تفسير قوله تعالى: (يغشى الناس هذا عذاب أليم وقد جاءهم رسول مبين)
قال الله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} [الدخان:11] أي: يغطي هؤلاء، {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11] أي: هذا من عذاب الله عز وجل لهؤلاء حيث منع الله عز وجل عنهم المطر، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي: أنهم يدعون الله عز وجل حين يرون هذا العذاب فيقولون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي: نحن مصدقون أنك ربنا وخالقنا، وسنؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كشفت عنا هذا العذاب، كما قال قوم فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13] أي: من أين لهم التذكر؟ فهؤلاء مثل الذين إذا ركبوا في البحر وأصابهم الضر {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
وهذه عادة المشركين، فإنهم إذا أصابتهم البلية والمصيبة قالوا: يا رب! ورجعوا إليه، فإذا كشف عنهم البلاء نسوا الله سبحانه، ورجعوا إلى شركهم وعبادة غيره سبحانه، قال: {أَنَّى لَهُمُ} [الدخان:13] أي: من أين لهم التذكر وعادتهم أنهم يكذبون ويعرضون في وقت الرفاهية والرخاء؟! {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13]، (مبين) لها معنيان: الأول من بان بمعنى: ظهر، فهو مبين ظاهر واضح جلي صلى الله عليه وسلم، ومعه الآيات والمعجزات من ربه التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام.
والثاني بمعنى: مفصح صلوات الله وسلامه عليه، من أبانه بمعنى أظهره وبينه وفسره وشرحه، فهو مبين بلسان عربي مبين، وليس كلامه أعجمياً فيدعون أنهم لا يفهمون ما يقوله.(463/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون)
{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] أي: تولوا وأعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذت الاستفهام لإنكار أنهم سيتذكرون الآن لما جاءهم العذاب، فإذا كشفنا عنهم العذاب رجعوا إلى الكفر مرة أخرى، قال سبحانه: {قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الدخان:13 - 14] أي: أعرضوا عنه، {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} [الدخان:14] كما في الآية الأخرى: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] يعني: لا يعلمه الله بل يعلمه رجل في اليمامة اسمه رحمان اليمامة، وقال: بعضهم: يعلمه غلام فلان الأعجمي الذي يقرأ ويكتب، وهذا لسانه أعجمي وليس عربياً، فكيف يعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الناس وأبلغهم صلوات الله وسلامه عليه، والذي أوتي لجوامع الكلم؟! فهم يكذبون ولا يستحيون من تخريفهم ويصدقون ما يقولون! وقالوا عنه أيضاً (مجنون) وافتروا عليه الكذب وحاشا له من الجنون، قال الله سبحانه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] يعني: بفضل الله وبرحمة الله أنك لست كما يقولون -ولعنة الله على الكذابين-: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].(463/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون)
قال الله سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} [الدخان:15]، وهذا هو ما احتج به ابن مسعود رضي الله عنه في أن هذا العذاب كان في الدنيا وليس قبل الساعة، وإن كان لا ينفي أن يكون من ضمن علامات القيامة الدخان، ولكن هذا المذكور في الآية قد حدث؛ لذلك قال ربنا: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سترجعون إلى كفركم وتكذيبكم كعادة الكفار من قبلكم.(463/6)
تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون)
قال الله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16]، (يوم) هنا الظرفية تتعلق بشيء محذوف تقديره: انتظر يوم القيامة، وتذكر: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16] أي: يوم القيامة، فهذه بطشة أكبر من بطشة الدنيا التي كانت في يوم بدر، حيث بطش الله عز وجل بهم وأهلكهم.
وقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ} [الدخان:16] بكسر الطاء على قراءة الجمهور، وبضمها (نبطُش) قراءة أبي جعفر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] يعني: من هؤلاء، فنجازيهم على ما صنعوا، وهذا يكون يوم القيامة، فيعاقبهم الله عز وجل على ما صنعوه، وقد يكون العذاب عاماً على الجميع من عصى ومن لم يعص، ويبعثون على نياتهم، فالله عز وجل قد ينزل العذاب على من يشاء من عباده فيهلك الجميع صغاراً وكباراً، ثم يوم القيامة يبعثهم ليحاسبهم كل على نيته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(463/7)
تفسير سورة الدخان [17 - 24]
إن أكثر قصة كررت في القرآن الكريم هي قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، ولم يأت هذا التكرار عبثاً، وإنما لحكمة يريدها الله عز وجل، ذلك أن هذه القصة اشتملت على الكثير من الفوائد والعبر والدروس التي تظهر فيها قدرة الله عز وجل في إهلاك الظالمين، وحفظه سبحانه لأنبيائه وعباده الصالحين، وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي لا حصر لها؛ ولذلك أكثر الله عز وجل من تكرار هذه القصة للاعتبار بها.(464/1)
خصائص السور المكية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
سورة الدخان من السورة المكية، ومن خصائص السور المكية: إقرار أمر العقيدة، وبيان الحكم والمواعظ من قصص الأنبياء مع أقوامهم.
فقد جاء أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام إلى أقوامهم فدعوهم إلى الإيمان بالله، فكفروا وكذبوا وأعرضوا، فجاءهم العذاب من عند الله.
وقصة موسى مع فرعون تكررت في القرآن على صور شتى، وفي كل موضع يذكر الله عز وجل العظة والحكمة المراد بها، وفي كل موضع تجد السياق متفقاً مع باقي السورة، وموافقاً لها في فواصلها، وفي طولها وقصرها.
وذكر قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من كتابه سبحانه وتعالى من بلاغة القرآن وفصاحته، وحسن سياقه، وحسن إيراده لهذه القصص العظيمة، متوخياً العبرة في كل موطن منها، فإذا ساقها بطولها في سورة طويلة كسورة الأعراف فإنه يسوق القصة ويذكر ما وراء ذلك من عبر فيها، وإذا ساقها باختصار فإنه يشير إليها إشارة، كسورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] أو غيرها من السور التي يشير فيها إشارة إلى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي كل موضع يذكر فيها العبرة، وهذا من تفنن القرآن العظيم في ذكر هذه القصة، ففي كل موضع تأخذ منه عبرة من العبر، وتجدها متسقة مع السياق الذي تدل عليه، أو الذي تساق فيه.
وذكر سبحانه وتعالى هنا أن الأقوام السابقين كذبوا، ومن هؤلاء قوم فرعون، وقد قال سبحانه للمشركين: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37].
فهذه صورة من صور إجرام السابقين مع أنبياء الله المرسلين عليهم الصلاة والسلام.(464/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17] أي: قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا عنه: ساحر، وزعموا وافتروا عليه أنه يعلمه بشر، فقد كُذِّب الرسل الأولون قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ((وَلَقَدْ فَتَنَّا)) أي: ابتلينا وامتحنا واختبرنا السابقين بما أرسلنا إليهم من رسل، وأنزلنا من كتب، وامتحناهم بالأوامر والنواهي.
((وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ))، والفتنة: هي الابتلاء والامتحان من الله عز وجل، فقد أعطى الله فرعون الملك، ثم أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام ليدعوه إلى الله سبحانه، فتكبر فرعون حتى إنه جعل الناس يعبدونه من دون الله، وزعم أنه إله وأنه هو ابن الآلهة، حتى قال للناس في النهاية: أنا ربكم الأعلى، فكأنه كان أمام الناس يعلي نفسه شيئاً فشيئاً إلى أن جعل نفسه إلهاً ورباً، فعبده الناس من دون الله، وأنكر الرب سبحانه وتعالى، وقال: أنا هذا الرب {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ففتنه الله عز وجل بالملك، وفتن قومه بما آتاهم من مال ورئاسة وغيرها، وابتلاهم بأن أرسل إليهم موسى عليه الصلاة والسلام.(464/3)
إكرام الله عز وجل لموسى عليه السلام
قال تعالى: ((وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)) وهذا الرسول الكريم هو موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان كريماً على الله سبحانه وتعالى، فقد أحبه الله وجعله واحداً من الخمسة أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو كريم على ربه سبحانه وتعالى، وكان كذلك كريماً في قومه، ومن أوسطهم نسباً، وكان من أشرف قومه عليه الصلاة والسلام، فأكرمه الله عز وجل بالنبوة والرسالة، وأكرمه وهو صغير بمعجزات، فنجاه من اليم، ورباه في بيت فرعون، فكان معززاً مكرماً من صغره صلوات الله وسلامه عليه، ولم يقدر أحد أن يصل إليه بشيء.
وأيضاً من كرمه على الله أن كلمه الله سبحانه وتعالى، ومن كرمه على الله أن أعطاه الله عز وجل الأخلاق الحسنة: من التجاوز والصفح عمن يظلمه، ومن كرمه على الله أنه كان في لسانه لثغة فدعا ربه أن يزيلها فاستجاب له ربه سبحانه وتعالى، قال تعالى حاكياً دعاء موسى له: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:25 - 30].
فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له ذلك كله فقال له: يا موسى لقد استجبنا لك هذا الذي سألته كله، ونخبرك أنا قد مننا عليك من قبل إذ نجيناك وقد كنت في اليم، وذكر الله عز وجل ما أكرم به موسى عليه الصلاة والسلام من صغره إلى أن صار رسولاً عليه الصلاة والسلام.(464/4)
تفسير قوله تعالى: (أن أدوا إلي عباد الله)
لقد أرسل الله موسى إلى فرعون وقومه، قال: {أَنْ أَدُّوا} [الدخان:18] يعني: بأن أدوا إلي عباد الله، فهو مرسل إلى بني إسرائيل ومرسل إلى فرعون لينهاه عما هو فيه من كبر، وعما هو فيه من دعوة أنه الإله والرب.
قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:45 - 44].
يعني: أن فرعون طغى وتكبر، ومع ذلك فإن الله عز وجل يأمرهما أن يقولا له القول اللين، لعله يستجيب، وهذه عظة لنا أن تكون الدعوة بالقول اللين، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه).
فأمر موسى عليه الصلاة والسلام وهو كليم الرحمن وهو الكريم على الله أن يذهب إلى هذا الحقير فرعون الملعون، ويكلمه كلاماً ليناً؛ لعله يستجيب لدين الله عز وجل، ولعله يطيع، والله يعلم أنه لن يستجيب إلا حين يأتيه العذاب، فلا يستجاب له في دعائه.
فقوله تعالى: ((أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)) أي: أن أدوا إلي بني إسرائيل، وقد كان بنو إسرائيل في مصر مستضعفين مستذلين، يسخرهم فرعون وقومه في الأعمال الشاقة، وكان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، أي: يستبقيهن خادمات في بيوته، وبيوت جنوده، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
ثم قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
ولا يغني حذر من قدر، فقد قدر الله عز وجل على فرعون الهلاك، فأتاه الهلاك من حيث يظن أنه آمن، فقد قال لقومه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56] يعني: نحن قوم كثيرون، وهؤلاء حفنة قليلون، ((وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ))، فنريد أن نخرج إليهم لنقتلهم، أو نرجعهم للخدمة عندنا مرة ثانية.(464/5)
الآيات التي ابتلي بها فرعون وقومه
لقد طلب موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون أن يترك بني إسرائيل ليخرجوا معه، ويذهب بهم إلى ديار الشام، فأبى فرعون، فابتلاه الله وقومه بالسنين ونقص من الثمرات؛ لعلهم يذكرون، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فابتلاهم الله بآية وراء آية، فكانوا يجأرون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو ربه، ويقولون له: لئن كشفت عنا الرجز -أي: العذاب- إننا لمؤمنون، وإننا لمهتدون، فيدعو لهم موسى فلا يستجيبون، حتى أتتهم تسع آيات معجزات على يد موسى عليه الصلاة والسلام فلم يستجيبوا له، وفي النهاية قال موسى: ((أدوا إلي عباد الله)) وكفاكم هذه الابتلاءات التي ابتليتم بها، فأداهم إليه فرعون من البلاء الذي يأتيهم، فقال له فرعون: خذ بني إسرائيل واخرج، ثم ندم فرعون على ذلك؛ لأنه لا يوجد من يخدم القوم، فغدر فيما وعد به، وأخلف ما وعد به موسى، فقال له موسى عليه الصلاة والسلام: ((أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)) أي: أد إلي بني إسرائيل فإنهم كانوا وديعة عندك، فهات هذه الوديعة وأرجعها إلي، فأنا أمين عليهم، ومن أحق بهذه الصفة من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(464/6)
تفسير قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله)
قال الله تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:19] أي: لا تتكبروا على الله، ((إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ)) أي: بحجة، وهذا من جمال التعبير؛ للمناسبة بين العلو وبين السلطان، أي: إن معي حجة عالية تغلبكم، فأنتم تريدون أن تتكبروا وتستكبروا فأنا معي السلطان من الله، وهي الحجة القاهرة الغالبة التي يغلبك الله عز وجل بها.
فقوله تعالى: ((وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ)) أي: لا تردوا أمر الله سبحانه، ولا تقتلوا عباد الله ظلماً وبغياً، ولا تفسدوا في الأرض، ((إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) أي: بحجج من الله سبحانه وتعالى بينة واضحة لديكم.(464/7)
تفسير قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون)
قال الله تعالى: ((وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ))، ((وإني عذت)) أي: استجرت واعتصمت بالله ولجأت إليه سبحانه، ثم قال: ((وَرَبِّكُمْ)) أي: أن فرعون كان يقول: أنا ربكم، فقال: ربي وربك، ورب هؤلاء جميعهم هو الله، وهذا من شجاعة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بتثبيت الله عز وجل له، فقد كان موسى خائفاً، وطلب من ربه سبحانه أن يثبته، {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] أي: أنا وأخي نخاف من فرعون، وهذا خوف جبلي طبعي، فكل إنسان يخاف حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فقال تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فطمأن الله موسى وهارون، ولذلك ذهب موسى عليه الصلاة والسلام بمنتهى الشجاعة بتثبيت الله عز وجل له إلى فرعون وقال له ما أمره الله عز وجل به، قال الله عز وجل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]، فأتى التثبيت من الله عز وجل؛ لأن هذا الموقف من المواقف المرعبة التي ترعب الإنسان وتخيفه وتخيف أيضاً الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولكن الله يثبتهم فيثبتون، فكأن الله سبحانه يقول لعباده: لا تخافوا، فكما ثبت موسى وثبت غيره فكذلك أثبتكم إذا التجأتم إلي واعتصمتم بي.
قال تعالى: ((وَإِنِّي عُذْتُ))، ((عذت)) تقرأ بالإدغام وبعدمه، الإدغام قراءة أبي عمرو وقراءة هشام عن ابن عامر وقراءة حمزة والكسائي وخلف وأبي جعفر إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، وباقي القراء يقرءونها بعدم الإدغام: ((إني عذت))، وكذلك هنا ((أن ترجمون)) في حال الوصل يقرؤها ورش: ((أن ترجموني)) بالياء في آخرها، ويعقوب يقرؤها وصلاً ووقفاً بالياء، فيقول: ((وإني عذت بربي وربكم أن ترجموني))، وكذلك قوله تعالى: ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي))، وباقي القراء يقرءونها في الوصل بالكسرة، وفي الوقف بالسكون: ((أن ترجمونْ)).
قوله تعالى: ((وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ)) الرجم هنا له معنيان: إما الشتم والأخذ باللسان، وإما الضرب والرمي بالحجر والإيذاء للجسد بالقتل ونحوه، فكأن موسى يقول لهم وهم يهددونه بأنهم سيسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة ويقتلونه: ((إني عذت بربي)) أي: أنا لست خائفاً منكم؛ لأني ملتجئ إلى ربي سبحانه، وهو يعصمني ويحميني سبحانه.(464/8)
تفسير قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون إنهم جند مغرقون)
قال الله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21] أي: وإن لم تؤمنوا فابعدوا عني وذروني أدعو إلى ربي، واتركوني آخذ قومي وأخرج من هنا، ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ))، وهذه الآية يقرؤها ورش عن نافع: ((وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلوني)) مثل: ((ترجموني))، هذا في حالة الوصل، وأما في الوقف فيقرؤها بالسكون على النون، ويعقوب يقرؤها بالياء: ((فاعتزلوني)) وصلاً ووقفاً.
فقوله: ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي)) أي: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله وقد أتيتكم بالبراهين فاعتزلون، أي: دعوني ولا تؤذوني، وذروني أخرج من هنا، فلما استيئس موسى من فرعون وقومه أن يؤمنوا بعد كل هذه الآيات دعا ربه سبحانه، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22] أي: إن هؤلاء قوم أجرموا في حق الله عز وجل، وفي حق موسى النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حق بني إسرائيل.
فهؤلاء قوم مجرمون؛ لأنهم أجرموا وأفسدوا وكفروا، فجاء الجواب من الله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، والسرى: المشي والسفر بالليل، فقال هنا سبحانه: ((فأسر)) من أسرى، وأيضاً من سرى، فهي ثلاثية ورباعية، وفيها قراءتان أيضاً: قراءة الجمهور: ((فأسرِ)) بهمزة قطع من الرباعي من ((أسرى))، وقرأها من الثلاثي ((فاسر)) نافع وأبو جعفر وابن كثير.
فقوله: ((فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)) يقول الله عز وجل لموسى: أسر، أي: اخرج بالليل أنت وقومك، وهذا لما أذن لهم فرعون، وأخبر الله موسى بأن فرعون سينكث ما وعدكم به، وسيخلف وعده معكم، فاخرجوا.
فأمره الله أن يتجه إلى البحر الأحمر، فلما وصل موسى وقومه إلى ساحل البحر، لحقهم فرعون وجنوده، فأصاب بني إسرائيل الرعب الشديد، وقالوا له: البحر من أمامنا وفرعون من خلفنا يوشك أن يصل إلينا ويدركنا، وهنا يأتي أمر الله سبحانه: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:23 - 24]، وقال لقومه عندما أدركهم فرعون: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أي: لا تخافوا إن ربي سيهدين، وهو معي سبحانه وتعالى، هو وربي الذي أمرني أن أمشي إلى هذا المكان.
وجأر بنو إسرائيل بالدعاء إلى الله، وهنا جاء أمر الله سبحانه، قال تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:63 - 64] أي: حتى يروا هذه المعجزة وهذه الآية التي حدثت، لعلهم يعتبرون بها، وكانت آية أخرى من الآيات التي يرونها أمامهم، فإن موسى لما ضرب بعصاه البحر انفلق البحر وقد كانت عصا موسى آية من الآيات، فإذا ألقاها كانت حية تسعى، وألقاها أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون، وضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، وضرب بها البحر فيبس البحر، وقد قال له الله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18] يعني: أمشي عليها، وأهش بها وأضرب بها الشجر حتى يسقط الورق فتكأله الغنم، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: أستخدمها في أشياء أخرى، فأمره الله بإلقائها، فألقاها فإذا هي حية تسعى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67]، وهذا أمر الله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35].
ثم قال لموسى عليه الصلاة والسلام: هذه عصاك فخذها، وهي على الأرض قد صارت ثعباناً، فأمسك موسى هذا الثعبان فرجع عصاً مرة ثانية، وكأن الله عز وجل يمرن موسى حتى لا يفزع أمام فرعون حين يلقيها فتصير ثعباناً، فلما كان أمام فرعون ألقاها وهو رابط الجأش ثابت، وهنا أمره الله بأن يضرب بالعصا البحر، فكانت آية عجيبة جداً، فقد ضرب بهذه العصا البحر العظيم العميق فانفلق البحر قسمين، ووقف الموج كأنه الثلج، وصارت الأرض أمامه يابسة، فنزل موسى وقومه في هذه اليابسة، ومروا منها، وأراد الله عز وجل أن يرى فرعون هذا الذي حدث من أن الأرض أمامه صارت يابسة، لعله يؤمن ويرجع عما هو فيه.
قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64] أي: قربنا هؤلاء الآخرين، وبدأ موسى يدخل في هذا البحر الذي صار طريقاً يابساً، وكان قوم موسى في غاية الرعب ينظرون وراءهم، وموسى في غاية الاطمئنان بربه سبحانه وتعالى، فلما كان موسى وقومه في وسط البحر وصل فرعون ومن معه إلى أول البحر، فرأوا آية من الآيات ولكن فرعون بطغيانه ظن نفسه آمناً، وكم أُخذ آمن من مأمنه، وقد أخذه تعالى من قصره من وسط جنوده حتى يغرقه في هذا المكان، وهو يرى الآيات البينات أمامه، قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:64 - 65]، فلما خرج موسى وقومه من الناحية الأخرى وصار فرعون وجنوده في وسط البحر جاء أمر الله عز وجل، فانطبق البحر عليهم، وأغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ومضى مثل الأولين، فجأر فرعون وصاح وصرخ ودعا: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] يعني: الآن صدقت وآمنت، ولم يقل: آمنت بالله، وإنما قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)، وكأنه يقول: نجني كما نجيتهم، فإيماني مثلهم، وبعد ذلك يرجع إلى كفره لعنة الله عليه، فقال له الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] أي: سننجي بدنك فقط؛ حتى يرى الناس أن هذا هو فرعون الذي زعم أنه رب الناس.
وهنا قال الله سبحانه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24] أي: واترك البحر ساكناً على ما أمر الله سبحانه وتعالى، فإن العصا ليست هي التي فلقت البحر، ولكنه أمر الله سبحانه، وهذا إنما هي سبب من الأسباب.
قال تعالى: ((وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ)) (ورهواً) أي: يابساً وساكناً كالجوبة، أي: كالحفرة، فإن الموج انحسر شمالاً حتى صار البحر كالحفرة في الأمام ومر موسى ومن معه، وأطبق البحر على فرعون وجنوده، فكان هذا آية من الآيات العجيبة جداً.
وعندما يتفكر الإنسان في قدرة الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه العقوبة ليست خاصة بفرعون وجنوده، والدليل على ذلك هو ما حدث في تسونامي في بلاد المسلمين من بلاد أندونيسيا، فقد كان الصيادون على شاطئ البحر يصطادون، وكان في هذه الشواطئ النساء العرايا، وكان فيها بلاء، فإذا بأمواج البحر تنحسر على بعد اثنين كيلو، فوجدوا أمامهم السمك على الأرض اليابسة، فجروا وراء السمك، ودخلوا اثنين كيلو في البحر وراء السمك حتى يأخذوها، ونسوا ما حصل لفرعون، فلما وصلوا إلى السمك جاءهم الطوفان العجيب، فأخذهم وارتفع بهم وأهلكهم ودمرهم، وجاءهم أمر الله سبحانه وتعالى، وقد ظنوا أنهم في أمان؛ لأن البحر صار يابساً، فنزلوا ليأخذوا ما فيه، فإذا بالأمواج تأتي عليهم، وكما صنع بفرعون وجنوده صنع بهؤلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فليعتبر الإنسان من القصص القرآنية، وليعلم أن قصة فرعون ليست للتسلية، وإنما ليعتبر أولو الألباب، أي: إذا صنعتم صنيعهم أصابكم البلاء من الله كما أصابهم، فلا تعلوا على الله، ولا تبتعدوا عن دين الله، واحذروا من الفساد، ومن العلو والاستكبار، فإن الله عز وجل لما أخذ فرعون وقومه جعلهم عبرة، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(464/9)
تفسير سورة الدخان [17 - 29]
لقد هيأ الله عز وجل لفرعون وقومه من أسباب الرزق ما جعلهم يتكبرون به في الأرض بغير الحق، فلما جحدوا حق الله في أنفسهم وأموالهم أخزاهم الله وأغرقهم، وجعل ملكهم وجناتهم وزروعهم شاهدة على ما كانوا فيه من السرف والترف، وأورثها الله قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض، بل لا يذكرون إلا ويلعنون، وقد حذر الله مشركي العرب من المشي على طرائق هؤلاء الكفار؛ لكيلا يصيبهم مثل ما أصابهم.(465/1)
استجابة الله تعالى لدعاء النبي على قريش ثم رفعه العذاب عنهم مع علمه بأنهم سيرجعون إلى ما كانوا عليه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:17 - 29].
في هذه الآيات بيان قصة فرعون مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن فرعون علا في الأرض واستكبر على طاعة الله وعبادته، واستكبر على رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأهلكه الله تعالى شر هلاك.
وقد ذكر الله تعالى في الآيات قبلها قريشاً وما يصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم منعوه من الدعوة إلى الله سبحانه، بل وآذوه على ذلك، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف، فلما رأوا هذه الآية وأن الله استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم ناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، فقالوا: والرحم التي بيننا وبينك ادع ربك أن يكشف عنا ما نحن فيه، وسنؤمن لك إذا كشفت عنا العذاب.
قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، فقال لهم ربهم: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:13 - 14]، ومع ذلك استجاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وكشف عنهم العذاب الذي كانوا فيه، وكان قد منع عنهم المطر، واشتد عليهم الحر، وجاعوا جوعاً شديداً حتى أكلوا كل شيء بما فيها أوراق الشجر، وأكلوا لحوم الكلاب وعظامها، وجلود الميتة وغير ذلك مما وجدوه، فلما كشف الله عز وجل عنهم العذاب رجعوا كما أخبر أنهم عائدون إلى التكذيب والضلال والكفر بالله عز وجل، قال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، فانتظر هؤلاء واذكر: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16]، وهذه البطشة إما أنها كانت في يوم بدر، أو في وقت موتهم، أو يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16].(465/2)
سياق قصة موسى مع فرعون المذكورة في سورة الدخان
ثم قص علينا قصة فرعون باختصار، وهذه القصة تقدمت قبل ذلك في عديد من سور القرآن، فقد أشار إليها في سورة البقرة، وأطال في سورة الأعراف في قصة موسى مع فرعون ومع بني إسرائيل، وفي سورة طه كذلك، وفي سورة القصص، وفي سورة الشعراء وغيرها من سور كتاب الله عز وجل.
وموسى هو النبي الذي ابتلي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أرسله الله إلى بني إسرائيل خاصة، وأنزل عليه التوراة كشريعة له، فلذلك يكثر الله عز وجل ذكر القرآن مقترناً بالتوراة، كما قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]؛ لكونه كتاب شريعة فيه أوامر ونواهٍ، وفيه بيان الحلال والحرام، وأما كتاب المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فكان كتاب مواعظ، فالذي يشبه القرآن العظيم هو كتاب موسى، قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17] أي: يأتمون بما فيه، ويكون قدوة لبني إسرائيل فيتبعوا ما فيه.
والقرآن العظيم هنا يذكرنا بهذا الذي كان من قبل، فقد فتن قوم فرعون، وجاءهم موسى رسول كريم عليه الصلاة والسلام يطلب منهم أن يتركوا بني إسرائيل ليخرجوا معه إلى بيت المقدس أو إلى أرض الشام، فرفض فرعون ذلك، فأراه الله عز وجل آيات على يد موسى صلوات الله وسلامه عليه، حتى إن فرعون استجاب في النهاية لموسى وقال: خذهم وانصرف من هنا، فلما أخذهم وخرج ببني إسرائيل من مصر إذا بفرعون يتغير ويتذكر أن هؤلاء كانوا خداماً له، فأراد أن يرجعهم مرة ثانية، فأخلف وعده، ونكث عهده، وأراد إرجاعهم مرة ثانية.
فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام: {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22]، فقد أجرموا في حق الله عز وجل فأشركوا وكفروا وعلوا على الله، وأجرموا في حق بني إسرائيل وفي حق البشر، فاستعبدوا العباد وجعلوهم يعبدونهم من دون الله سبحانه.(465/3)
صور من إعراض اليهود وتكبرهم على أنبيائهم وأفعالهم القبيحة
قال الله سبحانه وتعالى لموسى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، طمأنه الله عز وجل أنه ناصره وأنه معه، وحتى لا يخاف حين يرى فرعون من ورائه قال: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، فلا تخف من فرعون، فسيخرج من ورائكم ليعيدكم مرة ثانية، قال: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24].
فلما وصل موسى إلى البحر الأحمر أمر بأن يمشي في هذا الاتجاه، وبنو إسرائيل لا يتخيلون المشي وهذا البحر يمنعهم، أين أمرت يا موسى؟! قال: هنا في هذا البحر، ثم في النهاية يأمر الله عز وجل موسى أن يضرب بعصاه البحر، وفيه الاختبار والابتلاء لبني إسرائيل حتى يروا المعجزة أمامهم؛ لأنهم لن يستشعروا نعمة الله عز وجل إذا وجدوا البحر مفتوحاً، فإن عادتهم دائماً مع موسى التكذيب والإعراض، فكانوا في حاجة دائمة إلى من يذكرهم ويخوفهم بالله عز وجل، حتى إنهم كانوا إذا قيل لهم: اسجدوا لله عز وجل لا يطيعون موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حتى رفع الله عز وجل فوقهم جبلاً كما قال: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:171]، فيخرون عند ذلك ساجدين لله على صفحة وجوههم؛ لأن جزءاً من الجبل كان على الأرض والجزء الثاني في السماء، وسيسقط الجبل فوقهم، فهم قوم عجيبون جداً في نفورهم وإعراضهم عن الله عز وجل، لذلك استحقوا أن يدعو عليهم موسى، وأن يدعو عليهم داود، وأن يدعو عليهم غيرهم من أنبياء الله، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، فلذلك كان من حكمة الله سبحانه أن يشعرهم بالرعب عند لحاق فرعون بهم فيدفعهم ذلك إلى اللجوء إليه سبحانه؛ لأنهم لو وجدوا البحر مفتوحاً أمامهم لما اعتبروا ولما علموا أن ذلك من فعل الله عز وجل، فإن نزلت: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]، أحسوا بهذه الآية، وأن الله عز وجل هو القادر سبحانه على ذلك وحده، والكثيرون من الناس اليوم عندما يرون آيات الله سبحانه ومعجزاته وانتقامه من العباد يقولون: هذه آيات طبيعية، حتى لو جاء بركان أو إعصار فهم يردونه إلى قوى الطبيعة لا إليه سبحانه وتعالى، فعادة الناس أنهم لا يفكرون بأن هذه الزلازل والبراكين والإعصارات تحدث نتيجة لعصيانهم الله عز وجل، فهم ينسون ذلك ليستكملوا ما هم فيه من اللهو واللعب، وهذه عادة الأولين كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:62].(465/4)
إنهم جند مغرقون
فلما وصل بنو إسرائيل وجدوا البحر أمامهم، والبحر الأحمر عميق جداً كما هو معروف عنه، وهو بحر مليء بأسماك القرش وغيرها من الأشياء المفزعة، فهم يخافون العبور في هذا البحر، وعندها يأمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه، قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، فلما ضرب بعصاه البحر انفلق أمامهم فشاهدوا آية من آيات الله، فمروا في هذا البحر إلى منتصفة فإذا بفرعون يتساءل: أيكمل أم يرجع؟ ثم يأخذه غروره وعتوه وأشره وبطره فيعبر وقومه وراء موسى عليه الصلاة والسلام، ولم يتنبه إلى المصيبة التي تنتظره في هذا المكان، فهم يريدون إرجاع موسى ومن معه إلى مصر، والله عز وجل يريد لهم الهلاك في هذا المكان، فلما عبر فرعون وقومه البحر وانتصفوا فيه وخرج موسى وقومه من الناحية الأخرى أتى أمر الله عز وجل، فقال لموسى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، فكأن موسى لما خرج من البحر أراد يضرب البحر مرة ثانية، فقد ضرب بداية البحر بعصاه فانفلق: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] أي: أن كل شطر من أشطار البحر كالجبل العظيم، وكأن حاجزاً زجاجياً قد صنع للماء من هنا وهناك، فلما عبر موسى أراد أن يضرب البحر مرة ثانية لكي يهلك فرعون وقومه، فقال الله له: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24] أي: اترك البحر وراءك ساكناً كما هو، فلما اكتمل قوم فرعون وجنوده جاء أمر الله، ولم يقل لموسى: اضرب مرة ثانية، فالآن انتقام الله وليس انتقام موسى، وحتى لا ينسب إلى موسى عليه الصلاة والسلام أنه هو الذي أهلك فرعون، فخرج موسى من البحر ومن معه فإذا بالله سبحانه يأمر البحر أن ينطبق مرة أخرى، فانغلق على فرعون ومن معه فأهلكهم الله وأغرقهم ودمرهم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24].(465/5)
عظم الخيرات الموجودة في أرض مصر
ثم يقول سبحانه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25]، فقوله: (كم تركوا) منصوبة بالفعل الذي بعدها، يعني: تركوا كثيراً، و (كم) هنا بمعنى: كثيراً، فالذي تركوه كثير جداً، فقد تركوا أرض مصر وفيها الخيرات العظيمة: جنات وبساتين وعيون، فهي أرض مليئة بنعم الله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى سيدنا يوسف عندما كان يقول للملك في مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55]، فقد كان الناس يذهبون إلى مصر عند حصول المجاعات في الشام والبلاد حولها فيأخذون منها طعامهم، وقد كان يعقوب يرسل بنيه إلى مصر ليأخذوا منها الطعام ويرجعوا، وقصة يوسف معروفة، فيوسف يقول لملك مصر هنا: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55]، وكأن مصر هي خزانة الأرض كلها، هذه البلاد العظيمة التي ضيع الناس فيها عبادة الله عز وجل فاستحقوا من الله أن يشدد عليهم، وأن يذيقهم البلاء، وما زالت مصر تنهب من آلاف السنين، فما من حاكم جاء على مصر إلا وأخذ، ومع ذلك فما زال في هذه البلاد خير، ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد لما في قلوبهم من كبر على الله سبحانه، ومن ظلم بعضهم لبعض، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
فالله عز وجل يقول عن فرعون ومن معه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25]، وفي مصر نهر النيل وأصله من الجنة كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتركوا هذه الجنات والبساتين والحدائق التي تسقى من هذا النهر العظيم، وتركوا هذه الأرض الخصبة، فهي أرض خيرها كثير بفضل الله سبحانه، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25]، وكلمة: (عيون) تقرأ بضم العين كقراءة الجمهور، وتقرأ بكسرها كقراءة ابن كثير وابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف.
قال: {وَزُرُوعٍ} [الدخان:26] أي: الحقول والبساتين، قال: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:26]، (ومقام): هو مكان الإقامة، (كريم): أي: يكرم الله من يقيم فيها، ويرزقه من الخير العظيم الموجود فيها، وهذا يدل على أن الناس كانوا مرفهين منعمين في هذا البلد.
ويقول ربنا سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، فقد أراد فرعون أن يهلك بني إسرائيل حتى لا يهلك هو، فإذا بالله يهلكه ويتم أمره كما يريده سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27].
فقوله: (نعمة) بمعنى: تنعم، فقد كانوا مرفهين في هذه البلاد، فكانت عندهم من الخيرات العظيمة كالماء والزرع والفاكهة والنعم العظيمة من الله، فعتوا وعلوا على أمر الله سبحانه فأذلهم الله سبحانه وتعالى، قال: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:27]، ويقال لها: نِعمة ونعمة، والفرق بين الاثنين: أنك تقول في اليد والجميل والصنائع: نِعمة بالكسر، وتقول في الرفاهية والرغد في العيش والترف: نَعمة بفتحها من التنعم.
قال سبحانه مخبراً عن حالهم: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:26 - 27]، وكلمة (فاكهين) فيها قراءتان: قراءة أبي جعفر: (فكهين) وقراءة الجمهور: (فاكهين)، وكأنها مأخوذة من الفاكهة، أي: الشيء الزائد عن قوت الإنسان، والإنسان يحتاج للقوت الضروري فقط، بحيث لو نقصت الفاكهة لما توفي، فهي من الأشياء الزائدة عن قوت الإنسان، فهؤلاء كانوا فاكهين، أي: منعمين، فعندهم الضروريات وفوق الضروريات التي تجعلهم يضحكون ويلهون ويلعبون، بل وعندهم الفراغ الذي يجعلهم يعرضون عن الله سبحانه، ففاكهين: بمعنى: مازحين لاهين لاعبين فرحين، وهو الفرح الذي يوصل إلى الأشر والبطر على الله وعلى نعمه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28].
فقال: {كَمْ تَرَكُوا} [الدخان:25]، وقال: {كَذَلِكَ} [الدخان:28] أي: كذلك فأهلكناهم ونجينا منهم بني إسرائيل، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] أي: كذلك نصنع بغيرهم من إهلاك أقوام وإحياء أقوام آخرين، فننعم على أقوام ونبتلي أقواماً آخرين.
قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] أي: أنه أورث أرض مصر لقوم آخرين غير هؤلاء السابقين، وقد قيل: إن هؤلاء القوم هم بنو إسرائيل، وهو بعيد جداً؛ لأن التاريخ ينفي رجوع بني إسرائيل إلى مصر مرة ثانية فضلاً عن أن يهلكوا فيها، فالظاهر: أنه أورثها قوماً آخرين غير هؤلاء، ومكن لبني إسرائيل في مكان آخر، ولذلك أُمر بنو إسرائيل بعد ذلك أن يدخلوا بيت المقدس، قال تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161]، فرفضوا أن يصنعوا ذلك، وعبدوا العجل من دون الله عز وجل، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالتيه، فكأنهم ذهبوا بعد إغراق وإهلاك فرعون وقومه إلى بلاد الشام، وأما مصر فإن الله عز وجل أورثها قوماً آخرين غير هؤلاء الأقوام الذين سبقوا، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28].(465/6)
تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء)
قال سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وكأن السماء والأرض تبكيان على الإنسان الصالح، والله عز وجل قد خلق الخلق وجعل لمن يشاء من خلقه أفهاماً سبحانه وتعالى.
فالسماء تمطر بأمر الله، والأرض تخرج كنوزها وزرعها بأمر الله، فكل شيء مسخر بأمر الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قادر على جعل الإحساس فيمن يشاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي)، صلوات الله وسلامه عليه، (ويوم أن جاء الجمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يبكي بين يديه صلى الله عليه وسلم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصاحب الجمل فجيء به إليه، فقال له: إن جملك يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه).
وهذا جمل آخر تذرف عيناه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فيجيء أصحاب هذا الجمل فيقول: (ماذا تصنعون معه فإنه يشكوكم إلي؟ فقالوا: إنهم كانوا يعملون على هذا الجمل سنين فلما كبر الجمل اجتمعوا على أن ينحروه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوه وشأنه)، فالله يجعل فيمن يشاء من خلقه الشعور والإحساس في السماء والأرض.
(وهذا الإنسان المؤمن يصعد عمله الصالح إلى السماء، فإذا مات خرجت روحه فصعد بها إلى السماء، فلا تمر على جسد فيما بين السماء والأرض إلا شموا منها الرائحة الطيبة، فقالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقال: فلان، بأحسن أسمائه إلى أن يصل إلى السماء، ثم ينزل إلى الأرض) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود هنا: هو قوله سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29]، ففيها: إخبار ونص، وفيها إشارة، فالنص: أن هؤلاء لا يستحقون أن تبكي عليهم السماء والأرض، ولماذا تبكي عليهم وقد كانوا يسجدون على الأرض ويعبدون غير الله سبحانه؟ وما دفعهم لذلك إلا الخوف والرعب من المخلوقين، وقد كانت أعمالهم السيئة الخبيثة تصعد إلى السماء، فتدعو السماوات والأرض عليهم، ((فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ)) حين أخذهم الله عز وجل، فهنا إشارة بالمفهوم المخالف لهذا أن الله إذا أخذ المؤمنين فإن السماء والأرض تبكيان عليهم.
والأرض تبكي على الإنسان المؤمن لأنه كان يسجد عليها، ويذكر الله عز وجل عليها، وكان يجاهد عليها، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والسماء تبكي على الإنسان المؤمن لأنه انقطع عمله، فقد كان يصعد العمل الصالح كل يوم إلى السماء، فهناك خمس صلوات في اليوم والليلة، وصوم، وأعمال صالحة أخرى، فالسماء تفتقد عمل المؤمن حين يموت، فقد كان يصعد إليها كل يوم وكل لحظة عمله الصالح، والأرض تفتقد ما كان يفعله من سجود وعمل صالح وغيره، وأما هؤلاء الأنجاس الملاعين الذين عبدوا الخلق من دون الله عز وجل، فإن الله قال فيهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، فلم ينظرهم الله عز وجل ولم يمهلهم سبحانه، بل أخذهم بالعذاب والعقوبة الشديدة يوم أن أعرضوا عن ذكر الله.(465/7)
بعض أقوال السلف الصالح في بكاء السماوات والأرض على فقد المؤمن
يقول عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: إنه يبكي على المؤمن مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء.
وكأنهم أخذوا ذلك من الإشارة التي في هذه الآية، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ولكنها ضعيفة، ومفهوم هذه الآية والإشارة التي فيها تغني عن هذه الأحاديث، فكون السماء والأرض لا تبكيان على هؤلاء المفسدين فيه إشارة إلى بكائهما على الإنسان المؤمن حين يتوفاه الله عز وجل؛ لكون العمل قد انقطع صعوده إليها، وكذلك الأرض.
وجاء عن مجاهد قوله: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن.
وجاءت آثار أخرى في هذا المعنى.
نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا أعمالاً صالحة خالصة، وأن يتقبلها، وأن يغفر لنا بعفوه وكرمه وهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(465/8)
تفسير سورة الدخان [30 - 37]
لقد امتن الله عز وجل في سورة الدخان على بني إسرائيل بأن أنجاهم من فرعون وقومه، وفضلهم على سائر أهل زمنهم، وأعطاهم من الحجج والبراهين والآيات الدالة على وحدانيته عز وجل، وأنه المستحق للعبادة، فكان ذلك امتحاناً واختباراً لهم، فآمن منهم من آمن، وكفر منهم من كفر، وقد ذكر الله تعالى زعم المشركين وإنكارهم للبعث، فرد الله عز وجل عليهم هذا الزعم الباطل.(466/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل إنه كان عالياً من المسرفين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الدخان: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:30 - 37].(466/2)
إنجاء الله لبني إسرائيل
لما ذكر الله عز وجل قصة فرعون مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أنجى الله موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون وجنوده، وجعله عبرة وآية للخلق، مَنَّ على بني إسرائيل بأن نجاهم من العذاب المهين، فقد كانوا رجالهم خداماً وعمالاً مسخرين عند فرعون وجنوده وقومه، وكذلك النساء كن مسخرات في العمل، فكان الكل في مهانة وفي ذلة، فإذا بالله عز وجل منجيهم من ذلك.
ففرعون زعم للناس أنه ربهم الأعلى، وهؤلاء كانوا يعبدون الله سبحانه وتعالى، فنجى الله عز وجل من عبدوه، وأهلك من كفروا به سبحانه وتعالى.
قوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان:30] إسرائيل هو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهؤلاء بنو إسرائيل، أي: بنو يعقوب، ومعنى الآية: أن الله أنجى بني إسرائيل من العذاب الفظيع الذي أهانهم به فرعون، فقد سخرهم في الأعمال المهينة الشاقة، وكانوا لا يملكون لأنفسهم شيئاً.
قوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31] أي: من فرعون الذي كان يعذبهم، إنه كان عالياً كافراً جباراً مسرفاً على نفسه، مفسداً في الأرض بغير الحق، فترفع أن يعبد الله سبحانه، وعلا على قومه، فقال: أنا إلهكم، بل قال: أنا ربكم الأعلى.(466/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)
قال سبحانه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] أي: لقد فضلناهم على كل عالمَ زمانهم، فما كان أحد منهم يعبد الله سبحانه وتعالى إلا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من بني إسرائيل، فقربهم الله عز وجل واختارهم في هذا الزمان، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فالله عز وجل يبغض المشرك الذي يكفر بالله سبحانه، بينما الذي يوحد الله سبحانه يحبه، فقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على التوحيد إلا القليل من بقايا أهل الكتاب؛ فقد كان أهل الكتاب منتشرين في كل مكان، فكان منهم من هو على دين موسى عيه الصلاة والسلام، ومنهم من هو على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فوحدوا الله عز وجل ولم يشركوا به شيئاً، فلم يقولوا: عزير ابن الله، ولم يقولوا: المسيح ابن الله، وإنما عبدوا الله سبحانه وتعالى.
فهؤلاء هم الذين كان سلمان يدور بينهم رضي الله عنه، فقد كان أبوه صاحب بيت النيران لملوك الفرس، وكانوا يعبدون النار من دون الله عز وجل، فهرب سلمان من بيت أبيه واتبع أهل الكتاب، وأخذ يبحث عن الدين الحق، حتى أظله زمان النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعبد الله سبحانه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ما جاء النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فهؤلاء كانوا بقايا من أهل الكتاب، فكان سلمان يذهب إلى واحد منهم فيقول له: علمني، فيعلمه ويقول له: كن معي، فيمكث معه سنين يعبد الله عز وجل على التوحيد الخالص، ثم إذا دنا الأجل من هذا الراهب يقول سلمان: بمن توصيني؟ أي: أن اذهب إليه فاعبد الله معه، والبلد كلها فيها نصارى، لكن الراهب يعلم أنهم على الباطل، ولذلك يقول له: اذهب إلى المكان الفلاني فإن فيه راهباً يعبد الله سبحانه، يعني: على التوحيد الذي أنا عليه، فيذهب للمكان الفلاني، والمكان مليء بالنصارى، ولكن هذا الراهب موحد لله عز وجل، فيذهب إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه ويمكث معه فترة من الزمن، فهو رضي الله عنه قد مكث مع رهبان كانوا موحدين الله سبحانه، وبعضهم كان منافقاً مجرماً يأخذ أموال الناس بالباطل، فعندما يموت إذا بـ سلمان يفضحه ويقول للناس: هذا كان يأخذ أموالكم، ويجعله في المكان الفلاني، فيذهبون إلى المكان فيجدون أموالهم، فهو لم يكن يعبد الله حق العبادة، فيأخذونه ويحرقونه بعد موته.
وفي النهاية: مكث عند راهب من الرهبان، وعند دنو الأجل منه قال: لا أعلم أحداً على الأرض يعبد الله سبحانه وتعالى، ولكن قد أضلك زمان نبي يبعث في بلاد العرب.
فإذا بـ سلمان يسافر إلى بلاد العرب مع مجموعة من العرب في قصة طويلة، وفي النهاية يسترقّونه بعد ما كان له شأن رضي الله عنه، فصار عبداً رقيقاً، وباعوه من يهودي في المدينة، وصار عبداً عند يهودي في المدينة، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان الرهبان قد أخبروا سلمان بصفات النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن صفاته أن بين كتفيه خاتم النبوة صلوات الله وسلامه عليه مثل بيضة الحمامة، ومن صفاته عليه السلام أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإذا بـ سلمان يختبر وينظر هل هذا رسول الله أم لا؟ فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ معه تمراً فيقول: هذه صدقة.
فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرفع يده ويعطيها لأصحابه يأكلون، وسلمان شاهد ينظر ذلك، ثم يأتي له مرة أخرى بطبق فيه تمر ويقول: هذه هدية، فيأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ويعطي من معه فيأكلون، ثم إذا بـ سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فأسقط ردائه صلى الله عليه وسلم، فنظر لخاتم النبوة بين كتفيه، فأسلم سلمان رضي الله عنه واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يخرج من الرق لكن لا يقدر أن يخرج من ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكاتب صاحبه، فإذا باليهودي يتعنت ويقول: ازرع لي ثلاثمائة شجرة وأنا أتركك، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يطلب من أصحابه أن يعينوه، فأعانه أهل المدينة بثلاثمائة فسيلة، فكان كل منهم يعطيه شيئاً، والعادة أننا عندما نغرس غرساً فليس كل غرس يخرج، فمنها ما يموت، ومنها ما يخرج، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوا بالبركة، ويذهب مع سلمان رضي الله عنه فتخرج جميعها وتنبت، وكلها كانت صالحة، فيعتق سلمان رضي الله عنه ليجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
والغرض من ذلك كله: بيان أن أهل الكتاب كان القليل منهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فهؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل، ففي عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان أهل الأرض جميعهم منه من يعبد الأصنام، ومن يعبد الأحجار، ومن يعبد الخلق، ومن يعبد الجان، فكل منهم يعبد شيئاً، إلا من كان مع موسى فإنهم كانوا يعبدون الله عز وجل، فهؤلاء اصطفاهم واختارهم الله على علم منه بما في قلوبهم من توحيده سبحانه.
فليس المعنى: أن بني إسرائيل جميعهم قد فضلوا على الخلق، لا، وإنما الموحدون منهم فضلهم الله عز وجل على كل من كان في زمانهم، ففضلهم الله عز وجل على العالَمين، وجعل فيهم أنبياء، وجعل رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام، وفضّل هذا الرسول بأن كلمه الله سبحانه وتعالى، فهذا اصطفاء من الله عز وجل لمن يشاء من خلقه سبحانه.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] أي: اختيروا على أهل زمانهم، ولما جاء زماننا قال الله عز وجل للمؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أي: كنتم أخير، وأخير هنا على وزن أفعل تفضيل، بمعنى: أخير الأمم، فإذا كان بنو إسرائيل اختارهم الله عز وجل على من كان في زمانهم، فقد انتهى هذا الأمر بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان المؤمنين به، فأنزل الله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، ولم يقل: أنتم خير أمة، ولكن {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، وكأن: (كان) تفيد الماضي، أي: جعلكم الله أنتم الخيار منذ الأزل، وإن جاء زمان بني إسرائيل فاختارهم ولكن كنتم أنتم الأخير، فكنتم خير أمة عند الله سبحانه وتعالى من قبل أن تخلقوا، ومن قبل أن تأتوا، كنتم أنتم الأخير من الجميع.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؛ لكونكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:110]، ولو آمن آهل الكتاب كما آمنتم أنتم وكما تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لكان خيراً لهم.(466/4)
تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)
قال سبحانه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:33] أي: آتينا بني إسرائيل من الآيات والحجج والبراهين الكثيرة، وذلك عندما أرسل الله عز وجل إليهم موسى فقال: أنا رسول من رب العالمين، فآتاه الله آيات كثيرة تدل على أنه رسول من عند الله عز وجل، آتاه آيات حسية؛ لأن بني إسرائيل لا يؤمنون إلا بما يرونه أمامهم، وأما الإيمان بالغيب فإنهم يؤمنون به تارة ويكفرون تارات كثيرة، ولذلك رأينا كيف أنهم لما أمروا أن يسجدوا لله سبحانه لم يسجدوا ولم يطيعوا، وإذا بالله عز وجل يرفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم، وعند ذلك سجدوا لله عز وجل، ويقال لهم: ادخلوا الباب سجداً، فيدخلون وهم يستهزءون بما قيل لهم، {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]، فدخلوا وبدلاً من أن يسجدوا على رءوسهم أخذوا يزحفون على إستاتهم وعلى مقاعدهم استهزاء بما قاله الله عز وجل.
ثم قال لهم: قولوا حطة، أي: يا رب! حط عنا خطايانا، فقالوا: حنطة، يحرفون ويستهزءون بكلام رب العالمين، فهؤلاء هم بنو إسرائيل لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم فيما يصنعون، فليس هؤلاء الذين هم اختارهم الله عز وجل، وإنما اختار الموحدين المؤمنين الذين اتبعوا موسى النبي صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا به وكانوا معه، فاجتباه واصطفاهم الله واختارهم على العالمين.
وآتينا الجميع من الآيات التي تدل على أن موسى رسول من رب العالمين، كاليد، والعصا، وما أرسله الله على فرعون وقومه: {فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، فهذه تسع آيات بينات ليعلموا وليوقنوا أن هذا رسول من رب العالمين، وأن الله ناصر عباده المستضعفين.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} [الدخان:33]، كذلك آيات النعم على بني إسرائيل، فأنعم الله عز وجل عليهم بالآيات وأنزل المن والسلوى عليهم، وإن كانوا في التيه لكن الله عز وجل يمن وينزل ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ابتلاهم، والله عز وجل يبتلي عباده بالخير ويبتليهم بالشر، كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [الأنبياء:35]، فالشر في نظركم وإلا فكل ما يأتي من عند الله عز وجل فهو خير، ولكن العبد حين يبتلى بالمصيبة يستشعر الشر من ورائها، وإن كان الله له حكمة عظيمة في كل ما يصنعه.
وقال: هنا: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ} [الدخان:33] أي: امتحان واختبار، {مُبِينٌ} [الدخان:33]، أي: بيّن واضح، فامتحنهم الله عز وجل لينظر هل يثبتون على الإيمان أم يكفرون، فكانوا يتقلبون: فيؤمنون حيناً ويكفرون أحياناً.
فنبلوهم بالخير ونبلوهم بالشر، نبلوهم بالخير فأنزلنا عليهم المن والسلوى، ونهاهم نبيهم أن يدخروا شيئاً، فكلوا من طائر السلوى ما شئتم، ولا تدخروا شيئاً، وكذلك المن الذي ينزل من الأشجار، فكلوا من العسل ولا تدخروا شيئاً، فابتلاهم الله بالخير، وأعطاهم من الخير الكثير، فإذا بهم يطلبون: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61]، فيريدون فولاً وعدساً وثوماً، فقد ملوا اللحم والعسل، فابتلاهم الله بالخير فلم يصبروا، وقيل لهم: لا تدخروا، فادخروا اللحم، فخالفوا أمر الله عند ذلك، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل ادخروا اللحم ففسد؛ لأنهم إنما أمروا أن يأكلوا ولا يدخروا شيئاً، فكان الله يبتليهم ويمتحنهم، فلم يثبت منهم على الحق إلا القليل.(466/5)
تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن كنتم صادقين)
قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34]، ذكرنا في أول السورة كيف أن قريشاً طغت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفسدوا في الأرض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ثم دعا لهم، فقال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:15 - 16].
ثم ذكر لهم فرعون وهو أشد منهم قوة، وكيف أن الله أهلكه، وكيف أن الله أنجى بني إسرائيل من فرعون وجنوده، فالله ضرب لنا هذا المثال حتى نعرف قدرة الله العظيمة سبحانه وتعالى، ثم رجع يتكلم عن قريش فقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:34 - 35]، فهؤلاء الكفار من أهل مكة يقولون للنبي صلوات الله وسلامه عليه: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:35]، وهذه هي عادة الكفار، فهم يقولون: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] أي: لن نبعث مرة أخرى، ثم يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ويقولون: لو بعثنا مرة أخرى فسيكون لنا أفضل مما في هذه الدنيا، فربنا قد أعطانا الكثير في الدنيا لفضلنا، ولأننا نستحق ذلك، فإذا بعثنا يوم القيامة سيؤتينا أيضاً، فهم لا يؤمنون بالبعث، ولكن كأنهم يتنزلون، أي: على فرض أن هناك بعثاً كما تقول: فسيؤتينا أكثر مما أعطانا في الدنيا؛ لأننا نستحق ذلك.
{إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34] و (إن) هنا بمعنى: ما، و (إن) و (إلا) بمعنى: ما، من أسلوب القصر، أي: ما هو الأمر إلا موتة واحدة فقط، فسنموت وينتهي الأمر على ذلك، فهذه العقيدة التي كانت في قلوبهم وعقولهم هي التي كانت تدفعهم إلى الظلم، فيظلم الإنسان غيره ما استطاع؛ لأنه يعتقد ألا بعث بعد الموت.
والإيمان بالبعث يهذب أخلاق الإنسان المؤمن، ويجعل المؤمن في خوف عظيم؛ لأنه يعلم أن هناك بعثاً، وأن الله عز وجل سيسأله في ذلك اليوم، فيندفع المؤمن إلى الخير، وأما الكافر فيندفع إلى عمل الشر؛ لأنه لا يتوقع بعثاً، فهو يريد كل شيء في الدنيا.
قال الله سبحانه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34] {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:35] أي: بمبعوثين، والإنسان إذا نام على الأرض فسينشر مرة أخرى، أي: يحيا مرة ثانية، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:35 - 36] أي: إذا كنت تزعم أننا سنرجع مرة أخرى فأدنا آبائنا الذين ماتوا من أجل أن نصدق ذلك، وكأن هؤلاء لا يريدون الإيمان بالغيب، وإنما يريدون المشاهدة، فيريدون أن يشاهدوا واحداً من الموتى يبعث أمامهم، وهذا كما قاله أبو جهل اللعين للنبي صلى الله عليه وسلم: (ابعث لنا قصي بن كلاب) أي: إذا كنت تريد ذلك فابعث لنا جدك قصياً، وكان رجل صدق، فإذا قال هذا الشيء صدقناك، فيا ترى لو حدث ذلك هل كانوا سيؤمنون؟ لا، فالله سبحانه يعلم بأن هؤلاء لن يؤمنوا، ولذلك لما تعنتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:91 - 92].
فكل هذه الأشياء ويقول له قائلهم: ولو فعلت ذلك فلن نؤمن بك، أي: حتى لو عملت لنا كل الذي طلبناه منك فلن نؤمن لك، فكان كفرهم عناداً واستكباراً وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه من البنيات والهدى، فقالوا: {فأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36]، فهم يكذبون البعث ولكن يقولون ذلك على وجه التعنت.(466/6)
تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع)
قال الله عز وجل: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟} [الدخان:37]، أي: أن هؤلاء المغرورين، وهؤلاء القلة الحقيرون، هؤلاء القرشيون الذين هم ذنب الدنيا كلها، فبجوارهم فارس والروم، فلا الفرس يحسبون لهم قيمة، ولا الروم كذلك يحسبون لهم قيمة، وإنما هم قاعدون في حماية هؤلاء وهؤلاء، ويتشدقون بأنهم الملوك، فيخرج منهم الوفد لزيارة الروم أو الفرس، فيفدون عليهم ضيوفاً ويتعززون بذلك، وأما هم فلا قيمة لهم مع وجود البيت الحرام في بلدهم، فهم قد أدخلوا الأصنام في بيت الله الحرام، وعبدوا غير الله وأشركوا معه غيره، فأبغضهم الله سبحانه وتعالى، فجعل في قلوبهم الحسد والغل والبغض لبعضهم البعض، فلا يكون أحدهم مع الآخر إلا لأهداف دنيوية، ويغير بعضهم على بعض، ويأخذ بعضهم مال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض، فهذه كانت عادة هؤلاء الناس، فالله عز وجل يقول لهؤلاء الجهلة الذين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم: أأنتم خير؟ أأنتم أقوى عدداً؟! أأنتم أكثر عدداً؟! أأنتم فيكم الخيرية أم قوم تبع الذين فتحوا الدنيا بأجمعها؟ و (تبع) لقب لمن يكون ملكاً على اليمن، وكذلك كل ملك يملك مصر يقال له: فرعون، وكل ملك يملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل ملك يملك الفرس يقال له: كسرى، ومن يملك الروم يقال له: قيصر، فـ (تبع) لقب لكل من ملك حمير، وسمو: (تبعاً)؛ لأنه يتبع بعضهم بعضاً، فهذا الملك ويتبعه غيره.
وكان أشهرهم هو: أسعد الحميري أبو كريب، فهذا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدري أتبع لعين أم لا؟)، أي: أنا لا أعرف، أتبع ملعون كافر أم لا؟ (وما أدري أعزير نبي أم لا؟)، فكان عليه الصلاة والسلام لا يدري في وقت من الأوقات، ثم أخبره الله سبحانه وتعالى بإسلام هذا الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم)، فكان مسلماً رضي الله عنه، لكن ما الذي جعله يسلم مع أن قومه أهلكهم الله عز وجل؟ فقول الله عز وجل: أهؤلاء المشركون خير أم قوم تبع، ليس المراد ذات تبع؛ لأنه كان قد أسلم، وإنما المراد قومه، فقال الله عز وجل: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الدخان:37]، والذين من قبلهم من القرون، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، أهلكناهم جميعاً، وقد كانوا كثيرين جداً.
وتبع هذا الذي فتح البلاد قالوا: إنه وصل إلى سمرقند فدمرها، ثم أعاد بناءها مرة أخرى، وكأن الله يقول لقريش: إن هذا الرجل من عندكم، وكان هو أول من كسا الكعبة، والكفار من قريش عندما أرادوا أن يبنوا الكعبة لم يجدوا أموالاً من الحلال، ولذلك لم تبن الكعبة على قواعد إبراهيم، فالجزء الذي من الحجر يكون ستة أذرع أو سبعة أذرع، فكان من المفروض أن يكون بداخل الكعبة، لكنهم أخرجوه، لقلة المال، فأين الخير في قريش؟! أأنتم أكثر مالاً وعدداً وقوة أم قوم تبع الذين فتح بهم تبع البلاد كلها؟! فدار بهم في الدنيا حتى وصل إلى المدينة، فقاتل أهلها، وقوم تبع كانوا أقوياء في العتاد والعدة، ولما كان هنالك أخبره بعض أهل الكتاب فقال له: إن هذه المدينة مهاجر نبي في يوم من الأيام، أي: النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه فأسلم الرجل، وصدق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وترك المدينة وذهب إلى الكعبة فكساها، وكان أول من كسا الكعبة هو تبع رحمه الله، وأما قومه فقد كانوا أشراراً.
فالغرض: أن الله عز وجل أخبر عن قوم تبع، ولم يقل الله: تبع، كما ذكر فرعون، ولكن ذكر قومه، ولذلك أبي بن كعب يقول: إن الله عز وجل ذكر قوم تبع بأنهم كانوا أشراراً، وأما تبع فكان رجلاً مسلماً، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، أي: أجرموا في حق خالقهم سبحانه، وأجرموا في حق الخلق فاستحقوا العقوبة، فإذا كنا قد أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود، وأهلكنا أصحاب الأيكة، وأهلكنا قوم تبع، فهل أنتم القلة القليلة لا نقدر عليكم؟ وأنتم الذين تعنتم وكأن لكم قدراً كبيراً، وكأن لكم قيمة، كلا لكم شيء، ولا تستحقون أن يرد عليكم، قال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ} [السجدة:30]، حتى أهلك الله عز وجل من شاء منهم في يوم بدر، وآمن من شاء الله عز وجل منهم بعد ذلك واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن إسلامه، وجاهد في سبيل الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(466/7)
تفسير سورة الدخان [37 - 50]
ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً وعبثاً، وأكثر الناس عن هذا غافلون أو جاهلون، وقد جعل الله لهم ميقات يوم معلوم؛ ليريهم فيه أعمالهم، فيرحم من يستحق الرحمة، ويعذب من يستحق العذاب، وهو العزيز الحكيم.(467/1)
تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:37 - 50].
يقول الله سبحانه في هذه الآيات عن هؤلاء المشركين الذين تعنتوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه وآذوه وآذوا أصحابه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان:37]، فهؤلاء المشركون يظنون أنهم أكثر عدداً، وأقوى أبداناً، وأكثر سلاحاً من قوم تبع الذين كانوا من قبلهم، وتبع لقب لملوك اليمن، فكلما جاء منهم ملك لقب بذلك وإن اختلفت أسماؤهم، فمن هؤلاء الحارث الرائش، وأبرهة الذي أراد هدم الكعبة، ومنهم عمرو ذو الأذعار، ومنهم شمر بن مالك الذي تنسب إليه سمرقند، ومنهم أفريقيس بن قيس الذي سميت إفريقيا باسمه، قيل: إنه ساق السود إلى أفريقيا، فسميت إفريقيا باسم هذا الرجل.
فالتبابعة كثيرون، وكانوا أقوياء جداً، وكان لهم عَدد وعُدد ولهم أتباع، فكان يتبع بعضهم بعضاً، فيموت منهم ملك ويأتي بعده ملك بمثل تلك القوة، وكان أكثرهم كفاراً، ولم يكن منهم على الإسلام إلا واحد فقط يسمى أسعد بن ملكي كرب، فهذا الملك اتبعه قومه وخرج مقاتلاً وفتح بلداناً كثيرة إلى أن جاء إلى المدينة وأراد فتحها، وقاتله أهل المدينة، وكان أهل المدينة غاية في الكرم، وكانوا يقاتلونه في النهار، ويطعمونه بالليل! فتعجب لحالهم، وكان معه قوم من اليهود، فسألهم عن هؤلاء وقال: ما وجدنا أكرم من هؤلاء، يقاتلوننا بالنهار ويقروننا بالليل، فقالوا: هذه بلد يهاجر إليها نبي في يوم من الأيام، فكف الرجل عن هذه البلدة، وقال فيها شعراً كان يتوارثه أهل المدينة.
ثم أراد بعض الناس أن يمكر بهذا الملك فقالوا له: هل ندلك على مكان به اللؤلؤ وبه الذهب؟! اذهب إلى هذا البيت الذي بمكة، فإن هدمته وجدت فيه اللؤلؤ والذهب، وأرادوا أن يهلكه الله، وعلموا أن هذا البيت يحميه الله عز وجل، وأنه ما أراده أحد بسوء إلا أهلكه الله، فأشار عليه رجلان من خزاعة بذلك، وكان معه من اليهود من أتباع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقالوا له: احذر من ذلك، إن هذا البيت ما جاءه أحد يريده بشر إلا أهلكه الله، فقتل الرجلين وصلبهما، وكسا الكعبة، وأطعم أهلها، ونحر عندها، فكان أول من كسا الكعبة وأسلم، لكن قومه كانوا كفاراً.
فالله عز وجل يذكر التبابعة غير هذا الرجل فيقول: {أَهُمْ خَيْرٌ} [الدخان:37] أي: هل هؤلاء المشركون خير في القوة وفي العدد وفي القتال من التبابعة ملوك أهل اليمن الذين فتحوا بلداناً عظيمة وقاتلوا أقواماً كثيرة وانتصروا عليهم؟ فإذا كنا أهلكنا السابقين أفلا نقدر على هؤلاء القلة الحقراء القليلين؟! {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الدخان:37] من القرون كقوم عاد وثمود وغيرهم، قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ} [الدخان:37]، أي: أهلكنا السابقين {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، أي: كانوا كفاراً خارجين عن طاعة الله عز وجل، فأجرموا في حق الدين، وأجرموا في حق الخلق، فاستحقوا أن نهلكهم، وكذلك كل مجرم يملي له ربه سبحانه حتى إذا أخذه لم يفلته.(467/2)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين)
قال الله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] أي: هل خلقنا السموات عبثاً؟ وهل أوجدنا فيها النجوم والكواكب، وخلقنا فيها الشموس والأقمار، وجعلنا فيها ما فيها من ملائكة وخلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل عبثاً أم خلقنا ذلك حقاً؟ لقد خلقها الله بالحق، وليعلم من هو الله سبحانه، ولتعرف قدرة الله سبحانه، فيذل العباد لله عز وجل، ويخضعون له ويخشونه، ويعبدونه الله ويطيعونه.
قال الله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:39] أي: بالأمر الحق من الله عز وجل: كن فيكون، فقد خلقها بالحق، وخلقها ليقضي بين العباد بالحق، وخلقها لتكون سبباً للحق، فتوجد الشريعة على هذه الأرض ليعبدوا الله عز وجل بالحق.
قال الله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] أي: أن أكثر الناس يجهلون هذا؛ لأنهم لا يتفكرون، ولو أنهم نظروا نظر المتفكرين المعتبرين المتعظين لعلموا أن الله سبحانه لم يخلق خلقاً عبثاً ولعباً، وإنما خلق الله عز وجل كل شيء لحكمة، قال الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21]، أي: ذكر بهذه الأشياء، وذكر بهذه الشريعة، وذكر بربك سبحانه، وذكر بالحق الذي جاء من عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون.(467/3)
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)
قال الله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، الفصل هو الحكم والقضاء؛ لكونه يفصل فيه بين الخصوم، ويفصل فيه بين الحق والباطل، وبين المحق والمبطل، وبين المؤمن والكافر، وبين البار والفاجر، فيفصل الله سبحانه فيه بين الخلق، فيدخل الرجل الجنة وقد تدخل زوجته النار، ويدخل الابن الجنة وقد يدخل أبوه النار، فيفصل الله عز وجل بين العباد بالقضاء الحق سبحانه.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ} [الدخان:40] أي: موعدهم، {أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، كما قال سبحانه: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3]، أي: يفصل بين العباد، فهذا يذهب إلى هنا وهذا يذهب إلى هنا.(467/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً)
قال الله سبحانه: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41]، المولى من الولي، والولي القرب، فكأن الإنسان الولي قريب، فالحميم قريبك مثل أبيك وابنك وأخيك وابن عمك وصاحبك ومن يلي أمرك، فهذا هو الولي، فلا يغني هناك مولى عن مولى، وفي الدنيا الأب قد يغني عن ابنه، والابن قد يغني عن أبيه، والمولى السيد الناصر قد يغني عن مولاه الذي ينصره ويتولاه، وأما يوم القيامة فكما قال الله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
(يَوْمَ لا يُغْنِي) أي: لا يدفع ولا يدافع مولى عن مولى شيئاً، (ولا هم ينصرون)، أي: لا ناصر ينصره، ولا يغني أحدهم عن الآخر شيئاً، ولا يجدون من ينصرهم.(467/5)
تفسير قوله تعالى: (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم)
{إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42]، استثنى الله سبحانه من رحمه عز وجل، فالله ناصره، والله معه، والله مؤيده، والله يرحمه ويدخله الجنة، نسأل الله عز وجل أن ينصرنا وأن يجعلنا من أهل جنته! {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42]، عبر الله بهذين الاسمين، وأحدهما يدل على القوة والمنعة لله سبحانه، والآخر يدل على الرحمة، ويوم القيامة يجمع هاتين الصفتين، فهو غزيز سبحانه حيث يدخل أعداءه جهنم، ورحيم حيث يرحم أولياءه سبحانه، فهو العزيز الذي لا يرام جنابه سبحانه، المنيع الجناب القوي الذي تعزز على خلقه سبحانه، ولا يقدر أحد أن يوصل إليه مكروهاً، ولا يعجزه شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو الرحيم {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].(467/6)
تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)
قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان:3]، فبعد أن ذكر الله أن مصير الكفار إلى النار ذكر شجرة الزقوم، وهي الشجرة الملعونة في القرآن، وهي شجرة ملعونة لا يوجد فيها رحمة، ولا هي في مكان رحمة، واللعن الطرد من الرحمة، فليست في محل رحمته سبحانه، وليست في جنته ولكنها في ناره، فهي شجرة مطرودة من رحمة الله وموضوعة في النار؛ لتكون عذاباً لأهلها والعياذ بالله، والزقوم مأخوذ من الزقم، وهو اللقم للشيء، أي: وضع الشيء في الفم ودفعه فيه، فيتزقمونها في النار ويأكلونها كرهاً، ولا أحد يأكلها طوعاً، وفيها الشوك الذي يقف في الحلوق، فلا يأكلونها إلا زقماً ولقماً ودفعاً في أفواههم.
قال الله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، والأثيم هو الآثم الفاجر اللئيم، الذي أعرض عن الله سبحانه، وكفر بالله سبحانه، فاستحق أن يكون من أهل النار والعياذ بالله.
والأثيم جنس فيعم كل إنسان أثيم كفور، وكل إنسان عنيد متكبر على الله سبحانه ومتكبر على خلق الله سبحانه، وكل إنسان خارج من طاعة الله، فهذا طعام الأثيم، وليس لهم طعام غيره، فطعامهم شوك يقف في الحلوق، وطعامهم الزقوم، ولو أن قطرة من الزقوم نزلت إلى الدنيا، لأفسدت على العباد مياههم وبحارهم وأنهارهم وطعامهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!(467/7)
تفسير قوله تعالى: (كالمهل يغلي في البطون)
قال الله: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45 - 46]، فيأكلون من هذه الشجرة فتنزل إلى بطونهم فتغلي في بطونهم، وكأنهم أوقدوا ناراً للقدور في بطونهم! والمهل هو النحاس المذاب، فالماء يغلي في مائة درجة مئوية، وأما النحاس والحديد فمن أجل أن يكون ذائباً فإنه يحتاج إلى أكثر من ألف ومائتين وخمسين درجة مئوية حتى يذوب، فإذا وضع في بطون هؤلاء فكيف يكون حالهم؟! قال الله: {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] أي: في بطون هؤلاء الكفار الذين سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم فاستحقوا النار، وعلى رأسهم أبو جهل لعنة الله عليه، فقد سمع هذه الآية عن شجرة الزقوم فقال: شجرة في النار! فإذا به يستهزئ ويستهين بما يسمعه، وقال للكفار: تعالوا نتزقم، إنه يكلمنا عن شجرة الزقوم، فهذا هو الزقوم، فأعطاهم تمراً وزبدة، وقال: هو تمر يثرب بالزبد، فهذا الذي يخوفنا منه، اجلسوا وكلوا من هذا الزقوم الذي يخوفنا به محمد صلى الله عليه وسلم! فالله يقول له: هذا الزقوم ستراه وستأكله في جهنم، ونزقمك به في نار جهنم والعياذ بالله، فهو طعام الأثيم كهذا الكافر أبي جهل وأمثاله، (كالمهل) أي كالنحاس المذاب.
{يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] هذه قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالتاء: (تغلي في البطون).
قال الله: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] وهو السائل الذي بلغ النهاية في درجة الحرارة، ومنه سمي الحمام حماماً، لكونه فيه الماء الحار، ومنه الحمى التي يصاب بها الإنسان، فالحميم المذكور هنا هو السائل الذي بلغ النهاية في درجة الحرارة والعياذ بالله.
وهذه الشجرة بشعة في طعمها، بشعة في منظرها، قال الله عز وجل عن هذه الشجرة: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، فهي كالشيطان، وأنت لم تر الشيطان، ولكن عادة الإنسان حين يتكلم عن شيء جميل جداً يقول: مثل الملاك، وعندما يتكلم عن شيء قبيح وبشع جداً يقول: مثل الشيطان، فهي غاية في البشاعة، فمنظرها مخيف، في نار مظلمة، فكيف بطعمها؟! وكيف بحرارتها في بطون هؤلاء؟!(467/8)
تفسير قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم)
قال الله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47]، ((فَاعْتِلُوهُ)) بكسر التاء قراءة أبي عمرو والكوفيين وأبي جعفر، وقرأ باقي القراء بالضم: (فاعتُلوه).
والعتل هو الدفع بقوة، يقال: عتلت الشيء إذا أمسكت بتلابيبه، وكأن المعنى: خذوه وارموه في نار جهنم، فزبانية النار لا يقولون له: تفضل ادخل إلى جهنم، ولكن يرمى إليها رمياً، قال الله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، فيساقون ويدفعون في أقفائهم حتى يدخلوا النار والعياذ بالله.
فيقال: خذوا أبا جهل اللعين ومن كان مثله من الكفار، فاعتلوهم واحداً واحداً وليس جميعاً، بل واحداً واحداً حتى يذوقوا العذاب، فيلقى في نار جهنم ولا يجد له ملجئاً يهرب إليه.
قال: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] أي: يرمونه حتى ينزل في وسط جهنم والعياذ بالله، فكم تكون قوة هذه الدفعة؟! يحمل الكفار من خارج النار، ويلقى في نار جهنم حتى يصل إلى وسط النار فيرتطم بقعر جهنم والعياذ بالله! وليس هناك موت يريح هذا الإنسان، وعندما يسقط إنسان من الدور العاشر أو من الدور العشرين أحياناً يموت قبل أن يصل إلى الأرض؛ من شدة الرعب، فعندما ينزل إلى الأرض لا يشعر بشيء، لكن في نار جهنم لا يوجد موت، لا يموتون فيها فيستريحون ولا يحيون فيها حياة كريمة، وإنما يحس دائماً بقدر العذاب في النار والعياذ بالله.(467/9)
تفسير قوله تعالى: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم)
قال الله: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] بعد أن يطعم من النار يقال: صبوا فوق رأسه من عذاب النار، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48]، فيضرب على رأسه فينفلق رأسه، ويصب بداخله على مخ هذا الإنسان من الحميم من سوائل النار البالغة أقصى درجات الحرارة والعياذ بالله! ثم يقال له: (ذُقْ) ذق الآن الذي كنت تسخر منه في الدنيا، قال الله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فقد كان هذا الكافر يتعنت ويقول: أنا أعز رجل في قومي، ولا أحد يستطيع علي بشيء، فيا من كنت تتعزز في الدنيا ذق أيها العزيز! وهذا من باب الاستخفاف والإهانة والسخرية والاستهزاء به، أي: أرنا عزتك أين هي؟ فيصب فوق رأسه من عذاب الحميم، ويقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فقد كنت مكرماً في الدنيا، وكان الناس يكرمونك ويقفون لك، فهذا إكرامنا لك في نار جهنم والعياذ بالله! وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] هذه قراءة الجمهور، وقراءة الكسائي: (ذق أنك أنت العزيز الكريم)؛ أي: لأنك كنت تصف نفسك بذلك، وهذا هو أبو جهل، فحين كان يخوفه النبي صلى الله عليه وسلم بالله سبحانه ويقول له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34]، قد قاربك ما يهلكك، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتخوفني بربك؟! قد علمت قريش أني أعزها، فهذا جاهل بالله سبحانه، فهذا المجرم أبو جهل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أحد يستطيع علي بشيء، ويتكبر على الخلق فيسبهم، ثم يسب الخالق سبحانه، فهذا حاله في نار جهنم، فانظر إلى أبي جهل الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بأي شيء تهددني؟! والله لن تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه! فقتله الله عز وجل في يوم بدر، وترك أياماً على الأرض حتى صار جيفة منتنة، وألقي بعد ذلك هو ومن معه قليب بدر، وهي بئر من آبار بدر.(467/10)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون)
قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50] أي: إن هذا ما كنتم به تكذبون وتتشككون فيه، وأصل الامتراء أن الإنسان يجادل في الشيء الذي يتشكك في أمره، فتقول الملائكة للكفار: هذا الشيء الذي كنتم تشكون فيه، وتجادلون فيه بالباطل، فذوقوا عذاب رب العالمين.
فهذا شيء من العذاب ذكره الله عز وجل، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ، فالإنسان المؤمن حين يسمع ذكر النار يخاف على نفسه أن يكون من أهلها، فيتعوذ بالله عز وجل من النار، ويسأل الله جنته.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا في جنته، وأن يجيرنا من عذابه وناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(467/11)
تفسير سورة الدخان [51 - 59]
ذكر الله في كتابه ما أعده لعباده المتقين في جنات النعيم، من أنواع الملذات والمسرات: من المآكل والمشارب والزوجات، ومن الأمن من جميع المنغصات والمحزنات، فمن نجاه الله من النار وأدخله الجنة فقد فاز الفوز العظيم.(468/1)
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:51 - 59].
هذه الآيات الأخيرة من سورة الدخان يذكر الله عز وجل فيها حال أهل النعيم وأهل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وهذا بعد أن ذكر حال أهل النار، وأنهم يدعون فيها، وطعامهم فيها الزقوم، وشرابهم فيها الحميم، ويقال لكل واحد منهم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:47 - 49]، أي: كنت متعززاً في الدنيا، مكرماً لنفسك لا تهينها، وتتطاول على الخلق، وتظن أن هذا ينفعك يوم القيامة، فيا من كنت عزيزاً كريماً في الدنيا ذق عذاب الحميم وعذاب الجحيم والهوان والعذاب الأليم في النار، {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50] أي: هذا الذي كنتم تتشككون فيه وتجادلون فيه بالباطل.
وأما المتقون الذي جعل الله عز وجل هذا القرآن هدى لهم، والذين اتقوا غضب الله سبحانه، والذي جعلوا بينهم وبين معاصي الله وقاية وحاجزاً، فامتثلوا الطاعات، وامتنعوا عن الوقوع في المعاصي، وخافوا الله سبحانه، فأمنهم الله يوم القيامة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51]، وأمين صيغة مبالغة من الأمن، فهم في مكان غاية في الأمن، مأمون عليهم فيه، وأمنهم الله سبحانه يوم الفزع الأكبر، ويوم العيلة، ويوم الذلة، ويوم القيامة، فأمن الله عز وجل عباده المتقين الذين كانوا يخافونه في الدنيا، وكانوا من عذاب ربهم مشفقين.
وقراءة الجمهور: ((مَقَامٍ)) من الفعل الثلاثي قام، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر: ((فِي مُقَامٍ)) من الفعل الرباعي أقام، يقال: أقام مقاماً، فكأن المقام الذي يقومون فيه المكان الذي يشرفون به أمين، والإقامة التي ينزلون فيها أمينة، فهي مكان أمين عند الله سبحانه، والجنة إذا دخلوها لا يخرجون منها أبداً؛ لأن الله جعل لهم الخلود فيها فلا أحد يقدر أن يخرجهم بعد ما قضى الله عز وجل لهم بالخلود في جنته.
قال الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] أي: في أمن وأمان، وفي شرف، وفي رفعة.(468/2)
تفسير قوله تعالى: (في جنات وعيون)
قال الله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:52]، فقد دخلوا جنة الله سبحانه، فوجد كل واحد لنفسه جنات في جنة الله سبحانه، وهي بساتين وحدائق عظيمة، (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
قال الله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:52]، فالإنسان الذي عنده بستان أكثر شيء يخاف منه هو ألا يوجد ماء لهذا البستان، فطمأنهم الله بأن عندهم العيون جارية لا يكدرها شيء، فلا تفنى ولا تقل؛ لأن الله عز وجل قضى هنالك بالخلود.
(وعيون) تقرأ بضم العين، وتقرأ بكسرها، فقرأ بالكسر ابن كثير وابن ذكوان وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم، وباقي القراء يقرءونها بالضم.(468/3)
تفسير قوله تعالى: (يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين)
قال الله تعالى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53]، ففضل الله عز وجل عظيم، والجنة ليست كالدنيا، الجنة فيها أشياء غيبية يحدثنا الله عز وجل عنها، فأهل الجنة متقابلون، فمهما كثر العدد فلا أحد ينظر في قفا الآخر، ولا أحد يعطي للآخر ظهره، وإذا أراد أحدهم أن يكلم صاحبه يدور به مقعده حيث شاء، وينظر إلى من يشاء، ولا يوجد غرور في الجنة، ولا تنافر، ولا تدابر، ولا تخاصم، فيقبل بعضهم على بعض كما يقول الله سبحانه: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50].
وأهل الجنة في نعيم يحبرون ويسرون، ويتفكهون، ويتكلمون بالكلام الطيب، ويلهمون التسبيح وذكر الله سبحانه، ويذكرون ما كان في الدنيا، فيقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:26 - 28].
فأهل الجنة يتذكرون نعمة الله عز وجل عليهم، فالله البر دلهم على فعل البر فدخلوا الجنة، والله الرحيم رحمهم فجعلهم من أهل جنته، فالفضل منه سبحانه، فهو صاحب الفضل العظيم الذي هدانا، وهو الذي علمنا، وهو الذي أخذ بأيدينا حتى أدخلنا جنته سبحانه؛ لأننا كنا قبل ذلك مشفقين، وكنا خائفين من رب العالمين، فأمننا ربنا سبحانه.
قال الله: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الدخان:53] هذه ثيابهم، والسندس هو الرقيق من الحرير، والإستبرق الغليظ من الحرير، والإنسان يلبس ما يشتهي، فهذا يريد أن يلبس حريراً رقيقاً، وهذا يريد أن يلبس حريراً غليظاً، والحرير لا يجوز لبسه للرجال في الدنيا، ومن لبسه في الدنيا يحرم منه في الآخرة، فلا يدخل الجنة، وأما من دخل الجنة فإنه يلبسه، ولا يحرم من شيء في الجنة، فالمؤمنون يلبسون من رقيق الحرير ومن غليظ الديباج.
وقال الله: {مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53] أي: يقبل بعضهم على بعض كما شاء الله سبحانه، فيواجه بعضهم بعضاً، وتدور بهم مجالسهم حيث داروا.(468/4)
تفسير قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين)
قال: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] (كذلك) أي هذا الذي ذكرناه لكم لكل إنسان مؤمن مثله، وأيضاً نزوجهم بالحور العين، والحوراء المرأة الجميلة التي خلقها الله عز وجل للجنة، فما نزلت إلى الدنيا ولا تدنست بها، وقد خلقها الله في الجنة وجعلها لأهل الجنة ينعمون بها، والعين المرأة العيناء الواسعة العين، يقال: هذا الرجل أعين، يعني: عينه واسعة، وهذه المرأة عيناء، أي: واسعة العين، والجمع عين، فيذكر الله فيهن صفتين: صفة الحور وصفة العين، فهن واسعات الأعين، وهن حوراوات، بمعنى: أن العين غاية في الجمال، فبياضها شديد البياض، وسوادها شديد السواد، والإنسان في الدنيا كلما يتقادم في السن وترهق عيناه بالقراءة والكتابة، وبالعمل؛ عينه تحمر ولون العين يتغير، لكن الحوراء ليست مكلفة بشيء، فهي لا تتعب نفسها بشيء، بل هي مرفهة منعمة في الجنة، فعينها غاية في الجمال، فبياض عينها بياض عظيم، وسواد عينها سواد في غاية الجمال.
فأهل الجنة زوجهم الله عز وجل بحور عين، وفي الدنيا الإنسان له أن يتزوج بأربع، وأما في الجنة فيزوج الشهيد باثنتين وسبعين من الحور العين، ولهم فيها ما يشاءون، ومن كظم غيظه يخيره الله من الحور العين ما يشاء على رءوس الخلائق، فيختار من الحور العين ما شاء، فمن مهر الحور العين الصبر في الدنيا على الأذى، وكظم الغيظ، وكتم الغضب إلا أن يكون غضباً لله سبحانه.(468/5)
تفسير قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين)
قال الله سبحانه: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55]، ذكر الأمان هنا مرة ثانية، والأمان نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، ويعرف الإنسان هذه النعمة حين يخاف من عدو أو من وال أو سلطان أو حاكم أو رئيس؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وكثير من الناس لا يعرف قدر هذه النعمة، (بات آمناً في سربه) سرب الإنسان هو المكان الذي يسير فيه، فهو المكان الظاهر، فيمشي وهو غير مختف، بل يمشي في مكان ظاهر وهو آمن، (معافىً في بدنه) يعني: ليس مريضاً.
(عنده قوت يومه)، ولم يقل: قوت سنته، أو قوت شهره، أو قوت أسبوعه، عنده قوت يومه، فهو آمن في مكانه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فهذه هي الدنيا كلها، والإنسان مهما جمع من خيرات الدنيا كلها فلن يأكل في أكثر من بطن واحدة، وإذا امتلأت فمهما كان هناك من الطعام فلن يأكله، والعافية نعمة من الله سبحانه عظيمة، والله عز وجل يمن على أهل الجنة بالأمن والأمان، كما قال الله: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، لا يخافون من مستقبل أمامهم، ولا يحزنون على ماض فاتهم، فالله عز وجل قد أمنهم وأعطاهم هذا النعيم، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم.
قال الله: {يَدْعُونَ فِيهَا} [الدخان:55] أي: يطلبون وينادون: هاتوا لنا كذا، ونريد كذا، فمن في الجنة يعطى أي شيء يطلبه، فيشير إلى الأشجار وإلى الثمار فتنزل إليه، ويشير إلى الطير فينزل إليه كما يريده مشوياً أو مقلياً، وغلمان أهل الجنة يأتونهم بما يشاءون، والملائكة يأتونهم بما يشاءون، فهذا نعيم عظيم من فضل رب العالمين سبحانه، فنسأله سبحانه ألا يحرمنا منه.
وعندما أدخل الله آدم الجنة حظر الله عز وجل عليه صنفاً واحداً، فقال: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]، وأما أهل الجنة إذا دخلوها فلا يوجد تكليف، ولا شيء عنهم محظور مما في الجنة، فيأكلون ما يشاءون منها، والله امتحن آدم لحكمة حتى ينزل إلى الأرض، وأما أهل الجنة فلا نزول إلى الأرض مرة ثانية.
قال الله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55]، فذكر الله دعاءهم بالفاكهة، ولم يتعرض لأقواتهم؛ لأنهم لا يجوعون أصلاً، فيأكل ما يشاء، ويشرب ما يشاء، ويتفكه بما يشاء.(468/6)
تفسير قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى)
قال الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] لا موت في الجنة، فقد انتهى أمر الموت، فهو كان الموت في الدنيا، وأما في الجنة فخلود.
قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] أي: الموتة التي ذاقوها في الدنيا، فالإنسان يذوق موتتين ويحيا حياتين، الموتة الأولى: هي العدم الذي كان فيه، ثم بعد ذلك صار في الدنيا، فهذا العدم ينساه الإنسان، ولا يتذكر شيئاً منه، ولا يذكر إلا وهو في الدنيا، بل لا يذكر كيف ولد، وكيف كان وهو صغير، ينسى هذا كله، لكن الموتة التي يحس بها هي في خروجه من الدنيا، ثم بعد ذلك يحيا الحياة الأخرى في جنة الخلود إن كان مؤمناً، فهذه الحياة العظيمة الكريمة لا يذوقون فيها موتاً بعد ذلك {إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] يعني: ولكن ما كان قبل ذلك من الموت في الدنيا.
قال الله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56] وقاهم الله سبحانه عذاب الجحيم، والجحيم هي النار المشتعلة المتوقدة، وهي مأخوذة من الجحم، يقال: في عين الأسد جحمة، يعني: عينه ملتهبة حمراء، فكذلك نار جهنم والعياذ بالله حمراء مشتعلة ملتهبة، وتكون سوداء على أقوام، ويكون فيها ما شاء، نسأل الله العفو والعافية.(468/7)
تفسير قوله تعالى: (فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم)
قال الله: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:57] أي: هذا الذي أعطاه لأهل الجنة هو تفضل منه عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فهذه رحمة الله عز وجل، فالله أدخلهم الجنة بفضله وبرحمته سبحانه.
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57] (ذلك) أي: جنة الله والنعيم المقيم، (هو الفوز العظيم)، فالفوز في الدنيا أن يفوز الإنسان بالمال، أو بالجائزة، أو بالمنصب، ولكن كل هذا الفوز تفوز به إلى حين، وبعد ذلك لا تنعم بهذا الشيء، فالإنسان يفرح إذا أخذ الشهادة وتخرج من الجامعة، فهذا فوز، لكن قد يبحث عن عمل فلا يجد، فيرجع إلى البيت كأنه ما أخذ شيئاً، فلم ينعم بهذا الشيء، ولعله يجد وظيفة، فيفوز بها، ويصرف له مرتباً كبيراً، ثم يصرف هذا المرتب وينتهي، فكل فوز في الدنيا بعده أشياء تنغصه، لكن الفوز الحقيقي هو النجاة من غضب الله، ومن عذاب الله سبحانه، الفوز العظيم هو دخول جنة الخلد، قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، فكأن النار تشده، ورحمة الله سبحانه تخرجه، فيفوز وينجو من النار ويدخل الجنة، فكيف بمن يدخل الجنة مع السابقين، فهذا أعظم الفوز عند رب العالمين.(468/8)
تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)
ختم الله السورة بقوله سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58]، وقد أشار إلى القرآن في أول هذه السورة فقال: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:1 - 3]، فبدأ السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وقال: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6]، وختم السورة بالإشارة إلى هذا القرآن العظيم فقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان:58]، كما قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أي: بلسان النبي الفصيح صلوات الله وسلامه عليه، وكما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فجعله سهلاً في حفظه، والكتاب الوحيد الذي يسهل على الناس أن يحفظوه هو هذا القرآن العظيم، فيحفظه العربي، ويحفظه الأعجمي، ومن أراد أن يحفظ هذا القرآن ييسر الله عز وجل له حفظه.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58] أي: يتعظون ويعتبرون.
ثم قال الله: {فَارْتَقِبْ} [الدخان:59] أي: ارتقب يوم القيامة، وارتقب يوم يأتي أمر الله سبحانه، {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] أي: هم ينتظرون لك الدائرة في الدنيا، وانتظر بهم أنت، فعليهم الدائرة، وسيأتيهم أمر الله سبحانه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(468/9)
تفسير سورة الجاثية [1 - 6]
يرشد الله سبحانه وتعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع، من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وكل هذه تدل على عظمة الخالق سبحانه، وأنه المستحق للعبودية وحده لا شريك له.(469/1)
مقدمة بين يدي تفسير سورة الجاثية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:1 - 6].
هذه السورة الخامسة والأربعون من كتاب الله عز وجل وهي سورة الجاثية، وهي السورة السادسة من آل حم، وأول سور الحواميم غافر، يليها فصلت، يليها الشورى، يليها الزخرف، يليها الدخان، يليها الجاثية، يليها الأحقاف، سبع سور بدأها الله عز وجل بـ (حم)، وترتيب نزولها على ترتيب ورودها في المصحف العظيم، فهذه السورة هي السادسة في نزولها من الحواميم.
وتسمى بسورة الجاثية، لأن فيها ذكر يوم القيامة، قال الله عز وجل: ((وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً)) والجثو: هو النزول على الركب، يكون الإنسان قد نصب قدميه واتكأ على ركبتيه كهيئة الذي يكاد أن يقع ساجداً، هذا هو الجاثي، جثا على ركبتيه، يعني: جلس جلسة الخاشع الذليل، فكذلك الأمم يوم القيامة تجثو على الركب تنتظر ما الذي يصنع بها، وتسمى أيضاً بسورة الشريعة؛ لأن الله عز وجل ذكر فيها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
سورة الجاثية هي سورة مكية، وفيها خصائص السور المكية من ذكر آيات الله سبحانه وتعالى، من خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتصريف الرياح، وما أنزل الله عز وجل من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وكل هذا يدعو الخلق إلى أن يتفكروا في آيات الله سبحانه وتعالى؛ ليؤمنوا وليوقنوا وليعقلوا بما ذكر الله سبحانه وتعالى، وهذه السورة فيها ذكر ما كان من تكذيب السابقين، ومن تكذيب القرشيين وأهل مكة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فيها ذكر شيء من اعتقاد هؤلاء الجهلاء من الكفار من أنهم في هذه الحياة الدنيا يموتون ويحيون وما يهلكهم إلا الدهر، ولا بعث في ظنهم، فيخبر تعالى أن هذا كذب وسترون يوم القيامة: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28].
ثم يذكر الله سبحانه وتعالى الجنة وأهل الجنة وما يصيرون إليه من نعيم مقيم، ويذكر النار وأهل النار وما يصيرون إليه من عذاب أليم.
آيات هذه السورة سبعة وثلاثون في العدد الكوفي، وستة وثلاثون آية عند باقي القراء، وسبب الخلاف (حم)، فعدها الكوفيون آية مستقلة، وعند غيرهم (حم) وما بعدها آية واحدة: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) هذه الآية الأولى في غير المصحف الكوفي.
وكلمة (حم) الحاء تمد حركتين مداً طبيعياً، والميم تمد مداً طويلاً.
والحاء فيها الفتح وفيها الإمالة وفيها التقليل، الفتح قراءة الجمهور، والإمالة قراءة ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وابن خلف، والتقليل قراءة الأزرق عن ورش وأيضاً هي قراءة أبي عمرو بخلفه.(469/2)
تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
قال الله تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:1 - 2] دائماً تجد بعد ذكر فواتح السور الإشارة إلى القرآن، وفواتح السور فيها التحدي بأن هذا القرآن العظيم مكون من حروف أنتم تنطقون بها وأنتم تحفظونها، فائتوا بمثل هذا القرآن، إن كنتم تقدرون فافعلوا، ثم قال: هاتوا عشر سور مثله مفتريات، ثم قال لهم: هاتوا سورة واحدة إن كنتم تقدرون على ذلك.
وهنا قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ)) أي: هذا تنزيل الكتاب، على أن قوله: ((تنزيل)) خبر، أو أن قوله: ((تَنزِيلُ)) مبتدأ، وجملة: ((مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) الخبر.
فقوله: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ)) فيه إشارة إلى صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة العلو؛ لأن الكتاب نزل من عنده سبحانه وتعالى، جاء من عند الله العزيز الحكيم الذي هو في السماء سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17] فله العلو سبحانه وتعالى، علو الشأن وعلو القهر وعلو الذات، فهو فوق سماواته مستو على عرشه، بائن من خلقه سبحانه وتعالى.
فالكتاب نزل من عند رب العالمين، نزل بواسطة روح القدس جبريل الأمين عليه السلام على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ذكر هنا ثلاثة من أسمائه سبحانه: (الله) وهو اسمه الأعظم سبحانه وتعالى، لفظ الجلالة (الله) المعبود سبحانه وتعالى.
ثم (العزيز) أي: الذي له العزة وله الكمال سبحانه وتعالى، وهو العزيز الغالب الذي لا يغالب، الذي إذا أمر بشيء لابد وأن يكون على ما أمر به سبحانه، الذي لا يمانع، وإذا نهى عن شيء سبحانه وتعالى وأراد شيئاً لابد وأن يكون كما يريد سبحانه وتعالى.
(الحكيم) أي: أنزل الكتاب بحكمته سبحانه وتعالى، وجعله منجماً، وكانت الكتب قبل ذلك تنزل على الرسل مرة واحدة، والقرآن نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، من الله الحكيم سبحانه الذي له الحكمة البالغة، بأن جعل هذا القرآن العظيم على هذا النحو الذي نقرؤه ونحفظه ونتلوه، وجعل فيه هذه الأحكام العظيمة، وأنزله على النبي الكريم، واختاره من بين الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام، وجعل هذه الأحكام التي في القرآن أحكاماً في العهد المكي وأحكاماً في العهد المدني، ونسخ ما شاء من الأحكام بحكمته سبحانه، فهو الذي يحكم كل شيء سبحانه وتعالى، ويحكم في كل شيء سبحانه، فهو الحكيم الذي له الحكمة، والحكيم الذي له الحكم، والحكيم الذي يخلق سبحانه وتعالى ويقضي، ألا له الخلق وله الأمر سبحانه وتعالى، فهو الحكيم الذي لا تجد في صنعته خللاً ولا تقصيراً سبحانه وتعالى.(469/3)
تفسير قوله تعالى: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين)
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3] كأنه يقول لخلقه: انظروا إلى السماوات والأرض، وهذه الدعوة تكررت في كتاب الله عز وجل، أي: الدعوة إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11] أي: سيروا في الأرض وانظروا عاقبة الأمم السابقة، كيف صنع الله عز وجل بهم، وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] ذكرها في سورة البقرة، وكرر مثل ذلك في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية مع عشر آيات من آخر سورة آل عمران: (لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها) فالمؤمن حين يقول له ربه: انظر، فلينظر إلى ما أمر الله عز وجل أن ينظر فيه، وإذا أمره أن يتفكر وأن يتذكر فليتعظ وليعتبر وليتفكر كما أمره الله سبحانه وتعالى.
وهنا يكرر هذا الشيء وهذا المعنى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: الكل ينظر إلى السموات وإلى الأرض، والكل يعرف بديع هذا الخلق العظيم الذي حارت العقول في ذلك، ولكن المؤمن هو الذي يستدل أن هذا ما خلق عبثاً ولا سدى، وإنما له خالق أوجده وخلقه وأحسنه وأتقنه وأبدعه، ألا وهو الله سبحانه، وهو يصدق بما جاء من عند رب العالمين، ويصدق رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فالمؤمن هو الذي ينتفع بهذه الآيات.
فأنت عندما تنظر إلى السماء لن تخترق السماء الدنيا بنظرك، وإنما ترى ما تحت هذه السماء الدنيا، ومع ذلك لا تدرك جميع ما تحت هذه السماء من مليارات النجوم والمجرات، وغيرها من آيات الله عز وجل، وكلما نظر الإنسان تحير وتعجب من قدرة الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فازداد إيماناً فوق إيمانه.
إذاً: هذه الآيات ينتفع بها من صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن تابعهم ومن آمن بكتب الله سبحانه.(469/4)
تفسير قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة)
قال الله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4].
قوله: ((وَفِي خَلْقِكُمْ)) أي: على الإنسان أن ينظر إلى نفسه، كيف خلقه الله سبحانه وتعالى، كيف كان شيئاً صغيراً جنيناً في بطن أمه، وكان قبل ذلك نطفة وعلقة وصار هذا الإنسان هذا الخلق العظيم البديع الذي خلقه الله سبحانه وتعالى.
كلما نظر الإنسان تعجب في خلقه، خلقة الإنسان وهو في بطن أمه كيف تكونت هذه النطفة فصارت هذا الإنسان؟! كيف تجمعت العروق في الإنسان وعملت شبكة الأوعية الدموية؟! كيف تجمعت خلايا الإنسان وتكون منها مخ هذا الإنسان؟ فأنت حين ترى الصور للجنين وهو في بطن أمه، وهو يتكون خلقاً من بعد خلق تتعجب من هذا المنظر، ثم بعد ذلك يصير هذا الإنسان الجميل على هذه الخلقة العظيمة، كل هذا يتم عن طريق التصوير للجنين في بطن أمه (بالميكروسكوبات الإلكترونية)، فتنظر إلى صورة هذا الإنسان وهو يتخلق شيئاً فشيئاً في بطن أمه، عروقه تكون عبارة عن ذرات وخلايا متناثرة تتجمع وتتجمع إلى أن تكون شبكة عجيبة جداً في جسم هذا الإنسان، وطول هذه الشبكة تزيد على أربعين كيلو، والكيلو الواحد يعتبر كثيراً جداً، كيف تجمعت هذه الخلايا داخل هذا الإنسان حتى صارت على هذا الطول؟! والإنسان عندما ينظر إلى طول جسمه كيف يكون بداخله هذه المئات والألوف من الكيلومترات من الخلايا التي لو رصت بعضها بجوار بعض رصاً لبلغت هذا الطول العظيم! كل هذه خلقها الله سبحانه وتعالى.
خلايا كلها متشابهة كلها صورة واحدة، وتنقسم هذه الخلايا إلى أقسام، فمنها: ما يتكون منها العروق، ومنها: ما يتكون منها المخ، ومنها: ما يتكون منها القلب، ومنها: ما يتكون منها الجلد.
فالمؤمن هو الذي يصدق ويؤمن ويعلم أن الذي كونه وقال له: كن فكان على هذا النسق وهذا النظام البديع الذي خلقه هو الله سبحانه وتعالى.
قوله: ((وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ)) أي: أنت في خلقك نشرت فيك هذه الخلايا فصرت هذا الإنسان، وجعل هذا أبيض وهذا أحمر وهذا أسود وهذا كذا وهذا كذا، لكن هذا الإنسان الذي في أقصى الشمال مثل ذلك الإنسان الذي في أقصى الجنوب، والإنسان الذي في المكان الحار جداً، هو نفس الإنسان الذي في المكان البارد جداً، فهو سبحانه الذي خلق هؤلاء جميعهم.
كذلك تعددت الألسن وتعددت اللغات وتعددت الألوان ولكن الخلقة واحدة فلا تتعجب فإنه خلق الله سبحانه وتعالى.
قال: ((وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ)) بث بمعنى نشر ونثر وأذاع، فهو سبحانه بث في كل مكان وأوجد خلقاً من الخلق منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه.
قال: ((آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) أي: آيات للذي عنده يقين وعنده إيمان واعتقاد ثابت بالله سبحانه وتعالى.
فالإيمان هو التصديق، واليقين أشد هذا التصديق، كأنه يرى هذا الغيب ماثلاً أمامه.
فقوله: ((آيات)) قراءة الجمهور بالضم فيها، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: ((آياتٍ)) بالكسر، كأنها على العطف على ما قبلها.
{إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ} [الجاثية:3] كذلك هنا: ((وما يبث من دابة آياتٍ لقوم يوقنون)).(469/5)
تفسير قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق)
قال الله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5] كذلك قوله: ((آيات)) قراءة الجمهور بالضم، وقرأها حمزة والكسائي ويعقوب: ((آياتٍ)) بالكسر.
أي: اختلاف الليل والنهار من آيات الله، فالليل يأتي في وقته والنهار يأتي في وقته، يزيد هذا وينقص هذا، واليوم أربعة وعشرون ساعة، يزيد الله عز وجل في الليل ما يشاء وينقص من النهار بقدره، ويزيد في النهار ما يشاء، وينقص من الليل بقدره، تتعاقب عليكم فصول العام هذا شتاء وهذا صيف وهذا خريف وهذا ربيع، في كل سنة أربعة فصول تتكرر على العباد، الليل هو الليل والنهار هو النهار يزيد الله ما يشاء ويقلل وينقص فيما يشاء، ويجعل لنا ذلك آية من الآيات.
إذاً: الإنسان يتفكر كيف أن هذا الليل يطول ويقصر وهذا النهار كذلك، وهذا الليل أسود بهيم وهذا النهار مشرق مضيء، وهذا الليل يكون بارداً وهذا النهار يكون حاراً، وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا، آيات من آيات الله عز وجل، فمن آياته أن جعل لكم الليل نوماً وسباتاً وسكناً، وجعل النهار لكم معاشاً وحياة ورحمة ورزقاً، كل هذا من آيات الله سبحانه وتعالى.
قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ)) أي: ما أنزله لكم من المطر من السماء فيكون سبباً لأرزاقكم، يحيي به الأرض بعد موتها، ويغيثكم الله عز وجل ويحييكم به سبحانه وتعالى.
وخلق كل دابة من ماء، فأنزل الماء من السماء ليحيي به العباد.
قوله: ((فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) أي: كانت يابسة جامدة فنزل عليها الماء و {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] ثم قال: ((وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) أي: أن الله تعالى صرف الرياح وأرسل هذه شمالاً وهذه جنوباً وهذه شرقاً وهذه غرباً، ويسوق بها السحاب، ويحمل بها ما يشاء ويلقح بها الأشجار، ويخرج لكم ما يشاء سبحانه من خلقه، وهذه الرياح يجعلها عقيماً على قوم ويجعلها مرسلة بالرحمة على قوم آخرين، ويجعلها عذاباً على قوم ويجعلها رحمة لآخرين.
قوله: ((الرِّيَاحِ)) قرأها الجمهور بالجمع، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالإفراد: ((الريح)).
إذاً: الله سبحانه وتعالى يصرف الرياح ويرسلها بما يشاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح ورأى في السماء سحابات سوداء فزع صلى الله عليه وسلم، تقول السيدة عائشة: (كان يدخل ويخرج ويتغير وجهه صلى الله عليه وسلم فإذا أمطرت السماء سري عنه صلوات الله وسلامه عليه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: أنه إذا رأى الرياح هاجت وإذا رأى سحابات السماء سوداء يتغير صلوات الله وسلامه عليه، فقال: وما يؤمنني يا عائشة؟ قد رأى قوم الريح فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] فكانت عذاباً من الله عز وجل عليهم)، وهم قوم عاد.
فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمطرت السماء سري عنه عليه الصلاة والسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يسأل الله من خيرها ويتعوذ بالله من شرها.
قال سبحانه في هذه الآيات: ((آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) أي: يفهمون ويتدبرون ويعقلون عن الله عز وجل ما يقوله لهم.(469/6)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق)
قال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] أي: هذا القرآن العظيم يشتمل على آيات.
قوله: ((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)) أي: نقصها عليك ويقرؤها عليك جبريل تلاوة ليعلمك، ((بالحق)) أي: هذه الآيات متلبسة بالحق.
إذاً: نزل هذا الكتاب من السماء متلبساً بالحق، ويتلوه عليك جبريل بالحق، ويشتمل هذا القرآن على الحق.
قوله: ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) أي: إذا لم يصدقوا كلام رب العالمين فماذا سيصدقون قوله: ((فبأي حديث)) وهذه قراءة الجمهور بالهمزة.
وقرأ الأصبهاني عن ورش وقرأ حمزة وقفاً: ((فبيي)).
وقوله: ((يؤمنون)) قراءة الجمهور بالياء، وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب: (تؤمنون) بالتاء على الخطاب.
فالله عز وجل يقول لهؤلاء الكفار: إذا لم تؤمنوا ولم تتفكروا ولم تعقلوا ولم تستيقنوا بهذه الآيات التي جاءت من عند الله بالحق، فبأي شيء ستؤمنون؟! فهذا خطاب لهؤلاء الذين يعقلون والذين يتفكرون: انظروا هل هذه الآيات التي جاءت من عند الله عز وجل تدلكم على الله سبحانه أو هذه الأصنام التي تعبدونها؟! وأنتم تعرفون أن هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله، لا تنفع ولا تضر، فكيف تعبدونها من دون الله؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(469/7)
تفسير سورة الجاثية [6 - 13]
يذكر الله بعض آياته ونعمه على عباده، ونعم الله كثيرة لا تحصى، ومن العجيب أن يكفر الإنسان بالله ويجحد نعمه سبحانه، وقد توعد الله هؤلاء الكافرين بشتى أنواع العذاب، ولن تغني عنهم معبوداتهم شيئاً من الله تعالى إن أراد أن يهلكهم أو يعذبهم جزاء ما فعلوا وما اقترفوا من آثام.(470/1)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:6 - 11].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن هذا القرآن العظيم الذي نزله من عنده سبحانه وقال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2].
ثم يخبر عن آيات الله سبحانه في السموات وفي الأرض: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3 - 5].
هذا الذي ذكر الله عز وجل من آيات الله العظيمة هي بعضٌ من آيات الله في الكون التي أمرنا أن نتفكر فيها وأن نعقلها وأن نتدبرها وأن نستدل بها على قدرته سبحانه، وأنه وحده الذي يستحق العبادة دون غيره.
فقوله تعالى: ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ)) أي: هذه الآيات العظيمة التي أشرنا إليها.
وقوله تعالى: ((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)) أي: التلاوة حق، والتلاوة مشتملة على الحق، والتلاوة متلبسة بالحق.
((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) فبأي حديث إذا لم تؤمنوا بهذا الكلام الحق المعجز من عند رب العالمين تؤمنون؟ أي كلام وأي حديث بعد هذا الكلام العظيم يجعلكم تؤمنون؟! والمعنى: أن من لم يؤمن بهذا فلا ينتظر منه أن يؤمن بشيء آخر.(470/2)
تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم أولئك لهم عذاب مهين)
قال سبحانه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] ويل عذاب أليم، أو واد في قعر جهنم لكل أفاك، والأفاك من الإفك، والإفك: أعظم وأشنع الكذب والافتراء، وذلك حين يتحدث الإنسان فيكذب ثم يفتري على غيره فيأفك، فهذا الأفاك يبهت غيره ويفتري عليه بما يجعل هذا الذي يسمع يتعجب مما يقوله؛ لأنه كذب عظيم جداً؛ ولذلك ربنا سبحانه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] والإفك: أعظم الكذب، كذبوا وافتروا على السيدة عائشة كذباً عظيماً شنيعاً بشعاً يجعل من يسمعه لا يتخيل أنه يوجد إنسان يقول مثل هذا الكلام الكذب والكلام الإفك.
فويل لهذا الأفاك، وأعظم ما يكون الافتراء على الله عز وجل، وذلك حين يقول الإنسان: الله قال: كذا، والله لم يقل ذلك أصلاً فيفتري على الله سبحانه هذا الإفك، فالأفاك يعني: الكذاب العظيم من الكذب والافتراء، وإن كان الناس غيروا هذه الكلمة إلى أفاق، وهذا خطأ في اللغة، فالأفاق من الآفاق، يقال: آفاقي يعني أتى من الآفاق من بعيد، لكن الأفاك: الكذاب المفتري الأثيم الذي يختلق الشيء وهو غير موجود.
قال سبحانه: ((وَيْلٌ)) أي: عذاب أليم لكل إنسان عظيم الكذب يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه.
وقوله تعالى: ((أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) أي: مكتسب للإثم بما يصنع وبما يقول.
هذا الأفاك الأثيم من صفاته: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8].
فقوله تعالى: ((يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ)) أي: يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ويدعوه إلى الله عز وجل.
قال: ((ثُمَّ يُصِرُّ)) أي: يعاند وكأنه لم يسمع شيئاً.
يقال له: ما الذي سمعت؟ يقول: لم أسمع شيئاً.
ما الذي فهمت؟ يقول: لم أفهم شيئاً، يقول: هذا مجنون.
فيفترون على النبي صلى الله عليه وسلم ويفترون على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكذبون، فويل لهذا الكذاب، الذي يجعل نفسه كأنه لم يسمع شيئاً ولم يعلم شيئاً، فإذا سمع آيات الله عز وجل وهي تتلى عليه يصر ويعاند ويبقى على ما هو فيه من كفر متعظماً في نفسه.
فقوله تعالى: ((يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا)) يعني: كأنه في نفسه أعظم من أن يقبل هذا الكلام أو يدخل في هذا الدين العظيم.
فقوله: ((كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)) كأنه لم يسمع هذه الآيات.
فقال الله تعالى: ((فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) والأصل في البشارة: الإخبار بشيء مغيب قد يسر وقد يسوء، لكن الغالب في اللغة: أنه لا تطلق البشارة إلا على الخبر الذي يسعد ويسر، إلا أن تأتي مقيدة بشيء بعدها فتدل على العكس في ذلك.
فهنا يتنزل هذا المعنى على وجهين: فبشر هذا الإنسان الذي تهكم واستهزأ بمصيبة سوداء ستحل به؛ لأنه مكذب بآيات الله.
فالله سبحانه يسخر من هذا الإنسان؛ لأنه يسخر من آيات الله، أو على أصل معنى البشارة، بمعنى: الإخبار بما غاب عنك بما يغير بشرتك، فالتبشير: إخبار بالشيء الذي يغير بشرة جلد الإنسان، فالإنسان حين يخبر بالشيء الذي يسره يضحك وتتغير بشرته، ويحمر وجهه، ويتورد وتظهر عليه آثار الانبساط والسرور، فبشرة الإنسان تتغير بالشيء الذي يسر الإنسان.
والعكس كذلك إذا أخبر بما يسوءه {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58].
إذا أخبر الإنسان بمصيبة ستحدث له يخاف ويتضايق وينزعج ويظهر على تباشير وجهه هذا الأثر، كأن البشارة الإخبار بما يغير هيئة بشرة الإنسان ووجهه، فكأن الله يقول له: انتظر ما يسوءك من عذاب أليم.
فقوله تعالى: ((فَبَشِّرْهُ)) أي: أخبره بما سيسوءه بعد ذلك من عذاب مؤلم موجع.
ومن صفات الأفاك: ((وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا)) أي: إذا علم وعرف أن كلام رب العالمين حقيقي اتخذه هزوا.
فقوله تعالى: ((اتَّخَذَهَا هُزُوًا)) تقرأ بالواو، يقرأها حفص فقط عن عاصم.
وباقي القراء كلهم يقرءونها بالهمزة على أصلها (هزءاً) ما عدا حمزة فيسكن الهمز إذا وقف عليها ويقول: (هزء).
فالقراءة الأخرى: (إذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزءا) أي: يستهزئ بكلام رب العالمين سبحانه.
قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ)) المكذبون الأفاكون ((لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)).
إذاً: له عذاب أليم مؤلم موجع، وله عذاب يهينه؛ لأنه أهان كلام الله، وأهان رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فاستحق الهوان واستحق الإهانة يوم القيامة، وأن يحقره الله عز وجل.
ولذلك يرى الكافر يوم القيامة في نار جهنم وهو أحقر من الذر مثل أصغر من النمل، والكفار ينادون ربهم سبحانه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] أي: ندوس عليهم بأقدامنا الذين أضلونا في الدنيا، هذا تحقير لهم وإهانة لهم في نار جهنم والعياذ بالله، فهم اتخذوا آيات الله هزواً فاستحقوا أن يهينهم الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة.(470/3)
تفسير قوله تعالى: (من ورائهم جهنم)
قال الله تعالى: ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)) الوراء: الغيب، يعني: الذي يغيب عن الإنسان حتى وإن كان أمامه ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)) فتأتي كلمة وراء بمعنى: خلف، وبمعنى: ما غاب عنك وهو أمامك، فهنا المعنى: من قدامهم، يعني: سيقدمون على جهنم؛ ولكونها غيباً لا يرونها فهي من وراء الغيوب، ومن وراء ما لا يرونه، فجهنم من ورائهم.
ومنه: قول الله عز وجل في سورة الكهف عن أصحاب السفينة: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] فهو لا يجري وراءهم، بل هو أمامهم، يعني: سيقدمون على الشط في الجهة الثانية فإذا وصلوا فإنهم سيجدون ملكاً يأخذ منهم هذه السفينة، فلما كانوا لا يرون هذا الملك ولم يعرفوا ما الذي ينتظرهم، فكأن وراءهم شيء مغيب عنهم.
فقوله تعالى: ((وَكَانَ وَرَاءَهُمْ)) [الكهف:79] أي: قدامهم، ولكن لا يرون ولا يعرفون، فأرسل الله عز وجل الخضر حتى يأخذ لوحاً من السفينة فتظهر أنها فاسدة معطلة، فإذا وصلوا يكون قد دخلها قليلاً من الماء، فيتركها الملك؛ لأنها لا تصلح أن تكون من أسطوله، وبقيت لهؤلاء المساكين.
فكلمة وراء تأتي بمعنى: خلف لما غاب عنك وهو وراؤك، وتأتي بمعنى ما هو أمامك، ولكنك لا تراه، فهو غيب مغيب عنك، فكذلك: ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)) أي: سيقدمون عليها أمامهم بعد أن يموتوا، وسيرون هذا العذاب في نار جهنم المستعرة.
وقال تعالى: ((وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ)) أي: ولا يغني عنهم ما كسبوا من الله شيئاً، ولا يوجد يوم القيامة فداء ولا دفع إلا الحسنات والسيئات، والجزاء بما عمل الإنسان يوم القيامة، ولا يغني عنهم كل ما كسبوه في الدنيا.
هذا لو فرض أنه معهم، ولكن يوم القيامة ليس مع الإنسان شيء، فهذا الذي كسبوه لو قدموه كله وهو معهم لا يغني عنهم ولو شيئاً يسيراً من عذاب الله سبحانه.
وقوله تعالى: ((وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ)) أي: ولا يغني عنهم شيئاً هؤلاء الذين اتخذوهم من دون الله أولياء، والولي: القريب والحميم والناصر والمدافع، فكل من اتخذوهم في الدنيا أحزاباً تدافع عنهم وتناصرهم لا تغني عنهم يوم القيامة، وكل من عبدوه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى لا يغني عنهم من دون الله شيئاً.
وقوله تعالى: ((مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: كل ما هو غير الله من أوثان وأصنام وتماثيل، فكل ما عبد من دون الله لا يغني عن أصحابه شيئاً من الله.
قال تعالى: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) أي: لهم أشد العذاب، وانظر للتنوع، (لهم عذاب أليم)، (لهم عذاب مهين)، (لهم عذاب عظيم) بسبب شناعة الذي صنعوه، فاستحقوا كل هذه الأنواع من العذاب.(470/4)
تفسير قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم)
قال تعالى: {هَذَا هُدى} [الجاثية:11] أي: هذا القرآن وهذا الذي جاء من عند رب العالمين هدى هداية ودلالة وحجة من الله عز وجل يدل بها المؤمن على الطريق الصحيح، فيهتدي بها الإنسان، فيستحق من الله عز وجل الإعانة في الدنيا وفي الآخرة.
وقوله تعالى: ((هَذَا هُدًى)) يعني: من الله.
وقال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)) هذا وصف رابع لعذاب هؤلاء الذي ذكره الله عز وجل: (عذاب أليم)، (عذاب مهين)، (عذاب عظيم)، (عذاب من رجز أليم).
فقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ)) أي: بحجج الله سبحانه، وبما نزل من عنده.
وقوله تعالى: ((لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ)) أي: لهم عذاب من أشد أنواع العذاب وهو الرجز، لهم عذاب من أشد ما يسوءهم من عذاب من عند الله عز وجل.
قراءة الجمهور: ((مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)) وصف للعذاب، يعني عذابُ أليمٌ من رجز من أشد أنواع العذاب.
وقراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ويعقوب: ((لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)) وباقي القراء: (من رجز أليمٍ).(470/5)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك بأمره)
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية:12] ذكر لنا في أول السورة بعضاً من نعم الله ومن آياته سبحانه وتعالى، فأخبرنا أنه سخر الشمس والقمر، وخلق الليل والنهار، وسخر الرياح، وصرف الرياح، وأرسل السحاب سبحانه، وأنزل الرزق من السماء، كل هذه آيات من آيات الله سبحانه.
وفي خلقكم آية من آيات الله سبحانه، كذلك من آياته: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ)).
الله الذي يستحق العبادة وحده، فهو الذي سخر، وهو الرب الذي يفعل ذلك، فهو الرب الفاعل الذي يفعل، والصانع الذي يصنع، والمألوه المعبود الذي يستحق العبادة، فيجمع بين الاثنين: بين توحيد ألوهيته أنه مستحق لأن يؤله ويعبد، وتوحيد ربوبيته أنه الفاعل وحده لا أحد معه يصنع ذلك.
وسخر الشيء بمعنى: ذلله ويسره، وسيره، وكلفه بأن يفعل كذا، فالله سخر لكم البحر، وجعله تحت تصرفاتكم، فتتصرفون فيه، وتركبون عليه، وتسبحون فيه، وتغوصون بداخله، وتأخذون من خيراته.
وقوله تعالى: ((لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)) أي: لتجري السفن في البحر بأمره ليس بأمركم أنتم، فالإنسان حين يتطاول على ربه سبحانه يريه الله عز وجل آياته.
هذا مركب غرق وعليه ألف وأربعمائة شخص، لم ينج منهم إلا القليل، فالذي سخر البحر الله، وعندما يتطاول العبد على الله يريه الله عز وجل آياته، وانظر إلى أعجب سفينة كانوا قد صنعوها (تايتنك) وقصتها معروفة لدى الجميع، وقد صنعوا لها مسلسلات أو روايات تلفزيونية وغيرها، ومعنى (تايتنك): الخارقة، والمعجزة، والجبارة، يعني السفينة القاهرة التي لا تقهر، فقد تحدوا الله عز وجل، وأغنى أغنياء العالم ركبوا في هذه السفينة، ومن غرور صاحب هذه السفينة أنه لم يضع فيها قوارب نجاة، وأمر ربان السفينة أن يجري بها على أقصى سرعة ليرى الناس عظمة هذه السفينة، وضخامة حجمها، وكل من عليها من أصحاب الملايين، جرت اصطدمت بجبل وانقسمت نصفين وغرقت بمن عليها! قالوا: كان من الممكن نجاة من عليها لو كان عليها قوارب نجاة، واستمرت خمس ساعات وهي تغرق، فلو كان هناك قوارب نجاة لنزل الناس منها ونجا من عليها، ولكن غرور أهلها جعهلم يقولون: هذه السفينة لا تقهر، فقهرها الله أول ما نزلت في البحر، واصطدمت وانشطرت وغرق كل من فيها، وربان هذه السفينة كان بإمكانه أن يعوم، ولكنه فضل أن يغرق مع السفينة لئلا يفضح عندما ينجو.
فقوله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)) أي: بأمر الله تجري وتسير وتقف، ولا يحدث فيها شيء إلا بأمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: ((الْفُلْكُ)) أي: السفن في البحر بأمر الله، وقوله: ((وَلِتَبْتَغُوا)) أي: لتطلبوا من فضل الله سبحانه.
فقوله: ((مِنْ فَضْلِهِ)) أي: بالأخذ من هذا الماء، وبالتجارة في البلاد، وبالغوص وإخراج اللؤلؤ والمرجان والمعادن داخل البحار والبترول وغيرها، وفضل الله عظيم سبحانه.
قال تعالى: ((وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) أي: حين تجدون نعم الله ورزقه سبحانه، فيمكن أن تشكروا الله وتتفكروا في آياته وترجعوا إليه فتعبدوه سبحانه.(470/6)
تفسير قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)
قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: منه سبحانه وتعالى ليس منكم أنتم، فلستم أنتم الذين أنزلتم المطر من السماء، ولا أنتم الذين أرسلتم الرياح يسخر بها السحاب، ولا أنتم الذين زرعتم هذه الأشجار فخرجت منها الثمار، إنما الصانع الله سبحانه وتعالى.
هذا خلق الله سبحانه وآيات من آياته في البر، وآيات في البحر، وآيات في السماء، وآيات في الأرض، فالله سبحانه سخر وذلل ويسر لكم ما في السموات وما في الأرض.
وسخر الله نجوماً في السماء وسخر الشمس والقمر لتعرفوا بها الليل من النهار، وتأخذوا الدفء في النهار، وتستريحوا تناموا في ظلمة الليل، وسخر الشمس والقمر، وسخر النجوم لتهتدوا بها وجعلها زينة للسماء، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] فقوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) من أشياء ((جَمِيعًا)) أي: كلها نعم من الله سبحانه.
وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
الذي يتفكر في هذه الآيات يعلم أنها من الله عز وجل، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ولا يكفر، أن يشكر ولا يجحد سبحانه وتعالى، وأن يذكر ولا ينسى.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه يغفر لكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(470/7)
تفسير سورة الجاثية الآية [14]
مؤامرة أهل الكفر والإلحاد على المسلمين مستمرة حتى قيام الساعة، والمسلمون إن تمسكوا بدينهم وطبقوا شرع الله في خلقه عزوا وسادوا، وإن خالفوا دينهم ورجعوا إلى حكم الديمقراطية وغيرها من القوانين الوضعية، أذلهم الله، وسلط عليهم من يستبيح بيضتهم ويذيقهم أنواع النكال، حتى يرجعوا إلى دينهم.(471/1)
تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:14 - 17].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة في هذه السورة شيئاً من قدرته سبحانه وبديع خلقه، في السموات وفي الأرض وفي الرياح وفي الرزق الذي يعطيه العباد، وفي أنفسهم وفي البر وفي البحر، وغير ذلك من الآيات في السموات وفي الأرض، أخبر أنه سخر ذلك كله جميعاً منه سبحانه وتعالى، وذلك فيه آيات لقوم يتفكرون في هذه المخلوقات فيعرفون قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
ذكر الله ذلك ليبين قدرته أنه على كل شيء قدير، ومع قدرته العظيمة جعل عباده منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومع قدرته على الجميع سبحانه ابتلى هؤلاء بهؤلاء، ابتلى المؤمنين بالكفار، وأمر المؤمنين أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، والكافرون يعرضون ويجحدون ويكذبون، بل ويتسافهون بالقول على المؤمنين.(471/2)
سبب نزول قول الله تعالى (قل للذين آمنوا يغفروا الآية)
وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، قيل: إلا هذه الآية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14].
قيل في سبب نزولها: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه في المدينة، وقيل: بل في مكة، حيث إن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً من قريش يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن يبطش به رضي الله عنه، فنزل قول الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)).
وقيل: بل في المدينة في غزوة بني المصطلق، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكان، وعبد الله بن أبي بن سلول المنافق كان في المكان نفسه وأرسل غلاماً له يستقي له من الماء، فلما وصل إلى مكان الماء تأخر على سيده عبد الله بن أبي بن سلول، فسأله عبد الله بن أبي عن سبب تأخره، فقال: كان هناك على الماء غلام عمر رضي الله عنه أبى أن نسقي حتى يملأ للنبي صلى الله عليه وسلم ويملأ لـ عمر رضي الله عنه، فتغيظ هذا الرجل المنافق وقال: ما هذا إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، يشتم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني: جاءوا لنا فقراء من مكة لا يجدون شيئاً، والآن في المدينة يسابقوننا ويسقون قبلنا ويأخذون أشياءنا! فلما قال ذلك ووصل الخبر إلى عمر رضي الله عنه أراد أن يقتل عبد الله بن أبي بن سلول؛ لكونه يشتم النبي صلوات الله وسلامه عليه وكاد يفعل، فأنزل الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) وعلى كونها مكية قيل: هي منسوخة، وعلى كونها مدنية قيل: أيضاً إنها منسوخة، نسختها آية السيف، وذلك حين أمر الله عز وجل بالجهاد، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] فأمر الله المؤمنين بجهاد الكافرين، فقالوا: هذه الآية نسخت كل ما كان فيه من موادعة مع الكفار ومن متاركة وتفويت لهم، فقوله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)) يعني: يتركونهم كأنهم لم يسمعوا ما قالوه، وقيل: بل إذا كان يرجى من هؤلاء الإسلام فيتجاوز عنهم ليدعوا إلى الله عز وجل، وهذا المعنى صحيح، ولا ينافيه أن يكون الأمر بعموم ما نزل بعد ذلك، وهو أمر الله عز وجل المبين بأن يقاتلوا المشركين وأن يجاهدوهم في كل مكان.
فقال الله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)) فالإنسان إذا دعا إنساناً قد يكون هذا المدعو يجادل بحق ويجادل بباطل، ولكن يرجى منه خير، فيجادل ويفوت عليه شيء، ويتنزل معه في مقام المناظرة.
كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان يدعو عباد الكواكب إلى الله سبحانه وتعالى وقال: هذا ربي، ومستحيل أن إبراهيم يشرك بالله ويقول: الكوكب ربي، ولكن مقام المناظرة مع هؤلاء يجعله يقول لهم: هذا ربي بزعمكم أنتم؛ لأنكم تعبدون الكواكب، قال تعالى: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] أي: لا يصلح أن يكون رباً.
إذاً: هذا المقام مقام مناظرة وليس مقام نظر، فمقام النظر: هو أن الإنسان يتحير ويفكر هل هذا هو الرب أم لا؟ فهو متشكك، هذا مقام النظر، ومستحيل أن يكون إبراهيم في هذا المجال أو هذا المقام، إنما المقام مقام مناظرة، وإبراهيم مستيقن ما يقول، ولكن يجادل الخصم ويقول له: فرضنا جدلاً أن الذي تقوله أنت صحيح، فإبراهيم يقول: هذا ربي بزعمهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:76 - 77].
فلما غاب القمر وظهرت لهم الشمس {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] هذا أكبر شيء تزعمون أنه رب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] أي: الذي تقولونه هذا كله هجس، وكله عبادة فارغة وليست عبادة حقيقية، وأنا بريء من هذا الشرك الذي أنتم تشركونه، فظهرت حقيقة مناظرة إبراهيم لهؤلاء، أنه ما كان يناظر ليصل هو إلى شيء، ولكن يريد أن يوصلهم إلى ما هو فيه من عبادة الله عز وجل.
فإذا كان هناك مؤمن يدعو إلى الله ويدعو إنساناً كافراً لا يتوقع أنه مجرد ما يقول له: قل: لا إله إلا الله، سيقول: لا إله إلا الله، ويدخل في الدين؛ لأن الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فقيل للمؤمنين: اصبروا على هؤلاء واتركوهم، واسمعوا منهم وادعوهم إلى الله عز وجل، بل وقال للمؤمنين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] إذاً: المؤمن يتأدب في دعوته، فإذا جادل ودعا إلى الله لا يصل الأمر إلى أن يشتم آلهة هؤلاء، فقد يشتمونه ويشتمون دينه، إذاً: تأدب أنت حتى يعاملك هو أيضاً بهذه الصورة، فإذا كنت ترجو من إنسان خيراً لتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى فاصبر في وقت الدعوة إليه.(471/3)
ذكر ما جاء من دعوة إبراهيم لقومه إلى ترك عبادة الكواكب
كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان يدعو عباد الكواكب إلى الله سبحانه وتعالى وقال: هذا ربي، ومستحيل أن إبراهيم يشرك بالله ويقول: الكوكب ربي، ولكن مقام المناظرة مع هؤلاء يجعله يقول لهم: هذا ربي بزعمكم أنتم؛ لأنكم تعبدون الكواكب، قال تعالى: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] أي: لا يصلح يكون رباً.
إذاً: هنا المقام كما يقولون مقام مناظرة وليس مقام نظر، فمقام النظر: هو أن الإنسان يتحير ويفكر هل هذا هو الرب أم لا؟ فهو متشكك، هذا مقام النظر، ومستحيل أن يكون إبراهيم في هذا المجال أو هذا المقام، إنما المقام مقام مناظرة، وإبراهيم مستيقن ما يقول، ولكن يجادل الخصم ويقول له: فرضنا جدلاً الذي تقوله أنت صحيح، فإبراهيم يقول: هذا ربي بزعمهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:76 - 77].
فلما غاب القمر وظهرت لهم الشمس {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] هذا أكبر شيء تزعمون أنه رب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] أي: الذي تقولونه هذا كله هجس، وكله عبادة فارغة وليست عبادة حقيقية، وأنا بريء من هذا الشرك الذي أنتم تشركونه، فظهرت حقيقة مناظرة إبراهيم لهؤلاء، أنه ما كان يناظر ليصل هو إلى شيء ولكن يريد أن يوصلهم إلى ما هو فيه من عبادة الله عز وجل.
فهذه المناظرة كما ذكرنا، فإذا كان إنسان مؤمن يدعو إلى الله ويدعو إنساناً كافراً لا يتوقع أنه مجرد ما يقول له: قل: لا إله إلا الله سيقول: له لا إله إلا الله ويدخل في الدين؛ لأن الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فقيل: للمؤمنين اصبروا على هؤلاء واتركوهم، واسمعوا منهم وادعوهم إلى الله عز وجل، بل وقال للمؤمنين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] إذاً: هنا المؤمن يتأدب في دعوته، فإذا جادل ودعا إلى الله لا يصل الأمر إلى أن يشتم آلهة هؤلاء، فقد يشتمونه ويشتمون دينه، إذاً: هنا تأدب أنت حتى يعاملك هو أيضاً بهذه الصورة.
فإذا كنت ترجو من إنسان خيراً لتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى فاصبر في وقت الدعوة إليه.(471/4)
حكم من يسب النبي صلى الله عليه وسلم
إذا كان الكافر لا يرجى منه خير، وبدأ بالسفاهة والشتم والبذاءة فحكمه حكم المرأة الكافرة، تزوجها رجل أعمى ضرير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الفأس وضربها في بطنها فقتلها وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها، فهذه لا قيمة لها؛ لأنها تسب النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه بغير حق، ولم يفعل بها شيئاً صلوات الله وسلامه عليه حتى تشتمه، فقتلها زوجها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها.
إذاً: الإنسان الذي يتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مسلماً فقد ارتد بذلك ويستحق أن يقتل، فإذا كان كافراً حربياً فحكمه الشرعي أنه يستحق القتل بما فعل مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، هذا حكم من يسب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمر الله عز وجل بجهاد المشركين جهاد ابتداء بدعوتهم إلى الله عز وجل، فإذا قاتلوكم فقاتلوا هؤلاء في سبيل الله سبحانه وجهاداً في سبيله، ولا نحكم عليهم بقول الله تعالى: ((يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ))؛ لأنهم يتطاولون على الله سبحانه، ويتطاولون على دين الإسلام، ويتطاولون على النبي صلى الله عليه وسلم، فهل من اللائق أن نعاملهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أي: حكمة هذه وهم يسبون الله ويسبون رسول الله بدعوى الحرية والكذب الذي يقولونه، فهؤلاء لا يستحقون إلا السيف، ولو كان في المسلمين أمة تعرف ربها سبحانه وتجاهد في سبيل الله عز وجل، لما سكتوا لأحد أبداً يسب الله أو يسب دين الإسلام أو يسب النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولخاف العالم كله من المسلمين حين يقومون وحين يثأرون لله عز وجل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس من اللائق أن يقال من باب الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا تشتمون النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا رجل ميت! فإن هذا لا يقال في سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، بل هو إجرام في الكلام على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلا يقال عنه صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه إذا كان الشهداء أحياء عند ربهم، فكيف بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه النبي عليه الصلاة والسلام؟ فهو سيد خلق الله عز وجل، وسيد الأنبياء، قال: (أنا سيد ولد آدم) صلوات الله وسلامه عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه) وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأرض تأكل أجساد الخلق، فقالوا: كيف وقد أرمت؟ يعني: أنت مت كيف سترد السلام؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
إذاً: جسده في الأرض باق صلوات الله وسلامه عليه، وروحه يردها الله عز وجل إليه في الحياة البرزخية بما يشاء سبحانه وتعالى وكيف شاء، ليس على هيئة ما يكون في الدنيا، ولكن على شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى، ويبلغه السلام لمن يسلم عليه وممن يصلي عليه، وخاصة في يوم الجمعة، إذ يبلغه صلاة الناس وتسليمهم عليه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا النبي صلى الله عليه وسلم هل يدافع عنه بهذا الكلام الفارغ فيقال: هذا رجل ميت؟ ويقول: (اذكروا محاسن موتاكم) ألا لعنة الله على الكاذبين وعلى المجرمين الذين يدافعون عن أولياء القبور وعن الأضرحة دفاعاً كبيراً، وإذا تكلموا عن النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا بكلام خائب لا معنى له، ثم يرجعون ويعتذرون ويقولون: لم نقل هذا الشيء كعادتهم، يقولون كلاماً سيئاً في دين الله عز وجل وبعد ذلك يتنصلون ويقولون: لم نقل شيئاً من ذلك؛ خوفاً من أن ينتشر عنهم، وتقوم قائمة الناس عليهم بسبب هذا الكلام السيء الذي يقال.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وقد جعل الله عز وجل دينه الدين الخاتم، وأمره أن يدعو الخلق بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا استجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم فبها ونعمت، وإذا لم يستجيبوا ولم يقاتلوا تركهم صلوات الله وسلامه عليه ودفعوا الجزية وسكت عن ذلك، أما إذا حاربوه صلوات الله وسلامه عليه فلابد من مقاتلتهم كما أمر الله سبحانه وتعالى.(471/5)
مؤامرة الكفرة على المسلمين في نشر الديمقراطية
اليوم أصحاب الحريات وأصحاب الديمقراطيات يريدون أن ينشروا دينهم (الديمقراطية) التي يدعون إليها بالسيف، وبالسلاح، وبالدبابات والطائرات، وحجتهم أن الإسلام انتشر بالسيف، فيريدون نشر الديمقراطية في العراق بالسفن والطائرات والصواريخ والقنابل الذرية، فيرتكبون الجرائم في أفغانستان والعراق وفي بلاد المسلمين، ثم يحتجون بأن الإسلام، أن فيه جهاد.
فأهل الإسلام لم يعرفوا دينهم الحق؛ لأنهم لو عرفوا الحق لما قالوا: لا جهاد في الإسلام، والجهاد يكون فقط عندما يداهمنا العدو فنجاهده جهاد دفع فقط وليس جهاد ابتداء، ونحن لا ننشر ديننا بالسيف، وبالتالي يقومون بتعبئة الأفكار تعبئة خاطئة حتى كادوا يلغون آيات الجهاد في كتاب الله، وهذا الذي طلبه المجرمون الأمريكان من المسلمين العرب، طلبوا منهم أن يلغوا من المصاحف آيات الجهاد، وأن يدرسوا الطلاب في المدارس الأخلاق! حتى في الأزهر يكادون يفعلون ذلك، فقد صاروا أذناباً وأذيالاً للمنافقين، يدافعون عن أنفسهم بغير دين الله عز وجل، ويطلبون من الكفرة أن يدافعوا عنهم وأن يحموهم، فلذلك تجردوا من دينهم فإذا بهؤلاء يسبونهم ويسخرون منهم، فلا أحد من هؤلاء الكفار يجرؤ أن يشتم اليهود أو يشتم السامية أو يتكلم عن المذابح التي عملها هتلر فيهم، ولو أن أحداً تجرأ أن يقول ذلك لثارت وقامت عليه الدنيا، ولعله يسجن في بلاد الكفار؛ لأنه شتم اليهود، ويضيقون عليهم في أرزاقهم، ويفصل أساتذة من الجامعة لكونهم فقط قالوا: إن هتلر لم يقتل ستة مليون من اليهود ولا غيرهم، ولا يبلغ اليهود هذا العدد حتى يقتل منهم هذا العدد الهائل.
وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يسب لولا أن عوام المسلمين ثاروا لم يتكلم أحد، فكل مسلم ثارت فيه الحمية وثار فيه الغضب لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما استطاع المشايخ أن يتكلموا قبل ذلك، ولكن تكلم المشايخ لما وجدوا الناس ثارت في نفوسهم حمية الحق، وتكلموا وغضبوا لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من تكلم فأحسن، ومنهم من خاب وخسر وقال: قاطعوا هذه الجريدة التي أساءت لنا فقط، ولماذا لا نقاطع الدولة التي سمحت بذلك، والدول التي دافعت عن ذلك، والجرائد التي في الدول الأخرى التي فعلت هذا الشيء؟! هذا شيء عجيب جداً في الردود الخائبة الضعيفة التي يقولونها ويزعمون أنهم يدافعون عن دين الله سبحانه وتعالى.
تجارب تراها في حياتك تعلمك أنه يستحيل أن يدافع عن الإسلام إلا أهل الإسلام، المتمسكون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن تنتظر من علمانيين أو منافقين أو ديمقراطيين أو غيرهم أن يدافعوا عن هذا الدين، فهم لا يطلبون الدين أصلاً؛ لأن الدين منظر فقط أمام الناس، كوننا نحن من العرب ومن المسلمين.
وإذا جاءهم وقت من الأوقات يفتخرون فيه بالقومية العربية قالوا: نحن قوميون، نحن عرب، ويتكلمون عن الإسلام على حياء، ويجعلونه إسلاماً ديمقراطياً لكي نظهر بإسلام بثوب جديد، غير الإسلام الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم! والديمقراطية عند الغرب تعني: حكم الشعب نفسه بنفسه، إن الحكم إلا للشعب، وعندما ينزل إليهم رسول من السماء يقولون: سنحكم فيك الشعب! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] فالدولة الدينية التي يحكمها شرع الله سبحانه وتعالى، من المؤسف جداً أن نقول: سنحكم الأغلبية من الشعب ونقول: تعالوا هل تريدون إسلاماً أم لا تريدونه؟ فإذا قالوا: نريد إسلاماً، أخذنا الإسلام ليس إرضاء لله، وإنما لأن الناس يريدونه، وإذا كان هذا حال المسلمين اليوم فلا يرجى منهم أن يدافعوا عن دين الله ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(471/6)
الدعوة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
لابد من التربية على حب الله، وعلى حب كتابه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى دين الله الدعوة الحق، ليست الدعوة للديمقراطية، ولا للافتخار بما تأتي به أوروبا، وترك ما جاء به كتاب الله عز وجل وراء الظهور، بأنه رجعية وأنه أشياء قديمة لا تصلح لهذا الزمان، فالإسلام هو الدين الذي جعله الله عز وجل يبقى إلى قيام الساعة، وينزل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليحكم بهذا الدين ولا يسعه أن يحكم بغيره، وكان قبل ذلك لما أرسل إلى بني إسرائيل أراد أن يحكمهم بالتوارة، فلما رفع عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأخبرنا الله سبحانه بقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159].
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المسيح سينزل قبل قيام الساعة ويكون من علاماتها، ويؤم المسلمين رجل منهم، يكون إماماً للمسلمين حين ينزل المسيح، والمسلمون يريدون الصلاة، ويتقدم إمام المسلمين ليصلي بالناس والمسيح وراءه، ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل الجزية، ويقتل المسيح الدجال ويحكم الخلق بكتاب الله العظيم.
فالقرآن العظيم فيه نبأ من قبلكم، وحكم ما بينكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما يكون بعدكم، هذا القرآن العظيم الذي نزل من عند رب العالمين أمرنا الله بتحكيمه، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49].
فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بهواه ولا برأيه، وإنما بكتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فلابد أن يعرف المسلمون أن هذا القرآن العظيم نزل من السماء ليحفظ في الصدور، وليعمل به، وليحكم به بين الناس، فيستيقظون بذلك ويحكمون شرع الله، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، ولخاف الخلق كلهم من المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فمن جنود الله عز وجل الرعب يلقيه الله في قلوب الأعداء.
فلو أن المسلمين تمسكوا بكتاب الله عز وجل لألقى الله عز وجل الرعب في قلوب أعدائهم، ولكن لما تركوا دينهم وراءهم، بل بدءوا هم بالسخرية من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وتركوا القرآن وراءهم وقالوا: رجعية، وقالوا: نريد أن نأخذ بالأشياء الحديثة الآن، ولا يوجد شيء في كتاب الله يأمر المرأة بالحجاب، ولا يوجد شيء في كتاب الله يأمر المرأة بالنقاب، فبدءوا يلغون دين الله؛ استحقوا تسلط الكفار عليهم، وتركهم الله عز وجل، وبلغ الأمر إلى أن يسخر منهم الكفار، ويصورون رسولهم صلوات الله وسلامه عليه بصور بذيئة، والمسلمون أقصى ما يملكون أن يسكتوا ولا يقدرون على شيء، وينظرون إلى أسلحة الكفار فيخافون منهم، يقولون: سنقاطع تجارة الكفار، ويقولون لهم: سنسلط عليكم مركز التجارة العالمي، وسنسلط عليكم كذا وكذا، فيخافون من هؤلاء، ومنهم من يقول: نشجب ونقاطع هذه الجريدة التي فعلت هذا الشيء، نقول: والدولة التي وراء هذه الجريدة أيضاً، والكفار الذين يدافعون عن ذلك، لكن تراهم يخافون من هؤلاء.
نسأل الله عز وجل أن يثبت الإسلام في قلوب المسلمين، وأن يعيد المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن يلعن الكفرة والمجرمين، ويسلط عليهم من ينتقم منهم ويثأر لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(471/7)
تفسير سورة الجاثية [14 - 17]
أمر الله تعالى المؤمنين بالعفو والإعراض عن الكافرين، وذلك في وقت استضعاف المؤمنين، فالله سيجازي الكافرين بما كانوا يكسبون، ومن أشد الناس كفراً اليهود الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وأعرضوا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة، واتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله.(472/1)
تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجعون أيام الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:14 - 17].
في هذه الآيات يأمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمؤمنين الذين يدعون إلى الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) والمعنى: أن يتحملوا الأذى في سبيل الله عز وجل، فالداعي إلى الله لا بد أن يمتحن ويبتلى، فأمرهم الله أن يصبروا حين يبلغون دين الله عز وجل ورسالته، وأن يتحملوا الأذى في سبيل ذلك، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة الأذى الشديد، حتى أذن الله عز وجل له بأن يهاجر إلى المدينة.
وفي المدينة كذلك تحمل أذىً شديداً من الكفار حتى أسلم الكثيرون منهم، وتحمل الأذى الشديد من المنافقين ومن أنصارهم من اليهود، فكان يصبر صلوات الله وسلامه عليه حتى أمره الله عز وجل بأن يجاهد في سبيله سبحانه، فجاهد صلوات الله وسلامه عليه، فنصر الله عز وجل دينه بجهاد نبيه وجهاد المؤمنين.
فالداعي حين يدعو إلى الله عز وجل عليه أن يتسم بالحلم وبالصبر، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فإذا استجاب المدعو فلله الحمد، وإذا لم يستجب فإما أن هذا المدعو يرجى من ورائه الخير، أو لا يرجى من ورائه الخير، بل يتسبب في أذى، فالأول يصبر عليه لعله يدخل في دين الله عز وجل، والثاني الذي يؤذي الإسلام والمسلمين، ويتعرض لدين الله عز وجل بالمنع والأذى؛ فهذا يجاهد بالسيف والسنان وبالقوة واللسان، بحسب ما يقدر عليه.
فالمؤمن الذي يدعو إلى الله عز وجل ينبغي عليه ألا يؤاخذ الكافرين أو المدعوين على كل خطأ يصدر منهم، وإنما عليه أن يتغافل عنهم لعلهم يستجيبون إلى دين الله عز وجل، ويدخلون فيه.
ولو أن كل إنسان حوسب على كل ما يقوله لأخذ الله عز وجل الناس جميعاً بذنوبهم، ولكن الله عز وجل يعفو عن كثير {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
فهذه معاملة الله عز وجل للعباد، وكم من كفار كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين سواء في مكة أو في المدينة، ثم من الله عز وجل عليهم بعد ذلك فأسلموا لله رب العالمين سبحانه وحسن إسلامهم.
فالغرض: أن الذي يدعو إلى الله عليه أن يتحمل في سبيل الدعوة إلا أن تنتهك حرمات الله فلا صبر ولا حلم ولا انتظار، فالله قد شرع دفع المضرة من الكفار بالجهاد في سبيله سبحانه، فيكون الصبر على الشيء الذي مثله يصبر عليه، أما إذا كان شيئاً قد أوجب الدين الجهاد في سبيل الله بسببه، فإنه يجب على المسلمين أن يجاهدوا كما أمرهم الله سبحانه، وقد أمرهم أن يعدوا، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
إن أعداء المسلمين كثيرون، وقد يكونون معروفين وقد لا يكونون كذلك، والمعروفون قد يكونون أصدقاءً للمسلمين، أو معهم في ديارهم، ويظهرون لهم المحبة، ولكن الله أعلم بما في قلوبهم، وأنها ليست مع المسلمين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر، ولذلك حذر الله عز وجل نبيه وحذر المؤمنين من المنافقين، الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر، وذكر أوصافهم في سورة براءة، وفي سورة المنافقين، وفي سورة البقرة.
وقول الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) فيه أن هذا الكافر لا يرجو حساباً، ولا بعثاً، فإذا دعي أن يدخل في الدين يقول: لا، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] هي الدنيا ولا حياة أخرى، فيجادل بالباطل، فالله يدعو الدعاة إلى الصبر إزاء هؤلاء وإلى الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة.
وليس ذلك لمن ينكر أشياء من الدين، أو يتعرض لسب الدين، إنما الجدال للكفار الذي يقول مثلاً: إن الآلهة متعددة وليس هناك إله واحد، كقول الكفار من قبل: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
فيجادل بالتي هي أحسن كما جادل إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وكما جادل النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: ((يَغْفِرُوا)) أي: يتجاوزوا عن هذا الذي يقوله الكفار، ويستمرون في دعوتهم، لعل هؤلاء يستجيبون إلى الله عز وجل.
وقوله: ((لِيَجْزِيَ قَوْمًا)) كأن اللام للعاقبة والمعنى لأجل أن يجزي الله قوماً بما كانوا يكسبون.
وقوله: ((لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) هذه قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وعاصم، وقرأ أبو جعفر: (ليُجزَى قوماً بما كانوا يكسبون) والتقدير: ليُجزَى الخير قوماً، أو ليجزي الله عز وجل بالخير قوماً وبالشر قوماً، وكأنها بمعنى يعطي على قراءة أبي جعفر، فتنصب مفعولين والتقدير: ليجزي الله الخير قوماً، أو: ليجزي الله الشر قوماً.
وباقي القراء منهم حمزة والكسائي وخلف وابن عامر يقرءونها: (لنجزي قوماً بما كانوا يكسبون) والنون نون العظمة فالله عز وجل يقول: نحن نجزي هؤلاء القوم بما اكتسبوا في الدنيا من حسنات ومن سيئات.
وتنكير (قوماً) للتعظيم هذا إذا كان القوم من المؤمنين، أما إذا كانوا من الكافرين فيكون التنكير تحقيراً لهم، وهذا من أهداف التنكير فقد يكون للتعظيم، وقد يكون للتحقير، فهنا الله عز وجل يقول: ليجزي قوماً، فإذا كانوا مؤمنين فهم أعظم وأفضل الأقوام، فنكر قوماً لتعظيمهم، وإن كانوا من الكافرين فهم أحقر الأقوام، وأي قوم هم في البعد عن الله عز وجل فالله يجزيهم بما كانوا يكسبون من سيئات، فكأن قوماً هنا عائدة على المؤمنين وعلى الكافرين، كل بما كسب.(472/2)
تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها)
يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15] الله عز وجل خلق السماوات والأرض حقاً، خلقهن بالحق، خلقهن ليحق الحق، فهو الحق سبحانه، وقوله الحق، ووعده حق، ولقاؤه حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق.
فلم يخلق الله سبحانه وتعالى هذا كله عبثاً، وإنما خلقه ليحق الحق، فالسماوات قد أقامها الله عز وجل بميزان العدل وبميزان القسط، والأرض كذلك أقامها الله عز وجل بميزان الحق والقسط.
فيخبرنا سبحانه أنه لا بد من الرجوع إلى الله عز وجل حتى يحق الحق، فكم من إنسان كان في الدنيا من أهل الباطل هل يعقل أن يعيش في الباطل ويموت على الباطل وينتهي الأمر على ذلك؟ فلماذا خلق هذا الإنسان إن الله عز وجل خلقه لحكمة وهي أن يعبد ربه سبحانه، فإن لم يعبده استحق الجزاء من الله سبحانه وتعالى.
فمن عمل صالحاً فعمله لنفسه {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فلا يعمل الإنسان عملاً صالحاً ويكون الثواب لغيره، بل هو الذي يؤجر عند الله.
((وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)) إذا جر على نفسه الوبال بالإساءة، وجر على نفسه عذاب الله سبحانه وتعالى فسوف يجزى بإساءتهٍ، والمرجع إلى الله عز وجل ليجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.
((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)) أي: له ثواب عمله ((وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)) أي: أن نقمة الله وعذابه وعقابه على هذا العبد بسبب سيئاته.
((ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) أي: أن المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.(472/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة)
قال الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] كثيراً ما يذكر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ببني إسرائيل، وهم القوم الذين أوتوا كتاب التوراة من قبلنا وهو كتاب شريعة كما أوتينا هذا القرآن العظيم.
فالله عز وجل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا ببني إسرائيل، وإسرائيل لقب ليعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والمعنى واذكر أبناء يعقوب الذين آتيناهم الكتاب الحكم النبوة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] هذه نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، فقد آتاهم الله كل هذه النعم، فاجتباهم وجعل منهم أنبياء وفضلهم على الخلق سبحانه، كما قال: ((وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))، ولكن مع ذلك استوجب أكثرهم نقمة الله وعذابه؛ لأن الإنسان الذي يسيء لا ينفعه أن الله قد أنعم عليه وأعطاه في الدنيا ما أعطاه، بل لا بد أن يجازيه على إساءته.
ولذلك يخبر الله عز وجل عن النعم التي أنعم بها عليهم، وكأنه يقول: قيسوا أنفسكم عليهم فقد آتاكم الله عز وجل نعماً كثيرة، فإذا ظننتم أن هذه النعم لفضلكم، وأنكم أهل الخير الذين تستحقون الجنة ولو بغير عمل فهذا هو الغرور، الذي تستحقون به العقوبة كما استحقها بنو إسرائيل، وإذا أخذتم ما آتاكم الله عز وجل بقوة كما أخذ الصالحون من قبلكم فسوف تستحقون ثواب الله عز وجل وجنته.
فالله عز وجل آتى بني إسرائيل الكتاب الذي هو التوراة، والحكم بها، وقد يكون الحكم بمعنى الفصل ومعرفة القضاء بين الخلق، وقد يكون بمعنى الفقه في الدين، وقد يكون بمعنى الحكمة، وهذه هبة من الله عز وجل، فأعطى من يشاء منهم ذلك.
وقوله تعالى: ((وَالنُّبُوَّةَ)) أي: جعلنا فيهم أنبياء، وبهذه الصفة فضل الله عز جل بني إسرائيل على العالمين لا لكونهم أهلاً لذلك، بل إن تفضيلهم هو أنه جعل لهم أنبياء تسوسهم، وتدعوهم إلى الهداية، وفي الآية إشارة إلى خبثهم؛ لأنهم كذبوا الأنبياء فكان يرسل إليهم نبي بين الفينة والأخرى.
فالله عز وجل من عليهم برئيس يحكمهم الحكم المدني، ونبي يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالرئيس تكون له الجيوش والحكم بين الناس، والنبي يقوم بالتوجيه والإرشاد، كان ذلك من الله عز وجل رعاية لهم؛ لأنه يعلم ما في نفوسهم من الخبث، والشر والارتداد عن الدين، فلم يعرفوا الله سبحانه، وقد دعاهم موسى إلى ربهم، وعرفهم به وبين لهم الطريق المستقيم، وبعد أن أنعم عليهم وأنجاهم من فرعون وخرجوا من البحر وجدوا قوماً يعبدون أصناماً فقالوا لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:138 - 139] فالله عز وجل أنجاهم من الإهلاك ومن فرعون وقومه، وهم يريدون أن يهلكوا كما أهلك الله عز وجل هؤلاء، فأبوا إلا أن يعبدوا العجل من دون الله، فإذا بالله ينتصر لنفسه وينتقم منهم، ويأمر موسى أن يأمرهم بأن يقوم بعضهم بقتل البعض الآخر بالسيوف، فقتل في غداة واحدة سبعون ألفاً من هؤلاء المجرمين الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى.
فكان الانتقام حالاً، وهؤلاء لا يصلح معهم إلا ذلك، ويوم القيامة سوف يحاسبهم الله على ما قدموا، وسوف ينظروا بأعينهم العذاب، وكأن الله عز وجل يشير للمؤمنين بأن هؤلاء اليهود لا يصلح معهم إلا السيف، فلا تنفع معهم المعاهدات حتى يسمعوا كلام الله ويطيعوه.
فلما عبدوا العجل من دون الله أخبرهم الله سبحانه بأنهم إذا أرادوا أن يتوبوا فعليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فقال الله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] أي: هو هذا الأخير لكم والأفضل، فقام بعضهم إلى بعض، وألقى الله عليهم ظلمة، وكل منهم يضرب الآخر بالسيف ولا يدري من يضرب، حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فجأر موسى إلى ربه: يا رب أهلكت عبادك، فإذا بالله يعفو عنهم بعد هذه المقتلة.
فبنو إسرائيل لا يصلح معهم الكلام، وإلا لنفع كلام موسى معهم عليه الصلاة والسلام، ولما قال لهم: ادخلوا الباب سجداً امتنعوا عن ذلك، فقيل لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة، فقالوا: لا نريد ذلك، ولما رفع فوقهم الجبل بادروا إلى التوبة، ثم لما كشفه عنهم عادوا إلى ظلمهم! فأخبر الله سبحانه أنه فضلهم على العالمين، وأرسل إليهم الأنبياء فكان جوابهم أن كفروا بالله سبحانه، وكذبوا أنبياءهم.
وهذا تفضيل من الله عز وجل ورعاية لشأن هؤلاء لعلهم يتوبون، فلم يستجب منهم ويتبع الأنبياء إلا القليل.
فذكر الله المؤمنين بحالهم وقال: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)) أي: جعلنا فيهم أنبياء، ((وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) أي: أعطيناهم من كل الطيبات، وأنزلنا عليهم المن والسلوى، وفتحنا لهم من بركات من السماء، وجعلناهم يذهبون إلى ديار الشام أرض البركة، فجعلنا لهم فيها معايش، وجعلنا لهم فيها ملكاً وفضلاً عظيماً.
قال تعالى: ((وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)) إما على عالمي زمانهم، أو على العالمين بأن جعل فيهم أنبياء كثيرين، فالأمة الوحيدة التي فيها أنبياء كثيرون هم بنو إسرائيل، وهذا تفضيل من الله عز وجل حتى يظلوا على الطريق المستقيم وهو فضل يستحق بسببه أن يشكر سبحانه، كيف وباقي النعم منه سبحانه وتعالى عليهم، فما استوجبوا إلا مقت الله بسبب ارتدادهم وبعدهم عن الدين!(472/4)
تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر)
قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]، الإنسان كما قال الله عز وجل عنه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] فالإنسان جحود، يبتعد عن ربه سبحانه، والله يمن عليه بالنعم وهو يستجلب لنفسه النقم، فبنو إسرائيل آتاهم الله الكتاب حتى يهتدوا، ويعرفوا أحكام الله عز جل، وآتاهم الحكم، وجعل فيهم من يحكمهم بهذا الكتاب ويبين لهم الحق، وآتاهم النبوة، وجعل فيهم أنبياء، ورزقهم من فضله وفضلهم على العالمين، وآتاهم الحجج والمعجزات والآيات على يد موسى عليه الصلاة والسلام والأنبياء من بني إسرائيل.
فآتاهم بينات من الأمر، لعلهم يتمسكون بالدين ويستجيبون للرسل، فلما أعطاهم كل ذلك قال الله تعالى: ((فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) أي: أن الله فضلهم مع أنهم لا يستحقون هذا التفضيل، ولذلك ليس كل من يؤتى نعمة من الله عز وجل يستحقها، فلا ينبغي أن تحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من فضله، فقد يؤتي الله عز وجل الغنى أقواماً وهم لا يستحقون إلا النار، فليس كل من يؤتى نعمة من الله عز وجل يستحق جنة الله، فاليهود أعطاهم الله كل هذه النعم وكل هذا التفضيل وفي النهاية يستحقون نار جهنم.
يقول الله تعالى: ((فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) فجاءهم العلم وعرفوا الحق، ومع ذلك جحدوا، واختلفوا فيما جاءهم من العلم، وأنكروا ما هو معلوم من دين الله عز وجل، ففضلوا الطمع في الدنيا على الزهد فيها وطلب الآخرة، بعد أن عرفوا التوراة، وعرفوا نبيهم، وحسد بعضهم البعض الآخر على ما آتاهم الله مما في التوراة من العلم.
وكان من أعظم الحاسدين فيهم قارون، قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] فكان ابن عم لموسى عليه الصلاة والسلام، فحسد موسى أن آتاه الله عز وجل التوراة، وقد آتاه الله مالاً ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فـ قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، فتكبر على موسى وعلى قومه ومشى مع فرعون وجنوده، وترك قومه؛ تكبراً وحسداً أن آتاه الله المال ولم يعطه التوراة، فاستحق أن يخسف الله عز وجل به الأرض.
فبنو إسرائيل لم يكفروا بالله إلا وهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، ويعرفون نعم الله عز وجل، ويعرفون قدرة الله، ومع ذلك كفروا واختلفوا؛ بسبب حسد بعضهم بعضاً على الدنيا.
قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]، فليس كل من أوتي علماً يكون قلبه تقياً، فالقلوب لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والعلم الذي يظهر من إنسان ليس دليلاً على ما في قلبه، فبنو إسرائيل آتاهم الله عز جل علماً وفضلهم على العالمين، فإذا بهذا العلم ينقلب في قلوبهم حسداً وبغضاً لبعضهم بعضاً حتى أهلكهم الله عز وجل ولعنهم، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(472/5)
تفسير سورة الجاثية [17 - 20]
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بنعم عظيمة، أجلها وأعظمها: أن هدانا لهذا الدين القويم، فليتمسك به المسلم وليعض عليه بنواجذه، وليحذر من التفريط فيه طرفة عين، ولا يلقي بالاً لخزعبلات الذين لا يعلمون، وإن أبى فإنهم لن يدفعوا عنه مثقال ذرة من سخط الله إن حق عليه، فلابد من التمسك بحبل الله المتين، وولاية عباد الله الصالحين، ومعاداة وبغض القوم الظالمين من الكافرين والمنافقين.(473/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:18 - 20].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، وأنه رزقهم من الطيبات، وامتن عليهم بأن فضلهم على العالمين، وآتاهم بينات من الأمر، وعرفوا الحق من الله عز وجل، فاختلفوا فيما بينهم، وحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله عز وجل من نعم، قال: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] أي: أنهم اختلفوا وهم على علم، وهم يعرفون الكتاب الذي أنزل عليهم، ويعرفون الحق الذي أراده الله سبحانه، فاختلافهم كان بعد أن عرفوا ذلك وعلموه من نبيهم عليه الصلاة والسلام، فأخبر سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17] أي: وإن تركهم في الدنيا فهو يملي لهم سبحانه، وكيده متين، ثم يوم القيامة يحاسبهم ويعذبهم على ما صنعوا، وقد استحقوا أن يلعنهم الأنبياء من بني إسرائيل على تكذيبهم وعلى إعراضهم وبغيهم وحسدهم بعضهم بعضاً، فالله سبحانه وتعالى حين يذكر هذا عن بني إسرائيل فكأنه يحذر أمة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء، فقد جاءنا من الله عز وجل نور وكتاب مبين، جاءتنا شريعة كاملة من رب العالمين، فيحذرنا الله عز وجل من أن نختلف كما اختلف بنو إسرائيل فيكون مصيرنا كمصيرهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا))، والشريعة: هي الملة، أي: جعلناك على ملة، جعلناك على طريقة مرضية، يرضى الله عز وجل عنها، فقد رضي لكم الإسلام العظيم ديناً، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فالإسلام هو شريعة رب العالمين سبحانه، فهو منهج وملة وطريق ومذهب يذهبون إليه، وتشرعون فيه، فهو الشريعة العظمى، والشريعة بمعنى المقصد، تطلق على مورد الماء الذي يرده الجميع، والشارع: الطريق الأعظم الذي يسير فيه الجميع، فهذه شريعة رب العالمين، وهي طريق الله الأعظم، وملة رب العالمين، ودين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ)) أي: شريعة من أمر الله، فنحن الذين أمرنا بها، ونحن الذين هديناكم إليها ووجهناكم لها، فالشريعة من أمر الله سبحانه ليست من أمر غيره.
((فَاتَّبِعْهَا)) يقال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد اتبع هذه الشريعة، وقد بلغها صلى الله عليه وسلم، فكأنه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: افعل كذا واحذر من كذا، وهو قد فعل كذا وقد حذر من كذا، ولكن المقصود أن يقال للأمة: إذا كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخاطب بذلك فأنتم المقصودون والمعنيون بذلك، وأنتم أولى بهذا الخطاب: ((فَاتَّبِعْهَا))، فهو يتبع والأمة تتبع وتتأسى به، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، صلوات الله وسلامه عليه.
قال: ((فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) أي: لا تتبع أهواء هؤلاء الكفار الذين علموا ظواهر من الأمر ولم يستيقنوا بذلك، علموا أن هناك جنة وأن هناك ناراً، وأن الله عز وجل سيحاسبهم يوم القيامة، علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس علم يقين عندهم، فشكوا، وكان علمهم مجرد معرفة، فقد عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يتبعوه أنفة وحمية وعصبية، ورأوا أنهم أولى منه بالرسالة، فرفضوا دين رب العالمين، وشككوا حتى صار الأمر في قلوبهم الشك فيما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعلمهم بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم كلا علم.
كذلك عرفوا القرآن ولكنهم لم ينتفعوا به، إلا أنهم وجدوا له حلاوة، وعليه طلاوة، وأنه كلام جميل، أما أنهم يتبعونه فقد رفضوا ذلك، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، -إذا أراد أن يتبعوه- أن يبعد عنه الضعفاء وعن الصغار، وأن يبعد عن هؤلاء العبيد؛ لأنهم هم السادة الكبار، ولا يجلسون مع أمثال هؤلاء، وهذا هوى في قلوبهم، فالدين يذلل العباد لرب العباد سبحانه تبارك وتعالى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، اسمعوا إلى كلام ربعي بن عامر حين كلم عظيم الفرس وقال له: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، فالله عز وجل ابتعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمر المؤمنين، فخرجوا مبعوثين من قبل رب العالمين يدعون الخلق ويخرجونهم بإذنه سبحانه من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: ((فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، فقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر آلهتنا بخير ونحن نتبعك، يعني: يريدونه أن يقول: إن الأصنام هذه على خير، أي: أنها تنفع وتضر، فإذا قلت ذلك فإننا سوف نتبعك وهل ترى أن هؤلاء سيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم حقاً أم أنهم يريدون شيئاً آخر؟ هم يريدون أن يوقعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كلام يأخذونه عليه، فيقولون له: اجعل لنا يوماً ولهؤلاء يوماً، فنحن لا نجلس مع هؤلاء، فإذا فعل ذلك صلى الله عليه وسلم قالوا: انظروا إلى هذا الذي يدعو للمساواة، ويدعي أن الناس سواسية كأسنان المشط، وقد ميزنا على هؤلاء، إذاً دعوته هذه دعوة باطلة!(473/2)
تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً)
كان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر اللات والعزى بخير ونحن سوف نتبعك فيما أنت عليه، فربنا يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:18 - 19]، فهم لن يغنوا عن أنفسهم فضلاً عن أن يغنوا عن غيرهم، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19].
فالكفار -بل الخلق جميعهم- لا يغني أحد عن نفسه ولا عن غيره أمام رب العالمين، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]، فلا يقدر أحد أن يغير شيئاً مما كتب عليه عند الله سبحانه يوم يحاسب، والمنافقون يوم القيامة يحلفون لله عز وجل، ويكذبون على الله، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، فيفضحهم الله عز وجل، ويجعل أفواههم مكتومة، وتنطق عليهم جوارحهم فتكذبهم بما كانوا يقولون ويفترون.
فقوله سبحانه: ((إِنَّهُمْ)) أي: إن الكفار، وإن الناس جميعهم: ((لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))، هذا في الدنيا، أي: في الدنيا الظالمون بعضهم أولياء بعض، والظالمون يدخل تحتها كل من ظلم نفسه وظلم غيره، يدخل تحتها الكفار المشركون الذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله، يدخل تحتها اليهود والنصارى الذين قالوا على الله سبحانه قولاً عظيماً، كما قال عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، يدخل تحتها المنافقون الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكادوا للإسلام والمسلمين، وأرادوا إدخال الخلل والفساد في قلوب المسلمين.
وهنا الله عز وجل نكر (شيئاً) فقال: ((إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، والنكرة في مقام النفي تدل على أقل القليل، أي: إنهم لن يغنوا عنك من الله ولو شيئاً يسيراً.(473/3)
التحذير من ولاية الظالمين
ثم قال سبحانه: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} [الجاثية:19] أي: في الدنيا، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] يحذر الله عز وجل المؤمنين من الظلمة ومن الكفرة، وكأنه يقول لهم: إن الذي يتولى أمركم هو من كان على دينكم، وهو من يحبكم لله عز وجل، أما الذين يكرهونكم في الله، والذين يكيدون لكم، حتى وإن أظهروا أمامكم التسامح والمساواة والحرية والديمقراطية، فهؤلاء كاذبون، مجرمون، اخترعوا هذه الأشياء ليضيعوا عليكم دينكم، قال: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] أي: أن الظلمة الكفرة من اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين ينصر بعضهم بعضاً، فإن الولاية تأتي بمعنى الدفاع وبمعنى الدفع والنصر، فهؤلاء الكفار أعداء لكم، يتولى بعضهم بعضاً عليكم أنتم -أيها المسلمون- وينصر بعضهم بعضاً عليكم، يأتون ويجمعون أنفسهم ليقاتلوكم وليخرجوكم عن دينكم، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، والذي قال ذلك وشهد به ليس نحن، هذا رب العالمين سبحانه، الذي يعلم خلقه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، علم ما في القلوب، فمهما تبسم لك الكافر، فالله أعلم بما في نفسه، والأيام تظهر للمسلمين غباء ما كان في عقولهم حين صدقوا هؤلاء، وتركوا ما قاله الله سبحانه تبارك وتعالى، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وما قاله سبحانه: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)).
قد أخبر عن حقيقتهم بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، أخبر الله بذلك وإذا بالمسلمين تأخذهم أمور الدنيا ويقولون: هؤلاء متقدمون، هؤلاء يحبون الدنيا كلها، هؤلاء يعملون كذا، هؤلاء يعملون كذا، هذه العداوة وهذا التحذير في اليهود والنصارى الذين كانوا أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وربنا يحذر المؤمنين في كل زمان، احذروا من هؤلاء، فإن عدوك هو عدو دينك، فمن عادى دينك فهو يعاديك حتى وإن أظهر لك المسالمة، وإن أظهر لك أنك حبيب له، فإنه يظهر ذلك حين تكون قوياً، أما حين تكون ضعيفاً، فإنه يظهر هذه العداوة، فهم يقولون مثلاً: إن السخرية من الأديان ممنوعة، وهم ماذا يعملون اليوم؟ هؤلاء يسبون الإسلام، ويسبون المسلمين، وكل يوم يأتون بشيء جديد، فهذه الدنمارك شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجت الصور السافلة التي تدل على حقارتهم ودناءتهم، وأنهم كلاب مجرمون خنازير، ثم تبعتها فرنسا، وبعدها النمسا، ثم بعد ذلك يظهر الرؤساء من فرنسا وأمريكا ويقولون: لا، هذا الشيء عيب، ثم تأتي صحفهم وتنشر هذا الشيء، وبعد هذا يقولون للمسلمين: اتركوا الإرهاب الذي أنتم فيه، وحاولوا تتعودوا على المسامحة الدينية، أي: نحن نضربكم وأنتم تسامحوننا! نحن نقتلكم وأنتم تسامحوننا! نحن نحتل دياركم وأنتم تسامحوننا! لكن العكس لا، فهم غير ممكن أن يقبلوا من المسلمين ذلك، فمجرد أن إيران قالت: إنها ستصنع قنبلة ذرية، أو إنها ستقوم بتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، فقالوا لها: لن نسمح لكم بهذا الشيء، حتى فرنسا التي أصبحت الآن لا يؤبه بها تريد أن ترجع الآن لأيام نابليون، فتقول: عندنا الخيارات مفتوحة، ونحن سوف نتصرف معها، يعني: تريد تقول: نحن كذلك ما زلنا من أيام نابليون نحكم العالم، ولنا كلمة الآن، وممكن نتصرف مع إيران مثلما نريد، ونبعث لها الذي نريد، ولنا الخيارات التقليدية والغير تقليدية، يعني: نحن ممكن نرسل قنبلة ذرية من عندنا على إيران، لنا الخيار، من الذي أعطاهم هذا الخيار؟ إنه خيبة المسلمين، وخيبة العرب، بعدهم عن دينهم، تكذيبهم لربهم سبحانه، فربنا قال لنا: احذروا من هؤلاء، فقال بعض المسلمين: هؤلاء تغيروا، وهم لم يتغيروا، فإن في قلوبهم الغل، وفي قلوبهم البغض للإسلام والمسلمين، وفي فرنسا لما قتلوا واحداً من المسلمين هنالك، وخرج العرب بمظاهرات، قالوا: هؤلاء حثالة المجتمع، هؤلاء المشردون من المجتمع، هؤلاء المفروض أن يرجعوا لبلادهم، هؤلاء كذا، وشتموا العرب، وشتموا الإسلام والمسلمين، وظهر هؤلاء أمام العالم كله يتكلمون بأن هؤلاء مجموعة من المتظاهرين، ولم يقولوا: إنهم مسلمون، وهذه حقيقة الأمر، أنهم عرب وأنهم مسلمون، فأظهروا للعالم أن هؤلاء السفلة والأوباش، وأنهم لم يتعلموا شيئاً، وأن المفروض أن يرجعوا إلى بلادهم؛ لأنهم جهلة.
وهكذا أصبح المسلمون لا يتعلمون إلا حين تحتل ديارهم، ويظهر المنافقون فيهم ليأتي الأمريكان وغيرهم يسلطونهم على المسلمين في ديارهم، فقد سلطوا المنافقين في العراق على أهل العراق، حتى جأر أهل العراق وقالوا: سجون الأمريكان أرحم من سجون المسلمين، قالوا هذا الشيء؛ لأن هؤلاء الذين يتسلطون على المسلمين ليسوا مسلمين، الذين يقومون بسجن وتعذيب المسلمين ليسوا مسلمين، فالكافر يأتي إلى بلاد المسلمين ولا يريد أن يجلس فيها، بل يريد أن يأكل خيراتها، وأن يولي عليها منافقين يطيعونه فيما يقول، ولذلك انظروا ماذا عملوا في العراق، أول ما دخلوه استولوا على منابع البترول على الأراضي المحيطة بالفرات؛ لأن هدفهم أخذ خيرات العراق، وإقامة دولتهم الصليبية، وذلك أن الكنيست الإسرائيلي معلق فيه: دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وستظل إسرائيل تعمل إلى أن يتم ذلك، فتحتل الدول العربية، وتأخذ ما تريد منهم تحت ضغط الحرية والديمقراطية والحداثة، وكأنهم يقولون: دعوا الجهل الذي أنتم فيه إلى غاية أن نحتل بلادكم، ثم يجد المسلمون في النهاية أنفسهم لا يملكون شيئاً، فضاع منهم دينهم، وضاعت منهم ديارهم وأموالهم، وأخذ الغرب ذلك، إلا أن يفيق المسلمون لأمر الله عز وجل، ويرجعوا إلى دينه.
قال الله تعالى: ((َإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) أي: لن يكونوا أولياء لكم أيها المسلمون، وإنما هم يوالي بعضهم بعضاً، وينصر بعضهم بعضاً، وسيكونون عليكم في يوم من الأيام.
ثم قال تعالى: ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))، فلم يقل: ولي المسلمين؛ لأن الكل يقول: أنا مسلم، وإنما قال: ((وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) أي: الذين اتقوا الله سبحانه وآمنوا به، فما قالوا: نحن مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون القرآن معلقاً في السيارة أو في البيوت ولا يعرفون عنه شيئاً، ولا قاولا: نحكم بالشرائع المدنية، والقرآن هذا كان في الزمان الأول، فهو كتاب رجعي، دعنا في الشرائع المدنية الآن! فليس هؤلاء الذين يقولون الإسلام بألسنتهم هم أولياء الله، وإنما أولياؤه الذين اتقت قلوبهم ربهم سبحانه، دخل الإيمان فعمر قلوبهم، ونورها، خافوا من ربهم سبحانه، فعملوا ليوم الحساب، وعملوا لتحصيل تقوى الله سبحانه فحصلوها، واتقوا غضبه سبحانه، فهؤلاء هم الذين يتولى الله عز وجل أمرهم ويدافع عنهم، فقال سبحانه: ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) أي: نصير ومدافع.(473/4)
تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس)
قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} [الجاثية:20]، يعني: جعلنا لكم المحجة البيضاء أمامكم بصائر، أي: كأن الجميع يبصر ما في الدين؛ لشدة وضوحه، وبيانه.
فقوله: ((هَذَا بَصَائِرُ)) أي: قد بصرناكم وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر.
قوله: {وَهُدًى} [الجاثية:20] أي: هدى للناس، فيهدي الله عز وجل الخلق بهذا الدين، فمن استجاب فقد هداه الله عز وجل ورحمه، كما قال سبحانه: {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20] أي: يهدي الله المؤمنين ويرحمهم عز وجل، ويرفع عنهم مقته وغضبه وعذابه في الدنيا والآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين، المتقين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(473/5)
تفسير سورة الجاثية [18 - 22]
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة مستقلة تامة مبينة لجميع الأحكام، مستوعبة لقضايا الزمان، من يوم نزولها إلى يوم القيامة، ففيها الهدى والنور؛ لأنها من عند رب العباد، العليم بما يحتاج إليه الخلق، وإذا كانت قد جاءت الشريعة هكذا فالواجب على المؤمن الإذعان والاستسلام لها والتجرد لاتباعها، والحذر من الأهواء الباطلة، والفرق المخالفة، والأديان الكافرة، والأمم الجاهلة، فـ (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً).(474/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:18 - 22].
يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، لما ذكر الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضلهم على العالمين، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:17]، ذكر أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم نبياً للناس، ورسولاً للخلق جميعهم صلوات الله وسلامه عليه، وأنه جعله على شريعة، أي: على ملة كاملة، وعلى طريق مستقيم قويم، وهو هذه الشريعة.(474/2)
معنى الشريعة
الشريعة والشرع هو: ما جعله الله عز وجل للعباد منهجاً يسيرون عليه.
وهما مأخوذان من الشارع بمعنى: الطريق الأعظم الذي يمشي فيه الناس.
ومن مشرعة الماء بمعنى: مكان المياه ومجتمعها الذي يرد عليه الناس فيشربون منه.
فشريعة الله عز وجل التي جاءت من عنده سبحانه وتعالى هي مورد ومنهل الأحكام التي تتلقى من الله عز وجل، وقد جعل الله نبيه على شريعة، وعلى ملة، وهي دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لخلقه، فجعله منهجاً كاملاً في العقائد التي يريد الله عز وجل من العباد أن يكونوا عليها في العبادات، وفي الأحكام الفقهية التي يلتزمون بها، ويعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى بها، وفي الأخلاق، وفي العمل ليوم الدين، وفي الإخلاص، وغير ذلك مما أراده الله سبحانه تبارك وتعالى وبينه ووضحه في هذه الشريعة، وجعل الناس على بصيرة من ذلك.(474/3)
جهل من لم يدخل في الإسلام ونقص علمه
قال تعالى: ((فَاتَّبِعْهَا)) أي: فاتبع هذه الشريعة، واحذر أن تتبع ((أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، من اليهود، والنصارى، والمشركين، فإن هؤلاء علموا ظاهراً من الحياة الدنيا، ولم يعلموا علم اليقين بما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، ومع ذلك لم يدخل الكثيرون منهم في دينه صلوات الله وسلامه عليه، وأبوا إلا الشرك والبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوصفهم الله عز وجل بالجهل، وبأنهم لا يعملون، ولو علموا علم اليقين لدخلوا في شريعة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، بدلاً من أن يلحون ويتعنتون ويطلبون منك أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو أن تجعل لهم الصفا ذهباً أو أن تنزل عليهم من السماء ما يشهد أمامهم بأنك رسول من رب العالمين، فهم جهلة لا يعلمون، والله على كل شيء قدير، ولكنه لن يجعل ما يتمناه هؤلاء القوم بأهوائهم حقيقة لهم، ولن يحقق لهم تعنتهم وطلبهم.(474/4)
تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً)
قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:19]، ولن يغنوا كذلك عن أنفسهم من الله شيئاً، فلو اتبعت أهواء هؤلاء لضللت، وحاشا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواءهم، ولكن الله يخاطب نبيه هنا والخطاب لجميع الأمة، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لو اتبعت هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين لضللت، فكيف يكون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم لو اتبعوهم؟ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبعهم: (حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، وقد فعل المسلمون ذلك، حتى صاروا كأنهم منهم، والآخرون لا يقبلونهم أن يكونوا منهم، بل إنهم يستكبرون عليهم، وهم ينظرون إليهم نظرة استعلاء واحتقار لهم، ولما مشى المسلمون خلفهم صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم)، وصدق فيهم أيضاً ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم يجتمعون عليكم، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك قال: (يشد الله قلوبهم)، يعني: يقويهم ويجرئهم عليكم.
فيجرئهم علينا عندما نتنازل عن شرع الله عز وجل، ونبتعد عن دينه، فيشد الله قلوب أهل الذمة، فأول ما يصنعون أنهم يمنعون الجزية ولا يدفعونها، ولا يزالون يتقوون إلى أن يدفعها المسلمون لهم، وليس هم الذين يدفعونها، وهذا عندما يترك المسلمون الجهاد في سبيل الله سبحانه، ويتركون شرع الله وراء ظهورهم.
فإذا فعل المسلمون ذلك -وهذا ما حصل- فإن الكفار يفرضون عليهم الإتاوات، ويأخذونها منهم، ويمنعونهم من الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإعلاء كلمته، وحتى ولو قالوا بألسنتهم بأنهم يحكمون بشرع الله، ويعلون دينه، فإن الحقيقة خلاف ذلك، ولا توجد دولة مسلمة تقيم شرع الله سبحانه، إلا ما كان في المملكة العربية السعودية من إقامة الحدود، أما باقي دول الإسلام فكلها تزعم أنها تقيم شرع الله، وأن دساتيرها لا تخالف شرع الله بزعمهم وكذبهم، والناس يصدقونهم في ذلك، في حين أن هذه الدول تلهث وراء الغرب الكافر، وتأخذ تشريعاته، فهذه الدولة تتبع القانون الفرنسي، وهذه تتبع القانون الإنجليزي، وكل دولة تتبع هواها في ذلك.(474/5)
فضل إقامة الحدود
وأما أحكام شرع الله عز وجل، وحدود كتاب الله، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يطبق شيء من ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً)، فلأن يقيموا حداً واحداً من حدود كتاب الله عز وجل، خير لهم؛ لأنهم بإقامتهم لحدود الله سبحانه وتعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يفتح عليهم البركات من السماء والأرض، ولكنهم اتبعوا أهواء الكفار.
فمثلاً يقول الكفار: تحرير النساء، وهؤلاء يقولون كذباً وزوراً كما يقول هؤلاء المجرمون: نحرر النساء! ولا يدرون بأن النساء كن عند هؤلاء الكفار مجرد إماء، وكانت المرأة عندهم شيطاناً ورجساً، وقد كان اليهود إذا حاضت المرأة يهجرون البيت كله الذي فيه هذه المرأة؛ لأنها عندهم نجسة.
فقالوا: نحرر المرأة مما كانوا فيه من رق للمرأة، ومن وصفها بأنها شيطان، ومن كونها عندهم لا تعقل ولا تفهم، فقالوا: نحرر المرأة، فإذا بالمسلمين يقولون: نحرر المرأة، ومن أي شيء يحرر المسلمون المرأة؟! لم يبق عندهم إلا أن يحرروها بزعمهم من شرع ربنا سبحانه فيقولون: هي حرة تلبس ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتخرج مثل الذكور، وليس لأحد سلطان عليها، حتى إن بعض الكافرات ممن تكتب في صحف المسلمين تقول: لا بد من تحرير المرأة، ولا مانع من قوامة المرأة على الرجل، وهي أستاذة في الفلسفة، ومع ذلك تتكلم بهذا الشيء! فقد أصبح كل من هب ودب يتكلم في دين الله عز وجل، حتى هذه المرأة الفاجرة المتبرجة الكافرة تقول ذلك، ولا تستحي أن تقول: لا مانع من قوامة المرأة على الرجل! والله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34]، فضل الله عز وجل الرجل على المرأة في الخلقة، وجعل له عليها القوامة عليها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
فقال المشايخ بجواز ذلك، وأنه ليس هناك مانع من أن تتولى المرأة أمر الناس، وهذا الكلام هو في بنت كسرى فقط، وأما باقي الناس فكلهم مفلحون، وكل من يولي أمره امرأة فهو مفلح، ولكن يختلف الفرس! فهؤلاء الكذابون الأفاكون الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤولون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه هم الذين جرءوا أمثال هؤلاء الفاجرات على ذلك، وجرءوهن على دين الله سبحانه بفتواهم: أنه لا مانع أن تكون المرأة قوامة على الرجل، ولا مانع أن تكون المرأة رئيسة أو تكون ملكة أو تكون ما تكون، لا مانع من ذلك، مجاملة للغرب الكافر؛ لأنهم في ميثاق الأمم المتحدة أول ما ذكروا في ذلك تحرير المرأة، وأن المرأة تكون كالرجل في كل شيء، ولا بد من موافقة الكل على ذلك، فإذا بحكومات الدول توافق على ذلك، وإذا بالمشايخ يهرعون وراءهم، ويقولون هذا الشيء، فتجترئ هذه المرأة الفاجرة وتقول: ما المانع أن تكون المرأة نصيبها في الميراث كالرجل؟ وأنا شخصياً أوصي بهذا الشيء، وأن يكون ابني كبنتي، ولا تكون البنت أقل من الابن، وتجترئ على كتاب الله، والذي جرأها على ذلك خيبة المشايخ، وخيبة المسلمين.
فإنهم تركوا الدين وراءهم فاجترأت الفاجرات والكافرات والعاهرات بالكلام، وحتى الممثلة الفاجرة المجرمة تتكلم في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وتقول: أنا أرى كذا وكذا!!! فإذا تكلم أهل الدين قالوا: رجعيون، وقالوا: أصوليون، وقالوا: إرهابيون، وقالوا: متزمتون، فتركوا الدين وراءهم، وأصبح الذين يتكلمون في دين الله الصحفي المأجور العميل، والمرأة الفاجرة المجرمة، والمرأة العاهرة الممثلة، والمغنية، والرقاصة.
وإذا تكلم أهل الدين قالوا لهم: ما لكم ولهذا؟! فنحن ما تأخرنا إلا بهذا الشيء! ألا لعنة الله على الكافرين، فإن شرع الله عز وجل من تمسك به وجعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن ألقاه وراء ظهره قاده إلى نار جهنم والعياذ بالله، فكتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، من أخذ به عصم، ففيه العصمة، ولا تغتر بكثرة الهلكى والفسقة والمجرمين، قال بعض السلف: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، فالهلكى كثيرون، ولكن الزم دين الله عز وجل وشرعه، قال تعالى: ((َلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)).
فلا تتبع أهواء هؤلاء، ((إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، فكل إنسان مسئول عن نفسه يوم القيامة، أما من يفتي للناس ويقول: أنا أحملها يوم القيامة، فقد قال الله عز وجل: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، فمن يحلل للناس الربا ويقول: أنا أحملها يوم القيامة، فليحمل مصيبته، وكل إنسان قد عرف حكم الربا في دين الله عز وجل، وعرف الحلال من الحرم.
والذي يحلل بيع الخمر للكفار ويقول: أنا أحملها عند الله يوم القيامة، أيحمل خبثاً من الخبائث في الدنيا وفي الآخرة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيوم القيامة لا يغني أحد عن أحد شيئاً، كما قال الله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
وقال: {ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة، (لعن عاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها، وساقيها ومسقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها).
ثم بعد ذلك يجوز بعضهم بيعها للكفار! ويجيز للمسلم أن يبيعها للكافر في الفنادق في بلاد المسلمين، فطالما الكفار يشربونها فالمسلمون يبيعونها لهم!(474/6)
سبب تسلط الأعداء علينا
لما تنازل المسلمون عن دين الله سلط الله عز وجل عليهم أعداءه سبحانه، فأصبحوا لا يملكون إلا الشجب والصراخ واللجوء إلى الأمم المتحدة أن يعملوا لهم شيئاً حتى لا يشتم ديننا، ولا يفعل كذا! فرضوا بالذل، فسلط الله عز وجل عليهم من يذلهم ويتحكم فيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
فإذا رضيتم بالدنيا، وطلبتموها، وتركتم الآخرة وراء ظهوركم، و (إذا تبايعتم بالعينة)، أي: الربا، وإذا حلل لكم الربا، وأفتاكم المفتون بأنه لا يوجد مانع في الصورة الفلانية فاعملوها، وهي من الربا، والعينة صورة من صور الربا المغطى، وفيها التدليس، والضحك على الناس والخديعة، وهي مثل أن يبيع الإنسان الثوب ولا يريد أن يبيعه، وإنما يريد أن يأخذ مائة درهم ويدفع مكانها مائتان، فهذه من الربا، فهو يقول لك: اشتر مني هذا الثوب بمائة جنيه، وعندما يقبضها، يقول: بعه لي بالتقسيط بمائة وخمسين، فكأنه في الحقيقة أخذ مائة ليردها مائة وخمسين، فهذه هي العينة، أخذ مالاً ليرده أكثر منه، فتحايلوا على الربا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) يعني: تحايلتم على تحليل ما حرم الله سبحانه.
(إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر) أي: إذا رضي الله عنه كل إنسان بهذا الشيء، ولم يفكر في غيره، وإنما كل تفكيره في ماله.
(ورضيتم بالزرع) أي: رضيتم بالزراعة والعمل فيها، ولم يهتم بغيرها، (وتركتم الجهاد في سبيل الله)، ولغيتم آياته وأحاديثه من المناهج، فإذا فعلتم ذلك (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، أي: حتى يرجع كل إنسان إلى دينه، ويعرف الحق الذي جاءه من عند الله، ويتمسك بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حال المسلمين الآن فكل منهم قد رضي بما هو فيه، فهذا راض بماله، وهذا راض بعمله، وكل إنسان مشغول بنفسه، يريد أن يأكل لقمة عيشه، ويتعلل بما وراءه، وإذا قيل له: أد زكاة مالك، قال: لا أحد محتاج أو أن الناس لا يستحقونها.
وأحد المسلمين يسأل بأنه تزوج امرأة تملك من المال مائتين ألفاً، وأنها لا تؤدي الزكاة، ولما سألها عن الحج استهزأت، ولا تصلي، فيسأل ماذا يعمل؟ لا يحل له أن يعيش معها وهي كافرة، ولما سئل: لماذا تزوجتها؟ قال: بسبب مالها! فلما اتبع المسلمون الغرب الكافر قلدوهم في كل شيء، فلم يبق لهم من الإسلام إلا الأسماء، اسم هذا مسلم وهذه مسلمة، ولم يدخل فيهم حقيقة الإسلام، فتجد الكثيرين منهم لا يعرفون شيئاً عن دين ربهم سبحانه، وتجد الكثيرين يحاربون دينهم وهم يعرفون أو لا يعرفون قبل أعدائهم، ولذلك سلط الله عز وجل بعضهم على بعض، وجعل بأسهم بينهم كما جعل اليهود والنصارى من قبل.
قال الله عز وجل: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:18 - 19]، وقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
وقد قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره؟ أي: أن الكفار واليهود والنصارى لن ينفعوك يا محمد يوم القيامة.
فهم ((لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).
وشيئاً هنا: نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، أي: لن يغنوا عنك ولو بأقل شيء، ولو شيئاً يسيراً جداً، فلن يغنوا عنك ولن ينفعوك عند الله عز وجل.(474/7)
ولاية الله لعباده المتقين
قال الله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] أي: الذين ظلموا أنفسهم بشركهم وبكفرهم، فالظلمة بعضهم أعوان بعض، فيعين بعضهم بعضاً على الإسلام، وعلى أهل الإسلام، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19]، ولم يقل: المسلمين؛ لأن الكثير يزعمون أنهم على الإسلام، فكل أحد يقول: أنا مسلم.
فهذا يشرب الخمر ويقول: أنا مسلم، وهذا يفعل الفواحش ويقول: أنا مسلم، وهذا يفعل كذا ويقول: أنا مسلم، فلذلك قال الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله، ويخافونه، ويقدمون له سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم الذين يتولاهم وينصرهم ويدفع عنهم سبحانه، ويدافع عنهم الله سبحانه.(474/8)
تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس)
قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20] أي: هذا الذي ذكرناه، وجاءك من عند الله، فيه دلائل بينة واضحة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وقد أخبركم الله فيه عما يريده منكم.
ففيه براهين، ودلائل ومعالم للناس، وفيه حدود الله عز وجل وأحكامه، فقد وضح لكم شرعه، فجعله كالشيء المبصر تراه أمامك واضحاً، فلا إشكال في شرع الله عز وجل، فقد وضح كل شيء في كتابه وعلى لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه وبفعله.
((هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى)) أي: هذا القرآن العظيم هدى من الله، يبصر الخلق، ويهديهم الله عز وجل رحمة بهم.
فالحجة تقام على الجميع بهذا القرآن، وأما الهداية والرحمة فهي لمن اختصه الله عز وجل، فيحول من يشاء إلى دينه سبحانه وتعالى، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بفضله وبكرمه.
وأما الرسول فإنما عليه أن يبين، وأن يبلغ صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
فالرسول يبين عليه الصلاة والسلام، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، فيرحم عباده الذين يصدقون ويؤمنون ويتابعون الرسول صلوات الله وسلامه عليه.(474/9)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات)
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أي: اضرب عن هؤلاء الكفار، وعما يقولونه لك، وانظر في حالهم، بل أحسبوا، أي: أحس وظن وزعم هؤلاء وقد اجترحوا السيئات، أي: اكتسبوها واقترفوها من الجارحة، والجارحة الكاسبة هي: جوارح الإنسان كاليدين ونحوها، التي يجترح بها، أي: يمسك ويأخذ ويكسب، فاجترح بمعنى: اكتسب واقترف.
فهؤلاء الكفار الذين اكتسبوا السيئات فوقعوا في الشرك بالله سبحانه، وظلموا العباد، هل حسبوا وظنوا وزعموا: ((أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))؟ أي: أن نجعلهم كالذين صدقوا بكتابنا وبرسولنا عليه الصلاة والسلام، وعملوا بكلام رب العالمين متبعين له سبحانه، فهل نجعل هؤلاء كهؤلاء؟ ((سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)) أي: نجعلهم سواء، فهي منصوبة على ذلك؛ لأن المفعول الثاني لنجعل (أن نجعلهم) سواء، وهذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة، والكسائي، وخلف وقرأ باقي القراء أن نجعلهم: ((سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)) على الابتداء والخبر يعني: ((مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)) سواء فنجعلهم كذلك، أي: هل ظنوا أن نجعلهم مثل ما كانوا في الحياة الدنيا ثم يموتون ولا بعث؟ هل يظنون ذلك؟ وهل يظلمون في الدنيا، ولا ينصرون يوم القيامة؟ كلا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] أي: لا نفعل ذلك أبداً.
بل لا بد من بعث، ولا بد من جزاء وحساب، ولا بد من عقاب لهؤلاء الكفرة والمجرمين والظلمة.
قال تعالى: {ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أي: ساء ما يزعمون، وساء ما يقضون به، من أنهم يحكمون ويقولون: إننا نحيا ونموت وانتهى الأمر على ذلك، فساء قولهم قولاً وساء حكمهم حكماً، ((سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)).
بل إن الله عز وجل الذي خلق السموات والأرض بالحق قادر على أن يحيي هذه العظام بعد موتها، وأن يجازي أهلها، ولذلك قال: ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ))، فإذا كان خلق السموات بالحق، وخلق الأرض بالحق، فهل يخلق العباد باطلاً، ويجعلهم عبثاً وسدىً لا يبعثون؟ قال: ((وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ))، فلا بد من ذلك، فكل امرئ يجزئ يوم القيامة بما كسب، ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، كما قال تعالى: {لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(474/10)
تفسير سورة الجاثية [18 - 23]
يخبر الله تعالى عن خلقه للسماوات والأرض وما فيهما من الكواكب والنجوم والمجرات والجبال والبحار والهضاب، وقد خلق كل هذه الأشياء بالحق، وكلها تعبد الله عز وجل، فعجباً لمن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، فترك عبادة مولاه الذي خلقه، وصار يعبد مخلوقات مثله لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.(475/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:22 - 23].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمر هذه الشريعة العظيمة، التي جعل عليها النبي صلى الله عليه وسلم مبلغاً لها ومعلماً إياها، أمره أن يتبعها، وأمر المؤمنين أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يتبع هذه الشريعة التي جاء بها من عند رب العالمين، والمؤمنون مأمورون بذلك، أما المشركون واليهود والنصارى وغيرهم الذين لا يعلمون بأس الله، ولا يعلمون شرعه، والذين يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أهل جهل وحماقة، لأنهم لا يعرفون الحق ويعادونه، مع أنهم لا يحاولون أن يتعرفوا عليه، ولا أن يكونوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه ليفهموا منه ما يبلغهم صلوات الله وسلامه عليه.
فهؤلاء وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يعلمون، قال تعالى في سورة الروم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] إذاً فهم ليسوا على علم ينفع، وإن كانوا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فهم يعرفون ظواهر من العلوم الدنيوية، كالعلوم الطبيعية، كعلم الصيدلة والطب وغيرهما من العلوم.
أما العلوم التي توصلهم لليقين بالله سبحانه، والإيمان بالغيب واتباع شريعة رب العالمين، فهم لا يحاولون أن يفكروا في ذلك، ولا يريدون إلا الدنيا وصرحوا بذلك، وقال الله عز وجل عنهم: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)).
فهؤلاء الذين علموا ظاهراً من الدنيا ولم يعرفوا ما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم لا يعلمون، لأنهم علموا علوماً بسيرة، أما ما أعده الله عز وجل للأبرار، وما أعده للفجار، فهم لا يعرفون من ذلك شيئاً، ولا يريدون أن يعرفوا ذلك، ولا يريدون أن يعرفوا لماذا خلقوا في هذه الدنيا؟ قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
فالغاية والهدف الذي خلق من أجلها العبد في هذه الدنيا، هو ليعبد الله سبحانه، والكفار لا يريدون أن يعبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم يعبدون أهواءهم كما ذكر الله سبحانه في آيات عديدة.
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19] أي: الله ولي المؤمن التقي الذي يتولى ربه، فيدافع عن دين الله سبحانه، ويدفع عن نفسه غضب الله بطاعة الله وتقواه، فهذا ولي الله سبحانه تبارك وتعالى.(475/2)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات)
قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أي: أحسب الذين اكتسبوا السيئات ووقعوا في الآثام والشرور، أن نسوي بينهم وبين المؤمنين الذين عملوا الصالحات في المحيا والممات؟ أيحسبون أننا نخلقهم في الدنيا، ليأخذوا منها ما يشاءون، والبعض الآخر لا يجدون فيها شيئاً، وقد عبدوا الله سبحانه، وأحسنوا وصدقوا الرسل، ثم يموت الجميع، ولا يوجد بعث بعد ذلك؟! فهذا ظلم، وقد قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].(475/3)
تفسير قوله تعالى: (وخلق الله السماوات والأرض بالحق)
قال الله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:22] فالسموات مخلوقة بالحق، والأرض مخلوقة بالحق، والكواكب والنجوم وما في هذا الكون كله مخلوق بالحق، ومخلوق بميزان العدل، لا شيء ينحرف عن مساره، أو يقصر فيما أمره الله عز وجل به.
وإذا كان كل ما أوجده الله بالحق وبالعدل، أفيخلق الإنسان، وبعد ذلك يجعله يموت ولا يوجد حساب ولا عقاب؟! فأي ظلم هذا؟! حاشا لله أن يظلم عباده: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقوله تعالى: ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ))، الواو واو الفصيحة التي سبقها معاني، فخلق الله السموات والأرض بالحق ليبين لكم قدرته وعدالته فيما يفعله في هذه المخلوقات التي خلقها.
وقوله تعالى: ((وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ)) أي: لتعتبروا بذلك، ولتعلموا أنكم تجزون يوم القيامة عند الله سبحانه، فكل واحد يجزى ويسأل عن نفسه، وكل نفس يسألها الله ويجازيها على كسبها.
((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) أي: حاشا لله عز وجل أن يظلم أحداً من عباده.(475/4)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواء)
قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].
((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [الجاثية:23] قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ)) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها نافع وأبو جعفر والأزرق بالمد الطويل، ((أفرآيت من اتخذ إلهه هواه))، ويقرؤها الكسائي: ((أفريت من اتخذ إلهه هواه))، والمعنى واحد، أي: اعجب لهؤلاء الذين عبدوا الهوى من دون الله سبحانه تبارك وتعالى! وإعراب كلمة لا إله إلا الله، على النحو التالي: لا نافية للجنس، وإله اسمها، والخبر دائماً محذوف، فمثلاً: لا تلميذ في الفصل، ولا مصل في المسجد، خبرهما محذوفان تقديرهما موجود.
ولكن خبر لا النافية في كلمة: لا إله إلا الله ليس تقديره: موجود؛ لأن هناك آلهة غير الله عز وجل تعبد من دون الله، فلا يقال: لا إله موجود غير الله، بل في الوجود آلهة تعبد، منها: الهوى والشيطان وغير ذلك، ولكن التقدير للخبر فيها هو كلمة حق، أي: لا إله حق إلا الله، وكل الآلهة باطل.
فإذاً: هناك آلهة تعبد من دون الله، كالشيطان والأصنام والأوثان والهوى والشمس والقمر والنجوم والكواكب.
وقوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)) يعني: اتخذ إلهاً بمزاجه، ويعبد ما يشاء بالهوى، فصار الهوى هو الذي يحكمه، ولذلك يقول سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه، رمى بالأول وعبد الآخر، أي: إذا رأى حجراً جميلاً، عبده بهواه وبمزاجه وهو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر، ولكن الهوى يهوي به في الجحيم والعياذ بالله، فيعبد غير الله ويعرض نفسه للعذاب الأليم.(475/5)
سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
قال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين؛ لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه، وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة؛ لأن البيت حجارة، يعني: البيت الذي أقامه إبراهيم حجارة، والمسلم حين يطوف بالكعبة المكرمة المشرفة لا يعبد الكعبة، إنما يعبد الله سبحانه، كما أنه حين يتوجه في الصلاة إلى القبلة، فيتوجه إلى هذا الجدار؛ لأنه سترة، فلا يعبد جداراً، إنما يعبد الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا بد من وجهة للعبادة، إما شمال أو جنوب أو شرق أو غرب، فجعل الله القبلة في سرة الدنيا، وأمر كل الخلق أن يتوجهوا إلى هذا المكان بالصلاة ونحو ذلك.
فإذاً الجهة ليست معبودة، وإنما يتوجهون إليها عندما يصفون صفوفاً، وحتى يكون الجميع على قلب واحد، وإلى جهة واحدة، يعبدون رباً واحداً سبحانه تبارك وتعالى.
فهؤلاء الكفار لم ينظروا في ذلك، وإنما نظروا إلى أن البيت من حجر، فعبدوا الأحجار من دون الله.
يقول الحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه هواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، فكانوا يستحسنون الأشياء فيعبدونها، يصنع أحدهم صنماً من العجوة، فإذا جاع أكل صنمه، وهو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر، فالكافر يفعل هذا الشيء وبزعمه من أجل ألا يتحكم أحد فيه، فيعبد غير الله بهواه.(475/6)
معنى قوله تعالى (وأضله الله على علم)
قوله تعالى: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)) أي: أضله الله سبحانه وتعالى على علم، فالجار والمجرور متعلق إما بالله، وإما بالكافر، فالكافر لا يستحق سوى النار، والله أضله بعدما أعذر إليه وأنذره سبحانه تبارك وتعالى، فأنزل الكتاب وأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه ليبين له الصواب، فأعذر للخلق بإقامة الحجة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فيكونون على علم من الله ما الذي يستحقه هذا الإنسان الكافر؟(475/7)
المهلكات التي تهلك الإنسان والمنجيات التي تنجيه
جاء في أمر الهوى حديث صحيح أو حسن، رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم المهلكات فقال: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)، فالمهلكات التي تهلك الإنسان: شح مطاع، فالإنسان في باطنه شح، وأُمِرَ أن يواري ذلك ويقاوم ذلك، ولا يستجيب لشح نفسه، فإذا الإنسان أطاع نفسه في الشح والبخل، ولم يعط الحقوق لأصحابها، فإن ذلك شح مطاع يهلك الإنسان.
وهوى متبع: فالإنسان يتبع هواه فيؤثر دنياه على الآخرة، وكلما أراد في الدنيا شيئاً أخذه، وحاول فيه وسعى له، ولم ينل منها إلا ما قسمه الله عز وجل له.
وإعجاب المرء بنفسه: أي: أن يكون معجباً بنفسه وبرأيه، لا يلتفت إلى غيره، ويظن نفسه أفضل من الناس وأعلى منهم، ولا يريد أن ينتصح بنصيحة، لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الإنسان المعجب بنفسه يهلك نفسه في ذلك، فهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه).
والمنجيات التي تنجي الإنسان، ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم الخشية لله، فقال: (خشية الله في السر والعلانية) أي: خوف الله عز وجل، وإرضاؤه سبحانه تبارك وتعالى، سراً وعلانية، فالإنسان حين يرضي ربه سبحانه، يرضي الله عز وجل عنه خلقه، فالإنسان يجعل أمام عينيه أن يرضي الله، أما إرضاء الناس فصعب ومستحيل، فإن كل إنسان له هوى معين، وله مزاج وطريقة، فرب الناس سبحانه تبارك وتعالى الذي خلقهم، هو القادر على أن يحول قلوبهم، وأن يجعلهم يحبونك أو يبغضونك.
فمن توجه في حب الله عز وجل، والعمل لله سبحانه، فإن الله يرضي عنه سبحانه تبارك وتعالى، ويرضي عنه الناس، فرضا الناس غاية لا تدرك، ولو أشعلت للناس أصابعك كلها كالشمعة، فلا يرضى عنك الناس أبداً، فكل إنسان سينقدك، وسيقول لك: اعمل كذا وكذا، ومفروض عليك كذا، ولن تخلص منهم أبداً، وكم تسمع من النصائح كل يوم! ومهما تذكر للناس أعذارك أنها كذا وكذا، فلا أحد يقبل، ولو تمكنوا أن يبقوك تخدمهم الليل والنهار ولا تنام لفعلوا فيك هذا الشيء! فتوجه إلى الله عز وجل بالعبادة، وبالإحسان إلى خلقه بما تقدر عليه، ويستحيل على الإنسان أن يفعل كل خير، ولذلك جاء في الحديث، (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، فلو حاول المسلم أن يحفظ القرآن كله، بكل قراءاته وبوجوهه وفقهه وأصوله وأحاديثه المتعلقة به وغير ذلك ما استطاع ذلك، فأين العمر لذلك؟ وأين العقل الذي يحصل هذا كله؟ وربنا يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
فلو حاول الإنسان وأجهد نفسه في ذلك، قصر في أمور أخرى، قصر في حاله وفي عياله وفي بيته وفي عمله، فلذلك يكون الإنسان متوازناً، فقد يقول لك إنسان: لماذا تركت كذا؟ وأنت لا تستطيع هذا الشيء، فيقول لك: المفروض عليك أن تحاول، فالناس يتعبون جداً جداً.
فالمؤمن الذي يخاف من الله، يؤدي حقوق الله سبحانه، وحقوق العباد بحسب القدرة والاستطاعة.
ومن المنجيات كذلك، القصد في الغنى والفقر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقصد في الغنى والفقر) فتقتصد وأنت غني أو فقير، وتعود نفسك على ذلك، ولا تعودها على التبذير قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، ولا تعودها على الإمساك والشح فتضيع نفسك، فالمطلوب الوسط.
ومن المنجيات أيضاً، العدل في الرضا والغضب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والعدل في الرضا والغضب) أي: أن تعدل في وقت رضاك وفي وقت غضبك، فإذا غضبت فاحلم، وبعد ذلك افعل الشيء الذي يمليه عليك الشرع الحكيم، فالمسلم في وقت غضبه يمسك نفسه، وبعد أن يذهب غضبه، يتكلم بعد ذلك، حتى لا يقع في الخطأ في وقت الغضب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الهوى ومن الغضب ومن الشح.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(475/8)
تفسير سورة الجاثية [23 - 26]
كل من يعبد شيئاً من دون الله فهو عابد لهواه، ومن عبد هواه أضلَّه الله وإن أتاه من ينذره، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الهوى المتبع، وقد أضلَّ الله المشركين فأنكروا البعث، وجعلوا غايتهم هي الدنيا، وحجتهم في ذلك أنهم يموتون ويحيون وما يهلكهم إلا الدهر، كما يزعمون.(476/1)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:23 - 24].
يذكر الله عز وجل أمر الذين عبدوا الهوى من دونه سبحانه وتعالى، وكل من يعبد شيئاً من دون الله فهو عابد لهواه؛ لأنه يعبد ذلك معرضاً عن الحق، معرضاً عن الله سبحانه، معرضاً عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، متبعاً بزعمه ما يهواه وما يحبه، متبعاً ما يراه أنه هو الذي يصلح، وإن كان حقيقة الأمر أنه لا أحد ممن يعبد مخلوقاً من دون الله سبحانه وتعالى يقتنع بذلك، فالذين عبدوا الأصنام وعبدوا الأحجار وعبدوا الشمس وعبدوا القمر علموا أن هذه الأشياء لا تنفع ولا تضر، ولكن كل منهم أراد أن يجعل لنفسه شيئاً يختص به كنوع من الهوى ونوع من المزاج، هذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا الصنم صنم القبيلة، وإذا كان الإنسان سيداً في قومه فله صنم لوحده، وكل إنسان بمزاجه يعبد ما يريد، فهنا ربنا سبحانه وتعالى عجب من هؤلاء، يعني: أمر الدنيا صارت بالأهواء، وكذلك العبادة يعبدون بأهوائهم، ولا يعبدون الله سبحانه، وقد علموا أنه خالقهم، وأنه رازقهم، وأنه محييهم، وأنه مميتهم سبحانه، فعجباً لأمر هؤلاء الذين اتخذوا الهوى إلهاً من دون الله سبحانه.
وذكرنا أن الإنسان الذي يتبع غير سبيل الله سبحانه، ويتبع غير سبيل المؤمنين متبع للهوى، سواء كان في العبادة أو في المعاملة أو في العادة أو غير ذلك، وسبيل الله عز وجل كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
فصراط الله واحد، وهو طريق واحد جاءنا من عند الله سبحانه وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، هذا طريق الله، وغير هذا الطريق على رأس كل منها شيطان يدعو إليها ويهوي بصاحبها إلى النار.(476/2)
ثلاث يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الانزلاق فيها
جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي رواه الطبراني ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الأعور السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإماماً ضالاً)، يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ثلاثاً: أولها: الشح، والإنسان شحيح بطبعه كما قال الله عز وجل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] يعني: خلقت النفس ومن طبيعتها الشح، والله عز وجل جعل ذلك في طبيعة الإنسان وأمره أن يقاوم هذه الطبيعة، كما ركب في نفس الإنسان الشهوة وأمره أن يهذب هذه الشهوة، ولو كان الإنسان ليس فيه شهوة أصلاً لما نهاه الله عز وجل عن الزنا؛ لأنه ليس فيه شهوة أصلاً حتى يزني، ولو كان الإنسان ليس فيه شح لما نهاه عن السرقة؛ لأنه ليس طماعاً أصلاً، ولكن جعل الله عز وجل في نفس الإنسان ما يدعوه إلى الخير وفي نفسه ما يدعوه إلى الشر، وأنزل القرآن وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة والسنة حتى يهذب نفس الإنسان، ويعين ما فيه من خير على فعل الخير، فجاء الكتاب من عند الله عز وجل ليعدل نفس هذا الإنسان، وليقوي جانب الخير فيه، ويوضح له أن احذر من هذا وامش في هذا، ولو لم يكن في داخل الإنسان ما يدعوه إلى الشر ما احتاج إلى كتاب وما احتاج إلى سنة، وما احتاج إلى رسول، وما كان الله ليخلق هؤلاء الخلق لو كان الأمر على ذلك، فعنده ملائكة سبحانه وتعالى يعبدون الله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولكن لحكمته العظيمة سبحانه أراد أن يخلق مخلوقاً فيه الخير وفيه الشر، وأن يمتحن هذا المخلوق، وأن يبتليه، وأن يعينه على الخير، فينزل الكتاب، ويرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ليدعو الخلق إلى الخير، فشح الإنسان في نفسه، وجاء الكتاب والسنة يهذبانه أن احذر من هذا الشح، فإن نفسك تدعوك إلى أن تجمع الدنيا، واجمع ما تنتفع به لدنياك ولأخراك، واحذر أن تجمع من الحرام أو أن تجمع ما لا تنتفع به بل تحاسب عليه، فقال: (إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً) فيطيع الإنسان شحه، ويدعوه الشح إلى أن يأخذ الحرام فيفعل، ويدعوه الشح إلى أن يقتل فيقتل، وإلى أن يسرق فيسرق، وإلى أن يغصب فيغصب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وهوى متبعاً) فالإنسان كلما هوى شيئاً اتبع هواه في ذلك، إذا هوى شيئاً من الشهوات اتبعها، فانزلق ووقع في الحرام، وإذا هوى شيئاً من الباطل اتبعه فوقع في الحرام، وإذا هوى شيئاً من الهوى ومن الشرك وقع في الشرك بالله فكان من أهل النار، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة الهوى المتبع، الذي يجعل الإنسان ليس له قيد يحكمه، وليس عنده شيء يرسم له طريقه، ترك الكتاب وترك السنة ومشى في هواه فاتبع الهوى فوقع في النار.
قال: (وإماماً ضالاً)، والإمام بمعنى: من يكون إمام الناس، والذي يكون قدوة للناس، فإذا كان على الحق اتبعه الناس على الحق، وإمام المؤمنين وإمام المتقين هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] والإمام: الكتاب، والإمام: من يقتدى به، فيكون هؤلاء الأمة خلف إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، معهم كتبهم فيها أعمالهم الصالحة يأخذونها بأيمانهم.
والإمام الضال قد يكون إنساناً كبيراً في قومه، شيخاً أو غير ذلك، والناس يجعلونه قدوة، وإذا به يدعوهم إلى الهوى فيسيرون وراءه في الهوى، يفتيهم بالباطل فيسيرون وراءه بالباطل، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من ذلك، ولذلك جاء عن معاذ رضي الله عنه أنه في كل درس من دروسه كان يقول للناس: إني أخاف عليكم زيغة العالم، قالوا: كيف يزيغ؟ قال: اتقوا ما يقوله، فيقع في صدوركم ويفزع منه الناس، أي: أن الناس كانوا على خير، يعرفون أن هذا في كتاب الله حرام، وفجأة يقول لهم العالم: هذا حلال ليس فيه شيء! فيحدث في نفوس الناس شك وريب، والله عز وجل يجعل في نفوس المؤمنين ما يدلهم على الحق وأن هذا صواب، والكلام الصواب له نور يجعله الله عز وجل في الأذن فينزل إلى القلب، والكلام الباطل يدخل الأذن لا يتجاوزها إلى القلب، والمؤمن يستشعر بقلبه أن هذا العالم بعيد عن الصواب فيما قاله، وإن كان عالماً وإن كان حكيماً، ولكنه زاغ في هذه المسألة فاحذر أن تتبع الزيغ، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من اتباع الهوى ومن اتباع الأئمة الضلال، فالإمام هنا: إمام عامة الناس، وأميرهم أو رئيسهم أو حاكمهم، وأما الإمام الخاص للناس: من يتبعونه ويقتدون به في دينهم أو في دنياهم، فحذر من ذلك صلى الله عليه وسلم وأخبرنا في حديث آخر في إسناده ضعف ولكن يشهد له هذا الحديث وأحاديث أخر في هذا المعنى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت هوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك).
الإنسان يلزمه أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، حتى إذا وصل إلى درجة لا يستجيب له فيها أحد، ويصاب بالضرر من وراء ذلك، ولا يتغير هذا المنكر، فعند ذلك عليه بخاصة نفسه، ويترك أمر هؤلاء.
فالإنسان المؤمن يلزمه أن يدعو إلى الله عز وجل كما قال الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: (بلغوا عني ولو آية)، فالقرآن يأمر بالدعوة إلى الله عز وجل، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالتبليغ، حتى إذا أصاب الإنسان الضرر جراء ذلك فإن الله عز وجل يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
فقوله تعالى: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) المعنى: مُرْ بالمعروف، وانه عن المنكر، ولست مسئولاً عند الله إلا عن نفسك.
إذاً: عليك بنفسك فأصلحها، ومن إصلاح النفس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن نفس الإنسان تصاب بالمرض إذا لم يأمر صاحب هذه النفس بالمعروف وينهى عن المنكر، ويضعف إيمانه شيئاً فشيئاً، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستشعر أنه يقيم شرع الله عز وجل، وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيكون في قلبه حرارة الإيمان، فقوله تعالى: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) أي: نفسك هذبها، ومن تهذيب نفسك: أن يفيض ما في القلب من إيمان على الجوارح فيخرج منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن لم تستطع ذلك وأصابك من إيذائهم ما أصابك، وخفت من تأثيرهم فيك وفي دينك، فلا تضرَّنَّ نفسك في أن تخالط أهل السوء طالما أنك لا تقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(476/3)
معنى قوله تعالى: (وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه)
قوله تعالى: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)) (على علم): جار مجرور، يتعلق بلفظ الجلالة الله سبحانه، أو بالضمير العائد إلى هذا الإنسان الذي يتكلم عنه (وأضله الله).
فلفظ الجلالة يعود على علم يعني: الله علم أن هذا لا يستحق إلا ذلك، فقوله: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)) أي: أنه لا يستحق إلا ذلك، فالجار والمجرور يتعلق بهذا الإنسان بمعنى: أضله الله بعد أن أنذره، وبعد أن أخبره، وبعد أن بصره، وبعد أن أقام عليه الحجة، فلا أمل في هذا الإنسان أن ينجو، فأضله الله بعدما علمه سبحانه وتعالى الحق، ولكنه أصر على الباطل.
إذاً: الإنسان حين يبتعد عن دين الله عز وجل يبتعد عن الهدى فاستحق الغشاوة، واستحق الضلالة فأضله الله، وهذا قضاء الله وقدر الله الذي نؤمن به، أن الله عز وجل يهدي بفضله، ويضل بعدله، فمن يهديه الله عز وجل {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4]، ومن يضله الله ذاك عبد الله، يفعل به ما يشاء سبحانه وتعالى، والعباد يتقلبون بين فضله وعدله سبحانه وتعالى، فقال لنا هنا: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ))؛ لأنه لا يستحق إلا ذلك.
وقال تعالى: ((وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ)) الختم: الطبع على السمع فإذا به يسمع كمن لا يسمع، ويسمع ولا ينتفع، ويسمع ولا يصل هذا الذي يسمعه إلى قلبه، قال تعالى: ((وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)).
جعل بصره لا يرى الحق، فكأنه يسير في ضلال، وفي مكان قد أغمض عينيه فيه ولا يعرف كيف يسير، والله سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]، الذين آمنوا زادهم إيماناً، لكنَّ أهل الضلال طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، قال سبحانه: ((وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)) (غشاوة): ما يغشي الشيء ويغطيه، فهنا ((وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)) أي: لا يرى ببصيرته، ولا يرى بقلبه، فجعله كالأعمى الذي لا يرى أمامه شيئاً.
((وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)) هذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (وجعل على بصره غشوة) بمعنى: غطاء تغطية، على عينيه غشوة.
قال تعالى: ((فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ)) إذا أضل الله إنساناً لا يقدر أحدٌ أن يهديه؛ ولذلك قال لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
إذاً: كل إنسان يدعو إلى الله عز وجل عليه بالأخذ بالأسباب، والنتيجة ليست له، وإنما السبب فقط، وكم من نبي دعا قومه فلم يؤمن معه إلا القليل، هذا نوح قال الله عز وجل عنه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، قلة من الناس آمنوا به بعدما دعاهم إلى الله سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاماً! وقوله تعالى: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء يقرءون: (أفلا تذَّكَّرون) أصلها: تتذكرون، فخففت (تَذَكَّرون) وثقلت (تَذَّكرون) وأدغمت، فالمعنى فيها: يذكر فلا ينسى، أي: اذكر هذا الشيء الذي تعرفه، واذكر بمعنى: اعتبر واتعظ، أفلا تعتبرون؟ أفلا تتعظون؟ أفلا تحمدون الله سبحانه أن هداكم ودلكم على الطريق الصواب؟ وهذا هدى الله يهدي به من يشاء، هو أعلم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال، فاحمد ربك على ما أعطاك، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر كما أمرك الله سبحانه وتعالى.(476/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا)
قال الله تعالى عن هؤلاء الكفار: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] وتقدم قبل ذلك قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [المؤمنون:37]، (إن هي) بمعنى: ما هي، إن بمعنى: ما، وهنا قالوا: (ما هي إلا حياتنا الدنيا)، ولذلك كان يأمر بعضهم بعضاً أن يأخذوا من الدنيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعللون ذلك بقولهم: إن هي إلا حياتنا الدنيا، هي حياة واحدة فقط وسنموت ونصير تراباً، فنحن نأخذ الذي نريده ونفعل ما نشاء، فيقولون: ((مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))، يقولون: (نموت ونحيا) ولا يقصدون أنهم يبعثون، ولكنهم يقصدون أن أناساً يموتون وأناساً يحيون، هذا يموت وهذا يُولد، يعني: نموت ويحيا من يخلفنا بعد ذلك، فلماذا نضيع حظنا من الدنيا طالما نحن ميتون؟ ثم ينسبون الإهلاك إلى الدهر: ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) والدهر: الزمن، يعني: نحن نعيش وبعد عمر طويل نموت، إذاً: كر الليالي والأيام علينا هي التي تهلكنا، ومع ذلك لو سألتهم من خلقهم ليقولن: الله! وقوله تعالى: ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) أي: هي حياة في الدنيا نعيش حتى نعجز ثم بعد ذلك نموت، والدهر الأيام والليالي التي تأخذنا بعد ذلك.
قال الله عز وجل: ((وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)) والعلم بمعنى: اليقين، أي: ما عندهم علم بما يقولونه، هل عندهم أثاره من ذلك الذي يقولونه، من تكلمهم عن الغيب، وإنكارهم للبعث، وهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه جاء بكتاب من عند الله عز وجل، يقول الله لهم فيه: ((وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)) بل علمهم هذا مجرد ظن وخرص، قال تعالى: ((إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ))، هذه ظنون وهذه شكوك يتكلمون بها.(476/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا)
قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25].
فقوله تعالى: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)) أي: يتلو عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ عليهم ويرشدهم ويهديهم ويعلمهم القرآن البين، وقوله: ((آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)) أي: واضحات جليات ليس فيها إشكال، وبلسان عربي وأهل اللغة العربية هم الذين يفهمون ذلك، والقرآن نزل واضحاً ليس مشكلاً.
وقال تعالى: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ)) وهل عندهم حجة حقيقية؟ فقد أخبرنا الله بقوله: ((إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)) فقوله تعالى: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) أي: هاتوا آباءنا إذا كنتم صادقين، فحجتهم أنَّ قصي بن كلاب كان جدهم، ونريد إحياء قصي بن كلاب؛ لأنه كان رجلاً صادقاً يتكلم بالحق، وهم يعرفون الصادق المصدوق ويعترفون به صلوات الله وسلامه عليه ويسمونه الصادق الأمين الذي يستشيرونه ويأخذون رأيه ويصدقونه في كل ما يقول، وكان فخرهم صلوات الله وسلامه عليه، فيريدون قصي بن كلاب وعندهم رسول الله الذي جاءهم بالكتاب من عند الله، فلو جاءهم قصي بن كلاب وقال لهم: محمد صلى الله عليه وسلم صادق، فهل هم معترفون بصدقه صلى الله عليه وسلم؟ من المشركين من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهباً، وبعضهم طلب منه أنه يفجر في هذه الأرض ينبوعاً، والبعض طلب منه شق القمر، ولما أشار إلى القمر، ودعا وانشق القمر لم يؤمن هؤلاء الذين طلبوا ذلك، بل قالوا: سحرنا! فالله أعلم بعباده، يعلم أنهم لن يستجيبوا حين يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات، وقد عرفنا ربنا سبحانه أنهم إذا رأوا الآيات سيأتيهم العذاب بعد هذه الآيات، ولذلك أصحاب المائدة لما طلبوا من المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم المائدة من السماء {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112] فقالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113] فدعا عيسى عليه السلام ربه فقال: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114].
واستجاب الله عز وجل لعيسى وقال لهم: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، أي: ستنزل المائدة من السماء، وستأكلون من هذه المائدة، والذي سيكفر بعد ذلك له أشد العذاب من الله رب العالمين، فالآيات الحسية التي تنزل لابد من الإيمان بها، فإن لم تؤمن استحققت العذاب الشديد الأليم، فكان من رحمة رب العالمين بعباده أنه لم ينزل عليهم آية حسية عامة للجميع، ولما انشق القمر انشق للبعض ممن استيقظ في تلك الليلة وتحدى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه فانشق القمر ثم التأم مرة ثانية، فلو كانت آية عامة للخلق كلهم لكان العذاب من بعد ذلك حين لم يؤمنوا.
قال الله عز وجل هنا: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)) بينات: واضحات جليات، ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا))، (ما كان) اسم كان هنا: (أن قالوا) وخبرها مقدم: (حجتهم) ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا)) ليس فيها قراءة أخرى، كل القراء يقرءونها على الخبر المقدم: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ)) وإن كان في غيرها قد يأتي الضم والفتح.
فهم طلبوا ذلك والحجة في زعمهم: ((ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)).(476/6)
تفسير قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم)
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26] ليس الدهر الذي يحييكم ويميتكم، ولكن الله عز وجل هو الذي يفعل ذلك، فلما ذكر قولهم: (الدهر) أخبر الله أنه هو الذي يفعل ذلك، فهو يبين أن الدهر شيءٌ والله شيء آخر، فقول الله في الحديث القدسي: (أنا الدهر) ليس معنى ذلك: أن من أسمائه الدهر، ولكن معناه: أن هذا الدهر الذي تسبونه ما هو إلا أنكم تسبون ربكم سبحانه، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26].
فقوله تعالى: ((اللَّهُ يُحْيِيكُمْ)) أي: يوجدكم وينشئكم في هذه الدنيا، كنتم عدماً، كنتم لا شيء، كنتم نطفة لا حياة فيها فصرتم أحياء، ثم بعد الحياة تموتون، قال تعالى: ((ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ)) وذلك رداً على قولهم: ((مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) أي: ليس هناك بعث بعد ذلك، فالله عز وجل ردَّ عليهم بقوله سبحانه: ((ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)) والجمع: فيه ما فيه من معنى السوق والحشر، تقول: جمعت الغنم إلى مكان كذا، أي: سقتهم بالعصا يميناً وشمالاً، فلا يستطيع أحد أن يفر أو يزيغ أو يهرب في يوم القيامة، بل يساقون إلى المحشر، ويساقون ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك في هذا اليوم، فكلمة (لا) يمدها حمزة -وإن كان ليس هناك همزة بعدها-؛ لتأكيد النفي، فيمدها أربع حركات فقط للتفرقة بينها وبين غيرها، ولتأكيد النفي في ذلك.
يقول تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: ولكن أكثر الناس لا يوقنون، علمهم علم ظاهر، علموا فلم يدخل العلم في قلوبهم ليدعوهم إلى العمل؛ فلذلك ((أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) فليحذر الإنسان من العمل الخبيث في الدنيا، ومن الشرك بالله، ومن اتباع الهوى، فهو مجموع مع غيره إلى الله عز وجل ليسأله وليحاسبه الله سبحانه على ما قدم وعلى ما أخر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(476/7)
تفسير سورة الجاثية [27 - 37]
من مشاهد يوم القيامة عرض الله الكتب على الأمم، وفيها ما عملت من خير أو شر، فأما المؤمنون الصالحون فيجازون بالحسنى ويكافئون بالرضا، وأما البعيدون اللاهون الذين انشغلوا بالدنيا وعاندوا وعارضوا أهل الإيمان، فيجازون بالعذاب الأليم على كفرهم وعنادهم وإنكارهم للساعة والبعث والنشور.(477/1)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فقد قال الله عز وجل في سورة الجاثية {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:27 - 32].
في هذه الآيات من سورة الجاثية يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمراً يعرفه كل خلق الله عز وجل، وهو أن الله سبحانه يملك السماوات والأرض، ويملك كل شيء سبحانه، فهو الخالق، والناس أقروا بذلك على أنفسهم، فأقروا بقلوبهم، وإن أنكر بعضهم بألسنتهم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فالله شهد على ما في قلوبهم، فالقلوب تعلم أن الخالق هو الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن الرازق هو الله سبحانه، وأن الرب هو الله سبحانه، ومع معرفتهم بذلك فإنهم يتوجهون بالعبادة لغيره غروراً ونفوراً واستكباراً وبعداً عن الحق، فقال: ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، فالملك بيده سبحانه، فهو الذي أوجد كل شيء، وهو الخالق لكل شيء، وهو المالك والملك سبحانه تبارك وتعالى، فكم من إنسان يملك وليس بملك، وكم من ملك ليس بمالك إلا الشيء القليل، لكن الله عز وجل هو المالك لكل شيء، وهو الحاكم على كل شيء، وهو الملك سبحانه، ملك الملوك سبحانه تبارك وتعالى، ومالك كل شيء، ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، خلقاً وملكاً.
قوله تعالى: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)) أي: يوم تقوم الساعة، يوم تحق الحاقة، يوم تأتي القارعة، يوم تأتي القيامة، والصاخة، والحاقة، ((يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ))، في هذا اليوم يخسر كل مبطل، والمبطل هو المتكلم بالباطل، المريد للباطل، الذي كان يرفض الحق، فهذا هو المبطل، من أبطل الشيء بمعنى: نفاه ولغاه.
فهو يخسر ويعلم يوم القيامة أنه لم يكسب شيئاً بكثرة جدله، وبكثرة كلامه، وبكثرة خوضه في الباطل، وبكفره وإعراضه عن الحق خسر كل شيء، فخسر نفسه، وخسر ماله، وخسر أهله، وخسر مكانه في الجنة واستقبل النار فكان من أهلها، ((يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)).(477/2)
تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية)
قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]، أي: يوم القيامة يقفون بين يدي الله عز وجل، وتأتي عليهم ساعة يتضرعون، فيجثون على الركب، كهيئة الذليل، يقال: جثا على ركبتيه، بمعنى: برك كما يبرك الجمل، وكأن الذي منه على الأرض أطراف أصابع رجليه وأصابع يديه، وهو على الأرض على هذه الهيئة، فهو قاعد قعدة ليست مريحة، ولكن قعدة فيها الذل، وفيها الاستعداد للقيام، وفيها استعداد للنهوض، وكأنه جالس يتوسل، جالس يستغيث في هذا الوقت، يقول سلمان رضي الله عنه: إن في يوم القيامة لساعة هي بمقدار عشر سنين من الدنيا، يخر الناس فيها جثياً على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليقول في ذلك اليوم: لا أسألك اليوم إلا نفسي.
ففي هذا الوقت يستغيث الخلق بالله عز وجل، في موقف رهيب وعظيم، والناس وقوف في وقت قدره خمسون ألف سنة، خمسون ألف سنة قدر يوم القيامة! الإنسان عندما يعد اليوم، ويعد الشهر، ويعد السنة، ويعد العمر، سيحس أن عمره طويل، وهذا العمر الطويل الذي عاشه لا يساوى شيئاً من يوم القيامة، خمسون ألف سنة والناس على أقدامهم في أرض المحشر، فتمر على الإنسان فيه صور كثيرة جداً، كيف أنه قصر في الدنيا والآن يحاسبه ربه سبحانه، والناس أمامه يعذبون في الموقف، فالمانع للزكاة الذي منع زكاة إبله، أو زكاة بقره، أو زكاة غنمه، تمر عليه وتطؤه بأقدامها وأظفارها، فيعذب بها، فيرى الإنسان هذه المشاهد أمامه، ويا ترى! ماذا عمل كل واحد منا؟! خمسون ألف سنة حتى إن البعض من الناس ليقولون لله عز وجل: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار! يظنون أنهم إذا صرفوا إلى النار استراحوا.
وفي هذا الموقف العظيم يؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، على كل زمام سبعون ألف ملك -نسأل الله العفو والعافية- والجميع يخافون ويرعبون مما يرون، ويستغيثون بالله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: ((وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا))، فالآن هذا رسولكم الذي جاءكم، وهذا كتابكم، وهذه صحف أعمالكم ستلقى عليكم فخذوها فتتطاير الصحف، وكل يأخذ كتابه، فآخذ بيمينه فناج، وآخذ بشماله فهالك والعياذ بالله، {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ} [الجاثية:28] أي: يوم القيامة: {تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فما فات من الدنيا فاليوم عليه الحساب، والجزاء على ما تصنعون.(477/3)
تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)
قال الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، كنت في الدنيا تدلس، كنت في الدنيا تكتم وتخفي، كنت في الدنيا تسعى لأخذ حقوق الناس، كنت وكنت، فهذا كتابكم لا مبدل لما كتب عند الله سبحانه تبارك وتعالى، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}.
فصحيفة الأعمال تتلى أمامه، ولذلك ينطقون ويقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، فكل شيء يفعله الإنسان من صغائر الذنوب، أو من كبائر الذنوب يراها أمامه، ما كان يظن أن شريط التسجيل على هذه الهيئة، فالإنسان وهو في الدنيا لو سُجلت عليه كل أعماله التي يعملها، فإنه يستحي من ذلك، ولو قيل له: سنسجل عليك كل أعمالك في هذا اليوم، لخاف وخجل من أي فعل قبيح يقدم عليه، فكيف بيوم القيامة وقد سجلت عليه كل صغيرة وكل كبيرة! لذلك الإنسان المؤمن يعتصم بالله سبحانه، فلا ملجأ ولا منجأ من الله إلا إليه، والإنسان مهما يحاول وحده لا يقدر على شيء إلا أن يعينه الله، فيتضرع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويتوسل إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكثر من ذكر الله، ويكثر من الاستغفار، فإن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، قال تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62].
قوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) (نستنسخ) إذا كان الإنسان قد وصل في النسخ إلى درجة من الدقة يستطيع أن ينسخ كتاباً من كتاب آخر تماماً، وإذا كان وصل بالكمبيوتر والإسكانر والنسخ واللصق إلى أنه ينسخ الكتاب بمثله تماماً، فكيف بملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى وهي تسجل على الإنسان كل صغيرة وكبيرة؟! وكيف بالله سبحانه إذا كتب عليك ما تعمله وما تصنعه، وما تريده، قال سبحانه، ((إِنَّا))، بنون العظمة، وتخيل عندما يعبر ربنا بذلك: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، فليس هناك شيء يفوت على الله سبحانه، ولا من صحف العباد يوم القيامة: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، فالملائكة تكتبه وتصعد به إلى ربها سبحانه، ويقولون: فعلوا كذا، وفعلوا كذا، والله أعلم بذلك من ملائكته ومن خلقه.(477/4)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
وعند ذلك ينقسم الناس إلى فريقين: أهل السعادة نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وأهل الشقاء ونستعيذ بالله أن نكون منهم، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30]، أي: آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، والإيمان هو التصديق واليقين، فيستيقن الإنسان بربه أنه الرب، وأنه الإله، فعمل الصالحات وتوجه له بالعبادة.
فالأجر والثواب لا يأتي ولا يجيء إلا على إيمان مع عمل صالح قال: ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ))، رحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فيدخل فيها من يشاء، {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:156 - 157]، صلوات الله وسلامه عليه.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}، وكم عبر ربنا سبحانه في كتابه عن هذا الفوز العظيم في يوم القيامة، بقوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119]، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16].
فهذا الفوز هو أعظم الفوز، وهو أعظم الفلاح، وهو النجاح الحقيقي، وهو الفوز البين، وهو الفوز الواضح الجلي، ((ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ)) الذي لا خسران بعده.
((وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)) فيقال لهم: ((أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ)) أي: أما قرئت عليكم آيات الله، أما كنتم تسمعون كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ((فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)) فاستكبرتم عن الحق، وابتعدتم عن الحق، وجادلتم بالباطل.
((وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)) فالإنسان المجرم هو: الذي يكتسب السيئات، ويكتسب المعاصي والكفر، فقيل لهم ذلك يوم القيامة، فهذا الجرم، وهذا اكتساب الذنب بالكفر، فيقولون: فلان جريمة أهله، يعني: كاسب أهله، فكأن معنى أجرم: كسب، أي: كسب كفراً وسيئات ومعاصي، فهؤلاء مجرمون أي: الذين اكتسبوا الكفر والسيئات والمعاصي: ((وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)).(477/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
فهؤلاء المجرمون إذا ذكروا بالله سبحانه، ((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: إذا قال لكم رسولكم، وهذا على البناء للمجهول، وفيها قراءتان: ((وَإِذَا قِيلَ)) الأولى: البناء للمجهول، وهي قراءة الجمهور ((وَإِذَا قِيلَ))، الثانية: (قُيل) يعني: للدلالة على أنه مبني للمجهول، فكأنه أتى بإشمام الضمة في أولها لبيان أن الفعل مبني للمجهول، وقرأ بهذه هشام والكسائي ورويس عن يعقوب.
((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا)) أي: إذا قال لكم المؤمنون، إذا قال لكم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: ((وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: ما وعدكم، وما ذكر لكم إن أنتم آمنتم دخلتم الجنة، وإن كفرتم دخلتم النار.
((وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا)) هذه فيها قراءتان: ((وَالسَّاعَةُ)) بالضم، وهي قراءة الجمهور، وكأنه معطوف على ما قبلها: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ))، إذا قيل: الساعة لا ريب فيها، فيكون عطف جملة على جملة، أو عطف على الحق الذي قبله، والقراءة الثانية: ((وَالسَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا))، كأنه عطف على اسم إن السابقة، وهذه قراءة حمزة.
((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)) وهذا الاستفهام منهم هو للإنكار، والبعد والنفور عما يدعوهم إليه الرسول عليه الصلاة والسلام.
((مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)) أي: لا نعرفها، فرد الكافر رد فاحش: ((قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)) أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهماً مرجوحاً، فنحن لا نعتقد فيما تقول، وإنما نتشكك في الكلام الذي تقوله: ((وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)) أي: بمتحققين.(477/6)
تفسير قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا)
قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33]، فهذه سيئات أعمالكم، وهذا كفركم، وهذه قبائح أعمالكم بدت الآن في صحفكم حتى تجزوا عليها: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الجاثية:33] أي: نزل نزول إحاطة وإهلاك، أي: أحاط بهم العذاب والنكال بما كانوا به يستهزئون، فهم قد استهزئوا بعذاب الله، فقد كانوا إذا قيل لهم: (شجرة الزقوم طعام الأثيم)، قالوا: الزقوم: التمر والزبد، فتعالوا نأكل ونتزقم!(477/7)
تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا)
قال تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:34]، فالناسي معذور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، لكن هؤلاء تعاملوا مع كتاب الله معاملة الناسي، فهم قد عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا الحق، لكن تغافلوا وتعاملوا معاملة كأنهم لا يعرفون، وجحدوا يوم الدين، وجحدوا يوم القيامة، فمشاكلة لما صنعتم تعاملون هذه المعاملة، أي: معاملة المنسيين، ولا ينسى ربك أحداً، ولكن يرميهم في نار جهنم مهملين كالمنسيين، فالله عز وجل لا يرد عليهم، ولا يكلمهم، وإنما يرميهم في نار جهنم ويعاملهم معاملة المنسي، والجزاء من جنس العمل، ففي الدنيا تناسيتم والآن نترككم منسيين في نار جهنم.
((وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ)) أي: منزلكم، ومثواكم، والمكان الذي تأوون إليه النار.
((وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ))، أي: لا أحد يدفع عنكم عذاب الله، ولا أحد ينصركم في هذا اليوم.(477/8)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً)
قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35] أي: إنما جازيتكم هذا الجزاء الصعب الشديد لأنكم اتخذتم آيات الله هزواً، واستهزأتم بكتاب الله، واستهزأتم برسول الله، فقد تكلمتم عنه بالكلام الفاحش البذيء، ورسمتم الصور عنه كذباً وزرواً، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:35].
و (هزواً) فيها قراءتان: الأولى قراءة حفص عن عاصم.
الثانية: القراءة بالهمزة ويقرأ بها بقية القراء (هزؤا) ما عدا حمزة فيسكن الهمزة (هزءاً) إذا وقف عليها.
قوله: ((وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) أي: غركم الباطل الذين كنتم تتعالون به في الدنيا، غركم ما كنتم تقولون من حرية التعبير، فالحرية عند هؤلاء الكفرة المجرمين أن يقولوا: حكم الشعب بالشعب، وليس حكم الله للخلق، فالله يحكم لا معقب لحكمه، فلما نسوا الله أنساهم أنفسهم.
((وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا))، فأخذوا ملاذها، وفتحت لهم أبوابها، حتى إذا جاءت كانت هذه نتيجتهم، وكانت هذه عقوبتهم، ((وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)).
{فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أي: لا يخرجون من النار، فلا يخرجهم أحد، ومن ذا الذي يقدر أن يخرج من أدخله الله عز وجل النار؟! وهذه قراءة الجمهور: ((لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا))، وقرأها حمزة والكسائي وخلف، (فاليوم لا يَخْرُجون منها) لا يستطيعون أن يخرجوا، ولا يقدر أحد أن يخرجهم منها: (ولا هم يستعتبون) (يستعتب) أصله من العتب، يقال: عتبت على فلان.
أي: غضبت على فلان، وصار في النفس شيء من هذا الإنسان، فلما أعتبه، أي: أطلب منه فأقول: أزل هذا العتب.
فهم في ذلك اليوم العظيم لا يطلب منهم إزالة العتب، ولا يطلب منهم إرضاء ربهم، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب، {لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، لا يطلب منهم أن يرضوا ربهم سبحانه في هذا اليوم.
ثم قال: (فلله الحمد)، الله مالك السماوات والأرض، خلق السماوات والأرض بالحق سبحانه، يحكم بين العباد بالحق، ينصف المظلوم من ظالمه، وينصر المستضعف من القوي الذي ظلمه، فلله الحمد أن قضى بين العباد، وأن فصل بين خصوماتهم، وأن أدخل المؤمنين الجنة، وأن انتصر من الكفار الذين استهزءوا بكتاب الله وبرسل الله عليهم الصلاة والسلام، فأدخلهم النار فلله الحمد على ذلك كله، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36].
رب كل شيء سبحانه، فهو الخالق لكل شيء سبحانه، ((رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ))، وما في ذلك كله، فهو رب كل عالم، ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و (العالمين) جمع عالم، فالله رب كل شيء.(477/9)
تفسير قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37] له الكبرياء سبحانه، يذكر الكبرياء والعز، يقول: العز إزاري، والكبرياء رداءي، فمن نازعني فيهما أدخلته النار، فالله وحده الذي له الكبرياء، والله وحده الذي له العزة، والله يحكم فلا أحد يقدر أن يرفض ما يحكم به الله عز وجل، وإن أظهروا بألسنتهم، فإذا حكم وقدر الله عز وجل فلا بد أن يكون ويمضي على ما أراده الله عز وجل، فلا يقدر إنسان أن يقول: أنا لا أريد المرض! {فَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، وليس المراد هنا أمره بالشيء {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، وإنما جعل الله أموراً شرعية العمل بها عباده، فأمر بالصلاة شرعاً لا أمراً، ولو كان الأمر كذلك لكان كل الخلق مسلمين مصلين، لكن جعل لهم اختياراً ومشيئة، فمن شاء أن يسلم فليسلم، ومن شاء ألا يسلم فلا يسلم، ومن شاء أن يؤدي الفرائض فليفعل، ومن شاء ألا يؤديها فلا يفعل، فإذا جاء أمر الأقدار في الاختيار، جاء القدر من الله عز وجل الذي يكون ويمضي على خلقه، فهو العزيز الغالب الذي لا يمانع إذا قضى وقدر سبحانه تبارك وتعالى.
وهو الحكيم الذي يحلم عن عباده لحكمة منه، ويعاجل بالعقوبة لحكمة منه، ويصبر عن عباده ويؤخر العقوبة لحكمه منه، ينزل الكتاب لحكمة منه، يختار من خلقه من يشاء بحكمه منه، فله الحكمة العظيمة البالغة.
((وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ)).
أي: له العظمة، وله الجلالة، وله البقاء، وله السلطان الدائم، وله الحكم سبحانه تبارك وتعالى، وله القدرة والكمال، {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن ينجينا من ناره، وأن يجعلنا من أهل جنته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(477/10)
تفسير سورة الأحقاف [1 - 5]
يخبر الله تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، فهو سبحانه لم يخلق السماوات والأرض على وجه العبث والباطل وإنما خلقهما لحكمة بالغة، فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، وأن من يعبد غيره ممن لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً فذلك دليل على الغباء الذي استولى على أفكارهم وعقولهم.(478/1)
مقدمة بين يدي تفسير سورة الأحقاف
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:1 - 5].
سورة الأحقاف هي السورة السادسة والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي السورة السابعة في عداد الحواميم بحسب ترتيب نزلوهن، وهن سبع سور من آل حاميم، أولهن غافر، ثم فصلت، ثم الشورى، ثم الزخرف، فالدخان فالجاثية، وهذه السورة سورة الأحقاف.
فهذه سبع سور كلهن بدأهن الله عز وجل بالحرفين: ((حم))، وهذه السورة في ترتيب نزولها في القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم السورة الخامسة والستون، وقد نزلت بعد الجاثية، ونزل بعدها الذاريات، هذا في ترتيب النزول، وأما في ترتيب المصحف فهي السادسة والأربعون.
وهي سورة مكية إلا آيتين منها، والآيتان هما قول الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف:10]، هذا الشاهد هو عبد الله بن سلام، وقد كان في المدينة، وكذلك قول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، قالوا: أيضاً نزلت في المدينة.
وبما أن هذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، ففيها إذاً خصائص السور المكية، ففيها التحدي للكفار بهذا القرآن العظيم، حيث بدأها عز وجل بقوله: ((حم)) [الأحقاف: 1]، ولذلك عقب بعدها: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:2]، وهذه السورة في ترتيبها بعد السورة التي سبقتها -وهي سورة الجاثية- مناسبة، فهناك مناسبة بين ختم سورة الجاثية وبداية هذه السورة، فختمت الجاثية بقول الله عز وجل: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:36 - 37]، وبدأ هذه السورة بقوله: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، فهو رب السماوات ورب الأرض، وهو الذي أنزل الكتاب من السماء إلى الأرض رحمة بعباده سبحانه وتعالى، وإقامة للحجة عليهم، فناسب آخر هذه السورة بدء هذه السورة.
إن الحروف المقطعة في أوائل السور هي من جنس الحروف العربية التي يتكلم بها العرب، والله عز وجل يتحداهم، ولذلك دائماً ما تجد في السورة التي يبدؤها بذكر الحروف المقطعة، مثل: {الم} [البقرة:1]، {الر} [يونس:1]، {كهيعص} [مريم:1]، وغير ذلك من السور تجد فيها إشارة بعد ذلك إلى هذا القرآن، سواء إشارة مباشرة بعدها، أو بعدها بآيات، فيذكر الإشارة إلى هذا القرآن، ففي سورة البقرة قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، وقال في آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، وهنا يقول: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، وقبلها في الحواميم كذلك: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت:1 - 3]، إلى غير ذلك مما يذكره الله عز وجل.
فالله عز وجل كأنه يقول: هذا القرآن من جنس الحروف التي تتكلمون بها فائتوا بمثله، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:13]، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.(478/2)
بعض خصائص سورة الأحقاف
من خصائص هذه السورة أنه سبحانه يشير فيها إلى إعجاز هذا القرآن العظيم، وأنه منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فيها الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله سبحانه، وأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد، فالذين يدعون من دون الله يعرفون أنهم جماد، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فمن الذي يستحق أن يعبد؟! هل يعبدون هذه الآلهة الباطلة وهي لا تملك لنفسها شيئاً، أم يعبدون الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل على عبده الكتاب بالحق؟! إذاً: فهنا استدل بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالألوهية، وأنه الخالق الرب الذي يخلق ويفعل ويصنع ويقدر سبحانه، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد.
وكذلك فيها إثبات جزاء الأعمال، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأجل مسمى، وبعد هذا الأجل يحاسب الناس على ما صنعوا وعلى ما قدموا في هذه الدنيا.
وكذلك فيها الإشارة إلى البعث بعد الموت.
إن هذه السورة سورة مكية نزلت على قوم كلهم مشركون يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فنزل القرآن يدعوهم إلى عبادة الله، وإلى أن يتفكروا ويعقلوا، وكأنه يقول لهم: انظروا ماذا في السماوات والأرض، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].
وفيها إثبات رسالة النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] أي: فشهد عبد الله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، وأن هؤلاء اليهود يكذبونه مع معرفتهم له عليه الصلاة والسلام.
وفيها أيضاً الثناء على المؤمنين الذين آمنوا بالله سبحانه، وذكر خصالهم الحميدة، وكيف أن الإنسان المؤمن يدعو ربه، فيعلمه الله عز وجل أن يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
وفيها أيضاً بيان الأخلاق الحميدة وخاصة في رعاية جانب الوالدين، ووصية الله عز وجل بالوالدين والإحسان إليهما قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى} [الأحقاف:15]، فذكر الله عز وجل ما يرقق به قلب الإنسان على والديه.
وكذلك في هذه السورة العظيمة يذكر بما حدث من الأمم السابقة من كفر بالله سبحانه وتعالى، وخاصة قوم عاد، وهم أصحاب الأحقاف، وكيف أهلكهم الله عز وجل بالريح العقيم التي أرسلها عليهم.
وكذلك هذا القرآن إن لم تؤمنوا به فغيركم يؤمن به، وقد استمع الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا إليه مسرعين، فاستمعوا إلى هذا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، قال تعالى حاكياً عنهم: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31]، فالجن بلغت وعملت ما عليها.
فالجن حين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم من سورة الرحمن مدحهم صلى الله عليه وسلم، فقال للصحابة وقد تلاها عليهم فسكتوا: (مالي أراكم سكوتاً! للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:16]، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)، فحمدوا ربهم، وأثبتوا أن الله عز وجل وحده الذي يفعل كل شيء وخير، وفضل، فهو الفعال لما يريد، ولا يكذبون بشيء من نعم الله سبحانه وتعالى.
وقد بدأ ربنا هذه السورة بقوله سبحانه: ((حم))، وكما ذكرنا قبل ذلك في الست السورة السابقة أن (الحاء) حرف، و (الميم) حرف، وكذلك كل ما كان في فواتح السور، ولذلك كان أبو جعفر إذا قرأها يقرأ (ح) ويسكت، (م) ويسكت، لبيان أن هذه ليست كلمة، وإنما ذا حرف وذا حرف، وكذلك إذا قرأ: {الم} [آل عمران:1]، {كهيعص} [مريم:1]، {حم} [الأحقاف:1]، {عسق} [الشورى:2]، {طه} [طه:1]، {يس} [يس:1]، لبيان أن هذه ليست أسماء وإنما هي حروف مقطعة، وذكرنا قبل ذلك أن الحاء تمد مداً طبيعياً حركتين، وأن الميم تمد مداً طويلاً ست حركات، والحاء أيضاً فيها قراءات كما ذكرنا قبل ذلك: فيها الإمالة، يقرؤها ابن ذكوان ويقرؤها شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف فيقرءون (حِ) بالإمالة ويقرؤها ورش وأبو عمرو بخلفه بالتقليل، يعني: بين الفتح وبين الإمالة، ويقرؤها باقي القراء (ح) بالفتح، ففيها ثلاث قراءات.(478/3)
تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
قال الله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، التنزيل كما بدأ في السورة السابقة في الجاثية: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2]، فيه بيان أن هذا القرآن نزل من السماء من عند رب العالمين، قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:2].
وقد تكررت كلمة التنزيل مع هذا القرآن، فقال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80]، وقال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} [السجدة:2]، وكونه نزل من السماء فيه إثبات العلو لله سبحانه وتعالى.
قوله: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ)) أي: الكتاب المعهود وهو هذا القرآن العظيم، ((مِنَ اللَّهِ)) يعني: ابتداء التنزيل من عنده سبحانه من فوق سماواته، فهو الله المألوه المعبود سبحانه وتعالى، وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له والله لفظ الجلالة.
قوله: (العزيز)، وهو من أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهو الغالب القوي القادر الذي لا يمانع، فنقول هنا: إن العزيز هو القادر، ولكن نقول: هناك فرق بين الاسمين، فإن عزة الله عز وجل تمنع أن يمانعه أحد وأن يتحداه أحد، فإذا رفع إنسان رأسه بالتحدي أسقطه الله وأذله سبحانه وتعالى بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فالله عز وجل هو العزيز الغالب، فإذا قضى أمراً فلا بد وأن يكون ما قضاه وقدره سبحانه وتعالى.
قوله: (الحكيم) أي: الذي له الحكمة العظيمة، فقد يفعل الإنسان من الشر ما يفعل، ويحلم عليه لحكمة؛ لأنه يعلم أنه يتوب في يوم من الأيام ويرجع إلى الله، أو يعلم سيزيد فيمهله ليأخذه وينتقم منه ويجعله عبرة للخلق، فله سبحانه الحكمة العظيمة البالغة، فهو الحكيم.(478/4)
تفسير قوله تعالى: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)
قال الله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] أي: أن الله خلق السماوات وخلق جميع الخلق متلبساً بالحق، وخلقها ليحق الحق ويري عباده قدرته سبحانه، وأنه الإله الحق وحده لا شريك له.
قوله: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: كذلك خلق الأرض بالحق سبحانه، وأنزل فيها الكتاب وأنزل الميزان، فعلم العباد كيف يصنعون بهذا الميزان، وأنزل الشريعة ليحكم بينهم بالعدل، وأرسل فيهم الرسل ليعلمهم ذلك، فعرف العباد العدل وعرفوا الحق، فما ضلوا وأضلوا إلا بعدما عرفهم الله سبحانه وتعالى الحق، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، فالله ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق سبحانه.
قوله: ((وَأَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: خلق السماوات وخلق الأرض لأجل مسمى، فإذا جاء الأجل الذي قدره الله سبحانه وتعالى، إذا بالكواكب والنجوم والشمس والقمر كل هذه الأشياء تهوي، وإذا بالسماء تنكشف وتزول، {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]، وكذلك إذا بهذه الأرض والجبال التي فيها {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] أي: أن كل شيء له قدر مقدور، وله وقت معلوم عند الله سبحانه، فإذا جاء ذلك الوقت إزاله وأفناه من مكانه سبحانه.
قال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)) أي: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بالحق، وعلم العباد ما هو الحق، وجعل لهم أجلاً محدوداً وعمراً معدوداً لن يتجاوزه أحد، وفي النهاية يرجعون إلى الله سبحانه، ولكن الكفار يكذبون، ومع ذلك هم لا يضرون الله شيئاً وإنما يضرون أنفسهم.
فقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)) يعني: عن الذي أنذروا به، فقد أنذرهم الله عز وجل بالساعة، وأنذرهم بالحساب وبالجزاء وبالعقاب بالنار، فهم معرضون عن هذا كله، متشاغلون بالدنيا، مستهزئون بما جاءهم من عند ربهم، مدبرون لاهون غير مستعدين ليوم الحساب.(478/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني)
قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4].
قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ)) كلمة ((أَرَأَيْتُمْ)) في كل القرآن فيها أربع قراءات: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ))، وهي قراءة نافع وأبي جعفر ويقرؤها الأزرق بالمد الطويل: ((قُلْ أَرآيْتُمْ))، ويقرؤها الكسائي: ((قُلْ أَرَيْتُمْ)).
وقوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ))، أي: هذه الأصنام التي تدعونها وتزعمون أنها تستحق عبادتكم ما الذي خلقته؟ أروني ماذا تصنع هذه الأصنام؟ وماذا تخلق هذه الأصنام؟ فالمشركون قبل غيرهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر.
قوله: ((أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)) أي: هل لهم شرك في السماوات؟ وهل أطلعتكم الأصنام أنها شاركت في خلق الشمس وفي خلق القمر وخلق السماوات؟ فالكافر سيجيب: لا، ما حصل هذا الشيء، إذاً: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))، وهنا إما أنك تقرأ: ((مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِْتُونِي بِكِتَابٍ))، فإذا وصلت قرأت الهمزة هنا إلا في قراءة ورش وخلف لـ أبي عمرو، وإذا وقف عليها حمزة فإنه يقرؤها بالياء، فهنا ورش يقرؤها: ((أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ)) يصلها هكذا، لكن باقي القراء إذا وصلوا: ((أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي))، فيقرءون بالهمزة، وإذا وقفوا وبدءوا منها فجميع القراء يبدءونها بالألف التي بعدها ياء (ايتوني)، فالألف مكسورة بعدها ياء، فهذه ألف وصل.
إذاً: فليس هناك أحد قرأها في الابتداء فيقول: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ))، بل كل القراء إذا بدءوا في هذه وأمثالها فإنهم يقرءونها: {اِيْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4].
فهنا يعلم ربنا سبحانه المسلمين الاستدلال الصحيح، فالاستدلال إما أن يكون استدلالاً عقلياً، وإما أن يكون استدلالاً نقلياً، فالاستدلال العقلي أم تعمل قلبك وعقلك في هذا الكون لتستدل، وأما الاستدلال النقلي السمعي فهو الكتاب والسنة، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يذكر لهؤلاء خلق السماوات والأرض، وهذا هو الاستدلال العقلي، فكأنه يقول لهم: هل هذه الأصنام التي تعبدونها من دون هل لها شرك في هذه السماوات؟ وهل تخلق شيئاً؟ وهل هي تقدر أن تطلع في السماء وتخلق شيئاً من النجوم أو غيرها؟ فهذا دليل عقلي.
ثم قال: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)) أي: هاتوا كتاباً سابقاً نزل على رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام، يكون قد أخبر بهذا الذي تقولونه، أو ائتوني بكلام صحيح لرسول من الرسل من قبلكم يقولون ذلك.
إذاً: فقد جمع الاستدلال كله في ذلك، الاستدلال العقلي والاستدلال النقلي، فالاستدلال العقلي يكون بالتفكر في الأشياء العقلية التي يعمل فيها العقل، والاستدلال النقلي يكون بالكتاب وبالسنة.
قوله: (إن كنتم صادقين) أي: لو كنتم صادقين فيما تدعون فائتوا بهذا الشيء الذي تقولونه، لكن لكونهم كاذبين فلا يقدرون أن يقولوا: إن هذه الأصنام تنفع وتضر مع الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لما كان صلى الله عليه وسلم يرسل سراياه لهدم الأصنام كان البعض من المشركين يتخيل أن الأصنام ستنتصر وستنتقم لنفسها؛ فلذلك كانوا يتفرجون على الصحابة الذين يهدمونها لعلها تنتصر لنفسها، فكان عندهم حلم بهذا الشيء، فيجدون الأصنام تتكسر أمامهم ولا تصنع شيئاً، فيضحك منهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لغبائهم واعتقادهم أن هذه الأصنام تنفع أو تضر، أو أنها ترد على من يكسرها.(478/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له)
قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] أي: من أشد ضلالاً وأبعد في التيه وفي الغباء ((مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أي: لو بقي الشخص جالساً أمام الصنم إلى يوم القيامة فلن يرد عليه، فمن أغبى من هذا الإنسان الذي يدعو صنماً من دون الله: يا هبل! اعملي لي كذا، يا لات اعملي لي كذا، يا عزى اعملي لي كذا!، وهو يعلم أنها لا تنفع ولا تضر، وكم رأى هؤلاء المشركون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفعالاً بهذه الأصنام، ففي المدينة كان البعض منهم في وقت كفره يعبد صنماً من دون الله عز وجل، فيأتي إليه ابنه وقد أسلم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه فيلطخ هذا الصنم بالعذرة، فيجيء الأب فيراه ويتعجب ويقول: من الذي عمل هذا في المعبود الذي أعبده؟ وينظف الصنم ويرجعه إلى مكانه مرة ثانية، فيأتي الابن ويصنع به مثل ما صنع به في المرة الأولى، إلى أن تكرر هذا الفعل أكثر من ثلاث مرات، فقام الأب المشرك فأعطى الصنم سيفه وقال: دافع عن نفسك! دافع عن نفسك! فيجيء الابن فيأخذ الصنم فيرميه منكساً في الخلاء بين العذرات، فيجيء الرجل فينظر إلى هذا الصنم ويعلم أنه لا ينفع ولا يضر فيقول له: إن العنزة لتدفع عن نفسها، وأنت لم تدفع عن نفسك شيئاً، لو كنت إلهاً لم تكن في هذا الذل الذي أنت فيه، فتركه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فهذا كان تفكيرهم، وهكذا كانت عقولهم، فقد وصلت بهم إلى أن يعطي للصنم سيفاً، فأين عقله الذي عنده؟! ولما دخل في الإسلام كان يضحك على نفسه، ويقول: أنا كنت أعطي السيف للصنم من أجل أن يدافع عن نفسه؛ ولذلك يذكر الله عز وجل هؤلاء المشركين بمثال يدل على غبائهم، وكيف أنهم يعبدون هذه الآلهة من دون الله! قال تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14]، فهل ذا فعل عاقل؟ لو قام واحد إلى النهر ووقف وقال له: تعال يا ماء أنا عطشان وظل يناديه إلى أن تقوم القيامة، فلن يستجيب له الماء، ولن يأتي إلى فمه، فليس عاقلاً من يصنع ذلك، وكذلك الذي يزعم أن الصنم ينفع من دون الله ويضر، ويعبد الصنم، ويدعوا الصنم ويذبح للصنم، ويتقرب إليه.
وهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فكيف تدعو صنماً من دون الله عز وجل؟ وكذلك كل من دعا شيئاً من دون الله عز وجل، كأن يذهب إلى أموات قد ماتوا وذهبوا إلى ربهم سبحانه، سواء كانوا صالحين أو كانوا غير ذلك، ويدعوهم من دون الله: يا سيدي فلان! اعمل لي كذا، والله عز وجل يقول: ((أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)) أي: تعبد أمواتاً غير أحياء، ((وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ))، فالميت في قبره سواء كان هذا الميت نبياً أو ولياً أو رسولاً، هذا الميت لا يعرف متى تقوم الساعة، فقد دخل قبره وانتهى أمر الدنيا وأمر التكليف، وهو الآن في انتظار الساعة وهو في قبره، فلما يخبر الله عز وجل عن الأصنام هذه، يقول: هي مثل هذه الأموات، {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:21 - 22] أي: الله عز وجل لا إله إلا هو سبحانه.
وقال سبحانه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(478/7)
تفسير سورة الأحقاف [5 - 9]
إنَّ الذين يتخذون من دون الله أنداداً يعبدونها هم أشدُّ الناس ضلالاً؛ لأنهم يدعون من دون من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، بل سوف يتبرأ كل معبودٍ ممن عبده يوم الحشر، ومع ظهور الآيات البينة والبراهين الساطعة على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن القرآن كلام الله، تجد الكافرين يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كتاب الله الأقاويل.(479/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:5 - 9].
في هذه الآيات يتعجب الله تعالى ممَّن يعبدون غير الله سبحانه وتعالى وهم يعرفون أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر، فقوله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ)) سؤال تعجبٍ من أمر هؤلاء، والجواب على ذلك أنه لا أحد أضل من هؤلاء.
وقوله: ((يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: يدعو آلهة غير الله سبحانه، وهذه الآلهة لا تستجيب له حتى ولو دعاهم من هذا الوقت إلى يوم القيامة، فلو أنه من الآن إلى يوم القيامة جلس أمام هذا الصنم أو أمام هذا الوثن أو أمام هذا الذي يدعوه من دون الله ظل يدعوه ويطلب منه فلن يستجيب له أبداً، فليس هناك أضل من الذي لا يفكر ولا يعقل ما يصنع.
وقوله تعالى: ((وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) يعني: هذه الآلهة غافلة، فهي جمادات، فعبدوا أصناماً وأحجاراً وشمساً وقمراً وأشجاراً، وعبدوا غير ذلك من الأشياء وهي غافلة لا تعي ما يقول هؤلاء ولا ما يصنعون.(479/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء)
قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، قوله: ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ)) أي: إذا جمع الناس ليوم الحشر كانت هذه الآلهة أعداء لهؤلاء، فيجعل الله فيها أفهاماً وعقولاً وألسنة تنطق وتكذب هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله وتتبرأ منهم، وكذلك كل من عُبِد من دون الله سبحانه وتعالى، حتى وإن أراد هذه العبادة إنسان، وجعل نفسه على الناس ملكاً وزعم لهم أنه إله كما ادعى فرعون وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فإذا جاء يوم القيامة هؤلاء مع أتباعهم، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:166 - 167]، إذاً: في يوم القيامة المتبوعون يتبرءون من أتباعهم، والكبراء يتبرءون من الصغار الذين مشوا وساروا وراءهم وطلبوا نوالهم في الدنيا، فإذا بهم يوم القيامة يتبرءون منهم ويقولون لهؤلاء: تبرأنا منكم، كذلك الشيطان، قال الله تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] أي: لا أريدكم ولا أغيثكم، ولا أنا أجيركم ولا أنتم تجيرونني {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، كنتم تعبدونني من دون الله وأنا كافر بهذه العبادة {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
فهذا الشيطان الذي خدع الإنسان في الدنيا يتبرأ من الإنسان يوم القيامة، ويقول: أنا كافر بعبادتك لي، فالشيطان يقول ذلك للإنسان، والإنسان يعبد الشيطان في الدنيا مع تحذير الله عز وجل للعباد من الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال الله سبحانه: ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا))، هذه الآلهة وهذه الشياطين ((لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ))، والشيطان يقول: ((إِنِّي كَفَرْتُ)) أي: بهذه العبادة.
وكذلك كل الآلهة حين ينطقون يقولون: كفرنا بهذه العبادة التي عبدتمونا بها، أي: جحدنا وأنكرنا ذلك فلا نستحق نحن العبادة، فأنتم الذين عبدتمونا ونحن نبرأ من هذه العبادة.(479/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال الله عز وجل عن هؤلاء الكفار: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:7] أي: أن الكافر يخلط ولا يعرف كيف يرد على النبي صلى الله عليه وسلم فيتكلم بالكلام الواهي فيقول: ((هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) يعني: هذا سحر بيَّن جلي واضح تماماً، وهو كاذب فيما يقول، ومن حوله يعرفون ذلك، فقد كان المشركون يجتمعون في دار ندوتهم ليتفقوا على شيءٍ يقولونه في النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول: مجنون، فيقولون: هو من أعقل الناس كيف نقول عنه مجنون؟! ومنهم من يقول عنه: كذاب، فيقولون: كيف ذلك ونحن الذين نسميه الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام؟! وكيف ندعي عليه الكذب الآن؟ ويقولون: نقول عنه: ساحر، فيقولون: لقد نظرنا السحرة ونظرنا الكهنة فلم نجد فيه شيءٌ من ذلك، فكلٌ يدلي برأيه ويكذب بعضهم بعضاً، فيقولون عن القرآن: سحر مبين، وهم يعرفون في أنفسهم أنهم كذابون.(479/4)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)
قال الله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس:38] أم: إضرابية مقدرة ببل والهمزة، وتسمى المنقطعة، قال تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، فكيف افترى هذا القرآن؟ ولو سألنا هؤلاء الكفار هل تقدرون أن تأتوا بمثله؟ لقالوا: لا، لا نقدر أن نأتي بمثله، إذاً: فهذا القرآن معجز؟ سيقولون: نعم هو معجز، ولا نقدر أن نأتي بمثله طالما أنه معجز، إذاً: فالذي أتى بهذا القرآن أتى بمعجزة، ولا يملك شيئاً من هذه المعجزة، إنما هذه المعجزة من الله، وإنما هو رسول من رب العالمين، وليس هو الذي أتى بهذا الشيء من عنده، ولكنه من عند رب العالمين سبحانه، فلم لا تصدقون ذلك؟ فقوله تعالى: ((قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) أي: لا تملكون لي شيئاً لو كنت أكذب على الله، وكانوا يريدون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73] أي: نريدك أن تفتري بأي شيء تقوله في هذا القرآن فتشكر آلهتنا، ولو اتبعتهم على هذا يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، ولو تابعتهم على ما هم فيه: {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75].
فلو أنت فعلت ذلك وأطعت هؤلاء في بعض ما يطلبونه منك لأذقناك العذاب في الدنيا ضعفين، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه، وفي الآخرة ضعف العذاب لو أنك اتبعتهم في شيء بسيط مما يريدونه.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [يونس:38]، وإذا كان الله عز وجل في مقام التبليغ وفي مقام التوحيد، وفي مقام إبلاغ رسالته إلى العالمين سبحانه يهدد ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يميل إلى أهوائهم فإنه يقول: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء:113] أي: لا يضرونك طالما أنت معتصم بالله عز وجل، ولا يضرون إلا أنفسهم، فاحذر أن تتبعهم وقد عصمناك منهم، وحفظناك ودافعنا عنك، وإلا فلن تملك لنفسك منا شيئاً، وهم لا يملكون لك من الله شيئاً.
وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ} [يونس:38]، أي: الذي تخوضون وتندفعون فيه من كلام باطل.
وقوله: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف:8]، يشهد علي ويشهد عليكم، قال تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد:43] أي: لا أحتاج إلى أحد من البشر أن يشهد لي بأني بلغت، تكفيني شهادة رب العالمين سبحانه، فالشهيد يراقبني ويراقبكم، ثم يحكم بيني وبينكم يوم القيامة، قال تعالى: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))، ففضل الله عظيم سبحانه، فالمقام هنا مقام تهديد ووعيد ومع ذلك يختم سبحانه بآية الرحمة ويقول: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) أي: لو تبتم إلى الله ودخلتم في دينه لغفر لكم ورحمكم، والغفور مشتق من الغفر، والغفر: الستر، يعني: أن الله يستر ذنوبكم، ويمحوها ويغفرها بفضله وكرمه سبحانه، وهو الرحيم، قال تعالى: {وكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
فرحمته سبحانه لمن مات على التوحيد، ولمن دخل في دين الله عز وجل وأسلم نفسه ووجهه لله.(479/5)
تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل)
ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أنا أول رسول، بل قبلي أنبياء ورسل كثيرون جاءوا إلى قومهم، فلست بالشيء الجديد.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، هذه السورة سورة مكية وفي هذا الوقت قال له ربه سبحانه: قل لهم ذلك: أنني لا أعلم أقدار الله سبحانه، ولا أعلم ما الذي يصنع بي أو بكم على التفصيل، ولكن الله عز وجل قد أرسلني لأبلغ رسالته، فلا أدري ما يفعل بي ولا بكم بعد ذلك.
إذاً: ففي هذه الحياة الدنيا أنا لا أدري ما الذي يفعل بي ولا بكم على وجه التفصيل، وأما إجمالاً فقد بين له ربه سبحانه فقال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2]، وبين ما يفعل بالمؤمنين فقال: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5].
وبين سورة الأحقاف وسورة الفتح سنون طويلة في نزولهما، فسورة الفتح نزلت في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست للهجرة في ذي القعدة، وقال له سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، إذاً: فقد نزلت في الأعوام المدنية سنة ست وهو راجع من الحديبية، فنزل عليه هذا القرآن العظيم ليخبره بما يكون يوم القيامة، إذاً: فهو في هذه الحالة وهو في مكة كان يعرف يقيناً أن المؤمنين في الجنة، ويعرف أنه صلى الله عليه وسلم سيكون في الجنة، لكن التفصيل في ذلك قبل دخول الجنة: هل سيحاسب النبي صلى الله عليه وسلم حساباً شديداً؟ وكيف سيحاسب المؤمنون؟ من هو سابق، ومنهم من هو لاحق بعد ذلك، ومنهم من يستحق النار؛ فهذا كله لا يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يعرف إجمالاً أن المؤمنين في الجنة، ثم أخبره الله عز وجل عن بعض الناس: أن فلاناً في الجنة، وفلاناً في الجنة، فأخبر عن عشرة من أصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم وبشرهم بأنهم في الجنة.
إذاً: فالمعرفة التفصيلية لم يكن يعرفها صلى الله عليه وسلم، ولكنه عرف الجنة ودعا إليها إجمالاً.
وقال له ربه: قل {مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] أي: أنا لا أعلم الغيب، قال تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، وهذه الآيات دفعت الكفار إلى العناد واليهود يعينونهم على ذلك، فالكفار واليهود يقولون: إن الرجل لا يعرف ما يصنع به ولا بكم، كيف تتبعونه إذا كان لا يعرف ما يفعل به ولا بكم؟! فلا تتبعوه، فهذا مما دفعهم إلى أن يبتعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن لا يجامل أحداً، حتى ولو كان الأمر في هؤلاء أنهم يبتعدون، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر من البشر لا يعلم الغيب، إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى.
وفي صحيح البخاري حديث يتناسب مع هذه الآية وهو حديث أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها تقول: (اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان بن مظعون في السكنى، فأنزلناه أبياتنا فتوفي).
فالأنصار هم أهل الدار والإيمان رضي الله عن الجميع، فاقتسموا هؤلاء المهاجرين، فقالت: (طار لنا في السكنى)، أي: صار من نصيبهم الحسن هذا الرجل الفاضل العظيم عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، حيث نزل عندهم.
تقول رضي الله عنها: (فتوفي)، وهذا الرجل كان رجلاً مؤمناً صادق الإيمان، صالحاً زاهداً رضي الله عنه، وقد صفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح، وبأنه خير سلف، وذلك لما ماتت ابنته صلوات الله وسلامه عليه قال: (الحقي بخير سلف عثمان بن مظعون)، رضي الله تعالى عنه، ووضع حجراً عند قبره علامة، وقال: (أدفن إليه من مات من أهلي)، فالرجل له منزلة عظيمة.
فقالت أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها لما توفي: شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك، أي: أنا أشهد أن الله قد أكرمك، فأوقفها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو فتح هذا الباب فإن كل إنسان سيشهد لأي إنسان ميت ويدخل في أمور الغيب فقال لها النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وما يدريك أن الله قد أكرمه؟) يعني: أنت لم تطلعي على الغيب حتى تعلمين أن الله أكرمه، فأسكتها النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تفتح المجال للناس أن يتكلموا في الغيب.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله قد أكرمه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فمن؟) تعني: إذا لم يكرمه الله تعالى فمن يكرم إذاً؟ فهي تقول على وجه الظن: إن هذا الرجل صالح، فلا بد أن يكرمه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما هو فقد جاءه اليقين ومات على الإسلام، فنرجو له الخير، قال: وما رأينا إلا خيراً فوالله إني لأرجو له الجنة).
إذاً: يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نتكلم عن الغيب، ثم قال: (ووالله إني لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) وفي هذا الأمر حصل إشكال عند العلماء، فمنهم من ضعف هذا الحديث وقال: هو معارض للمعنى الذي جاء في القرآن، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره الله أنه في الجنة عليه الصلاة والسلام، ولكن الصواب: أن الحديث ثابتٌ في صحيح البخاري، فكيف يضعف وهو حديث صحيح الإسناده؟! فالصحيح أن معنى الحديث: (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) من تفاصيل أمور الدنيا: من قتال، أو انتصار على المشركين، أو ما يحصل له ولأصحابه، فأمور الغيب لا يدري بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول الله له: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188].
ثم بين له ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يكون من أنه صاحب الشفاعة يوم القيامة، وصاحب الحوض المورود، وصاحب المقام المحمود صلوات الله وسلامه عليه، وهو في أعلى الجنة عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن المؤمنين في الجنة على ما ذكر لنا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي للعلم على التفصيل وإثبات للإجمال في ذلك؛ لذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك تخوفوا مما يكون بعد ذلك، فلم يزك أحد أحداً حتى سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدفن ابنته يقول: (الحقي بخير سلف)، فعرفوا أن هذا الرجل رجل صالح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن له منزلة عند الله سبحانه وتعالى.
كذلك أم العلاء الأنصارية ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أنها رأت هذا الرجل في منامها وله عين جارية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا عمله، إذاً: فالرجل كان مجاهداً، وكان رجلاً صالحاً، وعمله مستديم بعدما مات، وعمله دائم الأجر عليه عند الله سبحانه وتعالى، فهذا مما جاء في قصة هذا الرجل الفاضل رضي الله عنه وقصة أم العلاء الأنصارية.
ولا تعارض بينه وبين الغيب، إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أي: في هذا الوقت من أمور الدنيا ومن أمور الآخرة على التفصيل، حتى فصلها له ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك بالوحي في الكتاب وفي السنن.
وقال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف:9]، إن هنا بمعنى: (ما) وهذا أسلوب قصر يعني: ما أتبع إلا ما يوحى إليه، ولا أجرؤ على شيء إلا بوحي من الله، فلا يتقدم ولا يتأخر إلا بما يأمره الله عز وجل به، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] أي: لا يتكلم من قبل نفسه، ولكن بوحي من عند الله سبحانه.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9]، وهذا قصر أيضاً، أي: وظيفتي في الدنيا هي النذارة والرسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين ليبشر وينذر ويخبر بما يريد الله سبحانه وتعالى، ويدعو الخلق إليه سبحانه، فهذه وظيفته في الدنيا، ولم يأت في الدنيا ليقول: أنا أعلم الغيب، بل قال لهؤلاء: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، لست بشيء جديد مخترع ولكني مثل غيري من الرسل، ووظيفتي هي البشارة للمؤمنين بالجنة، والنذارة للكافرين بعذاب رب العالمين، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى توحيده.
ومعنى قوله تعالى: ((مُبِينٌ)) أي: مفصح عما يريده الله سبحانه، مبين لكم أحكام دينه سبحانه وتعالى.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا متبعين للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا البدع والحوادث، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(479/6)
تفسير سورة الأحقاف الآية [10]
إن القرآن العظيم كتاب هداية للناس أجمعين، وهو موعظة وذكرى من الله لعباده، ولكن لا يتذكر إلا من وفقه الله جل وعلا، وقد شهد بصحته وبلاغته وإعجازه أرباب الفصاحة والبلاغة، وأذعنوا لعظمته، ولما جاء به صلى الله عليه وسلم كفر به من كفر من الجهال والكفار واليهود، وأما من عنده علم بالكتاب فقد شهد بصحته كعبد الله بن سلام رضي الله عنه.(480/1)
سبب نزول قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:10 - 12].
يقول الله سبحانه في هذه الآيات من سورة الأحقاف لهؤلاء الكفار: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) أي: إن كان هذا القرآن من عند الله سبحانه: ((وَكَفَرْتُمْ بِهِ)) أي: لم تصدقوا به، وجحدتم أنه من عند الله سبحانه، وافتريتم على النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء به من عنده، ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، قوله تعالى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) قالوا: هذه الآية من هذه السورة آية مدنية، وكانت في إسلام عبد الله بن سلام في المدينة في أول وصول النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، فقد شهد عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد ذكر الله عز وجل شهادته في كتابه بأنه شهد أن هذا القرآن حق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حق، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهذا الرجل العظيم عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان حبراً من أحبار اليهود، وعالماً من علمائهم، وقد عرف صفة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فذهب يختبر ويمتحن النبي صلى الله عليه وسلم فلما تأكد أسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.(480/2)
عبد الله بن سلام يحاجج اليهود ويرد عليهم
هذا هو عبد الله بن سلام الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو أول من رد على اليهود من اليهود رضي الله تبارك وتعالى عنه.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة رجل وامرأة منهم قد زنيا)، وكانوا قد بدلوا حكم التوراة في أن الزاني يرجم، فلما وجدوا أن أشرافهم يزنون قالوا: نلغي حكم التوراة ونأتي بحكم جديد، فقالوا: الذي يزني نركبه على حمار منكوس ووجهه إلى الوراء، ونطوف به بين الناس.
(فلما عرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق قالوا: نذهب إلى هذا الذي يقول إنه نبي، فإن حكم بذلك كان حجة لنا عند الله، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن فلاناً وفلانة قد زنيا فاحكم فيهما، قال: ما تجدون حكمهما عندكم في التوراة؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونركبهما على حمار منكوسين، قال: كذبتم، أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا ما نجده، قال: فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة وقرءوها، فلما أتوا على الموضع الذي فيه الرجم وضع القارئ يده عليها، فقرأ ما قبلها وما بعدها، -والنبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ لا عربياً ولا أعجمياً، فلا يقرأ التوراة بالسريانية ولا بالعربية- فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ارفع يدك واقرأ، فرفع يده فقرأها فإذا فيها الرجم).
فهؤلاء يكذبون على الله وكتاب الله بين أيديهم، أفلا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من البشر؟! فلما قرءوها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشهد أني أول من أقمت حكم التوراة فيهم) أي: أنهم ألغوا حكم التوراة، وأنا أول من أقمت حكم التوراة فيهم.
فكان عبد الله بن سلام رضي الله عنه هو الذي قال لهذا القارئ: (ارفع يدك، فقرأ فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن حكم الله عز وجل في الزاني والزانية إذا وقعا في هذه الجريمة هو الرجم، وبين القرآن وبينت سنة النبي صلى الله عليه وسلم الحد في ذلك.
إذاً: فقوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) أي: على مثل ما جئتم به، فشهد على هذا القرآن أنه من عند الله سبحانه، ((فَآمَنَ)) يعني: عبد الله بن سلام، ((وَاسْتَكْبَرْتُمْ)) أي: يا معشر اليهود، ويا معشر الكفار، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) أي: الذين يظلمون أنفسهم بالشرك بالله عز وجل، فيستحقون من الله عز جل العقاب، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(480/3)
قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه
في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي)، وعلى هذا فإما أن يكون إسلامه كان مبكراً أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أو أنه بلغه هذا الشيء متأخراً والله أعلم، لكن الأغلب يذكرون أن إسلامه كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين أو بثلاثة أعوام والله أعلم.
فهنا يذكر في هذه القصة أنه لما بلغه مقْدم النبي صلى الله عليه وسلم أتى فقال: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟).
وهذه الأشياء عرفها عبد الله بن سلام من كتابهم، وجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، لقد أخبرني بهن آنفاًَ جبريل قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة)، فقد كان عبد الله بن سلام رضي الله عنه على عقيدة اليهود، وقد كان اليهود يقولون: إن جبريل عدونا، ولكنه جلس يسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) يعني: تخرج نار عظيمة تقود الناس كلهم من مكانهم إلى بلاد أخرى، فتحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت)، وهذا شيء لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الجنة أمر غيبي لا يطلع عليه إلا الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، ومن أول داخليها.
قال: (وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله).
ففرق بينه وبين اليهود الذين ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نسألك عن خمسة أشياء، فلما أجابهم وعرفوا أنه نبي قالوا: (من وليك من الملائكة، قال: جبريل، قالوا: لو قلت ميكائيل لاتبعناك، ولكن جبريل عدونا فلا نتبعك)، وهذا من كفرهم وجحودهم وبهتهم وبهتانهم لعنة الله عليهم، فتركوا الحق الذي عرفوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن النظرة ليست إلى الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما النظرة إلى الذي جاء به وأنزله على محمد، فنسوا أن الله هو الذي أنزل هذا الكتاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول باعترافهم، ونظروا إلى السفير بين السماء والأرض، فهذا كفر اليهود لعنة الله عليهم! فـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه لم يكن مثلهم، وإنما سمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، ولكن ادعهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فاسألهم عني فدعاهم، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت) أي: اختبأ في البيت واليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟: فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله) أي: إن أسلم عبد الله أتسلمون مثله؟ (فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله رضي الله عنه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فقالوا: شرنا وابن شرنا)، فوصفوه بعكس ما قالوا أولاً، فهم قوم كذابون لا يستحيون أن يكذبوا في نفس الجلسة، فيقولون الشيء ويكذبونه بعد قليل.
وكذلك جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة في يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم)، أي: أنه صلى الله عليه وسلم عليهم دخل عليهم يدعوهم إلى الله سبحانه، (فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود! أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم).
ومعنى الحديث: أنه لو أسلم عشرة من اليهود لأسلم كل اليهود، ومع ذلك مات صلى الله عليه وسلم ولم يسلم عشرة من اليهود، وأسلم من النصارى الكثير وأما اليهود فلا، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فاليهودي مجرم كذاب، يكذب ويجحد الحق الذي يعرفه، فإذا كانوا فعلوا ذلك مع موسى عليه الصلاة والسلام فسيفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من باب أولى.
فقال لهم: (أروني اثني عشر رجلاً) أي: بعدد الاثني عشر الذين بعثهم الله عز وجل في بني إسرائيل، {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة:12]، قال: (أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم)، فقد غضب الله على اليهود ولعنهم وأعد لهم عذاباً عظيماً، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [المائدة:78 - 81] أي: وبما جاءهم من الحق، فلو كانوا يؤمنون بالله سبحانه، ويؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم لفتح الله عز وجل عليهم بركات من السماء والأرض، ولأطعمهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم جحدوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، فكان أن غضب الله سبحانه عليهم.
قال: (فأسكتوا) أي: ما أجابه أحد، أو فسكتوا ولم يجبه أحد منهم، قال: (ثم رد عليهم فلم يجبه أحد) يعني: ردد الكلام مرة ثانية، ثم مرة ثالثة فلم يجبه أحد.
فقال: (أبيتم؟) أي: أرفضتم أن تسلموا؟ (فوالله إني لأنا الحاشر) أي: آخر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، الذي يحشر الناس على قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فهو يسوق الناس ويدعوهم إلى دين الله عز وجل، قال: (إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى)، وكأن هذه الصفات كانت عندهم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد عرفوا ذلك وجحدوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (آمنتم أو كذبتم) يعني: أنا النبي صلى الله عليه وسلم سواء آمنتم أو كذبتم قال: (ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد! -صلوات الله وسلامه عليه-، قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟! قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب منك ولا أفقه منك)، وهذه شهادة من اليهود لـ عبد الله بن سلام، فهم يقولون: ما نعرف أحداً أفقه ولا أعلم منك في التوراة، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك.
فقال: (فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه قوله وقالوا فيه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم.
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وعبد الله بن سلام -يعني: عوف بن مالك وعبد الله بن سلام -، وأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10]).
فيكون الخطاب هنا لهؤلاء اليهود، أي: كفرتم بذلك، أو لليهود وللمشركين الذين كفروا قبل ذلك، وآمن هذا الرجل، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).(480/4)
البشارة لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة
روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد رضي الله عنه قال: (ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لـ عبد الله بن سلام)، مع أن سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، فكأنه يهضم نفسه ويذكر هذا الرجل رضي الله عنه، أو كأنه يذكر أنه ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يفرد أحداً أنه من أهل الجنة إلا هذا، وإلا فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عشرة مبشرين بالجنة، فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح) الحديث، رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، فهؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنة.
وأما عبد الله بن سلام فكأنه ذكره وحده صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في ذلك: أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه رأى رؤيا في المنام وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
ففي الصحيحين من حديث محمد بن سيرين عن قيس بن عبادة قال: كنا في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: فتبعته فقلت له: إنهم قالوا: كذا وكذا أي: أنك من أهل الجنة، فقال: سبحان الله! ما ينبغي لهم أو ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم.
وهذا من تواضعه رضي الله عنه، وإلا فقد عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولكن الإنسان المؤمن القوي الإيمان يخاف من مكر الله سبحانه، ويهضم نفسه حتى لو قيل له إنه في الجنة، فهو يقول لنفسه: ومتى يكون في الجنة؟ ألا يمكن أن يدخل النار أولاً ثم يخرج منها إلى الجنة؟ فالنهاية ستكون في الجنة، ولكن قبل ذلك لا يعرف ما الذي سيكون فهو يتهم نفسه دائماً.
فهذا الرجل الصالح رضي الله عنه لما قيل فيه ذلك قال: (سبحان الله! ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عموداً وضع في روضة خضراء فنصب فيها، وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف)، والمنصف: الوصيف، أي: أنه في المنام رأى روضة خضراء، -وهي: البستان العظيم- في أوسط هذه الروضة عمود، وفي أعلى العمود عروة، -والعروة هي الحلقة، أي: ما يتعلق بها، أو يشد بها الحبل- وفي أسفلهامنصف، (فقيل: ارق) أي: اصعد هذا العمود الذي في وسط هذه الروضة الخضراء، فقال: (فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى)، فهذا الذي بلغه رضي الله تبارك وتعالى عنه في ذلك: أنها رؤيا منام، وقصها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بهذا الشيء، فهو يقول: ما قال لي أنت في الجنة، وإنما قال: إنني سأموت على الإسلام، ومعلوم أن من يموت على الإسلام أنه متمسك بالعروة الوثقى، قال الله عز وجل: {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] أي: لا تنفصل أبداً عن طريق الله سبحانه، وما ينقطع عنها، بل تأخذه هذه العروة إلى جنة الله سبحانه.
فهذا جاء في هذا الحديث، لكنه يتواضع ويهضم نفسه، ويقول عن نفسه: إن الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم لي أنني أستمسك بالإسلام إلى أن أموت، وأما أني سأكون في الجنة أو في النار فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وقد جاء في حديث آخر رواه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة فأكل منها، ففضلت فضلة) أي: بقي في القصعة طعام، فقال صلى الله عليه وسلم: (يجيء رجل من هذا الفج من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة)، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولكن الله عز وجل يطلعه على ما شاء من الغيب، وقد كان سعد بن أبي وقاص ترك أخاه عمير بن أبي وقاص يتوضأ ويلحق به، فتمنى سعد أن عميراً يأتي، قال: (فقلت: -يعني: في نفسه- وعمير! قال: فجاء عبد الله بن سلام فأكلها).
فالإنسان قد يتمنى شيئاً ويكون الأمر على خلاف ما يتمناه ويريده، فـ سعد يتمنى أن يكون أخاه عمير ولكن الله أعلم من يستحق هذه البشارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحقها من لا يفتن بها، ويستحقها من لا يقول: أنا في الجنة.
ولذلك فالله عز وجل ذكر عبد الله بن سلام هنا ومدحه، فقال تعالى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)) أي: آمن هذا الرجل، فقوله: ((َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) أي: على مثل ما جئتم به، فشهد موسى على التوراة، ومحمد صلى الله عليه وسلم على هذا القرآن العظيم، وقد شهد هذا الرجل على أن التوراة كتاب موسى، وعلى أن هذا القرآن كتاب محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد شهد على هذا القرآن أنه حق، وأنه كتاب رب العالمين، وأن النبي حق صلوات الله وسلامه عليه.
((َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ)) هذا الرجل الفاضل، ((وَكَفَرْتُمْ)) أي: كفر الكفار واليهود، ولم يؤمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.(480/5)
تفسير سورة الأحقاف [10 - 11]
لقد شهد بعظمة هذا الدين وخيريته وعدالته وسماحته أهل الكتاب الذين أسلموا واستجابوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في الدين إلا من علم عظمته وخيره، أما المشركون المتكبرون المتغطرسون فقد شهدوا بالضد حيث قالوا: هذا دين يدخل فيه الفقراء، والمساكين، والسفلة من قطاع الطرق، واللصوص، فهو دين شر ليس فيه خير، ومن يضلل الله فلا هادي له من دونه أبداً.(481/1)
الشهادة بأن القرآن حق وعاقبة الظالمين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال عز وجل في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:10 - 12].
في هذه الآيات يذكر الله سبحانه لهؤلاء المشركين أن هذا القرآن هو كتاب الله عز وجل وقد نزل من عنده سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52] أيها المشركون! وكفرتم به يا أهل الكتاب! وشهد شاهد منكم يا أهل الكتاب على أن هذا القرآن هو من عند الله، فكتاب موسى مثل هذا القرآن، فهذا كتاب شريعة وهذا كتاب شريعة، فآمن بالتوراة وبهذا القرآن الذي جاء من عند الله.
ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52]، والخطاب هنا للمشركين, وقد نزلت هذه الآيات الآيات في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فهذه الآية الوحيدة مدنية، وباقي السورة كله مكي، كلها مكية، وقيل: آيتان من هذه السورة مدنيتان والباقي مكي.
فالذي شهد أن هذا القرآن من عند الله عز وجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان من أحبار اليهود كما قدمنا قبل ذلك، وقد شهد له اليهود بالعلم والتقدم، وشهدوا له ولأبيه ولجده من قبل ذلك، فلما علموا أنه أسلم كذبوا وجحدوا ما قالوه، وقالوا فيه وفي أبيه شراً، والله عز وجل يكذبهم ولا يقبل منهم، قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} [الأحقاف:10] هذا الشاهد وهو عبد الله بن سلام - {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] أيها اليهود، واستكبرتم أيها المشركون، بل بلغ الأمر أن المشركين كانوا يسألون اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أينا أهدى سبيلاً؟ فقال الذين كفروا من أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
فاليهود يعرفون الله سبحانه، ويعرفون موسى عليه الصلاة والسلام، ويعرفون التوحيد، ويعرفون أن هؤلاء المشركين يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان هذا جوابهم لما سألهم الكفار: أينا أهدى سبيلاً نحن الذين نعبد الأصنام أم النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي يوحد الله ويعبده؟ فإذا باليهود الكلاب الخنازير لعنة الله عليهم يقولون لهم: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
فانظر إلى هذا الكذب! فهم يعرفون أن هؤلاء أهل باطل، ولكن الكفر والجحود والاستكبار على دين الله عز وجل، والغرور بما هم فيه من الدنيا دفعهم إلى أن يلغوا عقولهم، ويكذبوا على الله وعلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقالوا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
بل ويحتالون كل الحيل فيقول بعضهم لبعض: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] أي: تعالوا وقولوا له في أول النهار: سنتبعك، وفي آخر النهار نرجع عن قولنا؛ لأجل أن يتزعزع المؤمنون في دينهم فيتركوه، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء أنهم مستكبرون قال: ((فَآمَنَ)) أي: عبد الله بن سلام ((وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، والمستكبر: هو الذي يعرف الحق ومع ذلك يرفض أنه يتبع هذا الحق؛ عناداً وكبراً وغروراً وفرحاً بما هو فيه، وخوفاً من أن تضيع منه الرياسة والملك، فهؤلاء استكبروا عن أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).
وأعظم الظلم الشرك بالله سبحانه، فإذا استكبر الإنسان على دين الله استحق أن يطبع الله ويختم على قلبه وسمعه وبصره، ويجعله لا يفهم ولا يعي ولا يتبع؛ حتى يكون من أهل النار في الآخرة والعياذ بالله! ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) أي: إن الله لا يهدي الذي يظلم نفسه ويظلم غيره، الذي يكفر بدين الله سبحانه ويقع في الظلم الأكبر، وكأن الظالم عقوبته في الدنيا أن يضله الله عز وجل، فإذا ظلم نفسه وظلم غيره استحق ذلك، ولما قال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) عممهم، فكل ظالم يستحق أن يطبع الله عز وجل عليه، وكل حسب ظلمه، فاحذر أن تكون ظالماً، فإن من عقوبة الظلمة أن يختم الله عز وجل على قلوبهم فيضلهم ولا يهديهم، ويمنع عنهم نوره سبحانه بظلمهم.
ولما عاقب الله الذين هادوا قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161].
فهؤلاء بشركهم بالله سبحانه ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، فاستحقوا عقوبة الله عز وجل، وكذلك كل ظالم يستحق من الله عز وجل أن يطمس على عينيه وبصيرته، وأن يطبع ويختم على قلبه، ويجعل عليه غشاوة إلا أن يرجع ويتوب إلى ربه سبحانه.(481/2)
وقوع الكافرين في قياس إبليس الباطل
قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11].
((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: عن الذين آمنوا، أو قالوا لهم مجادلين بالباطل، ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، إما أن الكفار يتكلم بعضهم لبعض، فيقولون عن الذين آمنوا: أهؤلاء يسلمون نحن لا؟ وكونه يسبق إلى ذلك فهو يسبق إلى الشر، فهذا لا يستحق خيراً لذلك دخل في هذا الدين، ولو كان هذا الدين خيراً لكنا نحن الأشراف قد دخلنا فيه، إذاً فهذا دين باطل، فهم قالوا هذا مغترين بما هم فيه، ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فقاسوا قياساً باطلاً كقياس الشيطان، والشيطان هو أول من قاس قياساً باطلاً، فقد نظر إلى آدم فوجده مخلوقاً من طين، وهو مخلوق من نار، والنار عنده أحسن من الطين، إذاً: فأنا أحسن من آدم، وهذا قياس الشيطان، فقد قاس نفسه على أصله في زعمه أن النار أفضل من الطين، إذاً فطالما النار أفضل من الطين، وأنا مخلوق من نار، وهو مخلوق من طين إذا فأنا أفضل منه فلن أسجد له، فرفض أمر الله عز وجل، ورفض أن يسجد لآدم لعنة الله على الشيطان.
وهؤلاء اتبعوه في ذلك، فقالوا بهذا الذي قاله فقالوا: نحن الأشرف والأفضل، وهؤلاء كونهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على أن ما جاء به محمد باطل، ولذلك لما كان باطلاً اتبعه هؤلاء الفقراء والمحتاجون، وأما نحن الكبراء فلا نتبع هذا الشيء؛ لأن هؤلاء ليسوا مثلنا فلا نكون مثلهم في اتباع هذا القرآن أو في اتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه.
فالأمر ينعكس على هؤلاء كما ينعكس على الشيطان، فيقال لهذا الشيطان لعنة الله عليه: أنت قلت: أنا مخلوق من نار، والنار خير من الطين، فمن أين أتيت لنا بالخيرية هنا؟! ومن قال لك هذا الشيء؟ لا بد أن يكون معك دليل على هذا الذي تقوله، فأنت قلته بزعمك أن النار شيء شريف، مع أن النار تفور وتغلي، والنار فيها تهور واندفاع، وفيها شرر وحمق، فإذا جاءت على شيء أكلته كله، والطين فيه رزانة وهدوء، ولذلك رجع آدم لطبيعته، ورجع الشيطان لطبيعته.
ولما غار الشيطان من آدم أصابه النفور والاستكبار حتى على ربه سبحانه، فرفض أن يطيع أمر الله، وآدم لما وقع في المعصية رجع إلى طبيعة الرزانة والهدوء، ورجع إلى الركون والتواضع وقال: أذنبت وأخطأت وعصيت الله سبحانه، رب اغفر لي! فطلب من ربه أن يتوب عليه، فنفع آدم أصله.
ولو فرضنا أن النار خير من الطين فالله عز وجل قد كرم آدم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فهذا خلق الله وهذا خلق الله، والله تعلى يكرم من يشاء سبحانه، فرفع هذا ووضع هذا سبحانه.
وكذلك هؤلاء المشركون ينقلب عليهم ما قالوه، فيقول المؤمن التقي: هؤلاء الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم السباقين والخيار، فأنا أتبع هؤلاء فيما فعلوه، والذين تأخروا وتقهقروا عنه كانوا أشراراً من الخلق، فأنا أحذر أن أكون معهم، فيعكسون على المشركين ما قالوا، فكل شر جرى وراءه المشركون، فتركوا الدين الحق وذهبوا إلى الشر وإلى الشرك والباطل، وكل خير سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلم يسبقهم أحد إلى خير أبداً، إذاً: فنجعلهم أئمتنا وقدوتنا فنقتدي بهم، ولا نحدث شيئاً خلاف ما فعلوه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فيقول الإنسان المؤمن: هؤلاء الصحابة بشهادة القرآن هم السابقون إلى كل خير، والكفار قالوا كذباً: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، إذاً: فقد أثبتوا أنهم سبقوا، ونقول نحن: هو الخير، فكل ما يسبق إليه الصحابة فهو الخير، ويلزمنا أن نتبعهم في ذلك، فإذا جاء صاحب بدعة قد ابتدعها قلنا له: لو كانت خيراً لسبقنا إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل فعلها الصحابة؟ فإذا قال: فعلوها، قلنا: هات الدليل على ذلك، فإذا قال: لم يفعلوها، قلنا: لست خيراً من الصحابة، فهم كانوا يسبقون -بشهادة القرآن- إلى كل خير.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف فكل من خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالشر فيما يبتدعه، ولذلك لما وجد بعض الأمراء أناساً يتكلمون في خلق القرآن العظيم، جاءه رجل من العلماء فقال له: دعني أناظر هذا الرجل، فالخليفة أتى بهذا الرجل المبتدع الذي يقول بخلق القرآن، وأتى بهذا الرجل الصالح العالم ليناظره، فالعالم قال: إما أن تسأل وإما أن أسأل، فقال هذا المخالف المستكبر: اسألني؟ فقال له: هذا القول الذي تقوله في خلق القرآن هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ وكانت هذه الفتنة فتنة عظيمة يمتحنون بها العلماء والناس من أجل أن يقولوا بهذا الشيء، ومن لم يقل بذلك ضربوه وسجنوه بل وقتلوه، فجاء هذا العالم ليسأل هذا الذي يقول بهذه البدعة.
فقال له: هذا الأمر الذي أنت تقوله وتدعو الناس إليه، هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ فقال له: فقال له: لم يعلمه، إذا كان لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فهل فضلك الله أنت عليه من أجل أن يعلمك هذا الذي قلته؟! فقال: لا، رجعت عن كلامي، قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له: هل علمه فتكلم به أم سكت عنه؟ فتحير؛ لأنه سيقول له: هات الدليل، هات الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس أمامه إلا أن يقول: بل سكت عنه، فقال: إذا وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه، أفلا يسعك أنت أن تسكت عنه؟! فبهت الرجل، فوقفت هذه البدعة بعد قول هذا الرجل، وسكت الأمراء عن امتحان الناس، وذلك بعدما ما امتحنوا العلماء ولم يثبت في هذه الفتنة سوى الإمام أحمد رحمه الله، وشاب من الشباب الذين كانوا معه رضي الله عن الجميع.
فالغرض أنه يقال لصاحب البدعة الذي يبتدع في الدين: إن الصحابة كانوا سباقين إلى الخير، فهل هذا من الخير الذي سبق إليه الصحابة؟ فإذا قال: نعم، قلنا له: هاتوا الآثار التي تدل على هذا الشيء، فإذا لم يأت بدليل إذاً فكلامه كذب، فهو يكذب على هؤلاء، وإذا قال: لا، لم يعرف الصحابة هذه البدعة التي يقولها، نقول: الخير في اتباع هؤلاء الذين ما عرفوا هذه البدعة.
وقد قام أحد الأمراء من بني أمية يخطب على المنبر للعيد قبل الصلاة، فإذا بـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يجذبه بيده، ويقول: لم يكن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد صلاة العشاء، قال: لم يكن الناس ليقعدوا إلينا، ولا يسمعوا لنا بعد صلاة العيد، فقال: ولو كان هذا الشيء.
والثاني يجذبه فقال: ذهب ما تعلم يا أبا سعيد، أي: الذي كنت تعرفه قد انتهى، فقال: والله ما أعلم خير مما لا أعلم، أي: ما أعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم خير مما لا أعلمه من بدع تحدثونها في الدين، فالإنسان الذي يريد الجنة هذه طريقه، وهي طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وطريق الخير الذي سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين قال الكفار فيهم: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا))، فنقلب ما قالوا ونقول: بل كل خير قد سبق إليه أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وصلوات الله وسلامه عليه.(481/3)
سبب نزول قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)
إن سبب نزول هذه الآية أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة، فأجاب، وذهب إلى قومه فدعاهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم فاستجابوا ودخلوا مع أبي ذر رضي الله عنه، ولما بلغ ذلك الكفار قالوا: غفار الحلفاء دخلوا في الدين؟! هؤلاء قطاع الطريق واللصوص يدخلون في الدين ونحن لم ندخل فيه، فلو كان خيراً لما دخل فيه هؤلاء، فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الزعم.
وهذه امرأة اسمها زنيرة مولاة لـ أبي بكر رضي الله عنه، كانت فقيرة ومسكينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعوها إلى الإسلام، فدخلت في دين الله عز وجل فعذبها أهلها، فاشتراها أبو بكر رضي الله عنه، وهذه واحدة ممن اشتراهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقهم لله عز وجل، فلما أسلمت هذه المرأة اشتراها أبو بكر وأعتقها، وعندما أسلمت عميت، ففرح الكفار وهللوا، وقالوا: أصابتها اللاة والعزى، فإذا بها تدعو ربها فيشفيها الله عز وجل، فبهت الكفار، فكان قولهم أن قالوا: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، وأثبت الله عز وجل عليهم ذلك، قالوا: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة هذه.
وكذلك هناك فريق آخر من الكفار وهم من بني عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع -وهؤلاء كانوا الكبراء من القبائل العالية من المشركين- وجدوا أقواماً كانوا يعتبرونهم سفلة من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة، فقالوا: إن هؤلاء الذين كانوا قطاع طريق، وكانوا لصوصاً أسلموا ونحن لم ندخل في هذا الدين، ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فكأنهم يقيسون شرف هذا الدين وعظمته على هؤلاء الذين اتبعوه، فإذا كان الذين اتبعوه أشرافاً كان هذا الدين شريفاً، وإذا كانوا وضعاء كان هذا الدين لا يستحق أن ندخل فيه.
فقالوا: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا فقال: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها)، فدعا لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا في الجاهلية أشراراً ولكن لما جاء الإسلام صاروا أخياراً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فدعا لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والبعض الآخر من المشركين وجدوا أن بلالاً وصهيباً وعماراً وغيرهم قد دخلوا في دين الله عز وجل، فقالوا: أهؤلاء الفقراء يدخلون في الدين ونحن لا ندخل؟! إذاً فهذا الدين ليس فيه خير، فقالوا: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فهذه المعارضة من الكفار نقلبها نحن المسلمين على هؤلاء ونقول: كل خير قد سبق إليه الصحابة، فلنتبع كل ما فعلوه اقتداءً به صلوات الله وسلامه عليه، ويقال أيضاً: لو كان ما أنتم عليه خيراً أيها المشركون ما تركنا هذا الذي أنتم عليه وذهبنا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما أنتم عليه فيه الشر كله، فلذلك لا نأتيه أبداً، إن الشرك لظلم عظيم.
قال سبحانه: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، وإذ لم يهتد بالدين هؤلاء الكفار فإنهم يرمون عليه كل الافتراءات ويقولون: هذا إفك قديم، وأساطير الأولين، وقصص قديمة كنا نسمعها من قبل، وهذه قصص أتى بها محمد صلوات الله وسلامه عليه، ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)) وأضلهم الله عز وجل، خرج منهم هذا الكلام الخائب الذي لا يعقل: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)).
قال الله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا} [يونس:39] أي: كذبوا بما جاءهم من عند الله عز وجل، وكما جاء في المثل: من جهل شيئاً عاداه، فالذي يجهل الشيء هو أول من يعاديه، فإذا علمه عرف أنه الحق، فالقرآن يقول: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)) أي: لما جهلوا هذا الدين إذا بهم يعادونه، كذلك قال سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]، فهذا القرآن العظيم هو كتاب رب العالمين وإن جحده هؤلاء المشركون، فقد آمن بعد ذلك البعض منهم، وأولادهم، ونظروا إلى أنفسهم وإلى آبائهم أنهم كانوا في ضلال مبين، وأنهم كانوا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: ((فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، بل هم الأفاكون الكذابون، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(481/4)
تفسير سورة الأحقاف [12 - 14]
يخبر الله عن كفار قريش أنهم من شدة عنادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستدلون بدخول الضعفة في دينه على أنه ليس ديناً حقاً، فلو كان هذا الدين من عند الله لما سبق إليه الضعفاء والمساكين كما يزعمون، ولكن الله يخبر أن هذا هو دين الهداية والإيمان، ولا يناله إلا من أراد الله هدايته، وعلم استقامته، ورأى أنه أهل لذلك، وقد وعد الله المهتدين المستقيمين على الدين بالهداية والبشرى في الدنيا والآخرة.(482/1)
تفسير قول الله عز وجل: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:11 - 14].
ذكر الله سبحانه وتعالى قول الكافرين للمؤمنين بسبب اتباعهم لكتاب الله عز وجل: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)) أي: أن هذا الدين ليس خيراً، ولو كان خيراً لكنا نحن الذين سبقناهم إليه.
فلما قالوا ذلك قال الله عز وجل عنهم: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)) أي: بهذا القرآن وبهذا الدين العظيم فسيفترون ويقولون: ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، فلأنهم لم يدخلوا في هذا الدين عادوه، وكما ذكرنا أن العادة في الإنسان أنه إذا جهل شيئاً عاداه، فكل من جهل شيئاً فلا يحب أن يوصف بأنه جاهل به فيعاديه.
وهؤلاء لم يحاولوا الاطلاع على هذا الدين، ولم يحاولوا أن يفهموه بقلوبهم وعقولهم وبصائرهم، ولكنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا بهم يعادونه ويقولون: سيأخذ منا ملكنا ورئاستنا، ويريد أن يكون هو المتبوع فينا، إذاً: لا نريد منه ذلك، فقالوا عما جاء به صلى الله عليه وسلم: هذا إفك، أي: كذب مفترىً مختلق، ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، أتي به من كلام السابقين الماضيين.(482/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً)
قال الله عز وجل: ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)) أي: من قبل هذا القرآن، فليس القرآن أول كتاب نزل من السماء، بل إن الكتب السماوية نزلت قبل ذلك، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، ولا هذا الدين بدعاً من الدين، فالدين عند الله الإسلام الذي جاءت به الرسل جميعهم عليهم الصلاة والسلام.
وكان قبل هذا القرآن كتاب موسى لبني إسرائيل أنزله الله على نبيهم موسى عليه السلام، والفرق بين موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما أن موسى أرسل لبني إسرائيل خاصة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الخلق عامة، وهذا فرق بينه وبين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ففضل صلى الله عليه وسلم على الجميع بأنه أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، وإلى الخلق جميعهم إلى قيام الساعة، ولا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه، حتى حين ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليقتل الدجال فإنه يحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكون تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى))، وهو كتاب شريعة.
وكثيراً ما يذكر الله سبحانه موسى وكتابه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ذكرنا أن بين موسى ومحمد عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كتاب عيسى ليس كتاب تشريع، وكتاب موسى عليه الصلاة والسلام كتاب تشريع.
ولذلك فإن المفترض أن يعمل النصارى بالكتابين: كتاب موسى وهو التوراة الذي يسمونه بالعهد القديم، فهو عندهم كتاب الشريعة، وكتاب عيسى وهو الإنجيل، وهو كتاب مواعظ وليس كتاب حكم.
وفي الكتابين البشارة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال المسيح عيسى فيما أثبت الله عز وجل في كتابه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فجاء عيسى صلوات الله وسلامه عليه ليصدق التوراة كتاب موسى السابق، ويبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من بعده.
وقوله تعالى: ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)) أي: إماماً يقتدى به، فجعل الله لبني إسرائيل كتاب التوراة نوراً وإماماً يتبعونه ويعملون بما فيه حتى يصلوا إلى رحمة الله عز وجل، فمن رحمة الله عز وجل أن أنزل الكتب من السماء شريعة للعباد؛ ليعرفوا منهج الله سبحانه ويتبعوه، فـ ((كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً))، وهذا القرآن العظيم: ((كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)).
((وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ))، إما مصدق للكتب السابقة أنها نزلت من عند رب العالمين، أو أنه (مصدق لساناً) أي: رسول ينطق باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه، فيصدقه فيما يقول أنه رسول ويثبت ذلك، فهو كتاب مصدق للكتب السابقة، ومصدق للنبي الأمي الذي يتكلم باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه، ((مُصَدِّقٌ لِسَانًا)) حال كونه لساناً عربياً، أو حال كون الرسول ينطق باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه.
إن هذا القرآن ينذر الله عز وجل به الظلمة الكفرة الذين ظلموا أنفسهم وأشركوا بالله سبحانه، ويبشر الله عز وجل به المحسنين الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى ابتغاء رضوانه ورحمته، واتقاء ناره وعذابه، ولهذا قال: ((وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ))، وهنا قرئت (لينذر) بالغيب وبالخطاب.
فقرأها (لتنذر): نافع، وأبو جعفر، والبزي عن ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب يقرءونها بتاء المخاطب، والمعنى: لتنذر يا محمد عليه الصلاة والسلام، وباقي القراء يقرءونها (لينذر)، والمعنى: أن هذا القرآن ينذر الله عز وجل به الظلمة الذين ظلموا، وأعظم الظلم: الشرك بالله سبحانه وتعالى، وأول الظلمة المشركون والكفار.
((وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)) أي: بشارة يبشرهم الله عز وجل بها، ويخبرهم بما يسرهم ويفرحهم وبما يغبطون عليه في مستقبلهم عند رب العالمين سبحانه، فإذا أحسنوا فلهم جنة الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.(482/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم)
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، تقدم في الشورى ذكر الله عز وجل نحو ذلك، وهنا يذكر أن الاستقامة هي الإيمان بالله والاستقامة على طريق الله سبحانه، فهؤلاء وحدوا الله سبحانه وتعالى، ((ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، وكأن هذا هو ترتيب من الله سبحانه فلا يكون العمل إلا بعد الإيمان، فيعمل المؤمن بما آمن به وصدقه وأيقن أنه حق، وفي هذا بيان أنه لا يقبل عمل أصلاً إلا بهذا الإيمان، فأول ما يبدأ به هو الإيمان والتوحيد، ومهما عمل العبد من عمل فهو غير مقبول إلا أن يكون معه أصل الأصول وهو الإيمان بالله سبحانه.
وقد جاءت (ثم) للتراخي، لتدل على أن هؤلاء آمنوا، فتعلموا، فعملوا واستقاموا على دين الله عز وجل، فكلما تعلموا شيئاً عملوا به، فكانوا مستقيمين على طريق الله سبحانه، ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ))، فهذا هو التوحيد والإيمان والتصديق.
فالكفار يقولون: الله هو الخالق، وهو الرازق، والذي نعبده من الأصنام والأوثان إنما ذلك لتقربنا إلى هذا الخالق، سبحانه وتعالى عما يشركون وعن ما يقولون علواً كبيراً.
والمؤمنون قالوا: إن الذي خلقنا والذي هدانا هو الذي يستحق أن نعبده سبحانه، ((قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)) على طريق الله، عابدين ربهم سبحانه، ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، والخوف دائماً يتعلق بالمستقبل، فقد يخاف المؤمنون أن يحصل لهم ما يكرهونه فالله يطمئنهم بأنهم سيدخلون الجنة خالدين فيها ولن يدخلوا النار، فالخوف دائماً يحصل مما سيأتي في المستقبل، والحزن يكون على شيء يحبه الإنسان قد فاته وضاع منه ولم يستطع الوصول إليه، فقال الله لهم: لا حزن على ماض ولا خوف من مستقبل، وطمأنهم الله عز وجل بأن حياتهم كلها في أمن وأمان، وفي جنة الخلود في دار السلام، ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) أي: ولا أي خوف.
والآية يقرؤها يعقوب هنا: (فلا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون)، ويقرؤها حمزة: (فلا خوفٌ عليهُم ولا هم يحزنون)، وباقي القراء يقرءونها: ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، والمعنى: لا تخافوا على ما سيحصل لكم فإنه لن يكون إلا كل خير، ولا تحزنوا على شيء يفوتكم أبداً.
فالجنة دار من يدخلها ينعم ولا يبأس أبداً، ويحيا ولا يموت أبداً، وينعم في دار الخلود بما يعطيه الله عز وجل من فضله ومن كرمه.
وكما ذكر الحث على الإيمان والاستقامة في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإنه قد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقد روى الإمام مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلامي قولاً لا أسأل عنه أحداً من بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا ما تضمنته هذه الآية، أي وحِّد ربك سبحانه وتعالى واعمل واستقم على طريق الله فلا تشرك به شيئاً، ولا تعصه، واعمل بما أمرك به، واستقم على شريعته فلا تزغ ولا تنحرف عنها.
وعنه رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي: قال: قلت: (يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به -أي: أتمسك به-، قال: قل: ربي الله ثم استقم قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟) والمعنى: إذا آمنت وأسلمت وسرت في طريق الله عز وجل فما الذي تخافه علي أثناء وجودي في هذه الدنيا؟ قال: (فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: هذا) يخاف عليه لسانه.
إن الإنسان المسلم إذا استقام على طريق الله سبحانه فليحذر من لسانه؛ فإنها هي التي تنحرف به عن طريق الله سبحانه وتعالى، فيقع في الشرك والمعاصي وفي آفات اللسان من غيبة ونميمة وكذب وبهتان وإفكٍ وافتراء.
وجاء أيضاً في حديث ثوبان عند ابن ماجة وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، (ولن تحصوا)، أي: اعملوا الخير الذي يمكن أن تعملوه ولا تقعدوا عن عمل الخير لأجل أن تبحثوا عن كل خير، فالذي تطيقونه قوموا به، وكلما قمتم بعمل جاء عمل خير آخر، ولن تقدروا على كل الأعمال الصالحة مرة واحدة، ولكن بحسب ما تطيقونه.
قال: (واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة)، وهذا من رأفة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، عليه الصلاة والسلام، فأحكام الدين وتكاليفه كثيرة ولا يمكن أن يعمل الإنسان كل خير وليأخذ ما يأتيه من خير، وليعمل به، قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وأفضل العمل الذي تتمسك به فيدلك على غيره هو الصلاة.
قوله: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) أي: الذي يحافظ على الوضوء لكي يحافظ على الصلاة، ولذلك جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان).
فإذا حافظ الإنسان على الوضوء والصلاة أزداد قرباً من الله، وكلما ازداد قرباً من الله دله الله عز وجل على الخير وفتح عليه أبوابه، وكان من المؤمنين الذين استقاموا على صراط الله، والذين {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21 - 22].(482/4)
تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها)
يقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:14]، وهي دار السلام، ودار رب العالمين سبحانه، وقد خلقها الله عز وجل للمؤمنين، وكل شيء ملكه ولكنه أكرم هؤلاء فجعلهم كأنهم أصحاب الجنة الحقيقيون، وكأنهم ملكوها.
((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ)) أي: لا يفنون أبداً، ولا يكتب عليهم الموت فيها، وذلك الجزاء من جنس عملهم الصالح، ((خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، فكل من يسمع مثل هذه الآيات ومثل هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن الجنة عظيمة، وأنها غالية عالية، قال صلى الله عليه وسلم: (الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
فعلى المؤمن أن يتصبر إذا خاض في الدنيا، ويمني نفسه بذلك اليوم الذي لا خوف بعده، فإذا فاته شيء في الدنيا أو أصابه قدر من الأقدار فعليه أن يمني نفسه بدخول الجنة غداً إن شاء الله، فهي لا خوف فيها ولا حزن، ولا كدر من أكدار الدنيا.
وهذا هو الذي يجعل الإنسان المؤمن يتصبر على الدنيا؛ فالجنة قريبة مهما عشنا في هذه الدار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين)، وهذه الستون أو السبعون سنة التي عاشها الإنسان لا تساوي شيء إذا قرنها بيوم من أيام يوم القيامة مقداره ألف سنة، قال الله تعالى: {إِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
فاليوم الواحد عند الله عز وجل كالعمر الذي تعيشه في الدنيا عشرون مرة، والجنة أعلى من ذلك وأعظم، فإذا منّى الإنسان نفسه بها فإنه سيتصبر على طاعة الله عز وجل، ويتصبر عن معصية الله عز وجل، ويصبر على قضاء الله وقدره، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
والمعنى: اصبر فإذا لم تستطع أن تصبر فصابر، والمصابرة فيها مفاعلة بأن يضغط على نفسه ويجرها إلى الصبر، كقولك: قتل فلان أي: انتهى من عملية القتل، وأما قاتل فإنه ما زال يحاول أن يقضي على خصمه فهو يتقاتل معه، وكذلك اصبر، ومنّي نفسك بالجنة حتى تصابر، قال تعالى: ((وَرَابِطُوا)) أي: اربط نفسك في طريق الله عز وجل على طاعته، فكأن النفس شرهة تتمنى الأماني وتريد اللعب واللهو فتحتاج إلى أن تربطها على طاعة الله، وعلى الجهاد في سبيل الله سبحانه.
قال الله تعالى: ((وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)) أي: واتقوا عذاب الله سبحانه، وأخلصوا له العمل، واتقوا الشرك به، {لََعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المفلحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(482/5)
(تفسير سورة الأحقاف الآية [15]) للشيخ: (أحمد حطيبة)
(عدد القراء 28)
عناصر الموضوع
1
تفسير قوله تعالى: (ووصينا(483/1)
تفسير سورة الأحقاف تابع الآية [15]
لقد أمرنا الله في غير ما موطن من القرآن الكريم بطاعة الوالدين، وحثنا على الإحسان إليهما، ومما يعظم من شأنهما أن الله أمر بالإحسان إليهما بعدما أمر بعبادته وعدم الإشراك به، وقد حثنا تبارك وتعالى أيضاً على أن ندعو لهما بالرحمة والمغفرة؛ حتى نرد بذلك شيئاً مما قدماه لنا.(484/1)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرهاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
ذكر الله سبحانه وتعالى هنا الوصية بالإحسان إلى الوالدين، وقد قدمنا ما فيها قبل ذلك، وأن الله سبحانه أمر بعبادته وثنىّ بشكر الوالدين، قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
فتعبد ربك سبحانه وتشكره، وتشكر لوالدين وتحسن إليهما؛ جزاء بما قدما لك.
قوله سبحانه: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) وهذا هو سن الكمال للإنسان الذي نشأ على الخير خلال هذه الفترة، ومن الصعب أن يتحول بعد ذلك إلا أن يشاء الله سبحانه، والذي نشأ على الشر حتى بلغ هذا العمر فإنه يظل على خصال الشر بعد ذلك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى؛ لذلك بعض الناس وهو شاب صغير يكون فيه طيش، ولكنه بعد ذلك يعقل ويراجع نفسه ويرجع إلى الله سبحانه، لكن الذي يكون في طيش حتى هذا السن وحتى يجاوزه فصعب أن يرجع إلى صوابه، وإذا رجع فإنك تجد فيه نفوراً وشراً إلا أن يشاء الله سبحانه.
ووصف الله عز وجل هذا السن بأنه سن الكمال الذي إذا بلغ الإنسان فيه على شيء فإنه يكمل على هذا الشيء الذي هو فيه، فالإنسان المؤمن التقي الذي نشأ على تقوى الله عز وجل، إذا وصل لهذا السن عليه أن يعد نفسه للموت.
والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يتجاوز ذلك)، فهو لم يقل: كل أمتي يبلغون إلى الستين أو السبعين، فمنهم من يموت وهو في بطن أمه، ومنهم من يموت وهو طفل صغير، ومنهم من يموت وهو شاب صغير، والله أعلم بما يبلغه عبده.
فعلى الإنسان أن يجهز نفسه دائماً للقاء الله سبحانه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الصلاة: (صل صلاة مودع)، فعليك أن تقف في الصلاة وكأن هذه آخر صلاة تصليها، فإذا فعلت ذلك أحسنت في هذه الصلاة، وإذا نمت فتتوقع أنه من الممكن ألا تقوم من نومتك، والنوم هو الموتة الصغرى، كما ذكر لنا ذلك الله سبحانه، وذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم.
فالإنسان حين ينام يقول: (باسمك اللهم وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فمن المتوقع أن ينام ولا يقوم، ولذلك يقول: إن أمسكت نفسي، فالله يتوفى الأنفس حين موتها، ويقبض هذه النفوس، فالقبضة الصغرى هي النوم.
ففي هذه الآية يذكر الله سبحانه: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً))، فهنا أصبحت قوة الإنسان مكتملة، وأصبح عقل الإنسان وتفكيره مكتملاً، فله خبرة ناضجة في الحياة في هذا السن، فيقوم بعد هذا كله يدعو ربه دعاء استعداد للرحيل، واستعداد للآخرة.
فالذي مضى من العمر هو أربعون سنة، ولو عاش الباقي فسيعيش نصف الماضي ويصل عمره إلى ستين سنة، ولعله لا يبلغ ذلك، فيجهز نفسه للقاء الله سبحانه بالعمل الصالح.
قال تعالى: ((قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ))، فقد عشت أربعين سنة، فأطعمني الله فيها وسقاني وكساني وآواني ورزقني وأعطاني ومنّ علي بكل خير سبحانه، فيقول: يا رب! أنعمت علي بنعم عظيمة، فأوزعني -أي: حثني وحرضني وادفعني وأعني- أن أشكرك، وكفني عن كل شيء إلا عن طاعتك وإلا عن شكرك.
وكما ذكرنا قبل ذلك أن النعمة هنا جنس، ولذلك لا تثنى ولا تجمع، فـ (نعمتك) معناها هنا كل النعم التي أنعم الله عز وجل عليك، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34] فأفردها؛ لأنها جنس، والمعنى نعم الله، وكذلك قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، فرحمة الله هذه جنس أيضاً، والمعنى رحمات الله العظيمة لعباده.
فيدعو العبد ربه: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ)) يعني: ما أنعمت علي من نعم، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي يشكر أهل الجنة ربهم سبحانه عليها، قال تعالى حاكياً عنهم أنهم يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43].
ويقول هنا: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ))، فأنعمت على والديّ أنهما أنجباني، وأنعمت عليهما بالحنان وبالرحمة وبالرزق، فربياني ونشآني على طاعتك، وأحسنا إلي وعلماني وهذباني وفعلا بي كل معروف.
قال: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: وأوزعني وحثني وادفعني وأعني على أن أعمل صالحاً ترضاه، فالإنسان مخلوق لعبادة الله، ولم يترك لك الخيار في أن تختار ما هو العمل الصالح الذي تريده أنت، فالعمل الصالح هو الذي يرضاه الله سبحانه، فتقول: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)).
فليس كل ما يختلقه الإنسان يكون شيئاً صالحاً، ولكن الصلاح يعرف بالمقياس الذي وضعه لنا ربنا وهو الكتاب والسنة، والعمل الصالح عمل يرضي الله سبحانه، وشرطه أن يكون مخلَصاً فيه، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]، فأمرنا الله عز وجل أن نخلص له في العبادة، وأن نتابع فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذان شرطان لقبول الأعمال.
فلم يقل: وأن أعمل صالحاً فقط، ولكن: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: تقبله، فأتقرب إليك بما تريده وبما تقبله.
وحتى تعمل العمل الصالح الذي يرضاه الله عز وجل لا بد من العلم، فكيف ستعرف أن هذا العمل يرضاه الله أو لا يرضاه الله عز وجل؟ فلا بد من العلم، فنعرف من الكتاب والسنة ما الذي يرضي الله عز وجل، فيعيش المؤمن بهذا العمل الصالح الذي يرضي به ربه سبحانه.(484/2)
صلاح الذرية خير للوالدين في الدنيا والآخرة
قال تعالى: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فهذه دعوة عظيمة جامعة، فقد دعا لنفسه، ودعا لوالديه، ودعا لذريته، وحمد الله وشكره على ما أنعم عليه.
وهي دعوة عظيمة ينبغي على كل مسلم أن يدعو بها، فصلاح الذرية أمر عظيم ينفع صاحبها، وصلاح ذريتك تنتفع بها في الدنيا وفي الآخرة، والولد الصالح قرة عين للوالدين في حياته وبعد مماته، ففي حياته ينتفع بصلاحه فلعل الولد يدعو دعوة لوالديه فيستجاب له فيها، والولد الصالح دائماً يدعو لوالديه: {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، والولد الصالح دائماً يعمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الولد من كسب أبيه)، فكلما عمل شيئاً أنت علمته إياه، أو أنت دللته عليه، أو هو تعلم هذا الشيء فإنك تؤجر أنت على هذا الشيء، فكان الولد الصالح مكسباً عظيماً لوالديه، فكلما عمل شيئاً أُجر الوالدين عليه.
وإذا مات هذا الولد واحتسبه الوالدان كان لهما الأجر العظيم عند الله، فيسبقهما إلى الجنة إذا كان صغيراً، ويأخذ بأيديهما إلى الجنة، ويجادل ويدافع عنهما أمام الله عز وجل يوم القيامة حتى يذهب بهما إلى الجنة، وإذا كان كبيراً شُفع في والديه، فشفع فيهما، فكان نفعاً عظيماً في الدنيا وفي الآخرة.
والكثير من الناس همه أن يكون الأولاد في مراكز محترمة، وأن يكونوا شيئاً كبيراً، ولعل هذا الذي يتمناه لهما يكون شرا عليهما، فبعض الناس يتمنى أن يكون ابنه وزيراً كبيراً، فيكون سارياً في ركاب الأشرار، ويضيع في النهاية ويكون من أهل النار، ولم ينتفع بذلك، ولكن ادع لابنك بالصلاح سواءً كان وزيراً أو رئيساً أو عاملاً، فعليك أن تدعو له بالصلاح، وأن يهيئ له ربه من أمره رشداً، ولا تختر أنت ولكن اطلب من ربك أن يختار له الخير.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة امرأة وغلامها الرضيع، فبينما كانت المرأة تحمل ولدها وترضعه إذ مر بهما رجل عليه شارة، وله أتباع، فالمرأة نظرت إليه ثم رفعت يديها ودعت ربها: اللهم! اجعل ابني مثل هذا، تريد أن يكون مثله، فترك ثديها، وقال: اللهم! لا تجعلني مثله، اللهم! لا تجعلني مثله، فتعجبت المرأة.
ومرت بهما فتاة يقولون: إنها سرقت، والناس يضربونها، فدعت الله وقالت: اللهم! لا تجعل ابني مثلها في المهانة التي هي فيها، فترك ثديها وقال: اللهم! اجعلني مثلها.
ثم أخبرها أن هذا من الأشرار، وأنه وإن كان كبيراً في قومه، ومقدماً عند الناس لكنه عند الله في النار، وأما الفتاة فهي مظلومة، وهي عابدة لله عز وجل، فدعوت الله ألا يجعلني مثل هذا، وأن يجعلني مثل هذه.
فالإنسان لا يعرف الغيب، ولا ما الذي يخبئه القدر، وكم من إنسان يتمنى الشيء حتى يناله، فإذا ناله أصابته التعاسة، وإذا به يتمنى لو أنه لم ينل هذا الشيء، وكم من إنسان كان وزيراً كبيراً، وبعد ذلك يرمى في السجن، والكل ينظر إليه ولا أحد يرحمه.
وكم من إنسان كان قاضياً كبيراً، وقد وصل إلى هذه الدرجة إما بمال، وإما بجهد وتعب، وإما بوساطة، وإذا به ينفتح كرشه على الناس فيمد يده لهذا ولهذا، وإذا به يصير مسجوناً مثله مثل المساجين، ويتمنى لو أنه لم يكن في هذا المنصب، لذلك لا تقول أبداً: يا رب! أنا أريد ابني يكون كذا، ولكن سل ربك الخير.
ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل بأحد البلاء فإنه لا يتخير على ربه سبحانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يدعون أحدكم على نفسه بالموت، وإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم! أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)، فارجع الأمر إلى الله عز وجل، فكم من إنسان يدعو: يا رب! أنا أريد أن أكون مشهوراً، فتجلب شهرته وصحبته لهؤلاء الناس عليه الشر والتعاسة والبؤس والضياع، وكم من إنسان زاهد بعيد عن الفتن، والله عز وجل يعصمه ويعطيه، فكل إنسان مهيأ وميسر لما خلق له، فلا تتمنى ما عند غيرك، فقد أعطى غيرك المال فكان حسناً، وأجاد في إنفاق هذا المال، وحرم فلاناً من المال؛ لأن الله عز وجل حجب عنه الفتن، فهو لا يقدر على فتنة المال، فالله سبحانه أعلم بما يستحقه العباد.
قامت السيدة عائشة رضي الله عنها مرة تدعو ربها سبحانه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالجوامع) يعني: لا تفصِّلي في الدعاء، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الدعاء: (اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وما قضيت لي من قضاء أن تجعل عاقبته خيراً)، فيكون بذلك قد جمع كل دعاء جميل في ذلك؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه معاذاً رضي الله عنه وأنه أطال في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه لهذا الرجل: (بم تدعو يا فلان؟! قال: أدعو وأقول: اللهم! إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، وما أدري ما دندنتك وما دندنة معاذ) يعني الدعاء الكثير الذي تقوله أنت ومعاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولهما ندندن) أي: فأنت اختصرت حين قلت: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار.
وعلى الإنسان المؤمن حين يدعو ربه سبحانه أن يكون فطناً، فيدعو لآخرته، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ولا ينسى حظه منها، ولكن لا تختر على ربك، ولا تحدد؛ فأنت لا تدري لعل الهلاك يكون في هذا الشيء، ولعلك لا تناله، ولعله يكون حسرة عليك، ولذلك اطلب من الله الخير، وإذا أردت شيئاً بعينه فاطلبه وقيده إن كان خيراً لك.
ولك أن تستخير ربك سبحانه في الأمر، ولا تختار على الله، فالله هو الذي يختار، فهنا دعا وفي آخر دعاء الاستخارة يقول: (إني تبت إليك وإني من المسلمين)، إذاً فهو طالب من الله وتائب إلى الله.
وأعظم ما يفتخر به العبد أن يقول: أنا مسلم، وهذه الكلمة سماك الله عز وجل بها، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فالله سبحانه سماكم المسلمين من قبل، وهذه التسمية هي ما كان عليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، فالله سبحانه يعلمنا دعاء الاستخارة، وزيادة على الدعاء الوارد في الآية ما ذكره الله في قصة سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد دعا بمثل ذلك وقال: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فكان حسناً أن تجمع بين الدعاءين وأن تطلب من الله عز وجل أن يعينك وأن يوزعك أن تشكر نعمته التي أنعم عليك وعلى والديك، وأن تعمل صالحاً ترضاه، وتقول: (وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين)، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(484/3)
تفسير سورة الأحقاف [15 - 18]
لما أمر الله تعالى بطاعة الوالدين وقرنها بعبادته سبحانه ذكر حال الأبناء مع والديهم، فمنهم من هو طائع لهم محسن إليهم، يدعو الله تعالى لهم فهؤلاء هم الفائزون في الدنيا والآخرة، ومنه من هو عاق لوالديه عاص لهما، فهؤلاء هم الأشقياء الخاسرون في الدنيا والآخرة؛ بسبب عقوقهم لوالديهم، فليحذر المرء من العقوق فهو من أكبر الكبائر.(485/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً)(485/2)
فيما نزلت هذه الآية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:15 - 16].
ذكرنا في الحديث السابق ما يتعلق بهذه الآية، وهنا ذكر العلماء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وأبو بكر الصديق كان تابعاً صلوات الله وسلامه عليه، وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، وقد تابعه وكان عمره ثمان عشرة سنة رضي الله عنه، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم.(485/3)
ظهور بشارات النبوة على النبي صلى الله عليه وسلم في صغره
وقد سافر مرة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وفي الطريق نزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فرآه راهب وهو تحت الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له من العمر آنذاك عشرون سنة، وأبو بكر له ثمان عشرة سنة، فالراهب سأل أبا بكر رضي الله عنه: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وسلم، قال: ما استظل بهذه الشجرة أحد إلا نبي، فعلم أبو بكر أن محمد بن عبد الله سيكون نبياً، فلم يزل مواظباً مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت وفي كل حين رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما بعثه الله سبحانه تابعه أبو بكر الصديق، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعون سنة، وكان لـ أبي بكر الصديق ثمان وثلاثون سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فـ أبو بكر الصديق نزلت فيه هذه الآية، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].(485/4)
من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
قال العلماء: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسلم هو وأبوه وأمه وأبناؤه إلا أبو بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلذلك ذكروا أنه هو الذي تتعلق به هذه الآية، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده.
ووالده: أبو قحافة، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد، وأم أبيه قيلة، وامرأته قتيلة رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أهله المسلمين الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملاً صالحاً، فقد دعا ربه: أوزعني أن أعمل صالحاً ترضاه، فألهمه الله عز وجل ذلك، حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوة الإيمان، وشهد له بالجنة صلوات الله وسلامه عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه وإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح إيمان أبي بكر على إيمان الأمة رضي الله عنه، ويكفيه شرفاً وفخراً أن لقب بـ الصديق رضي الله عنه، فلا يكره ولا يبغض أبا بكر إلا منافق ومجرم وملعون.
إن فضائل أبي بكر كثيرة، وقد شهد له بها علي رضي الله عنه، وشهد ابن عباس وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنه: دعا أبو بكر ربه بقوله تعالى: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) قال: فأجابه الله عز وجل، فأعتق تسعة من المؤمنين المعذبين في الله عز وجل، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع.
ولم يدع شيئاً من الخير إلا أعانه الله عز وجل عليه ببركة دعائه، واتباعه للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)، ولم يحصل في ذلك اليوم هذا الفضل إلا لـ أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم مراراً بأنه من أهل الجنة رضي الله عنه.
وشهد له بالصديقية يوم أن وقف على جبل أحد ومعه عمر، فاهتز الجبل بمن عليه فوطأه النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه، وقال: (اثبت أحد فإنه ليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)، فالصديق هو: أبو بكر الصديق، والشهيد هو عمر رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع.
ودعا أبو بكر ربه فقال: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فأصلح الله عز وجل له ذريته، فمنهم: ابنته عائشة رضي الله عنها، ومعلوم فضلها، ومنهم: أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها، ومنهم عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومعلوم فضله وخاصة في جهاده في سبيل الله، وبلائه العظيم في يوم اليمامة، وبطولته المنقطعة النظير رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومن فضل أبي بكر وآل أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه قوله: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))، فكانت سنة للمسلمين أن يقتدوا بـ أبي بكر في الدعاء، وأن يتبعوا هذه الآية العظيمة، وأن يدعوا باسم الله الذي يعين على العمل الصالح، والذي يصلح الذرية، والذي يؤدب ويربي ويرزق سبحانه، فأنت عليك الدعاء والله عليه الإجابة والتثبيت سبحانه.
قال مالك بن مغول: شكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف رضي الله عن الجميع، وكأن ابنه يعصيه ويقع في شيء من المعاصي، فقال طلحة بن مصرف: إذا رأيت من ابنك نفوراً أو بعداً عن الطاعة فاستعن عليه بهذه الآية التي فيها الدعاء، قال الله تعالى: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)).
فتدعو ربك بصلاح الذرية، وتستعين بالدعاء، والله عز وجل يرفع عنك وعن أولادك البلاء.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله عز وجل، والرجوع إلى أمره سبحانه الذي أمرك أن تكون عليه، قال تعالى: ((وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: من المخلصين الموحدين الله سبحانه.(485/5)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا)
فالذين يتصفون بهذه الصفات قال الله سبحانه فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:16] أي: أولئك الأفاضل الصالحون الذين يدعون بمثل هذا الدعاء، ويكونون على هذا العمل الصالح من توحيد الله سبحانه، ومن الإحسان إلى الوالدين، ومن الاستجابة لدين الله سبحانه، فإن الله يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم.(485/6)
القراءات في قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم)
قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16] وأما باقي القراء فيقرءونها: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُتقبل عَنْهُمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا ويُتجاوز عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، فالله هو الذي يتقبل بفضله وعظمته وكرمه سبحانه.(485/7)
معنى قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم)
ومعنى هذه الآية: أن الله يتقبل منهم هذه الأعمال، ويجازيهم بها أفضل ما يجزى الإنسان.
والإنسان قد يعمل عملاً حسناً، ويعمل أحسن منه، وقد يعمل عملاً ويراه حسناً، وقد لا يكون من الطاعة ولا من المعصية، كأن يستحسن شيئاً من المباح، والمباح لا أجر فيه ولا عقوبة، كالأكل والشرب، فإذا نوى نية صالحة أن يكون طاعة لله عز وجل، فهذا الذي يريده الله سبحانه، وهذا الذي يتقبله من المسلم.
فالله يتقبل من المسلم ما كان طاعة أو عبادة، بشرط أن يكون بنية صالحة خالصة لله عز وجل، وليس المعنى أن العبادات منها حسن ومنها أحسن، وأن الحسن لا يقبل والأحسن يقبل، لا، فكل العبادات حسنى، وكل العبادات يقبلها الله سبحانه طالما استوفت شروطها من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والإخلاص لله سبحانه.
و (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وكل إنسان له معاصي وله سيئات، فمن زادت حسناتهم حتى فاقت سيئاتهم وغلبت عليها، فالله يتجاوز عنهم ويعفو.(485/8)
مكفرات الذنوب والمعاصي
والله جعل للعبد المكفرات الكثيرات بفضله وبرحمته، فمنها: الوضوء، والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، فهذه مكفرات لسيئات صاحبها، ومنها: التوبة، فإذا تاب العبد فإن الله عز وجل يكفر عنه سيئاته، ويتقبل منه حسناته، ويرفع له درجاته.
قال سبحانه: ((وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ)) أي: نجعل هؤلاء أصحاب الجنة ومالكيها.(485/9)
معنى قوله تعالى: (وعد الصدق)
وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ} [الأحقاف:16] أي: أن الوعد الذي من الله عز وجل وعد صادق، ووعده هنا مفعول مطلق للتأكيد.
فوعد الله كله صدق، وقوله كله حق سبحانه، {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] أَيْ: يوعدون على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي كتب الله المنزلة من عنده سبحانه.(485/10)
تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أفٍ لكما)
أما الذين استوجبوا عقوبة الله سبحانه, واستوجبوا عذاب النار فقال تعالى عنهم: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:17 - 18].
فقوله تعالى: ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ)) لم يصرح لنا سبحانه بالذي قال لوالديه: أف لكما، فهذا واحد ممن يعذبون يوم القيامة فلا نحتاج إلى معرفة اسمه، وفي هذه الآية عموم، فتعم كل من قال ذلك، وكل من عق والديه، وكل من كفر بالله سبحانه، واستهان بدين الله سبحانه وقال: إنَّ هذا الكتاب العظيم الذي جاء من عند رب العالمين ماهو إلا أساطير الأولين.
فهذا الإنسان الكافر عرفته عائشة رضي الله عنها، فقالت: ولو شئت أن أسميه لسميته، ومع ذلك لم تسمه رضي الله تبارك وتعالى عنها، فلا حاجة لنا في تسميته فلذلك لم تذكره.(485/11)
القراءات في قوله تعالى: (أُفٍّ لكما)
قال سبحانه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17]، وفي سورة الإسراء قال تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23].
فقوله تعالى: ((أُفٍ لكما)) فيها قراءتان: الأولى بالكسرتين، وهي قراءة نافع وجعفر وكذلك حفص عن عاصم، وقرأ أبو عمرو وشعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء: {أُفِّ لَكُمَا}، بكسرة واحدة مع التشديد.(485/12)
معنى قوله تعالى: (أفًّ لكما)
وكلمة (أف) للتأفف، وهي أقل ما يقوله الإنسان من العقوبة، وهذه الكلمة محرمة، فكيف بمن يتطاول ويرفع صوته على الوالدين وينهرهما؟! وكيف بمن يضربهما أو يقتلهما؟!(485/13)
القراءات في قوله تعالى: (أتعدانني)
وقوله تعالى: {أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف:17]، هذه قراءة الجمهور، وقرأ باقي القراء، ومنهم نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر، بالمد الطويل وبالتشديد.(485/14)
معنى قوله تعالى: (ويلك آمن إن وعد الله حق)
وقوله تعالى: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17]، وظاهر من الآية أن الأبوين مؤمنان، وأن الابن كافر عاق، فالأبوان يدعوان الولد إلى طاعة الله، وإلى دينه، ويحثانه عليه، ويتوعدانه بالويل عند الله عز وجل إن لم يؤمن، وإن لم يدخل في دين الله عز وجل.
وقوله تعالى: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: إن الله لا يخلف الميعاد، فيجيب هذا الابن العاق ويقول: ((مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: أحاديث الزمان السالف التي لا يسمع منها شيء، فيتعالى ويستكبر أن يطيع الله عز وجل فيستحق عقوبة رب العالمين.(485/15)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول)
قال الله تعالى متوعداً من كان لهذا الابن المتكبر العاق: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف:18] أي: ووجبت عليهم عقوبة الله عز وجل، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأحقاف:18]، ووعد الله سبحانه أن المؤمنين في الجنة، وأن هؤلاء الكافرين العصاة أمثال هذا العاق الكافر بالله عز وجل، والمكذب بالتوحيد، القائل: {ما هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، في النار.
وقوله تعالى: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فصلت:25] أي: الذين سبقوا ومضوا من أهل التكذيب، وانتقلوا إلى لعنة الله، وإلى غضبه سبحانه، ((مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)).(485/16)
الرد على من قال: إن قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) نزل في آل أبي بكر
ذكرنا أن هذا الذي قال لوالديه: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف:17]، وصفه الله عز وجل بأنه خاسر، وأنه حق عليه عذاب الله عز وجل، فلا يكون هذا الوصف في إنسان مسلم أبداً، وإنما يكون في إنسان كافر، فمن زعم أن هذه الآية نزلت في إنسان مسلم، فقد كذب بذلك.
وقد افترى هذا القول مروان بن الحكم بن أبي العاص من بني أمية على ابن لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال ذلك كذباً وزرواً، فكذبته عائشة رضي الله عنها، وأقسمت أن هذه الآية ليست فيهم، وأنها تعرف من الذي نزلت فيه هذه الآية، وقلنا ذلك لئلا يغتر بما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره عندما قال: لا مانع من أن تكون نزلت فيه ثم أسلم بعد ذلك، فهذا قول خاطئ، ولذلك فشيخ المفسرين ابن جرير الطبري، وكذلك ابن كثير وغيرهم من المفسرين ينكرون أن يكون قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18]، في رجل مسلم قد أبلى بلاءً حسناً في الإسلام، وكان من أفضل الناس.
والذي قال عليه ذلك كذب عليه؛ يريد أن يشوه صورته بين الناس، وكان سبب ذلك أن مروان كان أميراً لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فأراد معاوية أن يولي ابنه يزيد الخلافة، وأراد له البيعة في حياته، فقام مروان في المسجد وخطب في الناس، وقال: إن معاوية قد رأى رأياً حسناً في يزيد، وأن يستخلفه عليكم فقد استخلف قبل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، -وهذا القول كذب-، فكذبه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أمام الناس، فقال: أهرقلية؟ استخلف أبو بكر الصديق ولم يستخلف أحداً من أبنائه، واستخلف عمر بن الخطاب ولم يستخلف أحداً من أبنائه، فكيف تقول: إن معاوية استخلف كما استخلف أبو بكر وعمر؟! ففعْل معاوية مخالف لما فعله أبو بكر وعمر، فالذي فعله أبو بكر وعمر كان رحمة بالأمة، والذي فعله معاوية كان رحمة بابنه رضي الله عن الجميع، فـ معاوية اختار الملك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (تئول الخلافة إلى ملك عضوض) فكان بدء الملك العضوض أن معاوية استخلف ابنه فبقى الأمراء من بعده يستخلفون أبناءهم، فلما أنكر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه على مروان بن الحكم، أراد أن يسيء إليه فلم يجد إلا القرآن، من أجل أن ينفر الناس من حوله، فقال له: ألست الذي قد قال الله عز وجل فيه كذا؟ فافترى أن هذه الآية نزلت فيه، فلما قال ذلك كذبته عائشة من وراء حجابها رضي الله عنها، فسمع الناس لما قالته عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت: والله؛ لأنا أعلم فيمن نزلت هذه الآية، يعني: لو شاءت لحدثت، ولكنها سترت وكتمت ولم تقل شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فتغيظ مروان وأراد أن يسجن عبد الرحمن بن أبي بكر ويأخذه، فدخل إلى بيت عائشة فلم يقدر عليه.
فـ عبد الرحمن بن أبي بكر من أفاضل المؤمنين رضي الله عنه، وقد قام فقال قول حق، فإذا بهذا الرجل يتهمه بهذا الشيء ويقول عنه ذلك.
فالغرض أن الآية نزلت في إنسان كافر عاص لله سبحانه، وصفه الله عز وجل بأنه مستحق للعذاب، وأنه كان من الخاسرين، قال تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)) أي: سبق في علم الله عز وجل ذلك، فاستحقوا الهوان والخسران، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.(485/17)
تفسير سورة الأحقاف [15 - 19]
لقد امتلأت آيات القرآن الكريم بذكر صفات عباد الله المؤمنين، وذلك للحث على التحلي والاتصاف بها، لأجل تكوين الجيل المسلم المنشود، كما أنه قد وردت في القرآن صفات الكافرين والمنحرفين، تنبيهاً على الابتعاد عنها واجتنابها، ولقد بين الله في كتابه جزاء كل من الفريقين، وعاقبة الطرفين، حتى يكون الإنسان على بصيرة، وحتى لا يكون هناك حجة لأحد، وتأتي هذه الآيات مؤكدة لهذا الأمر العظيم، ومدللة عليه.(486/1)
صفات المؤمنين الواردة في سورة الأحقاف
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:15 - 20].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها فريقين: فريقاً من المؤمنين، وفريقاً من الكافرين، فأما المؤمنون فذكر الله سبحانه وتعالى من صفاتهم أنهم: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، وأخبر أن أصحاب الجنة: {َلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
وأخبر سبحانه أنهم يعبدونه سبحانه وتعالى، حتى إذا بلغ أحدهم أشده وبلغ أربعين سنة دعا ربه سبحانه وتعالى وهو موقن بأنه راجع إليه، وأنه راحل إلى ربه سبحانه، كما قال تعالى: ((قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).
فدعا الله بخيري الدنيا والآخرة، فطلب من ربه سبحانه وتعالى أن يعينه ويوزعه ويحثه ويدفعه إلى شكر نعمه عليه سبحانه، وإلى أن يكون حماداً شكاراً له سبحانه، كما قال تعالى: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي: ألهمني أن أعمل صالحاً ترضاه، ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فدعا لنفسه بالخير، ودعا لذريته بالخير، وتاب إلى ربه فقال: ((إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).(486/2)
لا يتقبل الله إلا من المؤمنين
إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم يخبر الله عز وجل أنه يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، والإنسان قد يعمل أعمالاً هي حسنة في نظره، فمنها ما يكون مباحاً، ومنها ما يكون مستحباً، ومنها ما يكون فرضاً واجباً، فالله عز وجل يجزيه على ما كان عبادة، وعلى أحسن الحسن، فيجزيه على ذلك خير الجزاء.
وكل ما يعمله الإنسان من عبادة يتقرب بها إلى الله ولو مثقال ذرة من خير فإن الله عز وجل يثيبه عليها، ويزيده من فضله.
إذاً فليس المعنى: أن حسنات الإنسان منها حسنة يتقرب بها إلى الله ولا يؤجر عليها، وحسنة أخرى يؤجر عليها، لا، فكل ما يتقرب به إلى الله ولو كان مثقال ذرة من الخير فإنه يؤجر عليه، وإنما أفعل التفضيل هنا بحسب نظر الإنسان، فقد يعمل العمل فرحاً به ويظنه حسناً، ولكنه ليس عبادة، وآخر يعمل عملاً حسناً وهو عبادة لله عز وجل، فهذا الذي يؤجره الله عز وجل عليه، ويعطيه من فضله.(486/3)
مجازاة الإنسان على العمل الحسن ولو كان كافراً
إن الكافر لو عمل العمل الحسن فإنه يؤجر عليه في الدنيا، فالإنسان الكافر قد يبر والديه، فيعطيه الله في الدنيا مالاً، ويزيده رزقاً، ويعطيه من ثناء الناس، وقد يفعل الإنسان معروفاً: فيخدم إنساناً، أو يجري في مصلحته، ويكون هذا الفاعل كافراً، أو يكون فاجراً، أو يكون فاسقاً، فيعطيه الله أجرة في الدنيا على ما عمل، ولا يضيع الله عز وجل عمل إنسان، ولكن العمل الذي يريده الله سبحانه، والذي ينتفع به الإنسان في الآجلة هو الذي يكون مقروناً بالإيمان، وبعبادة الله سبحانه وتعالى.(486/4)
بيان تجاوز الله عن عباده المؤمنين
إن هؤلاء المؤمنين الذين عبدوا الله، والذي كان من دعائهم ما ذكر الله سبحانه، قال عنهم: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ))، وكل بني آدم خطاء، والله سبحانه وتعالى يجازي العبد على إحسانه بالحسنى وزيادة، وعلى بعض سيئاته وليس على جميعها، بل يتجاوز الله سبحانه، كما قال: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فكأنه بفضله وبرحمته يتكرم على الإنسان، ويبتليه في الدنيا بمكفرات لذنوبه، فيبتلى الإنسان بنقص في رزقه، ويبتليه بشيء من الآلام والأمراض وغيرها من مصائب الدنيا؛ لتكون تكفيراً لسيئاته عند الله سبحانه وتعالى.
فلذلك يقول سبحانه هنا: ((وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ))، فيعفو عنهم سبحانه، بل يتكرم الله عز وجل ويبدل بعض سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فإن عباد الله عبدوه سبحانه ووقعوا في الذنوب، والله عز وجل يريد لهم درجة في الجنة لن يبلغوها بأعمالهم، فيطلعهم سبحانه على ما صنعوا من سيئات في الدنيا -صنعت كذا، وصنعت كذا- فيخجل العبد من ربه سبحانه يوم القيامة ويستحي، ويقر بذنوبه ويعترف، فيستره الله ثم يبدلها له حسنات مكان هذه الذنوب التي فعلها، ويرفعه بها درجات من فضله وكرمه سبحانه وتعالى، قال: {أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وقال هنا: ((وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: نعفو عن سيئاتهم فيما كان بينهم وبين الله عز وجل.
وأما ما كان بينه وبين الناس فلا بد فيه من القصاص والجزاء كأن يكون لطم إنساناً، أو ضربه، أو أخذ ماله، فهذا يجزى عليه يوم القيامة، ويعطي للآخرين من حسناته، وأما ما كان من ذنوب بين العبد وبين الله فإما أن يعفو عنها سبحانه، أو يؤاخذ العبد على جميعها، وهذا يعود إلى إرادة الله ومشيئته سبحانه.
فإن من أصحاب الجنة من يدخله الله عز وجل الجنة بغير حساب، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يحاسب حساباً شديداً فيحبس عن الجنة فترة ثم يدخلها، ومنهم من يدخل بذنوبه النار -نسأل الله العفو والعافية- ثم يعفو عنه سبحانه ويخرجه من النار إلى الجنة.(486/5)
بيان وعد الله لعباده المؤمنين
قال تعالى: ((وَعْدَ الصِّدْقِ)) أي: وعد الحق، فإن الله قد وعدهم وعداً صدقاً، و (وعد) هنا منصوب على المصدرية، فوعد الله وعد الصدق سبحانه، ((الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)) أي: فهذا ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ))، فقد وعدهم الله وعد الصدق أنه يدخلهم الجنة، ويتجاوز عن سيئاتهم إن آمنوا وأحسنوا.(486/6)
الاهتمام بتربية الأبناء
قال تعالى: ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ)) أي: اذكر هذا الإنسان الكافر الذي قال لوالديه: ((أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ)) أي: أنهما مؤمنان يلجئان إلى الله، ويستجيران به سبحانه والاثنان يدعوان ابنهما إلى طاعة الله عز وجل، فعلى الأب المسلم والأم المسلمة ألا يفرطا في حق أولادهما، وأن يدعوانهم إلى الله سبحانه، وأن يربيا أولادهما على حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى طاعة الله سبحانه من الصغر حتى الكبر، وأن يأمراهم بالمعروف وينهياهم عن المنكر، فهما يستغيثان الله؛ لأنه يرفض أن يستجيب ويدخل في دين الله.
فيقول الوالدان لهذا الولد ولأمثاله: ((وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: لك الويل، ولا أحد يدعو على ابنه بالويل، ولكن هذا كأنه مقيد بالكفر، أي: كأنك بكفرك تستحق الويل فتدارك نفسك، وتب إلى الله، وآمن بالله سبحانه، فإذا بهذا الولد يجيب الجواب القبيح ويقول: ((مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: هذه خرافات السابقين.
والأساطير: جمع أسطورة وهي الحكاية، يعني: أن هذا الكلام هو من الأساطير والخرافات التي تحكي عن الأولين، ((فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، فأمثال هذا من الكفرة قد حقت عليهم كلمة العذاب عند الله سبحانه، كما قال تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص:63] أي: قول الله سبحانه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85].
فالله سبحانه يملأ جهنم من الشيطان وممن تبعه من الإنس والجن، فحق عليهم قول الله سبحانه: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [فصلت:25]، إذاً: فليس هؤلاء فقط هم الذين يدخلون النار، وإنما يدخل معهم أمم خالية سابقة قد كفروا أيضاً بالله سبحانه، وأعرضوا عن دين الله، فاستحقوا الخسران في الدنيا والآخرة بإعراضهم عن الله.
((إنهم)) يعني: لأنهم ((كانوا خاسرين))، فإن هنا: تعليلية سببية، {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25] أي: خسروا أنفسهم وأهليهم ودينهم، فاستحقوا النار.
وكأنها أيضاً بمعنى ما يستحقونه في المستقبل، أي: أن ذلك بسبب أنهم كانوا خاسرين في الآخرة.
قال: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، هنا يذكر الله المؤمنين والكافرين فيقول: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ)) أي: لكل من الفريقين درجات مما عملوا، فالمؤمنون لهم الدرجات العالية عند الله سبحانه، والكفرة المجرمون لهم الدركات السفلى في نار جهنم، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، إذاً: فالمنافقون والكفار في أسفل النار، ولهم دركات، وتطلق الدركة: على المكان من السفل، وتطلق الدرجة على المكان من العلو، وقد قال هنا: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، وليس للكفار درجات، ولكن هذا من باب التغليب؛ لأنه لا يليق أن يقال عن المؤمنين: إن لهم دركات، فقال: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، تغليباً، كما تقول: الشمسان، وتقصد الشمس والقمر، وتقول: العمران، وتقصد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فتسمي بواحد وتقصد الاثنين، فهنا كذلك قال: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، فدرجات أهل النعيم عالية، ودرجات هؤلاء دركات هاوية.
قال تعالى: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)) أي: بسبب أعمالهم، ((وَلِيُوَفِّيَهُمْ)) جاءت بالإفراد وجاءت بالجمع: (ولنوفيهمُ أعمالهم)، فقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وهشام بخلفه وكذلك عاصم: ((وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ))، وقرأها باقي القراء: (ولنوفيهم أعمالهم)، والذي يوفي الأعمال هو الله سبحانه، فيأمر بهؤلاء إلى الجنة، وبهؤلاء إلى النار.
قال تعالى: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، فيوفيهم ويعطيهم الجزاء وافياً، ولا يبخس أحداً شيئاً من حسناته، ولا يظلم أحداً بعقوبة لم يفعلها، ولكن يجزي كلاً الجزاء الوافي عنده سبحانه، فقال: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، وهذه كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(486/7)
تفسير سورة الأحقاف الآية [20]
لقد أحل الله سبحانه وتعالى الطيبات من الرزق ونهى عن الإسراف، فعلى المسلم ألا يأخذ كل ما أبيح له؛ لأنه قد يتعدى بذلك إلى الحرام، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة حسنة، وأما الكفار فإنهم يذهبون طيباتهم في الدنيا، وليس لهم في الآخرة شيء.(487/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ * وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:20 - 21].
يذكر الله عز وجل عباده بهذه الآية وما يليها بيوم القيامة، وما يكون في هذا اليوم من سؤال عما أنعم الله عز وجل به على العباد، وعما فعلوه في هذه النعمة، وهل شكروا النعمة وذكروا صاحب النعمة، أم أنهم كفروا ربهم سبحانه واستوجبوا على أنفسهم منه النقمة.
فقوله تعالى: ((وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ))، أي: يزال عنهم الغطاء، فيرون أمامهم نار جهنم ماثلة، فيعرضون عليها، ويؤمرون بدخولها، وذلك {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، ويقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10].
ويقال: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)).
أي: قد فعلتم ذلك، فالإنسان يستغل هذه الدنيا إما فيما ينفعه أو فيما يضره، والنفع إما يكون عاجلاً أو آجلاً، والمضرة كذلك، فالإنسان الذي يجلب لنفسه الضرر في الدنيا عندما يستغل في الباطل فإنه يدين على نفسه الشؤم فيها بمعصيته لله سبحانه، ثم عقوبته يوم القيامة، وهذا الإنسان من الخاسرين.
وأما المؤمن فيطلب الراحة الأبدية والنعيم المقيم ولو بمضرة عاجلة، فمهما أصيب الإنسان المؤمن في الدنيا ببلاء لو قيس بما يكون يوم القيامة من عذاب ومن صعوبات ومشقة وحساب وعرض، فإن الذي يكون في الدنيا يسير؛ ولذلك فالصادقون نظروا في هذه الآية فعملوا بما أمر الله عز وجل به، وتذكروا هذا اليوم، وتذكروا أنهم إن أذهبوا طيباتهم في هذه الحياة الدنيا، واستغلوا الدنيا وأخذوا كل ما يريدون، ونالوا كل ما يشتهون فإن ذلك لا ينفعهم بل يضرهم، ولا شك أن الإنسان الذي ينكب على الملذات لن يكفيه أن يأخذ من الحلال فهو طماع، والطماع لا يكتفي بالحلال، بل لا بد أن يقع في الشيء الذي فيه شبهة، ثم يتعدى بعد ذلك إلى الحرام، لذلك على الإنسان المؤمن أن يربي نفسه ويهذبها ويؤدبها، ولا يأخذ كل ما أحل له، فإذا أخذ كل الحلال تعدى بعد ذلك إلى الحرام، ولكن ليجعل بينه وبين النار حاجباً وستاراً من الحلال حتى يترك الحرام، ولذلك أدبنا ربنا سبحانه بعبادته، فجعل شهراً في العام تصوم فيه، تصوم عن الحلال، فالطعام والشراب حلال لك في غير وقت الصيام، وفي وقت الصيام يصير محرماً عليك لا يجوز لك أن تأكل ذلك، فتتمرن على أنه ليس كل شيء تشتهيه لا بد أن تأكله، تأديباً وتهذيباً لنفس الإنسان وليس تعذيباً لها، وإنما ليربي نفسه.
فهنا يقول الله عز وجل مذكراً عباده: ((وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)).(487/2)
اختلاف القراءات في قوله تعالى: (أذهبتم)
وهذه الكلمة فيها قراءتان: (أذهبتم) على الإخبار، و (أأذهبتم) على الإنشاء والاستفسار والاستفهام يوم القيامة.
فقوله تعالى: (أذهبتم) تقرير لهم، أي: قد فعلتم ذلك، فأذهبتم الطبيات واستمتعتم بالدنيا وبكل ما فيها من محرمات وأخذتموها، فاليوم ليس لكم جزاء إلا النار.
والقراءة الأخرى: (أأذهبتم) استفهام توبيخي وإنكار على هؤلاء، أي: قد أعطيناكم الدنيا لتعبدوا الله، وقلنا لكم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
فالقراءة الأخرى: (أأذهبتم طيباتكم)، أي: هل فعلتم ذلك؟
و
الجواب
أذهبوا طيباتهم في هذه الحياة الدنيا، وقراءة الاستفهام أيضاً فيها وجوه للقراء في قراءتها.
فالقراءة: (أأذهبتم طيباتكم) هذه قراءة ابن ذكوان وقراءة روح عن يعقوب.
وتقرأ: (آذهبتم) بالمد والتسهيل، وهذه قراءة ابن كثير وقراءة رويس وقراءة هشام بخلفه.
وفي قراءتها وجوه لـ هشام، أيضاً ابن كثير يقرؤها: (اأذهبتم) بالتسهيل بغير مد فيها، وكذلك رويس، فتكون القراءات فيها: (اأذهبتم طيباتكم) قراءة ابن كثير ورويس، والقراءة: (آأذهبتم طيباتكم) قراءة أبي جعفر وقراءة أيضاً هشام بخلفه، وهناك وجه ثالث لـ هشام فيها، وقرئت (أأذهبتم طيباتكم) بهمزتين وهي قراءة ابن ذكوان وقراءة روح عن يعقوب.
وباقي القراء يقرءونها: (أذهبتم).
وقوله تعالى: ((طَيِّبَاتِكُمْ)) أي: ما أنعمنا به عليكم في هذه الحياة الدنيا، فأخذتم المال فأنفقتموه في الحرام، وشربتم به الخمور، وأكلتم به الخنازير، ووقعتم فيما حرم الله عز وجل من أخذ المال من الباطل، فضيعتم هذه الدنيا في الباطل.
فيسأل الإنسان عن عمره وعن شبابه وعن ماله وعن علمه يوم القيامة، يسأل عن عمره فيما أفناه، والعمر من طيبات الله عز وجل التي أنعم الله بها على العبد، فقد أعطاك عمراً، وأعطاك شباباً وصحة وقوة.
وعن شبابه فيما أبلاه، أي: أين أبليت هذا الشباب وأفنيته وضيعته؟ فهل عملت بالطاعات أم عملت بالمعاصي؟ ويسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ويسأل عن العلم الذي تعلمه ماذا عمل به؟ هل عمل بطاعة الله عز وجل، أم عمل بمعصية؟ نسأل الله العفو والعافية ومغفرة الذنوب.
فقوله تعالى: ((طَيِّبَاتِكُمْ)) أي: ما أعطيناكم من أشياء لتستغلوها في عبادة الله سبحانه أذهبتموها في حياتكم الدنيا، وأفنيتم شبابكم وأعماركم في الكفر وفي المعاصي، وضيعتم هذه الطاقات التي كان من الممكن أن تنتفعوا بها لتدخلوا الجنة، ضيعتموها في الدنيا، فاذهب الإنسان عمره، وضيع ماله، وضيع شبابه، وأفنى جسده بمعصية الله، وأذهب عقله بشرب الخمور وشرب ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، وأذهب ماله في شراء الخبيث، وفي التفريط على نفسه في المعاصي وفي الذنوب.
كذلك: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)).
أي: أخذتم كل ما طاب لكم واستمتعتم وجعلتم الدنيا للدنيا وتستعدوا بها للآخرة، فيوم القيامة ((تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)).
فقوله تعالى: ((عَذَابَ الْهُونِ)) أي: العذاب الذي يهينكم، وهو عذاب الهوان والذل والصغار، فالإنسان الذي كان كبيراً في الدنيا وكان مستمتعاً فيها ومغروراً بها يهان يوم القيامة، ويعذب ويذل ويعرض على النار أصغر الصاغرين، ويكون أسفل السافلين في نار الجحيم والعياذ بالله، ويقال لهم: ((فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) أي: عذاب الهوان والصغار باستكباركم، فمن كان في الدنيا مستكبراً متعالياً رافعاً أنفه شامخاً في السماء مستكبراً على خلق الله، فإنه يذل يوم القيامة، ويعرض المستكبرون على أشد النار سعيراً أمثال الذر من الصغار، كما ثبت من ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: ((تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)).
أي: عذاب الخزي وعذاب الفضيحة والصغار والذل، والسبب: ((بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ))، وبئس الاستكبار والاستعلاء على أهل الأرض؛ إذ يستعلون على خلق الله عز وجل ويتكبرون عليهم بغير الحق، ولا يوجد استكبار على الخلق بحق، ولكن هذا الإنسان ظن بنفسه أنه أعلى من غيره، فظنه باطل وهو يعلم ذلك في نفسه، وهو يعلم أن كل إنسان مخلوق من طين، لكنه يستكبر، وهو يعلم أن هذا الاستكبار ليس حقاً له، فالمعنى: فاستكبرتم في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون في أفعالكم بغياً وظلماً وعناداً وخروجاً عن طاعة الله سبحانه، وهذا يفسر الخروج عن الطاعة.(487/3)
بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد نزول هذه الآية
هذه الآية جعلت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من العرض يوم القيامة ومن الحساب، فيضيقون ويقللون على أنفسهم خوفاً من العرض يوم القيامة، وإن كان الله الكريم سبحانه قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
وهذا من كرم الخالق سبحانه وتعالى أن نأكل ونشرب، لكن لا نسرف، فالإنسان لا يأكل من أجل أن يموت، وإنما يأكل من أجل أن يعيش فيعبد الله سبحانه وتعالى، إذاً: فكل واشرب ولا تسرف ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)).
والله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فإن أعطاك أكلاً أكلت، وإن أعطاك الشراب شربت، وإن أعطاك مالاً اشتريت به ملابس طيبة، ولم يأمرك أن تمشي في ثياب مرقعة، ولم يقل لك: اترك هذا المال ولا تتنعم به، ولكن بالقدر الذي لا يكون فيه استكبار، ولا يكون فيه تعاظم على خلق الله سبحانه وتعالى، إذاً: فالإنسان يأكل ويشرب ويلبس دون أن يستكبر على خلق الله سبحانه، فإن وجد الغالي ووجد ما هو دونه أخذ الوسط، فيكون في الوسط دائماً، ولا يأخذ الغالي دائماً وإن كان حلالاً؛ لأن ذلك يدفع الإنسان إلى الاستكبار في النهاية، ولكن يأخذ هذا ويأخذ من هذا وخير الأمور أوسطها، وقد عاش في الدنيا صلوات الله وسلامه عليه وهي ضيقة عليه وعلى أصحابه، ولما فتحت له الدنيا لم يتركه الله فيها، بل قبضه سبحانه وتعالى ولم يتنعم بشيء منها، فالصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا الخبز المرقق، وكان أحدهم يأكل منه ويبكي، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم كيف خرج من الدنيا وما ذاقه، ومع ذلك أكلوا ولكن لم يسرفوا، فرضوان الله وتعالى عليهم.
فهذا عمر رضي الله عنه يروي عنه الإمام مسلم أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له حين هجر نساءه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما ضقن بقلة النفقة، فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في النفقة وذلك حين فتح الله عليه، فلما شددن ضاق ذرعاً بهن صلى الله عليه وسلم فتركهن وهجرهن شهراً صلوات الله وسلامه عليه، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه في طلبهن كثرة النفقة منه صلوات الله وسلامه عليه، وخرج إلى مشربة له صلى الله عليه وسلم، والمشربة هي الغرفة العالية، فاعتزل نساءه صلى الله عليه وسلم فيها، وحلف أن يعتزلهن شهراً صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بسبب طلبهن الزيادة في النفقة، وبسبب الغيرة التي كانت بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دفعتهن إلى أن يكن حزبين: حزباً مع السيدة عائشة رضي الله عنه، وحزباً آخر مع غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتزلهن صلى الله عليه وسلم تأديباً لهن لما حدث ذلك، وإذا بالصحابة رضوان الله عليهم يحزنون لضيق النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان أهم شيء عندهم هو سروره، ويكرهون أن يغتم صلى الله عليه وسلم، فلما وجدوه اعتزل نساءه صلى الله عليه وسلم خافوا أن يكون قد طلق نسائه، فجلسوا في المسجد يبكون، وقد حذر عمر بن الخطاب ابنته حفصة من إغضاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: سليني من مالي ما شئت، ولا تطلبي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنك أن زوجك النبي صلى الله عليه وسلم وأن جارتك أوضأ منك، فالسيدة عائشة أجمل منها.
وكان الصحابة في ذلك الحين يتحدثون أن ملك غسان يجهز جيشاً للقدوم على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا لا يخافون من أحد من العرب مثل خوفهم من غسان وملك غسان؛ لقوتهم، وفي يوم من الأيام كان عمر رضي الله عنه في بيته فطرق صاحبه البيت عليه بالليل، وذلك في وقت ما كان يذهب إليه فيه، فقام عمر بن الخطاب خائفاً وقال: ماذا حدث؟ أجاء ملك غسان؟ قال: لا، أشد من ذلك، فقد كان فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد عند الصحابة من قتال الأعداء، فقال: أشد من ذلك، فارق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر بن الخطاب: هذا ما كنت أخشاه، وذهب إلى المسجد، فوجد الصحابة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم جالسين منهم من يبكي ومنهم من يفكر، فـ عمر بن الخطاب سأل: ماذا حدث؟ قالوا: طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فستأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأذن له، فاستأذن مرة ثانية ومرة ثالثة، ثم أذن له، فدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه فالتفت فلم ير شيئاً يرد البصر إلا أهباً -والأهب: الجلود التي لم تدبغ بعد- قد سطع ريحها، وتلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام وما زال يكلمه حتى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ضمن ما ذكر أنه قال: يا رسول الله! كنا قوماً في قريش وكنا نغلب نساءنا، يعني: لما كنا في مكة كنا نغلب نسائنا، ولما جئنا المدينة وجدنا الأنصار تغلبهم نساؤهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! لو رأيتني وقد ذهبت إلى حفصة وقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أضحك النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطلقت نساءك؟ قال: لا، فكبر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسمعه أهل المسجد، فعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فقال عمر بعد ذلك: يا رسول الله! أنت هنا وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير، فاستوى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا).
فالله سبحانه وتعالى أعطى كسرى وأعطى قيصر ليس لأنه يحبهم، ولكن عجل لهم طيباتهم في هذه الدنيا؛ حتى لا يكون لهم عند الله شيء يوم القيامة.
فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: استغفر لي، فقال: (اللهم اغفر له).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أدب عمر رضي الله عنه بذلك.
يقول حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي: يفطر مع عمر، وكانوا يأكلون وجبتين في اليوم: الغداء -أي: الإفطار- والعشاء.
قال: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغليظ، وهو اللحم الطري.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: لا تنخلوا الدقيق؛ فإنه طعامٌ كله، فجيء بخبز متفلع غليظ فجعل يأكل رضي الله عنه ويقول: كلوا.
هذا هو عمر أمير المؤمنين، وأمير الدولة الإسلامية رضي الله تبارك وتعالى عنه يأكل ذلك ويقول لمن حوله: كلوا، قال: فجعلنا لا نأكل، فقال: مالكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين! إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك، فقال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه: يا ابن أبي عاصم، أما ترى بأني عالم لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها، ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا.
يأدبهم عمر بذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقال: أما ترى بأني عالم لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب، فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء، فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين! أجل، ما تنعت: العيش، أي: ما تنعته هو العيش، فقال عمر: أجل، والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش، ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)).
إذاً: فـ عمر كان خائفاً من هذه الآية أنه لو أخذ كل الطيبات في الدنيا لم يبق له شيء يوم القيامة، وهذا من التهذيب للنفس، ولم يأمرنا ربنا سبحانه بذلك، وإنما تكرم وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، فنهانا عن الإسراف.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.(487/4)
تفسير سورة الأحقاف [21 - 24]
لقد كان قوم عاد من الذين مكنهم الله في الأرض، فنحتوا الجبال، وزرعوا الأرض، وأعطاهم الله ما أعطاهم من قوة وتمكين في الأرض، لكنهم لم يشكروا نعم الله، ولم يرعوها حق رعايتها، فتجبروا في الأرض، وعبدوا غير الله سبحانه، فأرسل إليهم رسولاً منهم وهو هود عليه السلام لينذرهم ويلقي عليهم الحجج، فاستهزءوا به وآذوه، فعاقبهم الله بعذاب من عنده، وجعلهم عبرة للمعتبرين.(488/1)
نسب قبيلة عاد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:21 - 24].
هذه القصة العظيمة التي يسوقها ربنا سبحانه وتعالى في سورة الأحقاف قد ساقها في مواضع من كتابه، وفي كل موضع يذكر شيئاً مما يليق بهذه القصة، فذكر هذه القصة في سورة الأعراف وأشار إلى قوم عاد بقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، وذكرها في سورة هود.
حيث قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50]، وذكرها في سورة الأحقاف حيث قال: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ)).
كما تحدث الله عز وجل عن قوم عاد في سورة الفجر فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6 - 9].
وعاد وثمود قبيلتان مكنهما الله عز وجل في الأرض، وقوم عاد أبناء عمومة مع قوم ثمود، فعاد إرم، وثمود إرم أيضاً، فجدهم الأعلى إرم، فعاد يقول الله عز وجل عنها: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، وعاد هي ذات العماد، والرجل الذي تنسب إليه هذه القبيلة هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وبين عاد وبين نوح عليه الصلاة والسلام قرون قليلة، وقد علم قوم عاد ما حدث من قوم نوح، وكيف عبدوا غير الله سبحانه، وكيف أغرقهم الله، فهم أحفادهم، وثمود من بعدهم بثلاثة أو أربعة أجيال، وجاءت ثمود ولم يتعظوا بعاد الأولى، فعاد هم أبناء العموم وأبناء الجد الأعلى، فلذلك يقول الله عز وجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50]، وقد جاءت بعدها ثمود من نفس القبيلة، ومن نفس الفرع، من إرم بن سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(488/2)
قوم عاد وتمكين الله لهم في الأرض
وصف الله سبحانه وتعالى قوم عاد بالقوة العظيمة والتمكين في الأرض، وذكر ما عاشوا فيه من قصور كانوا ينحتونها في جلاميد الجبال، وذلك دليل على قوتهم، فالناس الآن لا يبنون القصور إلا بالاستعانة بالآلات، ومن الصعب أن ينحت الإنسان الصخر في هذه الأيام، ولذلك لم يؤتَ أحد بعدهم مثل ما أعطاهم الله عز وجل من قوة عظيمة، فلم تغني عنهم هذه القوة كما صور لنا ربنا سبحانه، وقد رأينا كيف أن القوة قد تطغي صاحبها فيستشعر أنه فوق كل شيء، فإذا بالله عز وجل يأتيه بعذاب من عنده يدمر كل شيء، قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}.
إن قوم عاد إرم ذات العماد كانوا في جنوب الجزيرة العربية أي: في جنوب السعودية في منطقة الربع الخالي، بينها وبين حضرموت في اليمن، والتنقيبات والحفر الأثرية التي يحفرونها دلتهم على أنه كان في تلك الأماكن حضارة وأنه كان فيها قصور عظيمة شاهقة، وجبال منحوتة، فقد كانوا ينحتونها ويصنعون منها قصورهم.
وهذه الأماكن التي كانت في يوم من الأيام مهداً لحضارة هؤلاء صارت الآن رمالاً قاحلة، وصحراء عظيمة شاسعة واسعة، فهذه هي ديار قوم عاد الذين كانوا فيها، فلما أهلكهم الله سبحانه وتعالى كان لهم فرع آخر من هؤلاء في الشمال بين الجزيرة وبين الشام، وهم ثمود أصحاب القصور المنحوتة من الجبال كما سبق، وقد أخبر الله عز وجل عنهم وعن تكذيبهم، وأنهم لم يتعظوا بما جرى لأبناء عمومتهم -قوم عاد- من إهلاك الله عز وجل لهم، ففسقوا وعتوا عن أمر الله فأهلكهم الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله سبحانه في سورة الشعراء كيف مكن قوم عاد وأعطاهم من نعمه، وأن نبيهم هود عليه الصلاة والسلام ذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وأنه مكن لهم في الأرض، فعبدوا غيره، قال الله تعالى عن هود أنه قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131]، فيدعوهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الذي خلقهم وأعطاهم ورزقهم تلك المباني العظيمة، والأفكار التي يصنعون من ورائها أشياء لا يعبدون الله سبحانه بها، ولكن يفتخرون على غيرهم من الأمم، فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]، الآية هنا هي القصر العظيم، والعلامة الشامخة الشاهقة، فيفتخرون بذلك لعباً وعبثاً وإظهاراً للقوة، وكأنه سبحانه يذكر المسلمين ويحذرهم أن يصنعوا مثل هؤلاء، فإنه قد أعطاهم تلك النعم ليعبدوا الله عز وجل بها، وليعرفوا ربهم سبحانه ويشكروه على ما آتاهم، ويستغلوا هذه النعمة فيما يرضي الله، لا فيما يغضبه سبحانه.
ولذلك لما ذكر هذه القصة في سورة الأحقاف قال في آخرها: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26]، فلما كفروا ما أغنى عنهم هذا الذي أعطاهم الله عز وجل، فقد كان لهم سمع يسمعون به المواعظ، ويسمعون به ما يريده الله عز وجل منهم، كما كان لهم بصر يبصرون به آيات الله سبحانه، وما آتاهم من نعم، وما يدعوهم إليه سبحانه، فيسمعون ويبصرون، ويرسل إليهم الرسل؛ ليدعوهم إلى الله عز وجل، فسمعوا ما قال، ورأوا ما أخبر عن ربه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الله لهم قلوباً وأفئدة يعقلون بها، ولكن ما أغنى عنهم ذلك كله؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، فقضى على قلوبهم بأن ختم عليها، فلا يفهمون ولا يعقلون عن الله عز وجل شيئاً.
فهنا يقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} في المكان الذي أنت فيه في الجنوب كان قوم عاد، وهذه السورة مكية، فكأن الله تعالى يسلي بها النبي صلى الله عليه وسلم ويصبره بأن أبا جهل الملعون وغيره ممن كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبونه ستكون عاقبتهم كعاقبة قوم عاد.
وقوله: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ)) أي: أخوهم في النسب وليس أخاً لهم في الدين، فهم كفار وهو مسلم، ولكنه من القبيلة نفسها، فهو: هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، فجده الثالث هو عاد، وهؤلاء من أحفاد عاد أيضاً.(488/3)
معنى الأحقاف
قال الله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]، والأحقاف: هي الرمال المرتفعة المستطيلة التي ليست محدودبة، ولكنها مائلة منحنية، فليست كالجبل منصوبة وممتدة إلى الأعلى ولكنها رمال مستديرة من أعلى لا تبلغ أن تكون جبالاً.(488/4)
الدعوة إلى التوحيد مهمة الرسل جميعاً
قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، وكأن الله سبحانه يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن قبل هود كان هناك نذر، وبعده كان هناك نذر أيضاً، والنذر بمعنى الرسل، والمعنى: أرسلنا رسلاً قبله ورسلاً بعده عليه الصلاة والسلام، فمن قبله كان نوح صلوات الله وسلامه عليه، وربنا يقول: {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، فهناك رسل من رسل الله عز وجل لم يقص الله خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ورسل قد قص الله خبرهم عليه.
فالله عز وجل ذكر بعض رسله عليهم الصلاة والسلام، فقد خلا من قبل هود رسل أنذروا قومهم، ومن بعده أيضاً جاء رسل ينذرون أقوامهم، {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} [الأحقاف:21] أي: أن المنذرين قد مضوا من قبله، وأيضاً جاءوا من بعده، فمضوا من بين يديه ومن خلفه، يدعون أقوامهم ويقولون لهم: ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ))، وهذه هي دعوة الرسل جميعهم، كقوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، واعبدوا الله معناها لا إله إلا الله، فكل الرسل يدعون إلى الإسلام، فعلى المسلم أن يسلم نفسه، وأن يوجه وجهه لله، ولا يشرك به شيئاً.
وقوله تعالى: ((إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) هذه هي قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: ((إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))، وهو يوم القيامة، ولا يمنع أن يكون قبل ذلك عذاب أليم وعذاب شديد، ولكن أعظم ما يكون من العذاب هو عذاب يوم القيامة.
نسأل الله العفو والعافية.(488/5)
تكرار ذكر قصة قوم عاد في سور القرآن بما يتناسب مع كل سورة
لقد ذكر الله هذه القصة في أماكن كثيرة يختصرها في مكان ويطيل ذكرها في مكان آخر، ويذكر العبرة اللائقة بكل مكان، وهذا من عجيب أمر القرآن العظيم الجليل، وسياق كل سورة له وزن معين وموسيقى معينة تسمعها من خلال تلاوة الآيات، فالقصة في السورة مناسبة للسياق من أوله إلى آخره، فسورة الشعراء والقصص التي قبلها كل سورة تذكر القصة بما يتناسب مع سياقها، وفي سورة الأحقاف وسورة الأعراف وغيرها من سور القرآن يكون سياق القصة مناسب للسورة التي هي فيها.(488/6)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا)
يذكر سبحانه أن هوداً بعدما دعا قومه إلى الله سبحانه، وذكرهم بآياته كان ردهم عليه بأن قالوا كما حكى الله عنهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف:22]، والإفك بمعنى الصرف والإدانة والكذب، والمعنى: أجئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتبعدنا عنها، ولتفتري وتكذب علينا حتى نترك آلهتنا، والإفك: أعظم الكذب، فوصفوه بما هم أهل له، فهم أهل الإفك والإفتراء وليس هو عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، والقصة هنا مختصرة وقد ساقها الله عز وجل في أماكن أخرى، فقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، فأول ما دعاهم إليه هو توحيد الله سبحانه وتعالى، ثم ذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم كما في سورة الشعراء: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:129 - 135]، فكان جوابهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:136 - 137] أي: أنت تقلد الذين من قبلك، فسواء وعظتنا أم لم تعظنا فلسنا داخلين في دينك، فيكون قد أعذر إليهم بما قاله لهم.
وهذه الآية اختصرت ذلك، فذكر الله عز وجل فيها جوابهم على نبيهم وهو: ((أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا))، ولما قال لهم -كما في سورة هود-: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50]، كأنه قال قبل ذلك كلاماً كثيراً وذكرهم بنعم الله، فلما أصروا قال لهم: أنتم مفترون مجرمون تفترون على الله الكذب، وتزعمون له شركاء، وتدعون معه من لا ينفع ولا يضر، فقالوا له: ((أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)).
فعادة الإنسان المجرم الاستهتار وعدم النظر في العاقبة، فهؤلاء لما رأوه صادقاً عليه الصلاة والسلام وداعياً إلى الله، ولا يطلب منهم شيئاً لنفسه، وإنما يقول لهم: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:51] أي: أني لم آتِ لأطلب منكم شيئاً، وإنما جئت أدعوكم لتعبدوا الله سبحانه، فأبوا إلا ما هم فيه من الكفر وقالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)).(488/7)
تفسير قوله تعالى: (قال إنما العلم عند الله)
فأجابهم بقوله: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف:23] أي: لا أدري متى يأتيكم عذابكم، فعلم ذلك عند الله، وما علي إلا البلاغ، {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}، وهذه قراءة الجمهور بالتشديد، وقراءة أبي عمرو: {وأبُلْغكم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}.
{وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}، هذه هي قراءة الجمهور، وقراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي عمرو: ((وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)).
وقوله: (أراكم) قرأها بعض القراء بالإمالة، كـ الأزرق عن ورش وابن ذكون وأبي عمرو.
وقوله: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: تجهلون ربكم سبحانه، وتجهلون ضعفكم، ولذلك استمعتم بالدنيا وظننتم أنكم قد غلبتم الناس جميعهم، وأنكم فوق البشر ولا يقدر أحد على أن يفعل بكم شيئاً، فلما ظننتم ذلك جهلتم.
فمن جهل الإنسان: ألا يعرف نفسه ولا يعرف أنه ضعيف، ولذلك فإن الله يذكره بحوادث الدهر، وينزل عليه المصائب، فيمرض أو يضيع منه ماله، أو يفقد الولد وغير ذلك من حوادث الدهر؛ حتى يتذكر أنه مخلوق ضعيف، وأنه محتاج إلى الله عز وجل، وأنه في هذا الكون جاء ليعيش فترة محدودة يعبد فيها ربه سبحانه ثم ينتهي لا محالة.
قال الله تعالى ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: أنهم اغتروا فغرهم الله سبحانه وتعالى، فظنوا أنهم سيعيشون آمنين بحصونهم وجبالهم، فأتاهم العذاب من مأمنهم، وهذا من بطش الله وبأسه وانتقامه ممن كذب رسله كما ذكر في أكثر من سورة من سور القرآن.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(488/8)
تفسير سورة الأحقاف [21 - 25]
لقد أنذر هود عليه السلام قومه عاداً وحذرهم من عبادة غير الله تعالى، فكان جوابهم الاستهزاء والإعراض واستعجال العقاب من الله سبحانه، فأصابهم القحط والجدب، ثم جاءتهم سحابة سوداء فاستبشروا وظنوا أنه مطر، فكان مطراً من نار ولهب والعياذ بالله، ثم تلاه ريح صرصر دمرت كل شيء، وهكذا الجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.(489/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:21 - 25].(489/2)
إنذار الله لعباده
ذكرنا فيما مضى أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه هوداً إلى عاد، وهم قبيلة كانوا يسكنون الأحقاف، والأحقاف جمع حقف، وهي: المرتفعات من الرمال كهيئة الجبال وإن كانت ليست عظيمة العلو، ولكنها محقوقفة، أي: منحنية الأطراف أو الارتفاع.
وهذا المكان الذي كانوا فيه ما بين حضرموت في اليمن وجنوب الجزيرة في منطقة الربع الخالي.
قال تعالى: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ))، وهو هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله: ((إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ))، وكانوا يعبدون آلة من دون الله سبحانه وتعالى، فحذرهم من عبادة غير الله، وكانوا يعصون الله سبحانه وتعالى، وكانوا يتطاولون على خلق الله، معجبين بأجسامهم، معجبين بقوتهم، وكانوا مترفين منعمين، فأعطاهم الله القوة، وأعطاهم المال، وأعطاهم الأرض الواسعة المنبسطة الفسيحة، وأعطاهم نعماً كثيرة، فلم يشكروا الله سبحانه، وإنما كفروا واغتروا، وكانوا يؤذون خلق الله سبحانه، وقد وصفهم الله بقوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] أي: أنهم قبيلة ذات عماد، والعماد جمع عمود، والإنسان يعيش في مكان له أعمدة عادية، لكن إن كان هذا الإنسان طويلاً جداً فيحتاج إلى مثل ذلك، فهم قد أعطاهم الله عز وجل أجساماً في غاية القوة، في غاية الطول، فاغتروا على خلقه، واغتروا بما أعطاهم الله سبحانه، وفعلوا ما يغضب الله سبحانه، ففعلوا أفحش وأعظم ما يقع فيه إنسان يغضب الله من الكفر بالله والشرك به، واتخاذ الآلهة من دون الله، أو يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، فاتخذوها قرباناً آلهة، واتخذوا آلهة صنعوها بأيديهم، فعبدوها تقرباً بزعمهم إلى خالقهم سبحانه وتعالى، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)).(489/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ولكني أراكم قوماً تجهلون)
فكان
الجواب
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22]، أي: لتصدنا وتصرفنا عن آلهتنا التي نعبدها من دون الله سبحانه، ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ))، أي: إن كنت تقدر على فعل شيء فافعل ما تقدر عليه، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23]، فوصفهم بالجهل؛ لأنهم يجهلون قدرة الله عز وجل، ويجهلون قوة الله سبحانه، ويجهلون فضل الله عز وجل عليهم، فهو الذي أعطاهم ما يجعلهم يعبدونه وحده، ويجهلون ضعف أنفسهم وحقارة أبدانهم التي ظنوا أنها تقيهم أو ينتفعون بها، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69]، وهذا مما دعاهم إلى أن يتطاولوا على نبيهم صلوات الله وسلامه عليه عندما دعاهم إلى الله، وحذرهم منه، وكأنه يقول لهم: إذا كان الله زادكم بسطة في الجسم، وبسطة في الهيئة، فاذكروا ما صنع بقوم نوح من قبلكم، فقد عمروا أكثر منكم، ومع ذلك جاءهم العذاب من عند الله، فقالوا: {أْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:22 - 23]، فأي نبي وأي رسول لا يملك مجيء العذاب لقومه، فالله يأتي بعذابه وقت ما يشاء، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما عليه أن يحذرهم وينذرهم غضب الله سبحانه، أما أنه يملك مجيء العذاب فهذا لا يملكه، وإنما الله عز وجل يفعل ما يشاء في الوقت الذي يريده سبحانه وتعالى، وقد يظن الإنسان أن هؤلاء يستحقون العقوبة العاجلة فيؤخرها الله عز وجل، وقد يظن أن هؤلاء يستحقون العذاب فيعفو الله عز وجل عنهم، فلا يملك نبي لقومه شيئاً إلا أن يدعو قومه إلى الله عز وجل، أما أنه يأتي بالعذاب فهذا ليس بيده، ولذلك قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: ((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ))، أي: أن وقت هلاككم هو إلى الله عز وجل، وإنما علي البلاغ، ((وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ))، فأي أخلاق من هذا الكافر عندما يستعجل العذاب! وعندما يطلب العقوبة من الله عز وجل.
وإن من أخلاق الكفار: العلو في الأرض بغير الحق، والإفساد في الأرض، والتعالي على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وعدم الإيمان بالله سبحانه، فهؤلاء صنعوا ذلك، وربنا يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم الذين يشبه صنيعهم صنيع قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9]، فهذا الذي ابتدأ الله عز وجل بذكره في هذه السورة: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف:9]، لذلك ربنا يذكر بالأنبياء السابقين، فنفس الذي قاله الأنبياء السابقون، ((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ)) هو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا)) أي: لا ندري متى نموت؟ وبأي طريقة يكون الموت؟ فعلم ذلك عند الله عز وجل ((َمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))، فكذلك من قبل قال هذا النبي الكريم هود عليه الصلاة والسلام.
والكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: عجل لنا العذاب، {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، قد قاله السابقون قبلهم، قال الله على لسانهم: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:77]، وكذلك هؤلاء اللاحقون عندما دعوا على أنفسهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، أليس هذا يدل على جهلهم؟ فقال لهم نبيهم السابق هود عليه الصلاة والسلام: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ))، فالجهل موجود في الأمم الماضية.
وكذلك البعد عن الله عز وجل، وطلب ما لا يحل لهم، فبنو إسرائيل جاءهم نبيهم يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا بهم بمجرد ما ينجيهم الله يقولون: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، فهذا هو الجهل، والبعد عن الله سبحانه، وطلب ما لا يحل.
فكذلك هنا ذكر الله عز وجل عن نبيهم أنه قال: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: باستعجالكم عذاب الله سبحانه وتعالى.(489/4)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم)
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]، فجاء العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، والإنسان الذي يستكبر عن عبادة الله، وينتظر عذابه يأخذه، فإذا أخذه لا يفلته.
وانظر عندما جاء العذاب من الله سبحانه أين ابن نوح الذي اغتر أن أباه نبي؟ واغتر بأنه سيصعد إلى أعلى جبل كي يعصمه من الماء، فقال الله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]، فجاء العذاب من السماء، ومن الأرض، فالأرض أخرجت ماءها، والسماء أنزلت ماءها، وأغرق الله من على الأرض كيف شاء وحين شاء سبحانه وتعالى.
وعاد هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8]، فلم يكن هناك أناس بمثل هذه الأجسام، ومثل هذه القوة، لا من قبلهم ولا من بعدهم، ولن يأتي مثلهم، فالله قدر أن يكون هؤلاء عظة لغيرهم، فجاءهم العذاب فدمر هذه القصور العالية، وتتعجب من قصور هؤلاء عندما يجدونها في الحفريات في الرمال تحت الأرض، فيجدون جبالاً لهؤلاء القوم، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، جبال صم ينحتون فيها البيوت، وهذا مستحيل إن فكر أحدنا في ذلك، فكيف وهم قد بنوا قصوراً داخل هذه الجبال؟! فينحتون قرى كاملة في الجبال، أبوابها من الصخر، مدخلها كذلك من الصخر، وأشياء عجيبة جداً، فعمروا سنين طويلة نحتوا فيها الجبال، وبنوا فيها القصور الشاهقة، وظنوا أن هذه الجبال تمنعهم من عذاب الله تعالى، وظنوا أن هذه ستعصمهم من الله عز وجل، فإذا بالله عز وجل يأتيهم بالعذاب من مأمنهم، ومن حيث يظنون الأمن والأمان، ومن حيث يظنون البعد عن البلاء، ومن حيث يظنون مصدر رخاءهم، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأنذرهم غضب الله سبحانه وتعالى، فلم يخافوا وإنما طلبوا العذاب: ((ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، فمنع الله عنهم الماء، حتى هلكت الزروع والمواشي، وأجدبت الأرض، فماذا عملوا؟ بعثوا أحدهم إلى مكة -المكان هذا كان معروفاً، وكانت الكعبة غير موجودة، فهذا قبل إبراهيم- ليدعو الله لهم هناك، فأرسلوا واردهم ووافدهم، وهنا قصة يسوقها الإمام الترمذي وأحمد بإسناد حسن، وهي: أن رجلاً اسمه الحارث بن يزيد البكري -صحابي جليل- خرج إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ليكلمه في شيء، وفي الطريق قابلته امرأة عجوز، فطلبت منه أن يحملها معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحملها إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولما وصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يستعدون للخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، والقصة طويلة، وإنما الغرض منها: أن الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع قومه أرضاً في المكان الذي هم فيه، فالعجوز التي معه كانت من أهل هذه الأرض، فإذا بها تستفز وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعطيه الماء الكثير؟ وكيف تعطيه الأرض الواسعة؟ ونحن إلى أين سنذهب؟ مع أنها كانت مخالفة لقومها، فهي على الإسلام وقومها كانوا كفاراً، ولكن مع ذلك أشفقت المرأة على قومها، فقالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟ فقال الرجل متعجباً: حملتك من الطريق الفلاني وأتيت بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بك تخاصميني عنده! إنما مثلي كما قال الأول: معزاء حملت حتفها.
وهذه قصة معروفة عند العرب وهي: أن معزة كانت مع صاحبها، وبينما هي تحفر الأرض برجلها وجدت سكينة، فأخذها صاحبها وذبحها بها وأكلها.
ثم قال: (حملت هذه ولا أشعر أنها كانت خصماً لي، أعوذ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن أكون كوافد عاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هيه! وما وافد عاد؟) وهذا من لطف وأدب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف قصة عاد ووافدهم، ولذا عندما يذكر لك أحدهم أمراً من الأمور وأنت تعرفه لا مانع من أن تسمعه منه مرة أخرى، وليس لازماً أن تحرجه وتقول له: أنا أعرف هذه القصة، لا، وإنما اسمع منه ما يقول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟ فقال الرجل: قلت: إن عاداً قحطوا) أي: منع عنهم المطر ثلاث سنوات، قال: (فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيل، فمر بـ معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان) وعاد كانوا يسكنون اليمن، فأرسلوا أحدهم إلى مكة ليدعو لهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذا المكان مكان إجابة، فالرجل عندما مر في الطريق جاء على قوم عندهم طعام وشراب، ولم يكونوا يعانون مما يعاني منه الذين في الجنوب، فأقام عند معاوية بن بكر يسقيه الخمر ويطعمه وتغنيه جاريتان، فنسى وهو في اللهو ما جاء من أجله، ثم ذكره القوم بمقصد مجيئه، فخرج إلى جبال تهامة فنادى ودعا هنالك فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجيء إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت مسقيه)، أي: أن عاداً تعودوا منك أن تسقيهم، فهم كانوا يعرفون أن الله هو الخالق سبحانه، وأن الله هو الرزاق سبحانه، ومع ذلك يعبدون أصناماً من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا به يدعو ربه ويبقى هو في عبادته لغير الله، (فاستجاب الله دعاءه، فمرت به سحابات سود، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، وظن أن الله استجاب له دعاءه، فرجع إلى قومه يبشرهم بذلك، فنودي من السحابة: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً)، رماداً بمعنى: هباب؛ لأن أي شيء إذا احترق صار رماداً.
قال: (خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، قال: بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا)، أي: أن الله أرسل عليهم الريح العقيم التي تدمر كل شيء، فأسقطت السحابة عليهم نيراناً من السماء، وأرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فإذا جبالهم وحصونهم لا تحميهم، وأغرقها الله بالرمال، وكانت الريح ترفع أحدهم إلى علو ثم تشدخه بالأرض: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8] أي: هل ترى أحداً منهم موجود؟ فقال الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآيات: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)) أي: رأوا سحابات آتية تعرض في السماء، ((قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: قد استجبنا فلسنا محتاجين للرسول، فكان الجواب من الله: ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)) أي: هذا هلاككم، فقد كنتم تقولون: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، وجهلتم قدرة الله سبحانه، جهلتم بطش الله وانتقامه، ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ))، ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ))، فدمرت البلاد، ودمرت العباد، وغطت قصورهم وحصونهم وجبالهم بهذه الرمال ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، والآن معروف مكان الرمال، فهي في الربع الخالي، وهو مكان ليس فيه أحد، وفيه يبحثون عن حفريات وآثار للسابقين، وقد صوروا ما كان فيها من البيوت التي بنوها في الجبال، وأما أن أحداً يسكن في هذه الأماكن فلا، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وهذه قراءة عاصم وحمزة وخلف ويعقوب: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، وقراءة باقي القراء، ((فَأَصْبَحُوا لا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ))، أي: أصبحتَ لا ترى، فلو ذهبت إلى هناك فلا تجد أحداً، وليس هناك أماكن عمران، فلا ترى إلا مساكن هؤلاء القوم.
قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي: كل من يجرم فهذا جزاؤه، فنفعل به كما فعلنا بالسابقين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(489/5)
تفسير سورة الأحقاف [24 - 28]
يذكر الله تعالى هنا قصة قوم عاد الذين أرسل إليهم رسوله هوداً يدعوهم إلى الله وعبادته وطاعته، فقابلوه بالكفر والعناد والإعراض، ولم يغن عنهم ما سمعوا وما رأوا مما أصاب الأمم قبلهم من العذاب والنكال، ولم يعتبروا بذلك، فكان الجزاء من جنس العمل، حيث أرسل الله عليهم الرياح فاقتلعت بيوتهم وخيامهم، وخربت ديارهم، وجعلتهم عبرة وعظة وآية لكل الناس إلى يوم القيامة.(490/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:24 - 27].
ذكر الله عز وجل في هذه السورة قصة عاد الأولى، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم من حيث ظنوا أنهم آمنون، من حيث ظنوا أنهم يأتيهم الرزق (المطر)، فكان عذاباً أليماً، وريحاً شديدة تدمر كل شيء بأمر ربها، فقد أرسلوا وافدهم ليدعو ربه سبحانه وتعالى، فلما ذهب إلى جبال مكة ليدعو هنالك رأى سحابات في السماء، فقيل له: اختر، فاختار سحابة سوداء، فكانت هلاكاً ودماراً على قومه، وقيل له: خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، فكان فيها العذاب، وأرسل الله عز وجل عليهم الرياح الشديدة التي اقتلعتهم من الأرض، ورفعتهم ثم هوت بهم على رءوسهم، فكانوا كأعجاز نخل خاوية، فلم يبق الله لهم باقية سبحانه.(490/2)
من مظاهر قدرة الله تعالى
قال سبحانه: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)) أي: سحابات تعترض السماء، ((قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: أن هذه السحابات ستمطرنا، فقيل لهم: ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)) أي: هو العذاب الذي استعجلتم به، هذا العذاب ريح فيها العذاب الأليم، وهي تدمر كل شيء، فأرسلها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، أي: لو كنت هناك لرأيت القوم فيها صرعى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فأنجى الله سبحانه وتعالى هوداً والمؤمنين الذين معه، وهذا من الأمر العجيب، أن تأتي الرياح الذي فيها العذاب الأليم والشديد فتختار أناساً فترفعهم إلى السماء، وتهوي بهم إلى الأرض، فتشدخ رءوسهم وتتركهم جثثاً هامدة، وتدفنهم الرمال، وتترك أناساً لقوة إيمانهم وقوة يقينهم فلا تؤثر فيهم شيئاً، فالريح هبت على القوم جميعهم، فأنجى الله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون، فهذا هود عليه السلام اجتمع معه المؤمنون الأتقياء في مكان، والريح هبت فأهلكت من شاء الله عز وجل من هؤلاء.(490/3)
تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها)
قوله: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) وهذا من باب العام المخصوص، فهي لم تدمر كل شيء، فلم تدمر هوداً، ولم تدمر المؤمنين الذين معه، وهذا كما يقول الأصوليون: قد يأتي العموم ويراد به الخصوص، وقد يأتي العموم الذي يخصص إما بالنص، وإما بالإجماع، وإما بالعقل، وإما بالعرف ونحو ذلك، فهذا من العموم الذي يخص بما دل النص عليه، ويخص بالعقل أيضاً.
فهنا الرياح دمرت كل شيء أراد الله عز وجل تدميره، أما ما لم يرد تدميره فلم يدمر، ولذلك في الآية نفسها يقول الله: ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) فالمساكن لم تدمر، ولو أراد الله عز وجل لدمر كل شيء، ولكن دفن هذا كله بالرمال، فالرمال تؤمر لتدفن هؤلاء ولا تدفن المؤمنين، فالله عز وجل فعله عظيم، ومثل هذا الشيء شاهده أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه في يوم الخندق، فكان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الرعب والفزع من الكفار، وقد تجمع عليهم الأحزاب من كل مكان، فما كان من أهل المدينة إلا أن أخذوا برأي بعضهم في حفر خندق يمنع وصول المشركين إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون مواجهة هذا العدد الضخم من الكفار، ويبقى اليهود من ورائهم يحمون ظهورهم، لكن اليهود نقضوا العهد مع المسلمين، فأصبح المؤمنون في غاية الخوف والرعب، وفي هذه الظروف الحرجة تأتي ريح شديدة، وبرودة شديدة، والصحابة ما زالوا يرتعشون ويرتجفون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يأتينا بخبر القوم؟ -وهو على يقين أن الله سينصره- فلا أحد يجيب من شدة البرد ومن شدة الخوف، ثم قال: قم يا حذيفة! ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه لما قام أحد، فقام حذيفة وتوجه إلى جيش المشركين، فقال رضي الله عنه: فكأني أسير في حمام)، والحمام هو مكان الحميم، وهو الماء الساخن، فكان الفرق شاسع بين رياح جيش المسلمين ورياح جيش المشركين، فما إن وصل إلى معسكر الشرك وجد أمراً يخيف، فوجد الرياح تقتلع خيامهم، وتكفئ قدورهم، والعجب أن المكان واحد، فهنا المسلمين وهناك المشركين، والريح آتية على الجميع، لكن هنا صورة وهناك صورة أخرى، فسبحان مقلب الأمور، فيقلبها كيف يشاء، فأرسل الرياح ليقول لنا: قوم عاد فعلنا بهم كذا وكذا، وأنجينا المؤمنين منهم، كما أنجينا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه في يوم الأحزاب، وذلك عندما جاءت الريح على الجميع.
وفي يوم بدر لما أنزل الله عز وجل المطر جعله تثبيتاً للمؤمنين، وتخويفاً لهؤلاء الكافرين، وجعله أمنة للمؤمنين ليطهر به قلوبهم، ويثبت به أقدامهم، ويذهب عنهم الرجز والآلام التي في أنفسهم، وأما الكفار فيخزيهم ويكبتهم سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) فكل شيء راجع إلى أمره سبحانه، فهو الذي أمر الرياح بتدمير هؤلاء، فدمرت هؤلاء، ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) فأصبح الذاهب إلى هنالك لا يرى إلا المساكن، وأما الأقوام فقد دفنوا تحت الأرض.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] صُرع القوم، ثم دفنوا تحت الرمال هم وبيوتهم.
قال سبحانه: ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)) أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا، و (ذلك) اسم إشارة للبعيد، وقد يكون للشيء العظيم الذي حدث، وهو أن هؤلاء كانوا في غاية القوة فأهلكهم الله هلاكاً عظيماً، وكذلك هو إهلاكنا وعقابنا لكل مجرم يحاد الله ورسوله.(490/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)
قال تعالى: ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)) أي: مكنا لهؤلاء القوم، فأعطيناهم القوة العظيمة، والأبدان الصحيحة، والتمكين في الأرض، لكن عتوا في الأرض وأفسدوا فيها، ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)) و (إن) هنا تحتمل معانٍ كلها صحيحة، ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)) فتحتمل أن تكون: صلة، فيكون التقدير: ولقد مكناهم في الذي مكناكم فيه، وأعطيناكم مثل ما أعطيناهم، وإن كان هناك فرق كبير بينكم وبينهم، فهم كانوا عمالقة وأقوياء.
وتحتمل أن تكون: شرطية، فيكون المعنى: إن أعطيناكم مثل ما أعطيناهم من القوة وعظم الأجساد فإنكم ستفسدون وتعثون في الأرض مثل ما فعلوا، وأنتم الآن على ضعفكم تفسدون في الأرض، فكيف إذا كنتم مثلهم! وتحتمل (إن) معنىً آخر وهو: النفي، فيكون المعنى: (ولقد مكناهم فيما لم نعطكم مثله).
فقوله: (فيما إن مكناكم فيه) أي: في الشيء الذي أعطيناكم مثله، وهذا صحيح، وتفسير: فيما لم نعطكم مثله أيضاً صحيح، فتفسير: (أعطيناكم مثله) أي: أعطيناهم أرضاً وأعطيناكم أرضاً، وأعطيناهم رزقاً وأعطيناكم رزقاً، لكن لم نعطكم ما كانوا فيه من قوة عظيمة، ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)) فكان هؤلاء الأقوام ذو طول وقوة في البدن، فكان أحدهم ينحت الجبل فيعمل منه بيتاً فارهاً له.
إذاً: فقد أعطيناكم مثل ما أعطيناهم في بعض الأشياء، فأعطيناكم رزقاً وعقولاً تفكرون بها، ورسالة جاءتكم تدعوكم إلى الله سبحانه، وأعطيناهم شيئاً لم نعطكم إياه، فأعطيناهم القوة العظيمة التي لم نعطكم مثلها في أبدانكم، وإن كنا عوضناكم بشيء آخر مكانه، فأعطيناكم عقولاً تفكرون بها كيف تصنعون الطائرات والدبابات، والآلات التي تخرقون بها الأرض، والتي تبنون بها العمائر، وأما الأبدان فلم نعط أحداً مثل هؤلاء الأقوام.(490/5)
تمكين الله للأمم السالفة في الدنيا
قوله تعالى: ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً))، وأنتم أيضاً أعطيناكم السمع والأبصار والأفئدة، ((فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ))؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله.
وهناك فرق بين الجاحد والمنكر: فالمنكر: قد يظن في نفسه أنه صادق في ذلك، فتقول له: أنا أعطيتك حاجة كذا وكذا، فيقول لك: لا، ما أعطيتني، فلعله يكون ناسياً، لكن إذا نفى ذلك وكان ذاكراً فهو جاحد، فالجاحد هو الذي ينكر مع معرفته في نفسه وإقراره في قلبه أنه أخذ هذا الشيء.
فهؤلاء جحدوا بآيات الله وكذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهم يعرفون أن هذا النبي حق ومع ذلك كذبوا، وهم مقتنعون وموقنون أنه على الحق، لكن جحدوا وكذبوا، فاستحقوا العقوبة الشديدة، ولذلك طبع الله على قلوبهم فلم تنفعهم النذارة، ولم يخافوا من عذاب الله عز وجل، حتى بغتهم العذاب فلم ينفعهم شيء.
قال سبحانه: ((فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)) وهنا نرجع لقضاء الله وقدره، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فأولئك هم الغافلون، وأولئك هم الظالمون، فالله سبحانه تبارك وتعالى يهدي فضلاً منه سبحانه، ويضل بعدل منه سبحانه، فهؤلاء استحقوا أن يطبع الله على قلوبهم، وألا ينتفعوا بما يشاهدون من الآيات، وألا ينتفعوا بما يسمعونه من الحكم والعبر؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، ويكذبون بالحق الذي يعرفون، فلا يستحقون أن يبصروا، ولا أن تنار قلوبهم، فلذلك طمس الله عليها وأظلمها، فقال: ((إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ)) أي: أحدق بهم ونزل بهم نزول إحاطة، فنزل العذاب نزولاً فظيعاً عظيماً محيطاً بهم، فلم يفلت منهم أحد.
قال: ((وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)) فحاق بهم نتيجة ما طلبوه، فهم طلبوا من رسولهم عليه الصلاة والسلام، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] ضحكوا منه، وسخروا به، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه.(490/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى)
ثم قال لمشركي مكة: تذكروا ما حدث لهؤلاء القوم، وكيف أصبناهم بالعذاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] يعني: أنه قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل ممن كانوا حول مكة، كثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط في الشمال، وقوم عاد في الجنوب، وفرعون وقومه في الغرب، وغيرهم ممن كذبوا وأعرضوا وجحدوا.
قوله: (وصرفنا الآيات) أي: بيناها وأوضحناها بالحجج التي في القرآن، والتي يقولها الرسل، والدلالات، وأنواع البيانات والعضات من الله عز وجل، وقد بينا لكل قوم ولكل قبيلة ما ينذرون به، وما يخوفون به، ومع ذلك لم يرجعوا عن غيهم، قال: ((لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) , فلم يرجعوا، فجاءهم عذاب رب العالمين سبحانه.(490/7)
انكشاف تدليس المشركين
قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] و (لولا) بمعنى: هلا، وهي للتحضيض والحث، أي: هل نصرتهم هذه الآلهة لما جاءهم عذاب رب العالمين! فأين الآلهة التي كانوا يدعونها دون الله؟! ((فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)) أي: اتخذوهم آلهة يعبدونهم متقربين بذلك إلى الله، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وكذلك المشركون يدلسون ويفترون على الله الكذب، فحينما كانوا يعبدون الأصنام يتأولون لأنفسهم فيقولون: نحن نعبد هذه الأصنام من أجل أن تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، فيكذبون ويفترون، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له سبحانه، موافقاً لما يريده سبحانه.
{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28]، فالآلهة ضلت عن أقوامهم، والأقوام ضلوا عن آلهتهم، ((بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ)) ففي وقت الشدة والضيق، ونزول العذاب ما نفعتهم هذه الآلهة التي يدعونها من دون الله، فلم تكشف عنهم العذاب وقت مجيئه، ولم يقولوا: يا آلهتنا! وإنما قالوا: يا الله! فلم ينفعهم ذلك، قال: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ}، وضل بمعنى: تاه وبعد، والإفك: الكذب، وكأنه يقول: هذا إفكهم إن افتروا واتخذوا آلهة من دون الله، فكانت النتيجة عقوبة الله سبحانه، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]، فزعموا أن الآلهة تنفع وتضر مع الله، فلم تنفعهم شيئاً، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [هود:8].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(490/8)
تفسير سورة الأحقاف [29 - 31]
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان والأنداد، فلم يستجيبوا له، بل آذوه وحاربوه، فلما يئس منهم خرج إلى الطائف؛ لعله يجد من يؤمن به وينصره ويؤويه، ولكنهم قابلوه بنفس الصنع أو أشد، فسلاه رب العباد وطمأن قلبه بمن آمن به من الجن، حيث استمعوا له منصتين ببطن نخلة، ثم رجعوا إلى قومهم منذرين، فهذه هداية الله يعطيها من يشاء من عباده.(491/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: يقول الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32].
يقول تعالى مخبراً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) هذه السورة سورة مكية، وقد نزلت لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله.(491/2)
خروج الرسول إلى الطائف للدعوة إلى الله
يقول ابن عباس رضي الله عنه: لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة، ويدعوهم إلى الله عز وجل لعلهم يستجيبون له بعد إعراض أهل مكة عنه وأذيتهم له، فلم يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف مهاجراً وإنما داعياً إلى الله عز وجل بإذنه، فلما وصل إلى الطائف قصد أناسا ًمن كبارهم وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب، ثلاثة إخوة أبناء عمرو بن عمير وعندهم امرأة من قريش فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه.
والأصل أن الذي يدعوك إلى أمر فإما أن تستجيب وأما أن تنصرف عنه، لكن هؤلاء استهزءوا به صلى الله عليه وسلم، فقد دعاهم إلى الله عز وجل الذي خلقهم ورزقهم، والذي هو أحق بالعبادة من غيره، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، والمعنى: أنه مستحيل أن الله عز وجل يكون قد أرسلك.
وقال السافل الثاني: أما وجد الله أحداً غيرك يرسله؟ وهذا سوء أدب منهم وخفه، فلم ينظروا إلى الرسالة وإنما نظروا إلى الرسول، وهذا فعل اليهود، فقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان السفير بينك وبين الله هو جبريل فلن نؤمن بما جئت به، فلم ينظروا إلى مضمون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نظروا إلى جبريل، فما دام وأنه هو الذي ينزل بالوحي فلن يؤمنوا، ومع ذلك كان النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يحلم عنهم.
وقال الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لا أكلمك كلمة أبداً، فإذا كنت رسولاً فأنت أعظم من أن أكلمك، وإذا لم تكن رسولاً وأنت كذاب، فأنت أحقر من أن أكلمك.
فلم يستجيبوا له صلى الله عليه وسلم، بل أغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون عليه صلى الله عليه وسلم، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط ل عتبة وشيبة ابني ربيعة وعتبة وشيبة أبنا ربيعة من مكة، ولكن لهم حائط في ذلك المكان.
فظل هؤلاء وراء النبي صلى الله عليه وسلم يرجموه بالحجارة ويسبونه ويشتمونه، وهو ينصرف عنهم صلوات الله وسلامه عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له مكانته العظيمة عند الله، ولكن الله عز وجل أراد أن يعلم الخلق الحلم والأدب والصبر والعفو، وعدم الانتقام، وعدم الدفع إلا بالتي هي أحسن.
فلما وصل إلى ذلك البستان إذا بـ الجمحية وهي امرأة من بني جمح القرشية، وكانت زوجة لواحد من هؤلاء، وصعب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تقدر أن تعمل له شيئاً، فكأنها كلمت النبي صلى الله عليه وسلم تواسيه، فقال لها: (ماذا لقينا من أحمائك)، أي: انظري إلى فعلهم بنا، صلوات الله وسلامه عليه.(491/3)
شكوى الرسول الكريم إلى ربه
لما لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حيلة مع أهل تلك البلدة شكا إلى ربه سبحانه وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس) وذلك لأن هؤلاء لم يستجيبوا له، وفي مكة كذلك استجاب له عدد قليل قد لا يصل إلى مائة، ومع ذلك كانوا مستخفين إلى أن دخل عمر وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وبدأ المسلمون يظهرون، وإلى هذا الوقت والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: (أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي)، وهذا كلام عظيم منه صلى الله عليه وسلم فلم يعترض على ربه، وأهم شيء لديه هو أن يرضى عنه ولا يغضب عليه، فالله عز وجل حين يوجه إلى العبد مصائب الدنيا فإما أنه يستحق تلك المصائب بسبب الذنوب التي فعلها، وإما أن يكون له درجات عند الله لا يبلغها إلا بذلك.
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لله عز وجل إني راضٍ بما يحدث لي، ولا أبالي به إذا لم تكن غضباناً علي، ثم قال: (ولكن عافيتك هي أوسع لي) وهذا استدراك منه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أني مع ذلك غير قادر على هذا البلاء، فرحمتك وعافيتك أوسع، فإنها تسع كل خلقك، ثم قال: (أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى) أي: إلى أن ترضى، فسوف استمر في الدعوة إليك وأصبر على البلاء حتى ترضى، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا حول ولا قوة إلا بك).(491/4)
حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عمن آذاه
لقد أرانا الله عز وجل حكم وكرم النبي صلى الله عليه وسلم بأن نزل عليه جبريل، وأتى إليه ملك الجبال، فقال له جبريل: إن ملك الجبال يقول: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، وهما جبلان عظيمان يحيطان بهؤلاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكن أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) أي: لعل من ذريتهم من يؤمن بالله، فكان من أمر الله عز وجل أن أخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيء.(491/5)
تصديق عداس بالرسول الكريم
كأن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما ذاهبان إلى حائطهم في الطائف سمعا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فصعب عليهما ما حل به رغم أنهمها كافران لم يؤمنا به، وقد قاتلاه في يوم بدر، فقالا لغلام لهما نصراني اسمه عداس: خذ قطفاً من العنب وضعه في هذا الطبق، ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، ولم يذهبا إليه؛ هروباً من دعوته إياهما إلى الإسلام، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي قطفاً من العنب ليأكله وقال: (بسم الله، فلما سمعه الغلام العبد النصراني نظر إلى وجه صلى الله عليه وسلم ثم قال: والله! إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، -لأنه كان له معرفة ببعض الأديان- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت يا عداس؟! وما دينك؟) قال: أنا نصراني من أهل نينوى، من شمال العراق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟)، وكان الكفار لا يعرفون الأنبياء إلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانوا يسمعون عن موسى وعن المسيح عيسى، ولكن لا يعرفون التفاصيل، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان في مكة لا يعرف ذلك إلا أن الله سبحانه وتعالى علمه.
فقال الغلام لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك: وما يدريك ما يونس بن متى؟ -لأنه لا يوجد من العرب من يعرف يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي)، فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه، فلما رأى شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة ذلك منه قالا له: لم فعلت هذا يا عداس؟! فقال: ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.
وكان المفترض على هؤلاء لما عرفوا أنه نبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعوه ولا يحاربوه، ولكن الرئاسة قد تمنع الإنسان من اتباع الحق، وهؤلاء كانوا سادة في أقوامهم، فكيف يستجيبون لهذا الرجل ويكونون أتباعاً له؟! فالإنسان قد يرفض الحق بعد معرفته بسبب ما هو فيه من أمر الدنيا، ففضل الدنيا على الآخرة.(491/6)
وصول الرسول إلى وادي نخلة وسماع الجن للقرآن
قال ابن عباس رضي الله عنه: ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة -وكان بينها وبين مكة ثلاثة عشر كيلو متراً، وقد مشاها صلوات الله وسلامه عليه على قدميه- قام يصلي من الليل صلى الله عليه وسلم.
فمن فضل الله سبحانه أن بعث له من يستجيب لدعوته بعد أن رفضها أهل الطائف، فأرسل إليه نفراً من الجن من أهل نصيبين -مكان في اليمن- وكان ذلك سبباً لهدايتهم، فقد كانوا يسترقون السمع من السماء وينزلون إلى الأرض، فيأخذون الكلمة ويزيدون عليها ويكذبون بها على الخلق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بالجن التي تسترق السمع تلقى عليها الشهب الثاقبة من السماء فتحرقها.
فقالوا: هناك أمر قد حدث في الأرض منعنا من استراق السمع، فبعث إبليس سرية من أشرف الجن فداروا في الأرض حتى وصلوا إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ويتلوا القرآن، فاستمعوا له وقال بعضهم لبعض: أنصتوا، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فكأن الجن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون له وازدحموا عليه حتى صاروا لبداً، أي: صار بعضهم فوق بعض.
فقال الله له ممتناً عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29]، فعندما لم يؤمن الإنس جاء الجن فأمنوا بك، وهذا فيه تثبيت له صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الحادثة كان النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأن ابن مسعود: رضي الله عنه عندما سأله أحدهم: هل شهد منكم أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال ابن مسعود: لا، فكأنه يقصد في هذه المرة، وفي المرة الأخرى ذكرنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد الترمذي والدارمي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود: أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان يحتمل أنه لم يسمع ولم يحفظ كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الجن، فقد خط له النبي صلى الله عليه وسلم خطاً ونهاه أن يخرج من هذا الخط إلى أن يرجع إليه، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الجن، ثم رجع إلى ابن مسعود كما قدمنا في الحديث السابق.(491/7)
الجن يعلنون إسلامهم ويدعون قومهم إلى الإسلام
يقول الله عز وجل ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا)) والنفر: هو المجموعة من الجن، وقد جاءوا للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ((يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ))، فبعد أن كان يذهب إلى الإنس يسمعهم القرآن جاء إليه الجن ليستمعوا له، فقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] أي: هذا كلام عظيم جميل، {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:2].
يقول هنا ربنا سبحانه ((فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا)) أي: أمر بعضهم بعضاً بسماع الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا ساكتين يستمعون القرآن، وهذا من أدبهم، وكان مما تلى عليهم صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن، وهي تلقب بعروس القرآن، وقد تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة فسكتوا لما سمعوها، فقال: (لقد كانت الجن أحسن رداً منكم)؛ لأنهم سمعوا واستوعبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كلما تلا عليهم {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] يقولون: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، فتليت عليهم إحدى وثلاثين مرة، وهم يرددون: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
قال الله تعالى: ((فَلَمَّا قُضِيَ))، أي: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة القرآن على هؤلاء ((وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)) أي: ينذرون قومهم ويخوفونهم ويقولون لهم: ((يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ))، ففي هذه المرة دعا النبي صلى الله عليه وسلم الجن فرجعوا إلى قومهم منذرين، وجاءوا إليه أيضاً مرة أخرى، ففي صحيح مسلم عن معن يذكر عن أبيه عن مسروق أنه سأل: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ أي: من أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الجن يسمعون منه القرآن؟ فقال: حدثني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة.
وهذه معجزة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن الجن جاءوا ليستمعوا منه القرآن، وحتى لا يخاف النبي صلى الله عليه وسلم من الجن آذنته شجرة، فجاء الجن وسمعوا منه.(491/8)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)
فلما رجعوا إلى قومهم منذرين {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] وهذا كعادة القرآن في ذكر كتاب موسى وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأن كتاب موسى كان كتاب شريعة، وأما الإنجيل كتاب عيسى عليه الصلاة والسلام فلم يكن كتاب شريعة، وإنما كان كتاب حكم ومواعظ، وبشارة لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقال: العهد الجديد والعهد القديم فإن القديم هو التوراة التي فيها الشريعة.
فإذا قيل الكتاب الذي قبل القرآن فهو كتاب موسى عليه الصلاة والسلام الذي فيه التشريع من الله سبحانه وتعالى، فكأن الجن قالوا: هذا كتاب تشريع كما كان كتاب موسى كتاب تشريع.
وقوله تعالى: ((مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: مصدقاً للكتب السابقة وما جاء فيها من التشريعات والعقائد، من قصص الأنبياء.
وقوله: ((يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: يهدي إلى أمر الله عز وجل، وإلى الطريق المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى جنة الله ورضوانه.
قال الله تعالى: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)) فالجن يطلبون من أقوامهم أن يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمنوا به، فإن فعلتم ذلك فالله يغفر لكم من ذنوبكم بفضله وكرمه، وبسبب استجابتكم، ولأن الإسلام يجب ما قبله كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)).
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجيرنا من عذابه سبحانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(491/9)
تفسير سورة الأحقاف [30 - 35]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن نفراً من الجن سمعوا هذا القرآن الكريم البليغ المعجز، فدهشوا لسماعه، وتعجبوا من عظمته، فولوا إلى قومهم منذرين، فأخبروا قومهم بما سمعوه من العجب، وذكروا لهم صفته، وأنه يهدي إلى الرشد وإلى الطريق المستقيم، ثم نصحوا قومهم بأن يتبعوا دين الله تعالى، فإن هم فعلوا ذلك كان لهم الأجر العظيم، وإن لم يفعلوا ذلك فإنهم لا يعجزون الله شيئاً، ولا يضرون إلا أنفسهم.(492/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:29 - 35].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أنه صرف مجموعة من الجن يستمعون القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان في مكة بعد موت أبي طالب، وموت خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ازداد ابتلاء الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، وازداد أذى المشركين له، فخرج يدعو أهل الطائف فتلقوه بما ذكرنا في الحديث السابق، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان اسمه نخلة، وهنالك ساق الله عز وجل إليه مجموعة من الجن فاستمعوا منه القرآن، وصدقوه، ورجعوا إلى قومهم ليبلغوهم وينذروهم، فقالوا: ((يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)).
إنه كتاب عظيم جاء من بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وفيه شريعة من الله كما كان كتاب موسى فيه شريعة من الله سبحانه وتعالى، مصدقاً الكتب السابقة، وللرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: (يهدي إلى الحق) أي: يدل على طريق الله سبحانه، وإلى الحق الذي يريده الله، كما يدل على الإله الحق المعبود سبحانه وتعالى، ويهدي إلى طريق مستقيم، أي: طريق الشريعة الموصل إلى جنة الله عز وجل.
قال الله تعالى عن الجن أنهم قالوا لقومهم: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) فالجن يدعون قومهم ويقولون: يا قومنا، والرسل يدعون أقوامهم ويقولون: يا قومنا، وهذه الكلمة فيها ما فيها من اللطف بمن تدعوه، فحين تقول للإنسان: يا إنسان! افعل كذا، فقد يستشعر أنه شيء وأنت شيء آخر، وحين تقول له: يا أخي! أو تدعو المجموعة: يا قومنا! فإن هذا يجعلهم يألفون من يدعوهم، ويحسون أنه يخاف عليهم من عذاب الله سبحانه.
قال الله تعالى: {قَاْلُوْا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} فبدءوا بالدليل النقلي قبل مخاطبة العقل، فالنقلي: أنه كتاب جاء من عند الله عز وجل سمعناه ولم نقله من عندنا، وقد جاء من بعد موسى على محمد صلوات الله وسلامه عليه، ووجدناه يهدي ويدل على الطريق المستقيم وإلى الجنة.
وقوله: (يا قومنا أجيبوا داعي الله) أي: ما جاءكم من عند الله سبحانه، واسمعوا وعوا كلام رب العالمين.
وقوله: (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) فيه أن الذي يدخل في دين الله عز وجل الله فإنه يغفر له من ذنوبه، وكأن (من) هنا للدلالة على جنس الذنوب، وليس المقصود بها بعض الذنوب فقط، فالإسلام يغفر به الله عز وجل جميع الذنوب، ويجب ما كان قبله من الكفر والمعاصي بشرط الإحسان في الإسلام، فلو أن إنساناً كان كافراً سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً، أو في أي ملة من الملل غير الإسلام ثم أسلم وتاب وآمن وعمل صالحاً فالله يغفر له جميع ما فعله قبل ذلك، ولكنه لو أسلم ولم يعمل صالحاً، ولم يستمع لما يقوله الله سبحانه فقد تنفعه كلمة التوحيد يوماً من الدهر، ولكنه قد يؤاخذ على كل ما عمل من ذنوب قبل الإسلام وبعده، فلابد أن يحسن في الإسلام، فيصلي ويصوم ويزكي ويفعل الطاعات ويمتنع من المعاصي، وهذا الذي جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أسلم فأحسن غفر الله عز وجل له ذنوبه، ومن أسلم ولم يحسن أخذ بالأول والآخر) أي: بالذي فعله قبل ذلك والذي يفعله بعد إسلامه؛ لأنه لابد للإنسان المسلم من أن يظهر عليه أثر الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد وهي العهد والميثاق الذي بينه وبين الله عز وجل لا تجعله خالد مخلداً في نار جهنم كالكفار، ولكنه قد يستوجب النار والعذاب إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى، ثم يخرج منها إلى الجنة.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجن وإلى الإنس وإلى جميع الخلق، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فاستجابوا له.(492/2)
الخمس الخصال التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء
جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) إن الله عز وجل ميز النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال من فضله وكرمه، ولم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) أي: أنه بعث إلى الخلق جميعهم، الأحمر والأسود، والعربي والعجمي، والإنس والجن، فهذه خصيصة لم تكن إلا له وحده صلوات الله وسلامه عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فقد رحم الله عز وجل به هذه الأمة وأعطاهم الغنائم، وقد كان الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لهم الانتفاع بها، فإذا قاتلوا وغلبوا أعداءهم أخذوا الغنائم ووضعوها فوق الجبل وتركوها، فتنزل نار من السماء فتحرقها، ويكون ذلك دليلاً على أن الله قد قبل منهم هذا الجهاد، ولكن في شريعتنا رحم الله عز وجل هذه الأمة فأباح لهم أن ينتفعوا بهذه الغنائم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً)، فالذي يريد أن يصلي فمسجده الأرض، وفيها طهوره، فإذا لم يجد ماء يتوضأ به فليتيمم من الأرض، وله أن يركع ويسجد على تراب الأرض، فلا يحتاج إلى سجادة ولا حصيرة، فالأصل أن الأرض طاهرة، إلا إن علمت النجاسة في موضع فلينتقل الإنسان إلى موضع آخر ليس بنجس، وهذا تيسير عظيم من الله سبحانه في أمر الوضوء والاغتسال، فالبدل من ذلك هو التيمم.
وقد كان السابقون يحتاجون إلى مكان يصلون فيه، وأما نحن فلا نحتاج إلى ذلك، ففي أي مكان أدركتنا الصلاة صلينا، فإذا لم يوجد المسجد صلاها المسلم في أي مكان من الأرض، وأما السابقون فكانوا ملزمين بأن يصلوا في المساجد، ولذلك قال الله عز وجل لموسى عليه السلام وأخيه {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87]؛ لأن آل فرعون منعوهم من الصلاة والعبادة في المساجد، فأمرهم الله أن يجعلوا بيوتهم إلى القبلة، وأن يصلوا في بيوتهم، فالأصل عندهم ألا يصلي الإنسان في بيته، ولكن للضرورة التي وقعوا فيها من إيذاء فرعون وجنوده لهم رخص لهم في ذلك، وأما نحن فالأرض لنا مسجد وطهور، فإذا وجد المسجد فيلزم المسلم أن يذهب إليه، وإذا لم يجد المسجد صلى في أي مكان هو فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل -أي: حيث كان-، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر) أي: أنه صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب، فجعل الله له جنوداً من الإنس ومن الملائكة، وجنوداً مما شاء الله عز وجل مما يبثه في قلوب أعداءه، ومن ذلك الرعب، فأيما عدو سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قادم إليه جعل الله عز وجل في نفسه الرعب والخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل الله له من الجنود ما يعلم ومالا يعلم صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (وأعطيت الشفاعة)، فأعظم عطاء من الله سبحانه لنبيه أن يشفع في فصل القضاء يوم القيامة، ويطلب من الله عز وجل أن يفصل القضاء بين العباد، وله شفاعات أخرى معلومة.(492/3)
عموم دعوته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس
ذكر الله عز وجل عن الجن أنهم قالوا لقومهم: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ))، وداعي الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى آمنوا به أي: آمنوا بالله سبحانه وتعالى.
وقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] أي: يغيثكم من عذاب النار يوم القيامة، فالجن فيهم منذرون، لكن لم يذكر الله لنا أن فيهم رسلاً منهم، إلا أنهم يسمعون أنبياء الله عز وجل من البشر ويبلغون أقوامهم، فهؤلاء سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا وبلغوا قومهم وقالوا لهم: استجيبوا لربكم.
وأما قول الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:130] فهذا جاء على التغليب، فمعنى رسل منكم أي: من الإنس للجميع، كما تقول للشمس والقمر: الشمسان، وهي شمس واحدة، ولكنه غلب واحد من الاثنين، وتقول: العمران، وتقصد أبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وهو عمر واحد وليس اثنين، وقلنا: العمران ولم نقل: البكران؛ لأن العمران أسهل.
فهذا أيضاً من هذا الباب، فالمقصود بـ (رسل منكم) أي: من جنس واحد من الاثنين وهو الإنس.(492/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض)
قال سبحانه: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32].(492/5)
اختلاف العلماء في الجن هل لهم ثواب على إيمانهم أم لا؟
في هذه الآية يحذر الجن أقوامهم من معصية الله، ومن الكفر به، بالعذاب الأليم، وقد اختلف العلماء فيما لو أطاع الجن ربهم عز وجل هل لهم ثواب على ذلك أم لا؟ فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الجن لا ثواب لهم إلا أن يجاروا من النار، وبعد ذلك يقال لهم: كونوا تراباً فيكونون تراباً، والصواب خلاف ذلك، فكل مؤمن له أجر عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل عندما ذكر الجنة وما فيها قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، والخطاب هنا موجه إلى الإنس والجن، فالذي يخاف مقام الله عز وجل له جنتان سواء كان من الإنس أو من الجن، ثم قال بعد ذلك: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:62 - 63]، فالمطيع له الجنة والعاصي له النار من الجن والإنس.(492/6)
تخويف الجن لقومهم بقوة الله وقدرته
قال الله سبحانه: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:32]، فالجن يخاطبون قومهم بأن الذي لا يستجيب لله فلا يستطيع أن يهرب منه لا في الأرض ولا في السماء.
وقوله: {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: لا يجد من ينصره ويتولى الدفاع عنه ويتولى أمره من دون الله، بل هو في ضلال مبين وبعيد، فقد ابتعد كل البعد عن طريق الهداية، فهو في أعظم الضلال، وضل الإنسان بمعنى: تاه، فالذي لم يعرف ربه، ولم يستجيب له فقد تاه، وهذا التيه الذي هو فيه ضلال بيّن، فكل من ينظر إليه يعرف أنه ضال ضائع هالك، فهذا كذلك في ضلال مبين، كما قال الله تعالى: ((أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).(492/7)
تفسر قوله تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض بقادر)
يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33] فبعد أن ذكر سبحانه كلام الجن مع قومهم دعا الخلق إلى أن ينظروا ويتأملوا في بديع خلق الله عز وجل، وفي قدرته سبحانه وتعالى، والمعنى: أولم ير هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله سبحانه، ويكفرون بالله أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن، أي: لم يتعب ولم يكل ولم يعجز سبحانه وتعالى (بقادر) وهذه قراءة الجمهور، وقرأها يعقوب: (يقدر على أن يحيى الموتى)، أولم يروا ذلك؟
و
الجواب
بلى إنه قادر على كل شيء سبحانه، فأجاب سبحانه: ((بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فالذي خلق السموات والأرض، وخلق البشر وأحياهم وأماتهم قادر على أن يحييهم مرة ثانية، فهو يقدر على كل شيء في هذا الكون.(492/8)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)
يذكَر الله سبحانه وتعالى الكافرين بيوم الحشر والعرض الأكبر عليه سبحانه، فيقول: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:34] فيقال لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:34] ويؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، وعلى كل زمام سبعون ألف ملك، حتى تكون أمامهم فيصرخون ويفزعون، فيقال لهم: ((أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ))؟ فهذه هي النار التي كنتم تكذبون بها، وتستهينون وتسخرون منها، ((أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ))؟ فيجيبون على ربهم سبحانه ويقولون: {بَلَى وَرَبِّنَا} [الأحقاف:34]، قال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} [الأحقاف:34]، فلا ينفعكم الاعتراف بعد أن رأيتم النار، فقد كان الإيمان بالغيب وبالجنة والنار ينفعكم في الدنيا، قال تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34]، فهذا العذاب بما كنتم تكفرون، ونحن نؤمن بقضاء الله وقدره، وأنه منذ خلقهم وهو يعلم أنهم صائرون إلى النار، ولكن حين يدخلهم النار ليس معنى ذلك أنه ظلمهم، ولكنه أدخلهم النار بما كسبت أيديهم، فكان جزاؤهم جزءاً وفاقاً، إذاً: نؤمن بقضاء الله وقدره، فهو الحكم العدل سبحانه وتعالى، وحاشاه أن يعذب أحد ظالماً له، وإنما ذلك بما كسبت يديه.(492/9)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)
ختم الله سبحانه هذه السورة الكريمة بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] أي: فاصبر وتأس بالسابقين من قبلك من الأنبياء، فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -وقد صبر- وللمؤمنين بالتبع، فكأنه سبحانه يقول لهم: اصبروا على ما ينالكم من الكفار، فلعل الله عز وجل أن يأتيكم بالفرج من عنده، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، والعزم هو الحزم والعزيمة والقوة في دين الله سبحانه وتعالى، وكل الرسل من أولي العزم، ولكن بعضهم اشتد الابتلاء عليه واشتد صبره، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهؤلاء، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فأمره أن يقتدي بهدي السابقين عليهم الصلاة والسلام خاصة من ابتلي منهم فصبر، وللمفسرين كلام كثير في تعيين أولي العزم.
وكل من ابتلاه الله عز وجل وصبر على هذا الابتلاء فهو من أولي العزم، ولا يمنع أن يكون أعظمهم خمسة أنبياء، وهم: نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، هؤلاء من أولي العزم من الرسل، لكن ليسوا وحدهم فقط، فهناك غيرهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام صبروا صبراً عظيماً على أمر الله سبحانه، فهذا نوح صبر ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوا قومه وهم لا يستجيبون له، وما آمن منهم إلا قليل، وهذا هود يدعو قومه، وهذا صالح يدعو قومه ولا يستجيبون له، وهذا شعيب يسفهه قومه ويأبون أن يستجيبوا له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا أيوب يبتليه الله سبحانه وتعالى فيمكث في ذلك البلاء ثمانية عشر عاماً وهو صابر، ولم يطلب كشف البلاء عنه إلا في النهاية حين آذاه أصدقاؤه بكلام سيء، وباتهام كاذب.
فالغرض أن الله ذكر الأنبياء السابقين وما فيهم من عزيمة وصبر على أمر الله، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم في صبرهم عليهم الصلاة والسلام.
وقال سبحانه {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] أي: لا تستعجل فتدعو عليهم بأن يمحقهم الله ويبيدهم، ولكن اصبر عليهم، فكان كذلك صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35] أي: كأن هؤلاء حين يتخيلون ما هم فيه من طول العزاء والشقاء والعناء يوم القيامة {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، وكأن هذه الدنيا لعبة، فالإنسان حين يتفكر في عمره وكم مضى منه: عشر سنين، أو عشرون سنة، أو خمسون سنة، أو أكثر فإنه يحس أنه لا شيء، ولو عمِّر كما عمِّر نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما يقارن يوم القيامة بما عاشه في الدنيا يشعر وكأنه لم يعش ساعة، ولذلك عندما يسألون: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] قال الله سبحانه {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي: هذا بلاغ، فقد بلغناكم وأنذرناكم، والبلاغ بمعنى الكفاية أيضاً، كأنه يقول: هذا فيه كفاية لكم في إنذاركم، ولو أنكم تعقلون ذلك لاكتفيتم به، فعملتم ثم خفتم من المرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى: ((فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)) أي: فلا يهلك على الله إلا هالك، وهو الإنسان الذي فسق وخرج من عباءة الإيمان، ودخل في الكفر والشرك بالله سبحانه، فلا يهلك إلا الفاسقون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(492/10)
تفسير سورة محمد [1 - 2]
سورة محمد تسمى: سورة القتال، وسورة الذين كفروا، ولها أغراض عظيمة جداً أولها: تحريض المؤمنين على قتال الكافرين، وذكر ثواب ذلك عند الله عز وجل، وقد أخبر سبحانه أنه يبطل أعمال الكافرين مهما كانت؛ لأنهم لا يبتغون بها وجهه الكريم سبحانه، وأنه سيسدد الذين آمنوا بما أنزله من الشرائع على نبيه صلى الله عليه وسلم في كل شيء.(493/1)
مقدمة بين يدي سورة محمد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:1 - 2].
هذه السورة هي السابعة والأربعون في ترتيب المصحف في كتاب الله سبحانه وتعالى.
سميت سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسميت بسورة القتال، وسميت سورة الذين كفروا.
وأسباب التسميات: سميت بسورة محمد؛ لأنه ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذكر في آل عمران اسمه صلى الله عليه وسلم إلا أن هذه سابقة لسورة آل عمران، فسميت بذلك، أما سورة آل عمران فسميت باسمها المعروف.
وسميت بسورة القتال؛ لأن الله عز وجل ذكر فيها القتال، وحرض فيها المؤمنين على قتال الكفار.
وسميت بسورة الذين كفروا باعتبار أول آية فيها، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، والسورة قد تسمى بما يذكر في أولها أو بما يشتهر ذكره فيها ببعض الأحكام التي تدل عليها السورة.
هذه السورة مدنية باتفاق المفسرين، وإن كان روي أن فيها آية مكية وهي الآية الثالثة عشر فقد قيل: إنها نزلت في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل نزلت بعد غزوة بدر أو بعد غزوة أحد؟ المهم أنها سورة مدنية، وقد شرع الله عز وجل فيها القتال، وحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
والسورة ترتيبها على حسب نزول سور القرآن السادسة والتسعون، وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.
واختلفوا في عدد آياتها على ما قدمنا قبل ذلك من خلافهم في مواضع الوقوف في الفواصل التي بين الآيات، وإلا فهي نفس الكلمات ونفس الحروف إلا أن البعض قد يعتبر هذه آية والبعض يعتبرها آيتين، ففي عد الكوفيين ثمانية وثلاثون آية، وفي عد الحجازيين والدمشقيين تسعة وثلاثون، وفي عد البصريين والحمصيين أربعون آية، فهم يختلفون في الوقف، فقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، يوجد فيها وقف لغير الكوفيين، أما الكوفيون فلا يقفون، ولا يعدونها آية، وقوله سبحانه: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]، وقوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، وقوله: {لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4]، في هذه المواضع يقف الحمصيون، فبناء على ذلك سيكون العدد عندهم أكثر من العدد عند غيرهم.(493/2)
أغراض السورة ومقاصدها
الغرض من هذه السورة واضح من أولها، فهي تحريض للمؤمنين على أن يدفعوا عن أنفسهم وعن دينهم، وأن يطلبوا الجنة بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك معظم أغراض هذه السورة التحريض على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والانتصار لهذا الدين العظيم، وذكر ثواب ذلك.
ولذلك بدأت هذه السورة بذكر {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله} [محمد:1]، ليتذكر المؤمن أن هؤلاء كفرة، مجرمون، يكفرون بربهم سبحانه وتعالى، ويجحدونه سبحانه، بل ويصدون المؤمنين عن سبيل الله، فأول آية في السورة فيها تحريض للمؤمنين على هؤلاء الذين يصدونهم عن دينهم، وطردوهم من مكة، ثم جاءوا إليهم إلى المدينة ليقاتلوهم، وليضيعوا عليهم دينهم، فقد افتتح الله عز وجل هذه السورة بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لكونهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله سبحانه وتعالى.
وكذلك من أغراض هذه السورة أن الله عز وجل بين للمؤمنين أن الكافر غير مسدد وغير موفق؛ لأن التوفيق من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فالله هو الذي يوفقك، أما الكافر فلا يستحق التوفيق، فالله عز وجل يقول للمؤمنين: قاتلوا هؤلاء، فإني سأثبتكم، وأنصركم، وأسدد رميكم، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، وهذا التأييد كله إذا كان القتال في سبيل الله عز وجل وليس في سبيل الدنيا، وليس رياءً ولا سمعة، فإذا أخلص المؤمنون فإن الله وعدهم بأنه سيكون معهم سبحانه وتعالى، وأعلمهم سبحانه بأن الكفار لن يسددوا، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحبط أعمالهم، ثم أخبر المؤمنين بأنهم لا بد وأن يقاتلوا في سبيل الله عز وجل من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه، ونصر دينه سبحانه وتعالى، وأنه لو شاء لنصر دينه من غير جهاد أو مجاهدين، ولو شاء لمحق الكفر والكافرين، ولكن لحكمة من الله عز وجل لا بد من الابتلاء، والتنازع بين هؤلاء وهؤلاء ليعلم من الذي يثبت على دينه سبحانه وتعالى.
وفي هذه السورة وعد الله المجاهدين بالجنة، وأنه سيعطيهم الدرجات العلى منه سبحانه، كما أنه أمر المسلمين بمجاهدة الكفر والكافرين، ونهاهم أن يدعوا إلى السلم وإلى التراخي، فليس المسلم كالكافر، فلا تهنوا، أي: إياكم أن يصيبكم الهوان، فإذا أنت -أيها المسلم- أهنت نفسك أهانك غيرك، فلا تنظر لنفسك بعين التحقير مع هؤلاء الكفار.
ولذلك يشرع للمؤمن أن يختال على الكفار في ميدان الجهاد والقتال في سبيل الله سبحانه، ولا يري من نفسه الضعف، ولكن يري من نفسه القوة والعزة، فهو معتز بدين الله سبحانه، {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]، فإذا كان الله سبحانه معكم أيها المؤمنون فأنتم الأعلون، والله سبحانه لن ينقصكم ثواب أعمالكم، فما الذي سيجعلكم تهنون أمام الكفار؟ فالله سبحانه يدعو المؤمنين لجهاد الكفار إلى أن ينتصروا عليهم، فإن جنحوا للسلم فاجنح لها، أما أن تجنح للسلم وتجنح للتراخي في حال انهزامك وتلغي الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن الله لم يأمرك بذلك، طالما أن دين الله يتعرض له الكفار بالإيذاء، ويشرع جهاد الدفع والابتداء إلى أن يدخل الناس في دين الله أو يتركوا المسلمين يدعون الناس إلى الله سبحانه من غير أن يصدوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى، عند ذلك تشرع الأحكام الأخرى التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه.
أيضاً من أغراض هذه السورة إخبار المشركين بأن الله عز وجل سيصيبهم بمثل ما أصاب السابقين قبلهم، {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:102] أي: لينتظروا ما تكون النتيجة من قتالهم المؤمنين.
ومن أغراضها أيضاً وصف الجنة وما فيها من النعيم العظيم {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، ليشتاق المؤمنون إلى الجنة، فكأنه يقول للمؤمن: الجنة أمامك، وما بينك وبين الجنة إلا أن تقاتل في سبيل الله، مخلصاً لله سبحانه، أو تموت وفي نيتك أن تجاهد في سبيل الله، وفي قلبك إيمان بالله سبحانه.
ومن أغراضها: وصف النار وما فيها، وذكر طعام أهلها وشرابهم الذي يقطع أمعائهم، فهل يستوي ما في الجنة وما في النار؟ لا يستويان أبداً.
أيضاً من أغراضها وصف حال المنافقين، واندهاشهم وحيرتهم إذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال، فهم في وقت السلم يقولون: متى نجاهد؟ {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:20] أي: كل من يتلفظ بالإيمان {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] أي: بدل أن يقولوا: لماذا لم تنزل آيات فيها ذكر القتال يطيعون الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، حتى إذا أنزلت الآيات في القتال جاهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى.
أيضاً من أغراضها: تهديد المنافقين بأن الله سيفضحهم، وأنه سيريهم نبيه صلى الله عليه وسلم بأسمائهم فهو يرى سيماهم، وعلامات المنافقين واضحة، يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بها.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ} [محمد:30] أي: لعرفتهم بأوصافهم وأسمائهم ولكن تعرفهم في لحن القول، وتعرف إشاراتهم وأفعالهم.
ثم ختم الله عز وجل السورة بالإشارة إلى تحقق وعد الله للمسلمين بنوال السلطان، وحذرهم إذا صار إليهم الحكم، وصار بين أيديهم الملك أن يفسدوا في الأرض، وأن يقطعوا أرحامهم، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلُيتمْ} [محمد:22] أي: إذا كان الأمر كذلك {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
كذلك في هذه السورة الحث على تدبر كتاب الله سبحانه، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فهو يصف الإنسان الذي يسمع القرآن فلا يعقله ولا يتدبره بأنه مقفول على قلبه فلا يعرفه ولا يفهمه، فالإنسان المؤمن إذا سمع كتاب الله لا بد أن يرعه سمعه وقلبه وأن يتأمل وأن يتدبر فيه، وخاصة آيات الأحكام والآيات التي تتحدث عن الكون كخلق السماوات والأرض، فإنه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قول الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] قال: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن سمعها ثم لم يتفكر فيها)، فإذا سمعت آيات الله عز وجل وجب عليك أن تتأمل وأن تتدبر هذه الآيات حتى لا تدخل في الوعيد الذي ذكره الله سبحانه في الآية السابقة.(493/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)
ابتدأت هذه السورة بقوله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، كفر بمعنى: جحد، والكفر هو التغطية والستر، ولذلك يسمى المزارع كافر؛ لأنه يضع البذرة في الأرض ويكفرها بالتراب أي: يسترها.
فكأن الكافر غطى على دلائل ما يدخله في دين الله سبحانه، وما يعرف به الله سبحانه وتعالى، فهو يريد أن يطمس النور الذي جاء من عند الله سبحانه، فهو يقول: لا يوجد إله أو آلهة مع الله، كأنه جعل ربه عاجزاً يحتاج لآلهة أخرى معه! حاشا لله سبحانه وتعالى.
فالكافر حين ينكر آيات الله، وينكر نعم الله يكفرها، ويغطيها ويسترها فلا ينظر إليها ولا يدعو إليها.
والكفر فعل لازم لهم في أنفسهم، والصد فعل متعد، فهم يصدون غيرهم عن طاعة الله وعن سبيل الله سبحانه وتعالى، فكفروا في أنفسهم ومنعوا غيرهم من الدخول في الإيمان بالتعذيب والتهديد والوعيد وغير ذلك.
وسبيل الله هو طريق الله المستقيم، طريق الإيمان، والإسلام.
{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، أي: أعمال الكفار، والضلال بمعنى الضياع والتيه وعدم الهداية، فهو سبحانه لم يهدهم في أعمالهم بل أضلهم بالطمس على قلوبهم، وعلى أبصارهم وبصائرهم، فلا يفهمون ولا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
وقوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، هي من الآيات القصيرة التي لها معانٍ عظيمة جداً، وهي كثيرة في القرآن، وهذا من بلاغة القرآن فهو يبلغ إلى المعنى الذي يريده وإلى المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
ولها معنى آخر: وهو أن الله عز وجل أبطل على هؤلاء كيدهم ومكرهم وتدبيرهم للمؤمنين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وهذا وعد من الله عز وجل، أنه مهما مكر بكم الكفار واعتصمتم بالله سبحانه فإنه ناصركم عليهم، ومبطل كيدهم {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] أي: أبطل كيدهم ومكرهم وتدبيرهم لكم.
ولها معنى ثالث وهو: أنهم إذا جاءوا يوم القيامة تكون أعمالهم كلها هباءً منثوراً، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فقد كانوا يطعمون الحجيج، ويسقونهم ابتغاء السمعة، ليس ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، وابتغاء الشرف، ومن أجل أن يقال عنهم: هذه القبيلة أفضل من هذه القبيلة، ولذلك كان سبب صدهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله المفاخرة، لأنه سيكون أحسن منهم بزعمهم، فقد قالوا: تسابقنا مع بني هاشم، أطعموا الحجيج وأطعمنا الحجيج، وسقوا الحجيج وسقينا الحجيج، وعمروا المسجد الحرام وعمرنا المسجد الحرام، ثم لم يلبثوا أن قالوا: منا نبي، فأنى لنا بنبي؟ إذاًَ كان إطعام وسقاية الحجيج ليس من أجل التقرب إلى الله، وإنما كان لأجل المفاخرة وابتغاء الدنيا، وأن يكون لهم ذكر وفخر وشرف بين الناس.
ولذلك قالوا: حتى إذا كنا كفرسي رهان، أي: حتى إذا كنا في الشرف سواء قلتم: منا نبي! ومن أين نأتي بنبي؟ إذاً: فلن ندخل في هذا الدين.
فأبطل الله عز وجل ما عملوا مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام، وفك الأسرى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، ونحو ذلك، فأبطل الله عز وجل عليهم أعمالهم؛ لأن هذه الأعمال لم يبتغ بها وجه الله سبحانه وتعالى، حتى وإن ابتغوا وجه الله بشيء منها فهم يشركون بالله سبحانه ويتقربون إلى غيره من أصنام وغيرها، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وما كان خالصاً له وحده سبحانه وتعالى.
وكان من هؤلاء الذين يوصفون بالإطعام المطعم بن عدي وقد كان هذا اسمه، واشتهر بأنه يطعم الناس، فكأنه أخذ فعله من اسمه، ابتغاء الدنيا، فكان ابنه يقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: أبي كان يطعم الحجيج ويفعل ويفعل، هل هذا نافعه عند الله عز وجل؟ قال: لا، (إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، يعني: ما أخلص لله عز وجل، فقد كان عمله لغير الله، فلا يقبله الله عز وجل.
كذلك من هؤلاء من أطعموا في يوم بدر، فقد كان فيهم اثنا عشر رجلاً تكفلوا لجيش الكفار بالطعام، فكانوا ينحرون عشرة جمال أو تسعة جمال كل يوم، وهؤلاء الاثنا عشر: أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ونبيه بن الحجاج وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل، هؤلاء الاثنا عشر أنفقوا من أموالهم، والله يقول: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فلو أنفقوا ما أنفقوا فإنه إنفاق على الكفر لا ينجح عند الله سبحانه وتعالى.(493/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ} [محمد:2] الذي نزل على محمد، هو هذا الدين العظيم، وهذا القرآن الكريم، وهذه الشرائع من رب العالمين سبحانه التي تعلم الناس من ربهم وما دينهم ومن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وما الذي يرضي الله عز وجل، وما الذي يغضب الله، فهؤلاء الذين آمنوا بذلك ونفذوا أمر الله سبحانه، استحقوا من الله عز وجل أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يستر ما وقعوا فيه من المعاصي والسيئات، وأن يصلح حالهم وبالهم وعملهم، وأن يقبل ذلك منهم ولا يحبطه.
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(493/5)
تفسير سورة محمد [1 - 4]
منذ أمد بعيد والحرب قائمة على كل مسلم على وجه المعمورة، فأخبر سبحانه أنه سيبطل وسيحبط أعمال الكافرين المحاربين، وسيكفر سيئات المؤمنين، وسيصلح أحوالهم؛ وذلك أن الكافرين اتبعوا الباطل المستورد من أهوائهم والشيطان، والذين آمنوا اتبعوا الحق المستوحى من ربهم.(494/1)
تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:1 - 3].
هذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وذكرنا مقدمات لهذه السورة في الحديث السابق، وبدأها الله سبحانه تبارك وتعالى بتحفيز المؤمنين على الجهاد في سبيل الله سبحانه، وتهييج ما في قلوبهم من إيمان على الدفاع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ومقاتلة من يصدونهم عن سبيل الله وعن الدعوة إلى الله سبحانه.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:1] هم الكفار الذين كانوا في أهل مكة، وصدوا النبي صلى الله عليه وسلم ومنعوه من أن يدعو إلى الله سبحانه، وأخرجوه من داره صلوات الله وسلامه عليه، فربنا يذكر المؤمنين بصنيع المشركين؛ حتى يبارزوهم وحتى يدافعوا عن دينهم.
فإن المؤمنين لو تركوا الجهاد في سبيل الله تسلط عليهم الكفار، فالدنيا إما أن تكون فيها غالباً أو تكون فيها مغلوباً، ولا يوجد وسط في ذلك، والدنيا مثل الغابة، القوي فيها يغلب، والكافر استأسد على المسلم، وأخذ ما عنده، ولم ينفع معه مجادلة بحجة ولا بعقل ولا بشيء، فالكافر يلغي عقله، ويحكِّم سلاحه وقوته، وهذا فعل الكافر، والمؤمن يحكم شرع الله سبحانه، ويحكم دين الله عز وجل، ويخاطب العقول، لكن الكافر أغلق عقله وحكَّم سيفه، وتعرض لأذى المؤمن، فإن لم يكن المؤمن قوياً، ومعه من القوة ما يسكت به ويلجم هذا الكافر، ويدفعه إلى أن يحكم العقل، ويخضع للنقاش، فإما أن تكون ضعيفاً، والكافر قوي غالب مستأسد، غاشم، معتدي، لا يفكر ولا يسمع منك، وتقول: أدعوه، فإلى أي شيء تدعوه؟! وهو الذي يملي عليك الشروط، وهو الذي يلزمك بما يريد، لذلك يقول القرآن: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8].
لا تقل: أنا سأناقشه بالعقل وسيسمع مني، فهذا كلام غير مقبول، فإن الذي حكم عليه هو الله سبحانه، وهو عليم بما في نفسه، خبير بذات الصدور وذات الأنفس، يقول لك: كن قوياً؛ حتى تعرف كيف تدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وحتى لا يصدك هذا، وحتى لا يكفر بما جئت به، وحتى لا يستر ويغطي النور الذي معك بقوته، وطغيانه، فيقول لنا: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1]، بدأ بذكر هؤلاء وأفعالهم القبيحة.
قال تعالى: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فالله سبحانه أحبط أعمالهم، وأبطل ما يصنعون، وجعلهم في تيه لا يعقلون، فقد أضل أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة.
في الدنيا: أضل أعمالهم بأن جعل على قلوبهم الران والغشاوة، وختم على القلوب، وطبع عليها، فهم لا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
وفي الآخرة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].(494/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)
أما المؤمنون فيقول تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] المقصود المؤمن التقي الذي يعمل بما يرضي الله سبحانه، ويعمل الصالحات من الأفعال والأقوال، وكلها في ميزان حسناته، وميزان الصالحات.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2] أي: صدقوا بما جاء من عند الله، ومن ذلك آيات الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقتال المشركين، وآمن بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله: (إنكم إن تركتم الجهاد في سبيل الله سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
وقوله: (وهو الحق) جملة اعتراضية؛ ليبين أنه الحق سواء اعترفتم أو لم تعترفوا بأنه الحق، فالله عز وجل قد أخبر بذلك، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] فقوله الحق سبحانه.
والذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم، والإسلام وهذا الدين، وهذه الشريعة، والحق هو من الله سبحانه تبارك وتعالى، سواء أقروا أو لم يقروا بذلك، فهو الحق من ربهم.
قال تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد:2] أي: ستر عنهم السيئات التي وقعوا فيها، وغفرها لهم سبحانه تبارك وتعالى، ولم يفضحهم بها لا في الدنيا ولا في الآخرة.
{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] البال هو: الشأن، فشأن الإنسان: باله وحاله، فأصلح الله شأنهم، أي: أصلح حالهم، وأصلح أعمالهم، وأصلح أقوالهم سبحانه تبارك وتعالى، ومصالح دينهم ودنياهم وأخراهم أصلحها الله سبحانه، ووجههم إلى الخير في ذلك.
{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] على ما يتعلق بأمر دنياهم، وأمر أخراهم، ومن معانيها أيضاً: أصلح نياتهم، وأصلح أعمالهم بإصلاح نواياهم، فالبال المذكور هنا بمعنى: الشأن، ويأتي بمعنى: عمل الإنسان أيضاً، إذاً هنا: أصلح الحال، وأصلح الشأن، وأصلح أعمالهم، وأصلح أمورهم سبحانه تبارك وتعالى.(494/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل)
قال تعالى: {ذَلِكَ} [محمد:3] أي: الأمر الذي ذكره الله عز وجل، وهو إضلال الكفار، وإصلاح حال المؤمنين وهدايتهم، {ذَلِكَ} [محمد:3] وهي كلمة فصيحة؛ لأنها تعبير عن جملة، وهي أن الذي ذكر هذه الآية أشار إليه بذلك، وكل الذي فعله الله عز وجل من إصلاح حال المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين، من صنع الله سبحانه له سبب وهو: {بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3].
فالكفار اتبعوا الضلال، واتبعوا الباطل، وهم في غيهم يلعبون، ومع ذلك يصدون المؤمنين عن عبادتهم، ويصدونهم عن ربهم سبحانه تبارك وتعالى، والكافر يظن أن المؤمن ليس بأحسن منه، فهو لا يقبل أن يكون المؤمن أفضل منه، حتى وإن قال الكافر: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] فلن يسكت أبداً عن المسلم؛ لأن المسلم دينه حق، ولو دعا إليه سيتبعه الناس، فالكافر لا يريد ذلك، فإذا جاء على المسلم ضيق عليه، كما صُنع مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل له: إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاقرأ في بيتك، ولا تقرأه علينا، فأخذوا الميثاق على ذلك، ونادوا بمن أجار أبا بكر فإذا به يلتزم لهم ألا يقرأ أبو بكر عليهم القرآن، وبنى مسجداً في داره، وجلس يقرأ القرآن فيه، فإذا بنساء المشركين، يتهافتن ويأتين إلى بيت أبي بكر الصديق، يسمعن من أبي بكر الصديق القرآن، فرفض الكفار ذلك، وقالوا: لا يقرأ حتى لو كان في بيته.
فالكافر لن يكف عن إيذاء المسلمين، ويقول لك: تصرف على راحتك، وخذ حريتك، هذا غير ممكن، ولن يسكت على ذلك، مع أنه يعرف دينك، والمستشرقون درسوا هذا الكتاب، ودرسوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن فيه كذا، والسنة فيها كذا، ولو انتشر ذلك هم الذين سيغلبون ويسيطرون على الدنيا؛ لأن كلامهم الحق.
فهم يضربون المسلمين ضربات قاصمة، من أجل أن يفتتوا الدين، ويفرقوا المسلمين، بعدما كانوا دولة واحدة وخلافة تحكم الدنيا كلها، فتتوها إلى دويلات وإمارات وجمهوريات، وأصبح كل واحد ينظر لما عنده وليس له شأن بأحد، والمسلمون في كل مكان يحصل لهم ما يحصل، وهو يقول: ليس لي شأن، والمهم الذي نحن فيه فقط، والمكان الذي نحن فيه.
ودخلوا في ديار المسلمين، وأخرجوا نساء المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، فهي أعظم فتنة، ونادوا بخروج المرأة من البيت، وبدءوا يقننون للزنا والفواحش القوانين تحت ما يسمى: بالحرية والمساواة والعدالة مع المرأة، ومبدأ مساواة المرأة بالرجل، فتخرج المرأة وتفعل ما تشاء، ليس لأحد شأن بها، وبدءوا يتحكمون في بلاد المسلمين.
وقالوا: إن المرأة مظلومة، فأقرت الأمم المتحدة قانوناً للنساء، لا بد أن يطبق في كل بلد من البلدان، فأصبح المسلمون كلهم يقولون: إن المرأة نصف المجتمع، ولا بد أن نعطي لها مكاناً في البرلمان، واحتجت أمريكا على الدول التي تكون فيها المرأة منقبة، وقالوا: لا بد للمرأة أن تتحرر من هذا النقاب! فهم يتدخلون في جميع شئون بلاد المسلمين، ويقولون: لا نسكت على هذا الشيء، لا بد أن تخرج المرأة حتى ينتشر العهر والجنس، وحتى يقع الناس في الزنا، وحتى ينزل عليكم غضب الله سبحانه تبارك وتعالى، وحتى تتركوا دينكم، وحتى لا تنتصروا؛ لأنهم يعلمون أن هذا هو الدين الذي تنتصرون به، فالكفار عرفوا أن المسلمين إن تمسكوا بدين الله، نصرهم الله عز وجل، فبدءوا يدخلون الشبهات والشهوات عقول شباب المسلمين، حتى يصرفوهم عن الجهاد، فأدخلوا لهم المسكرات، وأحلّوا لهم الخمر والحشيش والفواحش، وغيرها من أساليب الإدمان التي تزج بشباب المسلمين إلى المصحات أو القبور.
وبين الحين والآخر يخترعون أشياء وينزلوها في بلاد المسلمين، وإذا وصل الحال بشباب المسلمين إلى ذلك، لن يكون لهم جيوش، فما دام الشاب سكراناً ومحذراً وضائعاً، فلا قوة للبلدان المسلمة، ولماذا تقوم الدول والحكومات بإنشاء الجيوش؟ فإذا أراد الكافر في أي يوم أن يضربك، لن تستطيع أن تدافع، ولن يكون أمامي إلا شعبك، لديك مدافع ولديك دبابات، ولكن ليس لها المدى الذي تصل به لطائراتنا، ولا لهجومنا، هؤلاء الكفار الذي حذر الله منهم بقوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] فهم يقولون: سنضربكم، وندمر دولكم بدعوى وجود الإرهاب في بلادكم، أتينا لنعلمكم الديمقراطية، والحرية، وأتينا نقرر عندكم مبادئ المساواة والعدالة، وإخراج النساء من المنازل، والمسلمون للأسف الشديد حتى إذا لم يصدقوا فهم مغلوبون على أمورهم، وعلى عقولهم، وهم يمضون وراء التيار، لكي لا تضيع الرياسة منهم، ولكيلا تضيع الكراسي منهم، وهم يقومون بإخافتهم بلعبة العصا والجزرة التي يلعبون بها مع القرد أو الأرنب أو غيره، يقولون: نعطيك الجزرة إذا مضيت معنا، ونضربك بالعصا إذا خالفت دربنا، فإذا بهم يمضون وراء هؤلاء في كل ما يقولون! ويحذرنا القرآن من ذلك، فإذا ظهروا عليكم لن يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة، وأكبر دليل على ذلك ما يصنعون في العراق، ففي كل يوم يضربون العراق وأهله، وهم إذا أرادوا قتل جماعة من الناس في أي دولة من الدول فإنهم يطلقون على هذه الجماعة وابلاً من الرصاص والمدفعيات وغيرها من الأسلحة ثم تقول الدولة والإدارة: قتلوا بنيران صديقة! وهم يريدون تطبيق مبدأ المساواة التي يريدونها، وفي الحقيقة أن المساواة والعدالة معدومة تماماً في سجونهم ومعتقلاتهم.
فلذلك من ابتعد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب به الشيطان، ولعب به هواه، ولعب به الكفار وتحكموا فيه، والله مع المؤمنين إذا اعتصموا بالله، والله سيضل الكافرين؛ لأنهم اتبعوا الباطل.
قال تعالى: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، فهداية المؤمنين منوط بذلك، فالمؤمن لا بد أن يكون متبعاً للحق من عند الله، وليس مبتدعاً، ولا بعيداً عن دين الله سبحانه، تاركاً له وراء ظهره، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، ما هي نتيجة هذا الشيء؟ أن الله مع المؤمنين، وأن الله يكيد للكفار، وأن الله يغلبهم ويمحقهم سبحانه.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3] أي: كهذا البيان الذي ذكر الله عز وجل يوضح الله لكم في كتابه، فاعقلوا عن الله ما يريد بكم من خير.(494/4)
تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] هذا هو الحكم الذي مهد له فيما تقدم، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] والكافر إذا حارب المسلم، فلا يقول له المسلم: أسالمك، وافعل بي ما تريد، فأنا مسالم، وسأعمل على تحقيق هدنة من طرف واحد! هذا خطأ حذر الله منه، فطالما المؤمن مستضعف نفسه، فإن الكافر يستأستد عليه.
فعلى المؤمن أن يكون قوياً، ويجهر بالحق، مع إعداد القوة التي أمر الله عز وجل بها، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] (ما استطعتم) من ألفاظ العموم، أي: كل ما استطعتم من قوة، ولذلك فإن المؤمن يتقن عمله في كل مجال؛ حتى يعد العدة لهؤلاء الكفار، كما أمر الله سبحانه، ولا بد للمسلمين أن ينبغوا -كما كانوا قبل ذلك- في كل المجالات، وكل في مجاله، فالآن العلم أصبح شبكة متداخلة فالطب أصبح في الهندسة، والهندسة دخلت في الطب، فيوجد الطب الوراثي، والهندسة الوراثية والزراعة وغيرها إذا لم يتعلم المؤمن هذه الأشياء فسوف يدخل الكفار إلى بلاده، فيخربون بلادهم، ومثال ذلك: عندما استوردنا البذور من إسرائيل، فسدت المزارع، ولم ينبت الزرع، وهذا نتيجة أنهم وصلوا في الزراعة لأعلى الدرجات، فاليهود أعلم الناس بالزراعة، فإذا أنت لم تكن على نفس الدرجة الذي هو عليها، فإنك ستحتاج إلى ما يقدمونه وخصوصاً إذا كان بسعر رخيص.
وعندما ترك المسلمون ذلك، دخل الطلبة الامتحانات بأجهزة إلكترونية بغرض أن يغشوا بها، فزوروا ودفعوا رشاوى لكي ينجحوا، وتركوا العلم فلم يتعلموا أمور دنياهم، ولا أمور دينهم، واعتمدوا على بعض المدرسين الذين حضروا الدكتوراه، والذين حضروا الماجستير في رسالة معينة، ثم رميت في الدرج، وأقفل عليها ولم ينظر أحد إليها بعد ذلك.
أصبحت رسائل العلماء في الأبحاث التي يعملونها مرمية، واعتمدنا على الغرب أن يعطينا، فأعطونا هذه الصفعات المتتالية التي لا نقوم منها، وبين الحين والآخر يحصل شيء في غير صالح الأمة، تأتي أنفلونزا الطيور، فلا نستطيع محاربتها إلى أن يبعثوا لنا بالمصل من الخارج، ونصرف كذا مليار من أجل أن نحضر المصل من الخارج، فنحن لا نفعل شيئاً، حتى الإبر نستوردها من الصين، والأوراق نستوردها كذا، في الخارج القمامة التي في البيوت يأخذوها، ويقسمون القمامة، فيضعون الورق في جانب، والبلاستيك في جانب، والزجاج في جانب، فتباع لأصحاب القمامة؛ من أجل أن يشجع الناس ألا يفسدوها، وتأتي شركة الورق تبحث عن الورق الهالك هذا، ويستفيدون منه في إعادة تصنيع الورق، ولو أننا نعمل هذا فإنه من الممكن أن نستفيد بمقدار 65% مما نستورده منهم، ولكن الناس يفسدون الورق، ويضع الورق على الماء، وعلى النجاسة، ونحن لا نحتاج الورق، فنحن لا نعرف ماذا نفعل به، وهذا نتيجة عدم الفهم، فهل الكافر أذكى منا لأنه يفكر بهذا الشيء، ونحن ليس لدينا هذه العقول؟ فعقولنا أصبحت عقولاً سفيهة غبية؛ لأنها تركت دين الله عز وجل.
فعلى المسلمين إذا لقوا الكفار أن يكونوا أقوياء، قادرين على الصمود، أما الآن فأخبار جرائدنا عبارة عن: هجوم صاروخي على البلدة الفلانية في بداية الصفحة، وتحتها: هجوم لفريق كرة القدم على الآخر! فهذا الذي أصبحت الشعوب مهمة فيه، وإخواننا يضربون في بلدانهم، ونحن لا نعقل ولا نفهم، وكل الذي في عقولنا: ماذا سنأكل غداً؟ ماذا سنفعل؟ رزقنا قليل البلد ليس فيه عمل، لأن الله سلط بعضنا على بعض، فانشغل الناس بالدنيا، وتركوا دين الله سبحانه، بل أصبحوا يحاربون دين الله سبحانه.
وتجد شاباً ملتحياً قدم بطلب وظيفة في شركة خاصة لكي يعمل بها، فلم يتم قبوله؛ لأن الشخص الملتحي ممنوع من العمل في شركة خاصة وفي الشركات الحكومية أيضاً! وكل هذا محاربة لدين الله سبحانه؛ لأن الكفار يقولون لهم ذلك، بحجة أنهم إرهابيون، ولكنه بعد أن حلق لحيته تم قبوله، فلماذا بعدما حلق لحيته أصبح جيداً، ودخل الشركة مع أنه نفس الشخص ولم يغير نفسه، وعندما كان بلحية كان إرهابياً؟! يقولون: إن شركتنا لا تقبل ملتحين، ومنظرك لن يكون مناسباً، ولكن تجد المنسق الأوروبي لحيته كثيفة، فلماذا لحية هذا لم تفسد عليه الاجتماع الذي هو فيه؟! هذا يدل على عدم التفكير، وعلى الهوس في التفكير، والبعد عن دين الله سبحانه، فيسلط الله عز وجل عليهم أعداءهم، يملون عليهم أن افعلوا كذا من دون تفكير، وهذا كله سببه الضعف الكامن في قلوبهم، فهم ضعيفون في عقائدهم، وفي نفوسهم، وقد استخزوا فأخزاهم الله، واستذلوا فأذلهم الله، واستهانوا بأنفسهم فأهانهم الله، وما لجرح بميت إيلام.
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4] وكنتم على قوة، وأعددتم لهم ما تستطيعون من قوة، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد:4] ولا يكون المن والفداء إلا بعدما تكون قادراً، وبعدما تخيف عدوك، ولا يكون هذا وأنت ضعيف فسيستهين بك، ويلعب بك، ولا تقدر معه على شيء.
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ} [محمد:4] يعني: اضربوها ضرباً، فهذا مصدر يفيد جملة محذوفة تقديرها: اضربوا رقاب الكفار ضرباً.
{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] ورقبة الإنسان أعز ما عليه، فعندما أقول: اضرب رقبته، يعني: أزل رأس فلان، ففيها من القوة ومن الشدة، فهي أقوى من أن يقول: اقتله، قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] أي: أزيلوا رقاب هؤلاء؛ حتى يكون بعضهم عبرة لبعض، وقد يقول بعض الكفار: أنتم تعملون هذا الشيء من ضرب للرقاب، متناسين القنابل التي ينزلونها على بلاد المسلمين، القنابل الفسفورية والعنقودية والذرية الصغيرة والكبيرة، وكلها تجرَّب في بلاد المسلمين، ويدمرون بها المسلمين، ويدمرون بها الحقول, وعندما تنزل تخرج الماء من باطن الأرض، فما الذي يفعلونه بالمسلمين؟! أليس ضرباً للرقاب بهذه القنابل، وحرق البلاد والعباد وإفساد الأرض؟ فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم، الذين يصدونكم عن سبيل الله ويصدونكم عن دين الله سبحانه، ويمنعون تبليغ دين الله سبحانه، لا ينفع معهم إلا أن تجاهدوهم.
وإن الحرب التي يتحدثون عنها هي: حرب صليبية، مهما قالوا: إنها من أجل الديمقراطية فهذا كذب بين، وهذه حقيقة حروبهم مع المسلمين، وأن الإسلام هو عدوهم.
ولذلك لما انهار الاتحاد السوفيتي قال الأمريكان في اجتماعهم: انتهينا من عدو، وبقي لنا الآن عدو آخر وهو: الإسلام، فبعد الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة، وحرب النجوم، لا بد أن نشن الحرب على الإسلام، وفعلوا ذلك، والمسلمون في غفلة، يقولون: لا، هذه ليست حرباً على الإسلام، هؤلاء يقصدون المتطرفين من المسلمين! والحقيقة أنهم يضربون المسلمين الملتزمين وغير الملتزمين، يضربون الجميع، ولا يفرقون بين أحد وآخر، بل يحاولون إبادة كل شخص يطلق عليه مسلم، لذلك لا بد أن يعود المسلمون إلى عقولهم، ويعودون إلى دينهم، ويقرءون التاريخ فيعرفون كيف يصنع الكفار بالمسلمين حين يتمكنون منهم.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين, وأن يذل الكفر والمشركين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(494/5)
تفسير سورة محمد [4 - 7]
شرع الله سبحانه الجهاد في سبيله، وشرع أحكاماً في معاملة أسرى الحرب، وبين سبحانه ما للشهيد عنده من كرامات وهبات، وفضائل سابغات، وبين فضل المجاهدين، حتى يحث المسلمين على الجهاد، فقد اقتضت سنة الله الكونية أن يقع الصراع بين الحق والباطل، ولو شاء الله لانتصر من الكافرين، ولكن ليبلو المسلمين بهم.(495/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حكم من أحكام الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، فيقول: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] أي: اضربوا رقابهم كما قدمنا في الحديث السابق، والكفار: من ليس بينهم وبين المسلمين عهد ولا ذمة، فهؤلاء الذين يقاتلون، أما من بينهم وبين المسلمين عهد أو ذمة، فلهم عهدهم إلى مدتهم، فإذا كانوا يعيشون بين المسلمين، ولهم ذمة مع المسلمين، ويدفعون الجزية للمسلمين، فلهم عهدهم ولهم ذمتهم.
لكن الكافر الحربي المحارب للإسلام ولدين الله عز وجل، يحارب ويجاهد في سبيل الله عز وجل، قال: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4] أي: في أي مكان، سواء جاءوا إليكم أم نزلوا في أراضيكم، أم قابلتموهم في قتال بينكم وبينهم، قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، وفي الآية تعويد للمسلمين على العزة بدينهم، وأن يطلب الله سبحانه في هذا الجهاد لا الدنيا، فإذا كان الجهاد لله عز وجل كان الله مع المؤمنين فنصرهم وأعلى أمرهم، لذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من المسلمين في سرية لقوا بعض الكفار، وكان بينهم مسلم وكانت بينه وبين أحد المسلمين المرسلين ضعينة، فلما وصل إليهم سلم عليهم، فتحرش المسلم به فقتله زاعماً أنه يتحصن بالسلام فقط، وحقيقة أمره أنه طمع في الغنيمة التي كانت مع هذا الرجل، فقد كانت معه بعض غنمات فطمع فيها، فأخذ الغنمات وقتل الرجل، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] فقوله: (لَسْتَ مُؤْمِنًا) أي: لن نؤمنك، وليس المقصود بالإيمان المقابل للكفر، بل أنت على ما أنت عليه، قال: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، فالآية هنا فضحت ما في النفس، وقالت: احذروا أن يكون الجهاد طلباً للدنيا، فهذا الذي صنعتموه بهذا الرجل، لم يكن ابتغاء وجه الله، بل ابتغاء هذه الغنيمة، ولقد كنتم كفاراً من قبل فمن الله عز وجل عليكم بالإسلام، فلماذا تبادرون بقتل إنسان ألقى إليكم السلام، وفي هذا تعويد للمجاهدين أن الأسير إذا استسلم فلا يجوز قتله في هذه الحالة، قال: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) و (السَلامَ)، فالسلم: الاستسلام، والسلام: قول: السلام عليكم، ولا تقل لهذا: لست مؤمناً، أي: لن نؤمنك، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94] أي: كنتم كفاراً قبل ذلك، قال: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94].
فهنا الله سبحانه وتعالى يعلم المؤمن أن يكون مجاهداً في سبيل الله مخلصاً له طالباً أمان الناس، هذا هو الهدف، فليس الهدف أخذ الغنيمة، وإنما هي تابعة.(495/2)
الحكمة من الغلظة على الكافرين المحاربين
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4]، منوا على هؤلاء بأن تعلموهم دين الله سبحانه، فإذا كان لا فائدة، فاقتلوا الذين كفروا، كما قال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]؛ لأنهم إن ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل بعوثه وسراياه صلوات الله وسلامه عليه وجيوشه فيقول لأميرهم: (إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى واحدة من خصال ثلاث) أي: ولا تقاتلهم مباشرة، قال: (ادعهم إلى الإسلام، فإن هم أطاعوا فكف عنهم، واقبل منهم)، إذاً: فالأمر ليس لمجرد القتال فقط، ولكن ابدأ بدعوة هؤلاء إلى دين الإسلام، فإن قبلوا منك هذا فهو المطلوب، فإذا لم يقبلوا الإسلام أتيت بالخصلة الثانية، قال: (ادعهم إلى أن يدفعوا الجزية، فإن قبلوا منك ذلك فخذ منهم وكف عنهم، فإذا رفضوا ذلك وأبوا إلا المقاتلة، فاستعن بالله وقاتلهم، فإذا قاتلت هؤلاء فافعل بما أمر الله عز وجل، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]) أي: قاتل قتالاً شديداً ابتغاء وجه الله عز وجل، كما قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:139 - 140]، فأنتم الأعلون عند الله عز وجل، فإنها إن تصبكم جراحات في القتال فقد أصابت اعداءكم، فهل يكونون أصبر منكم على الجراح وعلى القتل؟ وكيف يكونون أصبر منكم وأنتم موعودون بالجنة عند الله عز وجل؟! فلكم الأجر العظيم والقرب من الله سبحانه في الآخرة، ولكم في الدنيا النصر والغنيمة، فلا تكونوا أقل شأناً من أعدائكم.
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] أي: فقاتلهم قبل أن تسالم أو تداهن؛ حتى توهن عدوك، وحتى يعرف قدرتك، ثم تكلم عن السلم بعد ذلك وأنت غالب قوي، أما وأنت ضعيف فليس لك عند عدوك شأن حتى يقبل منك شيئاً، فلا تبدأ بطلب السلم بل جاهد وقاتل في سبيل الله حتى تضعف خصمك، وحتى ينصرك الله سبحانه وتعالى.
قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد:4]، الإثخان في العدو: أي: إكثار القتل فيه، يقال: أثخنه جراحاً: أي: أسال دمه وأكثر فيه القتل والجراحات: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، الوثاق: الربط والقيد، يعني: أسر الأعداء، ثم لكم أن تمنوا عليهم بعد انتصاركم عليهم، ولكم أن تقبلوا الفدية، ولكم أن تدعوهم إلى دين الله عز وجل مرة ثانية، لعلهم يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى.(495/3)
كيفية التعامل مع الأسرى
قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد:4] أي: بعد أن ينصركم الله سبحانه وتعالى، وبعد أن تتمكنوا من أعدائكم، قال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، حتى لا يكون بينك وبين الكفار قتال، والأوزار: هي الأثقال، مفردها وزر، والوزر: الثقل، قال: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، أي: حتى يكف الكفار عنكم، إذاً: فقاتل عدوك؛ لأنك إن لم تقاتله فسوف يقاتلك، فإذا استسلم ووضع سلاحه وكف عنك فكف عنه، حتى تضع الحرب أوزارها بشروط كتاب الله سبحانه وتعالى، وما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.
اختلف العلماء في هذه الآية، هل هي منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] أم أنهما في مواطن مختلفة؟ والصواب: أنها آية محكمة وليست منسوخة، والمعنى: أن المن باق، فتمن على عدوك وتطلقه بغير شيء، أو أنك تفادي العدو بالأسير، فلإمام المسلمين وقائدهم أن يصنع ذلك، لذلك فإن الأكثر ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما على أن هذه الآية محكمة، والإمام مخير.
والأدلة من السنة على ذلك كثيرة ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد من على الكفار في فتح مكة، فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكانوا قد جمعوا أنفسهم لقتاله صلى الله عليه وسلم مرات ومرات قبل الفتح، بل إنهم جمعوا له في الفتح أوباشهم ليقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنصره الله سبحانه، ثم منَّ عليهم صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك: جاء عنه أنه قتل البعض ممن كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين، كـ عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فقتلوا في يوم بدر؛ لأنهما كانا يؤذيان النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلمان فيه بالكلام المؤذي، ويطعنان في الإسلام والمسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما بعدما أسرا.
إذاً: إذا كان العدو محارباً لله عز وجل ولدينه، فهو يسبه ويفخر بذلك، فإذا أسر ولم يدخل في الإسلام وبقي على كفره فإنه يقتل، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد من على رجل من هذا الصنف واسمه أبو عزة الشاعر، وقد كان شاعراً يهجو الإسلام ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن له بنات لا يكفلهن غيره، فرحمه النبي صلى الله عليه وسلم فتركه، فرجع إلى مكة يضحك ويسخر من النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ضحكت على النبي وعلى المسلمين وقلت لهم كذا وكذا، ويحك عارضيه بالكعبة، ويقول: هزأت بالمسلمين وكذا، فلما أسر مرة ثانية بدأ يستعطف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، لا ترجع مرة ثانية تحك عارضيك بالكعبة وتقول: سخرت منه، وأمر بقتله فقتل.
فالغرض: أن حكم الإنسان الذي يسب دين الله عز وجل القتل إلا إذا أسلم فحينئذ يكف عنه، أما إذا بقي على كفره، فللإمام أن يقتله كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث في يوم بدر، وفدى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال، وكان رجلاً من كفار بني حنيفة، فجيء به أسيراً، فحبسه النبي صلى الله عليه وسلم وربطه في المسجد لينظر في أمره صلوات الله وسلامه عليه.
وكان يمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن فعلى شاكر، وإن تطلب المال فالمال كثير، فخذ منه ما شئت) يعني: إذا منيت فقد منيت على إنسان يشكر لك هذه النعمة، وإذا قتلتني فمن حقك؛ لأني قتلت منكم الكثير، وإذا فاديت وطلبت المال، فعندي مال كثير فاطلب منه ما شئت.
فتركه النبي صلى الله عليه وسلم: (وجاء إليه في اليوم الثاني صلوات الله وسلامه عليه وقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال كما قال في اليوم الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، واتركوه)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم استشعر بلطفه وبرحمته من الرجل طيبة وخيراً، فقال: أطلقوه، فالرجل ذهب فاغتسل ثم رجع مسلماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فالمن هنا أتى بنتيجة.
وقد أتى بنتيجة كذلك في أهل مكة، فلما من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وتركهم أسلموا جميعاً، وإذا بهم يجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويكونون بعد ذلك من أصحاب الرأي في المسلمين، ويطلق عليهم مشيخة قريش.
فلما من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، دل على أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة.(495/4)
معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم)
قال الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، فالله هو القوي العزيز سبحانه وتعالى، فلو شاء لخسف بالمشركين الأرض، ولو شاء لأنزل عليهم آية من السماء أو عذاباً من الأرض، ولكن حكمته سبحانه تقتضي أن يبتلي الناس بعضهم ببعض، فالدنيا زمن امتحان، والإنسان يريد أن يعيش في هذه الدنيا من غير امتحان بتاتاً، والله لم يجعل هذه الدنيا جنة، بل سميت دنيا ليعلم أن الآخرة هي العليا، فالدنيا هي أرض البلاء ومكان الامتحان الذي يمتحن فيه العبد، وستترك هذه الدنيا ولن ترجع إليها مرة ثانية، ولله الحكمة في وجودك في الدنيا في هذا الوقت الذي أنت فيه، ولو شاء الله عز وجل لجعل الناس أمة واحدة، ولجعل الكل على الإسلام، ولو شاء الله عز وجل لنصر المسلمين في كل موطن من المواطن، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في قتال كثير مع الكفار، فقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل بعوثه وسراياه التي بلغت تسعين غزوة وسرية، وذكر بعضهم: أنها بلغت مائة وعشرين أو مائة وثلاثين غزوة وسرية، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في نحو تسع عشرة غزوة صلوات الله وسلامه عليه، وكل ما غزا فيه النبي صلى الله عليه وسلم من التسع عشرة غزوة كانت في المدينة، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله سبحانه في مكة، ولم يكن فرض عليه أن يجاهد في سبيل الله، ثم لما هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم فرض عليه الجهاد في سبيل الله، وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنوات، فإذا خرج بنفسه تسع عشرة مرة صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون قد خرج للجهاد مرتين في كل سنة صلى الله عليه وسلم، أما من جعل عدد البعوث والسرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثلاثين، فلو أنه خرج في كل واحدة منها لشق ذلك على المسلمين، فسيخرج في السنة الواحدة ثلاثة عشر مرةً، وهذا عدد كبير جداً للخروج، فكيف سيدير شئون المسلمين صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك؟ لذلك: كان من الحكمة أن يخرج بنفسه في بعض السرايا وفي بعض الجيوش، ويخرج المسلمون المجاهدون في سبيل الله عز وجل في الباقي، ولو يشاء الله لانتصر من الكفار، ولكن المسلمين غلبوا في بعض الغزوات؛ ولله عز وجل الحكمة العظيمة في ذلك؛ وحتى لا يغتر المسلمون بالنصر دائماً، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وتوكلوا على الله سبحانه إن كنتم مؤمنين، فأحسنوا الإعداد، وأحسنوا الظن بالله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل معكم, فإذا بعدتم عن ذلك خذلكم الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولو يشاء الله لانتصر من هؤلاء الكفار ,ولكن ليختبر بعضكم ببعض، وليختبر المسلمين بالكفار، فالمسلم عندما يدخل في القتال فإنه إما قاتل أو مقتول، فهو مجاهد في سبيل الله عز وجل، فيبقى الاحتمالان موجودان، والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4].
((والذينَ قُتِلُوا)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة أبي عمرو البصري وكذلك يعقوب الحضرمي، أما باقي القراء فإنهم يقرءونها: (والذين قاتلوا في سبيل الله)، ولكل من القراءتين معنى، فمن قرأ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] فالمعنى: أنهم قتلوا وصاروا شهداء عند الله عز وجل، فلن يحبط الله لهم عملاً، بل له الأجر والثواب لأنه جاهد في سبيل الله عز وجل، والله يوجهه إلى جنته سبحانه وتعالى، فيقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} [محمد:4]، وأما من قرأ: (وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) فإنه جعلهم أحياء يقاتلون في سبيل الله سبحانه، فالله عز وجل يقبل هؤلاء؛ لأنهم ثبتوا على دين الله سبحانه وتعالى، فالوعد إذاً لمن عاش وبقي مجاهداً في سبيل الله أن يثبته الله على هذا الدين، وألا يضله سبحانه وتعالى، وأن يهديه ويزيده هدى، أما الذي قتل وتوفي ومات في سبيل الله سبحانه فله هداية أخرى، فإن الله يهديه في قبره، ويهديه يوم القيامة على الصراط، ويهديه سبحانه لطريق الجنة، ويثبته الله سبحانه وتعالى في قبره فلا يفتنه سبحانه وتعالى، فالذين عاشوا لهم هداية معينة، وللآخرين هداية معينة وكل بحسبه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] أي: لن يضيع عليهم ثواب ما عملوا في الجهاد في سبيل الله سبحانه، بل سيزيدهم هداية وإيماناً حتى يتوفاهم على ذلك سبحانه وتعالى.(495/5)
تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)
قال الله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:5] هذه على قراءة الجمهور أي: ما داموا على قيد الحياة، (ويصلح بالهم) أي: شأنهم وعملهم، فيحمل قوله تعالى: (والذين قاتلوا في سبيل الله)، على الأحياء المجاهدين، أما الذين قتلوا فسيصلح بالهم في السؤال في القبر، وفي التثبيت يوم القيامة، وفي السؤال عند الله عز وجل، وفي المرور على الصراط، وفي الهداية إلى الجنة، وسيصلح لهم عملهم الذي عملوه في الدنيا.
قال: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:5]، والبال يأتي على ثلاث معانٍ: الشأن والأمر والحال.(495/6)
تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)
قال الله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، هذه آية عظيمة جميلة، فالله تعالى يدخل العباد الجنة، (عرفها لهم) أي: وهم في الدنيا، أخبرهم بأن في الجنة كذا وكذا، وإذا كان الله قد عرفك بهذه الجنة فاطلبها، ولتطلبها بعملك ودعائك، فقد عرفك الله عز وجل الجنة، فاطلبها بالعمل وبالنية الحسنة وبالقول السديد، قال: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، فإذا دخلوا الجنة عرفها لهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري عن أبي سعيد قوله: (يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقضى لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا) أي: أن هؤلاء يخلصون من المرور على الصراط، فمنهم من يجري سريعاً، ومنهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، أو كأجاويد الخيل، أو كالذي يسعى من الرجال، وكل بحسبه، قال: (فمنهم من يتأخر في ذلك، ومنهم من يمر سريعاً، فإذا خلصوا من هذه يحبسون على قنطرة بين الجنة وبين النار)، فيحبسون في مظالم كانت بينهم في الدنيا، ولا يعني أنك إذا خلصت من النار أنك قد تحللت منها، بل تبقى عليك مظالم فيقتص منك، فيأخذ المظلوم من حسناتك، حتى إذا هذبوا ونقوا قبل دخول الجنة أمروا بدخول الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا)، وانظر إلى قول الله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، فليسوا بمحتاجين إلى دليل يدلهم على الجنة؛ فهم أعرف بمكانهم في الجنة، ولكن الدليل معهم يكون كنوع من التشريف، مثلما يجيء الإنسان الكبير في القوم وقومه أمامه وخلفه وهو يعرف طريقه ويعرف بيته، ولكنهم يوسعون له الطريق، وكذلك الملائكة، فإنها تستقبل هؤلاء وتذهب بهم إلى ديارهم في الجنة تشريفاً لهم، وإلا فقد عرفوا منازلهم، كما أنك تصلي الجمعة، وتخرج من صلاة الجمعة وأنت تعرف بيتك، مع أنك في وسط زحمة الناس، فكذلك أهل الجنة يعرفون بيوتهم، والملائكة توصله إلى هذا المكان الذي هو يعرفه أشد معرفة، وأكثر من معرفته بداره في الدنيا.
قال: (فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا)، فقد بينها الله لعباده، وقد عرفها عباده في الدنيا بما فيها من ملاذ، وما فيها مما يشتهيه المؤمن، وعرفها لهم يوم القيامة فدخلوا إلى ديارهم غير محتاجين لمن يدلهم عليها.(495/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
ثم قال الله عز وجل للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، هذه الآية لا بد أن تكون دليلاً لكل مؤمن يريد وجه الله سبحانه وتعالى وجنته، ولكن لمن يريد أن يكون الله معه سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن يكون الله معك فتذكر معيته لعباده المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فالله مع المحسنين، وهو يحب المحسنين سبحانه وتعالى.
قال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، إذا أردت معية الله تعالى لك بقوته سبحانه، وتوفيقه وهدايته فكن مع الله سبحانه، وامش في طريق الله سبحانه وتعالى، ودافع عن دين الله سبحانه كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فالجزاء من جنس العمل، فإذا دافعت عن دين الله دافع الله عنك، وليس معنى ذلك: أنك كلما دافعت عن دين الله فلن تبتلى ولن تجرح أو تسجن، بل ابتلاء المؤمنين من سنة الله في خلقه سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه قوة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه رقة، قلل له من البلاء).
إذاً: الله عز وجل يبتلي العبد بأشياء في الدنيا بما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا كان صلباً في دينه زيد عليه من البلاء؛ لأن الله يعلم صبره على ذلك سبحانه ويقدره، وإذا كان دينه ضعيفاً قلل له من البلاء سبحانه وتعالى.
فإذا كنت تريد أن يكون الله معك وأن ينصرك ويدافع عنك فكن من المؤمنين، وكن مع المؤمنين، وكن من الصادقين، فإن الله يحب هؤلاء، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يجعلنا جنوداً لدين رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(495/8)
تفسير سورة محمد الآية [7]
وعد الله عز وجل عباده بالنصر إذا هم نصروه سبحانه، وذلك بالتمسك بشرعه، فيأتمرون بأمره ويجتنبون نهيه، فإذا فعلوا ذلك فإن الله سينصرهم؛ وقد نصر عز وجل الصحابة، وفتح بهم مشارق الأرض ومغاربها، وما ذاك إلا بتمسكهم بشرع الله ودينه.(496/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 8].
وعد الله عز وجل المؤمنين بالنصر إذا نصروا دين الله سبحانه، ووعدهم أن يخزي أعداءه ويهزمهم ويجعل لهم التعاسة والخيبة والشقاء والخسران والوبال والهلاك، {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
والإنسان المؤمن حين يتأمل في تاريخ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ثم الصحابة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم كيف دعوا إلى الله عز وجل، وكيف نصروا دين الله فنصرهم الله سبحانه تبارك وتعالى؛ يزداد يقيناً في أن النصر يكون مع أخذ أسباب هذا النصر، وأعظم الأسباب الإيمان، واليقين، وأيضاً الاستعداد، قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فليس الأمر أن يقول الإنسان: أنا مسلم، وإذا كنت مسلماً فلازم أن أنتصر، ليس كذلك؛ فإن الله عز وجل يقول: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66]، وهنا قيد (أن تعدوا) ويكون العدد قريباً من عدد العدو، أو يكون أقل من عدد العدو، ولكن ليس عدداً قليلاً جداً، فلتكن مائة أمام مائتين وألف أمام ألفين من الأعداء، فإن أعددتم لهذا العدو العدة فالله عز وجل ينصركم.
فانتصاركم يكون باستعدادكم الإيماني، واستعدادكم البدني، وإعدادكم القوة والسلاح لحرب هؤلاء الكفار، وبثقتكم في الله سبحانه، وبالتوكل على الله سبحانه، وبأخذ الحذر من كيد الكفار، فهنا بيان أن الإنسان المؤمن ينتصر بالإعداد ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، وأنت مع الكافر إما أن تهزمه فتقتله، وإما أن تُهزم وتُقتل وتُغلب، فالإنسان إما غالب وإما مغلوب.
فإذاً لا تضيع الأخذ بالأسباب؛ حتى لا تضيع نفسك، وتضيع دين الله سبحانه.(496/2)
ذكر قصة معركة نهاوند
ومن القصص التي ذكرت في التاريخ: قصة فتح نهاوند، وهذه القصة ساقها الإمام الطبري في تاريخه، وساقها ابن حبان وغيرهما، وفيها أن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه بعث جيوشاً لفتح نهاوند، وكان السبب في ذلك: أن الكفار أرسلوا إلى ملكهم ملك الفرس يزدجرد يقولون له: إن المسلمين أخذوا الأهواز، وهي بلدة من بلاد الفرس، فغضب، وأرسل إلى كل مكان ليجمع جيشاً عظيماً، فجمع جيشاً في هذا المكان، وكان عدد جيش الكفار نحو مائة وخمسين ألفاً من المقاتلين؛ ليقاتلوا المسلمين.
فجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من يذهب إلى هنالك، وكان يريد أن يذهب بنفسه رضي الله عنه، ولكنه استشار الصحابة، ومن ضمنهم علي بن أبي طالب فكانت مشورة الصحابة عليه أنك لو أرسلت إليهم أهل اليمن من المسلمين، فسيزحف أهل الحبشة على اليمن، فيقاتلون أهل اليمن ويأخذون اليمن، ولو أرسلت إليهم أهل المدينة وأنت خرجت بنفسك، فسيتكاثر عليهم الكفار من حولهم، وتضيع المدينة، لكن ابق أنت في المدينة مثلما أنت، واترك أهل اليمن مكانهم، وأرسل إليهم مَن حولهم هناك من أهل الكوفة وغيرها، فأرسل جيشاً كان قوامه ثلاثين ألفاً، ولاحظ الفرق بين عدد الكفار وعدد المسلمين، فالكفار مائة وخمسون ألفاً، والمسلمون ثلاثون ألفاً، يعني: خمس عدد الكفار! فالكفار جاءوا بعدد ضخم جداً، وهم في غاية الغضب وغاية القوة يريدون الانتصار والانتقام من هؤلاء المسلمين، وقد ذكرنا أن الكفار أرسلوا إلى جيش عمر رضي الله عنه يطلبون واحداً يتكلمون معه، فذهب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحصل ما حصل بينه وبين الأمير رئيس الكفار، وكان يريد أن يجلس معه على كرسيه؛ كنوع من الاستهانة به، والتحقير له ولمن معه، وتكلم معهم، فكلمهم بكلام مرعب، فأرعبهم في كلامه، وكان من ضمن ذلك أنه قال: كنا فقراء وكنا عالة وكنا وكنا وكنا، ولكن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا على الحق، واهتدينا بهذا الدين العظيم، ثم جئناكم الآن، وبلغنا أن دياركم فيها السمن وفيها العسل وفيها المال، فلن نرجع إلى التقشف وإلى الفقر الذي كنا فيه حتى نأخذ هذا منكم.
فأُرعب الملك بهذا الكلام الذي قاله، وقال لما رجع: ما تركتهم إلا وقد أرعبتهم، أي: أنه تركهم في رعبهم.
وهؤلاء الكفار الذين خرجوا للقتال طلبوا من المسلمين وقالوا: إما أن نعبر إليكم، أو أنتم تعبرون إلينا، فالمسلمون قالوا: اعبروا، فعبروا إليهم، يقول راوي القصة: فجعلوا يجيئون كأنهم جبال الحديد، وقد تواثقوا ألا يفروا من العرب.
يعني: أنهم جعلوا بينهم عهوداً ألا يفروا من العرب، ولكنهم لم يصدقوا أنفسهم، فعهودهم ليست قوية، فلذلك احتاجوا أن يربطوا بعضهم إلى بعض، فجعلوا كل سبعة في سلسلة، فكان الرجل منهم عليه حديد، وصاروا كأمثال الجبال، ثم جاءوا لقتال المسلمين فقرن بعضهم إلى بعضهم، بحيث يبقوا جملة يقاتلون العرب، ولا يستطيع العرب أو المسلمون أن ينفذوا بينهم.
فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدونا يتركون أن يتتاموا فلا يُعجلوا؟! يعني: أنه كان له وجهة نظر، وكان قائد الجيش النعمان بن مقرن الصحابي الفاضل رضي الله عنه، وكان فيهم حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عن الجميع، فـ المغيرة كان له وجهة نظر، والمغيرة كانت من أذكياء العرب في الجاهلية وفي الإسلام، حتى كانوا يقولون: إنه داهية من دواهي العرب، فرضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد ذكرنا قصته في إسلامه، وذلك أنه ذهب مع مجموعة من الكفار إلى الحبشة فأعطاهم ملك الحبشة هدايا، وأعطاه أقل منهم، فلما كان راجعاً معهم سقاهم خمراً، وقتلهم جميعاً وأخذ أموالهم، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال: هذه أموالهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما المال فلا -أي: أنك أخذته غدراً فلا نقبله-، وأما الإسلام فنعم)، فرفض أن يأخذ منه المال، وله قصص وحكايات طويلة تدل على ذكائه وقدرته العقلية الفائقة رضي الله عنه.
فهنا المغيرة لم يكن يعجبه أن الفرس يعبرون إلى المسلمين، وكأنه يقول: كيف نصبر عليهم إلى أن يتجيشوا ويتحصنوا، ثم نقاتلهم؟ ولذا قال: لم أر كاليوم قتيلاً، يعني: أنه سيكون فينا مقتلة عظيمة من هؤلاء إذا تركناهم.
فـ النعمان بن المقرن رضي الله عنه أمر المسلمين أن يصبروا، وقال لهم: اصبروا، لا أحد يقاتل، فحضروا أسلحتكم، واصبروا إلى أن يأتي وقت الزوال، وتهب رياح النصر، قال لهم ذلك لأنه كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإنه كان ينتظر إلى أن يمر وقت الظهيرة ويبدأ في القتال صلى الله عليه وسلم، لكن المغيرة لم يعجبه هذا الشيء؛ لأن الكفار سيرشقونهم بالرماح، وهم قاعدون وساكتون بأمر النعمان بن المقرن رضي الله عنه.
وكان المغيرة يقول: والله! لو أن الأمر إلي قد أعجلتهم، وكان النعمان رجلاً بكاءً، فقال: قد كان الله عز وجل يشهدك أمثالها، فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك.
يعني أنت أهل أن تكون قائد الجيش، وأنت لست أقل من ذلك، وقد كان الله يشهدك أمثالها، ولكن لا يعيق موقفك أنك الآن جندي عندي، وأنك تستحق أن تكون قائداً، ولا تحزن لذلك، وإني والله! ما يمنعني أن أناجزهم إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غدا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهب الرياح، وينزل النصر.
يعني: كان ينتظر إلى أن يأتي وقت صلاة فريضة، فيصلي ثم يقاتل صلوات الله وسلامه عليه، فيأتي النصر من عند الله عز وجل، فقال النعمان بن المقرن رضي الله عنه: اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وأهله، وذل الكفر وأهله، وقال للمسلمين: إني داعٍ فأمنوا، والله عز وجل إذا فتح على يدي إنسان فهذا شيء عظيم جداً، والإنسان يفرح بذلك، والنعمان كان يريد أن يفرح بالنصر إذا انتصر الجيش، ومن ثم يكون هو شهيداً رضي الله عنه.
فقال وهو يدعو ربه: اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وأهله، وذل الكفار وأهله، ثم اختم لي على إثر ذلك بالشهادة.
أي: لا أريد أن أعيش أكثر من هذا، أريد فقط أن تقر عيني بالنصر، والشهادة بعد ذلك.
ثم قال: أمنوا رحمكم الله، قال: فأمنا، قال النعمان: إني هاز لوائي فتيسروا للسلاح، ثم هازها الثانية فكونوا متأهبين لقتال أعدائكم، فإذا هززتها الثالثة فليحمل كل قوم على من يليهم من عدوهم على بركة الله.
يقول: سأهز اللواء، فإذا هززته فاستعدوا، وكل واحد يحضر نفسه للقتال، والهزة الثانية اركبوا خيلكم وجهزوا أسلحتكم، والهزة الثالثة اهجموا على أعدائكم.
وكان الأعداء قبل ذلك يرمونهم بالرماح، وكان المسلمون لا يقومون لهم، وكأن الكفار استقلوا هؤلاء، وظنوا أنهم ناس ضعفاء، فلما حضرت الصلاة وهبت الرياح كبر وكبرنا، وقال النعمان: ريح الفتح إن شاء الله، وإني أرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا، قال: فهز اللواء فتيسرنا، ثم هزها الثانية، ثم هزها الثالثة، فحملنا جميعاً كل قوم على من يليهم.
وكان عدد المؤمنين قليلاً فإنهم كانوا ثلاثين ألفاً، أمام مائة وخمسين ألفاً جاءوا بأسلحة عظيمة جداً أمثال الجبال، وجاءوا متواثقين على أنهم لا يفروا، وكان الكفار واضعين وراءهم حسك الحديد، ففي أول القصة قال: وألقوا حسك الحديد خلفهم، أي: مثل شجر الشوك، ولكنها من الحديد، وأوقدوا ناراً وراءهم، ووضعوا حسك الحديد؛ من أجل ألا يفر أحد، وإذا فروا يقتلهم الحديد.
وانظر إلى حكمة الله سبحانه تبارك وتعالى القائل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، والقائل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فهؤلاء جعلوا مقتلهم بأيديهم، ووضعوا حسك الحديد وراءهم، وهنا بدأ القتال وثبت الكفار وصبر لهم المسلمون، وكانوا ثلاثين ألفاً أمام مائة وخمسين ألفاً من الكفار، وقال النعمان للمؤمنين: إن أصبت أنا فعلى الناس حذيفة، فإن أصيب حذيفة ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
يقول راوي القصة: فوالله! ما علمت من المسلمين أحداً يحب أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر.
فالمؤمنون لا أحد منهم يريد أن يرجع إلى أهله إلا منتصراً، ولسان حالهم: إما أننا نقتل شهداء، فالجنة أمامنا، وإما أننا نظفر بهؤلاء، فإذا كانت هذه هي النية فمستحيل أن يفر صاحبها، مستحيل أن رجلاً يريد الشهادة فيفر؛ ولذلك ثبت المسلمون في قتال شديد، يقول الراوي: فلم نسمع إلا وقع الحديد على الحديد، ولا نسمع شيئاً، ولا يوجد صوت إلا صوت الحديد على الحديد، والسلاح يضرب في بعضه، حتى أصيب من المسلمين عصابة عظيمة، فلما رأى الكفار أنه يقتل من المسلمين ويقتل من المسلمين ويقتل من المسلمين والباقي صابرون لا يفرون، لما وجدوا الصبر هذا، جعلوا يفرون، وقتل في المعركة ثلاثون ألفاً من الكفار، يعني: مثل عدد جيش المسلمين كاملاً، قال: فجعلوا ينهزمون، وجعلوا يرجعون ويقع الرجل فيقع عليه سبعة؛ لأنهم كانوا رابطين أنفسهم بالحديد، وهذا مصداق قوله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فلولا عون الله لما قدر ثلاثون ألفاً من المسلمين على مائة وخمسين ألفاً أمثال جبال الحديد، فهو نصر من عنده، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] فجعل كيدهم في نحورهم، وجعل بأسهم بينهم، وجعل تدبيرهم تدميرهم، ودمرهم سبحانه تبارك وتعالى بأسلحتهم.
فالكفار جهزوا حسك الحديد، وأشعلوا النيران و(496/3)
تفسير سورة محمد [7 - 8]
وعد الله عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن هم نصروا الله سبحانه ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعدوا العدة لقتال الأعداء، فقد كانت انتصارات المسلمين على مر التاريخ لأنهم نصروا الله ورسوله وصدقوا الله في لقاء الأعداء، وقد كتب الله التعاسة والشقاء على الكافرين، وعلى كل من خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(497/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 8].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن النصر من عنده، وأنه ينصر المؤمنين إذا نصروا دين الله سبحانه، وهذا سبب ونتيجة، شرط وجواب، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ} [محمد:7] إن تنصروا دين الله عز وجل، وإن تدافعوا عن دين الله سبحانه، وإن تنصروا المستضعفين من المؤمنين؛ فالله عز وجل ناصركم ومثبت أقدامكم، ومعطيكم خير الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:7] أي: يا من صدقتم ودخلتم في هذا الدين، موقنين بالله رب العالمين أنه ربكم وأن هذا رسولكم صلوات الله وسلامه عليه، وأن هذا القرآن من عند رب العالمين.
يا من آمنتم بالجنة وعرفتم النار وصدقتم وآمنتم بهذا كله، يا مؤمنون جاهدوا في سبيل الله عز وجل، فإذا نصرتم الله عز وجل فالله معكم والله ناصركم سبحانه.
وكان المؤمنون يدعون ربهم سبحانه في قتالهم يقولون: فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى إذا بغوا علينا أو أرادوا فتنة أبينا فكانوا يقولون لله سبحانه: ثبت الأقدام إن لاقينا، فالله عز وجل يثبتهم بما يشاء من تثبيت، وتثبيت الأقدام يأتي من تثبيت القلوب، ويأتي مما يصنعه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
فهذا تثبيت من الله عز وجل للمؤمنين: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] المؤمنون في قتالهم الأعداء يرون كثرة أعدائهم، ويرون قلة ما هم فيه من عدد ومن عدة، ومع ذلك إذا بالله سبحانه وتعالى يثبت المؤمنين تثبيتاً شديداً.
ويخبرهم الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد الحق أنه ناصرهم في يوم بدر، وأنه سيربط على قلوبهم سبحانه، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنفال:11] أي: بركات من السماء، فإذا بهم يجدون ما يشربون من ماء السماء ويتوضئون به، كذلك يجعل التراب الذي تحت أقدامهم صلباً فتثبت أقدامهم.
ويربط بذلك على قلوبهم ويعطيهم شيئاً عجيباً أن يناموا والأعداء يتربصون بهم، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] فينام أحدهم وهو قاعد وهو قائم ويغشى عليه، حتى يكاد يقع عن الدابة التي هو عليها، فينامون ربطاً على قلوبهم، فيثبتهم الله سبحانه تبارك وتعالى بذلك.
وحين يواجهون أعداءهم، قال الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال:43] فالله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور، وأعلم بما في نفوس المؤمنين، فيري النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا منامية أن الأعداء قليلون، فيطمئن النبي صلى الله عليه وسلم ويبشر المؤمنين.
قال تعالى: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال:43]، وقال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال:44] وقال تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42] أي: سميع بما تقولون، عليم بما تفعلون سبحانه، عليم بما في قلوبكم، وتدبير الأمر كله من الله سبحانه، تجد أنه يحرك هؤلاء ويحرك هؤلاء، فالكفار يرون المؤمنين قلة وهذه الحقيقة، والمؤمنون يرون الكفار قلة، إذ إن الله سبحانه غير المنظر فأرى المؤمنين أن الكفار عددهم قليل جداً فإذا بالمؤمنين يستأسدون ويتقوون على أعدائهم، والكفار يرون المؤمنين قلة حتى يهجموا ويقدموا للقتال، فلو انعكس الأمر بأن جعل الله الكفار يرون المؤمنين عدداً كثيراً لما حصل قتال، ولهرب الكفار وهم الذين جاءوا للمؤمنين، ولكن الله أراد أن يلتقي الفريقان وأن يتقدم الكفار إلى المؤمنين حتى يرينا نصره سبحانه، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، فهذا شيء أحدثه الله عز وجل للمؤمنين حين التقوا مع الكفار في يوم بدر، ونصر الله عز وجل المؤمنين نصراً عظيماً ما كانوا يتخيلونه.
قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فهم قد نصروا الله سبحانه، وقد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى الكفار وعدد الكفار: (أشيروا علي أيها القوم) فكانت الإشارة من المهاجرين ومن الأنصار: أقدم يا رسول الله، لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك.
أي: اذهب لآخر الأرض التي نعرفها وهي برك الغماد فسنذهب معك لهذه الأرض مثلما تريد، وأوصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، نحن معك، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] بل نقول: إنا معكما مقاتلون.
قاتل يا رسول الله ونحن معك ونحن أمامك ووراءك صلوات الله وسلامه عليه، فكان النصر من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه معاني نتعلمها من كتاب الله ومن سير أصحاب رسول الله مع النبي صلوات الله وسلامه عليه في جهادهم وقتالهم للكفار.
فقد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على حب الجنة، فكان جهادهم ابتغاء مرضات الله وطلباً لهذه الجنة العظيمة، والله يعدهم هذا الوعد العظيم: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] ولم يكن للنبي فقط عليه الصلاة والسلام وإنما الوعد باق من الله عز وجل لكل المؤمنين في كل زمان ومكان.
فقوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] أي: ينصركم الله عز وجل إذا أتيتم بشروط هذا النصر، وهو نصركم لدين الله وإعدادكم للكفار ما استطعتم من قوة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فإذا أعد المؤمنون أنفسهم وأعدوا ما في قلوبهم من قوة بالاعتصام بحبل الله وبكتاب الله وبهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتمسك بدينهم، وأعدوا ما استطاعوا من قوة ومن عدة ومن عدد لجهاد أعدائهم، ومن ربط بين المسلمين وتآلف فيما بينهم ومن اتحاد واعتصام بحبل الله سبحانه، فإن الله ناصرهم.(497/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8] أي: الذين كفروا لهم الخيبة ولهم التعس ولهم التعاسة ولهم الشقاء ولهم الوبال ولهم الهلاك والشنار، ولهم من الله عز وجل الدمار، فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد:8] أي: يتعسهم الله ويخزيهم ويخيب أمرهم سبحانه وتعالى.
فلست أنت الذي تصنع، وإنما الله سبحانه وتعالى يصنع ذلك، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
وهل الكفار فقط الذين يتعسون؟ الله عز وجل ذكر ذلك، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الذين يتعسون من عبد الدنيا ومن طلب الدنيا ومن كان همه فيها الدينار والدرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم).
فالإنسان الذي همه الدنيا إنسان تعيس، دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة وبالخيبة وبالشقاء وبأن لا ينال مراده من هذه الدنيا، قال: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن همه في الدنيا، لا يهتم لدين ولا لصلاة ولا لصوم ولا لدعوة إلى الله سبحانه، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا لا يهمه ذلك، المهم ماله! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: خيبك الله، تعست أيها الإنسان، أنت همك نفسك فقط، وأنت ما خلقت إلا لإقامة هذا الدين، فكل أمر الله عز وجل ليس على بالك، فلا تستحق إلا التعاسة والخيبة والشقاء.
قال: (تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، الانتقاش: إزالة الشوكة بالملقاط، فيدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو شيك فلا قدر على أن يخرجها من قدمه؛ لأنه لا يستحق أن يعافى؛ لأنه ابتعد عن دين الله سبحانه وتعالى.
بل الكافر له التعاسة وله الشقاء، وكذلك من المسلمين من تركوا دين الله عز وجل وراءهم ظهرياً وعبدوا الدرهم والدينار، وأقبلوا على الدنيا وعلى تحصيلها من كل مكان، وفروا من القتال في سبيل الله عز وجل ومن الجهاد في سبيله.(497/3)
من قصص الصحابة في نصرهم دين الله عز وجل
إن قصص الصحابة كثيرة في نصر دين الله عز وجل، وقد رأينا كيف أنهم يدعون إلى الله عز وجل في قتالهم لأعدائهم، فإذا أصر أعداؤهم على الكفر قاتلوهم فنصر الله عز وجل بهم دين الله سبحانه.
كان أحدهم يتقدم ويتحنط قبل القتال كما فعل ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار بل خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند قتال مسيلمة الكذاب ومن معه قال لمن معه من التابعين ومن حضر الموقعة: بئس ما عودتم أقرانكم، أن تفروا من أمام هؤلاء! وكان يلبس كفنه، ويريهم أن الذي يتقدم للقتال لا يطلب الدنيا؛ لأن الذي يطلب الدنيا لن يقاتل، بل سيفر ويهرب، فاطلب الآخرة، فقد كان أحدهم يتقدم للقتال في سبيل الله ويقول: واه لريح الجنة، لئن صبرت حتى آكل هذه التمرات إنه لعمر طويل، فيرميها ويتجه للقتال في سبيل الله عز وجل طالباً جنته سبحانه وتعالى.
وهذه قصة في عهد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في فتح نهاوند، ونهاوند من بلاد الفرس فتحها الله عز وجل للمؤمنين في عهد عمر رضي الله عنه، وكان قائد المسلمين في القتال هو النعمان بن مقرن رضي الله تبارك وتعالى عنه، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بكاءً رضي الله عنه، عظيم البكاء من خوف الله عز وجل، وفتح الله عز وجل على يديه وعلى يد المسلمين هذه البلدة التي كانت صعبة وعسيرة.
وهذه القصة يذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه ويذكرها ابن حبان في سياق طويل جداً، وهي قصة إسنادها صحيح صححها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وفيها يقول ابن جبير بن حية عن أبيه أن الهرمزان أحد قادة الفرس أسره عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان عمر يريد قتله، فـ الهرمزان أراد أن يشرب ماء وخدع عمر رضي الله عنه بقولة قالها، وذلك لما أتوا له بالماء لم يمد يده إليه، فإذا بـ عمر يقول له: اشرب لا بأس، عمر يقصد أنه لن نفعل بك شيئاً، فالرجل أخذ الماء وشرب فلما أراد عمر قتله قال: لقد أمنتني أي: أعطيتني الأمان، فكيف تقتلني الآن؟ فتعجب عمر وقال: أين الأمان الذي أعطيته لك؟ قال: قلت لي: اشرب لا بأس، فإذا بـ عمر ينظر للصحابة وكان عظيم الورع، فقالوا: صدق أنت الذي قلت له: لا بأس، قال: خدعني خدعه الله.
وأظهر الهرمزان إسلامه، وكان مع عمر، فأراد عمر رضي الله عنه النصيحة من الهرمزان في أمر فارس، وقد كان عمر في غاية الذكاء رضي الله تبارك وتعالى عنه، لا مانع من أن يأخذ النصيحة ممن كان عدواً له، ولكن يفكر في هذه النصيحة قبل أن يأخذ بها، وهل يقبل النصيحة من عدو؟ فقد يكون أنت تقاتله البارحة، واليوم صار صديقاً لك، لكن العداوة ما زالت موجودة في القلب، فليس معنى أنه في البارحة كان عدواً لك واليوم صديقاً لك أنه دخل في الإسلام دخولاً حقيقياً، فلما طلب عمر من الهرمزان النصحية قال الهرمزان: إن فارس اليوم رأس وجناحان، أي: فارس مثل طائر له رأس وله جناحان، فقال له عمر رضي الله عنه: فأين الرأس؟ قال: نهاوند مع بندار واحد من أعظم رؤساء الفرس، فإن معه أساورة كسرى وأهل أصفهان.
قال عمر: فأين الجناحان؟ فذكر الهرمزان الجناحين، والراوي يقول: نسيت المكان الذي ذكره، فقال الهرمزان لـ عمر ناصحاً: اقطع الجناحين توهن الرأس، فقال له عمر رضي الله عنه: كذبت يا عدو الله تريد أن تفل جموع المسلمين وتفتتهم شمالاً ويميناً حتى إذا جاءوا للرأس هُزموا، بل أبدأ بالرأس، فكان عظيم الحكمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: بل أعمد إلى الرأس فيقطعه الله، وانظر إلى قوله البليغ، ليس هو الذي يقطع الرأس، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيقطعه، فإذا قطعه الله عنهم، انقطع عنهم الجناحان، فأراد عمر أن يسير بنفسه لقتال الفرس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا بأصحابه رضوان الله عليهم يقولون: نذكرك الله يا أمير المؤمنين أن لا تسير بنفسك إلى العجم، فقد استقرت الدولة في عهد عمر، وكانت دولة الإسلام في عهده أعظم ما يكون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم أر عبقرياً يفري فري عمر) رضي الله عنه، وذلك حين رآه في رؤيا منامية.
فقالوا: إن أصبت بها لم يكن للمسلمين نظام، ولكن ابعث الجنود، فبعث أهل المدينة وبعث فيهم ابنه عبد الله بن عمر حتى لا يقال: عمر قعد وخاف على أهله، قال: وبعث المهاجرين والأنصار لتثبيت المقاتلين من المسلمين.
وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة، حتى تجتمعوا بنهاوند جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مقرن رضي الله عنه، وهو صحابي فاضل، وذكرنا أنه كان عظيم الزهد كثير البكاء من خشية الله سبحانه، فلما اجتمعوا بنهاوند أرسل إليهم بندار كبير الفرس أن أرسلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلمه، فبعث الصحابة إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان من أذكى خلق الله رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فذهب المغيرة بن شعبة، قال الراوي: وهو رجل طويل أشعر، أي: شعره طويل أعور رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأفتاهم فلما رجع إلينا سألناه فقال: وجدت العلج قد استشار أصحابه.
والعلج بمعنى: الرجل غير العربي، والعلوج يعني: غير العرب، يطلق عليهم ذلك، قال: قد استشار أصحابه في أي شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبشارتنا وبهجتنا وملكنا أو نتقشف له فنزهده؟ يعني: إذا جاءنا هذا العربي، هل نظهر له أبهتنا وعظمتنا وفرشنا فيخاف منا، أو نظهر أمامه في صورة الزهاد المتمسكين الذين لا حيلة لهم، فيبعدون عنا ويتركونا؟ قالوا: بل نأذن له بأفضل ما يكون من الشارة والعدة، قال: فلما رأيتهم رأيت تلك الحراب والترع يلمع منها البصر، فلما نظر إلى المنظر الذي هم فيه قال: ورأيتهم قياماً على رأس أميرهم أو رئيسهم، فإذا هو على سرير من ذهب، أي: له عرش ضخم جداً من ذهب وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، والصحابة زهاد لا يملكون إلا الثياب الرثة، وقد كان يلبسها رضي الله عنه، قال: ونكست رأسي لأقعد معه على السرير، فدفعت ونهرت، فقلت لهم: إن الرسل لا يفعل بهم هذا! فلما قال لهم ذلك، قالوا: إنما أنت كلب أتقعد مع الملك؟! فقال: لأنا أشرف في قومي من هذا فيكم، فانتهرني وقال: اجلس فجلست، فترجم لي قوله فقال: يا معشر العرب إنكم كنتم أطول الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأقذر الناس قذراًً، وأبعد الناس داراً، وأبعدهم من كل خير، وما كان منعني أن آمر هذه الأساور أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجساً لجيفكم لأنكم أرجاس، فإن تذهبوا يخلى عنكم، وإن تأبوا نبوئكم مصارعكم.
انظروا هنا الافتخار بالنفس والكبر والغرور الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يكون جيفة في القبور، تكبر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم جيف! قال المغيرة: فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: ما أخطأت من صفتنا شيئاً، إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير، حتى بعث الله إلينا رسولاً صلوات الله وسلامه عليه فوعدنا بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فلم نزل نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم الفلاح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله نرى لكم ملكاً وعيشاً لا نرجع منه إلى ذلك الشقاء أبداً، يعني: لن نترككم أبداً سنأخذ كل ما عندكم، فقد كان رضي الله عنه غاية في الذكاء، وكان عظيماً في الكياسة وعظيماً في التكلم رضي الله عنه، واختيار ما يرعب به خصمه، قال: لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نقتل في أرضكم، فقال الرجل لقومه: أما الأعور فقد صدق، هذا الأعور الذي جاءكم قد صدق في كلامه الذي نسمع، قال: فقمت من عنده وقد -والله- أرعبت العلج جهدي.
فهذا واحد من المسلمين يرعب عظيم الفرس قائد هذا الجيش كله! فقال: فأرسل إلينا العلج إما أن تعبروا إلينا بنهاوند وإما أن نعبر إليكم، وكان بين المسلمين والكفار نهر فقال النعمان بن مقرن رضي الله عنه: اعبروا إلينا، قال راوي الحديث: فلم أر مثل اليوم قط، إن العلوج يجيئون كأنهم جبال الحديد، أي: كأني أنظر إلى أعدادهم وعدتهم وكأنهم جبال من حديد، هيئتهم من الأكل والشرب والاستعداد الواحد منهم مثل الجبل، والتروس التي عليه والعدد التي عليه كأنها جبل من حديد.
قال: وقد تواثقوا أن لا يفروا من العرب، وقد قرن بعضهم إلى بعض حتى كان السبعة في قران، أي: ربطوا أنفسهم بسلاسل، كل سبعة مربوطون في سلسلة، بحيث لا يفرون من العرب، وكأنهم جبال مربوطة ببعضها، والعرب أعدادهم أقل من أعداد هؤلاء بكثير، وحدثت المعركة بينهم والحديث طويل نرجئه للغد إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(497/4)
تفسير سورة محمد [7 - 11]
وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالنصر إذا هم نصروه، وكتب التعاسة والشقاء على الكافرين، والله يمحص المؤمنين حتى يعودوا إلى دينهم، وهو وليهم، والكفار لا مولى لهم.(498/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:7 - 11].
في الآيات وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين يدافعون عن دينه، وينصرون دين الله سبحانه أن ينصرهم الله سبحانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقد عرفنا جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكيف ثبت الله عز وجل المؤمنين في مواطن كثيرة ومن عليهم بذلك، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة:25]، ولكن حين ظنوا أنهم ينتصرون بقوتهم، بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الظن خطأ، وأن القوة ليست كل شيء، وإنما الإنسان يُعد ما استطاع من قوة إيمانية، وقوة بدنية، وقوة في السلاح وغير ذلك، فالأصل أنَّ قلب الإنسان يكون مؤمناً، ومتوكلاً على الله سبحانه وتعالى.
فإذا ظن الإنسان أنه بقوته ينتصر فقد أصابه غرور واستحق أن يتركه الله سبحانه وتعالى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر الصحابة من الغرور ومن الاستكبار ويقول لهم حين يقول له سعد: يا رسول الله هذا السيف أريد، أعطني هذا السيف لعله يأخذه من لا يبلي بلائي، وكان عظيم البلاء رضي الله عنه، وكان في قتاله شديداً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفديه وهو يرمي ويقول: (ارمِ فداك أبي وأمي)، ومع هذا كله لم يعطِهِ السيف في يوم بدر، وكأنه يقول: أنا يدي قوية، أنا سأقاتل قتالاً شديداً، ولعله يأخذه من لا يجيد استعمال هذا السيف، فقال: (ضعه مكانه).
فلما أكثر على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟) فالضعيف يذهب ليقاتل في سبيل الله وليس هذا مدح للضعف، وإنما مدح لقوة إيمان المؤمن الذي لا حيلة له.
وقد كان عبد الله بن مسعود من أعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علماً ومع ذلك كان نحيفاً جداً، وكان قصيراً جداً رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ضحك الصحابة من دقة ساقيه: (لهما أثقل في الميزان من جبل أحد) فهو رضي الله عنه خلقه الله عز وجل هكذا والله يخلق ما يشاء، ولما أراد أن يحز رقبة أبي جهل بسيفه أخذ يضرب في أبي جهل ويضرب، والسيف لا يؤثر حتى قال أبو جهل: خذ سيفي، فأخذ سيفه وصعد فوق صدره فحز رقبته لعنة الله عليه.
هذا صحابي لم يمنعه أنه نحيف البدن، قصير القامة من أن يجاهد في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون إلا بضعفائكم؟)، يجاهدون في سبيل الله فيري الله عز وجل كيف يصنع هؤلاء، فالضعيف يقاتل ما استطاع، ويفعل ما يقدره الله عز وجل عليه، بل يكون في قلبه قوة الإيمان بالله الذي يدفعه لأن لا يرى أنه أقل من غيره في القوة، والكفار كالجبال وهذا بجوارهم قصير ونحيف، ومع ذلك يقف ليقاتل في سبيل الله سبحانه وتعالى! هذا الضعيف قوة الإيمان في قلبه ويقول: يا ربي يا ربي فينصرنا الله بدعاء الضعيف، والضعيف أشد دعاءً واستغاثة بلله سبحانه وتعالى، وأكثر تضرعاً إلى الله سبحانه وتعالى، فالإنسان القوي ينسى نفسه وفي أثناء القتال يتناسى أمر الدعاء ويعتمد على أنه يهجم على الأعداء، لكن الضعيف دائماً على لسانه ذكر الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن النصر ليس بيده، وهو ضعيف إن لم يقوّهِ الله عز وجل وإن كان الجميع هكذا، ولكن الضعيف أشد استحضاراً لهذا الحال من القوي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون إلا بضعفائكم؟)، يرحمهم الله سبحانه وتعالى، وليس الضعيف هو الإنسان الذي هو نحيف البدن أو أنه قليل القوة فقط، ولكن الضعيف أيضاً النساء والصبيان، فهؤلاء الضعفاء يدعون الله عز وجل فيستجيب الله سبحانه، وينصر المسلمين ببركة دعوة هؤلاء، ولجوئهم إلى الله عز وجل، وصدق استغاثتهم به سبحانه.(498/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم)
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8] التعس أصله: التَعثر، تعس الإنسان بمعنى: انكب، وتعثر وسقط على الأرض.
وتطلق أيضاً التعاسة على الشقاء، وعلى الكآبة، وعلى الخيبة، وعلى الحسرة، وعلى الحرمان، وتطلق أيضاً على التدبير، والتدمير، والإهلاك، كل هذه المعاني جمعها الله عز وجل في هذه الكلمة للكفار، مكتوب عليهم الشقاء، مهما آتاهم الله عز وجل من ملك ومن قوة، ومن قدرة وغنىً ونساء، مهما آتاهم الله يستشعرون في قلوبهم التعاسة.
وتتجلى المظاهر الكاذبة والبراقة أمام الناس في قائد الفرس وهو جالس على سرير من ذهب، فيرعبه صحابي واحد، إذْ نظر إليه قائد الفرس فقال: إنما أنتم كالكلاب، ولولا أني أخاف أن تتنجس رماحنا لرميناكم! هذه نظرة هذا الكافر لهؤلاء الصحابة الأفاضل.
ولما مشى المغيرة بن شعبة وكان أعور رضي الله تبارك وتعالى عنه قال هذا الكافر لمن حوله: لقد صدق الأعور، صدق في اللقاء، وذلك لمَّا قال لهم: (إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله إلينا رسولاً، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، فلم نزل نعرف من ربنا منذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفلاح والنصر حتى أتيناكم.
والكافر ينظر إليه ويقول: صدق فعلاً، هذا الكافر أظهر مظهر العظمة والفخامة أمام هذا الصحابي، لكن بعد ما انصرف إذا به يقول لمن حوله: لقد صدق فيما قال، وسيفعل ما يقول، وقبل أن يأتي المغيرة بن شعبة إليهم استشار قومه في أن يظهروا أمامهم بمظهر متقشف فيه حتى لا يطمعوا فيهم، أو يظهرون أمامهم بمظهر الملوك لكي يخوفونهم؟ كلهم قالوا: بل بمظهر العظمة والفخامة، وكان قبل ذلك خائفاً، وبعد ذلك ازداد رعباً، ورجع المغيرة قوياً في قلبه، شجاعاً في بدنه رضي الله تبارك تعالى عنه، يقول لمن حوله: والله ما تركتهم حتى أرعبت الكافر! هذا هو الفرق بين المؤمن وبين الكافر، الكافر وإن أظهر القوة هو في نفسه خائف وشقي، وفي نفسه الرعب من المستقبل، أمَّا المؤمن مطمئن بالله عز وجل، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فالمؤمن مطمئن بالله عز وجل، أما الكافر: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96]، يريد أن يعيش كثيراً فيموت بعد ذلك ولا بعث حسب زعمه، ولما عرف اليهود أن مآلهم النار تطاولوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سنمكث فيها سبعة أيام ثم تخلفونا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً، ولا تخرجون منها أبداً).
فلذلك الكافر في تعاسة وفي شقاء، وهو مهما أوتي من بذخ في الدنيا يستشعر في نفسه أنه يفقد شيئاً، لذلك تجد من يسلم من هؤلاء يذكر أنه كان قبل أن يسلم في تعاسة وشقاء، وأنه كان يفقد شيئاً.
يجدون تعاسة في قلوبهم حتى وإن أظهروا أنهم أفضل من غيرهم، فمن أسلم منهم استشعر طعم الإيمان، واستشعر حلاوة هذا الدين، هذا الذي كان ينقصه، أما من بقي على مثل ما هو عليه ففي نفسه الشقاء، وفي نفسه الحرمان والخيبة كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد:8]، في الدنيا وفي الآخرة.
ولذلك تجد أعلى معدل للانتحار في بلاد البذخ والرفاهية وفي بلاد الكفار، والآن عندهم أماكن للموت يسمونها موت الرحمة للانتحار، وهناك أطباء مستعدون لذلك، ومن أراد أن يموت يذهب إلى الأطباء ليعطوه حقنة يموت بسببها، ويشرعون قانوناً لمثل هذا! رجل لديه من الأموال الطائلة ما لديه، لكنه يريد أن يموت؛ لأنه يائس من الدنيا، فهو يستشعر الإحباط في نفسه، وليس بينه وبين الله عز وجل صلة، لكن المؤمن مهما ابتلي في الدنيا في نفسه أو في ماله، أو فيما يشاء الله سبحانه تجده صابراً محتسباً.
فإذا جاء البلاء فالمؤمن صابر؛ لأنه يعلم أن هذا البلاء قضاء من الله وقدر، فهو راضٍ بقضاء الله وقدره، وصابر لأمر الله سبحانه؛ لأن بعد الضيق سيأتي الفرج؛ وبعد الدنيا ستأتي الآخرة؛ ولأن بعد الشقاء جنة ونعيم وخلود فيها، فهو يصبر، ويطمئن نفسه على ذلك؛ لأنَّ رجوعنا جميعاً إلى الله.
فهناك فرق بين من يعد نفسه للجائزة العظيمة عند الله عز وجل، وبين من يقول: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
ولذلك يزهق الكافر من الدنيا، ويقتل نفسه برصاصة يئساً من رحمة الله، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، كفروا بالله، ويئسوا من رحمة الله.
ولذلك من لم يعرف الله سبحانه لم يعرف شيئاً، ومن وجد الله وعرف الله وجد كل شيء وعرف كل شيء، ومن لم يعرف الله سبحانه حتى وإن زعم أنه يعلم في الدنيا قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].(498/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] تلك التعاسة التي كتبها الله عز وجل عليهم بأنهم كرهوا ما أنزل الله، والذي يكره ما نزل من عند الله عز وجل ضيع نفسه وهو في ضلال مبين، أضل الله عز وجل أعمالهم في الدنيا فشقوا ففعلوا السيئات والمنكرات، وفي الآخرة أضلهم عن طريق الجنة إلى طريق النار والعياذ بالله؛ لأن هؤلاء: {كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [محمد:9]، من الكتب، والشرائع، وما نزل من عند الله سبحانه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] أي: أبطل أعمالهم حتى لا يعملوا، بزعم الإنسانية، والرحمة، والمساواة بين الخلق، ويفعلون الشيء الذي ظاهره حلو ولكن باطنه لا يعرفون الله سبحانه، ولا يتقربون به إلى الله سبحانه وتعالى، فأحبط الله أعمالهم، فالعمل الصالح لا يقبل إلا من المؤمن.(498/4)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [محمد:10]، {أَفَلَمْ} [محمد:10]: تعجب من شأنهم، أي: أما ساروا في الأرض هؤلاء؟ وأكثر الناس بحثاً عن الحفريات وعن الآثار، وأكثر الناس سياحة في الأرض هم الكفار، فقد ساروا في الأرض ورأوا آثار السابقين، أفلا يدفعهم ذلك إلى الإيمان برب العالمين، وقد قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، يرون الآية تلو الآية، ولا يؤمنون، ومن الآيات عثور الكفار على أقدم نسخة من الأناجيل، وهو إنجيل يهوذا ووضعوه تحت الإشعاع فعرفوا أن هذا الإنجيل كتب سنة مائتين أو قبلها من ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا الإنجيل يخالف عقائد النصارى، وفيها أن اليهود يقولون: إن المسيح سأل من يكون مقامي؟ يعني: من يصلب مكاني؟ فتثبت أن المسيح لم يُقتل، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] وفيها أن يهوذا هو الذي صلب وليس المسيح، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
فسبحان الله الذي يري هؤلاء الآيات، ويا ترى هل يقودهم ذلك إلى الإيمان؟ هذا بعيد جداً إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى، فهم كرهوا ما أنزل الله، وأعجبتهم الدنيا ورضوا بها.
وهذا هرقل عرف النبي صلى الله عليه وسلم، وامتحن أبا سفيان وكان أبو سفيان كافراً، وسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أسئلة كلها تؤكد لـ هرقل أن محمداً نبي حتى كاد أن يسلم، ثم ضن بملكه، ورفض أن يدخل في دين الله سبحانه بعدما دعا قومه إلى أن يتابعوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، فترك الآخرة وطلب هذه الدنيا، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [محمد:9 - 10]، كيف كان جزاؤهم؟ كيف كانت نهاية السابقين؟ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10]، يقال: دمرهم، ودمر عليهم، دمرهم، أي: من الداخل في أنفس هؤلاء، ودمر عليهم أي: فيها ما فيها من الهول، ويكون العذاب من فوقهم، وفيه ما فيه من الرعب.
فقوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10] أي: أنزل عليهم الدمار من فوقهم فأهلكهم الله سبحانه وأبادهم، واستأصلهم، {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، ليس العذاب لهؤلاء فقط، بل إن كل كافر يكفر بالله عز وجل له يوم عند الله عز وجل يذيقه فيه ما يشاء من عذاب أليم.(498/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)
ذكر الله أن ذلك الذي يصنعه الله عز وجل مع هؤلاء الكفار {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11] أي: المؤمنون وليهم وناصرهم سبحانه، ومعينهم، وهو المدافع عنهم سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، يا ترى هل الكفار ليس لهم أحد يدافع عنهم؟ بل لهم أولياء كثيرون، ولكن لا قيمة لهم، والجيوش التي في الأرض لا تنفعهم أمام ولاية الله عز وجل، فالشيطان يفر، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22].
ولما رأى الشيطان الملائكة تنزل من السماء فر وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196]، ترك أولياءه من الكفار وفر.
إذاً: الكفار لا مولى لهم مهما كانت قوتهم، ومهما كثر عددهم فلا ولاية لهم ولا ناصر لهم من الله سبحانه وتعالى.(498/6)
ذكر زمن نزول قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11]، هذه الآية نزلت قبل وقعة أحد، ولذلك في أول غزوة أحد انتصر المسلمون ولما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم انهزم المسلمون، وظهر الكفار، ثمَّ أجمع الكفار على المسير.
ووقف أبو سفيان يرفع صوته، فيقول: أفيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا تجيبوه) فقال: أفيكم محمد؟ قال: (لا تجيبوه)، ففرح أبو سفيان وقال لمن حوله وللمؤمنين: أما محمد فقد قتل، فلم يمسك عمر لسانه وقال: قد أبقى الله لك ما يخزيك أيها الكافر، لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتل، فرفع أبو سفيان شعاراً وقال: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟ قالوا: ماذا نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) يعني: وإن انتصرتم فالله معنا وليس معكم.
فالله مولى المؤمنين سواء كانوا منتصرين أو مغلوبين، يتركهم حين يتركون الحق، ويبتعدون عن الصواب ولكن لا يتركهم دائماً، بل لا بد أن تكون هناك فئة من المؤمنين ينصرهم الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، أو خذلهم حتى تقوم الساعة).
إذاً: الله ينصر المؤمنين، والله يتولاهم، وقد يختبرهم بالمحن أياماً، أو شهوراً، أو سنيناً، ولكن لا يدوم ذلك، فقد وعد الله عز وجل بنصر هذا الدين، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيمكن للإسلام والمسلمين بعز عزيز، أو بذل ذليل، بعز يعز الله عز وجل به الإسلام، وبذل يخزي به الكفار.
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(498/7)
تفسير سورة محمد [10 - 15]
ألا يتأمل كل من لم يوقن بوعد الله عند سيره في الأرض أن الملك الجبار قد دمر الأمم السابقة المكذبين، وما زالت بعض آثارهم باقية تدل على بطش الله بهم، فيؤمن حتى يستحق ولاية الله سبحانه ليدخله جنات تجري من تحتها الأنهار.(499/1)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10].
قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} أي: هؤلاء الكافرون.
ثم قال: {فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: هم عند سيرهم في الأرض لم يتعظوا ولم يعتبروا بنهاية السابقين، وكيف أن الله أهلكهم ودمرهم، قال سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
وكيف صنع الله عز وجل بالأقوام السابقين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم لوط وفرعون وجنوده، وغير ذلك، منهم من قص الله عز وجل علينا خبره، ومنهم من لم يقصص علينا خبره.
يسيرون في الأرض ليروا كيف صنع الله عز وجل بهذه المخلوقات التي كانت على الأرض، أبادها وأنشأ غيرها، وكلما حفروا في الأرض نظروا إلى آيات وعجائب من خلق الله عز وجل.
وفي عصر من العصور كانت الديناصورات موجودة في الأرض وقد وجدوا الهياكل العظمية لها، وهي حيوانات ضخمة جداً وعملاقة، فحاولوا أن يجمعوا العظام لكي يتخيلوا منظرها، أين ذهبت هذه الكائنات؟ وكيف استبدل الله عز وجل بها غيرها سبحانه؟ {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].
دمر الله السابقين، وأهلكهم في أراضيهم، وأهلك زروعهم، ودوابهم، أهلك ما شاء سبحانه وأنشأ قوماً آخرين، هلا اعتبروا بذلك؟ وإن الدمار والموت الذي أتى عليهم سيأتي على غيرهم أيضاً فهلا أحسنوا العمل؟ قال: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] أي: لن يفلتوا من الله عز وجل، فلهم الدمار، ولهم الإهلاك من الله سبحانه وتعالى، ووعد الله حق، وقول الله صدق {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4].
وفي هذه الآية بشارة للمؤمنين أن الله سينصرهم على الكافرين، وأن الله سيهزم الكافرين إن أخذتم بأسباب النصر أيها المؤمنون.(499/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)
قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] ذلك التدمير للكافرين من الله عز وجل له سبب بأن الله مولى الذين آمنوا، فالمؤمن يتولى الله سبحانه وتعالى، وينصر دين الله، ويدافع عن أهل الله، فالله يدافع عنه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
قال سبحانه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] أي: لا ناصر لهم من عند الله سبحانه، وإن اجتمع من في الأرض ليدافع عن الكافرين وأراد الله إهلاكهم فلا بد أن يكون أمر الله سبحانه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فالقوم مهما اجتمعوا على شيء من قضاء الله وقدره فسيكون، ولو اجتمعوا على شيء لم يقدره الله فمستحيل أن يكون هذا الشيء الذي يجتمعون عليه.(499/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
يقول سبحانه وتعالى ذكراً للمؤمنين ثوابهم وحسن الجزاء من الله سبحانه لهم: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] يعني هل يستوي المؤمنون مع الكفار؟ هؤلاء المؤمنون الأتقياء الذين خافوا من الله، وصدقوا بموعود الله سبحانه، والذين أخلصوا لله وعملوا من أجل دين الله يدخلهم الله عز وجل جنات عظيمة.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ} [محمد:12] فالله صاحب هذه الجنات، وخالقها، ويتفضل ويكرم عباده فيقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] وهو سبحانه الذي يتولى ذلك، فالمؤمن يستبشر ويطمئن فربه كريم سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:12] أي: الذين صدقوا وأيقنوا وعملوا الصالحات يدخلهم جنات وبساتين عظيمة في جنة الخلود.
قال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [محمد:12] أي: في أرضها من تحت أقدامهم، فينظرون إلى الأنهار وهي تجري لا كدورة فيها، ولا عكارة فيها، ولا شيء يؤذيهم فيها.
وسيفسر لنا بعد ذلك ما هذه الأنهار؟ قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12] كأنه يقول لك: قارن بين الاثنين، فالمؤمن آمن في الدنيا وعمل الصالحات، واجتهد في طاعة الله، وفي عبادة الله، وجاهد نفسه وهواه، وجاهد شيطانه، وصبر على أمر الله، وجاهد الكفار والمنافقين، وجاهد كل شيء يؤذي ويشغل عن الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن تعب في الدنيا، فاستحق الراحة في الآخرة.
أما الكافر فاستمتع بهذه الحياة الدنيا، فمثلهم مثل البهائم، لا يفهمون ولا يفقهون لماذا خلقوا ولماذا يموتون، وهل هناك بعث أم لا، الذي يهمه الدنيا فقط، فيقضي الدنيا للدنيا؛ لذلك تجد الكفار يجرون في دائرة لا تنتهي، فيمني بعضهم بعضاً، يريدون رفاهية، ويريدون حياة طيبة بزعمهم، ويريدون أن يعيشوا، ويستمتعوا بكل شيء في هذه الدنيا، فإذا بهم في بلاد الكفار عندهم المال، وعندهم النساء، وعندهم ما يشتهونه من أشياء، ومن لديه حاجة لا يرضى بها ويريد أكثر منها! ويشجعون بعضهم على ذلك: فإن كان لأحدهم شقة صغيرة في حي فقير، قيل له: خذ شقة كبيرة في حي غني.
وإن كان عندك بيت قالوا: اجعله قصراً، وهكذا يطلبون الدنيا، والمال، والشهرة، ويقولون: اطلب هذا الشيء واعمل وسنعطيك، بل سنعطيك قبل أن تعمل، فالبنوك موجودة استلف من بنك واعمل لنفسك بيتاً، أو دع البيت القديم وخذ الجديد، ويبيع سيارته لكي يأخذ الموديل الجديد الأحدث منها، وهكذا شغلهم في الدنيا بما لا ينفعهم في الآخرة.
وأيضاً: كثير من المسلمين يقلدونهم في هذا الشيء، إن كان عنده سيارة موديل قديم تركها وأخذ الأحدث منها، ولا فرق بينهما إلا الموديل! وهذا بذخ وطلب الدنيا للدنيا، يكلف نفسه، ولعله يستدين من بنك أو من أحد ويزيد عشرين ألف فوقها، والذي أدخله في هذه الفرامة الطمع في الدنيا.
وما زاده من مال قد يكون أخذه من ظلم الناس، ونهب أموالهم، وسرقتهم، وقد يمتنع من زكاة المال التي تجب عليه، ويتهرب منها كأن يشتري بماله أشياء تبقى للقنية، ثم يبيعها ليضيع حول زكاة المال في سنته! وهذا طريق الكفار أن يستمتع بالدنيا للدنيا، ويريد كل شيء في الدنيا، ومستحيل أن يحصل إنسان على كل شيء فيها.
يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ} [محمد:12] أكل البهائم، والأنعام، يريد الدنيا فيأكل ويشرب فيها، ويعمل ما يشاء، وفي كل مرة يعلن عن أكل جديد وهو متابع لكل جديد.
ويقال له: خذ الدواء الفلاني بالصبح والليل من أجل الصحة والحيوية وتأخير الشيخوخة، مثل الأنعام يريد الحياة الدنيا للدنيا، يريد أن يكون شاباً طول عمره، ويشد وجهه لكي يبدو منظره شاباً.
وما علموا أن الهرمونات الموجودة في جسم الإنسان هي مسئولة عن الشيخوخة أم يريدون إلغاءها؟! ولماذا لا يلغون الموت أيضاً؟! يظنون أنهم يخلدون في هذه الدنيا، سبحان الله! هم مثل البهائم والأنعام كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
ويقول هنا: {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] فرق بين المؤمن حين يأكل وبين الكافر حين يأكل، الكافر يأكل يريد الصحة والقوة، والمؤمن يتقوى بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يأمره الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] أي: كل واشرب بقدر من غير أن تؤذي نفسك، ولا تؤذي غيرك، ثم احمد الله عز وجل واشكره على نعمه؛ فهذه النعم خالصة لك يوم القيامة، وليس عليك حساب يوم القيامة ولا عقاب على ذلك.
أما الكافر فيسأل عن كل شيء، قال تعالى: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] أي: مقامهم، والمنزل الذي ينزلون فيه، ومكان ثوائهم.
ومعنى يثوون: يقيمون ويؤبدون فيها لا يخرجون منها.(499/4)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك)
قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
{وَكَأَيِّنْ} أي: كم؟ كثير.
قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [محمد:13] أصلها: كأي، ولذلك يقف أبو عمرو ويعقوب عليها: (وكأيْ)، وباقي القراء يقفون: (وكأين) كلمة كاملة.
والقراءات التي فيها: {وَكَأَيِّنْ} [محمد:13] قراءة الجمهور: (وكائن)، وقراءة ابن كثير، (وكاين) بالتسهيل، وقراءة أبي جعفر بالمد وبالقصر.
والمعنى: كثير من القرى، والقرية بمعنى: المدينة، فكلمة (قرية) في القرآن معناها المدينة، ونحن نطلق هذا على الريف، والقرية سميت قرية؛ لأنها كبيرة وتجمع من فيها من القَريْ، والقري الجمع، فالمدينة سميت قرية؛ لأنها تجمع أهلها فيها.
قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد:13] أي: من بلدك مكة.
{الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد:13] ورأينا كيف خرج منها صلوات الله وسلامه عليه ولم يستجب له إلا القليل خلال ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {أَهْلَكْنَاهُمْ} [محمد:13] في جنوب مكة انظروا كيف صنعنا بعاد، وفي شمال مكة كيف صنعنا بثمود، وانظروا حولكم تعرفون كيف صنع الله عز وجل بالسابقين، قال سبحانه: {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13] أي: من ينصرهم من دون الله؟ لم يجدوا لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.(499/5)
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه)
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] يعني هل يستويان؟ وهل يعقل هذا الشيء؟ الإنسان الذي على بينة ودليل وحجة وبرهان من الله، صدق بذلك، وأيقن أن هذا من عند الله فعمل لذلك، وأيقن بالجزاء وبالحساب وبالجنة وبالنار وبالموعد عند الله سبحانه وتعالى، هل يستوي هذا مع إنسان زين له سوء عمله؟ والتزيين إما خلقة وإما فعلاً ودلالة ووسوسة: فالله عز وجل، خلق المال والبنين وجعلهما زينة للحياة الدنيا، وزين النساء، والأرض.
فإذا بهؤلاء ينظرون إلى هذه الأشياء المزينة ولا ينظرون كيف يشكرون الله عز وجل ليستعينوا بالنعمة على عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.
زين الله عز وجل المال فأخذوه سواء من حلال أم حرام، فالمهم أنه مال.
وزين الله عز وجل النساء، وأباح أن تتزوج بالعقد الشرعي، فإذا بالكافر لا يهتم بالعقد الشرعي، ويريد أن يزني ويريد أن يقع فيما يحب ويهوى، ويريد انتشار الخبث والخبائث بين الناس، فيبيح لنفسه ما حرم الله سبحانه.
إذاً: التزيين يكون من الله عز وجل الذي زين الخلق، ويكون كوسوسة في النفس ليأخذ الإنسان الحرام فيأتي الشيطان فيزين هوى الإنسان.
إذاً: المقصود بقوله: ((كمن زين)) أن الخلق يزينه الله عز وجل، والذي يزين للإنسان أن يقع في الحرام الهوى والشيطان.
فهل يستوي من زين له سوء عمله؛ فاتبع هواه فوقع في النار مع الإنسان المؤمن؟ قال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد:14] العمل السيئ كأن يكون الخلق حسناً من الله عز وجل فإذا بنفس الإنسان تأمره أن يأخذ هذا من الحرام، فجعله الله سبحانه وتعالى من أهل النار؛ لأن الله خلق الخلق ليستدل به على أنه الخالق وحده سبحانه، فيعبد دون غيره.
وإذا به ينظر للخلق فيعبد الخلق من دون الله سبحانه، فيعبد الحجارة ويعبد كذا ويعبد كذا، فزين له سوء عمله يظن أن عمله هذا صحيح، وما علم أن الشيطان أغواه بذلك، وزين له سوء عمله فاتبع هواه من دون الله.(499/6)
تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)
ثم يذكر لنا الله عز وجل الجنة وجمال الجنة التي وعد بها المتقون المؤمنون، فانظر إلى هذه الجنة العظيمة العالية، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] ما مثل هذه الجنة؟ تخيل هذا الشيء، وليس الإنسان حين يتأمل الآية سينظر إلى الجنة حقيقة، إنما هذا تمثيل لتقريب المعنى.
فعندما يقول الله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] فالنخلة في الدنيا إذا أخذت منها بلحة قد يكون طعمها ليس حلواً، فلو ذكر أسماء لا تعرفها فلن تتخيل الجنة، فلا تندفع للعمل لها، لكن لما يذكر لك مثالاً لها، كأن يقال: البلح موجود في مصر، وهناك نوع أحسن منه في بلاد الشام، والبلح الذي في الجنة أعظم فيعطيك المثل.
إذاً تأمل في الشيء الموجود وحاول أن تتخيل ما هو أعظم منه ولن تصل بخيالك إليه.
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد:15] أي: وعد الله عز وجل المتقين هذه الجنة العظيمة.
والمتقون الأتقياء، وتقوى الإنسان أن يبتعد عن الحرام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اتق المحارم تكن أعبد الناس).
يعني: إذا تريد أن تصير أتقى الناس وأورعهم فابتعد عن الحرام، وإذا ابتعد المؤمن عن الحرام هداه الله عز وجل لفعل كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإذا بعدت عن الحرام وفقك للحلال، وللواجب، وللمستحب، ولكل عبادة له.
قال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15].
هذه الجنة التي ينادى على أهلها، (يا أهل الجنة! إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً).
يعيش المؤمن في هذه الجنة العظيمة، فادع ربك سبحانه الجنة، (فإذا سأل العبد ربه الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: يا رب أدخله الجنة).
واستجر بالله عز وجل من النار: (اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، فتقول النار: يا رب! ابعده عني).
فضل من الله ورحمة من الله سبحانه للإنسان المؤمن أن الجنة تحبه، والنار تدعو ربها ألا يكون من أهلها، فكل شيء من خلق الله سبحانه وتعالى يحب للمؤمن الخير، فإذا دخل الجنة وجد فيها هذا النعيم العظيم.
قال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15].
(آسِنٍ) قراءة الجمهور، و (أسِن) قراءة ابن كثير، و (آسن وأسن) بمعنى: منتن.
فماء الدنيا لو وقف كثيراً أنتن، وماء البحر لو وقف ينتن، وماء النهر كذلك، لكن الله عز وجل يجري الأنهار لئلا يحصل فيها النتن.
والبحار جعل فيها الملح حتى لا يتأذى الإنسان بنتن الماء.
ولكن ماء الجنة ماء عظيم مستحيل أن ينتن، ولا يتغير طعمه، وليس فيه حصى، ولا تراب.
قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] حين يترك اللبن في البيت فترة يتغير طعمه، أما لبن الجنة فأنهار لا يتغير طعمه.
قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد:15] خمر الجنة خمر عظيم، لما منعت نفسك من الخمر في الدنيا طاعة لله عز وجل، فاشرب ما شئت في الجنة.
قال سبحانه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] فخمر الدنيا يذهب العقل ويخرف شاربه، ويدوخ وينام ويقوم من النوم تعبان من الخمر التي شربها.
أما في الجنة فلا في صداع، اشرب ما شئت، ولا تذهب العقل، يقال نزف العقل بمعنى.
راح العقل.
فلا ينزفون بسبب هذه الخمر في الجنة، أما خمر الدنيا ففيها الرجس (النجاسة) وذهاب العقل، وتخدع الرجل الحليم وكم صنعت في الناس هذه الخمور فجعلتهم يقتلون، وجعلتهم يزنون، وجعلتهم يفعلون كل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وجعلت الرجل الحليم وشكله الكبير في القوم يكون وضيعاً، أتلفت أموال الناس، ولذلك كان بعض أهل الجاهلية يحرمها على نفسه لما رأى من صنيع الخمر به منهم: قيس بن عاصم، فهؤلاء شربوا الخمر مرة فرأوا أنهم يخرفون والناس تضحك عليهم فلما أفاقوا قالوا لهم: عملتم كذا وكذا، فحرموها على أنفسهم.
وهنا الله عز وجل قارن بين خمر الدنيا وخمر الجنة فخمر الجنة له لذة، وخمر الدنيا مرة، واصبر عمرك وهو قليل حتى تصل إلى الجنة فتأخذ من هذا الذي ادخره الله عز وجل لك.
قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ليس محتاجاً للنحل، فالنحل يأخذ العسل ثم يخلطه ببطنه بشيء ويخرج العسل، أما عسل الجنة فلا نحل ولا شمع ولا كدورة الدنيا، إنما هو عسل مصفى نقي أنهار خلقه الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، فجعله أنهاراً! قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15].
كل ما شئت من كل الثمار التي تتمناها، قال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، فهو متشابه شكلاً، مختلف طعماً، وفي الدنيا ستأكل ثمرة أو ثمرتين ثم تمتلئ بطنك أما في الجنة فكل ما شئت فإذا قلت: بطني امتلأ، خرج رشح من الإنسان رائحته رائحة المسك، وكل مرة أخرى كل، في كل وقت ولا يوجد ليل في الجنة، فتجد المؤمن حين يتفكر في الجنة يقول: لا أفرط في الجنة، ولا أضيعها؛ ففيها نعيم دائم، أما الدنيا فنعيم زائل لا يدوم، ولو كان معك مال كثير فكل الناس ينظر إليك حسداً حتى تبتلى بالمرض، أما الآخرة فهي خير وأبقى، فالمؤمن يعمل لهذه الدار العظيمة.
ثم ذكر الله عز وجل أن هذا الذي أعطيه من نعيم للمؤمن أزيد على ذلك المغفرة، فيغفر الله سبحانه وتعالى الذنوب، وكل هذا الفضل من الله عز وجل، ومغفرة من ربهم الذي خلقهم، يغفر مغفرة تليق به سبحانه وتعالى، فعبر عنها بالربوبية لله عز وجل، وهو الفعال لما يريد سبحانه، لا يتعاظم على الله شيء فيغفر الذنوب جميعاً، من تاب تاب الله عليه.
فهل هؤلاء الذين في الجنة يستوون مع من هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم؟ هل يستوي أهل الجنة مع أهل النار الذين يخلدون في النار والعياذ بالله فلا يخرجون منها أبداً؟ قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم، والزقوم طعام مر له شوك يقف في الحلوق، فلا ينزل، ويريدون ماء لإنزال الشوك من الحلوق، فإذا بالله عز وجل يعطيهم حميماً مغلياً شديد الحرارة يشربونه، فيمزق جلودهم، ويشوي وجوههم، ويدخل في أمعائهم فيخترقها! تخيل تقطيع الأمعاء في الدنيا، الإنسان قد يأتي له مرض شديد فتتقطع من شدة الألم أمعاؤه، لكن تخيل لو أن الطعام كانت حموضته كبيرة فأصابه بالقرحة في الأمعاء واخترق هذه الأمعاء وطلع منه جزء يسير! فسيكون الألم لا يطاق، فعندما يقول لك: قطع أمعاءهم قطعها حقيقة، وهم يستحقون ذلك بما صنعوا، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(499/7)
تفسير سورة محمد [16 - 18]
النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، ومبعثه صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، وللساعة علامات صغرى وكبرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر أكثرها، وسيظهر الباقي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(500/1)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:16 - 18].
يخبرنا الله عز وجل في هذه الآيات عن صفة من صفات المنافقين، والفرق بينهم وبين المؤمنين أن المنافق: إنسان دخل في الإسلام وهو كاره له، لما رأى غلبة الإسلام وغلبة المسلمين أذعن ودخل في دين الله عز وجل، وأظهر هذا الإسلام، وأبطن الكفر، وعمل للإفساد بين المسلمين.
والمنافقون أشد الناس على المسلمين، وأفسد الناس فيمن استطاعوا أن يفسدوهم من المسلمين، وهم أكثر الناس إدخالاً للفساد على بلاد المسلمين.
والكافر معروف كفره، أما المنافق فبعض الناس يدافع عنه، وله أقرباء من الناس، ولذلك الناس يسكتون عنه؛ إكراماً لأقربائه؛ ولأنه يقول: أنا مسلم، يسكتون عنه، ويتغاضون عنه، أما هو فلا يسكت، بل يشيع الفاحشة بين المؤمنين، ويشيع الكلام الخبيث بين المؤمنين، ويظهر الكلام الذي يوهن في قوة المسلمين، وإذا جاء وقت الجهاد ووقت الحرب ووقت الغزو إذا به يتكلم عن الكفار بأنهم أقوى ما يكونون، وأن المؤمنين ضعفاء، ولا يقدرون على هؤلاء؛ توهيناً لقوة المسلمين.
والمنافقون فضحهم الله عز وجل في سورة المنافقون، وأيضاً في سورة براءة، وهنا في هذه السورة ذكر صفة من صفات هؤلاء، وفي سورة براءة ذكر الله عز وجل كثيراً من صفاتهم.
وهنا ذكر صفة من هذه الصفات فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، ومن هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين لعنة الله عليه وعلى أمثاله.
ومن هؤلاء رجل اسمه رفاعة بن التابوت، ورجل آخر اسمه زيد بن الصلت، ورجل رابع اسمه الحارث بن عمرو، وكان هؤلاء وغيرهم من المنافقين يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك غيرهم لا يعرفهم لكن الله يعرفهم، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن بعض أسماء هؤلاء الذين يموتون على نفاقهم، فهؤلاء من أوصافهم التي ذكر الله عز وجل في كتابه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن القول، فالمنافق يلحن بقوله فيعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في باطن هذا الإنسان بما يظهر على فلتات لسانه.
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [محمد:16]، هنا استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب وهو يذكر ويقرأ القرآن، فكانوا يسمعون ساكتين، وحين يخرجون من عند النبي صلى الله عليه وسلم فكما قال الله: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] يعني: حالاً، منذ وقت قريب، فالأنف: الشيء القريب.
وفرق بين أن يسأل الإنسان آخر: ما عملت أمس؟ والسنة التي فاتت ماذا كان فيها؟ أما الذي سيسأل عما حصل في الأمس فستقول له: أنت تشك، أو يمكن أنك ناسٍ، والمنافقون يقول أحدهم للآخر: اترك النبي صلى الله عليه وسلم ولا تسمع منه شيئاً، فهو يقول كلاماً لا يدخل عقولنا، ولا يحفظ هذا الكلام، فيريدون أن يشككوا المسلمين، كعادة الإنسان الذي يستهين بمن يعلمه، وبمن يدرسه.
قال تعالى: ((مَاذَا قَالَ آنِفًا)) أي: حالاً، يعني: الخطبة التي كان يقولها ماذا كان يتكلم فيها؟ فيحاولون أن يلقوا الشك في قلوب المؤمنين، فيسألون الذين أوتوا العلم: ((مَاذَا قَالَ آنِفًا))، والعادة أن صاحب العلم حوله من يتعلم منه، وحوله من يسمع له، فكان يأتي المنافق إلى مثل ابن مسعود رضي الله عنه وهو من فقهاء الصحابة فيقول له: ماذا كان يقول؟ يعني: الكلام الذي كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم كلام ليس مفهوماً، وكأن هؤلاء الناس الكبار ليسوا فاهمين منه شيئاً، ويشككون المؤمنين فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ففضحهم الله عز وجل بهذا.
وللمنافقين صفات أخرى كثيرة ذكرها الله، منها قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] وغيرها من الصفات.
فمن صفاتهم: التشكيك فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء بكلامه عليه الصلاة والسلام، ودعوى أنه يقول كلاماً لا يفهم.
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16]، إذاً: هم يظهرون أنهم لا يفهمون، والحقيقة أنهم وإن فهموا المعنى فقلوبهم في غفلة، وقلوبهم مختوم عليها، ومطبوع عليها، ولا يدخلها الإيمان لفسادها، ولذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16] أي: ختم الله عليها، وجعل عليها أغشية فلا تفقه ولا تعي ولا تفهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين أن يفهم الإنسان أن معنى الإيمان معنى التصديق، وأن يعقل الإنسان بقلبه ذلك فيستجيب له، فهذا استماع وهذا استماع، وهذا استمع للإيمان وهذا استمع للإيمان، ولكن أحدهما استمع ليشكك، والآخر استمع ليصدق، ففرق بين هذا وبين ذاك، فلذلك ذكر الله المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}.
فالمنافق بسبب أنه يريد أن يستهين وأن يستهزء بالدين يطبع الله على قلبه، والمؤمن أقبل على الله، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح قلبه تواضعاً لدين الله سبحانه؛ ففتح الله قلبه، وزاده إيماناً فوق إيمانه، فالمنافقون قال الله عنهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، فهم متبعون للهوى، وسيهوي بهم في نار جهنم والعياذ بالله! وأما المؤمنون فاتبعوا تقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فآتاهم تقواهم، وآتى كل إنسان من المؤمنين التقوى التي ينتفع بها في الدنيا بأن يسمع ويزداد إيماناً، وينتفع بها في الآخرة بأن يقيه الله عز وجل من النار.(500/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، في هذه الآية مسألة من مسائل العقيدة التي يؤمن بها المؤمنون، وهي أن الإيمان يزيد وينقص، كما قال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فالإيمان أصله التصديق، والذي يريده الله عز وجل ليس مجرد تصديق، ولكن التصديق الذي يدفع إلى العمل واليقين في القلب، فاليهود كانوا مصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يظهرون ذلك، بل يظهرون خلاف ما يعتقدونه، فإذا قالوا: أنت نبي، يستثنون ويقولون: ولكنك نبي الأميين، فهم مصدقون أنه صلى الله عليه وسلم نبي، وهم يعرفون بينهم وبين أنفسهم أنه نبي، والكفار كان في قلوبهم التصديق بأنه نبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حسدوه صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: وأنى لنا نبي؟ فهم يعرفون معرفة يقينية أن هذا رسول، ولكنهم لم يتبعوه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض اليهود وقد جاءوا إليه وسألوه وقالوا له: صدقت يا محمد! فقال صلى الله عليه وسلم: (فما يمنعكم أن تتبعوني؟) فهم كلهم يقولون: أنت صادق، وأنت نبي فعلاً، وقبلوا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم، فكما فلما قال لهم: (ما يمنعكم أن تتبعوني؟) قالوا: نخاف من اليهود، فهؤلاء ليسوا مكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس في قلوبهم أن هذا ليس نبياً، بل هم يعرفون في قلوبهم أنه نبي، بدليل أنهم يعترفون له بذلك، ولكن هذا لا ينفع، فمجرد كونك عرفت أنه نبي ولكنك لم تتبعه هذا لا ينفعك، بل لا بد من الاتباع، ولذلك قال: (ما يمنعكم أن تتبعوني؟) قالوا: نخشى من اليهود، والبعض الآخر قالوا: إن داود دعا بأنه لا يزال في ذريتي نبي، فنحن ننتظر نبياً من ذرية داود عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.
وكذبوا فيما قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان الذي يريده الله عز وجل ليس مجرد التصديق بأن هذا كتاب من عند الله، وأن هذا رسول من عند الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن المراد تصديق ويقين يدفع للاتباع، فيدخل الإنسان في هذا الدين، ويقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإذا دخل الإنسان في الإيمان عمل الصالحات، وازداد إيماناً فوق إيمانه، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد الإيمان بالطاعة، وينقص الإيمان بالمعصية.
فمن اعتقاد المؤمنين أن الله عز وجل يزيد المؤمنين إيماناً، فيزدادون درجات من عند الله عز وجل، وبالمعاصي ينقص الإيمان، وليس المعنى أنه بالمعصية ينقص ويصير كافراً، ولكن المعاصي تتنوع، فقد تكون المعصية كفراً بالله سبحانه تبارك وتعالى، وأعظم ذلك الشك بهذا الدين والتكذيب بما جاء به سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
فالمؤمنون زادهم الله عز وجل هدى وآتاهم تقواهم، فيعين الله عز وجل المؤمن بأن يعطيه في قلبه ما يجعله يبصر أن هذا خطأ فيتقي الله، ويبتعد عن الخطأ.(500/3)
تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)
قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18].
هؤلاء المنافقون الذين يسمعون فلا ينتفعون، والذين يقولون لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: مَاذَا قَالَ آنِفًا، قال عز وجل عنهم: {َهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [محمد:18]، أي: ينتظرون الساعة فجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18].
يقول قتادة: الناس رجلان: رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع، يعني: هذا يسمع وهذا يسمع، ولكن إنساناً سمع فانتفع وآخر سمع فلم ينتفع.
وكان يقال: الناس مع هذا الدين العظيم ومع كلام رب العالمين ثلاثة أنوع: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك.
سامع عامل أي: يسمع ويعمل بما سمع، وسامع عاقل أي: عقل وفهم هذا الذي يقال، وسامع غافل تارك يعني: يسمع الكلام ولا يستجيب، وكأنه في واد بعيد، وهذا مثل كثير من الناس، فإنك حين تذكره بالله عز وجل يتضجر، ولو أنه عاقل لما تذكره به، وعرف أن هذا الكلام الذي تقوله سيسأله الله عز وجل يوم القيامة عنه لما تضجر، فتقول له: تعال صل، فيقول لك: ما لك دعوة، وهو لو يعقل الذي يقوله لما قاله، فهو لن يصلي لك أنت وإنما سيصلي لله سبحانه تبارك وتعالى، ولو كان يعقل لما قال هذا الشيء، ولكنه في هذا الحين يهرف بما لا يعرف، ويتكلم بالكلام الذي لا يعقله بسمعه ولا بقلبه ولا ببصيرته، فيقول الكلام الذي يؤذيه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، فيغضب الله عز وجل بما يقول، وليس على باله أن هذه الكلمة عظيمة، فهذا الإنسان يستهزئ، ويستهين يالدين، فيا ترى هل فهم؟ ولو كان يعقل ويتخيل النار التي يلقى فيها يوم القيامة بسبب هذه الكلمة ما قال هذه الكلمة، ولكنه ذهب عقله، وغاب فهمه، فإذا به يتكلم بالكلام الذي يؤذي به نفسه يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه).
قال سبحانه: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18] أي: فجأة يوم القيامة، وقد عرفنا من الأحاديث أنها تكون يوم الجمعة، لكن أي جمعة؟ لا ندري، وهذه الساعة الكبرى، وأما ساعة أحدنا فتكون قبل هذه الساعة الكبرى.
فهنا قال سبحانه: {َهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى، والمعنى: أن المسافة يسيرة بين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبين الساعة، ويعدون السنين التي في الدنيا بآلاف السنين، بل يعدونها بالملايين من السنين، والله أعلم بها، والذي بقي من الدنيا وقت قليل، وإذا كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعثت الساعة معه، فالمعنى: أنه أمر أن يقول للناس وينذر الناس ويبشر الناس، والساعة تليه صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: الساعة قريبة، كما قال الله سبحانه: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18] أي: فجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: علاماتها، وكأنه مأخوذ من الشرط، والشرط: العلامة، ولذلك سميت الشرطة برجال الشرط، من أجل أنهم يلبسون علامات تميزهم عن غيرهم، فالشرطة والشَرَط والشُرَط والشُرْط والأشراط معناها: العلامات.
وقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الساعة وما يكون من أمر الساعة، وما الذي يحدث قبلها، سواء علامات الساعة الكبرى، أو علامات الساعة الصغرى.(500/4)
ذكر بعض أشراط الساعة
قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ما هي أشراط الساعة؟ جاءت أحاديث في ذلك، منها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا)، فهذه من أشراط الساعة، والساعة لها علامات كبرى، وهذه من العلامات الصغرى، وكلها تقع بين يدي الساعة، فإذا حدثت هذه الأشياء فانتظروا الساعة فإنها قريبة.
وقوله: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم) يعني: يجهل الناس الدين، وفي أيام النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يهتمون بحفظ كتاب الله عز وجل، وبحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزالوا هكذا قروناً وراء قرون وراء قرون، إلى أن بدأ الناس يتركون دين الله، وبدأ يقل حفظهم لكتاب الله ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تجد الرجل الآن لعله لا يحفظ الفاتحة، فتقول له: اقرأ الفاتحة فلا يعرف يقرأ الفاتحة، وكم تسمع من ذلك، بل تجد إنساناً كبيراً في السن ويصلي وعمره نحو ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر فتقول له: اقرأ لي الفاتحة، فيخطئ فيها، ولا يعرف أن يقرأ الفاتحة، وما أكثر هؤلاء رجالاً ونساءً، فيضيع العلم، حتى القرآن العظيم ينسى، فترى الإنسان الذي يتكلم عن القرآن يقول لك: ربنا يقول كذا، ويأتي بمثل من الأمثلة! لا يفرق بين القرآن وبين كلام البشر! وقوله: (يرفع العلم ويظهر الجهل)، أي: يتأصل الجهل في نفوس الناس، فإذا بهم يجهلون القرآن ويجهلون السنة، ويتكلم كل إنسان بما ليس في دين الله عز وجل، بل ويثبتون عكس ما في كتاب الله عز وجل، فتسمع الناس يتكلمون، فيقوم الواحد منهم يقول لك: ما هو المانع من هذا الشيء؟ لا مانع يمنع من هذا الشيء، الحجاب الذي تذكرونه عليه، ليس هناك آية في القرآن تقول: حجاب، فالحشمة تكفي، والمهم الإيمان في القلب، واللباس لباس التقوى، ونحو هذا الكلام الفارغ، فهذا الذي يقول هذا الكلام هل قرأ القرآن فعلاً حتى يقول: ليس في القرآن آية تأمر المرأة بالحجاب؟ والله عز وجل يقول: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، فهذا لا يقرأ القرآن ولا يعرف شيئاً من القرآن، وإنما الإنسان منهم ينظر في التلفزيون أو يستمع من الراديو أو يقرأ الصحف، ويتكلم ويقول: المتطرفون والمتزمتون يقولون: هذه آيات من القرآن وهذه أحاديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول هذا المجرم الجاهل: ليس هذا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم! فمن أين أتوا لنا بهذا الكلام؟ ولو أنه قرأ وكلف نفسه أن يختم القرآن ختمة واحدة، لعرف ما في القرآن، ولكن الجهل الذي ثبت ورسخ في قلوب هؤلاء المجرمين هو السبب، فنسوا الله سبحانه ونسوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويأتي إنسان آخر فيقول: ويقولون: أهل الكتاب كفرة، هؤلاء مسلمون، فلقد سمعنا من يقول: أهل الكتاب مسلمون، أهل الكتاب مؤمنون! والله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، فربنا يقول هذا الشيء، وهذا يقول: ليس في القرآن هذا الشيء، وإنما هؤلاء يريدون أن يكفروا الناس، فكلنا مسلمون وكلنا مؤمنون، وكلنا كذا! ونحو هذا الكلام الخبيث الكاذب، ويقول هؤلاء الخبثاء: ابعد عن القرآن وابعد عن السنة! ثبت الجهل في قلوبهم فإذا بهم يتركون الدين وراء ظهورهم ولا يعرفون شيئاً من دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: (ويشرب الخمر) يعني: أن الناس يشربون الخمر، وهذه من علامات الساعة؛ فالمحلات في كل مكان مليئة بالخمور، ولا تستطيع أن تنكر؛ فإن صاحب المحل يأخذ رخصة من الدولة من أجل أن يعمل الخمر ويصنعها، ومن أجل أن يبيعها، ويأتي إليه أصحاب الضرائب فيأخذون عليه الضرائب؛ لأنه في زعمهم من ضمن الرعية الموجودين، وله أن يشرب الخمر وأن يبيع الخمر، ولا شيء عليه طالما أن القانون يبيح هذا الشيء، وأما دين ربنا سبحانه تبارك وتعالى فليس بمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولا ننتظر إلا أن يأتيهم عذاب رب العالمين، وإلا أن يخزيهم الله سبحانه، وإلا أن يسلط عليهم أنفسهم وأعداءهم، فتسلط عليهم الكفار، ففي كل يوم يستهينون بدين الله عز وجل، ويستهينون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في غفلة، وهم فقط يدافعون عن أنفسهم ويدافعون عن أمر هذا الدين الذي يزعمونه ولا يعرفون شيئاً عن كتاب الله ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (يظهر الزنا) يعني: ما كان مستوراً مختبئاً يصير ظاهراً أمام الناس، وأصبح لا مانع من مواخير في بلاد المسلمين، وأصبحت هناك أماكن يذهب إليها الناس للهو وللزنا وللعبث، ولا أحد يتكلم في هذا الشيء، وطالما أن الذي يفعل هذا والتي تفعل هذا راضيان فلا مانع عندهم في القانون، وحين يقبض على أحد من الناس زنى بزوجة إنسان فإنهم يسجنونه شهرين ويخرجونه! فأين أحكام كتاب الله عز وجل؟ ثم بعد ذلك يأتي الكفار ويقولون لهم: لا بد من تشريعات في بلادكم للإباحة الجنسية، لماذا لا يكون فيها إباحة جنسية؟! أين الحرية الجنسية؟! فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (يظهر الزنا) أي: يفشوا بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال: (وتكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)، وسيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة)، وهذا القتال سيكون بين المسلمين وبين الروم، وبين المسلمين وبين الترك، وبين المسلمين وبين الكفار أهل الغرب، فهنا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن تقوم الساعة حتى يحصل قتال، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما كان المسلمون أبداً يقولون: إنه سيغزونا الكفار إلى بلادنا، ونحن غزونا العالم كله، وكان الخليفة في أيام الخلافة الإسلامية يقول: اذهبي -يا سحابة- إلى أي مكان فسيأتيني خراجك، أما الآن فالخراج يأخذه الكفار من بلاد المسلمين عنوة وغصباً وعدواناً، ينزلون إلى بلاد المسلمين ويقولون: نحن ندافع عنكم! نحن نريد أن نثبتكم على كراسيكم، فادفعوا لنا ثمن أننا نحارب في المكان الفلاني، وادفعوا لنا في اليوم مليون دولار من أموال بترولكم، ودعونا نأخذ البترول نتصرف فيه مثل ما نريد، فيحتلون بلاد المسلمين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يحدث ذلك، فحصل الذل على المسلمين بتفريطهم في دينهم، فإذا فرط الإنسان في دينه فإن الله لا يدافع عنه؛ لأن الله لا ينصر إلا المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
أما إذا كانوا ليسوا بمؤمنين فكيف يتوقعون أن يدافع الله عز وجل عنهم، وهم يحاربون الله، ويحاربون دين الله سبحانه تبارك وتعالى؟ وفي حديث آخر ذكر فيه بعض هذه الأشراط الصغرى، قال صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)، هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح، فمن أشراط الساعة المباهاة، فالمسجد هو مكان للعبادة لا للمباهاة، لكن ترى من يقول: مسجدنا أحسن مسجد، ومسجدنا جعلناه على شكل الكعبة، وآخر يقول: مسجدنا جعلناه مثل المسجد النبوي، وعملنا فيه قبباً، وعملنا فيه مئذنة طويلة، وعملنا فيه كذا، ولوناه بأحمر وأسود، ونحو ذلك! فالتباهي بالمساجد وعدم الصلاة فيها من أشراط الساعة، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18]، وعمران بيوت الله عز وجل يكون بالصلاة فيها، وليس المعنى: أن المسجد لا يبيض ولا ينظف؛ بل النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة التي كانت تنظف المسجد، صلى عليها وهي في قبرها، وكانت قد دفنت من غير ما يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بها.
ولكن المعنى: أنه سيقل الإيمان ويبقى فخر الناس فقط بقولهم: عندنا مسجد كبير، وكثير منهم لا يصلون فيه، بل إن بعض الناس يكون في مكة، ويبقى فيها سنين وما صلى في المسجد الحرام! لا يصلي وبجانبه الكعبة، وبجانبه المسجد الحرام، ولا اعتمر ولا حج ولا يعرف شيئاً! وبعض الناس من أصحاب الشركات السياحية يخرج بالناس ليؤدوا العمرة، وعندما يريد أن يعتمر يلبس لبس الإحرام، فإذا أغضبه أحد يخلع لباس الإحرام ويقول: لن أعمل عمرة هذه السنة، فهذا دينهم، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فظهر الجهل بين الناس، وقل العلم، وقل الدين، فلم ينتظروا إلا الهوان في الدنيا، وما لجرح بميت إيلام.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(500/5)
تفسير سورة محمد [17 - 18]
الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، والمنافقون مذبذبون بين ذلك، فإذا جاءهم الموت بغتة أو الساعة فلا توبة تنفعهم ولا إيمان، وقد جاءتهم علامات قرب قيام الساعة ولكن لم يعتبروا ولم يتوبوا، وعلامات الساعة مذكورة في الكتاب والسنة.(501/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:17 - 18].
الله سبحانه وتعالى يمن على المؤمنين بالهدى ويزيدهم إيماناً فوق إيمانهم بطاعتهم، فالمؤمن كلما ازداد طاعة زاده الله عز وجل إيماناً، وزاده رفعة، وزاده درجات عنده سبحانه وتعالى، وكلما وقع الإنسان في المعصية نكت على قلبه، وتغير شيء من قلبه، فإذا تاب مسحت هذه النكتة السوداء التي تكون على قلبه.
وإذا وقع في المعصية رجعت مرة أخرى، فإما أن يصير صاحب معاصٍ فيختم على قلبه ويطبع، ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، أو أنه ينزع ويتوب إلى الله عز وجل ويبيض قلبه، فيعرف الخير ويزداد إيماناً، فالمؤمنون يزيدهم الله عز وجل هدى.
وذكر الله المنافقين وكيف أنهم كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويسمعون كلامه العظيم صلوات الله وسلامه عليه، ويريدون أن يشككوا الناس فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألون أهل العلم أمام الناس فيقولون: ماذا قال آنفاً؟ كأنهم لم يعقلوا ولم يفهموا ما الذي يقوله صلوات الله وسلامه عليه! استهزاءً بما يقول، وتنفيراً للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين يرون هؤلاء أنهم لم يفهموا، فلعل غيرهم يقولون ما يقول هؤلاء، فيتشككون في كلامه صلى الله عليه وسلم.(501/2)
تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)
قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]، فتأتي ساعة أحدهم أو تأتي القيامة الكبرى عليهم، قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، أي: قد جاءت أشراط الساعة، ومن أشراط الساعة أن بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأخبر أنه بعث هو والساعة كهاتين، وأشار بالأصبعين الوسطى والسبابة، فسبقت واحدة والأخرى تليها مباشرة، فالفترة الزمنية التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قيام الساعة فترة صغيرة وقليلة جداً من هذه الدنيا.
وقال تعالى: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18] أي: إذا جاءت الساعة جاءت بغتة تذهل الناس، وترجع الناس فيأخذهم الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ} [محمد:18]، أي: كيف ومن أين لهم إذا جاءتهم هذه الساعة أن يتذكروا؟ أي: متى يتاح لهم أن يتذكروا، يأتي الموت ثم تأتي الساعة، ولا يلحق الإنسان أن يتذكر التذكرة التي تنفعه في العمل، فإنه إذا رأى الموت رأى ما كان غائباً عنه قبل ذلك، فلا تنفعه الذكرى، ولا تنفعه التوبة، ولا يستطيع أن يقول: تبت إلى الله، بل يختم عليه ويمسك لسانه، فلا يقدر أن يقول: لا إله إلا الله، أو أن يقول: تبت إلى الله، قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
فقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ} [محمد:18]، أي: من أين وكيف لهم أن يتذكروا فينتفعوا بهذه الذكرى؟ فأنى لهم إذا جاءتهم الساعة أن يتذكروا وأن ينتفعوا بذلك، وأن يناجي بعضهم بعضاً، فيذكر بعضهم بعضاً، والحق أنَّ الساعة ستقوم، بل تأتي الساعة عليهم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد يكونون في سوقهم يتبايعون، يبيع الرجل الثوب ويمده ويمتره ويذرعه، وهذا يشد وهذا يشد وهذا يقيس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينفخ في الصور فإذا بهم يسمعون صوت نفخة، فيصغي الرجل ليتاً ويرفع ليتاً) والليت: جانب العنق، يصغي: يميل ليسمع ما هو هذا الصوت، فلا يلحق بل يخر ميتاً، وذكر أن إنساناً آخر يلوط حوض إبله، أي: يحضر الحوض الذي سيسقي فيه إبله ويجهزه، ولا يلحق أن يأتي الإبل ويسقيها، فإذا به يسمع النفخ في الصور فيخر صعقاً، والرجل يمسك اللقمة يرفعها إلى فيه، فيسمع الصوت ويصغي له، ولا يلحق أن يأكل اللقمة، ويخر ميتاً.
فمتى يتذكرون؟ ومتى يعتبرون؟ ومتى يدعو بعضهم بعضاً؟ ومتى يذكر بعضهم بعضاً وينادي بعضهم على بعض أن الساعة حق؟ ومتى يلحقون قول لا إله إلا الله قبل أن تقوم الساعة؟ أنى لهم ومن أين لهم هذا الشيء؟ لا يقدرون.
فقد جاء من الله عز وجل أشراط، أي: علامات لهذه الساعة، جاءت العلامات الصغرى لعلهم يعتبرون قبل أن تأتي الكبرى، وقبل: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].(501/3)
من علامات الساعة(501/4)
تسليم الخاصة
من أشراط الساعة الصغرى: أن يرفع العلم، وأن يثبت الجهل، وأن يشرب الخمر، وأن يظهر الزنا، من ذلك أيضاً: عن طارق بن شهاب قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجاء رجل فقال: قد أقيمت الصلاة، فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا الناس ركوعاً في مقدم المسجد، فكبر وركع وركعنا، ثم ذكر: أنه مر رجل مسرعاً، فقال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، يعني: هم دخلوا للصلاة، وهذا الذي مر على الجميع قال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن.
وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القول: عليك السلام يا فلان، قال صلى الله عليه وسلم: (عليك السلام تحية الموتى، إنما تقول: السلام عليكم).
فـ ابن مسعود كان في الصلاة، ومعلوم أنه إذا سلم الإنسان على إنسان يصلي، فإنَّ المصلين لن يردوا عليه السلام، ولكن يرد بيده إذا كان يرفع يده ويرفع إصبعه، ينبه أن سمع السلام ويكفي، وكان ابن مسعود في الصلاة، فقال: صدق رسول الله، أو كان لم يدخل في الصلاة فقال ذلك، والله أعلم، لكن الغرض: أنه رفع صوته بذلك، قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى ابن مسعود من الصلاة ورجع سألوه عن سبب قوله: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) يعني: من علامات الساعة: مجموعة من الناس موجودون، فيسلم المار على أحدهم، وبقية الناس لا قيمة لهم.
ومن علامات الساعة أن يظهر جهل الناس، ويسلم على واحد فقط، فأنت إذا أردت السلام على واحدٍ بين قوم، تسلم على الجميع، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: يُسلم بعضكم على بعض، فلا تنتقي واحداً وتسلم على الذي تعرفه فقط، والباقي لا تسلم عليهم، فـ ابن مسعود يقول: صدق رسول الله، يعني: حدث هذا في عهده رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) يعني: الإنسان يسلم على الذي يعرفه فقط، أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يسلمون على الجميع، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يخرج إلى السوق ومعه جماعة من الناس، ولا يريد أن يبيع ولا يريد أن يشتري ولكن ليسلم على الناس فقط، ثمَّ يرجع إلى البيت.
وإذا خرج الإنسان إلى السوق وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، يأخذ ألف ألف حسنة على هذه الكلمة التي يقولها، يعني: مليون حسنة على هذه الكلمة! فالإنسان المؤمن يفكر كيف يأخذ الثواب من الله عز وجل، وكيف يعمل العمل الذي يؤجر عليه الأجر العظيم، أما أنه يسلم على واحد فقط من بين الناس، فهذا لا ينبغي.
إن تسليم الخاصة يجعل العداوة والبغضاء في قلوب الناس، فبتسليمه كسب عداوة الباقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين، ويقول: (افش السلام على من عرفت ومن لم تعرف) أي: سلم على الجميع على من عرفت وعلى من لم تعرف.(501/5)
فشو التجارة
من علامات الساعة: (فشو التجارة)، ولا يعني هذا: معرفة الناس كيفية البيع والشراء، لكن فشو التجارة يعني: يدخل فيها الذي يعرفها والذي لا يعرفها، فتجد الواحد موظفاً ويزاول التجارة أيضاً، وليس معناه: أن التجارة حرام، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن شيء سيكون أن كل الناس الذي يعرف البيع والشراء والذي لا يعرف سيزاولون التجارة، قال: (حتى تعين المرأة زوجها على التجارة)، ولم يكن معروفاً في الجاهلية هذا الشيء، أن الرجل يشتغل، وزوجته تقعد مكانه في الدكان، ولم يكن معروفاً عند المسلمين هذا الشيء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيكون وليس معناه: أنه حرام، وليس معناه: أن المرأة لا تعين زوجها على التجارة وأنه حرام، ولكن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون هم الإنسان كله في دنياه ليس في دينه، ويكون الرجل مشغولاً في التجارة، وزوجته مشغولة معه في التجارة، فينسون دين الله عز وجل، فهنا إخبار أن هذا الدين سينْسى؛ لاشتغال الناس بالدنيا والتجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة.(501/6)
قطع الأرحام
قطع الأرحام من علامات الساعة، فالإنسان يقطع أرحامه؛ لانشغاله بالدنيا وجمع المال، ولا يريد أن يعطي أحداً حقه، ولا ينظر إلى فقير ولا إلى مسكين ولا إلى أب ولا أم ولا كذا، فترى الأب يجانبه ابنه في البيت، ولا يذهب إليه؛ خوفاً من أن يقول له أبوه: هات.
والأب يعرف أن ابنه فقير ومحتاج، لكن لا يتدخل به، فتقطع الأرحام بسبب جمع المال والحرص عليه، وكل إنسان لا يريد أن يعطي الحق الواجب عليه.(501/7)
شهادة الزور
من علامات الساعة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وشهادة الزور)، أن يشهد الإنسان زوراً، بأن يكون محرجاً من فلان، فيذهب ويشهد معه زوراً وهو لم ير شيئاً.
وإنسان يبغض فلاناً فيشهد عليه زوراً وهو لم يرَ شيئاً، وقد يجلس شخص على القهوة، وينتظر أحد يناديه، تعال واشهد معي في المحكمة وسأعطيك مبلغاً من المال، فيذهب ويشهد كذباً وزوراً ويحلف اليمين الغموس، وكم تسمع عن أمثال هؤلاء وهم لم يشاهدوا شيئاً حتى يشهدوا! والذي يشهد شهادة الزور يعتبرها خدمة ومجاملة، فيشهد زوراً وكذباً لإنسان؛ فتضيع حقوق الناس، وقد يظلم أهل التقوى ويسجنون بسبب شهادة الزور.
والمرأة تشهد على جارتها وتحلف كذباً لأنها تغيظ منها، كذلك المحامي يقول لمن يحامي عنه: أوجع نفسك بأي جرح واتهم بما حدث لك فلاناً، فهذه أيضاً من شهادة الزور.(501/8)
كتمان الشهادة
يقول صلى الله عليه وسلم هنا ذاكراً من علامات الساعة: (وكتمان الشهادة) كتمان الشهادة من علامات الساعة، فيكون الإنسان مظلوماً وأنت تعرف ذلك وقد شاهدت ما حصل بنفسك فتأبى أن تشهد معه، ومن ذلك مثلاً: امرأة زوج قريبتها تبنى طفلاً صغيراً، ومعلوم أن التبني حرام، فمات هذا الرجل وعنده مال، وورثه هو وأخواته البنات، والرجل صنع وكالة لهذا المتبنى، ونسبه لنفسه، فأخذ الولد المال كله يصرفه على نفسه ويضيعه، وهم يقولون: إنه لا يعطي لعماته، ومعلومٌ أن هذا المتبنى ليس له من المال شيء، بل هو آكل مال الورثة، وضاع الإرث عن أصحابه بسبب كتم الموروث الشهادة.
فالمطلوب منك أن تدلي بشهادة الحق، حتى لا يضيع المال على صاحبه.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكذبة والفساق أنه يسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، ويخبر أنه من علامة المؤمن أن يؤدي الشهادة قبل أن تطلب منه، وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من يشهد بعد أن تطلب منه، وأمر بأن يشهد من غير أن يطلب منه؛ لأنه يعلم أن الحق سيضيع على أصحابه لو لم يشهد.
فيبدأ هو بالشهادة من عند نفسه من غير أن يستدعيه إنسان، فمن يعرف مظلوماً سيضيع حقه، فعليه أن يؤدي الشهادة بحقها حتى لا يضيع هذا المظلوم.(501/9)
ظهور القلم
من علامات الساعة كما جاء في هذا الحديث: (وظهور القلم)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم).
وأيام النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) أي: الذين يكتبون عدد قليل جداً، ولكن هو يخبر أنه في يوم من الأيام سيكون أكثر هذه الأمم يعرفون القراءة والكتابة، وسيظهر القلم، وسيكون كل إنسان يقرأ ويكتب ويحسب ويعرف هذا الشيء، وليس هذا ذماً لظهور القلم أن يكتب الناس، ولكن يخبر أن الأمة العربية التي كانت جاهلة وكانت أمية، سيأتي يوم من الأيام على أغلبها يظهر فيهم القلم، وسيكون كل شيء بالكتاب، ويخبر أنه ستصاب هذه الأمة بالنسيان، حتى تحتاج إلى القلم.
فالعرب لم يكونوا يحتاجون إلى القلم، بل منهم من كان يفتخر أنه لا يكتب بالقلم كما قال الشعبي: ما كتبت بيضاء في سوداء، بل يسمع فقط، وكان حافظاً من الحفاظ، وعالماً من العلماء، وفقيهاً من الفقهاء، ويحفظ ما سمعه، والإمام ابن شهاب الزهري عالم لا يحتاج إلى كتاب يكتب إليه، فهو يحفظ الحديث حين يسمعه من مرة واحدة فقط، ولا يحتاج أن يكرر عليه الحديث، قال العلماء عنه: الحديث الذي لا يعرفه الزهري ليس بحديث، فـ الزهري ليس محتاجاً إلى أن يكتب، حفظه قوي جداً، فكان العرب هذه عادتهم، إذْ كانوا يفتخرون بالحفظ، فإذا بأحدهم يحفظ القصيدة مائة بيت ومائتي بيت من الأول إلى الآخر، وينكسها من الآخر إلى الأول من غير كتابة ولا حفظ يعانيه ولا غيره! فقوله صلى الله عليه وسلم: (وظهور القلم) معناه: ستنسون وستتعودون على النسيان، حتى تحتاجوا إلى أقلامٍ لكتابة هذا الشيء.(501/10)
ولادة الأمة سيدتها أو سيدها وتطاول الحفاة العراة في البنيان
من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في بيان علامات الساعة، ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الأمة ولدت ربتها، ورأيت أصحاب البنيان يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رءوس الناس؛ فذلك من معالم الساعة وأشراطها)، هذا جاء في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وجاء أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وحديث جبريل حديث طويل، وهذا الحديث مختصر: (إذا رأيت الأمة ولدت ربتها)، والمعنى: أمة جارية تلد سيدتها، تكون ابنتها سيدتها، وابنها سيدها، وهذا لا يجوز؛ لأن الابن لا يستعبد أمه، والبنت لا تستعبد أمها، هذا لا يكون أبداً، ولكن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيكون في يوم من الأيام! ومعلوم أن الأمة إذا وطأها سيدها، ثم أحبلها الجنين الذي في بطنها عندما تضعه يكون سبب عتقها، ولا يجوز أن تكون أمة بعد ذلك، فإذا مات هذا السيد، وكان ابنها هو الذي يستعبدها بعد ذلك، تصير عبدة عند ابنها، فهذا من علامات الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال: (ورأيت أصحاب البنيان يتطاولون في البنيان)، والذي يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كله حاصل، فهناك بيوت عالية جداً بحق وبباطل، وبيوت ناطحات سحاب في السماء، وما كان الصحابة يتخيلون بيتاً مكوناً من طابقين، بل أعلى شيء يتخيلونه أن تكون هناك غرفة مشرفة عالية في البيت.
قال: (ورأيت الحفاة الجياع العالة، كانوا رءوس النا)، أي: إنسان يكون فقيراً وفي يوم من الأيام يكون رئيساً على الناس، ولا يوجد مانع من هذا الشيء، ومن يمنع رحمة الله عز وجل؟ ولكن المعنى: أن الناس يجعلون صاحب المال رئيساً فيهم، فصاحب المال هذا كان في يوم من الأيام حافياً جائعاً، ولم يكن يملك شيئاً، وليس له حظ في العلم ولا في العمل ولا وجاهة له في الناس، وفجأة أصبح هذا الإنسان غنياً، وأصبح فوق رءوس الناس، فصار هو الذي يصلح أن يقودهم، وليست عنده حكمة، وليس عنده علم، وليس هو من أهل الخبرة في ذلك، ولكن ماله هو الذي جعله فوق الناس، يعني: الناس لا يحترمون إلا من له مال.
فإذاً: هو صاحب الرأي فيهم، وهو الذي يصلح فيهم أن يقودهم، فهذا من علامات الساعة، لكن أهل الجاهلية من العرب لم يكن رئيسهم صاحب مال، بل صاحب العقل فيهم، وصاحب السن فيهم، يعرفون له سناً، ويعرفون له حكمته، فيقبلون منه، ويذهبون إليه فيتقاضون عنده، لكن إذا صار الأمر إلى أن الذي عنده مال هو الذي يصلح، ضاع الرأي إذا كان المال من ورائه، قال صلى الله عليه وسلم: (فذلك من معالم الساعة وأشراطها).(501/11)
ظهور خسف وقذف ومسخ
أيضاً: جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث يقول: (إذا سمعتم بقوم قد خسف فيهم هاهنا قريباً، فقد أظلت الساعة)، خسف بالمشرق هناك، إذا سمعتم أنه حصل خسف بالناس، فاعلموا أن الساعة قريبة، وأخبر عن الزلازل، وانظر إلى الزلازل التي كثرت في هذا الزمان.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).
إذا فسد أهل الشام، وإذا ضاع الإيمان، وضاع الدين من بلاد الشام، هذا آخر ما يكون في الإيمان، فقد فسدت الدنيا فانتظروا الساعة.(501/12)
إسناد الأمر إلى غير أهله
من علاماتها أيضاً الصغرى: يقول: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)، إذا صارت الأمور ومقاليدها يديرها من لا يستحقون ذلك، والذين لا خبرة لهم، والكفار يصنعون ذلك في المسلمين، إذْ يولون بين المسلمين وعلى المسلمين من لا يصلح لشيء، ولذلك سقط الاتحاد السوفيتي بسبب رجل من أصحاب المخابرات في الاتحاد السوفيتي يعترف في يوم من الأيام أنه كان عميلاً للأمريكان هنالك، إذْ جعلوه مسئولاً عن التعيينات، وأي إنسان صاحب كفاءة لا يعينه، فكان إذا خير بين ثلاثة أو أربعة عندهم كفاءات وإنسان جاهل، يأتي بالجاهل ويحطه في هذا المكان، وإذا صارت البلاد يديرها الجهال ضاعت البلاد؛ لأنه لا خبرة عنده ولا ديانة عنده ولا دراية عنده، فسقط الاتحاد السوفيتي الذي كان في يوم من الأيام ملء السمع والبصر! هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: إذا صار يحكم الناس، ويقوم بشئونهم أصحاب المحسوبية والرشاوى والأقارب والإنسان الذي لا يستحق؛ ضاعت بلاد المسلمين، وانتظروا الساعة من وراء ذلك.(501/13)
حديث عوف بن مالك في بيان بعض علامات الساعة الصغرى
عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري - يقول: (أعدد ستاً بين يدي الساعة: موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فتح بيت المقدس -وقد حصل في زمن عمر رضي الله عنه- ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم) يعني: أنه يحدث فيكم أوبئة، فيموت فيكم أعداد ضخمة جداً من الناس، وهذا حدث في عصور كثيرة قبل ذلك، فالله أعلم أي عصر يقصده النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يخبر أنه ستكون في بلاد المسلمين أوبئة يموت بسببها الأعداد الضخمة من الناس.
يقول: (ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار، فيظل ساخطاً)، يخبر أنه يصبح الناس في يوم من الأيام أغنياء، فيعطي الرجل مائة دينار يعني: نصف كيلو ذهب: أربعمائة وخمسة وعشرون جراماً من الذهب تقريباً، فيسخط ويريد أكثر من ذلك، ولا يرضى بهذا المال.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته) أي: معاصٍ وذنوب تدخل جميع البيوت، ما من بيت من البيوت إلا وتجد فيه فتنة من الفتن، في النساء وفي الرجال وفي المال وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر) أي: بينكم وبين الغرب، بينكم وبين الكفار تكون هدنة، فيغدرون ويدخلون بلادكم، قال: (ويأتونكم تحت ثمانين راية) أي: تحت ثمانين لواء، (تحت كل راية اثنا عشر ألفاً) يعني: ستأتيكم جيوش ضخمة من هؤلاء الكفار على بلادكم، يصل عددهم إلى نحو مليون، حوالي تسعمائة وستين ألف مقاتل، ويسمونها جيوش الأحلاف، هؤلاء الكفار يدخلون على المسلمين في بلادهم، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، هذه بعض علامات الساعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(501/14)
تفسير سورة محمد الآية [18]
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور علامات صغرى وكبرى قبل قيام الساعة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الناس عند اقتراب الساعة ورؤيتهم لعلاماتها لا يزدادون على الدنيا إلا حرصاً، ولا من الله إلا بعداً، فينبغي على المسلم أن يشتد حذره وخوفه من الله، وعندما يشاهد هذه العلامات يزداد حرصاً على الآخرة، ويزداد إقبالاً على الطاعة.(502/1)
تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
وقفنا في سورة محمد صلى الله عليه وسلم عند قول الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18].
يخبر الله عز وجل أن الساعة قريب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه، قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:42 - 43]، علم الساعة عند الله سبحانه وتعالى ففيم أنت من ذكر هذه الساعة؟ {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:44] أي: منتهى علم هذه الساعة إليه سبحانه، فهو الذي يعلم منتهى هذه الساعة وما يكون فيها، وأخبر أن الساعة قريب، وأنها إذا جاءت أذن الله عز وجل أنه لابد أن تكون، فأخبر بقوله: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] وأخبر الله سبحانه {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] أي: قد أمر الله وقد كان من أمر الساعة ما يريده الله سبحانه، فلابد أن تكون.
قال سبحانه هنا: ((فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)) أي: جاءت العلامات الصغرى للساعة، وتليها بعد ذلك العلامات الكبرى للساعة، ومن العلامات الصغرى ما ذكرناه قبل ذلك.
ورد حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيه أن الساعة قريبة، ومع ذلك الناس ليس على بالهم أمر الساعة، فروى الإمام الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأيضاً رواه الطبراني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً) يعني: كلما جاءت أشراط الساعة لم يتعظ الناس، وكلما اقترب أمر الساعة ازداد الناس حرصاً على الدنيا وليس على الآخرة، وكان المفترض في الإنسان أنه كلما ذكر بآية من الآيات وعلامة من العلامات رجع وتاب وأناب إلى الله عز وجل، ولكن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كلما رأوا شيئاً من هذه العلامات ازدادوا حرصاً على الدنيا وتكالباً على الدنيا، وهذا الذي تراه، فتجد الناس يشيعون الجنائز وبعض المشيعين لعلهم لا يصلون، وإنما يبقون خارج المسجد في سياراتهم ويشربون سجائر ويضحكون، والميت يصلى عليه داخل المسجد! وهو إنما حضر مجاملة لأهل الميت، ويذهب معهم إلى المقابر نوعاً من المجاملة للأحياء، أما الميت فليس على بالهم، وذكر الموت ليس على بالهم، مع أن ذكر الموت موعظة من أعظم المواعظ، فهؤلاء يرون الموتى أمامهم فلا يزدادون على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً، وكلما كان الإنسان في غفلة كان بعيداً عن الله، وكلما بعد عن الله سبحانه استحق عقوبة الله سبحانه.(502/2)
شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات)
من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الساعة هذا الحديث الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات) وهذه العلامات الكبرى للساعة عشر آيات، وأخبر في حديث: (أنها كنظام عقد انفرط) العقد هو السلك الذي ينضم فيه الخرزات، فهذا العقد إذا انفرط وانقطع تساقطت الخرزات منه خرزة خرزة، فكأنه يخبر أن علامات الساعة الكبرى إذا جاءت فإن الساعة تطلع بسرعة وراء هذه العلامات.
يقول: (إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا) هذه العلامات الكبرى للساعة، حين تظهر هذه العلامات وخاصة طلوع الشمس من مغربها يقول ربنا سبحانه: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ويذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية مع ذكره هذه العلامات، فمن العلامات الكبرى التي تكون قرب الساعة: الدخان، دخان يملأ الدنيا، ويكون شديداً على الكافر، ويكون على المؤمن كالزكمة في أنفه، والدجال الذي يدعو الناس إلى نفسه بأن يعبدوه فيتبعه اليهود والمنافقون، ويرى المؤمن مكتوباً على جبينه: كافر، أيضاً الدابة، وهي دابة تكلم الناس: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] كما مر في سورة النمل، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذه الدابة أنها تكلم الناس: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الدابة تسم الناس، فهي تجري وراء كل إنسان وتسمه على جبينه: هذا كافر وهذا مؤمن، وانتهى الأمر على ذلك، المؤمن يعيش يناديه الناس: يا مؤمن! اذهب يا مؤمن، تعال يا مؤمن، هات كذا، والكافر يناديه الناس: يا كافر! اعمل كذا، يا كافر هات كذا، ويختم على ذلك الكافر، فهو كافر لا ينتفع بموعظة ولا بشيء، ويظل على ذلك حتى يموت.
يقول هنا في الحديث: (وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق) يعني: الأرض تخسف بمن عليها، (وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب) يعني: تحصل زلازل عظيمة جداً ويخسف بالناس في هذه المواضع الثلاث.
قوله: (ونزول عيسى، وفتح يأجوج ومأجوج) إذا خرج الدجال ينزل المسيح عيسى بن مريم من السماء فيقتله، ويحقق العدالة على الأرض التي يريدها الله سبحانه وتعالى، ويحكم بهذا القرآن العظيم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل الجزية أي: لا يقبل إلا الإسلام فقط، فيصير الناس مؤمنين طيبين.
يقول هنا صلى الله عليه وسلم: (ونار تخرج من قعر عدن) من عدن تخرج نار تسوق الناس إلى أرض المحشر يعني: من عدن من اليمن إلى بلاد الشام، من الجنوب إلى الشمال، نار تسوق الناس ولا يقدرون أن يطفئوا هذه النار مهما أوتوا من قوة ومن آلات ومياه وغيرها، لا يقدرون على إطفائها إنما يفرون منها وهي وراءهم تجري معهم ليل نهار من اليمن إلى أن يصلوا إلى بلاد الشام.(502/3)
شرح حديث: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها)
أيضاً من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض) يعني: جمع لي الأرض، ثم قال: (فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) يعني: ما جمعه الله عز وجل لي ورأيته لابد وأن يكون، لأن الله لا يخلف الميعاد سبحانه، ثم قال: (وإني أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض) يعني: أعطى أمته، وإلا فهو قد مات صلى الله عليه وسلم قبل أن ينال من الدنيا شيئاً من كنوزها عليه الصلاة والسلام، وإنما يفتح الله لهذه الأمة ويعطيها ويمكن لها في الأرض، ثم قال: (وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه ألا يهلك المسلمين بسنة عامة، يعني: جميع المسلمين وإلا ففي بلاد المسلمين حصلت مجاعات خلال القرون السابقة، كانت تجيء على أهل مصر مجاعة كانوا يأكلون الكلاب ويأكلون لحوم الميتة، والذي يقرأ في التاريخ يعرف كيف أننا أصبحنا في نعم من الله سبحانه وتعالى، ففي بلادنا هذه يذكر الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء وغيرهما من الكتب وغيره من العلماء أنه حصلت مجاعات في هذه البلاد كان الناس يأكلون فيها كل شيء، ووصل ثمن حفنة القمح بمثلها من الذهب، كانوا يخرجون الدر والياقوت حتى يأخذوا مكانه قمحاً بنفس المقدار! وهذه المجاعات أكل فيها الناس الكلاب وأكلوا كل شيء، حتى كان الرجل يموت فلا يصلون بجثته إلى المقابر إلا وقد تخاطف الناس الجثة وأكلوها، ويذكر علماء التاريخ من ذلك أنه في مجاعة من هذه المجاعات خرج قاضي البلد على بغلة له ومعه حراسه، وتركوا البغلة في مكان، وذهب القاضي للقضاء، فالناس سرقوا البغلة وأكلوها، نسأل الله العفو والعافية! فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا ربه ألا يهلك المؤمنين بسنة عامة يعني: ألا يعمهم عذاب من عند الله عز وجل ويمنع عنهم المطر ويمنع عنهم الخير ويموت الجميع، فليس يحدث هذا الشيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا ربه بألا يكون ذلك، ولكن قد يحدث في بعض البلدان ذلك.
ودعا صلى الله عليه وسلم: (ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) وربنا سبحانه أجاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها) يعني: ليس يكون ذلك ما داموا متمسكين بكتاب الله عز وجل، وما داموا متآلفين متحابين فيما بينهم، ثم قال له ربه: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً) يعني: أن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً، طمعاً في الدنيا وحباً للملك، إذا حصل ذلك سأسلط عليهم أعداءهم، وهذا هو الحاصل في المسلمين، لما بغى المسلمون بعضهم على بعض، وتركوا كتاب الله عز وجل وراء ظهورهم، وتنازعوا وتناحروا على الدنيا؛ إذا بالله عز وجل يتركهم، فيتسلط عليهم أعداؤهم، وهذا الوعد الحق من أشراط الساعة.
إذاً: الله لا يرفع عن هذه الأمة العذاب العام، وإنما يجعل بأسهم بينهم إذا هم نسوا دين الله عز وجل، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم إلا إذا تسلط بعضهم على بعض، حينها يسلط عليهم أعداءهم.(502/4)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة المضلين
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) الإمام إما الإمامة الكبرى بمعنى الأمراء والرؤساء والخلفاء، وإما الأئمة المفتون الذين يفتون الناس ويعلمون الناس دينهم، فمن هؤلاء أئمة مضلون، وهم الذين يتركون كتاب ربنا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويتأولون ذلك بأهوائهم وبرأيهم، ويصدرون للناس أحكاماً ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان، فإذا بهم يفتون الناس بغير علم أو يفتون الناس بالباطل مع معرفتهم الحق، فتسمع الفتاوى العجيبة من ناس ليس لهم شأن بدين الله، ومن أناس من أهل هذا الشأن وأساتذة في الجامعات ومع ذلك يتكلم أحدهم بالكلام الذي يجامل فيه الخلق وينسى كتاب الله وينسى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو يتغافل عنهما، فهؤلاء هم الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) يعني: الحكام الذين يدعون الناس إلى غير كتاب الله سبحانه، ويبعدون الناس ويلهونهم عن دين الله عز وجل، وكذلك الأئمة الذين يأتم الناس بهم ويتبعونهم ويقلدونهم فيفتونهم بغير علم أو يفتونهم بأهوائهم وزيغهم.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة) هذا مما أخبر به عليه الصلاة والسلام وهو حق، فمن حين وضع السيف وبدأ القتال بين هذه الأمة من زمن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يرفع عنها السيف، وافترقت الأمة إلى سنة وإلى خوارج وإلى شيعة، جاء في الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة -الكل يقول: أنا مسلم-، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وأهل السنة هم الجماعة الذين يجتمعون ويعتصمون بحبل الله سبحانه وتعالى، ولذلك أعداء المسلمين يريدون أن يكون كل المسلمين في ضياع، بعيدين عن كتاب الله وعن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يتمسك بالكتاب والسنة فهذا عندهم متزمت متشدد، لكن ابعد عن الكتاب والسنة بحيث تصبح المسلم الذي يريده الغرب الكافر.
إذاً: الفرقة الوحيدة الناجية هم أهل السنة، الذين يصفهم هؤلاء الكفار بأنهم الأصوليون وبأنهم المتزمتون، ويقصدون المتمسكين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.(502/5)
إخبار الرسول عن لحوق قبائل من أمته بالمشركين وعبادة الأوثان قبل قيام الساعة
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين) يعني: ليس واحداً ولا اثنين لكن سيلحق كثير بالمشركين، فيا ترى هذا حاصل وإلا ليس بحاصل؟ كم يحصل من المسلمين ممن يتسمى بأسماء المسلمين وينبهر بما يزعم بأنها حضارات الكفار فيدعوه إلى ما يدعوه إليه هؤلاء، يقول: أنا علماني، وفي البداية كان يستحيي الواحد منهم أن يقول: أنا علماني، وكانوا يقولون: إن معنى علماني يعني: علم التكنولوجيا وعلم كذا، يعني: لا دخل لي بالدين، أما الآن فيصرحون بأنهم علمانيون، يعني: لا دخل لي بالدين، فهذه امرأة لبنانية سئلت على قناة فضائية: ما دينك؟ قالت: لا دخل لك بديني أنا علمانية، يعني: هي لا تؤمن بالغيب، ولا تصدق الكتب السماوية، هذا الذي يقولونه الآن، فهؤلاء انسلخوا عن دينهم، وهم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يذهبون إلى الكفار حيث قال: (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) يعني: أن هذه الأمة سيكون منها أقوام يعبدون الأوثان من دون الله سبحانه وتعالى، فترجع الجاهلية مرة ثانية، ومن يزعم من المسلمين أنه غير ممكن أن ترجع الأمة إلى الجاهلية فهذا مكذب بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول هؤلاء الجاهليين الذين يدعون الناس إلى صناعة الأصنام وإلى التماثيل، وإلى أنه لا مانع من هذه الأشياء، وأن الدين لا يحارب هذه الأشياء ولا ينهى عنها، مع كثرة الأحاديث التي أتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من ذلك، والإخبار بأن الناس سيرجعون في يوم من الأيام لعبادة الأوثان من دون الله.
أما عبادة القبور فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) يتعوذ بربه سبحانه أن يكون قبره وثناً يعبد، وقال: (لا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك) فإذا بهم الآن ينادون بمثل ذلك، ويخرج بعضهم على الناس ويقول: الصوفية هي الحل، والرجوع إلى اتخاذ القبور في المساجد هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: هؤلاء أماتوا السنة أماتهم الله، ويقولون: لعنة الله على الكذابين، ويقولون: أو ما قبر النبي صلى الله عليه وسلم بداخل المسجد؟ نقول: والله ما أمرهم بذلك، ولا كان قبره بداخل المسجد، إنما كان قبره في حجرة عائشة خارج مسجده صلى الله عليه وسلم، فلما ضاق المكان وسع المسجد فكان عذراً، فكيف يقاس حال غير العذر على حال العذر؟! والنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن تتخذ القبور مساجد، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد إني أنهاكم عن ذلك) فقد حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) يدل على أن القبور قد تعبد من دون الله، وذلك بأن يذهب إلى القبر ويقول: يا سيدي فلان أعطني كذا، يا سيدي فلان اعمل لي كذا، نقول: هذا الذي لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، فيقول: ماذا عليك عندما تطلب من رجل صالح ورجل ولي ورجل كذا حاجتك؟ لا مانع من هذا الشيء، نقول: أين الأحاديث التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشيء؟ هناك أحاديث كثيرة جداً في الصحيحين وفي غيرها تبلغ حد التواتر فيها النهي عن هذا الشيء، فتراه لا يستطيع أن يرد هذه الأحاديث، لكن يقول: أنتم غير فاهمين معاني هذه الأحاديث، نقول: نحن غير فاهمين معانيها؟ وكل العلماء السابقين وأبناء الأمة غير فاهمين معانيها، حتى جئت أنت وأمثالك ففهمتم معانيها ووضحتموها؟! نقول: النبي صلى الله عليه وسلم حذر أن يتخذ قبره وثناً يعبد صلوات الله وسلامه عليه، وحذر أن تتخذ القبور في المساجد، وأن تبنى المساجد على قبور.
وهؤلاء الذين يعبدون القبور من دون الله سبحانه وتعالى، يتشدق أحدهم ويقول: أين تذهبون بالحديث الذي فيه أن أبا دجانة أو أبا بصير بني على قبره مسجداً؟ نقول: من أين جئت بهذا الحديث؟ فيقول: هذا الحديث ورد بإسناد صحيح، أقول: ارجعوا إلى كتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) حتى تعرفوا درجة هذا الحديث، وتعرفوا كلام الألباني عالم الحديث في هذا الحديث؛ حتى لا يخدعكم أحد في دين الله سبحانه وتعالى، فيخرج كذاب يكذب على الناس ويقول: الحديث في الصحيح، وهو غير صحيح وغير موجود في الصحيح، والبحث في الأحاديث كان شاقاً جداً، أما الآن فالبحث فيها سهل ويسير عن طريق (الكمبيوتر)، ولو فرضنا أن هذا الحديث ورد بإسناد صحيح فكيف وقد عارضه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها في الحبشة وفيها تصاوير فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ألا إني أحذركم ذلك، وقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) فحذر عند وفاته من ذلك، فكيف يلغى ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: إن أبا بصير بني على قبره مسجداً؟! نسأل الله العفو والعافية.(502/6)
إخبار الرسول عن ظهور كذابين يدعون النبوة
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون) أي: سيكون في الأمة من يكذب على الله ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدجلون على الناس.
ثم قال: (كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) انقطع أمر الرسالة والوحي من السماء، ولا يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا نزول المسيح عليه الصلاة والسلام؛ ليحكم بهذه الشريعة بكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فليس يأتي بشيء جديد وإنما يأتي ليحكم بهذه الشريعة العظيمة.
وذكر أنه سيظهر دجالون كذابون يزعمون أنهم أنبياء، وهؤلاء أجهل الناس بدين الله وباللغة العربية التي يتكلمون بها؛ ولذلك يقولون: إنه قال: لا نبي بعدي، ولم يقل: لا رسول، ولا رسول إلا وهو نبي أصلاً، إذ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أعلى مرتبة، فكل من بعثهم الله أنبياء، وخص بالرسالة مجموعة من هؤلاء الأنبياء، فهؤلاء الذين يكذبون يقولون: هو قال: لا نبي بعدي، ولم يقل: لا رسول، فنقول: النبي عليه الصلاة والسلام حين يخبر أنه لا نبي بعده فمعنى ذلك أنه لا نبي ولا رسول؛ لأنه مستحيل أن يكون رسولاً قبل أن يكون نبياً.(502/7)
بقاء الطائفة المنصورة على الحق إلى قيام الساعة
يقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق، والوعد الصدق الذي يخبر به، فالله سبحانه لا ينطمس نوره عن الدنيا بالكلية، لا يكون أبداً، لابد وأن تكون طائفة في كل زمان تعرف الحق الذي يريده الله سبحانه، وتدعو الناس إليه، حتى تقوم الساعة وهم على ذلك متمسكين بدين الله عز وجل.
نسأل الله أن يجعلنا من هذه الطائفة المنصورة، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(502/8)
تفسير سورة محمد (تابع 1) الآية [18]
وردت أحاديث كثيرة تذكر بعض ما سيكون بين يدي الساعة من كثرة القتل بين الناس على حطام الدنيا، وكثرة الخسف والقذف والزلازل على أولئك القوم الذين يبارزون الله بالمعاصي والذنوب، وأن يلتمس العلم عند الأصاغر، ولا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس، وحتى يفتح المسلمون القسطنطينية.(503/1)
تفسير قوله تعالى: (فقد جاء أشراطها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا قول الله سبحانه وتعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] يعني: أشراط الساعة، هل ينتظر الناس إلا أن تأتي الساعة؟ فقد جعل الله عز وجل أشراطاً لهذه الساعة، وبدأت هذه الأشراط بمبعث النبي صلوات الله وسلامه عليه، ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)).
وقد ذكرنا جملة من أشراط الساعة التي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، وهنا جملة أخرى من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة، قد ذكرنا منها الأشراط الكبرى وهي العشر الآيات، وسنذكر أشراط أخرى هي علامات صغرى للساعة.(503/2)
من العلامات الصغرى للساعة(503/3)
كثرة القتل
روى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة الهرج) أي: القتل، وليس هو قتل الكفار ولكن قتل الأمة بعضها بعضاً، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كلمة الهرج؟ فأخبر أنه القتل، يعني: سيكون بين المسلمين قتال، يقتل بعضهم بعضاً على الدنيا، وعلى الملك، وعلى الرئاسة، وعلى الحكم، وعلى النيابة، وعلى غير ذلك من أمور الدنيا.
حتى إن الرجل يلقاه أخوه فيقتله، أي: أن الإخوة من النسب يلتقيان فيختلفان على شيء تافه فيقتل أحدهما الآخر، كذلك الأخ في الدين يلقى أخاه فيختلفان على أمر من أمور الدنيا فيقتله.
(ينتزع عقول أهل ذلك الزمن) أي: أن الله عز وجل ينتزع عقولهم، فيصبحون لا عقول لهم، ولا رحمة، فلا يهتدون لشيء، إنما الذي يحكمهم والذي يريدونه هو الدنيا، والمنصب، والدينار، والدرهم، يقول: (ويخلف لها هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء)، فيكون أكثر الناس لا عقول لهم، ولا يعرفون شيئاً عن دين الله سبحانه وتعالى، بل إن آخر ما يتكلمون عنه هو دين الله سبحانه وتعالى، فيحسبون أنهم على شيء وليسوا على شيء، ويخلف لهذا الزمان قوم يكون لهم هباء من الناس، يعني: أمثال الذر الذي لا قيمة له.(503/4)
وقوع الفتن المهلكات
هذه الأحاديث التي سنذكرها كلها أحاديث صحيحة، فإنه قد ورد في أشراط الساعة أحاديث كثيرة جداً، منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها الضعيف، فانتقينا منها جملة من الأحاديث الصحيحة.
روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)، وهذا دليل على رقة الدين، وضعفه، حتى إن الإنسان ليتحول إلى الكفر ولا يعصمه دينه عن ذلك، فكأنه لا شيء في قلبه، فمجرد أن يتنازع مع آخر على الدنيا سرعان ما يترك الدين، ويترك شرع الله عز وجل، ينام الرجل على الإسلام ثم يصبح على أبسط الأمور يسب دين الله عز وجل، ويتبرأ منه! وهذا من الفتن، يقول صلى الله عليه وسلم: (القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)؛ لأنه اقتتال بين المسلمين على الملك، وعلى الحكم، وعلى الدنيا، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ابتعدوا عنها، فأفضل إنسان في هذه الفتن من ابتعد عنها ولكن قد يخوض البعض من الناس فيها، فيقول: إن الذي قعد وابتعد عنها خير من الذي دخل فيها.
والمعنى أن أناساً يسابقون في الفتن وأناساً يتباطئون عنها ويبتعدون عنها، فالمتباطئ أفضل من الذي يسعى، وكأن المعنى ابتعدوا عنها قدر الاستطاعة حتى إن وجدت نفسك على وشك أن تدخل في الفتنة فأخر نفسك، وابتعد عنها ولا تقاتل مسلماً أبداً، فيقول هنا صلى الله عليه وسلم: (فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بحجارة فإن دخل على أحد منكم بيته فليكن كخير ابني آدم) أي لا تكن مع واحد من الفريقين الذين يتقاتلون على الدنيا، حتى وإن دخل على أحدكم، هذا إذا كان القتال من أجل الدنيا، أما من أجل دين الله، فعلى المؤمن أن يدافع عن دينه، وأن يقاتل الكفار، والمنافقين، وكل من يتعرض لدين الإسلام، فإن قتل كان شهيداً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اكسر سيفك) هو إذا كان القتال على المال أو الحكم أو أمر من أمور الدنيا فلا تقاتل لأجل الدنيا، ولكن قاتل القتال المشروع، الذي تدافع فيه عن دين الله سبحانه، أو عن النفس، أو عن الأرض.(503/5)
رفع العلم وقلة الرجال وكثرة النساء
أيضاً ورد عن النبي صلوات الله وسلامه عليه بشأن أشراط الساعة قوله: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، وذكر الحديث، وقال: ويذهب الرجال، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد) أي: أنه من كثرة الحروب التي ستحصل بين الناس يقتل الرجال، حتى يكون التناسب بين عدد الرجال والنساء أن ينسب واحد إلى خمسين امرأة، أي: كل خمسين امرأة عندهن رجل واحد.(503/6)
التماس العلم عند الأصاغر
في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني من حديث أبي أمية الجمحي: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، والمعنى: أن الناس يتركون العلماء والكبراء الذين يدعونهم إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبون العلم عند الجهلة، الذين لا يعرفون شيئاً عن كتاب الله، وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الذين لا يتكلمون بالكتاب ولا بالسنة وإنما بالعقل وبالهوى، وبما يعجب من يعينه في منصبه فيلتمس عندهم العلم، فهؤلاء وصفهم بأنهم الأصاغر؛ لأنهم ليس عندهم علم الكتاب، ولا علم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو عندهم لكن لا يقولون به، ولا يعملون به، فمن أشراط الساعة أن يقبل الناس على هؤلاء، حتى إن أحدهم إذا دعي إلى كتاب الله عز وجل، وقيل له: نرجع لأقوال السلف الصالح، أقوال الصحابة والتابعين وما رواه الإمام البخاري وما رواه الإمام مسلم يقول: لا حاجة إلى هذه الأشياء، ويخرف ويتكلم بعقله، فيلتمس عند هؤلاء العلم الباطل حتى إن أحدهم ليرد كتاب الله عز وجل وما أجمعت عليه الأمة ببساطة، يخرج أحدهم على الناس ويقول لهم: إن آدم أبو البشر ليس أول مخلوق بل إنه وجد قبله بشر خلقهم الله، ويقول: آدم له أب، وله أم! مع أن الله عز وجل قد ذكر أنه خلق آدم من تراب وأنه لم يكن قبله أحد من البشر، فأبو البشر هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والمسلمون مجمعون على ذلك، وببساطة يرد الإجماع ويرد ما جاء في القرآن، وما جاء في السنة، ودليله على قوله الباطل أن علماء الغرب يقولون: إن جنس البشر موجود على الأرض منذ كذا مليون سنة، وآدم ما له إلا كذا ألف سنة، فيصدق بأشياء لا دليل عليها، ويكذبه علماء الطبيعة، وعلماء الدنيا الذين يعرفون هذا الأمر أكثر منه، فإذا به يعاند، وإذا ذكر حديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا أو فعل كذا، إذا كان عقله يقبل هذا الشيء قبله، وإلا قال: لا أقبله، ويتفاخر ويقول: أنا أرد حديث البخاري الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، ولا أقبل هذا الحديث، لأن عقلي لا يقبل هذا الحديث! وليس الأصاغر بمعنى أن عمره عشر سنين أو خمسة عشر سنة، فقد يكون شيخاً كبيراً عمره سبعين أو ثمانين سنة لكنه صغير في العلم لا علم عنده، لا يعرف كتاباً ولا سنة، ويغر بعض هؤلاء أنه عالم باللغة العربية، ودخل مجمع اللغة العربية، ومجمع البحوث الإسلامية من هذا الباب، فإذا به يفتي في الفقه، ويفتي في القرآن, ويفتي في كذا؛ لأنه عالم باللغة العربية، فيتكلم بكلام لم يقله أحد قبله، ولا يستحيي من نفسه أنه لم يقل أحد هذا الكلام قبله، حتى إنه ليرد على من أنكر عليه بقوله: يوجد من يوافقني على ما أقول، والمخالفون لي أقل وهكذا بعض الشيعة وبعض المسلمين، وفيهم هذا الذي يتكلم أن آدم أبو البشر ليس أول إنسان، وببساطة يكلم الشيخ ويقول له: توجد أحاديث في البخاري أنا أردها! فيقال لمثل هذا.
ما هي العلة التي رددت بسببها أحاديث البخاري ومسلم؟ وما هو الحكم الذي تحكم من خلاله على الأحاديث بالضعف؟ فقد يأتي غيرك ويقول: وأنا أيضاً هذا الحديث عندي غير صحيح، وأصبح الحديث الذي نعرف صحته بالنظر في سنده ومتنه مردود عند هؤلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلم تبق إلا الأحاديث المكذوبة التي يرويها الشيعة وغيرهم، فنقول له: أنت تأخذ بهذه المكذوبات وتقول بها؟ فبماذا تعرف دينك إذا تركت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتركت ما عرفناه من كتاب الله عز وجل؟ فما الذي يبقى للإنسان إذا رد ذلك؟(503/7)
المسخ والخسف والقذف
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف)، هذه من العلامات التي ستكون بين يدي الساعة، المسخ: تحول للخلقة، فيمسخ الله عز وجل أناساً قردة وخنازير يشربون الخمور, ويسمعون الموسيقى والقيان، ويعصون الله سبحانه وتعالى، ويبخلون على الفقراء فلا يعطوهم، فإذا جاء الفقير يطلب منهم لحاجة شديدة أصابته قالوا له: ارجع إلينا، ولا يعطونه شيئاً، فإذا بالله عز وجل يمسخهم قردة وخنازير.
قال: (وخسف) أي: زلازل تخسف بالإنسان في الأرض، يكون فوق الأرض فتنشق الأرض من الزلزال ويكون في باطنها.
قال: (وقذف) يعني: حجارة تمطر عليهم من السماء، وسيكون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر في حديث آخر أن من علامات الساعة أن تكثر الزلازل، وهذا أمر حاصل، فالمناطق التي كانوا يقولون عنها: ليست داخلة تحت حزام الزلازل، دخلت الآن تحت حزام الزلازل، وأصبح كل يوم تسمع: حصل زلزال قوته كذا، وما كانوا يسمعون عن ذلك في الماضي!(503/8)
كثرة الروم وقلة العرب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) المعنى: أنه عند قيام الساعة يكون غير العرب هم أكثر الناس في الدنيا.(503/9)
فتح القسطنطينية
يقول صلى الله عليه وسلم: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟)، يقول ذلك للمسلمين، فقالوا: نعم، قال: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح).
هذه البلدة يقول شراح الحديث: القسطنطينية، معقل الروم أيام هرقل، فإنه بعدما أخذت منه ديار الشام تحسر وهو ينظر إلى سوريا وفر منها إلى القسطنطينية، وهي في شمال البحر المتوسط جزء منها في البحر المتوسط وبعضها على البحر الأسود، فهي بلدة محاطة بالبحر الأبيض والبحر الأسود، وهذه البلدة لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، وكان كثير من شراح الأحاديث يقولون: إن الصواب أنهم من بني إسماعيل، ولا مانع أن يكونوا من بني إسحاق، فإن إسماعيل وإسحاق ولدان لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو العجم، وكأن معنى الحديث وهو في صحيح مسلم أن بني إسحاق سيدخلون في دين الله عز وجل، وقد حصل أن كثيراً من ولد إسحاق دخلوا في دين الله، فيخبر عن هؤلاء الذين أسلموا من بني إسحاق أنهم سيفتحون هذه البلدة وأن ذلك من أشراط الساعة.
يقول: (فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم) وقد يقول قائل: الكفار يسيطرون على بلاد الدنيا الآن فنقول له: ومع ذلك هناك فتح ثاني غير الفتح الإسلامي الماضي، فإن الفتح الإسلامي الماضي ما كان فيه (فلم يقاتلوا) لكن هذا الفتح يخبر أنه سيكون في يوم من الأيام، وأنه سيلي ذلك خروج المسيح الدجال، وهذا الفتح ليس الذي حصل للقسطنطينية في الماضي، ولكن المقصود فتح جديد سيكون بعد ذلك، وفي هذا الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيفتح للمؤمنين فليتمسكوا بدينهم، فإن الله عز وجل سيعطيهم قوة، والإنسان المسلم حين ينظر لأسباب القوة اليوم يشعر بشيء من اليأس؛ لأن الكفار والمشركين يملكون قنابل نووية ومع ذلك يمنعون المسلمين أن يمتلكوا تلك الأسلحة، فيقول للمؤمن: لا تيئس، سيكون الفتح من الله عز وجل، ولن تحتاج لقنابل نووية ولا غيره من السلاح، بل سيجعل الله عز وجل من بني إسحاق من يسلم وهم الذين سيتغلبون على هذه البلدة، وسيكونون من أفضل خلق الله عز وجل، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاءوها) أي: بلدة القسطنطينية (نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم).
أي: إنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، قال الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه} [آل عمران:126]، وكم من بلد أسقطه الله سبحانه وتعالى بالمظاهرة بلا سلاح ولا غيره، والذي حصل إما خيانات أو مظاهرات من الناس، فإذا كان هؤلاء الكفار سقطت بلدانهم بمظاهرات ألا ينصر الله عز وجل هذا الدين بلا إله إلا الله والله أكبر؟! يقول: (فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها، فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ ينادي عليهم: الحقوا ذراريكم فقد خرج المسيح الدجال، فيتركون كل شيء من المغانم ويرجعون للجهاد في سبيل الله عز وجل، فهؤلاء خير عصابة تكون على الأرض).(503/10)
انتشار الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين
جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه وقد سئل عن الساعة فقال: (من أشراط الساعة: الفحش، والتفحش، وقطيعة الرحم، وتخوين الأمين، وائتمان الخائن)، هذا الحديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس وصححه الشيخ الألباني، وأظن هذا قد حصل، ففي أي مكان تسير تتأذى أذنك بما تسمع، فذا يشتم ذا، وذا يسب ذا، حتى النساء والأطفال تسمع منهم من الكلام ما يؤذيك، و (الفحش) يكون ببذاءة اللسان، (والتفحش) هو تكلف ذلك، والفحش، يدخل فيه الجرائم التي تتعلق بالأخلاق والأعراض كجرائم الزنا، وما أكثرها! في كل مكان تحت مسميات الزواج العرفي والصداقات التي بين الرجال وبين النساء، والدعوة إلى مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، (وقطيعة الرحم)، هي: أن الإنسان لا يزور أباه وأمه، لا يبر أباه وأخاه، أي: يذهب البر بين الناس.
لذلك المؤمن حين يسمع أن قطع الرحم من علامات الساعة يستدرك نفسه، فيزور أرحامه وأقرباءه حتى لا يكون واحداًَ من هؤلاء الذين ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم العقوبة الشديدة عند الله عز وجل، وقطيعة الرحم لا تكون إلا من نقص الإيمان، والإنسان الذي يحب أقرباءه حين يحس أنهم سيطلبون منه حاجة من حوائج الدنيا تحصل منه القطيعة لهم ويقول: لن أذهب إلى أقربائي الذين يؤذوني ويطمعون في مالي! ينظر نظرة دنيوية فلا يصلهم حتى لا يخسر؛ فتتقطع الأرحام بذلك، فليحذر المؤمن من مثل هذه النظرة، وليعلم أن صلة الرحم تزيد في الرزق، وينسئ الله عز وجل له في عمره بسبب ذلك، أي: يكون عمره طويلاً، وليس المقصود من الطول في حياته أنه يعيش عمراً طويلاً بين أسرته، بل المقصود أنه يخلف آثاراً وذكراً ودعوات تكون له كإنسان عاش أكثر منه.
يقول: (وتخوين الأمين) أي: أن الإنسان الأمين تلفق له التهم أنه خائن ومختلس ومرتش وكذا؛ لأنه يقول كلمة الحق، فيخون الأمين حتى ينزل من المكان الذي هو فيه لكونه أمين.
(ويؤتمن الخائن) أي: أن الإنسان الخائن يعطى المناصب الكبيرة، ويعطى الودائع والأمانات، ويقال عنه: هذا أمين، وهم يعرفون أنه خائن!(503/11)
مرور الرجل بالمسجد لا يصلي فيه ركعتين
من أشراط الساعة: (أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين) أي: يمر في المسجد يتفرج على المصلين أو يدخل المسجد بعد أن يصلي الناس يسأل حاجة له ثم يذهب ولا يصلي! ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو يمر في المسجد ثم يأخذ حاجته من فلان من الناس ثم يذهب ولا يصلي، ولعل معهم جنازة في المسجد يصلون عليها فيقف خارج المسجد ينظر إليهم ولا يصلي.(503/12)
تسليم الرجل على من يعرف فقط
من أشراط الساعة (وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف) أي: أنه إذا مر في الطريق لا يكلم أحداً، ولا يسلم عليه إلا إذا كان يعرفه، أما إذا لم يعرفه فلا.(503/13)
تضييع الدين
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء) أي: أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، وجاء في حديث آخر (حتى لا يقال على الأرض: الله الله) أي: أن الناس يتركون كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضيع الدين فلا يقال على الأرض: الله الله.(503/14)
تكليم الحيوانات والجمادات للإنسان
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما يحدث أهله بعده).
أي: من أشراط الساعة أن الناس إذا قل الإيمان احتاج المؤمن لشيء يثبته، فالله عز وجل يجعل أشياء كهذه علامات للمؤمن تثبته على دينه؛ لأن الإنسان حين يرى أنه لا يوجد حوله إلا الكفر والفسوق والعصيان، فتن في الطريق، وفتن في البيت، يحتاج إلى شيء يثبته، فالله عز وجل يثبته، بأن يرى رؤيا صالحة يثبته الله عز وجل بها، أو يجد حوله بعض المؤمنين الذي يأمرونه بالمعروف وينهونه عن منكر، وما شابه ذلك مما يجعله الله عز وجل تثبيتاً للمؤمنين، والصحابة ما كانوا يحتاجون إلى رؤية أشياء حسية تثبتهم على الدين؛ لأنهم عرفوا الدين، وامتلأت قلوبهم إيماناً به، فلا يحتاجون إلى ذلك، لكن من أشراط الساعة: أن يقل عدد المؤمنين فيحتاج المؤمن إلى شيء يثبته، فيجعل الله عز وجل آيات وكرامات للبعض من المؤمنين، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس)، سيحدث في يوم من الأيام أن السباع، والبهائم، والأسود، والنمور، والكلاب، تكلم المسلم: افعل كذا ولا تفعل كذا، تأمره بشيء أو تطلب منه شيئاً! فيتعجب المسلم فيكون تثبيتاً له.
وفي الأحاديث أن الجمل ذهب يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن جذع الشجرة الذي كان يقف عليه صلى الله عليه وسلم حين تركه وصعد على المنبر حنَّ وبكى، فقد يأتي أناس فيقولون: لم يصح من هذا شيء، فيجعل الله عز وجل لهم آية من الآيات يعرفون بها صدق ذلك، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم (يقاتل المسلمون اليهود، وأن الحجر والشجر يقول للمسلم: يا مسلم! ورائي يهودي تعال فاقتله) فقد يتعجب المؤمن من هذا الشيء، فلما يحدث أمام عينيه، ويسمع ذلك؛ يشعر بصدق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه)، السوط هو العصا، فيكلم السوط الإنسان: احذر من كذا! وهذا شيء عجيب جداً، وليس المعنى: أن الإنسان يبحث عنها حتى تحصل له، لا، ولكن لا شك أنه سيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحين نسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه اثنان من الصحابة أحدهما أسيد بن حضير رضي الله عنهما، وسهرا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الليل، فلما خرجا من عنده ولم يكن هناك قمر ولا مصابيح، والطريق مظلم، فإذا بالله عز وجل يجعل لهما نوراً أمامهما في سوط أحدهما، فلما افترق الرجلان إذا بكل منهما معه نور في الطريق الذي هو فيه، فقد يجيء إنسان ويقول: هذا لا يكون، أما المؤمن فإنه يصدق ولا يحتاج إلى شيء إذا صح الحديث، ولكن المشككون الذين يقول أحدهم: أرد الحديث لأن عقلي لا يقبله، فيجعل الله لهم آية كهذه الآية حتى يعلموا أن عذاب الله صدق، وأن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق.
يقول في هذا الحديث: (حتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما يحدث أهله بعده) أي: أنه حين يصل إلى بيته رجله تتكلم، وفخذه تتكلم: حصل كذا وكذا في بيتك.
وهذا عجب من العجب، ولكن سيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه قطعاً ولا نشك في ذلك أبداً.
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(503/15)
تفسير سورة محمد (تابع 2) الآية [18]
أخبر الله تعالى في كتابه بقرب الساعة، وأن قيامها سيكون بغتة في آخر الزمان، فإذا جاءت آياتها الكبرى فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.(504/1)
تابع من علامات الساعة الصغرى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18].
قد سبق ذكر بعض الآيات التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون بين يدي الساعة، وهذه جملة أخرى من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين بعض العلامات التي تكون قبل قيام الساعة، ومن ذلك العشر العلامات الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنه لا تقوم الساعة حتى يرى الناس عشر علامات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف في المغرب وخسف في جزيرة العرب، ونزول المسيح، وفتح يأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا).
هناك علامات أخرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون قرب الساعة؛ حتى يتعظ بها المؤمنون الذين يصدقون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيرون الشيء فيعلمون أنه علامة من العلامات فيسرعون إلى الطاعة وينزعون عن المعصية.(504/2)
عصابة من المؤمنين يقاتلون على الحق
ومن ذلك ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضلهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) والمعنى: أن القتال بين المسلمين وبين الكفار يكون دائماً، ولا توجد هدنة دائمة، بل لا بد من القتال بين المسلمين والكفار في كل زمان في بلد من بلاد المسلمين حتى تقوم الساعة، وينصر الله عز وجل المؤمنين المتمسكين بدينه، فلا تزال هذه العصابة ظاهرة يقاتلون إلى ذلك الحين.
وقد يقال: إن المسلمين مغلوبون في كل مكان في الأرض، فكيف نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة منصورة).
و
الجواب
إن النصر على الكفار حاصل ولو في مكان من الأماكن، وتوجد انتصارات للمسلمين في بعض البلدان، وإن كانوا مهزومين في أماكن كثيرة جداً، فتجدهم في بلاد الأفغان مثلاً ينتصرون على الروس، وإن كانت قد تحدث كبوة بعد ذلك وينتصر عليهم الكفار، ولكن لا يزال يوجد من يقاوم الكفار في هذه الأماكن إما بالسيف والسنان أو بالحجة واللسان، وهذا نصر من الله، عندما تجد من يخرج على المسلمين فيشتم دين الله تبارك وتعالى، ويتكلم عن دين الله، ويريد من يناظره، فيخرج الله عز وجل له من المسلمين من يدحض حجته، ويخزيه الله عز وجل على يده.
وقد رأينا مثل ذلك في مناظرات الشيخ أحمد ديدات رحمة الله عليه، وقبله الشيخ رحمة الله الهندي وغيرهما من علماء المسلمين الذين ناظروا الكفار، فأدحض الله عز وجل حجتهم، وطمس فريتهم، ونصر دينه سبحانه وتعالى، ودخل الكثيرون في دين الإسلام.
وقد قيل: رب ضارة نافعة، فتجد الكفار يسيئون للإسلام ثم تجد كثيراً منهم يدخلون في دين الله تبارك وتعالى ويؤمنون بالله ويجعل الله عز وجل منهم من يدعو إلى دينه.(504/3)
اتباع اليهود والنصارى والتشبه بهم
من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن تقوم الساعة حتى يترك كثير من المسلمين دينهم، ويقلدون فارس عباد النار والروم النصارى، فإذا بالمسلمين اليوم يقلدون هؤلاء أو من يكون في هذه البلاد، فصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر.
وقد قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: من غيرهم؟ فستقلدون اليهود والنصارى، وهذا حاصل اليوم، فتجد المسلمين في كل مكان يقلدون هؤلاء في زيهم وفي طريقتهم في الحياة، ويقلدونهم فيما يصنعونه في بلادهم، وكيف يتحكم بعضهم في بعض، ويجعلون صاحب المال فوق غيره، وقد نزعت الرحمة من قلوبهم، فالغني عنده المال الكثير، ولا يواسي به فقيراً أو يعطف عليه، وإن كانوا يتشدقون بالإنسانية، ويتشدقون بالكلام عن الحرية، وهذا كلام للاستهلاك فقط، أما الحقيقة فلا يوجد شيء من ذلك.
أما ما يقدمونه من الإعانات للبلاد الأخرى فذلك بمقابل إلغاء الدين في تلك البلاد.
ومثال ذلك: الحصار الاقتصادي على فلسطين، والجيوش التي تكون عليهم من اليهود، والأسلحة التي تعطى لهم لتدمير الفلسطينين وغيرهم من المسلمين الذين يقولون: لا إله إلا الله، ويطلبون شرع الله سبحانه وتعالى، فيقاتلونهم على أنهم إرهابيون، وعلى أنهم جماعات متطرفة وعصابة من العصابات.
أما اليهود الحثالة والعصابة المجرمة الكفرة الذين عاثوا في الأرض فساداً، والذين يدمرون ويقتلون ويخربون، فهم أصحاب الفهم الصحيح، وأصحاب المال الذين تكون معهم أمريكا وأوروبا وغيرهم.
فإذا قتل يهودي واحد هاجت الدنيا، وإذا قتل المئات والألوف من المسلمين فلا أحد يتكلم عنهم، فما هي الحرية التي يتكلم عنها هؤلاء؟! وما هو الإخاء الإنساني الذي يتكلمون عنه؟ أما المعونات فتخرج مشروطة يقولون: تحللوا واخرجوا من دينكم لنعطيكم هذه المعونات، أما أن تبقوا على الدين فلا نعطيكم شيئاً.
مثل ذلك: أنه ينتجون القمح بكميات هائلة، حتى إنهم يرمون الفائض في البحر، ولا يعطى للبلاد التي فيها مجاعات، فإذا أعطته أمريكا تعطيه لبعض الدول كنوع من المعونة؛ لكي يتحكموا فيها، فيسألون: ما هو النظام الموجود عندكم؟ وكيف ستتعاملون معنا؟ فهناك فرق بين هؤلاء وبين المسلمين الذين يتعاطفون ويتراحمون مع خلق الله سبحانه وتعالى.
وقد أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] أي: للخلق جميعهم، فهو رحمة صلوات الله وسلامه عليه للعالمين، أما هؤلاء فالرحمة عندهم شعار زائف، أما الحقيقة فلينظر إلى ما يصنع في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان وفي كل الدنيا حين يتحكمون في هذه البلدان.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟!) يعني: تقليد الكفار، فالروم كانوا نصارى، وفارس كانوا عباد النيران، أي: سترجعون مرة ثانية تتبعون هؤلاء فيما يفعلون، وما يقولون.
فما يصنعه اليهود والنصارى يصنعه المسلمون مقلدين لهم.
وجاء في حديث آخر: (حتى لو أن أحدهم أتى أمه في الطريق لفعله هؤلاء) أي: يقلدونهم في استباحة الزنا، فقد يأتي على بلاد المسلمين وقت يستبيحون فيه ذلك، أو يباح لهم أن يصنعوا ذلك من حكامهم وغيرهم، فيتناسون دين الله عز وجل ويقعون في المعاصي، فيأتيهم الذل والخزي من الله سبحانه.(504/4)
الرجوع إلى عبادة الأوثان
جاء في حديث آخر: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة) وهذا صنم من أصنام دوس في الجاهلية، كانوا يعبدونه من دون الله، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الفاضل رضي الله عنه أن يخلصه منه قال: (ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله لي فإني لا أثبت على الخيل)، يعني: أنا أقاتل على رجلي ولا أقدر على ركوب الخيل، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فثبته الله وذهب إلى المكان الذي فيه هذا الصنم فدمره وحرقه، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد تركته كالجمل الأجرب، أي: تركت هذا البيت الذي يعبدونه من دون الله كالجمل الأجرب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله عز وجل فيه وأن يبارك في قومه.
فالغرض: أن هذا الصنم الذي دمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سيرجع مرة ثانية، وسيعبده الناس من دون الله سبحانه.
ومعنى الحديث: أن من أكثر الناس اتباعاً لهذه الشركيات النساء في كل مكان، فتجد المرأة تنسى نفسها وتتوجه في حاجتها إلى السيد الفلاني، والمقصود أن من أوائل من يصنع ذلك النساء، فالمرأة تطوف مرة ثانية على هذا الصنم؛ لتعبده من دون الله سبحانه، ولن تفعل ذلك النساء إلا بموافقة الرجال الذين يكونون تاركين دينهم وراء ظهورهم، وهذه الأحاديث التي نذكرها كلها أحاديث صحيحة، فلا نحتاج أن نذكر صحة كل حديث.(504/5)
طلوع الشمس من مغربها
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعين، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فيذكر لنا صلى الله عليه وسلم أعظم العلامات وهي طلوع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، ولكن لا ينفعهم هذا الإيمان، كمن يأتيه الموت فيصدق أنه توجد جنة ونار وملائكة، لكن لا ينفعه هذا الإيمان؛ لأنه صار معايناً، أما الإيمان المطلوب فهو الإيمان بالغيب.
وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تفسير لقوله تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه).
وذلك أن الساعة تأتي بغتة وقد نشر البائع والمشتري الثوب ليتبايعان عليه فلا يكملان البيع.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) أي: أخذ حليب ناقته فتقوم الساعة، يموت قبل أن يشربه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه) أي: يصلح الحوض ليسقي فيه إبله فتقوم الساعة قبل أن يسقي فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمه) يعني: يغمس اللقمة ثم يرفعها إلى فمه فتقوم الساعة واللقمة على فمه فيسقط ميتاً.
وهذه الساعة المقصود بها موت الإنسان بغتة، وكم من إنسان يقال له: سيموت بعد ساعة أو ساعتين ثم يعيش أياماً وشهوراً، وآخر يقال له: أنت لا زلت شاباً فيموت في شبابه! فالموت لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ويأتي الإنسان بغتة.(504/6)
بقية علامات الساعة الصغرى
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعين، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فيذكر لنا صلى الله عليه وسلم أعظم العلامات وهي طلوع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، ولكن لا ينفعهم هذا الإيمان، كمن يأتيه الموت فيصدق أنه توجد جنة ونار وملائكة، لكن لا ينفعه هذا الإيمان؛ لأنه صار معايناً، أما الإيمان المطلوب فهو الإيمان بالغيب.
وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تفسير لقوله تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه).
وذلك أن الساعة تأتي بغتة وقد نشر البائع والمشتري الثوب ليتبايعان عليه فلا يكملان البيع.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) أي: أخذ حليب ناقته فتقوم الساعة، يموت قبل أن يشربه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه) أي: يصلح الحوض ليسقي فيه إبله فتقوم الساعة قبل أن يسقي فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمه) يعني: يغمس اللقمة ثم يرفعها إلى فمه فتقوم الساعة واللقمة على فمه فيسقط ميتاً.
وهذه الساعة المقصود بها موت الإنسان بغتة، وكم من إنسان يقال له: سيموت بعد ساعة أو ساعتين ثم يعيش أياماً وشهوراً، وآخر يقال له: أنت لا زلت شاباً فيموت في شبابه! فالموت لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ويأتي الإنسان بغتة.(504/7)
قتال المسلمين لليهود
من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه قوله: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله) والعجيب أن الكثيرين من اليهود يعرفون ذلك، ولا يدفعهم ذلك إلى أن يدخلوا في الإسلام.
وبعضهم يجادل بعض المسلمين في أمريكا وفي غيرها ويقول له: أليس عندكم في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يقول الحجر: ورائي يهودي تعال فاقتله)، فاصبروا حتى يتكلم الحجر واتركونا الآن! فهم يعرفون ذلك والمسلم يتشكك فيه.
ومعنى هذا الحديث: أنه سيكون قتال بين المسلمين وبين اليهود ينتصر فيه المسلمون، ومن إعانة الله تعالى للمسلمين أن ينطق الحجر والشجر، فيقول: تعال اقتل اليهودي المختبئ ورائي.
ولكن المسلم يتناسى أن النصر من عند الله سبحانه، ويطلبه من المشرق والمغرب؛ إلا من رحم الله تعالى.(504/8)
هدم الكعبة
من الأحاديث أيضاً ما قاله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) أي: لا تقوم الساعة حتى لا تزار الكعبة، ولا يحج إليها أحد، فينسى الناس ربهم ودينهم.
وحديث آخر يقول: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله) يعني: يبتدئ ذهاب الدين من الناس شيئاً فشيئاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع هذا الدين من الناس، فأخبر (أن الكعبة ينقضها حجراً حجراً ذو السويقتين من الحبشة) وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم (أن نترك أهل الحبشة ما تركونا، فإنه لا ينقض الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة) والسويقتان تصغير الساقين، وكأن ساقيه معوجتان، فإذا هدمت الكعبة على يد هذا لم ترفع بعد ذلك.
ونسيانهم للدين ومنه الحج سببه المعصية لله تعالى، وإدارة العاصي ظهره لدينه.
ودين الله دين عزيز، والقرآن كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، نزل من عند الله الحكيم الحميد، فمن يستحق ذلك أخذه، ومن لا يستحقه ولا يفهمه لا يأخذه.(504/9)
تحلية المصاحف والتباهي بالمساجد
إذا ترك المسلمون مصاحفهم وتركوا دينهم وراء أظهرهم واهتموا بتزويق المصاحف جاءهم الهلاك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حليتم مصاحفكم وتفاخرتم بمساجدكم فالدمار عليكم).
فإذا كان اهتمام الإنسان بشكل المصحف وورقه وجلده وحجمه، ولا يعرف ما فيه ولا يقرأ آياته، وكذلك اهتمامه بزخرفة المسجد ولا يصلي فيه، قال: (فالدمار عليكم) أي: لا تستحقون أن تعيشوا ولا تستحقون أن تنصروا فالدمار عليكم؛ لأنهم اهتموا بما لم يؤمروا به، وإنما أمروا بما في كتاب الله عز وجل أن يحفظوه وأن يعملوا به.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)، (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)، وقال: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) فهناك أشياء تسبب فيها المسلمون أنفسهم فأعطوا ظهورهم لكتاب الله عز وجل لم يتعلموه ولم يعملوا به، فيأتي عليهم زمان يرفع القرآن فيصبحون ولا يجدون هذا المصحف العظيم، فهو من الله جاء وإلى الله عز وجل يرجع مرة ثانية.
ثم بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر، يصبحون كالوحوش في الغابات، ليس عندهم كتاب من الله عز وجل، والكعبة تهدم ولا يعرفون الصلاة حتى إن الناس ليقولون: سمعنا الناس يقولون ذلك، أو أن الرجل يذكر عن أجداده أنه سمعهم يقولون: الله الله، ففي النهاية أخذ الله تعالى منهم ما نزل عليهم.
لذلك المسلم الآن في رحمة من الله عز وجل، عنده كتاب الله، وعنده المساجد، والكعبة موجودة، فلا يفرط في هذه الأشياء بل يحرص على أداء ما أمره الله عز وجل بأدائه.(504/10)
قلة العلم والعلماء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يرفع العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العلماء، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
فطالما القرآن محفوظ والسنة معروفة والعمل بهما قائم فليطمئن المسلمون فلن ينتزع الله الدين منهم، فالله لا يأخذ العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، إنما يأخذه بموت العلماء، فيستفتى الناس الجهال فيضلونهم.
والعلم ليس مجرد الحفظ، إنما العلم معرفة ما في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك التقوى التي في القلب، أن يكون العالم تقياً لله، يخاف من الله سبحانه، ويقيم شرع الله عز وجل.
وانظر لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوم أن جاءه الناس ويقولون: إننا تركنا رجلاً جالساً في المسجد والناس من حوله وهو يقول لهم: سبحوا الله مائة، يعني: تسبيحاً جماعياً، ويقول: احمدوا الله مائة، كبروا الله مائة.
ولو أن أي إنسان غير هذا الصحابي الفاضل أو غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا هذا الدين من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك لقال: وماذا في ذلك؟ رجل قاعد في المسجد مع الناس يذكرون الله تعالى! لكن ابن مسعود رضي الله عنه لما سمع ذلك ذهب فوجد الحلقة والرجل قاعد في وسط الحلقة يصنع ما ذكر، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة؟ يعني: إما أنتم أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم وإما أنتم على ضلال، فهذا شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.
قال: وكم من مريد للخير لا يبلغه.
فليس الأمر أن تفعل شيئاً، وتقول: أنا أتقرب إلى الله عز وجل به، إنما يجب أن تنظر قبل العمل هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يفعله؟ فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم مدة حياته لم يفعل ذلك التحلق والذكر الجماعي، وإنما أرشد وعلم وترك كل واحد يذكر الله عز وجل على انفراد، ولما علمهم الذكر عقب الصلاة يسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمدون الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبرون الله ثلاثاً وثلاثين، ويقولون: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، تمام المائة، أو يحمدون ويكبرون ويسبحون كل واحدة إحدى عشرة حتى يكون المجموع ثلاثة وثلاثين، ولم يفعل ذلك جماعياً، إنما السنة أن يفعل ذلك فرادى.
أما التحديد بهيئة معينة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن الفاعل في نفسه أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل عليه أن يفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يحفظ دين الله عز وجل من البدع والضلالات.
وهناك الآن من يفتي الناس ويقول: كل الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة، ولا توجد أحاديث ضعيفة؛ لأن الذين رووها أناس يحترمون النبي صلى الله عليه وسلم ويقدرونه! ويريدون بذلك إلغاء علم الحديث وعلم المصطلح، وبناءً على ذلك لا ينكرون ما قد يزاد من أشياء لا تصح كالزيادة في ألفاظ الأذان، ويقولون: ليس في ذلك شيء.
نقول: هذه عبادة، ولها ألفاظ مخصوصة علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم فلا نزيد فيها، ولو فتح هذا الباب لزاد كل إنسان ما يستحسنه.
ومرة دخلت مسجداً والمؤذن يقيم الصلاة ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا ومولانا محمد رسول الله! ولم نسمع مثل هذا إلا بعدما جاء هذا المفتي الجديد وقال للناس: ليس في ذلك شيء.
ونحن ما صدقنا أن ألغي ما كانوا يصنعونه بعد الأذان، فيقف المؤذن بعد الأذان ويقول: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، يا خير خلق الله!! ونحن لا ننكر أبداً أنه رسول الله وخير خلق الله وأحب الخلق إلى الله، ولكن ننكر الزيادة في الأذان؛ لأن ألفاظه مخصوصة، وعددها إما تسعة عشر لفظة أو سبعة عشر لفظة أو خمسة عشر أو أحد عشر لفظة، وذلك معلوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من تقريره، ولا نفتح باباً للبدع، ولو قلنا بقول هذا المفتي لما أنكرنا على الشيعة قولهم في الأذان: حي على خير العمل.
فتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم هو من التأدب معه، أما من يفصل بينهما فيقول: أنا أتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ويخالف بتأدبه المزعوم الأمر فهذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الرب سبحانه وتعالى، حيث يترك دين الله عز وجل ويشرع ديناً آخر! وقد سأل رجل الإمام مالك رحمة الله عليه فقال: من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، قال: ما علي لو أحرمت من المدينة؟ يعني: من غير الميقات فقال: أخاف عليك الفتنة.
قال: وأي فتنة في ذلك، إنما هي أميال أزيدها، يعني: فيكون أكثر في الإحرام وأكثر في الثواب.
فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم! والنبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة ولم يحرم منها، إنما أحرم من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة خمسة أو ستة كيلومتر، وقد كان أهون عليه أن يغتسل في بيته ويلبس لبس الإحرام ويستريح من هذه المسافة الزائدة، لكنه لم يفعل ذلك؛ لأن هذا هو الميقات الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.
فتأمل هنا فقه الإمام مالك رحمة الله عليه! قال الإمام مالك: يقول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أي: فليحذر الذين يخالفون عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر الله عز وجل تحت أي دعوة من الدعوات، وما من بدعة تبتدع في الدين إلا وألغيت مقابلها سنة، فإذا أنكرت على من يزيد في ألفاظ الأذان قوله: أشهد أن سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: أنت لا تحب النبي صلى الله عليه وسلم! وكذلك يقول: الأعداء يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم تقولون ما تقولون! سبحان الله! هل ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بالابتداع في دين الله عز وجل، ولكن علينا أن نتمسك بدين الله سبحانه وتعالى ونحذر من البدع والضلالات، ونكون كما قال الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(504/11)
تفسير سورة محمد [18 - 20]
توحيد الله عز وجل هو الغاية من خلق الخلق، وقد جاءت جميع الشرائع لتحقيق توحيد الله وتكميله وإزالة ما يناقضه وينقصه، وقد أمر الله رسوله بالعلم بأنه لا إله إلا الله قبل أن يأمره بالعمل، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.(505/1)
تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:18 - 21].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمر الساعة وقال للكفار {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، فقد حذر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده جميعهم من الحساب يوم الحساب، وإذا جاءت الساعة فهي تأتي بغتة سواءً الساعة الكبرى القيامة، أو ساعة كل إنسان يعني: وقت وفاة كل إنسان، فإذا جاء وقت الوفاة فهو يأتي بغتة، ولا يستطيع العبد أن يراجع نفسه أو يتوب أو يرد المظالم إلى أصحابها، بل لعله لا يقدر على أن يتلفظ بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله إذا جاءت ساعته، وذلك حين لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: جاءت أشراط الساعة وقدمنا الأحاديث التي فيها هذا المعنى.
قال الله عز وجل: {فَأَنَّى لَهُمْ} [محمد:18] أي: من أين لهم؟ وكيف لهم؟ إذا جاءت الساعة وإذا جاءت القيامة وإذا جاء الموت {إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18] الذكرى والتذكر والتذكرة، فتنجيهم هذه التذكرة وتنفعهم الذكرى، قال الله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، والذكرى لا تنفع في وقتين: وقت القيامة الكبرى، ووقت الوفاة حين تحشرج النفس وتبلغ الروح الحلقوم، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
ومعنى قوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]، بمعنى: تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]، فعلى ذلك ربنا يحذر الإنسان من عدم التوبة وتسويفها إلى أن يأتي الموت فلا يقدر على التذكرة.(505/2)
تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)
يقول سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، (فَاعْلَمْ)، وهو يعلم عليه الصلاة والسلام، وهو الداعي إلى الله عز وجل والداعي إلى هذه الكلمة، والعلم المذكور هنا ليس العلم المنافي للجهل وإنما المنافي للشك، فالجميع يعلمون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق البارئ القادر على كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمون ربوبية الله سبحانه تبارك وتعالى؛ ولذلك لم يجادل أحد من الكفار في أن الله هو الرب، بل هم مقرون بذلك، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
وهذا أمر مفروغ منه عند الكفار ومثل المسلمين، ولا يجادلون في هذا الشيء، فهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، وهو الذي يخفي الشمس في المغرب، فلا يوجد أحد من آلهتهم يزعمون أنها تفعل ذلك، لكن الأمر فيمن يعبدون، فمن يعبدون؟ وإلى من يتوجهون في العبادة؟ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وللخلق جميعهم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أي: استيقن من ذلك، فقد علمتم أن الآلهة التي تعبدونها لا تنفع ولا تضر، فاستيقنوا يقيناً لا شك فيه أن الإله المستحق للعبادة هو الرب الذي ينفع ويضر ويرفع ويخفض ويعز ويذل سبحانه، فاعلم أنه هو وحده المستحق للعبادة.
ولقد زينت الشياطين للمشركين أن يعبدوا الأصنام بحجة أنها توصل إلى الله، وكأنهم يتواضعون وأنهم لا يقدرون أن يوصلوا إلى ربنا دون واسطة، وهو يخبرنا أنه ليس كذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، والله عز وجل قريب من عباده، ولا داعي أن تجعل الواسطة بينك وبين الله سبحانه تبارك وتعالى.(505/3)
فضل العلم
سفيان بن عيينة سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]؟ يعني: فضل الله العلم حين بدأ بالعلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((فاعْلَمْ))، وأول ما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ولقد فضل الله عز وجل عباده أن خلق لهم عقولاً يعون بها ويعقلون ويعلمون بها فيعملون، فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به أي بالعلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]؟ فأمر بالعمل بعد العلم.
والاستغفار ينفع العبد؛ لأنك علمت من الذي تستغفره، وعلمت من هو ربك بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهو الله الغفور فتستغفر وأنت موقن أنه سيغفر سبحانه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20]، إلى أن قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21]، فاعلم وبعد ذلك سابق إلى المغفرة بعدما تعلم أن الدنيا لعب ولهو.
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
فبعدما أعلمكم الله سبحانه تبارك وتعالى بأمر الأزواج قال في سورة أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، فاحذروا هذه الأصناف.
وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، فعلمكم الله عز وجل ثم قسم هذه الصدقات على ما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فأمر بالعمل بعد العلم.
فالإنسان ليعمل لابد أن يعلم، وقبل أن تصلي لابد أن تعلم ما هي الصلاة، وكيف تتقرب بها إلى الله عز وجل، وكيف تأتي بشروطها وأركانها وأفعالها وهيئاتها وسننها، فالعلم ثم العمل، وكذلك في كل العبادات وفي كل المعاملات وفي كل شيء تفعله في دين الله عز وجل عليك أن تتعلم ثم تعمل.(505/4)
الحث على الاستغفار للنفس وللمؤمنين
قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أي: استيقن بذلك، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، وقد قال الله عز وجل له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، فهو مغفور له ذنبه، وهو معصوم عليه الصلاة والسلام من أن يقع في شيء يغضب ربه سبحانه تبارك وتعالى.
إذاً كأنه يعلم المؤمنين إذا كان النبي يستغفر ويكثر من الاستغفار فأنتم أولى أن تستغفروا ربكم سبحانه.
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] أي: استغفر إن وقع منك ذنب، واستغفر ليثبتك الله عز وجل على الهدى فلا تقع في ذنب، وقد كان عليه الصلاة والسلام يجلس في المجلس الواحد ويقول: (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، بل كانوا يعدون له في الجلسة الواحدة سبعين مرة يستغفر فيها الله عز وجل ويتوب إليه صلوات الله وسلامه عليه.
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يستغفر لنفسه وأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات أيضاً، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نبخل بالدعاء، فالإنسان البخيل الذي يبخل بالدعاء لإخوانه المسلمين كأن يقول: رب اغفر لي واغفر لفلان واغفر لفلان، والبخيل من دعا لنفسه فقط، ولذلك الأعرابي الذي قال أمام النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، شبهه النبي صلى الله عليه وسلم ببعير أهله وقال: (لقد حجرت واسعاً)، فرحمة الله عظيمة واسعة، وأنك بقولك هذا تحجر رحمة الله، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، فقد خلقهم ليرحمهم سبحانه تبارك وتعالى، فرحمة الله عظيمة واسعة، فمن جهل بربه سبحانه تبارك وتعالى كان كهذا الأعرابي الجاهل، فلذلك قال ربك: {فَاعْلَمْ} [محمد:19] أي: اعلم من الذي تستغفره، ومن الذي تعبده، ومن الذي تطلب منه فتتأدب معه سبحانه تبارك وتعالى، ولا تحجر رحمته ولا مغفرته سبحانه تبارك وتعالى.
قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لنفسه ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن سرجس المخزومي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً)، فقال راوي الحديث عنه عاصم الأحول قال: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال الصحابي الفاضل عبد الله بن سرجس: نعم، ولك، فليس لي فقط، وإنما استغفر لي ولك، وعاصم بن الأحول ما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي ولكنه تلا هذه الآية: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فلم يحرم أحداً من هذه الأمة من دعوة صلوات الله وسلامه عليه، فقد دعا لأمته واستغفر لنفسه ولأمته صلوات الله وسلامه عليه، فتلا الصحابي هذه الآية، قال الصحابي الذي جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه صلوات الله وسلامه عليه).
وكان معلوم عند أهل الكتاب أنه ما من نبي يبعث إلا وله خاتم النبوة، وهي علامة يعرف بها أنه نبي، فمن كان يخالطهم كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويحاول أن يرى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وينظر خاتم النبوة، وهو قطعة من اللحم مثل بيضة الحمامة كانت بين كتفيه صلوات الله وسلامه عليه، من أجل التأكد من صحة أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه.
فعلم الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ربه وأن يستغفر للمؤمنين، وأن يدعو للمؤمنين وللمؤمنات بالمغفرة، وكذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو لأنفسنا وللمؤمنين، فقال: (إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب أمن الملك وقال: آمين ولك بمثله)، فعندما تدعو لأخيك فأنت ستحصل على تأمين الملك فهو يقول: (آمين ولك بمثل) يعني: أدعو لك بمثل ما دعوت لأخيك.
ومن أعظم وأجمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات أعطاه الله عز وجل بكل مؤمن حسنة)، وأعداد المؤمنين تتجاوز الملايين، وهذا عدد الأحياء فقط أما الأموات ومن يكونون إلى قيام الساعة فأكثر من ذلك بكثير، فحين تدعو لنفسك وتقول: اللهم! اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وتدعو لجميع المؤمنين من هذه الأمة، وتدعو لجميع المؤمنين تعطى بكل مؤمن حسنة، فلا تبخل بالدعاء لإخوانك فإن من أبخل الناس من بخل بالدعاء.(505/5)
معنى قوله تعالى: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم)
قال تعالى: {ِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} [محمد:19] مثوى الإنسان وهو ما يثوي إليه، تثوي إلى بيتك أو تئوي إلى المكان الذي يثويك، فكل تقلب للإنسان يعلمه الله، ولذلك اختلفت أقوال المفسرين حول هذا المعنى فيذكرون التقلب للإنسان في أصلاب الآباء، وفي أرحام الأمهات، فقد كان جنيناً في بطن أمه، ونزل من بطن الأم وصار طفلاً فتقلب في الحياة، وتقلب في الأعمال، وتقلب بين الأمراض وبين العافية، وكل تقلب الإنسان يعلمه الله عز وجل، وكل حركة للإنسان يتغير فيها ويتحول فيها يعلمها الله، ويقدر ويرزق سبحانه، وكل شيء يثوي إليه من نوم ومن موت ومن ركوب ومن انتقال وإقامة وقتية أو إقامة دائمة فالله عز وجل يعلم ذلك، وكل شيء يفعله الإنسان فالله عز وجل يحصيه ويكتبه سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمه قبل أن يخلق الإنسان.(505/6)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)
قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].
هذه السورة اسمها سورة محمد صلى الله عليه وسلم، واسمها أيضاً سورة القتال؛ لهذه الآية: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد:20]، ولذكر القتال فيها.
المؤمنون يشتاقون إلى ربهم ويشتاقون إلى الجنة ويشتاقون إلى الشهادة فيطلبون من الله عز وجل الأذن بالجهاد في سبيل الله، وربنا قد أمر المؤمنين بأن يسألوا الله عز وجل العفو والعافية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، وذلك لأن أناساً تمنوا ذلك فحين حدث خافوا وأصابهم الجبن.
{ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} [محمد:20] أي: المؤمنون الصادقون وفيهم ضعاف الإيمان وفيهم منافقون، فلذلك عندما المؤمن يقول يضطر من حوله أيضاً أن يقولوا مثلما يقول، ولكن {إِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [محمد:20]، أي: ليست منسوخة {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد:20]، وأمركم الله عز وجل فيها بالقتال تنقسموا إلى فريقين، فالذين كانوا يدعون بدءوا بالتراجع، والمؤمن الصادق ظل على مبدئه، ولكن غيره بدأ يجبن ويخاف {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] أي: الذي خرجت روحه من جسده فإن عيناه تصبحان في منظر مخيف ومختلف؛ وذلك بسبب تعلق عينيه في المكان الذي تخرج إليه روحه.
فالإنسان التي تشخص عيناه من شدة الرعب مثله مثل الذي تخرج روحه، فيكون مرعوباً من شدة الموت، مع أنه لم يحصل قتال، فما زالت السورة نازلة تخبرهم بأن جاهدوا في سبيل الله فارتعبوا وخافوا، ولذلك قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء:77]، وهم الذين كانوا يطلبون من الله عز وجل القتال ويقولون: نريد أن نجاهد، فلما فرض القتال إذا بهم يخافون ويرتعبون وقالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].(505/7)
تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف)
يقول سبحانه: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21]، (فأولى لهم) فيها معنيان إما على الوصل وإما على الوقف، فعلى الوقف أي: انتظر الهلاك لهؤلاء فقد قاربهم.
وعلى الوصل بما بعدها {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] أي: كان أولى بهم أن يطيعوا الله عز وجل وأن يقولوا قولاً معروفاً وأن يلتزموا بما قاله الله سبحانه.
قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
للحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(505/8)
تفسير سورة محمد [20 - 24]
كان المؤمنون يتمنون من الله عز وجل أن ينزل عليهم آية تأمرهم بالجهاد في سبيل الله، ولكن لحكمة الله التي لا يعلمها كثير من العباد أخر عنهم الأمر بالجهاد؛ لعلمه الغيبي بتقاعس بعض من في قلوبهم مرض، وافتتان بعض ضعفاء الإيمان حيث لم يعلموا أن الطاعة بالمعروف، وأن الصدق لو كان في القلوب لجاءت العزيمة، والله غالب على أمره.(506/1)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:20 - 24].
يذكر الله عز وجل المؤمنين في هذه الآيات بما كانوا يدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى به، ويطلبونه، ويقولون: لولا نزلت آية في القرآن تأمرنا أن نجاهد في سبيل الله، فكانوا يقولون ذلك.
وكان ربنا سبحانه تبارك وتعالى يصبرهم على ما هم فيه، ويقول لهم: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكفوا أيديكم، وذكر ذلك في سورة النساء فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء:77].
إذاً: كان المؤمنون يطلبون من الله عز وجل أن يأمرهم أمراً في القرآن بأن يخرجوا مجاهدين في سبيل الله، وكان القرآن يأمرهم بمجاهدة أنفسهم؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد عدوه، فكان القرآن يربيهم مدة ثلاثة عشر عاماً وهم في مكة، فيأمرهم بأن يكفوا أيديهم، وأن يصبروا على الأذى، وإذا أمر بالجهاد فهو جهاد الكلمة والنفس.
ولكن لما هاجروا إلى المدينة بدأ أمر الجهاد يتغير، فكان يأمرهم بدفع أعدائهم، وهذا يسمى: بقتال وجهاد الدفع، فإذا تعرض لك أعداؤك فدافع عن نفسك، ثم تدرج الله بهم إلى أن أمرهم أن يخرجوا غازين مجاهدين في سبيل الله، يدعون إلى الله عز وجل، ويقاتلون من يمنعهم من تبليغ دعوة الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا يذكر المؤمنين أنهم كانوا كثيراً ما يطلبون من ربهم سبحانه أن ينزل عليهم آية فيها ذكر الجهاد ويأمرهم فيها بالقتال.
فقال هنا: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] والله أعلم بعباده سبحانه، الله أعلم بمن يقوم بأمره، ومن يتخاذل ويترك نصرة دين الله سبحانه، الله أعلم هل هؤلاء يستحقون في ذلك الوقت أن ينزل عليهم أو لا يستحقون فيؤخر عنهم هذا الأمر إلى حين.
فلذلك كأنه يقول لهم: لا تطلبوا الشيء الذي لا تدرون هل تقدرون عليه أو لا، وصرح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (لا تتمنوا لقاء العدو)، فلا تقل: متى نقاتل؟ متى يفرض علينا؟ لا، لا تطلب هذا الشيء، (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا).
إذاً: الإنسان لا يتمنى البلاء، ولا يقل: لو أنه فرض الجهاد لقاتلت وفعلت وفعلت.
لا تقل هذا، لا تدري لعلك لا تصبر، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون ذلك، والبعض منهم كان يتمنى أنه يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم قتالاً، مثل أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه، فكان يقول وقد تغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر: (لئن أشهدني الله عز وجل -يعني: موقعة أخرى مع النبي صلى الله عليه وسلم- مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل) الله سيرى ما أفعل، ويسكت، ولا يزيد أكثر من ذلك؛ خوفاً من أن يقول شيئاً لا يقدر عليه، ولما جاء يوم أحد أبلى فيه أعظم البلاء رضي الله عنه، وقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يعرف إلا ببنانه، أي: بعلامة كانت في أصبعه، إنسان قتيل لا يعرفونه إلا بأصبعه كيف سيكون شكل هذا القتيل؟! سيكون ممزقاً ومقطعاً قطعاً، بحيث لا يستطيع الناظر إليه أن يعرفه، فأبلى بلاء حسناً، وجاهد في سبيل الله حتى قتل.
وكثيرٌ ممن كانوا يقولون: نريد الجهاد! نريد الجهاد! عندما يأتي الجهاد لا يجاهدون، ولا يفعلون شيئاً، بل يخافون كما قال الله عز وجل عنهم أنهم يقولون: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77]، لم كتبت علينا القتال؟ فلو كنت أخرتنا قليلاً نستمتع بالدنيا، ثم بعد ذلك نجاهد في سبيل الله، فلذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية) يعني: دائماً تسألوا الله العافية، فإذا جاء وقت الجهاد في سبيل الله عز وجل فاثبتوا وانصروا الله، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وهنا يخبرنا عن حال المنافقين، المنافق دائماً كثير الكلام، يتكلم كثيراً جداً، ويظهر شجاعته في وقت السلم، أما في وقت الحرب فهو الجبان، والخائف المعرض، الذي يولي دبره ويهرب، فإذا انتهى القتال رجع يتحدث ويتكلم، فيذكر الله عز وجل هنا صورة هؤلاء المنافقين كما في سورة المنافقون قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] إذاً: أشكالهم طويلة وعريضة، ومناظرهم جميلة، ولكن إذا حدث القتال فهم أجبن ما يكون، يخرجون من عند النبي صلى الله عليه وسلم ويتركونه، ويهربون قائلين: لا طاقة لنا بذلك.
قال تعالى: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [محمد:20] أي: ليست منسوخة، وذكر فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].
قوله: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد:20] يعني: الأمر به، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] فهؤلاء أصحاب أمراض، وليست أمراضاً بدنية فيعذرون، وإنما هم أمراض القلوب.
قوله: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد:20] أي: تظهر أمراضهم الآن، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] يعني: تجدهم مذعورين، وفي غاية الرعب والذعر، ومندهشين، ومتحيرين، فينظر أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم محدقاً النظر فيه، كالذي ستخرج روحه! قوله: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20] يهددهم ويتوعدهم الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: {فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20] أي: قاربهم ما يهلكهم بسبب ذلك، فلينتظروا عذاب الله عز وجل بسبب كلامهم الذي لا تنفذه أفعالهم.(506/2)
تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف)
قال تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] كأنه يقول: لو أنهم قالوا: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كان هذا خيراً لهم وأفضل، فكأن الآية على الفصل، فقوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20] انتهت هذه الآية، والمعنى: تهديد ووعيد لهؤلاء، فقد قاربهم ما يهلكهم بسبب ذلك، (أولى لهم) أي: قد جاءهم ووليهم عذاب من عند الله عز وجل.
ثم بدأ واستأنف فقال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:21] أي: هلا قال هؤلاء: أمرنا، شأننا، فعلنا الطاعة والقول المعروف، فهذه بداية، كأنه يقول: هذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة وقول معروف، يعني: لو كان حالهم ذلك، وشأنهم أنهم يتكلمون فيقولون: سمعنا وأطعنا، مثلما يقول المؤمنون.
قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21] كان الأخير بهؤلاء أن يكونوا مطيعين لله وللرسول، ولا يتمنوا لقاء العدو، فإذا جد الجد، ونزل الأمر بالجهاد جاهدوا وصدقوا الله، لو فعلوا هذا لكان خيراً لهم.
وقد يكون على الوصل بالآية التي تليها، (فأولى لهم طاعة وقول معروف) أي: أولى بهؤلاء من الفرار، ومن تمني لقاء العدو ثم عدم التنفيذ، أولى بهم أن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يطيعوا ربهم سبحانه، وأن يقولوا القول المعروف.
فإذا جد القتال، وعزم الأمر {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} [محمد:21] أي: في الإيمان، وفي تنفيذ ما يقولونه والإخلاص لله عز وجل، وفي الجهاد في سبيل الله، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
فيتعلم المؤمن من هذه الآية: أنه لا يكثر من الأماني، ولا يتكلم عن نفسه بالشيء الذي يتباهى به ويفتخر، ويظهر نفسه أنه شيء كبير، فإذا كان وقت الجد إذا به صغير في تنفيذ ما يقول، لا تتمنى الشيء الذي لا تقدر عليه، لا تقل: أنا أفعل كذا، لو كنت أنا مكان هذا لكنت فعلت.
وفعلت، فيقول لك: لا، لو كنت أنت تستحق ذلك لكنا جعلناك مكان هذا الإنسان، لا تتمنى الشيء الذي لا تقدر عليه، ولا تتكلم بما لا تستطيعه، ولكن اسأل ربك أن يوفقك ويعينك على الخير.(506/3)
تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض)(506/4)
تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض)
يقول سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] (هل عسيتم) خطاب للجميع، وإن كان المخصوص به المنافقين، فهؤلاء الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقول لهم ربهم سبحانه: هل عسيتم أيها المنافقون إذا توليتم في الأرض، وصارت لكم الولاية في يوم من الأيام، أن تكونوا مفسدين بدلاً من الإصلاح، وهذا قريب من هؤلاء، والجدير بأخلاقهم أنهم يقولون ما لا يفعلون ويتفاخرون بما لا يقدرون عليه.
وقوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع: (فهل عسيِتم).
وقوله: (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: (إن تُولِّيتم) على البناء للمفعول، بمعنى: إن وليناكم ولاية، أو إذا وليتم ولاية من الولايات.
وقوله: (وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (وتقطَعوا أرحامكم) بدون تشديد فيها.
فالمعنى: أنه يقول: أنا أعلم بكم منكم، ففي قلوبكم الدغل والفساد، وفي إيمانكم الغش، فلو أنكم كما تزعمون فستجاهدون وتنتصرون ليس بفضلكم، ولكن بفضل الله عز وجل، فإذا ولاكم الله عز وجل ولاية فأنتم أهل الجور، وأنتم أهل الظلم أيها المنافقون، لا تصلحون للولايات، بل أنتم مفسدون، وهذا سيكون حالكم عندما يوليكم الله عز وجل ولاية من الولايات، وستتنكرون للمؤمنين، بل ستتنكرون لأقرب الناس إليكم: الأرحام، فستقطعون أرحامكم، وستفسدون في الأرض فتحكمون بظلم، وتقيمون غير شرع الله سبحانه، ولا تقيمون جهاداً في سبيل الله، وتتولون معرضين، فهذا حال المنافقين إذا أصابوا ولاية من الولايات.
قال سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الرحم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]).(506/5)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23].
هذه الرحم التي أمرنا الله عز وجل في كتابه أن نصلها، قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] فوصية من الله سبحانه بكل هؤلاء: الأرحام، والجيران، والأصدقاء، والأصحاب، والمؤمنين عامة، اهتموا بشئون هؤلاء جميعهم، وصلوا أرحامكم، وصلوا المؤمنين، ولا تقطعوا الوشائج بينكم وبينهم، فمن قطعها فأولئك الذين لعنهم الله، وأبعدهم وطردهم من رحمته سبحانه، {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23].
(أصمهم) أصم آذانهم، (وأعمى أبصارهم) وقد ذكر الله عز وجل فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أجسامهم جميلة وصحيحة، فيها العافية.
وقوله: (أعمى أبصارهم) هل هم عميان؟ كأن المعنى هنا: أبصارهم كلا أبصار، وأسماعهم كلا أسماع.
إذاً: كأنهم لا سمع معهم كأنهم طرش؛ لأنهم لا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما يضرهم، فلا يبصرون فيعتبرون، ولكن ينظرون إلى ما يضرهم، فيسمعون إلى كلام المنافقين، ولا يسمعون للنبي صلى الله عليه وسلم ليهتدوا به.
فالمنافقون ينظرون إلى العورات، ويتجسسون على المؤمنين، أما أن ينظروا في كتاب الله وفي آيات الله سبحانه تبارك وتعالى في الكون فيعتبرون فلا، فكأنهم لا ينتفعون بأسماعهم، ولا بأبصارهم، فهم عمي الأبصار، إذاًَ العمى هنا راجع إلى البصائر والقلوب، فسمع لا ينفع، وبصر لا يرى الحق، فكأنهم لا شيء عندهم.
ولذلك وصف الله عز وجل الكفار بأنهم لا يعلمون، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] كأن العلم بالدنيا ليس هو العلم الحقيقي، وإنما هو علم قاصر، وليس معناه: أنك لا تتعلم شئون الدنيا، ولكن لا يكون تعلم الدنيا للدنيا، وإنما تتعلم لتنتفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
فالعلم الذي يورث الخشية في القلب هو العلم المطلوب الذي ينفعك عند الله سبحانه تبارك وتعالى، أما العلم الذي يورث الغرور والتيه والفخر على الخلق فهذا لا ينتفع به أي إنسان، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، الذين لم يستمعوا القول فيتبعون أحسنه، والذين لم يطيعوا الله ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين إذا ولاهم الله وأعطاهم ولاية إذا بهم يقطعون أرحامهم، ولا يعرفون لأحد فضله ولا حقه.(506/6)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] يعني: هلا تدبروا كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، والفاء هنا: عاطفة، فهي: (ألا يتدبرون) والفاء: للعطف، فتقتضي الترتيب والتعقيب، أي: إذا سمعتم ذلك فهلا تدبرتم كتاب الله عز وجل، وفقهتم، وفهمتم ما فيه؟! قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24] بالهمزة في قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (القران) والمعنى واحد.
فقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [محمد:24] فيه حث على تدبر كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد أمرنا الله فقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] استمع وليس مجرد سماع، فتكون الآيات تمر على الأذن من غير أن تعيها، وإنما قال: أنصت، فلا بد أن تحترم كتاب الله عز وجل، وتستمع وتصغي السمع إلى كتاب الله عز وجل، وتتأمل وتتدبر في كتابه سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، هذا استنكار من الله، وقال: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ) ولم يقل: (أم على قلوبهم)، فأراد بذلك العموم، والمعنى: أي قلوب هؤلاء وقلوب أمثالهم، وليس قلوبهم فقط، فقال: (أم على قلوب) والمعنى: أن كل إنسان هذا حاله، لا يستمع لكتاب الله عز وجل، ولا يعيه، ولا يتدبر فيه، فعلى قلبه قفل، وهو الغلق الذي يجعل على الباب، كذلك هؤلاء: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) ولم يقل: (أقفال) وكأن كل قلب من قلوب هؤلاء المنافقين عليه قفل يناسبه.
وكذا كل إنسان يسمع كلام الله عز وجل فلا ينتبه له، ولا يعي ما يقوله الله عز وجل، ولا يعمل به، يكون داخلاً تحت هذه الآية، وكل من أعرض عن كتاب الله سبحانه، ونصح بالقرآن وقيل له: إن الله يأمر بكذا، فرفض أن يفعل ما أمره الله عز وجل، فعلى القلوب أقفالها.
إذاً: هنا ربنا سبحانه في هذه الآيات يشير إلى أنه يجب على الإنسان المؤمن أن يمسك لسانه عن تمني الشيء الذي لا يقدر عليه، فيجب على الإنسان المؤمن أن يتدبر كتاب الله سبحانه، وأن يعمل به، ويجب على الإنسان المؤمن إذا ولاه الله عز وجل ولاية من الولايات أن يراعي في ذلك إقامة الحق والعدل، ولا يتنصل من أقربائه، ولا يقطع رحمه.
وهنا لاحظ بين إنسان يوليه الله عز وجل ولاية، فيقوم بتوظيف أقاربه، فلان يجعله في كذا وفلان يوليه كذا، وهنا ليس معنى الآية كذلك، ليس المعنى أن توظف أقاربك، فتكون بهذا وصلت الأرحام، ولكن الإنسان الذي يتولى ولاية، فمن الأمانة أن يجعل الإنسان في مكانه.
إذاً قوله: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] معناه: أنهم إذا ولاهم الله يتكبرون فيقطعون أرحامهم، فلا يعرفون إلا المنافقين، ولا يعرفون إلا الكبراء بزعمهم، أما الصغار الذين كانوا يعرفونهم قبل ذلك، فقد أصبحوا يحتقرونهم الآن، فهذا هو المعنى.
أما الذي يتولى ولاية من الولايات، فيبتدأ بتوظيف كل أقاربه فيها، ويضع محسوبياته من غير كفاءة ولا غيرها، فهذه من علامات الساعة، وقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه العلامات فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فأي إنسان يتولى ولاية من الولايات، فيبدأ بتوظيف فلان، فيضعه في المصلحة المعينة لأنه قريبه، ويكون أهل الكفاءة في هذا الشيء معزولون، ويولى من لا يصلح، فهذه هي الخيانة، وهذه من أشراط الساعة وعلاماتها.
وفي الآية حث على صلة الأرحام، وليس معناه أنك تجامل في غير الحق وفي الباطل.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(506/7)
تفسير سورة محمد [25 - 30]
من صفات المنافقين أنهم يكرهون ما أنزل الله على رسوله، ويكرهون الدين، ويطيعون من عادى الله ورسوله، فهؤلاء هم المرتدون حقيقة؛ لأنهم ما نطقوا بالدين إلا تقية وحفظاً لأموالهم ودمائهم، فهؤلاء يمهلهم الله عز وجل في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.(507/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:25 - 30].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه السورة الكريمة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
هل عسيتم إن مكنكم الله عز وجل وأعطاكم ولايات ورئاسات ووزارات وحكماً تحكمون بين الناس، وقدرة على ذلك، أن ترتدوا على أدباركم، وتعرضوا عن ذكر الله سبحانه وشرعه، وتقيموا الظلم بين الناس، وتعرضوا عن هذا الدين، وتتبعوا الهوى والشياطين، وتقطعوا أرحامكم؟ هل عسيتم أن تفعلوا ذلك فترتدوا على أدباركم، وتعكسوا ما أمركم الله عز وجل بوصله وفعله؟ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] أي: هلا تدبروا كتاب الله عز وجل وقرءوه واستمعوا له، وفهموا ما يريده الله عز وجل ففعلوه.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد:25] وهنا بعدما ذكر: لعلكم إذا فتح الله لكم، وأعطاكم من فضله، أن تنقلبوا على أعقابكم القهقرى، فهؤلاء الذين هذا حالهم يقول الله سبحانه لهم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25].
مشوا في طريق الشيطان وتركوا طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، وتركوا الصواب بعدما عرفوه، وتركوا القرآن بعدما فهموا معانيه، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) ردة رجوع على الأعقاب إلى الورى، بعدما كانوا متقدمين في دين الله عز وجل، وصاروا متأخرين تاركين الدين وراء ظهورهم؛ لا يضرون إلا أنفسهم، {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد:25] من بعدما عرفوا الحق، وسمعوا كتاب الله، وهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الشيطان سول لهم، وضحك عليهم، وخدعهم، وزين لهم الأماني الباطلة.
(وأملى لهم) الجمهور يقرءونها هكذا، والبصريون يقرءونها قراءة أخرى، فـ أبو عمرو البصري يقرؤها: (وأملِيَ لهم) ويقرؤها: (وأملِيْ لهم)، وهنا الآية تعددت القراءات فيها فكأنها تتعدد المعاني، وكأن الآية آيتان بحسب القراءة، فهنا يقول سبحانه: الشيطان سول لهؤلاء، (وأملى لهم) أي: أملى لهم الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله عز وجل يقول: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أي: نحضر ونجهز لهم المصائب والعذاب، ففهم من المعنى: أن الشيطان يضحك عليهم، ويخدعهم، وقد حذرهم الله عز وجل من الشيطان، فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، الشيطان سول وزين لهم، فقال: {وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25] أي: أملى لهم ربهم سبحانه، وأعد لهم العذاب، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة أبي عمرو توضح ذلك قال: (وأملِيَ لهم) على البناء للمجهول، يعني: قد أعد لهم المصائب والعذاب، (أملي لهم) من الذي أملى لهم؟ الله سبحانه، يعني: مد لهم في العمر وتركهم، وصبر عليهم، وحلم عنهم سبحانه تبارك وتعالى حتى يأخذهم فيقصمهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقراءة يعقوب الحضرمي يقرأ: (وأملِيْ لهم) فبعدما قال عن الشيطان: (سول لهم) قال: وأنا أملي لهم، أي: أحضر لهم، وأجهز لهم من العذاب ما لا يطيقون منه.
إذاً: على هذه القراءات: الله عز وجل أملى لهم، وعلى قراءة الجمهور: تحتمل معنىً آخر، وهو: أن الشيطان هو الذي سول وأملى لهم، والمعنى: أنه جعلهم يتمهلون ويتريثون ويبتعدون عن التقدم في دين الله عز وجل.
إذاً: هذه المعاني كلها صحيحة، فإن الشيطان خدع هؤلاء، فجعلهم يسوفون، وأملى لهم فقال: استمهلوا واصبروا لا تستعجلون، الموت متأخر.
إذاً: هذا من إملاء الشيطان على هؤلاء، أنه يجعلهم يتمهلون عن التوبة، ويتركون اتباع دين الله عز وجل، فيخدعهم، ويزين لهم أعمالهم، وجعلهم يتمهلون، فهذا على معنى.
والمعنى الآخر: وأملى لهم ربهم سبحانه بأن مد لهم، فإذا بهم يتمهلون، ويسيرون في طريق يظنون أن النهاية حسنة فيه، وأنهم أرادوا الدنيا حيث زينت لهم، والشيطان سول لهم هذه الحياة الدنيا، وإن كان التزيين حقيقة من الله عز وجل، الله هو الذي يزين سبحانه تبارك وتعالى، زين الدنيا فخدعت هؤلاء، فالله خلق الدنيا وقال لنا: لا تغتروا بهذه الدنيا، فيها الورود، ولكن فيها الأشواك، وفيها الحلو ولكن فيه المرارات، وفي هذه الدنيا العابرة يراها الإنسان حلوة، ولكن إذا خبرها وجد في صفوها الكدر، وفي حلوها المر، وفي وردها الشوك، وفيما ينظر إليه من سعادة فإن وراءه الشقاء، فلا توجد سعادة في هذه الدنيا تدوم، لذلك المؤمن العاقل همه في الدنيا أن يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى، لا أن يأخذ الدنيا؛ لأن الدنيا زينها الله سبحانه تبارك وتعالى لخلقه، والشيطان زين للعباد فيها أن يعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بهم يخدعون، الله يبيح لهم الزواج، والشيطان يشجعهم على الزنا، الله يمنعهم من شرب الخمر، والشيطان يجعلهم يقعون في شربها ويتبعون الهوى، ويزعمون أن الخمر تشجعهم، وتزيل غمومهم، وغير ذلك.
إذاً: التزيين من الله عز وجل خلقة، فيخلق الشيء حسناً، والتزيين من الشيطان أن يجعل العبد يستحلي الشيء المر، ويستعذب أن يقع في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا الشيطان يسول لهؤلاء أن يقعوا في المعاصي، ويزين لهم ويدفعهم، ويحثهم على أن يقعوا في معصية الله عز وجل، وأملى لهم الشيطان أي: أمد لهم في الغي، وأملى لهم الرحمن بمعنى: أمهلهم وصبر عليهم، وأعد لهم ما يستحقون من عقوبة وعذاب نسأل الله العفو والعافية!(507/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] ارتدوا عن دين الله عز وجل، ورجعوا بأن أصغوا لليهود، وللنصارى فسمعوا كلام هؤلاء وأعطوهم الوعود بألسنتهم: سنكون معكم قليلاً، فنكون مع هؤلاء مرة ومع هؤلاء مرة مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة، ومعكم مرة ثانية.
ذلك الجزاء بأنهم قالوا لهؤلاء الكارهين ما أنزل الله من مشركين وعباد أوثان، ومن يهود ونصارى: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] ليس في كل الأمر، لا، نحن نقول: لا إله إلا الله، لكن سنطيعكم في بعض الأمر.
قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] والله يعلم ما في قلوبهم، فهم أحبوا هذا النفاق، وأحبوا معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم قالوا: لا إله إلا الله بألسنتهم، ولم تتحقق في قلوبهم، فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] وهذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء يقرءونها: (والله يعلم أَسرَارهم) الإسرار: مصدر من أسرَّ إسراراً، وأسرارهم أي: فيما يبطنونه، والمعنى: كل أسرار هؤلاء عند الله عز وجل لا يخفى منها عن الله عز وجل شيء، ومهما تكتم من شيء فإن الله يعلمه، فالله يعلم إسرارهم.(507/3)
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة)
قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27] فكيف بهؤلاء؟! كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم؟! الملائكة تتوفاهم، والله يتوفاهم كما ذكر لنا ربنا سبحانه، فالله يتوفى، والملائكة تتوفى، الله يقضي بالموت، والقبض حقيقة بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله هو الذي يخلق، وهو الذي يحيي ويرزق ويميت، فالله فاعل كل شيء، وخالق كل شيء سبحانه، والملائكة المباشرون للأمر يقبضون الأرواح، وما يفعلون شيئاً إلا بأمر الله سبحانه، ولا يقدرون على شيء إلا بما يقدرهم الله عز وجل عليه.
إذاً: الملائكة مأمورون منفذون لأمر الله سبحانه، فالله عز وجل هو الذي يتوفى، ولذلك من الخطأ أن نقول: فلان توفى، هذا خطأ، فلان توفى بمعنى: قبض، ولكن فلان قُبِضَ فنقول: تُوفيَ فلان، ومات فلان، فالذي يتوفاه هو الله عز وجل، والذين يتوفونه هم الملائكة يقبضون روحه، فالقائم بالأمر هو الله عز وجل، ثم الملائكة منفذون لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى.
فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين المرتدين على أدبارهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم وهم في حالهم عصاة كفار مجرمون؟! الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه، إلا بضرب نسأل الله العفو والعافية، فصاحب المعصية الذي مات على المعصية يتوفى على هذه الحال، والملائكة تضربه على وجهه، وتلطمه على ظهره وقفاه، فلا يتوفى أحد على معصية إلا على هذه الحال، فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين حين تتوفاهم الملائكة بمثل هذا الضرب؟! أنت ترى الإنسان وهو يموت وأنت لا تدري عما يفعل به شيئاً، فالملائكة تضرب وجهه وظهره.
كذلك عندما يقاتل المؤمنون الكفار والمنافقين، ويقاتلون غيرهم، فإن الملائكة تتوفى الكفار القتلى فيضربون وجوههم وأدبارهم في حال القتال، والملائكة مؤيدة بالله عز وجل، مؤيدة للمؤمنين، فيضربون وجوه الكفار عند الطلب، ويضربون أدبارهم عند الهرب، الكافر يقبل على المؤمن فتضربه الملائكة على وجهه، والكافر عندما يهرب تضربه الملائكة على قفاه ورأسه وظهره، فهذا تأييد من الله عز وجل للمؤمنين، وتطمين للمؤمن ألا يخاف فإن الله معه، فهل ينظرون إلا إحدى الحسنيين، فانتظر: إما أن ينصرك الله عز وجل وإما أن يتوفاك فتكون شهيداً ولك العاقبة الحسنة عند الله عز وجل.
قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27] إذاً: هذا في وقت الموت والوفاة، وفي وقت الحرب والقتال والقتل، كذلك عندما يقومون من قبورهم تسوقهم الملائكة إلى الموقف، وتسوقهم الملائكة إلى النار والعياذ بالله بالضرب، فيدعون إلى نار جهنم دعا، ويدفعون على أقفائهم ويضربون على وجوههم، نسأل الله العفو والعافية، فهذا هو حالهم، فمن سينصرهم في هذه الحال؟! ذلك الجزاء والعذاب والعقاب بأنهم اتبعوا ما أسخط الله سبحانه تبارك وتعالى.(507/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] (ذلك بأنهم اتبعوا) التعليل هنا يخيف صاحب المعصية، فكل إنسان عاص يخاف على نفسه ما الذي سيحدث له عند الوفاة، فهذا هو حالهم، فالله إذا غضب على العبد أخذه أخذ عزيز مقتدر، فيميته على معصية، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه عز وجل في الدنيا، ثم يستعمله بفضله وكرمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً عسله، قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه) نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء الذين يعسلهم الله عز وجل.
والعكس: إذا أبغض الله عز وجل عبداً يجعله في طغيانه وعتوه، ويجعله جباراً عنيداً، حتى إذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28] أي: مشوا وراء معاصي الله عز وجل، فكل شيء يغضب ربهم يفعلونه، في قيامهم أو نومهم وفي لهوهم، وفي أفراحهم ومعاصيهم، فيغضبون الله ويتبعون كل ما يسخطه سبحانه، ويكرهون رضوان الله سبحانه، لا يوجد إنسان يقول: أنا أكره أن أرضي ربي، ولكنهم بأفعالهم يكرهون ما أنزل الله، فإذا قيل: هذه الطاعة، وهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول الله، فهو يقول: كل وقت تقول لي: كتاب وسنة، كتاب وسنة! إذاً: هو كاره لهذا الشيء سواء عبر بلسانه أو أعرض بحاله، فحين تذكره بالله يلوي لك ظهره ويمشي كأنه ما سمع، تمر وتذهب للمسجد فتراه وتقول له: ادخل وصل معنا يا فلان، وكأنه ما سمع كلامك، ويلتفت إلى الناحية الثانية، وتسلم عليه عادة فتقول له: السلام عليكم من أجل أن تأتي بعد قليل فتقول له: ادخل صل فلا يرد عليك السلام، وإذا كان جاء من آخر الشارع يدخل البيت فيختبئ حتى لا تقول له: تعال إلى بيت الله عز وجل، فيستغشون ثيابهم، والمنافقون كانوا يغطون حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رأوه استغشوا بثيابهم، لا يريدون أن ينظروا إليه، حتى لا يأمرهم بالطاعة، وكذلك فعل الكفار.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] (رضوانه) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (رِضوان) بكسر الراء، وقراءة شعبة عن عاصم: (رُضوان) بضم الراء.
قوله: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] ومحبطات الأعمال كثيرة منها: الشرك بالله عز وجل والكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، كذلك من محبطات الأعمال ترك الصلاة وتضييعها، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) فالذي يضيع الصلاة يحبط عمله، والذي يضيع صلاة العصر يصاب بحزن يوم القيامة، يساوي حزن إنسان قتل أهله، وضاع ماله، وهذا الحزن لا يستشعره الآن، وإنما يستشعره في يوم القيامة، قال الله عز وجل: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] أي: أذهبها وضيعها بسبب كفرهم وبعدهم عن الله عز وجل، وحبهم ما أسخط الله، ويكرهون رضوانه.(507/5)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)
قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29] أعرض عن هؤلاء وأضرب عنهم، أحسب الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29] يعني: كل إنسان يبطن في قلبه الكره لهذا الدين، والكره لأهل الدين، فهل هذا يخفى على الله؟ وهل يتركه الله على ذلك؟ لا، فكل منافق لا بد وأن يفضحه الله عز وجل مهما دخل مع الناس وصلى، وهو في قلبه يكره المسلمين والمصلين، ويكره الملتزمين، فتجد على فلتات لسانه ما يدل على الكره، وإن كان يصلي ويمسك المصحف وكذا، ولكن بدأ يفلت لسانه بالكره لكتاب الله، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يقول: أنا أكره الكتاب السنة، فليس ممكناً أن يقول هذا الشيء، ولكن في لسانه التهكم والاستهزاء على أشياء صحيحة من دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
أم حسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم؟ و (أضغانهم): جمع ضغن، والضغن: الحقد الدفين، فالشيء الذي يخبيه في قلبه لا بد وأن يظهر على فلتات لسانه، وقيل في المثل: (كل إناء بما فيه ينضح) فالذي يختبئ في الإناء سينضح في يوم من الأيام، كذلك الإنسان المنافق الذي يخفي البغض للإسلام المسلمين لا بد وأن يظهر ذلك على لسانه يوماً من الأيام.(507/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)
قال الله عز وجل: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] لو أردنا لكنا أريناهم لك، وعملنا عليهم علامات حتى تنظر إلى هذا المنافق بعلامته، ولو نشاء لفضحناه، ولكن الله حيي كريم ستير سبحانه تبارك وتعالى، يستر على عباده، ولا يفضح إلا من يستحق ذلك، فستر على الكثيرين، وفضح البعض وجعلهم عبرة للآخرين.
قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] سنعرفك بهؤلاء أو قد أشرنا إليك، فأنت الآن تعرف هؤلاء في لحن القول، وفي سقطات اللسان، وفي فحوى ما يقولون، فكانوا يقولون أمام النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء، وهو بطيبة قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وحسن ظنه في الناس يقبل الكلام على ظاهره، فإذا بالله يحذره ويحذر المؤمنين أن يتشبهوا بالكفار، فلا تقلدوا هؤلاء في أقوالهم، فليس كلما قال الكفار شيئاً تقوموا مؤيدين لمثل هذا الشيء؛ لأنهم قد يقصدون خلاف ما يقولون.
وانظروا هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقولون له: (اسمع غير مسمع)، فيحملها النبي صلى الله عليه وسلم بقلب طيب، وبحسن ظن أن المعنى اسمع منا، ولن تسمع ما تكره، وهذا هو الظاهر فيه، اسمع هذا الكلام الذي سنقوله لك، ما سنقول لك شيئاً يؤذيك ولا حاجة تضايقك، اسمع غير مسمع منا ما يؤذيك، لكن الحقيقة هم لا يقصدون ذلك، وإنما المراد: اسمع لا سمعت! كأنهم يقولون لإنسان: اذهب أذهب الله سمعك، فهذا هو معنى هذا الكلام الذي يقولونه لعنة الله عليهم، فيقول ربنا للمؤمنين: لا تقلدوا هؤلاء فيما يقولون، يأتي اليهود فيقولون: راعنا، فيأتي المنافقون ويقولون: راعنا، وهم يقصدون بها المعنى، وراعنا: كلمة عند اليهود معناها: أنت شرنا، فيأتي المؤمنون يقلدون هؤلاء فيقولون: يا رسول الله! راعنا، ولا يقصدون ما يقول هؤلاء الكلاب المجرمون، ولكن الله عز وجل يحذرهم فقال تعالى: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104]، فأتى بكلمة أخرى مكان هذه فقال: {وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] وهو نفس المعنى، ولكن هؤلاء قصدوا شيئاً آخر بهذه الكلمة، فحذر الله المؤمنين، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعرفهم في لحن قولهم، وإنما مراد هؤلاء بكلامهم إرادة الأذى بك، ولا يريدون بك الخير، فعرفه الله عز وجل بالمنافقين، فكان لا يصلي على المنافقين صلوات الله وسلامه عليه، وذكرهم لـ حذيفة فكان يلقب بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، فكان حذيفة لا يصلي عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا مات واحد من هؤلاء لا يصلي عليهم، وعمر كان لا يعرفهم، فكان ينظر فيمن يموت هل صلى عليه حذيفة؟! فلا يصلي عليه عمر حتى يصلي عليه حذيفة، فقد عرف أسماء البعض من المنافقين من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30].
نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(507/7)
تفسير سورة محمد [31 - 34]
الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد ليميز الخبيث من الطيب، وهو يعلم ذلك من قبل أن يخلقهم، ولكنه سبحانه يظهر ذلك ويجعله علم شهادة، والكافر مهما عمل صالحاً لا يتقبل الله منه لكفره، والمؤمن قد يحبط عمله بمن أو عجب أو رياء أو سمعة أو غير ذلك.(508/1)
تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:31 - 35].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى عباده أنه يبتليهم، وهذا المعنى تكرر في القرآن، لما خلق الله عز وجل هؤلاء الخلق، والكل يدعي أنه يعبد الله سبحانه، والكل يدعي أنه يحب الله سبحانه وأنه يتبع سبيل الله سبحانه، فاختبرهم الله وابتلاهم وامتحنهم، هل يتبعون طريقه وهم على الحق أم أنهم يدعون ما لا يعملون؟ فأنزل الكتاب وأرسل الرسل ودل على طريق الخير وكلف العباد، وأخبر أنه سيبتلي عباده، فقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فالشر فتنة للعباد والخير فتنة للعباد، والتكاليف الشرعية ابتلاء للعباد وامتحان لهم، هل يسيرون على طريق الله سبحانه أم أنهم يتنكبون عن هذا الطريق ويعرضون عن الدين حين يرون التكاليف شاقة عليهم وصعبة عليهم؟ فقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:31] فعل مضارع في أوله اللام التي للتوكيد، وفي آخره النون المثقلة دليل على أنَّ هناك قسماً في هذه الجملة، والمعنى: والله لنبلونكم، فهذا واقع في جواب القسم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: إلى أن نعلم: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
والله سبحانه قبل أن يخلق العباد قد علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وكل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى، ومن هم أصحاب الجنة، ومن هم أصحاب السعير، ومن يموت كبيراً، ومن يموت صغيراً، ومن يستحق كذا، ومن يستحق كذا، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالله يعلم كل شيء سبحانه.
هنا يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: حتى نظهر علمنا ذلك، قد علمنا علم غيب والآن علم شهادة، وهو ظهور هذا الشيء الذي علمناه، ويقيناً سيكون ما علمناه عنكم، فالله عز وجل هو الذي خلق العباد، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فالله هو الذي خلقهم، ويعلم أن هؤلاء يستحقون الجنة فهم أهلها، ولذلك خلقهم سبحانه وتعالى، وخلق العباد ويعلم ما يعملون سبحانه، ولكن يوم القيامة حين يقال للعباد: ادخلوا الجنة يقال لهم: عملتم كذا وعملتم كذا، فأنتم تستحقون الجنة، ادخلوا الجنة جزاءً بما كنتم تعملون.
إذاً: جزاءً من الله عطاءً حساباً، ولكن قبل ذلك هي رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وحين يقول: ادخلوا النار لن يقول: خلقتكم للنار، ولا يقول لهم: إني خلقتكم وأفضت من نوري ولم يأتكم شيء من نوري، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون، ولا ينكر العباد مما عملوه شيئاً، إذاً: إدخالهم الجنة هو بأعمالهم وإن كان قبل ذلك برحمة رب العالمين سبحانه؛ لأن الأعمال لا تساوي أن تكون ثمناً لجنة الله سبحانه ولكنها سبب لدخول الجنة.
كذلك الأعمال سبب لدخول النار، استحقوا النار بأعمالهم، ولا يقدرون أن يعترضوا على الله عز وجل يوم القيامة، فلا يقولون: يا ربنا أنت الذي فعلت بنا ذلك، أنت الذي قدرت ذلك، لا يقدرون لأنه يقول: هذه صحيفة أعمالك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
وحين يكذب المنافقون ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] يختم على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يفعلون، فتعترف عليهم أعضاؤهم فيستحقون أشد العذاب والعياذ بالله.
إذاً: الله يعلم قبل أن يخلق العباد إلى أي طريق يسيرون عليه ويصيرون من أهله، ولكن: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: حتى نظهر علمنا، حتى يكون العلم الآن مشاهداً وعلم شهادة، حتى تروا وحتى يرى المؤمنون وحتى يرى الكفار ما يصنع هؤلاء.
فإذا جاءوا يوم القيامة شهد بعضهم على بعض، فلان كان يشرب الخمر، فلان كان يأكل خنزيراً، وفلان كان يفعل كذا، وفلان كان يفعل كذا، والعبد يعترف على نفسه: فعلت كذا وفعلت كذا وفعلت كذا، فيقول الله: هل ظلمك كتبتي؟ هل ظلمك الحفظة؟ يقول: لا، أنا الذي فعلت هذا الشيء.
إذاً: أظهر الله عز وجل ما كان خافياً من علمه في خلق هؤلاء، وأوجدهم فعملوا ما علم الله عز وجل أنهم يعملون، فقوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: حتى نشاهد، فنشاهد ذلك ويظهر ذلك، فنرى أعمالكم، وكما علمناها غيباً نعلمها مشاهدة، ويعلمها المؤمنون وتعلمها الملائكة، ويشهد بعضهم على البعض.
قال تعالى: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: الذي يجاهد في سبيل الله عز وجل والذي يجاهد في غير سبيل الله سبحانه، والذي يصبر على أمر الله، والذي لا يصبر على أمر الله.
إذاً: سنبلوكم بالتكاليف الشرعية: الصلاة، الصيام، الحج، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، نبلوكم بالجهاد في سبيل الله، وبالأشياء التي فيها كلفة وفيها شيء من المشقة حتى ننظر كيف تعملون.
وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:31] بنون العظمة ونون الجمع، قراءة الجمهور: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] بنون الجمع ونون العظمة تعبيراً عن عظمة رب العالمين سبحانه.
وقراءة شعبة عن عاصم: (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوا أخباركم) بالياء المضارعة ضمير المتكلم، فالله عز وجل يقول للغائب: (يبلوكم الله سبحانه)، فقوله: (وليبلونكم) أي: الله سبحانه.
وقراءة رويس عن يعقوب: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوُ أخباركم) فيقرأ للاستئناف هنا: (ونبلوُ أخباركم)، فعلى قراءة الجمهور: (ونبلوَ أخباركم) عطف على منصوب، وقراءة رُويس بدء بجملة جديدة، يعني: ولا يزال الله عز وجل يبلوُ أخباركم سبحانه.
إذاً: المعنى هنا: سيمتحنكم الله سبحانه وتعالى، وسيختبركم الله سبحانه بالتكاليف الشرعية حتى يظهر من الذي يجاهد نفسه ويجاهد هواه ويجاهد شيطانه ويجاهد المنافقين والكفار، ومن الذي يجاهد في سبيل الله، ومن الذي ينكص على عقبيه ولا يفعل ذلك، ومن الذي يصبر على المشاق وعلى التكاليف الشرعية وعلى أمر الله، ومن الذي لا يصبر على ذلك.
وقد قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] كذا هملاً وسدى؟ لا، بل لابد أن نبلوكم وأن نفتنكم ونختبركم؛ حتى يظهر الجيد ويتميز من الرديء، قال: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] يعني: نظهر أعمالكم.
إذاً: (يبلوكم): يختبركم، (ونبلو) بمعنى: نظهر ونكشف ما بداخلكم من أسرار فتكون معلنة وتكون منظورة.(508/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] الله الغني عن العباد، الله الغني عن المؤمنين وعن الكافرين وعن جميع خلقه سبحانه وتعالى، فإن الله هو الغني الحميد، ويخبر هنا عن الكفار فيقول: {كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} [محمد:32].
أقام الله عز وجل عليهم الحجة فعرفوا الطريق، وأن هذا طريق الله سبحانه فمضوا في الطريق الآخر، فطريق الله هذا في هذا الشق وهم في هذا الجانب، فشاقوا، والمشاقة: المعاندة والمحادة، ذهبوا إلى الناحية الثانية، فمعنى قوله تعالى: {شَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد:32] من المشاققة، يشاقق الإنسان: يخاصم، يجدك أنت في جانب وهو يأخذ الجانب الآخر.
فهؤلاء {شَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد:32] أي: عاندوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فكفروا بالله سبحانه وتعالى ومنعوا الناس من الدخول في سبيل الله وطريقه وهداه، ومنعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يبلغوا رسالة الله سبحانه وتعالى، وصاروا أعداءً يتربصون برسول الله وبالمؤمنين وبدين الله وشاقوا الرسول.
قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد:32] أي: هؤلاء لن يضروا الله شيئاً مهما عملوا.
وقوله تعالى: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] فهم كفار كفروا وصدوا عن سبيل الله وعاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كفر على كفر على كفر، وهؤلاء يحبط الله سبحانه وتعالى أعمالهم.
فلن يضروا الله شيئاً مهما اجتمعوا على دين الله سبحانه، فالله يأبى إلا أن يتم نوره ويظهر دينه سبحانه وتعالى وسيحبط أعمال هؤلاء، وكان الكفار يعملون أعمالاً هي في زعمهم أعمال صالحة، كانوا يحجون البيت وكانوا يطعمون الحجيج ويسقونهم وكانوا يفعلون أشياء من البر ومن الصلة ولكنهم يصدون عن سبيل الله.
فكانوا مع صدهم عن سبيل الله عز وجل يظنون أنهم يعملون خيراً ويقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] أي: نحن نعمل الخير، والله سبحانه وتعالى سيحبطه لهم، ولن ينتفعون به أبداً، ففي غزوة بدر كان من الكفار من يسمون بالمطعمين، يطعمون في يوم عشرة جمال أو تسعة جمال، فهذا الذي يدفع من ماله تسعة جمال من أجل أن يأكل جيش الكفار هو يفعل ذلك ظناً منه أنه يعمل طاعة؛ ولذلك كانوا يقولون: اللهم أقطعنا للرحم فأحنه اليوم، يعني هم في ظنهم أن الذي يعملونه ليس قطعاً للرحم، والنبي صلى الله عليه وسلم يطلب منهم صلة الرحم، فيقولون: لسنا نحن الذين قطعنا الرحم، أنت الذي قطعت الرحم، فالكافر حين يفعل المعصية ويفعل الكفر يظن أن هذا هو الصواب؛ لأنه لا يريد أن يفكر، فحين يقال: أنتم قطعتم الرحم، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: راعوا المودة التي بيني وبينكم، واتركوني أبلغ رسالة الله.
يقولون: لا أنت الذي تقطع الأرحام، فقد أتيت بدين فرقت به بين الولد وأبيه، الولد صار مسلماً وأبوه بقي كافراً، فأنت الذي فرقت، وأنت الذي قطعت الأرحام.
ولذلك كان دعاؤهم يدل على غبائهم حين يدعون ويقولون: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] يطلبون من الله عز وجل العذاب فيقولون: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32].
فهذا دعاء في منتهى الغباء، لأن الإنسان يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأنزل علينا رحمة من عندك، فاهدنا إليه، فدلنا عليه، فخذ بأيدينا إليه، ولا يدعو بالعذاب لنفسه.
فأي عقول عند هؤلاء؟ يدعون بذلك وكأنهم في غاية اليقين، إذاً هم لا يريدون أن يفكروا في هذا الدين، وفيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وصدهم عن ذلك ومنعهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم والحقد عليه؛ لأنه جاءته الرسالة من عند رب العالمين، فلا يريدون أن ينظروا حتى ولو كانت النتيجة أن يكونوا هم القتلى، أو يكونوا هم المشردين، لكن لا يدخلون في هذا الدين! فقال الله عز وجل: {سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] طالما أنهم ألغوا عقولهم فيستحقون من الله عز وجل أشد العقوبة؛ لأن الله خلق العقل ليتفكر به الإنسان، وليهتدي به وليستدل به على ربه سبحانه، أما أنه يستغل عقله للمعاندة والمشاقة حتى ولو كان يعلم أن هذا هو الحق، ويدعو على نفسه بأنه يكون من المهلكين فيستحق ما سأل الله عز وجل لنفسه.(508/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] التحذير للمؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء الكفار، احذر أيها العبد المؤمن أن تحبط عملك فتستوي مع هذا الكافر، وإن كان هناك فرق بين المؤمن وبين الكافر.
فالكافر عمله كله محبط، والمؤمن لا يكون عمله كله محبطاً إلا بالكفر والردة عن دين الله سبحانه تعالى، فإذا كفر وارتد حبط العمل، فالله يحذر المؤمن، احذر أن تكفر، واحذر أن تشرك بالله، واحذر أن ترائي، واحذر أن تعجب بعملك، واحذر أن تزهو وأن تفاخر بعمل، وأن تكاثر بشيء فتفتخر به على خلق الله، واحذر أن تطلب الدنيا بعملك، واحذر أن تمن بعملك على دين الله سبحانه وتعالى، فإنَّ هذه محبطات للعمل، والإنسان لا يعمل العمل لغير الله، أو رياءً وسمعةً وشركاً بالله عز وجل، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل منه هذا العمل.
وحين يعمل العمل ليزهو به فلا ثواب له في هذا العمل، وحين يعمل العمل ويكون عمله لله ثم بعد ذلك يمن به على الله عز وجل ويمن به على المؤمنين أبطل عمله بذلك، فهذه أشياء تحبط عمل الإنسان، منها: الشرك بالله عز وجل والكفر والردة، ومن هذه الأشياء: الغرور، والعجب بالعمل، وأن يمن بعمله على ربه سبحانه وتعالى.
فيحذر الله المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أي: احذروا من أن تبطلوا أعمالكم، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء تحبط العمل، كالشرك الخفي، كأن يقوم ويصلي ثم ينظر إلى الناس، ويزين صلاته للناس وليس لله سبحانه وتعالى، والإنسان يترك العمل الصالح بعدما كان يعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فالإنسان يعمل العمل فيكون له أجره، فإذا مل وترك ومن بهذا العمل أبطل هذا العمل وقضى عليه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، ويقيناً أن هذا الذي حبط عمله ما حبط كل عمله؛ لأنه لم يكفر بالله عز وجل إلا إذا تركها معتقداً أنها ليست واجبة، فهذا كفر بإنكار شيء معلوم من الدين بالضرورة، ولكن إذا تركها وهو قادر على أن يصليها لا عذر له في ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط)، أي: الإنسان معذور إذا نام وفاتته الصلاة، (ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) إذاً: لا يكون التفريط من الإنسان إلا إذا خرج وقت الصلاة وهو قادر على أن يصليها حتى انتهى وقت هذه الصلاة.
إذاً: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من ضيع وقت الصلاة حتى انتهى وقتها، ومن فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله، فقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أي: بمنٍّ وعجب وشرك وردة وغيرها.(508/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] رحمة الله عظيمة، فيقول: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] فيها رحمة رب العالمين سبحانه، فالكافر الذي يصد عن سبيل الله ولا يزال على ذلك حتى قبيل الوفاة فيتوب إلى الله يغفر الله له.
فإذا كان كل حياته كافراً ويصد عن سبيل الله ويشاقق الرسول وفي النهاية تدركه الرحمة ويتوب إلى الله يغفر الله له، فقيد حبوط العمل بأن يموت على ذلك، وتخرج روح هذا الإنسان وهو على الكفر، هذا الذي لا يغفر الله عز وجل له.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا} [محمد:34] يعني: استمروا على كفرهم حتى جاءهم الوفاة وهم كفار، قال تعالى: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] والغفر بمعنى: المحو والستر، فالله يغفر للمؤمنين، وفيها رحمة الله عز وجل بالمؤمنين، فالمؤمن تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى طالما أنه لم يقع في الكفر بالله سبحانه، ومات على الإيمان، فعسى الله أن يغفر له حتى ولو كان صاحب كبيرة.
فالله عز وجل يغفر الذنوب، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ففيها الرجاء في رحمة رب العالمين سبحانه لمن آمن، حتى وإن كان من أهل المعاصي، فكيف بمن آمن وكان من أهل الطاعات؟ فلا شك أن الله عز وجل يغفر له ويدخله جنته، نسأل الله عز وجل مغفرته وجنته إنه على كل شيء قدير.
أقولي قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(508/5)
تفسير سورة محمد [32 - 36]
لقد أمرنا الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا نبطل أعمالنا بما يحبطها من الشرك والرياء، وأمرنا بالحفاظ على القوة وعدم الضعف والخور أمام الأعداء بالدعوة إلى السلم والاستسلام، وأخبر أن سبب الضعف هو حب الدنيا والركون إليها، والاغترار بها ونسيان الآخرة وما عند الله من الحسنى.(509/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ * إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:33 - 38].
هذه الآيات الكريمة من آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم - وهي سورة القتال - يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى فيها عن حال الكفار، وعن حال المؤمنين.
الكفار الذين يصدون عن سبيل الله ويشاقون الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يقدرون على شيء إلا بما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
الله خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن، ولو شاء لم يخلق الكفار أصلاً، ولكن أراد أن يبتلي العباد بعضهم ببعض، ليبلوكم حتى يميز الخبيث من الطيب.
فالذين كفروا بالله، وبرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وصدوا عن سبيل الله، ومنعوا من يدعو إلى الله ومنعوا الرسول من تبليغ رسالة ربهم، شاقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وعاندوه، ومنعوه أن يدعو إلى ربه سبحانه من بعد ما تبين لهم الهدى، فليس لهم عذر عند الله سبحانه، فقد عرفوا الحق وأقام الله عز وجل عليهم الحجة، فهؤلاء مهما عملوا لن يضروا الله شيئاً.
قد يصاب المؤمنون بأذى من هؤلاء، أما أن يؤذوا ويصيبوا ربهم سبحانه بالضرر فهذا مستحيل، والله القوي العزيز، والقاهر الغالب الجبار سبحانه تبارك وتعالى.
{لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] إذاً: أعمالهم يجعلها هباء منثوراً مهما كادوا لدين الله، فيأبى الله إلا أن يظهر دينه، ولن يضروا إلا أنفسهم، وكذا كل إنسان كافر فاجر عاص ضرره على نفسه.
الحياة الدنيا حياة قصيرة، فمهما ضروا المؤمنين فيها إما أن هذا الضرر يزيله الله عز وجل، وإما أن يذهب هذا الكافر ويقتله الله سبحانه، وإما أن يموت المؤمن ويرجع إلى ثواب الله عز وجل.
فالضرر لن يدوم الدهر أبداً، ولكن الذي يدوم هو عذاب الله عز وجل وناره، وثواب الله وجنته سبحانه، فلذلك مهما يكون من ضرر على المؤمنين في الدنيا فليس ضرراً دائماً أبداً.
ولذلك أخبر أن هؤلاء سيحبط أعمالهم التي عملوها، هم يكيدون للإسلام والمسلمين والله يأبى إلا أن يتم نوره.
فمهما كادوا أحبط الله عز وجل عملهم، ومهما عملوا من أعمال في ظنهم أنها أعمال صالحة إذا جاءوا يوم القيامة أحبطها الله ولم يؤجروا عليها؛ لأنهم كفروا بالله وكذبوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
أما المؤمنون فيعلمهم الله سبحانه تبارك وتعالى أن يطيعوا الله، وأن يطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم أن يبطلوا أعمالهم.
فالمؤمن عمله يتقرب به إلى الله، والله يعطيه الأجر المضاعف الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء أضعافاً كثيرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] لا تكونوا كهؤلاء الكفار الذين أحبطنا لهم أعمالهم بكفرهم، وبصدهم عن سبيل الله.
فاحذر أيها العبد المؤمن أن تقع في الشرك بالله أن تقع في الصد عن سبيل الله أن تعجب بعملك أن تفتخر به أن تمن على الله عز وجل بما عملت وإلا حبط عملك بذلك، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وله خالصاً سبحانه.
ولذلك كان يكثر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه أن يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك).
ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكثر ما تدعو بذلك! فيقول: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك المؤمن يحتاج أن يثبت على دين الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا في أن يتصل بربه سبحانه بصلاته بعبادته بدعائه بتوحيده ربه سبحانه تبارك وتعالى بأمره بالمعروف بنهيه عن المنكر بطاعته لله بطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحبه لدين الله عز وجل بالدعوة إلى هذا الدين العظيم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد:33] أطيعوا الله سبحانه، ومن طاعتكم لله طاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يأت بشيء من عند نفسه وإنما ينطق بوحي من الله سبحانه.
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] احذروا، فلما قدم أن الكفار يحبط الله أعمالهم بكفرهم وشركهم كأنه تحذير للمؤمن أن يرتد عن دين الله سبحانه، وأن يقع في الشرك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه).
وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في الشرك، ولكنه يعلم المؤمنين أن يقولوا ذلك، وأن المؤمن يثبت على توحيد الله عز وجل، فلو وقع في الشرك الأكبر أو الأصغر أو وقع في الشرك الخفي أحبط الله عز وجل ما يكون فيه شرك من عمله، فحذر الله المؤمنين من أن يحبطوا عملهم.(509/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34]، الكافر الذي يصد عن سبيل الله، قد يكون هناك كافر ولكن ما يصد، هو في حاله وأنا في حالي، الصد إما صد للغير وإما صد للنفس، فتقول له: اسمع كلام الله يقول لك: ما أريد، هذا صد، منع كلام الله عز وجل أن يستمع إليه، وأن يصغي إليه، وأن يتدبره، وأن يفهمه.
فإن صد غيره كانت المصيبة أعظم، فالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم، ومنعوا الرسل من تبليغ رسالات ربهم، ومنعوا الدعاة أن يدعوا إلى ربهم.
(ثم ماتوا وهم كفار) أي: على الصد عن سبيل الله (فلن يغفر الله لهم) مصيبتهم مصيبة الذي لا يغفر الله له، فلا ينتظر من الله إلا العذاب الأليم، وإلا النار والجحيم.(509/3)
تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)
يطمئن الله عز وجل المؤمنين فيقول: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
فيها إخبار أن المؤمن لا بد أن يكون قوياً، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] لا تركن إلى الضعف، لا تكن ضعيفاً، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، إن أصابك شيء لا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
فيعلم الله عز وجل المؤمن أن اثبت على دينك اعتصم بالله سبحانه تبارك وتعالى احذر من العجز لا تعجز أعد لكل أمر العدة التي تكون له {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم.
فكلما كان المؤمنون أقوياء خاف منهم الأعداء، لا يخاف العدو من مؤمن مسالم، يقول: نحن في أمن وسلام، ونحن نريد الصلح مع الجميع، الكافر لا يفعل ذلك، لو فكر المسلمون هل الكفار في أمريكا وفي أوروبا وفي غيرها يدعون إلى السلام؟ لو كانوا كذلك ما صنعوا السلاح النووي والمسابقات في حرب النجوم من أجل الصعود إلى الفضاء والسيطرة على الكون، فمن لا يفهم هذا الأمر فهو جاهل.
فالكافر يعيبك ويعيرك بالشيء الذي يفعله هو، فيمدح نفسه به ويذمك أنت عليه، أنت تريد أن تصنع السلاح النووي؟ ماذا تريد أن تفعل بهذا الشيء؟ فإن قيل: أنت عندك نفس هذا الأمر! يقول لك: لا، أنا أعقل منك، أنا في يدي هذا الشيء، لكن أنت حكمك أنك طفل، فممكن أن تلعب بها فتحرقك أما نحن فكبار! ولذلك يفتخر الأمريكيون المدنيون ويقولون: نحن أطول الناس قامة! ما معنى هذا الكلام من هؤلاء؟ نحن أطول الناس قامة أي: ننظر إلى قدام نحن أطول منكم نظراً، والطويل في وسط الناس ينظر قدامه، لكن أنتم صغار لا تنظرون إلى الذين قدامكم، فأنتم تمنعون عن الرؤية، هذا كلامهم.
يستغفلون العرب والمسلمين ويخدعونهم، ويضحكون عليهم بمثل هذا الكلام، ولا يكون معكم سلاح أبداً، نترك لكم إسرائيل في النصف معها كل الأسلحة، والدفاعات التابعة لكم دفاعات قليلة لأجل ألا تفكروا في يوم من الأيام أن تقاتلوها أو تعملوا فيها شيئاً.
انظر إلى الضعف الذي فيه المسلمون! لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
والغثاء: الزبالة، السيل عندما يجري يأخذ الزبالة فتتفوق على السيل الذي يحصل في أي مكان، انظر إلى السيل الذي كان في أندونيسيا، الغثاء كان فوقه فيقول: أنتم غثاء وعدد كثير، ولكن مثل هذه الزبالات التي تكون فوق الماء حين يجرفها، فلا قيمة لها ولا تصنع شيئاً.
(وليقذفن الله في قلوبكم الوهن حب الدنيا وبغض الموت).
المسلمون يتكلمون: نحن مسالمون مثل العجائز والشيوخ الكبار الذين ما لهم حاجة يقولون: دافعوا أنتم عنا واعملوا أنتم ما تشاءون!(509/4)
النهي عن الوهن والضعف
الله عز وجل يقول: {فَلا تَهِنُوا} [محمد:35] لماذا تضعف نفسك؟! نحن نقول لكم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، كونوا أقوياء، و (ما) من ألفاظ العموم، يعني: كل شيء تستطيعونه من أسباب القوة أعدوه؛ لأن الكافر لن يسكت عليك، أنت تقرأ في كتاب الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] فتوجعه بهذا الكلمة، لكن طالما المؤمن قوي لا يتكلم، طالما المؤمن ضعيف، يرفع الكافر صوته على المؤمنين: أنتم تقولون كذا، أنتم تعملون كذا، الكلام الذي لم تكن تسمعه أبداً مباشرة تسمعه عندما ضعف المسلمون، وتقوى الكفار بعضهم ببعض، يقول الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73].
ويقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] أين الولاية؟ {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] الولاية التي بين المؤمنين هي: الولاء والبراء، المؤمن يحب المؤمن وينصره ويدافع عنه، والكافر كذلك مع الكافر، وإن لم تكن هناك محبة قلبية منهم، والذي يجمعهم هو الدنيا فقط، والله عز وجل يقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] يجتمعون عليه صلى الله عليه وسلم.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:8] يقول لك كلاماً طيباً جميلاً بلسانه فقط، أما ما في القلوب فهم يبغضون الإسلام والمسلمين، ويفعلون ما يقدرون عليه؛ حتى يوهنوا المسلمين فلا يقدرون أن يدعوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهم يحاولون أن يبثوا الفرقة والخلاف بين المسلمين، ويسارعون للإفساد والدخل بين المؤمنين، فإذا أنت حرصت على نفسك فهذا مستحيل أن يكون.
{فَلا تَهِنُوا} [محمد:35] هذا أمر الله عز وجل للمؤمن: لا تعجز لا تهنوا لا يكن في قلوبكم الوهن والضعف.
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] أنت الأعلى عند الله عز وجل، أنت المؤمن، أنت الذي يعد الله عز وجل لك الجنة لماذا تكون ضعيفاً في هذه الدنيا؟! لماذا أنت تضحك على نفسك وتخدعها وتقول: أنا لا أقدر على هؤلاء؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لوحده، فلو أن الإنسان بعقله البشري فكر فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان لوحده أمام هذا الجمع من الكفار، ويقدر عليهم بقدرة الله، لم لا تعتبرون بذلك من أن الله كان مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ رسالة الله سبحانه؟! وكم أوذي في الله سبحانه تبارك وتعالى وصلوات الله وسلامه عليه فصبر حتى بلغ رسالة الله عز وجل! كم جاهد المؤمنون ودافعوا عن دين الله حتى وصل الدين إلى مشارق الأرض ومغاربها، فيقول لنا ربنا: لا تهنوا، لا تعجزوا، لا تضعفوا.
{وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد:35] هذه فيها قراءتان: قراءة الجمهور بالفتح (وتدعوا إلى السَّلمِ) وقراءة شعبة عن عاصم وحمزة وخلف (وتدعوا إلى السِّلمِ) أي: المسالمة، وهما بمعنى واحد السلم هو الاستسلام، لا تدعوا إلى ذلك وأنتم ضعفاء، ولكن كونوا أقوياء حتى لا تتحكم فيكم الدنيا وأصحاب الكفر.(509/5)
المؤمنون هم الأعلون
قال: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] يذكر الله المؤمن فيقول له: جعلناك أنت الأعلى وأنا معك، ولذا قال لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ذهبا إلى فرعون يدعوانه إلى الله عز وجل؛ لأنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] قال الله عز وجل {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44]، ذكراه لعله يخشى ويرجع عما يقوله.
{قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} [طه:45] الخوف جبلي في الإنسان {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا} [طه:45 - 46] لماذا لا تخافا؟ {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أنا معكما بسمعي وبصري، معكما بقوتي وقدرتي؛ فلا تخافا.
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] فالمعية ليست لموسى وهارون فقط، وليست للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن لكل المؤمنين، الله مع المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فاتقوا ربكم يكن ربكم معكم.
قال: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، ولن يضيع الله عز وجل عليكم ثواب ما عملتم، مهما عملتم من عمل قليلاً كان أو كثيراً، صغيراً في نظركم أو كبيراً، كله عند الله يدخره لكم ويعطيكم الثواب عليه.
{وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ} [محمد:35] هذه مأخوذة من الوتر بمعنى: الواحد، والوتر بمعنى: الانفراد كأنه يقول: لن يفردكم عن أعمالكم، كأن إنساناً أفرد الإنسان عن صديقه، أخذ صديقه بعيداً وتركك أنت في مكان آخر، كذلك لن يترك ثوابك، لن يأخذ الثواب ليضيعه ويتركك أنت لوحدك من غير ثواب، لا، الثواب لك عند الله عز وجل.
{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم من ثواب أعمالكم.(509/6)
تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو)
قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] هذه هي الدنيا التي يذكرك الله عز وجل دائماً بها، ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، الإنسان الذي يغتر بالدنيا كم يعجب بنفسه وكم يغتر بها ويذهب منه هذا الذي يغتر به ويعجب به! كذلك الدنيا متاع يغتر بها أصحابها ولا تدوم لأحد أبداً.
{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] المعنى: كم ترى من إنسان جاد في تحصيل هذه الدنيا، وفي النهاية ماذا سيعمل بهذه الأشياء؟ يتركها كلها كأنه كان يلعب، أخذت ما أكلت ما شربت ما نمت عليه أخذت حاجاتك وضرورياتك، والباقي ستتركه كأنك تلعب في أخذ هذا الباقي من الأشياء، فإذا كان الإنسان يجمع الدنيا ويضيع دينه يصير هذا من اللعب، أخذ أشياء لن تمكث معه، وترك الشيء الباقي الذي يدوم له! فضيع على نفسه أفضل الأشياء وأعظمها الدار الآخرة.
{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] فالذي يلعب ويلهو يفوته قطار الآخرة، كإنسان واقف على محطة ينتظر القطار، فشغل بأشياء هذا يبيع منه كذا، وهذا يعطيه كلمة حلوة، وهذا أصغى إليهم ونظر إليهم يضحك ويلعب، فمر القطار وتجاوزه، كذلك عمر الإنسان يضيعه في الضحك واللعب واللهو وأخذ الدنيا، وغداً أتوب وأصلي وحين يرتفع الراتب أذهب إلى الجامع، وأصير أدعو الله في كذا، وهكذا يوم وراء يوم حتى خرج من الدنيا كلها إلى حسابه وجزائه عند الله عز وجل! {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36].
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(509/7)
تفسير سورة محمد [36 - 38]
يحث الله تعالى عباده المؤمنين على الصدقة والإنفاق في سبيله سبحانه وتعالى، ومن أسباب نصر هذا الدين تضحية أهله ببذل المال والأرواح رخيصة في سبيل الله، وقد حذر الله من البخل، وأخبر أن من تولى فلا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً، وسيستبدل قوماً آخرين يعبدونه وينصرون دينه، ويعلون كلمته سبحانه وتعالى.(510/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:36 - 38].
هذه الآيات الأخيرة من سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهي سورة القتال، يقول الله عز وجل فيها ويخبر عن هذه الحياة الدنيا التي يستعذبها الإنسان، ويستحلي أن يعيش فيها، ويطلب أن يعمر فيها عمراً طويلاً، فيبين لنا حقيقة هذه الدنيا، قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] الآخرة: هي الحيوان والحياة الحقيقية، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] أي: العاقبة الحسنة، فهم لم يطلبوا الدنيا للعب، ولا للهو، ولا للبغي، ولا للفساد، ولا للاستكبار، ولا ليحصلوها، لم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا أن يرضوا ربهم سبحانه، فمن طلب الدنيا للدنيا فهذا طالب لهو ولغو ولعب: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36].
أما الذي يطلب الآخرة فلن يلعب في الدنيا، ولن يلهو فيها، وإنما يستعد للآخرة، يستعد للقاء الله سبحانه تبارك وتعالى، يستعد للجزاء والحساب، فلذلك هو يؤمن ويتقي ربه سبحانه، وينتظر الأجر العظيم من الله.
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]، هل حصلت المال في الدنيا لتنتفع به في الدنيا؟! ولتبغي به في الدنيا ولتفسد ولتتعالى على غيرك وتزهو في الدنيا؟! لا ليس كذلك، فالحياة الدنيا متاع قليل، ثم بعد فترة يزول وتترك ما حصلت فيها، فاحذر من أن تعيش في هذه الدنيا لاعباً كسلاناً، مؤخراً عمل اليوم إلى الغد، وترجو أنه يغفر لك من غير عمل، فهنا الحياة الدنيا لعب ولهو لمن أراد الدنيا للدنيا، ولكن المؤمن التقي ينشغل في هذه الحياة الدنيا ليله ونهاره عبادة لله سبحانه تبارك وتعالى، فيعبد ربه في قيامه كما يعبده في نومه، ويعبد ربه في عمله كما يعبده في أكله وشربه، ويعبد ربه في قضاء شهوته، فحياته كلها عبادة.
قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].(510/2)
فتنة المال
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه بعد ما كانوا فقراء يعبدون الله عز وجل ما يفتح الله عز وجل عليهم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أويأتي الخير بالشر؟!) يعني: الفتح الذي يفتحه الله عز وجل علينا هذا خير، ومغانم نأخذها فيها خير، وزهرة الدنيا نحصل عليها خير، فهل هذا الخير يأتي بالشر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يأتي الخير بالشر)، وهذا الجواب وقع بعد ما نزل عليه الوحي من السماء، فلم يجب السائل حتى نزل الوحي، فأجاب صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل خبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر) يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثال للدنيا فيمن ينكب على الدنيا يريد أن يحصلها جميعها، هذا المثال الذي يذكره النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن مما ينبت الربيع يقتل خبطاً أو يلم) الربيع هو جدول الماء ينبت على حافته أعشاب ونبات وبقول، وتأتي الحيوانات التي تأكل هذا العشب، فمن البهائم ما يستحلي هذا النبات فيأكل كثيراً حتى يشارف على الهلاك من كثرة الامتلاء، قال: (إلا آكلة الخضر) بقرة ذهبت فأكلت ما استطاعت ثم جلست كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت) بقرة من الأبقار ذهبت فأكلت، وبعدما أكلت استقبلت الشمس فخرج منها العرق والبول، ثم ثلطت وقامت وتحركت شمالاً ويميناً لتهضم هذا الذي بداخلها، فلم يقتلها ما أكلته، ولكن البهيمة التي تأكل ولا تعمل شيئاً، وتهتم بأن تأكل في النهاية يقتلها ذلك خبطاً أو يكاد أن يقتلها إلا أن يدركها صاحبها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن هذا المال خضرة حلوة)، كهذه البقول التي تخرج من الأرض، وكهذه الخضروات التي تخرج من الأرض، لكن المسلم سيكون المال خيراً له: (ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم (وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) هذا المال الذي يريد الإنسان أن يحصله: إما أن يحصله للخير ليعبد الله عز وجل به، ويعطي الحق لأصحابه، وينفق على أهله وعياله من طول، وعلى المسكين واليتيم وابن السبيل، فيخرج من المال ما يطهر به هذا المال، فهذا الذي ينتفع به العبد يوم القيامة.
ولكن الذي يجمع المال من حل وحرام، وينفق المال في حل وحرام، فهذا كالذي يأكل ولا يشبع، حتى إذا امتلأ في النهاية مات من التخمة، ويأتي المال يوم القيامة ليكون شهيداً على صاحبه، فهذا الذي يلعب في الدنيا ويلهو ويجمع المال للعبث، يكون المال شهيداً عليه يوم القيامة، فالحياة الدنيا إذا استغلها العبد لطاعة الله عز وجل في كل لحظة كانت عظيمة عند الله.
وجاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) غدوة في الصباح تذهب مطيعاً لله عز وجل فيها، مجاهداً في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، أو روحة في سبيل الله، في المساء، فهذه خير من الدنيا جميعها.(510/3)
الدنيا ملعونة
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم).
فهذه الدنيا كل ما فيها بعيد من رحمة الله، وكأن الدنيا مليئة بالمصائب، وبالعبث واللهو، ومليئة بكل ما يلهي الإنسان عما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، إلا أن يجعل الإنسان أمامه نوراً من الله سبحانه تبارك وتعالى، من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها، يعني: كل ما فيها يبعد عن طاعة الله سبحانه، إلا أن تتشبث بذكر الله عز وجل، ويكون لسانك ذاكراً لله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (إلا ذكر الله وما والاه)، وما يتبع ذلك من ذكر الله كالصلاة والزكاة والصيام، فتذكر الله وتصوم ما فرضه الله عز وجل عليك، وتعمل ما سنه لك النبي صلى الله عليه وسلم، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
كذلك العالم والمتعلم، فيكون الإنسان عالماً يعلم غيره، ويكون متعلماً يستفيد من غيره، وغير ذلك كله بعد عن طاعة الله، لو تأملت في ذلك ونظرت في حقيقة ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عندما يجيء الإنسان يقول: هم ثلاثة فقط، والباقي كله بعيد عن رحمة الله عز وجل؟! فستجد أنهم الثلاثة فقط الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والباقي بعيد عن الله عز وجل.
كيف تعرف ربك إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! وكيف تعرف دين الله عز وجل إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! وكيف تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى؟! وبأي شيء تعبده إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! فلذلك كل من بعد عن ذلك فليس بعالم ولا متعلماً، فكيف سيعرف هذا العبادة والمعاملة؟ وكيف سيقيم شرع الله عز وجل وهو لم يتعلم ولا هو من أهل العلم، ولا هو طائف على موائدهم؟! فغير هؤلاء يكون بعيداً عن طاعة الله عز وجل، ويتكلم فيما لا يعنيه، ويهرف بما لا يعرف، ويتكلم في الدين وفي غير الدين بعقله وهواه، فيغويه الشيطان ويتبع هواه فيكون من أصحاب النار والعياذ بالله!(510/4)
الحث على ذكر الله
جاء في حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)، وفي رواية في هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)، خير العمل أنك تكثر من ذكر الله، فذكر الله أكبر من كل شيء، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
فالإنسان يصلي الخمس الصلوات في اليوم والليلة، ويصلي رواتبها، ويذكر الله، فهو ما بين صلاة وصلاة في ذكر لله عز وجل، فلا ينسى ربه أبداً، ولا ينسى طاعة الله سبحانه، ويستحيل أن تتخيل إنساناً ذاكراً لله عز وجل وهو تارك للصلاة لا يصلي، أو ذاكراً لله عز وجل وهو تارك للصوم والعبادة، فهذا مستحيل، ولكن قد يكون الإنسان يصلي وقت الصلاة وفي غير وقت الصلاة مشغول بهذه الدنيا، فلذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
ذكر الله عز وجل أعظم من الصلاة؛ لأن الذاكر لله عز وجل يصلي ويذكر الله عز وجل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله).(510/5)
الحث على الإيمان والتقوى والنفقة
قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [محمد:36] أي: تؤمنوا بالله عز وجل وبما جاء من عند الله، فتؤمن تصدق وتعمل، وتتقي ما يغضب الله عز وجل، فالإيمان يدفع العبد للعمل، والتقوى تدفع العبد إلى ترك ما يغضب الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا فعلت ذلك يؤتك الله عز وجل الأجر.
قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] يعني: لم يسألكم الله عز وجل جميع أموالكم، فالله سبحانه تبارك وتعالى كريم، فحين يفرض الله عز وجل عليك زكاة مالك شيئاً يسيراً، فستتمتع بسبعة وتسعين ونصف في المائة من مالك، وادفع لله عز وجل اثنين ونصف في المائة من مالك، فهذه هي الزكاة التي يفرضها الله عز وجل، فهي نسبة يسيرة جداً من مالك.
وإذا كان لديك زروع وثمار تسقيها بتعبك، فتشتري الماء وتسقي الزرع، فستخرج نصف العشر مما تخرجه الأرض، وإذا كان الماء من السماء من غير تعب منك فتخرج العشر منها، وتستمتع بالتسعة الأعشار، والعشر لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا العشر هو الذي يطهر لك باقي المال.
وإذا حفر الإنسان في الأرض فخرج وعاء ذهب أو فضة من غير تعب منه فهذا يعتبر ركازاً من دفن الجاهلية، فيجب عليك فيه الخمس، مقدار عشرين في المائة؛ لأنك لم تتعب أصلاً، فإذا زاد التعب قلت الزكاة وخفت، فالله عز وجل ليس بطامع في المال الذي عندك كما تفعل الحكومات مع الناس، حيث وضعوا ضرائب على الناس، فيأتي عامل الضرائب يقول للناس: سنخفف عليك والآخر يضع عليه ضرائب أكثر، ويرفض منه، ويجعل له المقيدات، فالدين لا يفعل ذلك أبداً بالإنسان، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، الإنسان عندما يؤمر بالنفقة يبخل، فالدين يجعل الإنسان يدفع، ولو كل مؤمن على الأرض دفع زكاة ماله لما بقي فقير أبداً، وزكاة المال كثيرة جداً، فهي اثنين ونصف في المائة، وكل إنسان يرغب فيما عند الله، ويرهب من عذاب الله عز وجل فيدفع المال، ولو أن الحكومات ترشد إنفاق هذا المال على الوجوه التي ترضي الله عز وجل لكانت البركة في الأرض، فالإنسان يدفع الزكاة وهو راض، وقد يدفع أكثر مما يطلب من أجل الله، ويصرف أكثر من النسبة المطلوبة؛ لأنه ينوي الأجر من الله، لا ينفق لأنه مجبر على ذلك، وليس كالضرائب ولسان حال أحدهم: أنا يأخذ مني أكثر، والثاني يأخذ منه أقل، وفلان المليونير لا يدفع شيئاً وفلان له محسوبية! الدين ليس فيه هذا الشيء، الناس كلهم سواسية، فعندما يطبق شرع الله عز وجل تجد الإنسان مسروراً في دفع الشيء؛ لأنه يصدق فيما يقول.
وكان عثمان رضي الله عنه يقول للناس: هذا شهر زكاة مالكم، فلينظر الإنسان ما عليه من الدين، ثم يدفع ما عليه من زكاة المال فلا يصدق أحد ويقول: أنا علي ديون كذا، والمال الذي عندي كله دين، وأنا عندي عشرة آلاف لكن غالبه دين والذي يأتي إليه يصدقه فيما يقول، فلا يلزمه ويقول: زك مالك وإلا سندخلك السجن ونعمل فيك هذا، هذه أشياء الشريعة لا تأتي بمثلها أبداً، ولذلك ربنا يقول لنا: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37]، فالله سبحانه يحثنا ويأمرنا بدفع الزكاة وإذا بنا نبخل {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] وكأنها طبيعة في الإنسان يقال له: هات أكثر فيقول: لا ما أدفع أكثر من هذا الشيء، فيتعلم الإنسان أنه لا يرهق أخاه، الله سبحانه يخفف والإنسان يشدد على غيره ليدفع أكثر فالله سبحانه تبارك وتعالى أعلم بنفوس الخلق: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، وإنما هي نسبة بسيطة من المال يطهر بها لكم أموالكم، ويأخذ الفقراء نصيبهم الذي عندكم، ولم يسألكم المال كله.(510/6)
تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)
قال تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37] الإحفاء: بمعنى الجز والاستئصال، ومنه إحفاء الشارب، كأن يقصه ويجزه جزاً شديداً بحيث لا ينزل على الشفاه منه شيء، فمعنى (يحفكم) أي: يشدد ويأخذ الأكثر من المال تبخلوا: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالإنسان قد يحقد على الدين فيقول: لماذا تأخذوا منا هذا المال، نتعب لأجل أن تأخذوا منا خمسين في المائة من أموالنا؟! فلو ربنا سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يقول ذلك، ويجيء الإنسان لا رحمة عنده مثل قطاع الطريق، من أجل أن يأخذ الضرائب من الجميع فتكون دولة رأسمالية ديمقراطية، فهذه الأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولو عاد الناس إلى شرع الله عز وجل وأخذ الفقير المال من الإنسان الغني لكفت الزكاة الفقراء، وعندما لا تكفي الزكاة للفقراء فمن حق الحاكم أن يفرض على الناس ضرائب بحسب مقدرتهم وليس بالتشديد على الناس، فلو أن الله سبحانه الخالق شدد على الناس لبخلوا وأخرجوا أضغانهم، ولكن الله برحمته لم يجعل ذلك، ألا يتعلم الإنسان من ربه سبحانه؟! الله خلق المال وخلق الإنسان، ولم يفعل ذلك مع الإنسان سبحانه تبارك وتعالى، {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37].(510/7)
تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار)
قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] الذي يبخل عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل إنما يبخل عن نفسه والله سبحانه الغني لا يحتاج إلى أحد، إنما يأمرك بالنفقة لتنتفع أنت يوم القيامة بما أنفقت.
قوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38]، أنتم الفقراء، والله الغني بذاته، عطاؤه كلام: (كُنْ فَيَكُونُ)، والإنسان فقير بذاته خرج إلى الدنيا عرياناً لا شيء معه، وجاء إليها وهو طفل صغير يحتاج إلى غيره وليس معه ثوب، ويخرج من الدنيا كذلك وهو لا شيء له، فهو فقير بأصل خلقته، وفقير بذاته {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} [محمد:38] سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38] إذا توليتم عن طاعة الله، وهربتم من الإنفاق في سبيل الله استبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، ومن يتولى عن طاعة الله ودينه، ويهرب من هذا الدين العظيم فإن ربنا يقول: الله الغني لا يحتاج إليك، والله القادر على أن يأتي بقوم غيركم يعبدون الله ويؤدون حقه سبحانه تبارك وتعالى، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة سألوه صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء الذين يستبدلهم الله عز وجل بنا إذا نحن تولينا؟ وكان سلمان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليه وقال: (هذا وأصحابه)، من الفرس والعجم، إذا تولى العرب عن طاعة الله أيد الله عز وجل هذا الدين بغيرهم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل البر والفاجر)، فقد يؤيد هذا الدين بمن ينصره من الأبرار، والفجار، والله على كل شيء قدير، فالمكسب هو للإنسان المؤمن، أقبل على الله سبحانه، لا تتولى، فأنت الذي تربح إذا أقبلت، وأنت الذي تخسر إذا أدبرت، ولن تضر الله شيئاً، ولن تضر دين الله شيئاً.
قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] بل يكونون مطيعين لله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه، وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(510/8)