هذا في آخر المائة الأولى مع ورود الحديث بالنهي عن اتخاذه، وأنه من شأن الكنائس، وأن اتخاذه في المساجد من أشراط الساعة، فقد روى البيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اتقوا هذه المذابح) المذابح هي المحاريب.
وعن ابن مسعود: (أنه كره الصلاة في المحراب وقال: إنما كانت في الكنائس فلا تتشبهوا بأهل الكتاب)، أخرجه البزار.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن موسى الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال هذه الأمة - أو قال: أمتي- بخير، ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى) وهذا ضعيف، وفيه أيضاً عن أبي ذر قال: (إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد)، هذا مجرد اتخاذ المذابح، أي: المحاريب.
إذاً: فالزخرفة للمساجد وتمويهها بالزينة وغير ذلك لا شك أن هذا كله يخالف سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه نهى عن زخرفة المساجد.
ونجد أنهم يزخرفون المحاريب ويكتبون فيها قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران:37].
السيوطي له كتاب اسمه (إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب) وجزم فيه أن المحراب في المسجد بدعة، وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود: (اتقوا هذه المحاريب).
على أي الأحوال هذا باختصار، والتفاصيل موجودة في كتاب اسمه: (المسجد في الإسلام لخير الدين والدنيا) وهو لأحد تلامذة الشيخ الألباني حفظه الله.(24/13)
حكم تحديد النسل والدعوة إليه
السؤال
ما حكم الدعوة إلى تحديد النسل؟
الجواب
إن دعوة تحديد النسل إن طبقت فإنما هي عملية انتحار لهذه الأمة.
إن الاستجابة لهذه الدعوة الشيطانية هو الانتحار بأدق معاني الكلمة.
لا شك أن من أعظم مقاصد النكاح في الإسلام: هو تكثير عدد المسلمين.
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال: لا.
ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)، فهذا تحقيق لمباهاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكثرة أمته يوم القيامة، وهذا الحديث صححه أبو محمد عبد الحق وهو ابن عطية الأندلسي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السقاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً، فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا.
قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرها).
يقول الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: إن غريزة الامتداد في الذراري والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه والوفاء، فتنجب للدنيا نبتة كريمة، تتعاهدها بالتربية والتهذيب تحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلك.
ويكفي الممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة، التي تبدأ بآدم وتنتهي به.
أيضاً ورد من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له في وصية جامعة: (ولك في جماعك زوجتك أجر، قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحتسبه؟ قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: فأنت هديته؟ قال: بل الله هداه، قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه؟ قال: فكذلك تضعه في حلاله وجنبه حرامه فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر) فهذا يدل على أنه يستحب أن ينوي عند إتيان أهله طلب الولد الصالح.
فعلى المسلم أن يستحضر هذه النية فإنه يثاب عليها، يقول تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] المقصود ألا تباشروهن لقضاء الوطر وحده، ولكن لابتغاء ما وضع الله في النكاح من التناسل.
وقال أبو هريرة وابن عباس وأنس: ((وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] يعني: من أجل طلب الولد).
وقال صلى الله عليه وسلم لـ جابر رضي الله تعالى عنه: (إذا قدمت فالكيس الكيس) أي: الجماع الجماع والعقل العقل، الحديث متفق عليه.
قال العلماء: المقصود بالكيس أي: الجماع لطلب الولد، فهذا فيه تحريض على طلب الذرية.
وأيضاً روى البخاري في صحيحه: باب من طلب الولد للجهاد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، أو تسع وتسعين، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)، فالشاهد هنا كما في ترجمة الباب أنه ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر، حتى لولم يرزق الولد لكنه يثاب على هذه النية.
ويقول عمر رضي الله عنه: (إني لأكره نفسي على الجماع؛ رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبح الله تعالى).
وقال رضي الله عنه: (تكثروا من العيال فإنكم لا تدرون ممن ترزقون).
الموضوع يحتاج إلى كلام أوسع من هذا، لكن باختصار شديد ذكرنا أن موضوع تحديد النسل أو ما إلى ذلك من المسميات، قد يباح بالجزء سواء بالإجهاض أو بتحديد النسل في حياة فردية حسب ظروف معينة ومعطيات معينة، فيباح مثل هذا الفعل خلافاً للأصل لبعض الأفراد، لكن أن يكون هناك إعلان عام للناس يرغبون في تحديد النسل أو في الإجهاض أو غير ذلك من هذه الأشياء فهذا حرام قطعاً؛ لأن هذا يخالف المقاصد العليا للشريعة الإسلامية.
والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية: هي حفظ الدين والعقل والدم والنسل والعرض والمال.
إذاً: فكل ما يخل بهذه الضروريات أو هذه المصالح فإنه يحرم في الشريعة.
فإذا قالوا: هذه سياسة عليا للدولة، نقول: كذلك الدولة الإسلامية عندها سياسات عليا لا تقبل النقاش، من هذه السياسات العليا للدولة الإسلامية أنه لا يجوز الجهر بأي دعوى تتصادم مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فمثلاً: الشريعة الإسلامية حرضت على الزواج، وسلكت في سبيل ذلك كل ما أمكن من الوسائل لتسهيل الزواج وتيسيره والحض عليه، فهذه هي السياسة العليا للدولة الإسلامية في هذه المسألة، فلا يجوز بحال من الأحوال تبني دعوى تناقض هذه السياسة، بمعنى: أن يحرض الشباب على العزوبية، أو تأخير الزواج، أو منع الزواج المبكر أو غير ذلك من الوسائل المضادة للمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ولذلك لا تستعجب ولا تستغرب إذا وجدت علماء الحديث يدلون بقاعدة كلية في هذا الباب، فيقولون: أي حديث فيه التحريض على العزوبة فهو حديث لا يصح؛ لمنافاته مقاصد الشريعة، فهذا مما يستدل به على ضعف المتن؛ لأنه يخالف مقاصد الشريعة، حتى لو صح سنده، مع أنه لا يوجد أي حديث صح سنده يحرض على تقليل النسل أبداً، ولو صح وصادم المقاصد العليا للشريعة الإسلامية فيطعن في الحديث، وهذا لا يكون إلا للأئمة الكبار وليس لكل الناس نقد الحديث من جهة المتن.
إذاً: أحد الأسباب التي يطعن بها في المتن مع صحة السند منافاته للمقاصد العليا للشريعة الإسلامية التي تعلم من الدين بالضرورة.
هناك من الناس من يلعبون بعقول الناس، فتراهم يأتون إلى بعض الحالات الفردية التي يجوز فيها الإجهاض أو تحديد النسل ليعمموها، مع أن الحالات الفردية هذه محددة ومقيدة بظروف خاصة، ولا يجوز تبني ما يخالف المقاصد العليا للشريعة الإسلامية: ومن المقاصد العليا للشريعة الإسلامية: التحريض على الزواج.
تيسير الزواج بكل وسيلة.
منع أي دعوى للعزوبة.
منع قضاء الوطر في خارج دائرة الزواج.(24/14)
تفسير سورة آل عمران [52 - 61](25/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله)
يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].
قوله تعالى: ((فَلَمَّا أَحَسَّ)) أي: علم وعرف عن طريق الحس والمعرفة والمعاينة.
((مِنْهُمُ الْكُفْرَ)) أي: من بني إسرائيل الذي ذكروا في الآيات السابقة في خطاب المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يقتلوه عليه السلام.
((قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)) أي: من أعواني ذاهباً ومتوجهاً وملتجئاً إلى الله؛ لأنصر دينه.
وقال بعض المفسرين: ((إِلَى اللَّهِ)) أي: من أنصاري مع الله، أو من ينصرني مع الله، أو: من أعواني ذاهباً ومتوجهاً إلى الله، لأنصر دينه، كما قال بعض الأنبياء عليهم السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80].
((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)) أي: نحن أعوان دينه.
هؤلاء الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلاً.
قيل: الحواريون مأخوذة من الحور وهو البياض الخالص، قيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها.
فالحواريون هم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام، فعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
والحواري هو الناصر الذي يبالغ في النصرة، وهو الوجيه والخليل والحميم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما من نبي بعثه الله إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يهتدون بهديه ويقتدون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف) إلى آخر الحديث.
فدل على أن هؤلاء الأصفياء والخلص من الأصحاب ليست خاصة بالمسيح عليه السلام، وإن جاء إطلاق الحواريين على تلامذته الأقربين عليه السلام، وإنما كل نبي له حواريون وأصفياء وأنصار وأعوان من أصحابه.
((آمَنَّا بِاللَّهِ)) أي: صدقنا بالله.
((وَاشْهَدْ)) أي: يا عيسى.
((بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) أي: منقادون لرسالتك.(25/2)
تفسير قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول)
بعد أن أشهدوا نبيهم عليه السلام على هذا الإيمان أشهدوا الله تبارك وتعالى فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53].
((رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ)) من الإنجيل.
((وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ)) عيسى عليه السلام.
((فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) أي: فليكن جزاؤنا على إشهادنا إياك وعلى إيماننا بك أن تكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق.
وهؤلاء الشاهدون يحتمل أنهم الذين تقدم ذكرهم في قوله تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، أو اكتبنا مع الشاهدين أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أنهم آمنوا بهم وصدقوهم.(25/3)
تفسير قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)
قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54].
((وَمَكَرُوا)) أي: كفار بني إسرائيل، مكروا بعيسى عليه السلام إذ وكلوا به من يقتله غيلة.
الواو هنا تعود على الذين أحس عيسى منهم الكفر من بني إسرائيل.
((وَمَكَرَ اللَّهُ)) أي: في المقابل مكر الله سبحانه وتعالى بهم، بأن ألقى شبه عيسى على من قصد قتله، وهذا التفسير هو الذي اعتمده السيوطي.
يقول القاضي كنعان: الصحيح أن الذي ألقي عليه شبه عيسى كان أحد تلاميذه من الحواريين، فقتلوا هذا الذي ألقي عليه الشبه ورفع عيسى إلى السماء، ونجاه الله سبحانه وتعالى من بين أيديهم.
((وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) أي: أعلمهم به، وهذه الصفة بلا شك أنها في حق الله تبارك وتعالى على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، كقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وكقوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].
يرد علينا سؤال وهو: هل يجوز في الدعاء أن يقال: يا خير الماكرين امكر لي؟
الجواب
أجاز بعض العلماء ذلك، واستشهدوا بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (اللهم امكر لي ولا تمكر علي).(25/4)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55].
((إِذْ قَالَ اللَّهُ)) أي: اذكر إذ قال الله: ((يا عيسى إني متوفيك)).
نلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى ينادي عامة الأنبياء بأسمائهم: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] وقوله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] و ((يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) و {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وهكذا.
أما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يناده الله تبارك وتعالى باسمه قط في القرآن الكريم، إنما ناداه بصفاته الشريفة كـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، وهذا من كرامته على الله سبحانه وتعالى وبلوغه في الشرف مقاماً لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) أي: قابضك.
((وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)) أي: من الدنيا من غير موت.
((وَمُطَهِّرُكَ)) أي: مبعدك.
((مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: صدقوا بنبوتك من المسلمين.
وهذه تشمل طائفتين: تشمل الطائفة التي آمنت بالمسيح عليه السلام ممن أدركوا بعثته، ووافقوه على دين الإسلام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الطائفة الثانية التي شملتهم هذه الآية: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم الذين اتبعوا رسول الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فنحن المسلمين أيضاً ندخل في قوله تعالى: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: الذين صدقوا نبوتك من المسلمين؛ لأننا اتبعنا المسيح عليه السلام على الحقيقة، وأما النصارى فهم أعداء المسيح عليه السلام يعاديهم ويبغضهم ويبرأ إلى الله منهم تماماً، كما أن اليهود يدعون كذباً مع اعتزازهم بموسى عليه السلام وأنهم على دينه وملته، كذلك نقول: نحن أتباع موسى على الحقيقة ونحن أولى به منهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه، فسألهم عن ذلك، فقالوا: (إنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وقومه قال: نحن أولى بموسى منهم) وقال: (أنا أولى الأنبياء بالمسيح عليه السلام، ما بيني وبينه نبي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فإذاً: نحن أتباع المسيح، وأتباع موسى عليهما السلام؛ لأننا على نفس الدين الذي دعوا إليه، ولأننا نؤمن بالأنبياء كلهم، فالذي يكفر برسالة نبي واحد فإنه قد كفر بجميع الأنبياء، ويحبط كل إيمانه ويصير مرتداً، ومن كذب بنبوة المسيح فقد كفر، ومن كفر بالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى فقد كفر ولا ينفع إيمانه بالقرآن ولا بالتوراة، بل الإيمان حقيقة متركبة من أجزاء مرتبطة ببعضها، لا ينفك ولا ينفصل بعض منها عن البعض الآخر.
((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: فوق الذين كفروا بك وهم اليهود، وكذالك ومن حرف دين المسيح من النصارى، فالذين اتبعوك يعلونهم بالحجة وكذلك بالتمكين لهم في الأرض.
الذين كفروا بالمسيح قسمان: الأول: اليهود لعنهم الله فهم الذين كفروا بالمسيح وسبوه وسبوا أمه ورموها بالبهتان وبالإفك المبين.
الثاني: الذين حرفوا دين المسيح من النصارى وعبدوه وألهوه.
((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)) هذا وعد لا يتخلف، وما نحن عليه من الضعف والوضع الذي يعيشه المسلمون الآن، فهذا ليس هو الأصل بل هذا من الاستثناءات؛ لأن الغالب والأصل أن المؤمنين دائماً فوق الذين كفروا، ولا يجوز أن يظن بالله سبحانه وتعالى أنه يدع المسلمين مقهورين إلى الأبد، بل لابد أن تعود الكرة كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8].
فمن سوء الظن بالله أن يظن أنه يمكن للكفار أن يستأصلوا المسلمين ويبيدوهم وترتفع كلمتهم عليهم، هذا خلاف الأصل.
خاصة إذا قلنا: إن أحد ركني هذه الفوقية المقصود به العلو في الحجة والبيان، فهذا بلا شك قائم في كون المؤمنين والموحدين يعلون الكفار دائماً بالحجة والبرهان، كما بيناه وكما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
وأحياناً يعلونهم بالسيف، أما ما نحن فيه من أوضاع آخر الزمان فهي تخالف في القاعدة الأصلية.
((فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) أي: من أمر الدين.(25/5)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً)
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:56].
((فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا)) أي: بالقتل والسبي والجزية.
((وَالآخِرَةِ)) أي: بالنار.
((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين يمنعونهم من هذا العذاب.(25/6)
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم)
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57] وفي قراءة (فنوفيهم) بالنون.
((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) أي: يبغضهم.
وهنا فسرها السيوطي بقوله: أي: يعاقبهم، (روي أن الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت، فقال لها: إن القيامة تجمعنا، وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة، وعاشت أمه بعده ست سنين)، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنه لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وروى الشيخان: (أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا، ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية)، وفي حديث مسلم: (أنه يمكث سبع سنين) وفي حديث عن أبي داود الطيالسي: (أربعين سنة، ويتوفى ويصلي عليه المسلمون) فيحتمل أن المراد مجموع مكثه في الأرض قبل الرفع وبعده.(25/7)
أقوال المفسرين في مسألة رفع المسيح إلى السماء وتوفي الله تعالى له
قضية رفع المسيح عليه السلام إلى السماء وتوفي الله سبحانه وتعالى إياه، اختلف المفسرون في تفسيرها.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] أي مستوف مدة إقامتك بين قومك.
والتوفي يطلق على الإماتة، وكذلك يطلق على استيفاء الشيء كما في كتب اللغة، يقول تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] أي: أنه يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وذلك بالنوم، فهذا تشبيه للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام:60]، أي: أنهم لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك.
ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته، ومجاورته لملائكته، ومعدن النزاهة عن الأدناس، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55]، أي: من مكرهم وخبث صحبتهم.
هذه الآية الكريمة: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، ظاهرها يدل على أن الله تعالى فوق سماواته، كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وفي قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]، وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، أي: من فوق السماء.
وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار).
قال أبو الوليد بن رشد في (مناهج الأدلة): لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة الفوق حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني ومن اقتدى بقوله.
إلى أن قال أبو الوليد بن رشد: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء.
الشرائع هنا بالمعنى الأعم لا تقتصر فقط على الشرائع التي هي بمعنى الأحكام الفقهية؛ لأن الشريعة تطلق أحياناً على كل الدين.
يقول: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول.
فإثبات العلو واجب بالشرع وبالعقل، وإبطاله إبطال للشرائع.
يقول الدارمي: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته.
وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) فانظره.
يقول القاسمي: هذا ولما كان ذوو الهمم العوالي أشد التفاتاً إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم، أراد الله تبارك وتعالى أن يبشر المسيح عليه السلام بذلك حتى يطمئنه، فقال تبارك وتعالى: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
ثم يقول: وكذا كان ولم يزل من انتحل النصرانية فهم فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد.
الحقيقة أن هذه الآية إحدى الآيات الأساسية في موضوع الإيمان برفع المسيح عليه السلام حياً، ونزوله وقتل المسيح الدجال في آخر الزمان.
فهناك عدة آيات في موضوع رفع المسيح إلى السماء حياً، الآية الأولى هي هذه الآية من سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية ما ملخصه: اختلف المفسرون في قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، وتقديره: يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك، يعني بعد ذلك.
أي: أن الله سبحانه وتعالى رفعه إليه وهو حي لم يمت إلى اليوم، وقد لقيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج.
قوله: ثم متوفيك بعد ذلك أي: حينما ينزل في آخر الزمان، فإنه يعيش من جديد ويحكم بالإسلام ثم يتوفاه الله تبارك وتعالى.
يرد سؤال عابر: من آخر الصحابة موتاً؟ المسيح عليه السلام؛ لأن المسيح عليه السلام هو نبي وصحابي في نفس الوقت؛ لأن تعريف الصحابي ينطبق على المسيح؛ لأنه لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فترة -ولو كانت قصيرة- في ليلة المعراج مؤمناً برسالته، فهذا هو حد الصحابي وتعريف الصحابي، فلذلك عيسى نبي وصحابي، وهو لم يمت حتى الآن، فهو آخر الصحابة موتاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، أي: مميتك).
وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال: توفاه الله ثلاث ساعات منه أول النهار حين رفعه إليه.
وقال ابن إسحاق أيضاً: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه.
قال إسحاق بن بشر عن إدريس عن وهب: أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه.
قال مطر الوراق: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، من الدنيا، وليس بوفاة موت.
وقال ابن جرير: توفيه هو رفعه.
وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام:60]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من نومه: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) الحديث.
وعن الحسن أنه قال: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، يعني: وفاة المنام، رفعه الله في منامه، قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: (إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة) وهذا الحديث مرسل ضعيف.
((وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: برفعي إياك إلى السماء، بعيداً عن هذه الصحبة من كفار اليهود.
اختار الحافظ ابن كثير بعد هذا رأي الجمهور حيث فسر التوفي بالمنام، أي: ألقي عليه النوم، وأيده بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] معلوم أن الهاء في: (موته) يحتمل أنها تعود إلى المسيح، ويحتمل أن تعود إلى الكتابي، فإذا كانت الهاء عائدة على الكتابي فعندما يأتيه الموت يعلم بأن المسيح عليه السلام رسول الله، هذا معنى أحد القولين.
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل أن تقبض روح الكتابي سواء كان يهودياً أو نصرانياً ممن عبد المسيح، فسيكتشف الحقيقة ويعلم أن المسيح ما كان إلا عبداً رسولاً ويعلم أنه مات على الباطل وعلى الكفر.
أو أن معنى قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت المسيح، وتكون هذه إشارة إلى نزوله في آخر الزمان.
المسيح عليه السلام لم يمت بعد، وإنما سيموت بعدما ينزل إلى الأرض في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به في ذلك الوقت؛ لأنه سيكتشف أنه كان على ضلال وكفر مبين؛ لأن المسيح يضع الجزية عن النصارى وغيرهم من الملل الأخرى فلا يقبل منهم إلا الإسلام، فإما أن يسلم وإما أن يقتله المسيح عليه الصلاة والسلام كما ما هو معلوم في الأحاديث.
على أي الأحوال فلفظ (ومتوفيك) في الآية هنا لفظ متشابه، فيحتمل أن يكون معناه التوفي بالنوم، أو التوفي بالموت، أو التوفي بمعنى القبض والاستيفاء.
قوله: ((وَرَافِعُكَ إِلَيَّ))، بعض الناس فسرها بقوله: رفع روحه، أو رفع مكانته، وهذا إلحاد في آيات الله وتحريف للكلم عن مواضعه.
وأقرب المعاني أن يقال: إن الآية فيها تقديم وتأخير بمعنى: إني رافعك إلي ومتوفيك، وهذا ما سيحصل حينما يتوفاه عند نزوله في آخر الزمان.
أو التوفي يكون بمعنى الإنامة لا الإماتة، إذ لا معنى لرفعه إلى الله ميتاً، إذاً ما الخصيصة التي اختص بها المسيح عليه السلام إذا كان رفعه ميتاً؟! مع أن المراد بالرفع هو حفظه من اليهود وإنجاؤه من مكرهم حين أرادوا قتله.
فإذا كان المسيح عليه السلام قد توفي بالإماتة، فأي إنجاء يكون في هذا؟ إنما يكون الإنجاء وتكون الآية والبشارة بأن يتوفاه الله سبحانه وتعالى ويرفعه إليه رفعاً حقيقياً.
فعلى تقدير التوفي بالإماتة لا تكون تلك البشارة بالتطهير والإنجاء قد تحققت، بل يكون قد أعان اليهود على قصدهم، وهو أن يتخلصوا من عيسى عليه السلام إما بالموت أو بالقتل.
وكيف يفهم خلاف ذلك من قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54] فإنه من المناسب لمكر الله المقابل لمكر اليهود أن يرفعه إليه حياً؛ لينزل في آخر الزمان فينتقم من هؤلاء الذين كادوا له وآذوه، فيقاتلهم على الإسلام وحده، فمن أبى منهم قتل.
خلاصة الأقوال في هذه القضية: الأول: رأي الجمهور الذي اختاره ابن كثير ورواه عن الحسن: وهو تفسير التوفي بالإنامة، ((مُتَوَفِّيكَ)) أي: ملق عليك النوم.
الثا(25/8)
تفسير قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)
قال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58].
((ذَلِكَ)) أي: المذكور من أمر عيسى عليه السلام.
((نَتْلُوهُ)) أي: نقصه.
((عَليْكَ))، يا محمد ((مِنَ الآيَاتِ)).
وقوله: ((ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ)) فيه إشارة إلى أنه لا مصدر لك كي تعلم هذه الأشياء إلا ما يطلعك الله سبحانه وتعالى عليه عن طريق الوحي.
((مِنَ الآيَاتِ)) حال من الهاء في (نتلوه)، وعامله ما في (ذلك) من معنى الإشارة.
((وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)) أي: المحكم وهو القرآن الكريم، والمحكم بمعنى المعصوم من أن يتطرق إليه خلل.
أو ((الْحَكِيمِ)) بمعنى: المشتمل على الحكم.(25/9)
تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى)) أي: إن مثل شأنه العجيب الغريب في إنشائه من غير أب.
((عِنْدَ اللَّهِ)) أي: في تقدير الله وحكمه.
((كَمَثَلِ آدَمَ)) أي: كشأن آدم أيضاً العجيب في خلقه من غير أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم، ولا يستطيع أن يجيب، أي: أيهما أعجب وأغرب خلق آدم أم خلق المسيح عليه السلام؟ لا شك أن خلق آدم أغرب، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إن كنتم تستدلون على ألوهية المسيح المزعومة بكونه خلق من غير أب، فكان أولى أن تعبدوا آدم؛ لأن آدم خلق لا من أب ولا من أم، فهذا هو المقصود.
ثم شرع تعالى في تبيين وجه الشبه بينهما بقوله: ((خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)) أي: آدم، والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على هيئة الإنسان وقالبه وشكله، لم يكن قد نفخ فيه الروح؛ لأن الآية تقول: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فكان.
فالهاء هنا في قوله: ((خلقه)) تعود على قالب آدم، الذي هو العجين المعجون من طين.
((ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ)) أي: كن بشراً.
((فَيَكُونُ)) أي: فكان، وكذلك عيسى عليه السلام قال له: كن من غير أب، فكان.(25/10)
تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60].
أي: أمر عيسى عليه السلام، والذي قصصناه عليك من ربك هو الحق.
(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي: الشاكين فيه.(25/11)
تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم)
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61].
((فمن حاجك)) أي: فمن جادلك من النصارى في عيسى.
((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)) أي: من العلم بشأنه وبأمره.
((فَقُلْ تَعَالَوْا)) أي: فقل لهم تعالوا، والمقصود من هذا أن الله سبحانه وتعالى بعدما أقام عليهم الحجج على بطلان ما هم عليه من الارتياب في شأن المسيح عليه السلام، يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: لم يبق من تفسير لما أنتم عليه من الإصرار على الكفر إلا أنكم معاندون وجاحدون؛ لأنكم إذا كنتم جهلة فقد كان ما أقمته عليكم من الحجج يستوجب زوال وصف الجهل عنكم، أما وقد أقيمت عليكم الحجج الواضحة وما استطعتم لها رداً ولا دفعاً، فلم يبق منكم إلا العناد، فلا سبيل لرفع هذا العناد إلا بالمباهلة.
أي: فقل لهم: أيها المجادلون ((تعالوا)) أنا ادعوكم إلى الفيصل بيني وبينكم الذي يكشف من منا صاحب الحق ومن منا على باطل.
((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)) هذا الاختيار اختيار دقيق، حيث اختار أعز أهله وألصقهم بقلبه، فهم الذين يخاطر الرجل بنفسه من أجلهم، ويحارب دونهم، فيأتي بهؤلاء ويباهل.
((ثم نبتهل)) أي: نتضرع ونجتهد في الدعاء.
الابتهال يشمل الاجتهاد في الدعاء سواء كان باللعنة أو بغيرها، والمقصود بالابتهال هنا أن نلعن من يكون على باطل، كما قال: ((فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ)) أي: طرده وإبعاده من رحمته.
((عَلَى الْكَاذِبِينَ)) أي: منا ومنكم، ليهلكهم الله وينجي الصادقين، فلا يبقي بعد أن أقمنا عليكم دلائل العقل ودلائل النقل إلا المباهلة.(25/12)
حقيقة المباهلة
المباهلة طريقتها أن يفعلوا كما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام هنا: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، أي نقول: اللهم العن الكاذب في شأن عيسى.
نحن المسلمين نعتقد في عيسى أنه كلمة الله، وروح منه، وأنه عيسى بن مريم عليهما السلام، ونعتقد أن الله هو الحق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، والنصارى يقولون: هو الله أو ابن الله -والعياذ بالله- إلى آخر هذه العقائد الكفرية، فاللهم أنزل لعنتك على الكاذب منا؛ لأن الحق لا يعدو هؤلاء أو هؤلاء، فالمباهلة معناها: الدعاء بنزول اللعنة على الفريق الكاذب وإنجاء الصادقين.(25/13)
ذكر الآثار الواردة في المباهلة
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة، فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره، وكانوا ستين راكباً منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم: العاقب أمير القوم واسمه عبد المسيح.
والسيد في مالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم.
وفي القصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل، والفصل من القضاء بينهم وبينه، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى المباهلة، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه ثم خلوا بـ العاقب الذي هو أميرهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا)، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم على خراج يؤدونه إليه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً، قال جابر: وفيهم نزلت: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ)) [آل عمران:61] إلى آخر الآية.
قال جابر: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب (أَبْنَاءَنَا) الحسن والحسين (وَنِسَاءَنَا) فاطمة) وهكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم.
وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: (جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة) وهذا أيضاً رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال أبو جهل قبحه الله: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً)، وهذا رواه البخاري وغيره.
يقول الزمخشري: فإن قلت: ما كان دعاؤه للمباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده، وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة.
معناه: أن الاثنين يقفان في المواجهة، فالرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه يدعون أن تنزل اللعنة على الكاذب في شأن عيسى، والآخرون أيضاً يدعون أن تنزل اللعنة على الكاذب في شأن عيسى عليه السلام، فلماذا أدخل غيره في ذلك مع أن المخاصمة كانت بين اثنين فقط؟ أدخلهم؛ لأن هذا أوكد في الدلالة على ثقته ويقينه من الحق الذي هو عليه، وأن الله سبحانه وتعالى فاطر السماوات والأرض ورب السماوات والأرض المطلع على هذا الحال معه، وسينصره، وسيخذل عدوه، بحيث إذا استجيبت الدعوة واستجيبت هذه المباهلة هلك الكافر وذووه فاستؤصلوا جميعاً ولم يبق منهم عين ولا أثر.
ثم يقول: وخص الأبناء والنساء؛ لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب.
ثم يقول: ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم: حماة الحقائق، وقدمهم في الذكر على الأنفس: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها.
وفيه دليل على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام.
وأصحاب الكساء من آل البيت، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ولا يقتصر وصف آل البيت عليهم.
ثم يقول: وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.(25/14)
حكم المباهلة
هذه الآية تدل على جواز المحاجة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئاً من الشريعة جازت مباهلته اقتداءً بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمباهلة هي الملاعنة، وهذا في الحقيقة مخرج لأصحاب الحق، إذا كان مع الإنسان حق أبلج وأوضح من الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك يعاند خصمه ويصر على باطله، ففي هذه الحالة تجوز لك المباهلة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فتحضر نفسك وأبناءك ونساءك وتقف في صف، وكذلك خصمك يحضر نفسه وأبناءه ونساءه، ثم تتباهلون وتجعلون لعنة الله على الكاذبين، فبلا شك أن هذا سيكون كفيلاً لتبرئة المظلوم، وإيضاح الحق من الباطل.(25/15)
أنموذج للمباهلة
في الحقيقة هناك حوادث كثيرة فيما يتعلق بموضوع المباهلة وقعت حتى مع أهل البدع، بل إن بعض الصحابة كـ ابن عباس وغيره لما اختلف مع بعض إخوانه من الصحابة في بعض القضايا الفقهية طلب المباهلة، كي يعلن وثوقه بما هو عليه من الرأي في هذه المسألة.
لا أطيل في ذكر الأمثلة وإن كانت كثيرة، لكن أقتصر فقط على هذا الذي ذكره العلامة أبو المعالي محمود شكري الألوسي رحمه الله في كتابه (غاية الأماني في الرد على النبهاني) يقول في أثناء مناقشة مذهب ابن عربي الملحد: قال الإمام أحمد بن علي بن حجر الشافعي: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني أشياء من كلام ابن عربي، وسأله رجل عن ابن عربي، فقال له شيخنا: هو كافر.
قال: وسمعت الحافظ شهاب الدين ابن حجر يقول: جرى بيني وبين بعض المحبين لـ ابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي، حتى إن الرجل المنازع لي في أمره هددني بالشكوى إلى السلطان بمصر بأمر غير الذي تنازعنا فيه إذا لم أكف عن الكلام في ابن عربي، فقلت له: ما للسلطان في هذا مدخل، نحن نتناظر مناظرة علمية، فتعال نتباهل، وقلت: ما تباهل الاثنان فكان أحدهما كاذباً إلا وأصيب، فقال لي: باسم الله! هيا توكلنا على الله، قال: فقلت له: قل: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال فالعني بلعنتك، فقال ذلك، فقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك، وافترقنا، قال: وكان يسكن الروضة، فاستضافه شخص من أبناء الهند، ثم بدا له أن يتركه وخرج في أول الليل مصمماً على عدم المبيت، فخرجوا يشيعونه إلى بيته، ففي أثناء رجوعه أحس بشيء مر على رجله، فقال لأصحابه: مر على رجلي شيء ناعم فنظروا فلم يروا شيئاً، وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي في نفس الليلة، وما أصبح إلا ميتاً، وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وسبعين، وكانت هذه المباهلة في رمضان منها، وعند وقوع المباهلة عرفت أن السنة لا تمضي عليه، وكانت بمحضر من جماعته.(25/16)
تفسير سورة آل عمران [137 - 148](26/1)
تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض)
قال تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
هنا ندب إلى القياس أي: قيسوا بهم عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال إذا فعلوا فعلهم، والأمر بالسير والنظر لمشاهدة آثار المتقدمين له أثر في الاعتبار أقوى من أثر السماع، فليس الخبر كالمعاينة.(26/2)
تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138].
أي أن القرآن تخويف نافع للمتقين، وهو هدى لهم.(26/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
أي: لا تضعفوا عن الجهاد فيما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم.
(إن كنتم مؤمنين) أي: فلا تهنوا ولا تضعفوا إذا كنتم مؤمنين؛ لأن الإيمان يورث قوة القلب، والثقة بنصر الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه، أو (إن كنتم مؤمنين) فأنتم الأعلون؛ لأن الإيمان يقتضي العلو لا محالة.(26/4)
تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)
يقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].
((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا))، الأيام دول يوم لك ويوم عليك.
وسنة الحياة عدم ثبات الأحوال، لكن العاقبة للمتقين، فلابد من استحضار هذا عند الابتلاء.
في هذا الزمان الذي عم فيه الظلم وطم، وتحققت فيه كثير من أشراط الساعة على يد أعداء الدين، فما على المسلم إلا أن يستحضر مثل هذه الآيات: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، لكن الفارق هو أنكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، مهما اشتدت المحن بالمؤمن، فما عليه إلا أن يفزع إلى الله ويستعمل سلاح الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى؛ لأن الله سبحانه هو نصير للمؤمن ومولى لهم قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، وقال عز وجل: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] يكفي أن المدد مقطوع بين الظالم وبين الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما بينه وبين الله خراب ودمار.
إذاً: يكفي المؤمن في البلاء أن يفزع إلى الله؛ ولأن الحبل بينه وبين الله متصل، وإذا فزع إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يمده بنصره وبمعونته، كما ذكرنا من قبل: أن قوة المؤمن ليست في عضلاته، بل في قلبه واتصاله بربه.
وهذا حديث يطول، ويكفي أن نتذكر قصة غلام أصحاب الأخدود، فقوة المؤمن تكون في قلبه أساساً، ولا ينافي أن يكون المؤمن قوياً في بدنه.
إذاً: المؤمن قوته تكون في قلبه، بتوكله وثقته بالله تبارك وتعالى، يقول عز وجل هنا: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) إذاً: ليس جديداً علينا هذا الذي يحصل من البلاء للمسلمين الآن، وليس أمراً مفاجئاً ولا بغتة ولا فلتة، وإنما هي سنة الله التي لابد أن تمضي، ولابد أن يخضع لها جميع الخلق، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابتهم القروح والآلام في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
((وَتِلْكَ الأَيَّامُ))، أي: أيام هذه الحياة الدنيا.
((نداولها بين الناس)) أي: نصرفها بينهم، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، فهي عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه، (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، بلا شك أننا الآن نستحضر هذا الحديث أكثر من أي وقت مضى، فالدنيا سجن المؤمن انظر كيف يكون حاله في السجن، فإذا خرجت روحه انطلق إلى الرحب والسعة، وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى والنعيم.
فالمؤمن لابد أن يستحضر هذا الأمر؛ لأن الدنيا هي جنة بالنسبة للكافر، وهي في نفس الوقت سجن بالنسبة للمؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي، مقيد بالبلاء وبحرب أعداء الدين وأعداء الله تبارك وتعالى.
هذه سنة الله التي لن تتبدل ولن تتخلف، حتى الذي يتنازل عن دينه كي يخفف عن نفسه من وطأة هذا السجن، وكي يطلب العافية لن ينال العافية، بل سيكون أول من يعذبه هذا الذي ترك دينه من أجله، فإن الله قضى قضاء مبرماً محكماً لا ينقض ولا يخلف، أن من أطاع غيره أو أحب غيره في معصيته عذبه به ولابد، والأمثلة لا تكاد تنتهي، كم رأينا من جبار في الأرض قام بتعذيبه وزير من وزرائه، كأن ينقلب عليه بعد ذلك، أو يقتله أو يعذبه أو يسجنه أو يحاكمه، وكم رأينا من أناس شرعوا قوانين لقهر الناس وإذلالهم، ثم كانت هذه القوانين وبالاً عليهم، فمن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، فهي سنة الله لن تتخلف أبداً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].(26/5)
الحكم والغايات المحمودة من معركة أحد
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة، ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنه لو انتصر المسلمون دائماً لدخل معهم المنافقون وغير الصادقين في الإسلام، ولم يميز الصادق من غيره، ولو هزم المسلمون دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فيضيع الدين، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، أحياناً ينتصرون وأحياناً تكون الأخرى؛ ليتميز من يتبعهم ويطيعهم على الحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة، ممن يعبدون الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، إذا كثرت الأموال وعوفي في صحته ووجد السعة والرخاء والرفاهية يقول: هذا دين طيب رأينا منه الخير، فإذا كانت الأخرى فابتلي بموت أولاده أو بمرض أو بفقر أو غير ذلك، يقول: هذا دين شؤم والعياذ بالله، فمثل هذا نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يريد ديناً لا ابتلاء فيه، فإذا ابتلي: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا} [الحج:11] حرمها وابتلي بفقدانها، والآخرة أيضاً؛ بسبب ارتداده {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى في أن تكون الأيام دولاً بين الناس.
((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، هذه حكمة أخرى أن يتميز المؤمنون من المنافقين، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الفتن التي تكون في آخر الزمان تفرز الناس وتقسمهم، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، وهذا ما نراه.
سبحان الله! في مثل هذه الأيام التي نعيشها كل يوم ينكشف منافقون جدد، فقد كانوا يخبئون هويتهم وعداءهم للدين، فظهروا على حقيقتهم؛ ليميز الخبيث من الطيب، وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينكشف هؤلاء، وينكشف حقدهم على دينه وعلى عباده الصالحين، فيعلمهم الله تعالى علم رؤية ومشاهدة، بعد أن كانوا معلومين في علم الغيب، الذي هو علمه السابق وهو صفة من صفات الله.
وذكرنا من قبل أيضاً حكمة هذا الابتلاء في قوله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214]، وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31].
قوله: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)) هنا حكمة أخرى من حكم الابتلاء بالجهاد، وهي أن يكرم ناساً منكم بالشهادة؛ ليكونوا مثالاً لغيرهم في التضحية بالنفس، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلابد أن ينيلهم درجة الشهادة.
والاتخاذ منبئ عن الاصطفاء والتقريب كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].
((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فيه تنبيه لطيف الوقع على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد، فلم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم وخذلهم؛ ليحرمهم فضل الشهادة، فالله لا يحب الظالمين، ولذلك خذلهم وثبطهم حتى تخاذلوا وارتدوا عن الجهاد، وحرموا من أن ينالوا الشهادة في سبيل الله.
فالتعريض بالمنافقين، ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة على المؤمنين.(26/6)
تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)
قال تبارك وتعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141].
((وليمحص الله الذين آمنوا)) أي: لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس، وأيضاً يمحصهم ويخلصهم من المنافقين الذين يخالطونهم ولا يعرفونهم، فحصل للمؤمنين تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم ولكنه في الحقيقة عدو لهم.
ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين فقال: ((وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)) أي: ويهلكهم، فإنهم إذا كانت لهم الغلبة يبغون في الأرض وينشرون الفساد ويظلمون الناس، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذا أراد الله تعالى أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم، كما جاء في الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، لابد من السبب وهو العمل.
فلذلك إذا أراد الله سبحانه وتعالى شراً بشخص لخبث نفسه وعدائه لدينه، فإنه ييسر له الأسباب ويمهله ويمده في الغي، ويتمادى في ظلم الناس وفي محاربة دين الله عز وجل، ويظن أنه سيحقق إنجازات وانتصارات بأن غلب دين الله وغلب أولياء الله عز وجل وحقق نصراً يتباهى به ويفخر ويتيه به، وهذا المسكين لا يدري أن كل ما يوقعه من البلاء بأولياء الله فسيوقع الله به أضعاف أضعافه في جهنم وبئس المصير، فلذلك يقيض الله لهم من الأسباب كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تدفعهم إلى الشر دفعاً {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]، فإذاً إذا أراد الله به هذا فإنه ييسره للعسرى، كلما أراد ظلماً لا يسد عليه باب الظلم، بل يجعله يتمادى في الظلم ويتمادى في محاربة الله عز وجل؛ حتى يوقعه في سوء عاقبة هذه الأعمال.
قوله تعالى: ((وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ))، المحق: هو ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يبقى منه شيء، أو لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأصروا على الكفر جميعاً.(26/7)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة)
لقد أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع، فقال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ)) (أم) هنا المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي: بل أحسبتم، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، هذا لا يقع أبداً ولا يكون.(26/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه)
قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143].
((تمنون)) فيه حذف إحدى التاءين، وأصلها (ولقد كنتم تتمنون).
(الموت) أي: الحرب ولقاء العدو؛ لأن الحرب من مبادئ الموت ومن أسبابه.
أو (تمنون الموت) أي: الشهادة في سبيل الله.
((مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ)) حيث قلتم: (ليت لنا يوماً كيوم بدر؛ فننال ما نال شهداء بدر من الأجر والثواب والشهادة).
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه أنه قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له)، وهذا حديث صحيح، وهذا الحديث هو المعروف بحديث صلاة التوبة.
صلاة التوبة هي أن الإنسان إذا أذنب ذنباً فإنه يتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله سبحانه وتعالى، فإذا فعل ذلك غفر الله له.
قوله تعالى: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: رأيتم سبب هذا الموت، إما رأيتم سببه باستشهاد إخوانكم أو قتل إخوانكم وإما بالحرب نفسها.
((وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ))، أي: تبصرون الحال لما انهزمتم وقد كنتم تتمنون مثل هذا الموقف؛ لتنالوا مثل ما نال شهداء بدر؟!(26/9)
تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)
لما أشيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل قال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم، فنزل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
((وما محمد)) صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من المواضع التي ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، وكما نلاحظ أنه لا يأتي اسمه إلا في حالة الخبر عنه بالرسالة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2]، أو هنا: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ))، لكن لم يناد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه في القرآن قط، إنما نودي بصفته؛ تعظيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، وهكذا، بخلاف غيره من إخوانه من الأنبياء فقد نودوا بأسمائهم: يا إبراهيم، يا نوح، يا موسى، يا عيسى، وهكذا، فهنا خبر عنه بصفة الرسالة: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ)) أي: مضت، ((مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ)) أي: أن المقصود ما محمد عليه الصلاة والسلام إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفتؤمنون به في حال حياته، فإن مات انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟! ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ)) أي: كغيره، والمقصود من الآية إثبات أنه لا منافاة بين الرسالة وبين القتل أو الموت؛ لأن هذه سنة الله الماضية في أنبيائه ورسله من قبل، فإنهم لابد أن يفارقوا الدنيا إما بموت وإما بقتل ظلماً، كما وقع من اليهود لعنهم الله حينما قتلوا يحيى عليه السلام وزكريا.
((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) أي: ارتددتم ورجعتم إلى الكفر.
والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري أي: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم معبوداً فترجعوا بموته؟! لو أنكم كنتم تعبدونه لحق لكم أن ترجعوا عن عبادته إذا مات، لكن أنتم تعبدون الله تبارك وتعالى.
((وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)) أي: وإنما يضر نفسه.
((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)).
أي: سيجزي الله الذين يثبتون على الإسلام؛ لأن الكلام في حق من ينتكسون أو ينقلبون على أعقابهم ويرتدون، أو: سيجزي الذين يثبتون في القتال، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.
والله عز وجل سماهم هنا شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام التي هي أجل نعمة وأعز شيء يمن الله به على الإنسان، فهم يشكرون هذه النعمة بالثبات عليها وعدم جحودها أو النكوص على الأعقاب.
وهذه الآية تلاها أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتلاها الناس كلهم، وذلك لما أنكر عمر موت النبي عليه الصلاة والسلام، فأعرض عنه أبو بكر وتلا هذه الآية في الناس، يقول عمر: (فكأني ما عرفت هذه الآية قبل يومئذ) أي: كأنه ما سمع هذه الآية من قبل، فنزلت عليه برداً وسلاماً وسكينة.
معنى هذه الآية كما يقول القاسمي: أن من كان على يقين من دينه وبصيرة من ربه لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه؛ لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين، كما قال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف المنافقون وأشاعوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقول المنافقين أيضاً: لو كان نبياً ما قتل؛ يقول أنس بن النضر: (يا قوم! إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه).
وروى ابن أبي نجيح عن أبيه: (أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ))).
ومن الحكم من غزوة أحد: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد أو يخلدوا، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لابد منه.(26/10)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].
((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بقضاء الله تبارك وتعالى.
((كِتَابًا)) أي: كتب ذلك كتاباً.
((مُؤَجَّلًا)) أي: مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر، فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة؟! فالموت إذا كان مكتوباً لإنسان بسبب معين وبأجل معين فلابد أن يأتي، هذه عقيدة راسخة لا شك فيها على الإطلاق، ولذلك قال الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر فلذلك نلاحظ في آيات الجهاد عموماً كيف أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على هذين الأمرين اللذين هما سبب نكوص كثير من الناس عن الجهاد: خوف انقطاع الرزق، أو خوف حضور الأجل، فبين الله تبارك وتعالى كما في هذه الآيات أن الأجل مكتوب، ولن يتقدم ولن يتأخر.
يقول الصديق رضي الله عنه: (احرص على الموت توهب لك الحياة).
وقال أبي سليمان خالد بن الوليد رضي لله تعالى عنه حينما مات على فراشه: (ما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء).
((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أي: من يرد بعمله جزاءه من الدنيا ((نُؤْتِهِ مِنْهَا)) هذا تعريض لمن حضر الجهاد طلباً للغنائم فقط، أي: نؤته ما قسم له ولا حظ له في الآخرة.
((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)) أي: من ثوابها، ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)).(26/11)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
قال تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) أي: وكم من نبي قاتل، وفي قراءة: (قتل معه ربيون كثير) بالبناء للمفعول.
((قتل معه)) أي: لإعلاء كلمة الله وإعلاء دينه.
((ربيون كثير)) أي: جموع كثيرة من الأتقياء والعباد.
((فَمَا وَهَنُوا)) أي: فما جبنوا.
((لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم.
((وَمَا ضَعُفُوا)) أي: عن الجهاد.
((وَمَا اسْتَكَانُوا)) أي: وما خضعوا لعدوهم، بل صبروا على قتالهم، ولم يفعلوا كما فعلتم حين قيل: قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} أي: على البلاء، أو على قتال أعدائه.
إذاً: هذه الآية فيها بحث طويل عقده العلامة القرآني الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" بين فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتل في حالة الجهاد أبداً؛ وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] فهذا يدل على أن الذي يقابل الغلبة هو القتل، والله سبحانه وتعالى ضمن للأنبياء النصر وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، فالرسل لا يمكن أن يقتلوا في جهاد، وإنما يمكن أن يقتلوا بصورة أخرى كما حصل ليحيى أو لزكريا.
هذا ما رجحه العلامة القرآني الشنقيطي، فيمكن مراجعة هذا البحث المستفيض في كتابه الرائع "أضواء البيان" في الجزء الأول.
في هذه الآية بين تبارك وتعالى محاسن الربيين الفعلية بقتالهم مع الأنبياء وثباتهم في الجهاد.(26/12)
تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا)
شرع بعد ذلك في بيان محاسنهم القولية، وهو ما استنصر به الأنبياء وأممهم على قومهم من الاستغفار والاعتراف بالتقصير، ودعاء الله تبارك وتعالى والاستغاثة به، فبعد ما مدح أفعالهم مدح أقوالهم، قال عز وجل: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)) أي: عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم، هذا على التفسير المرجوح بأن الأنبياء يمكن أن يقتلوا في الجهاد، وقد بينا من قبل أن هذا مذهب مرجوح.
((إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) الإسراف هو تجاوز الحد إيذاناً؛ بأن ما أصابهم لسوء فعلهم، وهذا اعتراف منهم بأنهم مسيئون، وقد أضافوا الذنوب لأنفسهم.
((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا))، أي: بالقوة على الجهاد.
((وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)).
فلما اعترفوا بأنهم مسيئون، كان هذا منهم إحساناً، فأعقبها بقوله: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))، فالتوبة والاعتراف بالذنب هو من الإحسان.(26/13)
أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا)
يقول الرازي: فيه دقيقة لطيفة: وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))، إلى آخر الآية سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان، وأجعلك حبيباً لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى النصر والتمكين والعزة والرفعة إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز له سبحانه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وعلموا أيضاً أن النصر منوط بالطاعة، حينئذ قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) أي: الذنوب التي بسببها تصبح الدولة والغلبة لأعدائنا، كما يقول الشاعر: بذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا فكل المصائب التي تحل بالمسلمين في كل زمان، اعتاد الناس على أن ينظروا فيها إلى ظلم الحكام، ولا يلتفت كثير من الناس إلى حقيقة أن تسليط هؤلاء الظالمين على المسلمين في كل زمان ومكان إنما هو بسبب ذنوبهم، ودليل ذلك في قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، فالله عز وجل يولي ظالماً على الظالمين، ولولا أن الناس ظالمون لما عوقبوا بهذا السلطان، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن -وذكر هذه الذنوب وعقوبتها ومنها-: إلا ابتلوا بشدة المئونة، وجور السلطان عليهم)، يعني: أن المعاصي تكون عقوبتها أحياناً تسليط الظالمين على الرعية، ولذلك لما عوتب بعض الخلفاء أنه لا يسلك بهم سنن عمر بن الخطاب وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما قال لهم: لو كنتم أنتم مثل الرعية التي حكمها أبو بكر وعمر لكنت أنا مثل أبي بكر أو مثل عمر، لكن ابتليتم بي وابتليت بكم.
أو كما قال رحمه الله تعالى.
ويشيع على لسان العلماء قولهم: عمالكم أعمالكم، أي: كيفما تكونوا يولى عليكم.
وصف الله حال فرعون وقومه قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، فلا ينبغي أن نلتفت فقط إلى ظلم الظلمة وطغيانهم، وإنما ينبغي أن نلتفت إلى أننا سبب في ظلمهم لنا، وسر هذا الالتفات وأهمية هذا التشخيص هو أن نعرف من أين أُتينا، فنبادر إلى العلاج الصحيح، وهو كما فعل هؤلاء الربيون: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)).
((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا))، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم والنصر على أعدائهم، فسألوه مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على عدوهم، فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف، وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كانت المحن في الجهاد أو في غيره، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إذاً: التحول والتغيير ينبغي أن يبدأ من أنفسنا، كل إنسان يراجع نفسه ويفتش لعل ذنباً يفعله أو معصية يرتكبها، أو إسرافاً أو تجاوزاً للحد، هو السبب في كل المصائب التي تعم المسلمين.(26/14)
تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة)
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148].
((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أعطاهم النصر والغنيمة وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وكفارة السيئات، هذا ثواب الدنيا.
((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) أي: الجنة، وحسنه هو التفضل فوق الاستحقاق، بأن يعطيك الله سبحانه وتعالى ما تستحقه ويتفضل عليك بما هو أوسع وأعظم منة منه وتكرماً.
ونلاحظ هنا أنه سبحانه وتعالى لم يصف ثواب الدنيا بالحسن بل قال: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا))، بينما وصف ثواب الآخرة بالحسن، قال عز وجل: ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) فهو سبحانه أراد أن يميز ثواب الآخرة بهذا الحسن؛ لأنه هو المعتد به عند الله تبارك وتعالى، أما ثواب الدنيا فغير دائم، بل ينقطع وتشوبه الأكدار والمنغصات.
ثم قال: أما ثواب الآخرة فإنه دائم لا ينقطع، ولذلك قال: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).(26/15)
تفسير سورة آل عمران [149 - 167](27/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149].
الرد على الأعقاب هو مثل للحور بعد الكور، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في السفر ويقول: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور)، بالراء، وروي بالنون (الكون)، ومعنى ذلك: أن الإنسان في حالة السفر يبتعد عن بيئة إخوانه وأهله الذين يعرفونه، فقد يكون الشيطان أقوى عليه، وسمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن حقيقة الشخص، فتراه يتحول إلى سبع مفترس؛ لأنه ابتعد عن المراقبة.
فالإنسان قد يتكلف الأخلاق في دار الإقامة، وقد يتكلف ذلك إذا قابل إخوانه ساعة أو ساعتين، أما في السفر فإنه لابد أن تغلبه شخصيته الحقيقية وتظهر طبيعته، ولذلك لما سأل عمر عن إنسان فقال رجل: (أنا أعرفه، فقال له عمر: هل التصقت به؟ هل تعاملت معه بالمال؟ هل سافرت معه؟) فهذه الأشياء هي التي تكشف الإنسان، ومن أراد أن يشهد على إنسان لابد أن يكون قد خالطه مخالطة دقيقة ومنها السفر.
والكور مأخوذ من تكوير العمامة، فالإنسان إذا أراد أن يثبت العمامة على رأسه فإنه يكورها، وإذا أراد أن يفكها فكها، وعملية الفك للعمامة تسمى التحوير، فالحور بعد الكور هذا تعبير أريد به انفراط عقد الإنسان بعد استمساكه، أو زلل قدمه عن طريق الاستقامة بعدما كان مستقيماً، فهذا معنى الحور بعد الكور، أما إذا قلنا: بعد الكون بالنون أي: بعد كونه على الطريق المستقيم يحيد عنه ويرتد على عقبيه.
فقوله تعالى: ((يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) هو مثل يضرب في الحور بعد الكور.
((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) ذكر (خاسرين) لأننا إذا أطعنا أعداء الله عز وجل فسنخسر كل شيء، وأعظم ما نخسره -كما يفهم من سياق الآية- الإسلام؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
(خاسرين) أي: خاسرين للإسلام، خاسرين لمحبة الله عز وجل ورضوانه، خاسرين لثوابه الدنيوي والأخروي.
أما ثمرة هذه الآية: فهي الدلالة للمؤمنين ألا ينزلوا على حكم الكافرين، ولا يقبلوا مشورتهم؛ خشية أن يردوهم عن دينهم؛ لأن الله عز وجل الذي يعلم من خلق أخبرنا بخفايا قلوبهم ودواخل أمورهم، وأنهم لن يقصروا في إيقاع الأذى بنا.(27/2)
تفسير قوله تعالى: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)
يقول تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150].
أي: ناصركم فأطيعوه، فكونوا مع الله عز وجل ولا تلتفتوا إلى أعدائكم وأعداء دينكم.
{وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} أي: فأطيعوه دون هؤلاء الكافرين، فإنه سبحانه وتعالى ينصركم عليهم بالقتال، وينصركم بدون قتال.(27/3)
تفسير قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا)
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
بين تبارك وتعالى ذلك كيف ينصرهم بدون قتال قال عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} سبق أن قلنا: إن قوة المؤمن في قلبه، وليست في بدنه، فالكافر إذا رأيته يعجبك جسمه لكن قلبه كقلب الفأر المذعور، ولذلك يقول تبارك وتعالى هنا: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وكذلك قال تبارك وتعالى في وصف اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}.
ولا شك أنكم قد سمعتم ما حكاه الجنود المسلمون في حرب رمضان مما رأوا من الفزع الذي نزل على اليهود بمجرد أن كانت الصيحة تدوي: الله أكبر! ففزعوا كالفئران وولوا هاربين مذعورين كالجرذان الهاربة، وخط برليف وما أدراك ما خط برليف، كيف دك بهذه الصيحة الإيمانية؟!! فالرعب يقذفه الله تبارك وتعالى في قلب الكافر؛ لأنه على قدر الشرك يكون الرعب في القلب، وعلى قدر الإيمان يكون الثبات؛ لأن الشجاعة والثبات ورباطة الجأش لا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده، وأعلى الموحدين الموقنين في توحيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك خصه الله تبارك وتعالى بخصال، منها ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: أن العدو إذا كان بينه وبين المسلمين مسافة تقطع في شهر، فإن الله سبحانه يلقي في قلبه الرعب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلينا ألا ننخدع بما نحن عليه الآن من ضعف ومن هوان؛ لأن خاصية رعب الكفار منه عليه الصلاة والسلام هي لأمته من بعده أيضاً، وآية ذلك أنك تجد في هذا الزمان مع شدة ضعف المسلمين أن العالم في حالة رعب وفزع وهلع وخوف من الإسلام ومن المسلمين، ويسلكون كل المسالك ليتخلصوا من هذا الذي يقض مضاجعهم.
هناك تصريحات للوزير الفرنسي في حلف الأطلنطي في الأسابيع الماضية يقول فيها: إننا لا نخاف إلا الإسلام، وإننا نرعب من الإسلام، وإن المعركة القادمة ستكون مع الإسلام.
ولذلك يتخذون إجراءات وقائية كثيرة حتى يتقوا خطر الإسلام، وهم يمشون إلى حتفهم، فكأن جمع اليهود بهذه الصورة من أجل أن يتحقق وعد الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، كنا ونحن صغار نسمع العجائز يقلن: لو قام لليهود ملك لقامت القيامة، والعلامات والإرهاصات تتكاثر في هذا الزمان بصورة مذهلة، وهي تنبئ أن شيئاً ما سيحصل، والله تعالى أعلم.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر والشجر: يا عبد الله! يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله).
إذاً: اليهود يقذف الله الرعب في قلوبهم.
و (الرعب) بسكون العين وضمها وهو الخوف.
لقد عزم المشركون بعد ارتحالهم من أحد على العود واستئصال المسلمين، فألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يعودوا لقتال المسلمين كما عزموا.
{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}، أي: بسبب إشراكهم ألقينا في قلوبهم الرعب؛ لأنه على قدر الشرك يكون الرعب، والشجاعة والثبات لا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده.
{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، أي: حجة على عباده، وهي الأصنام أو غيرها.
{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}، أي: مأوى أو مقر أو مقام (الظالمين) أي: الكافرين.(27/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه)
قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
(ولقد صدقكم) أي: وعدكم الله تبارك وتعالى بالنصر، وقد صدقكم ولم يتخلف وعده تبارك وتعالى، فوعدكم بالنصر في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120].
((إِذْ تَحُسُّونَهُمْ)) أي: تقتلونهم، يقال: حسه إذا قتله، أو (إذ تحسونهم) أي: إذ تقتلونهم قتلاً كثيراً.
(بإذنه) بإرادته، أو بتيسيره وتوفيقه.
((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ))، أي: جبنتم عن القتال.
((وَتَنَازَعْتُمْ))، أي: اختلفتم.
((فِي الأَمْرِ)) إما الشأن، وإما الأمر الذي هو ضد النهي، أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي.
يقول القاضي كنعان هنا: إن موقع الرماة لم يكن في سفح جبل أحد كما هو شائع، بل كان على تلة صغيرة مشرفة على أرض المعركة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر خمسين رجلاً من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير رضي الله عنه بأن يثبتوا على تلك التلة؛ ليدفعوا خيل المشركين بالنبل؛ لئلا يأتوا من ورائهم.
(حتى إذا فشلتم وتنازعتم) أي: اختلفتم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمقام في سفح الجبل للرمي، فقال بعضكم: نذهب للغنيمة فقد نصر أصحابنا، وقال بعضكم: لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمر كان واضحاً حتى لو غلب المسلمون فعلى الرماة أن يثبتوا ولا يتحركوا من مواقعهم حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول.
((وَعَصَيْتُمْ))، أي: عصيتم أمره فتركتم المركز؛ لطلب الغنيمة.
((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، أي: من بعد ما أراكم الله ما تحبون من النصر والغنيمة.
,جواب (إذا) يفهم من سياق الكلام، وتقديره حتى إذا فعلتم ذلك كله منعكم الله نصره.
وقوله: ((وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، فيه التنبيه على عظم المعصية.
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}، فترك الموقع للغنيمة.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، فثبت به حتى قتل كـ عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأصحابه.
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}، أي: منعكم نصره ثم ردكم للهزيمة عنهم؛ ليظهر المخلص من غيره فهربتم.
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، ولقد عفا عنكم ما ارتكبتموه من هذه المعصية.
إذاً: ظاهر الآية أن الله عز وجل عفا عنهم من غير توبة، أي: أن الآية لم تذكر توبتهم، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر بمشيئته، فهذا دليل على أن أصحاب الكبائر تحت المشيئة، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم وعاقبهم.
قوله: (والله ذو فضل على المؤمنين) فيه دليل أيضاً على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب المذكور في الآية لاشك أنه كبيرة، ومع ذلك لم تزل عنهم صفة الإيمان، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالمعصية أو بالكبيرة.(27/5)
تفسير قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد)
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:153].
{إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: اذكروا (إذ تصعدون) أي: تبعدون في الأرض هاربين.
وقوله (تصعدون) إما متعلق بقوله: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم)، وإما بمقدر وهو اذكروا (إذ تصعدون).
والإصعاد هو الإبعاد في الأرض والجري فيها فراراً من العدو.
وهنا قراءة أخرى: (إذا تَصعدون) من الفعل الثلاثي صعد أي: على الجبل.
{وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي: لا تعرجون ولا تعطفون بالوقوف على أحد؛ لأنكم قد حددتم اتجاه الهرب من شدة الدهشة والروعة.
{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعوكم من ورائكم يقول: (إلي عباد الله! إلي عباد الله)، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، لم يحاول أحد منكم أن يلتفت إلى الخلف،.
(في أخراكم) أي: من ورائكم، أو في جماعتكم الأخرى، وهي جماعة الرماة.
{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي: جازاكم عقوبة على هذا التولي وهذا الفرار، ولا يستعمل لفظ الثواب في الأغلب إلا في الخير، ويجوز استعماله أيضاً في الشر؛ لأنه مأخوذ من قوله: ثاب إليه عقله أي: رجع إليه، يقول تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:125]، أي: إذا ذهبوا منه رجعوا إليه، والمرأة سميت ثيباً؛ لأن الواطئ عائد إليها، وأصل الثواب هو كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيراً أو شراً، لكن في العرف اختص لفظ الثواب بالخير.
فإذا كان الثواب محمولاً على أصل اللغة، فإنه يستعمل في الخير وفي الشر، فيكون الثواب هنا مستعملاً بمعنى الشر.
أما إذا حملنا الثواب على مقتضى العرف، بحيث يطلق على الخير، فيكون ذلك وارداً على سبيل التهكم بهم، فقوله: (فأثابكم غماً) كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]، فهو يسمع كلمة: (فبشرهم) فيفرح ثم يصدم بكلمة: (بعذاب أليم) ففيه تهكم بهم، كقول الشاعر: تحيته الضرب وعتابه السيف.
فقوله تبارك وتعالى هنا: (فأثابكم غماً بغم) أي: غماً بالهزيمة التي حصلت لهم هذا هو الغم الأول بسبب الهزيمة، أي: على غم آخر متصل بالغم الأول، وهو ما كان من صرخة الشيطان: بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل.
وقيل: الباء بمعنى: على (غماً بغم) أي: غماً مضاعفاً على غم فوت الغنيمة.
أو الباء تكون باء المقابلة أو العوض، أي: كما أدخلتم على المشركين الغم في يوم بدر، دخل عليكم الغم في يوم أحد، فصرتم متكافئين من هذه الحيثية.
{لِكَيْلا تَحْزَنُوا} متعلق بـ (عفا) في الآية السابقة في قوله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) أو متعلق بأثابكم.
(ولا ما أصابكم) أي من القتل والهزيمة {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.(27/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً)
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154].
(أمنة) أي: أمناً.
بعد نزول المسيح عليه السلام يقول عليه الصلاة والسلام: (وتقع الأمنة على الأرض) أي: الأمن (حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم).
وهناك آية أخرى في القرآن استعملت فيها كلمة: (أمنة) في سورة الأنفال: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11].
فـ (نعاساً) بدل من أمنة، أي: نوماً، {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}، (يغشى) أو (تغشى) بالياء والتاء.
(طائفة منكم) وهم المؤمنون، فكانوا يميلون تحت الحجف، وهي: التروس من الجلد، وتسقط السيوف منهم، فهذه من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين أنه أنزل عليهم من بعد هذا الغم الذي وقع بهم (أمنة نعاساً).
روى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه).
ويقول أبو طلحة: (رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: ((ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا))).
وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد: منها: أن المشركين كانوا في غاية الحرص على قتل الصحابة في ذلك الموقف ثأراً ليوم بدر، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، ولا شك أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يحفظهم ويعصمهم من القتل، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تبارك وتعالى.
ثم أخبر عز وجل أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نجاة وسلامة نفسه، لا هم الدين ولا النبي ولا الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولذلك قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: ما بهم إلا هم أنفسهم وقصد خلاصها، فهؤلاء لم ينعموا بهذا النعاس، بل بقوا في القلق والجزع والفزع والخوف.
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه وتعالى {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.
يقول السيوطي: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: حملتهم على الهم، فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يناموا، وهم المنافقون.
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} يظنون بالله ظناً غير الظن الحق.
{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي: كظن الجاهلية، حيث اعتقدوا أن النبي قتل أو لا ينصر.
في الحقيقة هنا بحث طويل جداً للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يشرح فيه ما المقصود بظن الجاهلية، ونحن نحاول اختصاره بقدر المستطاع، يقول رحمه الله تعالى: وهكذا اعتقد هؤلاء أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفاصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، وإذا وقع بلاء بالمسلمين ظنوا أن المسلمين سيستأصلون، وأنه لن تقوم لهم راية.
فهذا ظن الجاهلية، فلنحذر هذا الظن في هذا الزمان الذي صار فيه الدين غريباً، والله سبحانه وتعالى وحده المستعان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبط كيد أعداء هذا الدين، وهناك حرب لا تقوى الكلمات على وصفها مثل: العلمنة بالإكراه، وكذلك ما نشر في بعض الجرائد أن هناك تعميمات بتطهير المكتبات المدرسية من الكتب الدينية، خاصة كتب العقيدة والحديث، لم يصبح الأمر تطرفاً ولا إرهاباً، فقد نسوا هذه الكلمات وما عادوا بحاجة إلى استعمالها، فاليوم يعلن عن إعدام اثني عشر مليون كتاب إسلامي جمعت من المكتبات الإسلامية في المدارس، وهذه الكتب هي تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير، وكتب ابن تيمية وكتب ابن القيم وعامة علماء المسلمين، حتى كتب عبد الحليم محمود والشيخ كشك وغيرهم من المعاصرين.
وتقول التقارير: إنه يجري تتبع أي كتاب فيه شائبة دينية، على حسب زعمهم، فهل يظن هؤلاء أن الأمر سيظل بهذه الصورة؟ ألا نخشى أن يقع بنا ما وقع بشعب الصومال حينما قام الملحد المرتد سياد بري وأنكر آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، فثار العلماء رحمهم الله تعالى في وجهه، فأحرق العلماء وهم أحياء في المدينة العامة وقتلهم، فما تحركت شعرة إلا ما شاء الله، وسكت الناس على هذا، ومرت السنون وابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالأمراض، وابتلاهم بالمجاعات، وابتلاهم بالاحتلال الخارجي، وابتلاهم بالحروب الداخلية والقلاقل، فحرب الله عز وجل شؤم، فإحراق اثني عشر مليون كتاب إسلامي وإعدامها واستبدالها بكتب المواجهة والتنوير أمر ليس بالهين.(27/7)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155].
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} أي: تولوا عن القتال.
(يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وجمع الكفار بأُحُد، وهم المسلمون إلا اثني عشر رجلاً.
{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}، يعني: أزلهم بوسوسته {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} من الذنوب، وهو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للمؤمنين، {حَلِيمٌ} أي: لا يعجل على العصاة بل يصبر ويمهل.
ولا شك أن الحليم من أعظم أسماء الله الحسنى.
(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، فالله يحلم ويصبر على الأذى، يشتمه بنو آدم وينسبون إليه الولد، ويصدون عن سبيله ويحاربون أولياءه، ومع ذلك هو حليم بهم، حتى إنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
فاشترط في تعذيبهم ألا يتوبوا، بحيث لو تابوا مع ما فعلوه من الجرم الشنيع، لتاب عليهم تبارك وتعالى.(27/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: لا تفعلوا كفعلهم، ولا تقولوا كقولهم.
{وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}، أي: المنافقين قالوا في شأنهم.
{إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ}، أي: سافروا فماتوا أو قتلوا.
{أَوْ كَانُوا غُزًّى} جمع غاز، فقتلوا.
{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} لو جلسوا معنا في المدينة وما خرجوا للجهاد ولا سافروا للجهاد لما ماتوا وما قتلوا.
{لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ}، أي: ذلك القول الذي قالوه في العاقبة.
{حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}، هذا الكلام الذي قالوه وتفوهوا به وهو قولهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، سيتحسرون عليه في العاقبة، وسيعاقبون عليه.
{وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ}، أي: لا يمنع عن الموت قعود.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ}، أو (يعملون) {بَصِيرٌ} [آل عمران:156]، فيجازيكم به.(27/9)
تفسير قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم)
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157].
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، هذه لام القسم، (في سبيل الله) أي: في الجهاد.
{أَوْ مُتُّمْ} بضم الميم وكسرها، أي: أصابكم الموت فيه.
{لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} أي: مغفرة كائنة من الله لذنوبكم، ورحمة منه لكم على ذلك، هذا هو جواب القسم، وتقدير الكلام: لئن قتلتم ليغفرن الله لكم ويرحمكم.
{خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي: مما يجمعون من الدنيا.(27/10)
تفسير قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم)
{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:158].
{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} أي: في الجهاد وغيره.
{لَإِلَى اللَّهِ} أي: لإلى الله لا إلى غيره.
{تُحْشَرُونَ} أي: في الآخرة فيجازيكم.(27/11)
تفسير قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، أي: يا محمد سهلت أخلاقك مع أنهم خالفوك وعصوا أمرك.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أي: سيئ الخلق.
{غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: جافياً فأغلظت لهم.
{لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي: تفرقوا.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي: تجاوز عنهم ما أتوه.
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: ذنبهم حتى أغفر لهم.
{وَشَاوِرْهُمْ} أي: استخرج آراءهم.
{فِي الأَمْرِ} أي: في شأنك، سواء في الحرب أو غيرها تطييباً لقلوبهم، وكي يستن بك المسلمون ويقتدوا بك في الشورى.
وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لهم، ولولا ضيق الوقت لذكرنا أمثلة كثيرة من الشورى وفوائدها.
{فَإِذَا عَزَمْتَ} أي: على إمضاء ما تريد بعد المشاورة.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: ثق به بعد المشاورة.(27/12)
تفسير قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم)
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} أي: يعينكم على عدوكم كيوم بدر.
{فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} أي: يترك نصركم كما حصل يوم أحد.
{فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}، أي: بعد خذلانه لا ناصر لكم.
{وَعَلَى اللَّهِ} لا على غيره.
{فَلْيَتَوَكَّلِ}، أي: المؤمنون.(27/13)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل)
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:161].
لما فقدت قطيفة حمراء يوم بدر قال بعض الناس: لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت الآية مبينة عصمته صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنيمة، فلا تظنوا به ذلك.
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: حاملاً له على عنقه كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ}، الغال وغيره، جزاء {مَا كَسَبَتْ} أي: ما عملت.
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: شيئاً.(27/14)
تفسير قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله)
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران:162].
ثم قال عز وجل: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله} فأطاع ولم يغل.
{كَمَنْ بَاءَ} أي: رجع.
{بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} لمعصيته وغلوله.
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع.(27/15)
تفسير قوله تعالى: (هم درجات عند الله)
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} أي: أصحاب درجات.
((عِنْدَ اللَّهِ)) أي: مختلفو المنازل، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العقاب، ودرجات الجنة تذهب علواً، ودركات النار تذهب سفلاً.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم به.(27/16)
تفسير قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: عربياً مثلهم؛ ليفهموا عنه، وليشرفوا به؛ لأن الأمم السابقة من اليهود أو النصارى كانوا يفخرون على العرب؛ لأنهم أهل علم وأهل كتاب، فقد بعث فيهم عيسى وموسى وغيرهم من الأنبياء.
هل العرب كان لهم شرف يشرفون به؟ قد يقال: كانوا يشرفون بالانتساب إلى إبراهيم عليه السلام.
نقول: لكن هذا الانتساب يشترك معهم فيه اليهود والنصارى، وإنما شرفوا ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي: آيات القرآن.
{وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يطهرهم من الذنوب.
((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)) أي: القرآن.
((وَالْحِكْمَةَ)) أي: السنة، القاعدة التي ذكرناها من قبل باتفاق السلف: أن الحكمة إذا اقترنت بالقرآن في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فهي السنة.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} أي: وإنهم كانوا من قبل بعثه.
{لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: بين.(27/17)
تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها)
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} بأحد حين قتل سبعون منكم.
{قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ببدر، حيث قتلتم سبعين من المشركين وأسرتم سبعين.
{قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أي: تعجبتم وقلتم: من أين لنا هذا الخذلان، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا؟! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، قل لهم: هو من عند أنفسكم؛ لأنكم تركتم المكان فخذلتم.
نعيد التذكير بهذا المعنى الخطير جداً فنقول: ما نحن فيه اليوم فهو من عند أنفسنا، فالعلاج الحقيقي لمن كان صادقاً أن يسعى إلى التغيير إلى الأحسن في واقع نفسه وفي واقع المسلمين، وأن يفتش كل واحد في نفسه، ينظر ما هي المخالفات التي يرتكبها؟ لأن ما نحن فيه هو عقوبة من الله، وإذا كان في شأن الصحابة قال الله لهم: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))، فماذا نقول نحن الآن؟ أغلب بيوت المسلمين فيها (التلفاز) و (الفيديو)، وعلى الأصح بدأ ينتشر (الدش).
هؤلاء يهوديات ونصرانيات يملأن الشوارع ويرتدين البنطلونات الضيقة، وهذا الفساد الذي انتشر هل الحكومة هي التي تطلع الناس على كل مظاهر الفساد؟ أم أن القسط الأعظم من الفساد هو من عند أنفسنا؟ نتفاعل مع هذا الفساد ونهرع إليه، وهناك قسط كبير جداً من المعاصي نقع فيها طوعاً واختياراً ولا يجبرنا عليها أحد، وإذا غلب الشر وظهر الفساد في الأرض أوشك أن يعمنا الله بعذاب من عنده، نسأل الله العافية!.
فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد قال لهم الله سبحانه وتعالى: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))، مع أن الرسول كان فيهم، ومع أنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف بنا؟ هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم من الأيام كلف بعض جنوده أو عماله بأمر، فقال لهم: (هل عملتم ما أمرتم به؟ فقالوا: نعم، قال: أما إنكم لو لم تعملوا بما أمرتم لتركبن أعناقكم اليهود والنصارى عقوبة).
{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] أي: ومن هذا الشيء النصر، وقد جازاكم بخلافه؛ بسبب مخالفتكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء خلف المسلمين لحماية ظهورهم.(27/18)
تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان)
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166].
يقول تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي: بأحد.
{فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بإرادته.
{وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.(27/19)
تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا)
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167].
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ} أي: والذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وهم عبد الله بن أبي وأصحابه.
{تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أعداء الله.
((أَوِ ادْفَعُوا)) أي: ادفعوا عنا القوم بتكثير سوادكم إن لم تقاتلوا، أو المعنى: حتى لو لم تشتركوا معنا في القتال تديناً فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأموالكم.
{قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} لو نحسن قتالاً لاتبعناكم، لكن الأمر في نظرنا ليس إلا إلقاء بالأيدي إلى التهلكة، ونحن لا نريد أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة، قال تعالى تكذيباً لهم: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} أي: بما أظهروا من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل ذلك أقرب للإيمان من حيث الظاهر.
{يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ولو علموا قتالاً لم يتبعوكم.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: من النفاق.(27/20)
تفسير سورة آل عمران [169 - 185](28/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً)
يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169].
إذا رجعنا إلى سياق الآيات السابقة يقول عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167]، إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168].
فنلاحظ أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، كما ذكر أيضاً عن المنافقين في سورة النساء أنهم إذا غنم المسلمون وظفروا قال أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:73]، هذا في حالة الغنيمة، أما إذا وقع البلاء وسقط الشهداء فيقول: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] أي: حاضراً، ليس الشهيد المذكور هنا في الآية هو الذي يقتل في سبيل الله، بل المقصود بالشهيد: هو الذي حضر المعركة، والمنافق يحمد الله أنه لم يكن حاضراً ساعة الجهاد والقتال.
فلذلك هنا يبين الله تبارك وتعالى لهم أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، بل إن كان في سبيل الله فهو من أجلَّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون.
إن الحذر من القتل لا يجدي ولا يغني كما قال عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: لا تحسبنهم أمواتاً تعطلت أرواحهم.(28/2)
حياة الشهداء في الجنة
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} ليس المقصود هنا نفي حياة البدن؛ لأن البدن افتقد الحياة بالفعل، لكن المقصود هنا حياة الأرواح.
يقول تعالى: ((بَلْ أَحْيَاءٌ)) أي: بل هم أحياء، فوق أحياء الدنيا؛ لأنهم مقربون من الله تبارك وتعالى.
((عند ربهم يرزقون))؛ لأنهم بذلوا له أرواحهم، فهم أحياء يرزقون، لا رزقاً معنوياً بل رزقاً حقيقياً كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ))).
وأخرج مسلم عن مسروق قال: (سألنا عبد الله عن هذه الآية: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا))، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية)، وهذا رواه الإمام أحمد، ورواه ابن جرير عن أبي كريب.
قال ابن كثير: وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة.
ومنهم من يكون على هذا النهر باب الجنة.
وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله تعالى أعلم.
ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها أيضاً، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم.
حديث عزيز عظيم، أي: خاصية تكاد تكون غير موجودة في غيره من الأحاديث، وهي أن ذلك الحديث اجتمع في روايته ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه).
قوله: (يعلق) أي: يأكل، وفي هذا الحديث (أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة)، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
يقول الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون).(28/3)
علاقة الروح بالبدن
وقال البيضاوي: الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس الذي نحسه ونراه، بل هو جوهر مدرك بذاته، لا يفنى بخراب البدن.
أي: أن هذه الآية تدل أن في الإنسان غير هذا الهيكل الجسماني، وإنما له جوهر مدرك بذاته لا يفنى، عنده إحساس وإدراك؛ لأن الأرواح تتنعم وتستلذ، فلا يفنى الإنسان بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، وهذا واضح جداً في حالة النوم، فإذا كان الإنسان نائماً فإنه تطرأ عليه كل المشاعر الإنسانية من اللذة والفرح والغم والهم والسرور والبكاء، وغير ذلك من الأحاسيس التي يجدها الإنسان بروحه عند نومه، فالذي يتنعم أو ينقبض في المنام هو الروح، والبدن ساكن، فهكذا أيضاً بالنسبة للأموات.
ومما يؤيد ذلك قول الله تبارك وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، وكذلك حديث: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر).
يقول الشهاب: ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة، بل هو في الحقيقة النفس المجردة، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق به، وهو جوهر مدرك بذاته من غير احتياج إلى هذا البدن، فالبدن يحتاج للروح، لكن الروح في إدراكها وإحساسها لا تحتاج إلى البدن؛ لوصف هذا الإنسان أو الروح بعد مفارقة الجسد بالنعيم والسرور وغير ذلك.
وقال أبو السعود: وفي الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه.
في الحقيقة هناك معنى مهم يتعلق بهذه الآية، سبق أن ناقشناه بالتفصيل في سورة البقرة عند قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، فهذه الآية تثبت حياة للأرواح بعد الممات.
لكن تنفي أيضاً إدراكنا لكيفية هذه الحياة؛ لأنه قال: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، فنحن لا نستطيع أن ندرك كنه وكيفية هذه الحياة.(28/4)
تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170].
قوله: ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) أي: بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان.
((وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ)) أي: بإخوانهم المجاهدين الذين.
((لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)) أي: لم يقتلوا فيلحقوا بهم حتى الآن.
((مِنْ خَلْفِهِمْ)) أي: بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم، أو لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.
((وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) معنى الآية: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به، وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم لمن خلفهم حث للباقين من بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء.(28/5)
تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل)
يقول تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:171].
أي: يسرون بما أنعم الله عليهم من زيادة الكرامة وتوفير أجرهم عليهم، فكرر الاستبشار المذكور في الآية السابقة.
فالبشارة الأولى تتعلق بنفي الخوف والحزن، {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170]، أما هنا فالبشارة بشيء زائد على ذلك ((يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)) وهو ما يقارن عدم الخوف وعدم الحزن من نعمة عظيمة لا يقدر قدرها وهي ثواب أعمالهم.
((وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: الشهداء، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان وكونه مناطاً لما نالوه من السعادة.
ذكر القاسمي رحمه الله تعالى كلاماً طيباً جداً عن ابن القيم رحمه الله تعالى في فضيلة الشهداء: يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون في غزوة أحد، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال، فشق ذلك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها، قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؟ قال: فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة، ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف أبو سفيان على المسلمين ولم يكن قد أسلم، ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر)، يعني: واعدهم العام القابل أن يلتقوا من جديد في بدر حتى يمحو المشركون المعرة التي لحقتهم في بدر، فأرادوا أن يوافوهم العام القابل في نفس المكان كي يثأروا من غزوة بدر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: نعم قد فعلنا)، يعني: نحن مستعدون لمواجهتكم في بدر، قال أبو سفيان: فذلكم الموعد.
ثم انصرف هو وأصحابه، فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا).
فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172].
واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: (يا رسول الله! إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي أسير معك فأذن له، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بـ أبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، إذ فاضوا عليكم ومستعدون لهزيمتكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم.
فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة.
فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم.
قال: فإني أنهاك عن ذلك).
قال البخاري: عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)) الآية، قالت عائشة لـ عروة: كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير).(28/6)
تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)
في بعض كتب السيرة: أن المشركين أرسلوا رسولاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حمراء الأسد، فأخبروه بأنهم قد جمعوا المسير إليه وإلى أصحابه؛ ليستأصلوا بقيتهم، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، هذا الرسول بلغ الرسالة، فقال الصحابة رضي الله عنهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله تعالى في ذلك: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ)) أي: الركب الذين استقبلوهم.
((إِنَّ النَّاسَ)) أي: أبا سفيان وأصحابه.
((قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)) أي: الجموع؛ ليستأصلوكم.
((فَاخْشَوْهُمْ)) فلا تأتوهم.
((فَزَادَهُمْ)) ذلك القول.
((إِيمَانًا)) أي: تصديقاً بالله ويقيناً، يعني: لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا، بل ثبت به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه، وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ((فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)).
((وَقَالُوا حَسْبُنَا الله)) أي: كافينا أمرهم.
((وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، أي: نعم الموكول إليه، والمفوض إليه الأمر هو الله تبارك وتعالى.(28/7)
تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل)
{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].
((فَانْقَلَبُوا)) أي: رجعوا من حمراء الأسد.
((بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)) أي: رجعوا بالعافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين.
((لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)) أي: لم يصبهم قتل ولا جراح، مع أنهم كانوا مستعدين للجهاد.
((وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) بطاعته وطاعة رسوله بخروجهم.
((وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) وفيه تحذير للمتخلف، وتخطئة رأيه، حيث حرم نفسه مما رجعوا به.
وفي قوله تعالى: ((وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة، وهي الكلمة التي قالها المؤمنون هنا كما في هذه الآية حينما قيل لهم: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ))، وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار.
وهذا هو الراجح في هذه الآية أن تحمل على غزوة حمراء الأسد، وهي التي تسمى: غزوة بدر الصغرى، أو غزوة بدر الثانية.
روى ابن جرير: أنه لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم، يريدون أن يكيدوهم بذلك ويرعبوهم، فيقول لهم المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قدموا بدراً فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، وتخلف المشركون ولم يحضروا الموعد المتفق عليه.
((فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ))، النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه.
يقول ابن كثير: والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد.(28/8)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا) وما بعدها من الآيات
يقول السيوطي رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ونزل في الشهداء -يعني: شهداء أحد قالوا: (من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم).
ثم قال تعالى: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا))، بالتخفيف والتشديد.
أي: قُتِلوا أو قتِّلوا.
((فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، أي: لأجل دينه.
((أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ))، يعني: بل هم أحياء حياة لا يدرك أهل الدنيا حقيقتها، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154].
((بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت)، كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره.
((يُرْزَقُونَ)) أي: يأكلون من ثمار الجنة.
((فَرِحِينَ)) حال من ضمير يرزقون.
((بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ)) أي: يفرحون.
((بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ))، أي: من إخوانهم المؤمنين، ويبدل من الذين: ((أَلَّا خَوْفٌ)) أي: بأن لا (خوف عليهم) أي: الذين لم يلحقوا بهم (ولا هم يحزنون) أي: في الآخرة.
المعنى: يفرحون بأمنهم وفرحهم.
((يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ)) أي: ثواب.
((مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ))، زيادة عليه.
((وَأَنَّ))، بالفتح عطفاً على نعمة، وبالكسر استئنافاً يعني: أنها قراءة أخرى (وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين) أي: بل يأجرهم.
((الَّذِينَ))، هذا مبتدأ.
{اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي: استجابوا دعاءه بالخروج للقتال لما أراد أبو سفيان وأصحابه العود تواعدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سوق بدر العام المقبل من يوم أحد.
يقول القاضي كنعان: ما ذكره الجلال السيوطي هو قول مجاهد وعكرمة.
وقال القرطبي: وقد شذا في قولهما هذا.
وذلك أن جمهور المفسرين على أن هذه الواقعة هي غزوة حمراء الأسد، فهي بعد أحد مباشرة.
يقول: وقال ابن إسحاق والواقدي: إنها نزلت ثناء على المسلمين الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معركة أحد، ثم خرجوا معه في اليوم التالي ليوم أحد، خرجوا معه فساروا ثمانية أميال من المدينة وكانوا ستمائة وثلاثين رجلاً، ووصلوا إلى موضع يقال له: حمراء الأسد، فأقاموا به بضعة أيام، ثم رجعوا إلى المدينة من غير أن يلقوا عدوهم، فعرفت هذه بغزوة حمراء الأسد، وكانت جبراً لخللهم يوم أحد عندما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتفرقوا عنه.
قال القرطبي: وتفسير الجمهور لهذه الآية أنهم سبعون رجلاً انتدبهم النبي صلى الله عليه وسلم ليذهبوا في أثر كفار مكة مخافة أن يرجعوا.
فلذلك كان قول السيوطي مرجوحاً كما ذكرنا، إنما المقصود هنا غزوة حمراء الأسد؛ وذلك لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، أي: في أحد، وخبر المبتدأ (للذين أحسنوا منهم) يعني: بطاعته (واتقوا) أي: مخالفته.
(أجر عظيم) وهو الجنة.
(الذين) هذه بدل من (الذين) قبله أو نعت.
(قال لهم الناس) أي: نعيم بن مسعود الأشجعي، وقد أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين وهم يستعدون للقاء المشركين في موسم بدر.
((إِنَّ النَّاسَ)) أبا سفيان وأصحابه المشركين.
((قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)) الجموع ليستأصلوكم إن خرجتم للقائهم في موسم بدر.
((فَاخْشَوْهُمْ)) ولا تأتوهم.
((فَزَادَهُمْ)) أي: ذلك القول.
((إِيمَانًا)) تصديقاً بالله ويقيناً.
((وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ))، أي: هو كافينا أمرهم.
إن كثيراً من الناس يقولون كلمة: (حسبنا الله) ولا يستحضرون معناها.
حسبي الله معناها: الله يكفيني هذا الشر أو هذا الضر أو هذا الأذى، أو يكفيني الرزق أو غير ذلك من الأمور.
((وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) أي: نعم من يفوض إليه الأمر هو الله تبارك وتعالى.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ))، قال جماعة من العلماء: المراد بالناس القائلين: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ))، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع.
ويدل لهذا التفسير الإشارة المفردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175].
قال صاحب الإتقان: قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد بكلمة الناس قوله: ((إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ))، فوقعت الإشارة بقول: (ذلكم) إلى شخص واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعاً لقال: (إنما أولئكم) فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ على أن المقصود شخص واحد.
يقول: ((فَانْقَلَبُوا)) أي: رجعوا من بدر ((بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)) بسلامة وربح.
((لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)) أي: من قتل أو جرح.
((وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الخروج.
((وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ))، أي: على أهل طاعته.(28/9)
تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175].
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: إنما ذلك قول الشيطان.
(يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءه الكفار، وحينئذ فـ (أولياءه) تكون مفعولاً ثانياً للفعل (يخوف)، والمفعول الأول محذوف، تقديره: يخوفكم أولياءه، كما قرئ كذلك.
{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
يقول السيوطي: (إنما ذلكم) أي: القائل لكم: إن الناس إلى آخره، (الشيطان يخوف) أي: يخوفكم (أولياءه) أي: الكفار.
إذاً هنا المفعول الأول يكون محذوفاً وهو الضمير.
((فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ))، في ترك أمري وعصيان رسولي.
((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) حقاً، فلا تأبهوا بهذا التخويف.(28/10)
تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)
{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:176].
قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، أي: لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله، وقرئت في السبع: (ولا يحزِنك).
{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}، أي: لأنهم لن يضروا الله شيئاً.
قوله: (لن يضروا الله) أي: لن يضروا أولياء الله.
قال عطاء: يريد أولياء الله، نقله الرازي.
قال أبو السعود: تعليل للنهي وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبداً، أي: لن يضروا بذلك أولياء الله ألبتة، وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم، هذا معنى رائع جداً في الحقيقة، {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} أي: لن يضروا أولياء الله.
لماذا عبر الله تبارك وتعالى عن أوليائه بذاته المقدسة سبحانه وتعالى، (إنهم لن يضروا الله شيئا)؟ كما قلنا: إن تعليق نفي الضرر به تعالى لتشريف أولياء الله المؤمنين، والإيذان بأن مضرتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، فإن من يؤذي أولياء الله كأنه يؤذي الله عز وجل، وجاء هذا صريحاً في الحديث القدسي المشهور: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ففي هذا مزيد مبالغة في التسلية يعني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، والله عبر عن أذية أوليائه بأذيته هو تبارك وتعالى.
قال المهايمي: أي: لن يضروا أولياء الله؛ لأنه الله يحميهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجيزهم إياه عن حمايتهم، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئاً، بل {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} أي: أنه يريد أن يضرهم الضرر الكلي الذي ليس بعده ضرر، ويريد الله أن يمكر بهم كي يوقع بهم الضرر الذي لا ضرر أعظم منه، وهذا الضرر هو أنه يريد ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في النار.
قال بعض المفسرين: ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين.
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يحزنك) بضم الياء وكسر الزاي، وبفتحها وضم الزاي من حزنه وهي لغة في أحزنه.
((الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) أي: يقعون فيه سريعاً بنصرته، وهم أهل مكة أو المنافقون، أي: لا تهتم بكفرهم.
{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بفعلهم، وإنما يضرون أنفسهم.
((يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا)) أي: نصيباً ((فِي الآخِرَةِ)) أي: الجنة، فلذلك خذلهم الله.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في النار.(28/11)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان)
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:177] قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي: أخذوه بدله.
الإيمان: إما أنه الميثاق الذي أخذ عليهم في الأزل، أو الإيمان الفطري الذي فطروا عليه من التوحيد، فكأنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان.
{لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بكفرهم.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم.(28/12)
تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم)
قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) الإملاء والاستدراج من الله سبحانه وتعالى لأعدائه المحاربين دينه وأوليائه.
وقوله: ((أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ)) أي: بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتأخيرهم دهراً طويلاً، حيث يدعهم الله سبحانه وتعالى يتقلبون في البلاد ويغترون بما هم عليه.
فلا يحسبن هؤلاء أن هذا الإملاء خير لهم، بل هو في الحقيقة سبب مزيد عذابهم؛ لأنهم إذا طال عمرهم في الكفر والمعاصي والصد عن سبيل الله، فمعنى ذلك أن الزيادة في العمر شؤم عليهم يقول عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) هذا هو منطوق الحديث، أما مفهومه: (شركم من طال عمره وساء عمله)؛ لأن من طال عمره في الشر زادت سيئاته، أما من مات قبل أن يطول عمره، وعنده معاص وظلم للناس فإنه ستقل سيئاته، فلذلك يقول الله تعالى هنا: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ))، بل هو سبب مزيد عذابهم؛ لأنه ((إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا))، بكثرة المعاصي فيزادوا عذاباً.
((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) أي: لهم في الآخرة عذاب ذو إهانة، في أسفل دركات النار.
قوله: ((أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ))، في (ما) وجهان: أن تكون مصدرية أو موصولة.
إذا قلنا إنها موصولة فقد حذف عائدها، أي: إملاؤنا لهم، أو الذي نمليه لهم، وإذا قلنا: إنها موصولة فحق كلمة (ما) أن تكون غير متصلة بـ (أن) وعندما تكون (ما) مصدرية فتوصل بـ (إن).
ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة، مصحف الإمام هو مصحف عثمان رضي الله عنه، فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف، وما الثانية (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) هذه متصلة فهي تسمى: ما الكافة؛ لأنها تمنع عمل إن، وأنا أذكر بيتين من الشعر ذكرهما أحد العلماء في شأن شخص أراد وظيفة، وكان من أراد أن ينال الوظيفة لابد أن يبذل رشوة أو هدية، فقال لهم هذا الرجل: ما أعطي، أو: ما أدفع الرشوة، فعزلوه وقالوا له: ما تستحق العمل، فكفوه عن العمل؛ فلذلك نظم أحد العلماء بيتين فقال مخاطباً هذا الرجل الشريف أو الأمين: عزلوك لما قلت ما أعطي وولوا من بذل أوما علمت بأن ما حرف يكف عن العمل ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ))، في قوله تعالى: (مهين) معنى لطيف، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها، كانت العاقبة هي النقيض، وذلك بالإهانة.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما يملي للإنسان فإنه سبحانه وتعالى يعطيه المال والصحة والعافية، ثم تراه يغتر وقد يشتم الله سبحانه وتعالى ويفعل أقبح أفعال الكفر، ومع ذلك يمد له ويملي له حتى يكون نصيبه من العذاب أشد واستحقاقه له أكبر، ومثل هذا الشخص المتجبر المتكبر المغرور أخبر الله سبحانه وتعالى بأنه سيعامله بنقيض قصده، فتكون عاقبته في الدنيا المهانة.
قوله: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) إذا لاحظنا هذا المعنى، فإنها معاملة له بنقيض قصده؛ لتعززه وتجبره، فهو يريد العزة لنفسه، فعاقبه الله في الآخرة بالعذاب المهين، فوصف عذاب مثل هذا الشخص بالإهانة؛ ليكون جزاؤه جزاءً وفاقاً.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في هذه الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب، وبين في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] البأساء: الفقر والفاقة، والضراء: هي المرض، {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، لما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى لم يتضرعوا، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا إلى الله، فماذا يفعل بهم؟ يمد لهم ويملي لهم إملاء، ويستدرجهم استدراجاً، يقول تبارك وتعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، أي: كثر فيهم الخير والرزق والبركة {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، أما نحن ففي مأمن {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
وكقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:42 - 43]، إلى قوله تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
بين سبحانه في موضع آخر أن ذلك الاستدراج من كيده المتين وهو قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183].
وبين في موضع آخر أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج، فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيراً من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون:55] * {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56]، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، وقوله عز وجل: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، ما دام أكرمني في الدنيا لابد أن يكرمني في الآخرة، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وقوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، ونظائر ذلك من القرآن الكريم.(28/13)
تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه)
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179].
لقد أشار الله تبارك وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: وهي أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وصار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأظهر المنافقون في هذه الغزوة ما كانوا يكتمونه، وظهر ما كانوا يسترونه ويخفونه، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً بين أظهرهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرجوا منهم، ولذلك قال تبارك وتعالى هاهنا: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179].
(ما كان الله ليذر) أي: ليترك (المؤمنين).
(على ما أنتم عليه) من الاختلاط بالمنافقين وعدم التباين، بل لا يزال يبتليكم (حتى يميز الخبيث من الطيب) ولا يميز إلا بهذا الابتلاء؛ لأنه (ما كان الله ليطلعكم على الغيب).
هناك طريقتان لمعرفة الطيب من الخبيث: الأولى: بالاطلاع على الغيب ومعرفة الغيب، وهذا لا يكون، نحن لا نستطيع أن نطلع على الغيب.
الثانية: وهي أن يقع الامتحان والفتنة والابتلاء فيمتاز الناس فيظهر أولياء الله من أعدائه.
(وما كان الله ليطلعكم على الغيب) يعني: هذا الطريق ليس متاحاً لكم؛ لتعرفوا الطيب من الخبيث؛ لكن تأتي المحن والابتلاءات فيمتاز المؤمن من المنافق كما جاء في حديث: (فتنة الدهيماء)، إنها فتنة حرب وهرج، وجاء في آخر الحديث: (أن الفتنة تشتد حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه).
يقول السيوطي: (ما كان الله ليذر) أي: (ليترك المؤمنين).
(على ما أنتم) أيها الناس عليه من اختلاط المخلص بغيره (حتى يميز) بالتخفيف والتشديد قراءتان، يعني: يفصل.
(الخبيث) أي: المنافق.
(من الطيب) أي: المؤمن بالتكاليف الشاقة المبينة لذلك، ففعل ذلك يوم أحد.
(وما كان الله ليطلعكم على الغيب) فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز.
(ولكن الله يجتبي) أي: يختار.
(من رسله من يشاء) فيطلعه على الغيب كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين.
(فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا) النفاق.
(فلكم أجر عظيم).(28/14)
تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله)
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180].
قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}، بالياء والتاء.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، أي: بزكاته.
{هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: هذا البخل خيراً لهم.
أي: لا تحسبن بخل الباخلين خيراً لهم، أو لا يحسبن الباخلون بخلهم خيراً لهم.
{بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}، يعني: ما بخلوا بزكاته من المال.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -اللهزمتان: جانبا الفم- ويقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ))).
{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: يرثهما بعد فناء أهلهما، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء، {خَبِيرٌ} فيجازيكم به.
يقول القاسمي: اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه، وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله، يعني: أن هذا المال ليس مالهم وإنما هو عطية من الله.
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) ليس مالهم وإنما هو مال الله تبارك وتعالى؛ للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله، أي: إذا كان الله هو الذي أعطاك فيجب عليك أن تبذل في سبيله هذا القدر البسيط، وهو نسبة الزكاة المعروفة، كما قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فلا يحسبن هؤلاء ذلك خيراً لهم بل هو شر لهم؛ لأنه سيجلب لهم العقاب (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) وقد جاءت أحاديث كثيرة في تفاصيل هذا العذاب أشرنا إلى طرف منها.
ثم أشار تعالى إلى أنهم وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله فهي راجعة إليه: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقون في سبيله؟ ونظيره قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فهذا على حقيقته، كما قال الزجاج: أي أن الله تعالى يفني أهلهما فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون؛ لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يعني: فيجازيكم على المنع والبخل، وفي قراءة أخرى (والله بما تعملون خبير) فيجازيكم به.(28/15)
تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)
قال عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181].
لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس أيضاً قال: (دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس -بيت العبادات عند اليهود- فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقره، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟! فقال: يا رسول الله! إن عدو الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ))).
ولما كان مثل هذا القول لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية الشناعة أشار إلى وعيده الشديد فقال تعالى: ((سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا))، أي: ما قالوه مع هذه العظيمة الشنعاء، في صحائف الحفظة.
(وقتلهم الأنبياء) أي: سنكتب أيضاً قتلهم الأنبياء بغير حق، وإنما ضمه مع ما قبله إيذاناً بسوابقهم القبيحة، فلذلك ربط الله سبحانه وتعالى هذا القول الشنيع بجرائم آبائهم، ونسبها إليهم مع أنهم ليسوا هم الذين قتلوا الأنبياء اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا راضين بذلك، بل هم سعوا في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليس قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)) بأول جريمة يرتكبونها، ومعلوم أن من اجترأ على قتل الأنبياء لا يستبعد منه أن يقول هذا الكلام.
((وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)).(28/16)