تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً)
قال الله سبحانه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} [فصلت:27] أي: جزاءًَ بما صنعوا معه صلوات الله وسلامه عليه، فهم لم يسمعوا له، ولم ينتبهوا إليه، وأعرضوا عنه، وجعلوا غيرهم يعرض عنه صلوات الله وسلامه عليه، فسنذيقهم العذاب الشديد عذاب النار والعياذ بالله، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27] أي: أسوأ ما عملوا سيذوقونه يوم القيامة في نار جهنم، فيذوقون أسوأ ما كانوا ينتظرونه من عاقبة.(403/7)
تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار)
قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت:28] أي: نار جهنم هي دار هؤلاء يوم القيامة خالدين فيها أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون} [فصلت:28]، (يجحدون): الجحد هو الإنكار مع العلم، الإنسان قد ينكر الشيء لأنه يجهله، لكن إذا علم أن هذا يتكلم بالحق ومع ذلك يكذبه فإنه يكون جاحداً، والكفار يعلمون أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة، ثم لا يعبدونه ويعرضون عن آياته سبحانه، وهذا هو الجحد، جحدوا بآيات ربهم سبحانه، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم بالحق الذي هو عليه.
وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(403/8)
تفسير سورة فصلت [26 - 32]
إن اللغو والعبث والسخرية والاستهزاء بآيات الله أسلوب من أساليب الصد عن تبليغ دعوة الله، وقد توعد الله من يستخدم هذا الأسلوب في مواجهة دعوته بالعذاب الأليم، ووعد الله من سمع بهذه الدعوة وبلغها واستقام عليها بأن يتولاه في الدنيا والآخرة.(404/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:26 - 30].
في هذه الآيات من هذه السورة الكريمة يبين الله عز وجل مشاهد للكفار وللمؤمنين، فبين حال الكافر في الدنيا كيف كان يصنع، وفي الآخرة كيف جوزي، وكذلك المؤمن ما الذي صنع في الدنيا، وكيف جازاه الله عز وجل يوم القيامة؟ هؤلاء الكفار قال بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] نظروا إلى القرآن أنه معجز وعظيم فخافوا على أنفسهم أن تضيع منهم الدنيا باتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في حماقة وجهل وغباء وبعد عن الله سبحانه، حيث فضلوا الدنيا على الآخرة، ونظروا إلى رئاستهم ومنازلهم في الدنيا ولم ينظروا إلى ربهم سبحانه وتعالى الذي أمرهم أن يعبدوه.
فقوله تعالى عنهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] أي: تكلموا باللغو وبالكلام الباطل الفارغ، واللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ويلقى مهملاً، من الأقوال والأفعال، فكأنه نصح بعضهم بعضاً وتواصوا فيما بينهم أنه إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا أي كلام أمامه ويرفعوا أصواتهم بحيث لا يقدر على أن يتكلم ولا يسمعه أحد، فإذا كان المجلس على هذا الحال خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجلس آخر يدعوهم إلى الله فيقفون له بالمرصاد، باللغط واللغو والكلام الباطل حتى يشوشوا عليه فلا يقدر على إبلاغ رسالة ربه صلوات الله وسلامه عليه، يكيدونه ويكيد الله عز وجل له {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فحاولوا جهدهم أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم من أن يبلغ رسالة الله {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].(404/2)
تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً)
قال الله عز وجل: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27] فلنذيقن: الفاء للترتيب والتعقيب، وبيان النتيجة عند هذا السبب الذي ذكره الله سبحانه، واللام والنون المثقلة للتوكيد الذي يدل على وجود القسم، فكأنه يقول: والله لنذيقنهم العذاب الشديد، فسوف يرون ويذوقون العذاب {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
وقوله: {عَذَابًا شَدِيدًا} [فصلت:27] أي: عذاب النار.
قال الله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27] ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وأسوأ الأعمال التي عملوها الشرك، فيجازيهم الله عز وجل على شركهم فما دون ذلك من الأعمال، ويجزي على الأقبح ثم على غيره.(404/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار)
قال سبحانه: عن الجزاء العظيم الفظيع الذي سيجازى به أعداء الله: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] فالنار جزاء أعداء الله، أو ذلك الجزاء هو النار، {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} لهم فيها دار الإقامة التي لا يخرجون منها أبداً، أدخلهم الله ناراً مؤصدة مغلقة عليهم، يدورون فيها فترتفع بهم وتنخفض، وتغلي بهم، وتندلق أقتاب بطونهم، حتى إنه يغلي دماغ الإنسان في النار -والعياذ بالله -.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] جزاءً وفاقاً؛ لأنهم جحدوا في الدنيا وأنكروا مع اعترافهم في قلوبهم وفيما بينهم أن ذلك هو الحق الذي جاء من عند الله سبحانه، ولكن جحدوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والجحود إنكار ما هو معلوم أنه حق وصواب.(404/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا)
ثم ذكر الله عز وجل مشهداً من مشاهد يوم القيامة، فبعد أن فعل الكافرون ما فعلوا رجعوا سريعاً إلى الله؛ ليجازيهم على أعمالهم القبيحة السيئة، فانتقل من مشهد في الدنيا إلى مشهد آخر في يوم القيامة، وهو عقوبتهم في النار فقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت:29] فالكفار يطلبون من الله، ففي ذلك الوقت عرفوا ربهم، وما كانوا يدعونه في الدنيا إلا إذا نزل بهم الضر، فإذا كانوا في وقت الرخاء لم يطلبوا ربهم ولم يدعوه سبحانه وتعالى، فذكر أنهم قالوا يوم القيامة - متوسلين إلى الله عز وجل -: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت:29] شياطين الإنس وشياطين الجن الذين أضلونا وأبعدونا عن دين الله سبحانه، وأغوونا في هذه الدنيا عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأهل النار يريدون أن يفتكوا بمن ضلوهم، ويدوسوهم بأقدامهم في نار جهنم.
قال الله عز وجل عنهم: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} [فصلت:29] اللذين أي الاثنين، وقرأها ابن كثير بتشديد النون فيها، وبالقصر والتوسط والمد في الياء.
وقوله: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أي: ندوسهم بأقدامنا في نار جهنم، {لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] في أسفل نار جهنم وفي قعرها تشفياً؛ بسبب ما صنعوا فيهم! هذا الكلام يقوله الذين كانوا يستضعفون في الدنيا عند الأكابر الذين كانوا يأمرونهم بفعل المنكر وارتكاب المعاصي ويعدونهم بالدفاع عنهم، فكان هؤلاء المستضعفون من الكفار يأمرهم كبراؤهم بالمنكر، وهم بما في قلوبهم من حقد على دين الله عز وجل، واتباع للهوى وللشيطان، وبما في قلوبهم من فتنة وحب لما هم فيه من مناصب وغيرها يطيعون هؤلاء الكبراء طاعة عمياء في معصية الله سبحانه {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر:26]، فالكفار يبحثون عمن أضلهم من الكبراء الذين اتبعوهم وأطاعوهم في الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] هذا مشهد من حال الكفار في النار.(404/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)
هنا مشهد آخر للمؤمنين الصالحين الذين دعوا إلى الله سبحانه وتعالى يصفهم الله عز وجل بهذا الوصف الجميل وهو قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] فالمؤمنون الذين قالوا: لا إله إلا الله، وشهدوا لله بالتوحيد وبالرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخلصوا ما في قلوبهم وأعمالهم وأقوالهم لله، وتحلوا بالمتابعة الإخلاص، فتابعوا دين الله عز وجل، واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخلصوا لله سبحانه، وتوخوا الحق واتبعوه، وقالوا بألسنتهم ووافقت قلوبهم أعمالهم، فاستقاموا على طريق الله سبحانه، ولم يروغوا روغان الثعالب، ولم يذهبوا يميناً وشمالاً، ولم يتحدوا لا مع شرق ولا مع غرب، ولم يطلبوا غير الإسلام، فهو -فقط- الذي يدعون إليه، ولم يتنازلوا عن شيء من أوامر الله سبحانه، وجعلوا الإسلام العظيم شريعة ومنهاجاً للحياة، فإذا فعل الإنسان ما يرضي الله سبحانه وتعالى كان مع هؤلاء الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، على دين الله.
وإذا وقع في المعصية فالاستقامة أن يبادر إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ولم يقل: إنهم لم يخطئوا، بل إنهم وقعوا في الذنوب، ولكن سرعان ما يفيئون ويعودون إلى ربهم سبحانه وتعالى تائبين.
جاء سفيان بن عبد الله الثقفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، أو أحداً غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) ومقتضى هذه الآية العظيمة: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أنهم استقاموا على طريق الهدى.
والطريق المستقيم أقصر الطرق إلى الجنة، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، ومتابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وإخلاص العمل لله.
يقول الله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، لما استقاموا على الدعوة إلى الله سبحانه، فدعو الناس إلى توحيد الله، فاقتدى الناس بهم في أقوالهم وأفعالهم، متابعين لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عنهم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] عند الموت تتنزل عليهم الملائكة وتقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
إن المؤمن تخرج روحه بعرق الجبين، فقد يشدد عليه عند الموت حتى يكفر عنه ما بقي عليه من سيئات، ولكن مع ذلك فالملائكة تطمئنه وتقول له: لا تخف ولا تحزن فإنك قادم على رب غفور رحيم، اخرجي أيتها النفس الطيبة في روح وريحان، إلى رب غير غضبان، فتخرج روح المؤمن بسهولة، وإن كان قد يعاني ويرشح جبينه عرقاً من شدة الموت فإن ذلك يكفر عنه سيئاته؛ وعندما تخرج الروح تتلقاها ملائكة الرحمة، وتصعد بها إلى السماء ثم تعاد إلى الأرض، ويثبت الله المؤمن بالقول الثابت وهو في قبره، فإذا سئل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك عليه الصلاة والسلام؟ قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، لقد استقام على ذلك في الدنيا فثبته الله عليه في قبره، ففي الدنيا كان يقول: ربنا الله، فثبت على ذلك في قبره؛ لأنه استقام على دين الله، وأخذ بالدين كله بقوة، واتبع نبيه صلى الله عليه وسلم، فعرف الإسلام بحق، وعمل به، وعرف نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما كان في قبره كان جزاؤه من جنس عمله، فقد عرف ربه وحده، فثبت الله لسانه وهو في قبره.
قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] فالخوف دائماً من المستقبل، والحزن غالباً على الماضي، وهنا لا خوف ولا حزن، فالذي يموت وله عيال صغار تقول له الملائكة: لا تخف إن الله سبحانه وتعالى هو الولي الحميد.(404/6)
تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)
قال عز وجل: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] أي: تولينا أمركم، ولن نترك من خلفتم بعدكم، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فالذي يخاف على ذريته من بعده، فليبق لهم ما ينفعهم، وهو تقوى الله سبحانه وتعالى والقول السديد، فبصلاح الإنسان يصلح الله عز وجل ذريته، وبحفظ الإنسان لتعاليم دين الله سبحانه يحفظ الله عز وجل بيته وأهله وأولاده وذريته من بعده، ويحفظه من أن يفتن في قبره، أو يقع في غير ما يرجوه من عذاب الله سبحانه وتعالى.
أما من كان فاجراً عاصياًَ لله إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، وإذا قيل له: من نبيك؟ قال: لا أدري، وإذا قيل له: ما دينك؟ قال: لا أدري، فإذا بين له أن النبي محمد والدين الإسلام يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فلم يكن يعرف معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعيداً عن الله يسخر من عباده المؤمنين.
هذا هو الفرق بين المؤمن التقي والفاجر الشقي، فالمؤمن يذكر الله عز وجل أن الملائكة تثبته: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] أي: لا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، إنكم قادمون على رب غير غضبان عليكم، وعلى رب غفور رحيم سبحانه، ولا تحزنوا على ما تركتم في الدنيا، وعلى ما وقعتم فيها من معاص، فسيغفرها الله عز وجل لكم باستقامتكم في الدنيا.
{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30] البشارة: الإخبار بما يسر الإنسان مما سيقدم عليه، فالمؤمن لا يخاف مما سيقدم عليه، ولا يحزن على ما مضى، ويبشر بما يسره وهي الجنة التي كان ربه يعده بها في الدنيا.
قال الله عز وجل: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] إن الله ولي الذين آمنوا، والملائكة تتولى من تولى الله سبحانه وتعالى، فتطمئنه وتقول له: لا تخف فالله معك سبحانه وتعالى، فتولت المؤمن في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت:31] في الدنيا، وكذلك في الآخرة أي: في الآخرة، وما تشتهي أنفسكم أي: كل ما تتمنونه عند الله عز وجل يعطيكموه.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] أي: ما تطلبونه من الله عز وجل يعطيكم إياه.(404/7)
ولاية الله للمؤمنين في الدارين
قال الله تعالى: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] أي: ضيافةً وكرماً من الله عز وجل، والنزل: طعام الضيف النازل إكراماً له، فهؤلاء ضيوف الرحمن سبحانه وتعالى فلهم ضيافتهم عند الله، {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] الذي يغفر فيستر الذنوب ويرحم ويتجاوز عن سيئات عبده، ويكرمه من فضله.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يرحمنا، إنه هو الغفور الرحيم، وأن يجعلنا من أهل جنته وأن ينجينا من عذابه ومن ناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(404/8)
تفسير سورة فصلت [30 - 36]
الإيمان والاستقامة سببان في تنزل ملائكة الرحمة على المؤمن عند موته، لتثبيته وتبشيره بالجنة، فهي نزل المؤمنين الصادقين، وليس هناك أفضل ممن دعا إلى الله مع العمل بما دعا إليه والاستسلام لأمر الله، وبالإحسان إلى المسيء يكسب الداعي قلوب العباد، ويضع الله له القبول في الأرض، والاستعاذة بالله من الشيطان حصن للمؤمن من كيده ومكره.(405/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:30 - 36].
في هذه الآيات يأمر الله عز وجل عباده بالتخلق والاتصاف بصفات كريمة وعظيمة، أول هذه الصفات: توحيد الله سبحانه والاستقامة على دين الله رب العالمين، والله هو الذي خلق العبد، فلا يكون للعبد أن يعبد إلهاً غيره سبحانه وتعالى، كيف يكون ربه هو الذي خلق والذي رزق والذي أعطى والذي منح والذي أدب وربى، ثم بعد ذلك يعرض عنه ويعبد غيره؟! هذا لا يليق في المنطق العقلي، فلذلك أخبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] أي: عرفوا أن الرب هو الخالق وهو الإله المعبود وحده الذي يستحق أن يعبد ليس غيره، وكان المشركون يعرفون أن الرب هو الخالق؛ ولذلك إذا سئلوا: من الذي خلق؟ يقولون: الله الذي خلق، وإذا سئلوا: من تعبدون؟ يقولون: نعبد غيره سبحانه وتعالى، لم لا تعبدون الله؟ قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فيزعمون أنهم لا يتوجهون مباشرة إلى الله؛ لأنهم ليسوا أهلاً لذلك، وحقيقة الأمر أنهم لا يعبدون الإله الواحد الذي خلقهم سبحانه؛ لكونهم يعرفون أنهم إذا عبدوا إلهاً واحداً وهو الله سبحانه سيتوجهون عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربهم سبحانه، فيعرفون ما الذي شرعه لهم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: هذا أحله الله، وهذا حرمه الله، افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، فصارت القيادة في زعمهم وظنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يريدون ذلك، فقد كان في قلوبهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله اصطفاه واختاره نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه، فبعدهم عن التوحيد سببه من هذا الباب.
فكل إنسان بمزاجه وبحسب ما يريد يعبد الإله الذي يريد، فيصنع تمثالاً من حجر، أو تمثالاً من شجر، أو تمثالاً من مدر، فيعبدون غير الله، حتى لا يتحكم فيهم بزعمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، أما المؤمنون فعرفوا طريق الله سبحانه وعرفوا كيف يرضون الله عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، فيعرفون ما الذي يريده الله عز وجل بأمره، فينبئهم ويخبر الخلق فيتبعون هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيعبدون الله على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: أنا والمؤمنون على بصيرة أتت من عند الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي وهو الذي يبين سبحانه وتعالى.
فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] فعبدوا الله واستيقنوا في قلوبهم أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، ففعلوا ذلك توجهوا إليه من أقصر، طريق، وهو الطريق الذي يريده الله عز وجل طريق الاستقامة على هذا الدين، الذي جاءنا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فأخلصوا لله سبحانه ووحدوه بالعبادة، وتابعوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة، فهم مؤمنون مستقيمون لم يروغوا ولم يلتفتوا عن دين الله إلى غيره، فهؤلاء يستحقون من الله عز وجل أن يكرمهم في الدنيا، وأن يعلمهم وأن يهديهم وأن يوفقهم لطاعته، وأن يدلهم على سبيله وطريقه، وأن يثبتهم عليه سبحانه وتعالى؛ ولذلك في وقت وفاتهم تتنزل عليهم الملائكة وتقول: لا تخافوا ولا تحزنوا نحن كنا معكم في الدنيا بأمر الله عز وجل، والآن نعينكم في هذا الوقت الذي أنتم فيه، فيثبتكم الله عز وجل بالقول الثابت وينور لكم قبوركم، كما نور لكم قلوبكم في هذه الدنيا.
قال تعالى: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] إن المؤمن وهو في قبره يثبته الله سبحانه وتعالى، إذ يأتيه عمله الصالح فيحيط به من صلاة وصوم وغير ذلك، فإذا بملائكة العذاب لا يقدرون له على شيء، فإن الله قد عصمه وقد عافاه وقد نجاه سبحانه، فإذا بملائكة الرحمة تقول له: انظر هذا منزلك في الجنة، يقول: يا رب أقم الساعة كي أعود إلى أهلي ومالي، يقول ذلك من فرحته، فيقال له: نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليها، فيطمئن في قبره، كما يكون قبره روضة من رياض الجنة، فالله ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وبشرته الملائكة بجنة الله سبحانه وتعالى.(405/2)
تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)
قال الله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] أي: لكم في الآخرة ما تشتهي أنفسكم في الجنة، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، فينعمون بالجنة.(405/3)
تفسير قوله تعالى: (نزلاً من غفور رحيم)
من فضل الله سبحانه وكرم الله سبحانه أنه يعد لهم نزلهم، قال تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] يعد لهم ضيافتهم، فيصيرون إلى الجنة جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.(405/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً)
ثم يذكر الله لنا صفات هؤلاء الذين وحدوا الله سبحانه وعبدوه واستقاموا على دينه سبحانه، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] قول بعد اعتقاد في القلب اعتقاد توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي اللسان: قول لا إله إلا الله والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والإحسان إلى الخلق، فأحسنوا باعتقادهم وأحسنوا في معاملتهم فاستحقوا من الله عز وجل الإحسان، بل الحسنى وزيادة.
قوله تعالى: {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} أي: كل من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك المفسرون من الصحابة ومن بعدهم اختلفوا في ذلك، لكن الخلاف الذي بينهم خلاف تنوع وليس خلاف تضاد، فمنهم من يقول: الداعي هو محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهذا صحيح ولا يمنع أن يكون غيره يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ومنهم من يفسر {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] أنه المؤذن، يدعو إلى الله، فينادي الناس للصلاة، وهذا صحيح ولا يمنع أن يكون غيره كذلك داعياً إلى الله، والصواب في ذلك: أنه كل من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، وإمام الدعاة وسيدهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو خير من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك أصحابه جاهدوا في سبيل الله، فدعوا الخلق إلى الله، وكذلك من يدعو الناس إلى الصلاة ويدعو الناس إلى الزكاة ويعلم الناس دينهم، فكل من يدعو إلى طريق الله سبحانه وتعالى داخل تحت هذه الآية ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ)) أي: أحسن الأقوال وأحسن الفعال ما كان نتيجته استجابة لدين الله ودخول في دين الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لكم من حمر النعم، وخير لك مما طلعت عليه الشمس) فإذا دعوت إلى الله سبحانه لا تطلب دنيا، وإنما تطلب الآخرة، فلك أجر عظيم عند الله، فالداعي إلى الله يطلب الآخرة، وجنة الرضوان أعظم ما يطلبه الإنسان، وإذا طلب رضا الله أعطاه الله الدنيا والآخرة، وإن لم يعطه فيها ملكاً أعطاه رضاً في قلبه عن دين الله سبحانه وعن أمره، وأعطاه من يحبه من خلق الله سبحانه وتعالى، وإذا أحب الله عبداً نادى جبريل فقال: (إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه ويوضع له القبول في الأرض)، هذا جزاء في الدنيا قبل الآخرة.
فلابد من الاعتقاد أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في كل وسيلة وكل طريق والعمل الصالح، فلا يقول: أنا أدعو الناس يعملون ويكفي، بل لابد أن يكون عمله مؤيداً ما يقول لسانه ويعتقده قلبه.
قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] سمانا الله عز وجل هذه التسمية الجميلة العظيمة المباركة: مسلم، فلا نبتغي بديلاً عن هذه التسمية العظيمة، نحن من المسلمين، ملة أبينا إبراهيم، والله سبحانه وتعالى سمانا المسلمين من قبل، فأجمل ما تتسمى به قولك: أنا مسلم، أي: مستسلم لله سبحانه وتعالى، مسلم نفسي وقلبي وبدني، وموجه وجهي إليه سبحانه وتعالى، هو يأمرني وأنا أطيعه، هو ينهاني وأنا أفعل ما يقوله سبحانه وتعالى، فأجتنب ما حرم وأفعل ما أمرني أن أفعله.
إذاً: الذي يدعو إلى الخالق سبحانه وتعالى وإلى دينه يستشعر أنه عبد وأنه من المسلمين، فلا يستشعر أنه متطاول على الخلق، يدعوهم لأن له عليهم سلطان، فهو يستشعر في العبودية لله سبحانه أنه عبد يطيع ربه سبحانه، فيدعو الخلق إلى الله لينجو هو وينجو الخلق من عذاب الله يوم القيامة.(405/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)
قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أعظم الحسنات التوحيد، وأقبح السيئات الشرك، ولا يستوي التوحيد مع الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولا تستوي الطاعة مع المعصية، ولا يستوي الإيمان مع الكفر، ولا يستوي العمل السيئ مع العمل الصالح، ولا يستوي المؤمنون مع الكافرين.
قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] يأمرك الله سبحانه أن تدفع خصمك ومن يعاديك بالحسنى، فأحسن إلى الخلق كي تستجلب مودتهم، فالإنسان يستعبده الإحسان إليه، قد يسيء إليك فتحسن إليه فتقل إساءته، ثم تحسن إليه فيستحي منك، فالإحسان إلى الخلق يستعبد الخلق، وهذا الذي يأمرنا الله سبحانه وتعالى.
فالله خالق كل شيء، خلق الشياطين وخلق الإنس وخلق الجان وخلق غيرهم، لك أعداء من الإنس، ولك أعداء من الجن، وعدوك من الإنس أنت تراه، وعدوك من الجن أنت لا تراه، فالله عز وجل يعلمك: كيف تتعامل مع أعدائك، وكيف تدفع هؤلاء الأعداء من الإنس، يقول: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وليس المعنى: أنك تترك الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكن ابدأ بذلك فأَحسِن وتَأَّلف الخلق لعلهم يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فتألف عدوك لعله يستجيب يوماً من الأيام، فتكسب بذلك إنساناً دخل في طاعة الله سبحانه وتعالى، والإنسان بالرفق في دعوة الخلق يجذب إلى دين الله أكثر بكثير ممن يدعو بالقوة وبالبطش وبالعنف؛ ولذلك ما كان الإحسان في شيء إلا زانه، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] إن صفة الدفع بالتي هي أحسن أن تتعامل مع خصمك الذي يسيء إليك بالإحسان لا المكافأة، وإلا فمن أين يكون الفضل لما يكون الأمر على ذلك؟! ولكن عامل الناس بخلق حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا من أجمل ومن أعظم الأخلاق أنك تكون كريماً حليماً في أخلاقك، إذا أساء إليك إنسان لا تدفع السيئة بالسيئة ولكن ادفع السيئة بالحسنة، وعود نفسك العفو والصبر على الإساءة إليك.
فقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] هذه النتيجة، والذي يخبر عن السبب وعن النتيجة هو الله سبحانه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالله أعلم بقلوب الخلق، وما الذي يجذبها وما الذي ينفرها، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والأصل: فبرحمة من الله، ولكن لتعظيم هذه الرحمة قال: (فبما) أي: بأي شيء؟! برحمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى أعطاكها فصرت طيباً مع الخلق ليناً هيناً صلوات الله وسلامه عليه.
قال: ((وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) هذا يقال للنبي صلى الله عليه وسلم، لو كان فضاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، فكيف بغيره عليه الصلاة والسلام؟! فيتعلم العبد المؤمن اللطف واللين ولو مع من أساء إليه، حتى لو قال الناس: إنك ضعيف، فلابد أن تعود نفسك الصبر والحلم إلا إذا كان في حد من حدود الله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلم ويصبر إلا في حد من حدود الله، فكان يقيم حدود الله صلوات الله وسلامه عليه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: ما كان بينك وبين مسلم، وبينك وبين فاجر، وبينك وبين إنسان عداوة إذا أحسنت إليه يصير في النهاية كالولي الحميم، والولي: من الولاية والقرابة، أي: القريب، يعني: كأنه قريبك بعد ما كان بعيداً عدواً صار قريباً منك وقريباً لك وحميماً محباً.(405/6)
تفسير قوله تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
قال الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] أي: ما يلقى هذه الخصلة الطيبة إلا الإنسان الذي تعلم وتمرن على الصبر والحلم، وما يلقى هذه الخصلة العظيمة وهي العفو عن الإساءة إلا الإنسان الصابر.
قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] أي: الذي تعلم أنه يعفو ويصفح ويدفع بالتي هي أحسن هو الإنسان الذي له حظ وقدر عظيم عند الله سبحانه، وأجر عظيم جميل عنده سبحانه.(405/7)
تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله)
قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] هذا عدوك من الجن الذي لا تراه كيف تتعامل معه وأنت لا تراه؟ ففي هذه الحالة ليس لك إلا سبيل واحد وهو أن تلجأ إلى ربك سبحانه، بأن تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا أقصر طريق تدفع به ذلك، ويضربون المثل بذلك: أن الكلب يهجم عليك كلما مررت من عنده، فأفضل طريقة لدفع الكلب أن تذهب إلى صاحبه وتطلب منه أن يحبسه، كذلك الشيطان ما لك طريق معه وأنت لا تراه حتى تقاومه، ولكن تلجأ إلى ربك الذي خلقه وتقول: يا رب أجرني منه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه هي الوسيلة حتى تدفع عنك شر الجن، وهي بأن تتعلم ذكر الله سبحانه وتتعوذ بالله! فتقول أعوذ بالله أي: ألوذ وألجأ وأستغيث وأستعصم وأستنصر بالله سبحانه وتعالى حتى يمنع هذا الشيطان عني.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(405/8)
تفسير سورة فصلت [36 - 38]
خلق الله عز وجل الكون بما فيه بقدرته العظيمة القاهرة، وأخضع كل شيء له سبحانه تبارك وتعالى، وخلق هذا الإنسان وشرفه وكرمه على سائر مخلوقاته، وأمره بعبادته سبحانه وحده، وأخبر أنه إن استكبر الإنسان فإن لله عز وجل ملائكة لا يحصيهم عد لا يستكبرون عن عبادته، ويعبدونه حق عبادته، ولا يعصونه سبحانه وتعالى.(406/1)
تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:36 - 38].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى العباد عن كيفية مدافعة الشيطان وطرد وسوستة عن أنفسهم بعد أن ذكر كيف ندفع بالتي هي أحسن السيئة، في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فأخبر أنك تدفع الإنسان العدو بالحسنى؛ لعل الله عز وجل يؤلف قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا بحسن خلقه وبما علمه من ربه سبحانه تبارك وتعالى أن ندفع كيد الإنسان بالتي هي أحسن، قال الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فيتعامل المؤمن مع غيره بالرفق قدر المستطاع، ولعله يؤجر على الرفق الأجر العظيم من الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس المعنى أن الإنسان يذل نفسه أو يتنازل عن حقه إذا كان مظلوماً ولا يقدر أن يأخذ حقه، ولكن المعنى: أن الإنسان يحسن إلى من أساء إليه، فإذا أساء إليك إنسان في وقت وقدرت أن تنتصف منه وأن تنتصر عليه فلك خياران: إما أن تفعل وتنتصر ولا شيء عليك، وليس عليك من سبيل في ذلك، وإما أن تعفو وتصفح مع قدرتك عليه، فهذا أعظم لك في الأجر عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا انتصرت فإن الله يقول: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]، فإذا ظلمت فانتصرت من الذي ظلمك فلا سبيل عليك ولا حرج ولا إثم، ولكن إذا عفوت فالعفو أعظم في الأجر عند الله سبحانه تبارك وتعالى قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]، وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
إذاً: معاملتك للإنسان الذي هو خصم لك إن لم يكن في حد من حدود الله عز وجل لك أن تعفو ولك أن تنتصر فإذا كان في حد من الحدود فليس لك أن تعفو عن حد من حدود الله سبحانه تبارك وتعالى، وعليك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، ولا تسكت على منكر, ولا تسكت على باطل.
وإذا كان الشيطان ينزغ ويوسوس للإنسان، فقد علمنا الله عز وجل أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال هنا سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]، ومعنى قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي: ألجأ وألوذ وأستغيث وأستعصم بالله سبحانه من كيد الشيطان.
ومن أعظم الأشياء التي تؤلف بين قلوب المؤمنين أن تسلم على صاحبك، فإذا كان بينك وبين إنسان شيء ومررت عليه فالق عليه السلام، فهذا خير عظيم وتؤجر عليه، فإذا قلت له: السلام عليك فتؤجر عشر حسنات، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله، فتؤجر عشرين حسنة، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فتؤجر ثلاثين حسنة.
وكذلك التسليم مع المصافحة تؤجر عليه هذا الأجر وأيضاً تتساقط الذنوب من بين أيديكما فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، يعني: يأخذ أحدهما بيد صاحبه، قال: فلا يتفرقان إلا وقد غفر الله لهما، أو قال: فتتساقط الذنوب من بين أيديهما).
فإذا سلمت على صاحبك ومددت يدك إليه مسلماً مصافحاً محباً له، فقد بدأت بالحسنى، فتكون النتيجة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تتساقط من بين أيديكما.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينك) فالسلام يجلب المودة والمحبة بين المسلمين، والتسليم يرفع الشحناء والعداوة والبغضاء التي في القلوب، والإنسان الذي يمر على الآخر ولا يسلم عليه قد يُحدث في نفسه شيئاً فيعامله بالمثل.
فالتسليم يرفع عن قلب الإنسان ما فيه من شحناء وغضب وبغض وكراهية كما قال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
فإذاً: من ضمن الدفع بالتي هي أحسن أن تسلم على أخيك.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام، وأخبرنا بأن من علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد ولا يصلي فيه، ولا يسلم إلا على من يعرف، فمن علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد يتحدث، كما تجد الكثير من الناس اليوم يدخلون المسجد يسألون بعض الأسئلة ثم يخرجون ولا يصلون.
أو يدخلون الجنازة إلى المسجد ويخرجون ينتظرون إلى أن ينتهي الناس من الصلاة عليها ويمشون مع الجنازة إرضاء لأهلها، ولا يرضون ربهم سبحانه تبارك وتعالى في ذلك.
فمن علامات الساعة: أن يمر الرجل بالمسجد ولا يصلي فيه، ومن علاماتها: ألا يسلم إلا على من يعرف، ومن لا يعرفه لا يسلم عليه، فيجلس المسلمون متنافرين، ولا يعرف أحد أخاه، وقد خلق الله عز وجل العباد وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن من مقومات وجود المحبة بين قلوب المؤمنين: الصفح والعفو وإفشاء السلام بينهم.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [فصلت:36]، النزع: أدنى الحركة، فنزغ بمعنى: تحرك حركة بسيطة جداً، فيكون معنى الآية: إما يستفزنك من الشيطان شيء ولو كان شيئاً بسيطاً جداً من وسوسة الشيطان، ليصدك بها عن أن تعفو عن صاحبك، كأن يدخل في نفسك ويقول لك: ولماذا تعفو عنه؟ وهل أنت ضعيف؟ فاذهب واضربه وافعل فيه كذا وكد له، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأتى سبحانه هنا بهذين الاسمين السميع والعليم، أي: أنه يسمع ما تقول، ويعلم ما تخفيه في قلبك من ناحية أخيك، ويعلم ما ألقاه الشيطان من وسوسة في قلبك حتى تنتقم ممن أساء إليك، وتبتعد عن مقام العفو عنهم.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [فصلت:36]، أي: أدنى وسوسة من الشيطان فأعرض عنه، والجأ إلى من خلقك وهو الله سبحانه، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] أي: السميع الذي يسمع كل شيء، والعليم الذي يعلم كل شيء من أقوال وأفعال ونوايا.(406/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي علمك العفو، وهو يقول لك سبحانه: إنه يعفو عن خلقه مع إجرامهم في حقه سبحانه ومع ذنوبهم العظيمة وكثرة خطاياهم إلا أنهم إذا تابوا إلى الله فإن الله يتوب عليهم سبحانه تبارك وتعالى، والله هو السميع الذي يسمع ما يقوله العباد، وهو العليم الذي يعلم ما يفعلون، وهو القادر على أن يعاقبهم، ومن آيات قدرته سبحانه تبارك وتعالى أنه خلق السموات والأرض، أفليس بقادر على أن يعاقب هؤلاء، وقد سمع ما قالوا، وعلم ما نووا وفعلوا؟! ومع ذلك يتجاوز ويعفو ويصفح عنهم، فاعف أنت أيضاً، وهذا من جمال الترتيب في هذه الآية، فقد ذكر لك مقام العفو، وأنك إذا عفوت لم ينقص ذلك من قدرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فلما ذكر مقام العفو، وأن الشيطان إذا نزغ فاستعذ بالله القادر الذي يسمع ويعلم ويقدر عليك وعلى خصمك وعلى الشيطان، عقبها بذكر قدرته على خلق السموات والأرض، فهو الذي خلقهما، فانظر في آياته لتعرف قدرته سبحانه تبارك وتعالى العظيمة.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} [فصلت:37] أي: ومن علامات قدرته ومعجزاته سبحانه، {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] فقد خلق الليل وخلق النهار كل منها عكس الآخر، وخلق الشمس والقمر بحسبان، أي: يجريان بحساب.
قال سبحانه: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت:37] أي: احذروا أن تسجدوا للشمس والقمر كما فعل الكفار ذلك، فسجدوا للشمس، وقالوا عنها: إنها إله تستحق العبادة، وهي مخلوق خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، وكذلك القمر آية من آيات الله، خلقه سبحانه لتعرفوا قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، لا لتعبدوها من دونه سبحانه.
قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} [فصلت:37] فإن الشمس مخلوقة مسخرة، والقمر كذلك.
قال تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت:37] أي: الإله المعبود الحق سبحانه تبارك وتعالى، فهو الذي خلقهن، وخلق السموات والأرض وخلق الليل والنهار، وخلق البلاد والعباد، وخلق كل شيء.
قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37] أي: إن كنتم تبعدون الله حقاً، وإذا عرفتم أنه الرب الخالق الذي يستحق أن يعبد وحده، فهو الرب، وهو الإله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا عبدتموه فوحدوه وحده ولا تشركوا به أحداً.(406/3)
تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له)
قال تعالى: {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] أي: عن ذلك، وعن عبادة الله سبحانه، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] الإنسان مخلوق ضعيف حقير، خلقه الله عز وجل من تراب ومن نطفة، ثم كرمه الله لا لأصل خلقته، ولا لأنه أصلاً شريف، فهو مخلوق من طين ومن تراب ومن شيء يستقذره الإنسان، ويطأه بقدميه، فقد خلق من نطفة يستقذرها فيغسلها، فهو ليس شريفاً بأصل خلقته، وإنما الله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي شرفه وكرمه، فإذا أبى أن يعبد الله حقره الله ورده إلى أسفل سافلين والعياذ بالله بعد أن كرمه وسواه وعدله، فإن استكبر عن عبادة الله {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت:38] يعني: الملائكة، والخلق الذين عند الله سبحانه، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت:38].
وعدد ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى لا يحصى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا فيها ملك قائم أو راكع أو ساجد).
قوله: (أطت السماء) من: أط السقف، بمعنى: أنه كاد يهوي من الثقل الذي عليه، فقد بدأ يهتز ويكاد أن يقع وينشق، (أطت السماء) أي: كادت السماء أن تهوي، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، فالسموات ثقيلة، وفيها ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فمن ثقل الملائكة تئط السماء مثل السقف الذي يهتز ويكاد أن يهوي، ولكن الله عز وجل يمسكها أن تزول من ثقلها، وقد خلقها الله، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وكذا الملائكة يعبدون الله سبحانه بالليل وبالنهار ويسبحونه وينزهونه ويقدسونه سبحانه، قال تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] أي: لا يتعبون، ولا يملون من عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، وخلقهم الله وكرمهم، وهم مخلوقون من نور بأصل خلقتهم، فهم مكرمون عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه الآية إشارة إلى أنه ينبغي ويجب على العباد أن يسجدوا لله سبحانه تبارك وتعالى، كما تعبده الملائكة ويسجدون له، وأن يخشعوا لله سبحانه كما أن الملائكة تسجد وتخشع، والسموات والأرض كذلك، ولذلك عقبها بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]، فخشعت السموات وخشعت الأرض لله سبحانه تبارك وتعالى، وسجد كل شيء كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
وهذه الآية إحدى سجدات القرآن، وسجدات القرآن كلها متأكدة الاستحباب، مع الاختلاف الذي في سورة ص بين الشافعي والجمهور، والغرض: أن هذه إحدى السجدات التي في القرآن، والتي يستحب لمن قرأها أن يسجد إذا كان في وقت سجود، وليس في أوقات الكراهة أو التحريم، سواءً كان في الصلاة أو في غير الصلاة والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(406/4)
تفسير سورة فصلت [39 - 41]
من آيات الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الله الموتى ويبعثهم، والذين ينكرون آيات الله لا يخفون على الله، بل لقد أعد لهم عذاباً أليماً يوم القيامة؛ لأنهم كذبوا بالله وبرسوله وبكتابه.(407/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:39 - 41].
يخبر الله سبحانه وتعالى عن آياته العظيمة، فهو الذي خلق السموات والأرض وجعلهما آيتين للعباد، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، وهو الذي خلق كل شيء من أصغر الأشياء إلى أكبر وأعظم الأشياء، قال الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد سبحانه وتعالى، ففي كل شيء إعجاز، في خلق أصغر شيء، وفي خلق أكبر الأشياء، قال الله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] وذكر من آياته العظيمة فيها: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:28 - 31]، فجعل هذه آيات للعباد لمن يتذكر ولمن له قلب.
من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة الأرض هذه التي نسير عليها فهي من بعض آيات الله عز وجل في هذا الكون العظيم، فأنت ترى الأرض خاشعة هامدة يابسة، وهذه الأرض الخاشعة إذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39] كأنك تسير فوق الأرض في الصيف في حال الجفاف، وترى هذه الأرض ساكنة لا تهتز، وهي أمامك أرض يابسة لا نبت عليها إلا ما يشاؤه الله سبحانه وتعالى، ثم إذا نزل عليها المطر من السماء جعل الله لكم آية حتى تقيسوا على ذلك إحياء وإخراج الموتى يوم القيامة فجأة تهتز الأرض وتربو الأرض ويخرج منها النبات، فالذي أحيا هذه الأرض أليس {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].
فمن آياته العظيمة أنك ترى الأرض اليابسة الخاملة الساكنة الساكتة ينزل الله عليها المطر من السماء فتهتز وتربو، والأرض فيها كائنات ومخلوقات لا تراها بعينك، والله سبحانه وتعالى يعلم عنها كل شيء، فهو الذي خلقها بداخل هذه الأرض، يقول العلماء: إن في الأرض أشياء كثيرة جداً من البكتريا والفطريات والطحالب والبذور والسيقان الأرضية والبصلات والبصيليات وحويصلات فيها ديدان وحشرات وجراثيم وأشياء موجودة بداخل الأرض وهي ساكنة ساكتة، هذه الأشياء تعيش تحت الأرض في سبات عميق لا توجد مياه نازلة عليها فهي لا تتحرك محافظة على أنفسها في هذه الحالة الساكنة، وتنخفض فيها العمليات الحيوية إلى أدنى معدل فيها، فلا حركة موجودة في هذه الأشياء، فالأرض هامدة ساكنة وما بداخلها كذلك هامد ساكن، بعد ذلك ينزل المطر من السماء على هذه الأرض، فتمتص الأرض هذه المياه النازلة من السماء، فتبدأ الحركة في الأشياء الموجودة بداخل هذه الأرض، الجراثيم تتحرك، والبكتريا والطحالب والديدان والحويصلات والبويصلات والبصلات والسيقان الأرضية والجذور وكل شيء بداخل هذه الأرض يتحرك، وتحصل عملية حيوية عظيمة جداً بداخل الأرض؛ لتنتفع أنت منها بعد ذلك مما يخرج الله عز وجل من النبات، والبذور الموجودة بداخل الأرض ساكتة، ولما ينزل عليها الماء تهتز وتتحرك بداخل هذه الأرض، وتسري فيها الحياة وتهتز الأرض بحركة ما بداخلها، ملايين الملايين من الكائنات الموجودة داخل الأرض كل منها يأخذ رزقه ويبدأ في الحركة، فإذا بالأرض تهتز وتتحرك وتربو الأرض وتنتفخ وترتفع.
يقول العلماء: تبدأ عمليات الانقسام بداخل الأرض، إذ إن الكائن الذي بداخلها ينقسم إلى اثنين وإلى ثلاثة وإلى أربعة انقسامات خلوية يعلمها الله سبحانه ويدبر أمرها، فيبدأ امتصاص الماء بداخل الأرض، وتحليل الغذاء الذي كان معقداً إلى مواد بسيطة ينتفع منها النبات.
يقول العلماء: بعد ذلك تبدأ عملية التأين العجيبة في جزيئيات التربة، إذ تتجمع الجزيئيات في جزيئيات التربة، وتنشط الديدان الأرضية في شق الأنفاق الأرضية وتأكل تربة الأرض وتخرجه تربهً أخرى أقل تعقيداً مما كانت قبل ذلك، وتبتلع كميات هائلة من التراب المتناسق المعقد، وتخرجه تربة خصبة طيبة مفككة، وتزداد التربة في حجمها فإذا بالتربة الأرضية تعلو، والتراب المتحجر أخذتها هذه الديدان وأخرجتها تراباً نقياً، كان متجمعاً فصار مفتتاً؛ فربت الأرض وانتفخت وعلت، كما ترى في العجين حين تأخذ الدقيق وتسكب عليه الماء وبعد ذلك تغطيه وتتركه فيتخمر ويربو ويعلو، ولعله يفيض من الحلة وينزل، كذلك الأرض يجعلها الله عز وجل فتربو وتنتفخ ثم تخرج ثمارها فينتفع الإنسان بذلك.
قال سبحانه وتعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] (ربت) بمعنى: علت هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (وربأت) بمعنى: انتفخت وعلت.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] أي: كهذه الحياة التي دبت في الأرض بقدرة الله سبحانه ولم تتدخل أنت فيها، فالله على كل شيء قدير، كذلك يأمر من في القبور بالخروج إلى البعث والنشور فيحييهم الله عز وجل للجزاء وللجنة أو للنار.
قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].(407/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] لحد في الشيء بمعنى: مال، يَلْحد الإنسان بمعنى: يميل، يصير مائلاً عن هذا الشيء ويُلْحِدُ كذلك، فالمعنى نفسه في الفعل الثلاثي والرباعي، والأصل في الإلحاد: الميل والزيغ والعدول عن الشيء إلى غيره، وهذه تُقرأ بالفعل الثلاثي والرباعي، قرأها حمزة: (إن الذين يَلحِدون في آيتنا)، وقرأها الجمهور فعلاً رباعياً: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا)) بمعنى: يميلون عنها ويزيغون عن الحق الذي أتيناهم به، يلحدون بالإعراض وبالتكذيب في آيات الله عز وجل واتهام النبي صلى الله عليه وسلم، وبتأويل آيات الله عز وجل على غير ما يريده الله سبحانه وتعالى.
ولذلك العلماء يقولون في هذه الكلمة (يلحدون): نزلت في المشركين ومنهم أبو جهل وغيره من الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا بما جاء به ومالوا عن الحق إلى الباطل، فهم يلحدون في دين الله سبحانه وتعالى، ولما قالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فإن هذا من الإلحاد والمشاقة والعناد، فهم يلحدون في آيات الله سبحانه وتعالى، ويوصي بعضهم بعض باللغط إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيهجرون فلا يسمع أحد ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء لا يخفون على الله، والمعنى فيه ما فيه من التهديد من الله عز وجل والوعيد لهؤلاء، أي: انتظروا وسترون ما الذي نصنعه بكم! قال تعالى: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] أي: نحصي عليهم كل شيء يقولونه ويفعلونه، وليس هباءً ولا سدى، ولكن لنجازيهم يوم القيامة ونحاسبهم على ذلك.
قال تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:40] أي: الذي يُلقى ويقذف في نار جهنم والعياذ بالله لا قيمة له، بل هو بمنتهى الإهانة والتحقير، يؤخذ كالدابة ويلقى في نار جهنم، هل هذا خير أم الذي يأتي يوم القيامة ويؤمنه الله عز وجل من العذاب الأكبر ومن الفزع الأكبر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فقوله: (فاصنع ما شئت)، فيه من التهديد ما فيه، يعني: انتظر العقوبة على ذلك واعمل الذي تريده، وسترى عقوبة الله عز وجل التي تنزل بك، وكذلك هنا: (اعملوا ما شئتم) ليس المعنى: أن الله عز وجل يدعوهم إلى الباطل حاشا له سبحانه! ولكن هم أصروا على الباطل، فالمعنى: استمروا فيما أنتم عليه، وسترون ما يأتيكم من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا تهديد من الله.
قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] إنه يراكم ويحصي عليكم، فلا تخفون عليه سبحانه وتعالى.(407/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41] فالذين يلحدون في آيات الله عز وجل وهم الكفار عبر الله عز وجل عنهم بأنهم يلحدون في آيات الله ويعرضون عنها ويميلون عنها، ويدعون غيرهم إلى عدم سماع ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يكفرون بهذا القرآن، فيكذبون ما فيه من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأنه مستحق للعبادة وحده، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فكذبوا وقالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] الذكر هنا بمعنى: القرآن، أي: إن الذين كفروا بهذا القرآن العظيم لما جاءهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)) أي: كتاب الله العظيم العزيز، العزيز: الغالب الذي لا يغالب مهما أرادوا أن يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فقد غلبهم القرآن وقهرهم، ولما أرادوا أن يلحدوا فيه وأن يحرفوا الكلم عن مواضعه حفظه الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولما أرادوا أن يدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ويلبسوا عليه إذا بالله يعصمه ويحفظه، فالقرآن غالب مهما أرادوا أن يجادلوا بالباطل، قهرهم كتاب الله سبحانه وامتنع عليهم أن يدخلوا فيه شيئاً من باطلهم وإنه لكتاب عزيز، وكم أراد هؤلاء الكفار من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة أن يلحدوا في آيات الله سبحانه وأن يحرفوا وأن يبدلوه، ولا تزال طائفة من أمة النبي صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرين ينصرهم الله سبحانه وتعالى بهذا القرآن العظيم لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، وقد أراد المشركون تبديل كلام الله سبحانه، فالقرآن عزيز ممتنع ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي كل عصر من العصور يوجد من يريد أن يلقي شيئاً في هذا القرآن العظيم ويرده الله سبحانه مدحوراً، حتى في زماننا أراد هؤلاء الكفرة الملاعين أن يلغوا آيات من كتاب الله، وأمروا المسلمين في بلادهم ومنافقيهم بإلغاء آيات الجهاد، وأنهم سينزلون مصحفاً جديداً مكان هذا المصحف ليس فيه هذه الآيات، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، بل قهرهم الله وأذلهم وأرانا فيهم الآيات.
نسأل الله عز وجل أن يخرب عليهم بيوتهم وديارهم كما خربوا ديار المسلمين، وأن يلعنهم الله وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(407/4)
تفسير سورة فصلت [41 - 44]
يكذب الكفار بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه الدعوة إلى تحقيق كلمة لا إله إلا الله، وهي دعوة جميع الأنبياء، وقد أنزل الله هذا القرآن بلسان عربي مبين، وجعل فيه هدى وشفاء للمؤمنين، ومن أعرض عنه كان من الضالين التائهين.(408/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:41 - 44].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن الذين يكفرون بهذا القرآن العظيم ويلحدون في آيات الله سبحانه تبارك وتعالى فيكذبون ويشاقون ويميلون عن الحق الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، ويزيغون عنه، فهو عليم بهم، ولا يخفون على الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد أعد لهم العذاب الأليم يوم القيامة، فقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت:41].
الذكر هو القرآن العظيم، فإن فيه ذكركم وشرفكم، وفيه ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وفيه ذكر ما يريده الله عز وجل منكم من خير، وفيه ذكر الجنة وذكر النار، فهو الذكر الحكيم من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41] أي: كتاب أعزه الله سبحانه، وجعل له القهر على غيره، وجعله كتاباً مهيمناً على غيره من الكتب، وشاهداً عليها، وهو الكتاب الحق الذي يعمل به، ونسخ غيره من الكتب ولا ينسخ أبداً، ويعمل به حتى تأتي الساعة.
وهو غالب لا يغلب، من جادل به نجا، ومن علم به أفلح، ومن تقرب به إلى الله سبحانه تبارك وتعالى نجح.(408/2)
تفسير قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
قال الله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] أي: لا يأتيه ما يبطله مما تقدم قبله أو بعده، فلا كتب قبله تنسخه أو تدل على بطلانه، وإنما الكتب السابقة تدل عليه، فقد بشرت بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وبما يأتي به من عند الله سبحانه، ولا ينزل كتاباً بعده ينسخه، بل إذا نزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام عند قرب قيام الساعة وهو من العلامات الكبرى لقيام الساعة فإنه يحكم بهذا القرآن العظيم، ويرفع الجزية ويقتل الخنزير ولا يقبل إلا هذا الدين العظيم الذي يعمل فيه بكتاب رب العالمين.
فلا يستطيع أحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، فإن الذي تكفل بحفظه هو الله سبحانه القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فهو كتاب عظيم وغالب لغيره، ومن أراد أن يجادل فيه غلبه هذا القرآن وقهره، فهو يتحدى الخلق أن يأتوا بمثله، كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
وكذلك تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فما استطاعوا، وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فما استطاعوا أن يأتوا بسورة من مثله.
فهذا القرآن العزيز الغالب المنيع الجانب الممتنع من أن يأتي إليه باطل، ومن أن يأتي أحد بمثله أو أن يعارضه بشيء، أنزله الله رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
أي: نزل من عند الذي من أسمائه الحسنى وصفاته العلى أنه سبحانه الحكيم الحميد.
فهو حكيم في أقواله وأفعاله وتقديراته وقضائه وقدره.
وهو حميد مستحق للثناء، يحمد سبحانه لذاته ولصفاته ولعلوه سبحانه، ولأفعاله العظيمة الجميلة، فهو المحمود سبحانه تبارك وتعالى، الذي أنزل هذا القرآن الذي فيه الهدى والنور والشفاء، والذي فيه الشريعة التي يحكم بها العباد ليتقربوا إلى الله فيستحقوا أن يكونوا من أهل جنته، فهو الحكيم فيما نزل سبحانه وفيما شرع.
أنزل هذا القرآن مفرقاً لحكمة من الله سبحانه، ولو نزل مرة واحدة ما قاموا به، ولا استطاعوا أن يعملوا به، ولكن نزل شيئاً فشيئاً حتى اكتمل، ليعملوا بجميع ما فيه، وليربيهم به، فهو الحكيم في إنزال هذا القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، وحكيم في وقت تقدير إنزاله، وحكيم في اختياره على من ينزل لأي أمة تصلح له ويصلح لها، وهو محمود على ما أنزل وعلى ما شرع وحكم سبحانه تبارك وتعالى.(408/3)
تفسير قوله تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)
قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43].
القول إما من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو من الخلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فالذي قيل لك من الخالق والمخلوق هو الذي قيل للسابقين من قبلك.
فمن الله قوله لك: هذا القرآن العظيم نزل من عنده، فادع الناس إلى ربهم سبحانه تبارك وتعالى، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وادعهم إلى التوحيد، وليس هذا بالشيء الجديد المبتدع، وكذلك الأنبياء والرسل السابقون فقد جاءوا بلا إله إلا الله، فما يقال لك إلا ما قد قيل للسابقين، أن قولوا: لا إله إلا الله وأن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
أي: اعبدوا إلهاً واحداً هو الذي خلق ورزق وربى، والذي أنزل هذا القرآن، وهو الله سبحانه تبارك وتعالى.
والرسل السابقون عليهم الصلاة والسلام دعوا الخلق إلى إله واحد، فأبى المشركون إلا أن يعبدوا غيره، قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23].
فقالوا: الزموا آلهتكم وابتعدوا عن هؤلاء الأنبياء فلا تتبعوهم، وكذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقف له عمه أبو لهب والمجرم أبو جهل وغيرهما من الكفار والمجرمين، يعارضونه صلوات الله وسلامه عليه، ويمنعونه من تبليغ رسالة الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهي سنة الله في خلقه أن يقابل النبي الذي بلغ رسالة الله بالرفض والتكذيب والإعراض، قال الله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43].
والله سبحانه تبارك وتعالى هو الرب القوي القادر على أن يغفر وأن يعذب العذاب الأليم، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43].
فالله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فالله ذو مغفرة، وهو الذي خلقك ورباك، فهو صاحب مغفرة، ونكرها على أنها مغفرة عظيمة جداً فهو يغفر الذنوب جميعاً سبحانه تبارك وتعالى، إذا تاب العبد إلى الله، وتاب الله عز وجل عليه.
وأيضاً الله ذو عقاب أليم لمن أعرض عن الله وكذب وجحد وشاق ربه سبحانه وحاد عن دينه، فيستحق العذاب الأليم الموجع من الرب العظيم سبحانه تبارك وتعالى.(408/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته)
قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) [فصلت:44].
تساءل الكفار فيما بينهم فقالوا: لماذا نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل على أحد آخر من الأعاجم؟ ولماذا لم ينزل على أحد من الملوك والأكابر؟ ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
فكأنهم استكثروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه قرآن من عند رب العالمين، والله يصطفي من خلقه من يشاء، فيجعله رسولاً صلوات الله وسلامه عليه.
فيقول الله عز وجل لهؤلاء الجهلة: لو فرضنا نزول هذا القرآن بلسان أعجمي، أو انعكس الأمر فنزل قرآناً عربياً على إنسان أعجمي، فإن العقل سيرفض هذا الشيء، وستقولون: لسانه غير لساننا فلا نفهم ما يقول، فلا نريد إلا قرآناً عربياً نفهمه، فأنزل الله هذا القرآن: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
أي: أنزل الله تعالى هذا القرآن باللغة العربية على العرب الفصحاء ليعجزهم به، فإنهم يفهمونه ويعلمون ما فيه، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة.
فلو جعلنا هذا القران قرآناً أعجمياً لكنتم تعجبتم وقلتم: كيف يكون قرآناً أعجمياً على إنسان عربي؟ وأيضاً: {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:44].
أي: بينت وميزت هذه الآيات للعرب بلسان عربي، وجعل القرآن الذي نزل بلسان أعجمي للعجم، فجعلناه كله قرآناً عربياً ليس أعجمياً، ونزل عليكم حتى تفهموه، وتبلغوه إلى غيركم من الأمم.
ومعنى أعجمي يعني: بلسان آخر غير اللسان العربي، واللسان العربي أفصح الألسنة، وكأن غيره معه كلا شيء، فالإنسان العربي لسانه مبين، وفصيح، واللسان الأعجمي أقل منه بكثير، والعرب لا يفهمون هذا اللسان.(408/5)
القراءات في قوله تعالى: (أأعجمي وعربي)
هذه الكلمة: {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44] فيها خمس قراءات، لما كان النطق عند العرب بالهمزتين المتتاليتين ثقيلاً، سهلوا الهمزة الثانية، أو أدخلوا بينها وبين الهمزة الثانية ألفاً، أو أدخلوا بينهما ألفاً وسهلوا الثانية، وجاءت القراءات بحسب ما ينطق هؤلاء تسهيلاً عليهم، فيسر الله عز وجل القرآن للذكر للتلاوة بلهجتهم وقراءتهم، فهذه القراءة الأولى: قراءة قالون ومعه أبو جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة ابن ذكوان بخلفه: {آأعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] فسهلوا الهمزة مع إدخال الألف.
القراءة الثانية: قراءة حفص عن عاصم والبزي عن ابن كثير ويقرؤها أيضاً ورش وابن ذكوان بخلفه من وجه آخر: {ءاعجمي وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] فالهمزة الثانية مسهلة فلا تقرأ هاءً (أهجمي)، ولا تقرأ همزة واضحة، وإنما بين بين.
القراءة الثالثة: قراءة الأزرق عن ورش: {آعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، بالمد فيها.
القراءة الرابعة: قراءة البزي ورويس بخلفهما: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، هذا وجه، ووجه آخر لهما: {أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، بهمزة واحدة.
القراءة الخامسة: قراءة هشام وله ثلاثة أوجه فيها، فيقرؤها بالتسهيل {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44].
وبالتسهيل والإدخال {آأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44].
ويقرؤها أيضاً: (أعجمي وعربي).
وقراءة باقي القراء وهم: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44].
إذاً: فمجموع القراءات في الهمزة خمس قراءات: التسهيل فيها: {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44].
والتسهيل والإدخال فيها: {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44].
وبالمد الطويل، يقرؤها الأزرق عن ورش: {آَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44].
ويقرؤها شعبة وغيره {َأَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44].
ووجه آخر للبزي ورويس فيها بهمزة واحدة {َأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44].
والمعنى في جميع القراءات واحد وهو الاستفهام للتعجب، أي: كيف ينزل قرآن عربي على رجل أعجمي أو قرآن أعجمي على عربي؟ فإما أن يكون عربياً على عربي، أو عجمياً على أعجمي، فلما جاء على الذي لا تريدونه تتضجرون من ذلك وترفضون وتقولون: لولا نزل هذا القرآن على رجل آخر أو لو جاء بلسان آخر، فقل مجيباً لهم: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44].
فالقرآن شفاء من عند رب العالمين، ولقد وصف الله سبحانه تبارك وتعالى هذا القرآن بأنه ذكر ونور وهدى وشفاء لما في الصدور.
وهذا القرآن العظيم جاءكم الله عز وجل به ليهديكم وينير لكم قلوبكم وطريقكم، ففيه النور من الله، وفيه الذكر، فتذكرون الله بتلاوته وبالعمل فيه، وفيه الشرف لكم، وفيه الشفاء للصدور من الشك، ومن ظلمات الكفر والضلال، أما الذين لا يؤمنون ففي آذانهم وقر وهو صمم وثقل فلا يسمعون ولا يفهمون، وهو عليهم عمى.(408/6)
الفرق بين المؤمن والكافر عند سماع القرآن
الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن حين يتلقى ويسمع القرآن يفتح قلبه فيحب القرآن فيشفيه الله عز وجل به، وينير له قلبه وطريقه، والكافر المعاند المشاقق لربه ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فإن القرآن عليه عمى فلا يفهم منه شيئاً، وكأنه ثقيل على أذنه، فهو لا يسمع ولا يفهم ولا يعقل، فهم ينادون من مكان بعيد في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا ففيه صمم، فالأصم هو الذي يناديه إنسان قريب منه فلا يسمعه كأنه بعيد عنه جداً، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] والمعنى: كأنك تناديهم وأنت في بلد وهم في بلد أخرى، فلا يفهمون ولا يعقلون منك شيئاً، وهذا بسبب قسوة قلوبهم.
فإذا جاءوا يوم القيامة عوملوا بمثل ذلك فينادون مفضوحين من مكان بعيد بشر أسمائهم وأقبحها، فإذا نودوا من مكان بعيد سمع جميع من في الموقف أسماء هؤلاء وما يقبحون به يوم القيامة، فكانت فضيحة لهم في الآخرة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(408/7)
تفسير سورة فصلت [45 - 46]
إن طريق الدعوة إلى الله ومقارعة الكفار درب شاق يؤذى صاحبه، وقد يضيق ذرعاً من هذا الأذى، لكنه حين يتذكر سلفه وصبرهم يطمئن ويشتد عزمه على المضي؛ ولذا ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه سوف يصيبه مثل ما أصاب الأنبياء قبله، وسيجازي الله كلاً بعمله.(409/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ثم أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:45 - 46].
في هذه الآيات يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أنه آتى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الكتاب، و (أل) في الكتاب هي العهدية، والمعنى: المعهود المعروف الذي هو التوراة.
قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [فصلت:45] فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان المشركون يؤذونه ولا يقبلون منه ويختلفون عليه صلوات الله وسلامه عليه بأكاذيبهم، فمنهم من يقول: هو مجنون، ومنهم من يقول: هو ساحر، ومنهم من يقول: هذا كذاب، فيواسيه ربه سبحانه تبارك وتعالى: بأنك لست بدعاً من الرسل، وليس هؤلاء أول من قالوا لنبيهم هذا المقال، فقد آتينا من قبلك موسى الكتاب.(409/2)
الحكمة من تكرار ذكر موسى عليه السلام في القرآن
كثيراً ما يذكر ربنا سبحانه تبارك وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام؛ ليتأسي به، فهو صاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى بكتاب من عند الله فيه الشرع، وأمر قومه أن يتبعوه على ذلك، وأوذي موسى أذى كثيراً فصبر، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتسي به وبالأنبياء من قبله، قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وإن كان الذي قبل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة هو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لكن موسى صاحب كتاب تشريع، أما عيسى عليه الصلاة والسلام فقد كان صاحب كتاب حكم ومواعظ وبشارة، وإنما جاء ليحكم بشرع من قبله، وهو شرع موسى عليه الصلاة والسلام.
وقد تشابه موسى ونبينا صلى الله عليه وسلم أن كلاً منهما صاحب كتاب شريعة، ومعنى شريعة: أحكام من الله عز وجل يشرعها لعباده منهاجاً للحياة ليعملوا بها، وكذا كانت التوراة، ولذلك لما يذكر الله التوراة يقول: {وَمِنْ قَبْلِه كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17] أي: من قبل القرآن، فلما كان كتاب موسى كتاب تشريع؛ كان هو كتاب التشريع الذي قبل القرآن، إذ القرآن كتاب تشريع من الله عز وجل ومنهج للحياة ختم الله عز وجل به الكتب، ونسخ به ما قبله، فجاء مهيمناً على الكتب السابقة، شاهداً على أنها جاءت من عند الله، وشاهداً بأن الأقوام حرفوا ما جاءهم من عند الله سبحانه، وناسخاً لما كان فيها من أحكام، وجاء بشرع من الله سبحانه ليعمل الناس به إلى أن يأتي أمر الله وتقوم القيامة.
ففي الآية يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم على وجه المواساة والتسلية وليدخل في قلبه الطمأنينة: اطمئن لست بشيءٍ غريب ولا بشيء جديدٍ، ولست بدعاً من الرسل، فقد كان من قبلك موسى، وقد أتاهم بالكتاب فأوذي، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوذي أذاً شديداً لكن قوله يعد من باب التواضع.(409/3)
بيان كيفية اختلاف بني إسرائيل على موسى
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [فصلت:45] أي: اختلف الناس على موسى عليه الصلاة والسلام، وقد رأينا في مواطن سابقة من كتاب الله عز وجل كيف كان اختلاف اليهود على موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان يأمرهم بالشيء فيعارضون، ويأمرهم فيرفضون تنفيذ هذا الأمر حتى تأتيهم من عند الله آية من الآيات فيخافون ويرجعون إلى الطاعة، وسرعان ما ينقلبون إلى المعصية، وظلوا على هذا الحال حتى مات موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو يتعامل معهم معاملة الراعي مع غنمه، كلما تاهت جمع الراعي شأنها، وكذلك كانت بنو إسرائيل مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(409/4)
معنى قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك)
قال الله عز وجل: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [فصلت:45]، وبمعناها قوله تعالى في سورة الشورى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى:21]، قوله: (لولا) عدة من الله أي: وعد من الله سبحانه أن يؤخر عقوبة العباد إلى يوم المعاد، وأن يجازيهم يوم القيامة على أعمالهم ولا يستأصلهم في الدنيا، ولولا أنه سبق لفعل الله بهم ما يستحقون من العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وإنما سبقت هذه الكلمة من الله لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى، ولبيان أن هؤلاء المشركين أبا جهل وأمثاله يستحقون العقوبة في الدنيا، فالله عز وجل يذكر أنه وعد أن يؤخر العذاب ليوم القيامة وإلا لاستحقت قريش كلها أن يستأصلها الله سبحانه تبارك وتعالى إلا من آمن منهم.
إن الله بحكمته سبحانه، وبعلمه سبحانه، وبقضائه وقدره قدر أن يكون هؤلاء كفاراً وأن يخرج من أصلابهم من يعبد الله كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذلك، فـ أبو جهل زعيم المشركين وفرعون هذه الأمة لعنة الله عليه كان ابنه عكرمة بن أبي جهل ممن آمن وأسلم ودخل في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وابنته فاطمة بنت أبي جهل أيضاً أسلمت وقد أراد قومها أن يزوجوها من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تجتمع فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع بنت أبي جهل)، فعلم أنه لا يصح أن يجمع علي بين فاطمة بنت النبي وفاطمة بنت أبي جهل، وكان له الخيار أن يتزوج إحداهما؛ لأن ما تعرضت له فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها من أذى طول حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم كان كافياً، فقد كانت تؤذى وترى الأذى في أبيها صلوات الله وسلامه من قومه فتخرج لتدفع عنه أذاهم، وقد جاءوا ذات مرةٍ بسلا جزور ووضعوه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة، وظل على ظهره حتى أزالته فاطمة رضي الله عنها، وليس ذلك البلاء فحسب فقد ماتت أمها في حياتها، ومتن أخواتها في حياتها، ومات إخوانها في حياتها، وبقيت هي، أفبعد كل هذا الابتلاء تبتلى بأن يتزوج علي عليها؟! فمثل ذلك لا ينبغي أن يكون، ولا يصح أن تجتمع فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع بنت أبي جهل عند علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض بيان أن الرجل المجرم أبا جهل كان كافراً، وكان في صلبه بقضاء الله من كان بعد من المسلمين، ومثل أبي جهل الوليد بن المغيرة فإن ابناه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد مؤمنان، ومثلهما: العاص بن وائل فقد كان ابنه عمرو بن العاص رضي الله عنه مؤمناً، فالله قدر أن يخرج من أصلاب هؤلاء الكفرة المجرمين من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، فقد سبق الوعد من الله أنه لا يستأصل هؤلاء جميعهم وذرياتهم، وإنما يحلم ويصبر سبحانه تبارك وتعالى، وإن عاقب البعض ترك البعض ليكون من أصلابهم وذرياتهم من يعبد الله سبحانه.(409/5)
معنى قوله تعالى: (وإنهم لفي شك منه مريب)
بعد أن بين الله للكافرين بأنه لا يهلكهم جميعهم لحكمة منه سبحانه، بين موقفهم من القيامة فقال: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت:45] أي: إن هؤلاء الكفار لفي شك عظيم موقع للريبة في قلوبهم، فشكهم في يوم الدين وقيام القيامة والبعث شك عظيم، وكلما أخبرهم الله عز وجل أن هناك يوم قيامة وفيه بعث وحساب يتشككون في ذلك شكاً عظيماً.
وقوله: {مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت:45] أي: موقع للريبة وهي الشك العظيم في قلوبهم.(409/6)
تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها)
قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] أي: إن العبد هو المستفيد من عمل نفسه، أما الله فلا يستفيد من عمل عبده شيئاً، إذ أن العبد مخلوق فقير بطبعه وبذاته وبأصل خلقته، والله الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى، فمهما عمل العبد من عبادة فإنه هو المنتفع بها في النهاية، ولن ينتفع الله عز وجل بشيءٍ منها؛ لأن الله غني لا يحتاج إليك ولا إلى عملك، وإنما خلقك لينفعك أنت، فأنت المنتفع أولاً وآخراً، وإذا عصى العبد ربه سبحانه لم يضر الله شيئاً بعصيانه؛ لأنه لا يبلغ أن يملك الضر لنفسه فكيف يضر ربه سبحانه؟! ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رب العزة سبحانه: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
والله لا يظلم أحداً قال سبحانه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال أيضاً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكررها في مواضع أخر من القرآن، فالله سبحانه لا يظلم أحداً شيئاً، أما الإنسان فتراه يظلم غيره بأخذ ما في يده أو غيرها من صور الظلم، وذلك بسبب الطمع في الدنيا، فمن أراد منصباً في الدنيا أو ذرية أو امرأة أو مالاً وغيرها من مطامع الدنيا تجاسر ليأخذ ما في يد الغير، ويقع من الإنسان هذا الظلم؛ لأنه محتاج إلى هذه الأشياء وغيرها من أسباب الدنيا، أما الله عز وجل فإنه غني عن ذلك فكيف يظلم وهو يملك كل شيء سبحانه تبارك وتعالى؟! وفي الحديث أخبر الله عز وجل أنه حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً، وأخبرهم أنهم لو اجتمعوا جميعهم وسألوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فسأل كل مسألته، فأعطى الله الجميع، ما أنقص ذلك من ملك الله شيئاً! قال في الحديث: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا أدخل البحر).
فالله سبحانه تبارك وتعالى غني، وغناه عظيم جداً، فلو أن كل خلق الله عز وجل سألوا الله كل ما يتمناه كل واحد منهم، فأعطى الله الجميع مسائلهم، لما نقص ذلك مما عند الله إلا كما تضع إبرة في البحر، وانظر ما تخرج هذه الإبرة من ماء البحر! ثم يقول سبحانه لعباده: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، ومن ذا الذي يبلغ نفع الله لينفع الله أو يبلغ ضر الله فيضر الله؟! إن الله هو القوي القادر الغالب، وهو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى، يجازي العباد بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] أي: هو المنتفع بعمله، فهو من يدخل الجنة، فمنفعة عمله تعود لنفسه، وكذا إساءته قال تعالى: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] أي: أنه يعذب في النار بسبب إساءته، فهو يستحق هذا العذاب ولم يظلمه ربه سبحانه تبارك وتعالى شيئاً؛ لأنه هو الذي أودى بنفسه إلى ذلك فاستحق العذاب بسبب ما اقترفت يداه، لا أن ربه ظلمه.(409/7)
البلاغة في قوله: (وما ربك بظلام للعبيد)
قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فالله لا يظلم أحداً.
قد يقول قائل: هل التعبير {بِظَلَّامٍ} [فصلت:46] أفضل أم بظالم أفضل؟ للتفريق بينهما نقول: إن قولنا: فلان ليس ظالماً أي: لا يظلم الشيء القليل، أما قولنا: فلان ليس ظلاماً.
أي: لا يظلم كثيراً؛ لأن ظلام صيغة مبالغة، فهل يمكن أن يظلم قليلاً؟! الصحيح أننا لا بد أن ننظر إلى الظلم من جهتين: كيفية الظلم، وكمية الظلم، فإننا سنجد أن هذا الباب من باب كم يظلم وليس من باب كيف يظلم، ونضرب لذلك مثلاً: لو أن رجلاً أمامه عشرة مليون جنيه ثم لم يمد يده إليها؛ لأنه لو مد يده إليها لكان ظالماً، ولو أن آخراً كان أمامه جنيه واحد ثم لم يمد يده عليه لأنه لو مد يده إليه لكان ظالماً، والفرق بين الاثنين: أن الثاني لم يمد يده على الجنيه؛ لأنه جنيه واحد، فربما تركه استحقاراً له، وربما لو وجد أمامه أكثر لمد يده، أما الأول فإنه إذا لم يمد يده إلى ملايين فإنه قطعاً لن يمد يده إلى جنيه واحد، وهذا معنى الكم الذي في قوله تعالى: {مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، سبحانه تبارك وتعالى، وله المثل الأعلى، فإذا كان الله لم يظلم كثيراً فهل سيظلم القليل سبحانه وتعالى؟! قال الله عن نفسه: {مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] أي: لا يظلم عبيده سبحانه، فهو لا ينتفع من وراء ذلك لا بالقليل ولا بالكثير حاشا له سبحانه تبارك وتعالى، فكأن الحكمة في التعبير عن الكم: أن الذي يظلم كثيراً يريد أن ينتفع كثيراً، فإذا كان لا يريد النفع الكثير فهل يطلب النفع القليل حاشا لله سبحانه تبارك وتعالى! {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(409/8)
تفسير سورة فصلت [46 - 50]
يخبر الله عز وجل عن عدله المتمثل في مجازاة المحسن بأضعاف عمله، ومعاقبة المسيء بما يستحق من العذاب على قدر إساءته، فالله عالم بخفايا الأمور، وسيحاسب الإنسان يوم القيامة بما خفي وما ظهر من أعماله.(410/1)
تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ * لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:46 - 49].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة أن كل إنسان يعمل شيئاً فهو مجزي به، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] أي: لنفسه يكون الجزاء الحسن من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد عمل وهو المستفيد، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] أي: فقد اجتلب الإثم والعذاب من الله سبحانه على نفسه، فهو المستحق لذلك بفعله، والله عز وجل لا يظلم أحداً، قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فهو يجزي عن الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف لمن يشاء أضعافاً عظيمة كثيرة، وعلى السيئة بمثلها، وقد يعفو ويتجاوز سبحانه تبارك وتعالى، فالله لا يظلم أحداً شيئاً.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وهنا مقام العبودية ومقام العبد بين يدي سيده أنه يستجيب لربه وينفذ ما يؤمر به، وأنه لا يعصيه، وأنه لا يبعد عن سيده، فإذا فعل ذلك استحق عقوبة الله وهو الذي ظلم نفسه، والإنسان هو الذي يظلم نفسه، فالله لا يظلم أحداً.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فالغرض منها أن كل إنسان يؤمل رحمة الله فليعمل صالحاً، فإذا عمل صالحاً استحق رحمة الله واستحق الجزاء الحسن، وكل إنسان يخاف من عذاب الله فليحسن ولا يسيء، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50] فإذا عصى العبد ربه سبحانه، فهو الذي جلب على نفسه الويل والعذاب فلا يظلم ربك أحداً.(410/2)
تفسير قوله تعالى: (إليه يرد علم الساعة)
قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، قرئت بالجمع، وهذه قراءة نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم، وباقي القراء يقرءونها: {مِنْ ثَمَرة} على الإفراد.
{إِلَيْهِ} [فصلت:47] أي: إلى الله عز وجل، {يُرَدُّ} [فصلت:47] أي: يرجع، {يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، وكأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:42 - 44]، فمنتهى علم الساعة عائد إلى الله عز وجل، ولكن نعلمك أنت حتى تعلم الناس بعلامات الساعة؛ ولذلك لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان ثم أجابه؛ لأن الله علمه ذلك، فلما سأله عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: مثلما أنت لا تعلم فأنا كذلك لا أعلم متى الساعة، ولكن أخبرك عن أماراتها، وعن علامات الساعة، فذكر من علامات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان)، فللساعة علامات صغرى وعلامات كبرى، وما ذكر في الحديث السابق تعد من علامات الساعة الصغرى.
ومن العلامات الكبرى ما بينه لنا صلى الله عليه وسلم: من طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، ومجيء الدجال، ونزول المسيح عيسى ابن مريم، وخروج الدخان، وخسوف ثلاثة: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وغير ذلك من العلامات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من العلامات والتي تحقق بعضها.
فإذاًَ عند النبي صلى الله عليه وسلم علم بأمارات الساعة، وبالأحداث التي ستحدث قبل الساعة لكن متى يكون وقت الساعة فهذا علمه عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان الله أعلمه أيضاً أنها تكون في يوم جمعة، ولكن أي جمعة من الجمعات؟ أي سنة من السنين؟ أي شهر من الأشهر؟ فالله وحده الذي يعلم بذلك، فإلى الله يرد علم الساعة.
وهناك أشياء -ذكرها الله عز وجل في كتابه- من ادعى علمها فقد أعظم الفرية، كما قالت السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فهذه أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا ادعى إنسان أنه يعلم هذه الأشياء فقد أعظم الكذب على الله، وأعظم على الله الفرية.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، فإذا سئلت عن الساعة فرد علمها إلى الله، قل: لا أعلم، الله أعلم.(410/3)
معنى قوله تعالى: (وما تخرج من ثمرات من أكمامها)
قال تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، وما تخرج من ثمرات، فالثمرة تخرج من الكم وهو الطلع أو وعاء الطلع، والوعاء القشرة التي تنشق وتخرج من داخله الثمرة، وتسمى بالكم أو بالكمة وجمعها الأكمام، وكذلك تسمى بالكفرة، وهي الطلع الصغير الذي إذا انشق خرجت منه الثمرة، فالله عز وجل عنده علم خروج هذه الثمار، ومتى تنشق وتخرج، ومتى لا تخرج أو لا يخرج منها شيء ومتى تموت.
{وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، فالله عز وجل يرينا علمه العظيم المبدع، إذا تأملت في هذا الشيء فإنه تحار فيه العقول، والإنسان يذل ويخضع لرب العالمين سبحانه الذي أخضع كل شيء، والذي خلق كل شيء، والذي علم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:3 - 5]، فالله هو العليم الخبير، وهذا من علم الله {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فانظر إلى علم الله سبحانه تبارك وتعالى.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، أخفاها الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن الساعة آتية لا محالة ولا شك في ذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] أخفاها الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يعلم متى تكون الساعة ولا أي مخلوق من مخلوقات الله سبحانه تبارك وتعالى، فبالغ ربنا في إخفائها، والإخفاء يأتي بمعنى عدم الظهور والاستتار، {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] يعني: من شدة إخفائها أكاد أخفيها فلا يعلم أحد عنها شيئاً، ولكني أعلمت ببعض علاماتها، ولو شئت ما أخبرتكم شيئاً عنها، فتأتي الساعة فجأة على العباد من غير أن يعرفوا لها أمارة، ولكن الله برحمته بين علاماتها، لنأخذ حذرنا، فإذا وجدتم الحفاة العراة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان فإن الساعة آتية، وقال عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:42 - 43].
إذاً أخفاها الله فلا يعلم أحد متى تكون، وهي قريبة جداً على وشك أن تظهر للعباد وعلم ما تخرج من ثمرات من أكمامها، فانظر إلى شجرة واحدة، ونخلة واحدة وانظر إلى عدد الثمار التي فيها، وتأمل في كل بلحة من الذي أحصى عدد هذا الذي في النخلة الواحدة؟ فكم يكون عدد البلح في البستان؟ وكم نخلة في العالم كله؟ فالله هو الذي يحصي كل ثمرة تخرج، بل ويعلمها قبل أن تخرج من الكفرة، ومن طلعها، فالله عز وجل أعلم بخروجها أو عدمه، ويعلم ما يكون مذاقها، ويعلم أي شكل ولون ستصبح! وقس على ذلك كل خلق الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فتتعجب وتحتار في علم الله العظيم القهار سبحانه تبارك وتعالى، فإليه يرد العلم كله، والإنسان لا يحوي على جزء بسيط من علم الله، ولو ظل يدرس شيئاً معيناً، فكلما ازداد علماً وازداد تخصصاً، يقول: أنا متخصص في الشيء الفلاني، ويحضر فيه الدكتوراة، ويحضر فيه ماجستير ويتخصص في جزئية واحدة، فمن المستحيل أن يحيط بهذه الجزئية علماً، ولكنه علم كثيراً عنها أما أن يحيط بها علماً فلا، فالله هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً سبحانه تبارك وتعالى.
قال الله: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، قد علمها الله سبحانه تبارك وتعالى {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت:47]، فهو يعلم سبحانه متى تحمل هذه الأنثى، وقد قدر الله عز وجل ما يكون في ذلك، ومتى تضع هذه الأنثى، فالله عز وجل يقدر ذلك، ويقدر هل تحمل بذكر أو بأنثى، فإلى الله عز وجل علم ذلك، ويعلم متى تلد، وهل ينزل هذا الجنين حياً أو ميتاً، وهل ينزل فيعيش إلى أن يبلغ الشيخوخة أم يموت وهو شاب صغير، وهل يكون شقياً أم سعيداً، فإلى الله علم ذلك كله.
يقول تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ} [فصلت:47] لا يكون حملها إلا بعلم الله سبحانه تبارك وتعالى، فربنا يعلم كل شيء، ويحصي كل شيء، فإذا جئت يوم القيامة قال لك: عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا، وأحصى عليك كل شيء تعمله، فإذا كان الله يراقبك، والله يحصي علينا كل ما نقوله وما نفعله فلنحذر من يوم اللقاء.(410/4)
معنى قوله تعالى: (ويوم يناديهم أين شركائي)
الكفار كانوا يتبجحون في الدنيا فيشركون بالله حتى عند بيته المعظم، وكانوا يذهبون فيطوفون وقد علَّم الله عز وجل من قبلهم أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
فينبهنا الله سبحانه تبارك وتعالى بأنه الإله وحده، فإذا بالمشركين يزيدون في شركهم، ويقولون: لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وهذا كلام فارغ يقولونه لعنة الله على المشركين! انظر إلى هذا الأحمق الجاهل المغفل حين يقول: لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك! فكيف يكون شريكاً لله الذي يملكه؟! فهو مخلوق يملكه الله، وإذا بهذا المشرك يقول: لك شريك، وهذا الشريك تملكه، وتملك الذي يملكه هذا الشريك! قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28]، أي: هل تقبلون على أنفسكم هذا الشيء؟ وهل لكم شركاء مما ملكت أيمانكم؟ العبد الذي ذهبت إلى السوق واشتريته بمالك وأعطيت هذا العبد من مالك، هل يجرؤ العبد في يوم من الأيام أن يقول لسيده: شاركني؟! فلو قال هذا الشيء لقتله صاحبه، فإذا بهذا العبد يدعي لله عز وجل الشريك، حاشا لله سبحانه تبارك وتعالى! هؤلاء المتبجحون بالشرك إذا جاءوا يوم القيامة يقول لهم عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} [فصلت:47] أين هؤلاء الشركاء؟ {قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، ((آذَنَّاكٍَ)) أي: ما رأينا، ولا نعرف، وما لك شريك، فيوم القيامة يتبرءون، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، {قَالُوا آذَنَّاكَ} [فصلت:47] أي: أعلمناك ونشهد أمامك يا رب العالمين أنه ما كان لك شريك أبداً، ما لك شريك أبداً، ويذكرهم الله في الدنيا أنهم سيقولون هذا يوم القيامة، فارجعوا عن هذا الذي تشركونه في الدنيا قبل أن تنكروا يوم القيامة فلا ينفعكم الإنكار.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [فصلت:47]، هذه قراءة الجمهور، ((وَيَوْمَ يُنَادِيهُمْ)) قراءة يعقوب.
{أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا} [فصلت:47]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: ((أَيْنَ شُرَكَائِيَ قَالُوا آذَنَّاكَ))، أعلمناك، شهدنا أمامك يا رب العالمين، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47] أي: ما أحد أبداً يشهد بأن لك شريكاً، ولا نشهد بذلك، ولا نقول بهذا الشيء، وهذا يكون يوم القيامة حين لا ينفع الاعتراف.(410/5)
تفسير قوله تعالى: (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل)
قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت:48]، ضل بمعنى: ضاع وتاه، فبحث المشركون عمن قالوا إنهم شركاء فلم يجدوهم ضاعوا، فعلموا أن الملك لله وحده لا شريك له، وأن الحق لله.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت:48]، وقد كانوا يدعون أحجاراً فعبر بـ (ما).
{وظنوا} [فصلت:48] أي: أيقنوا، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48] أي: استيقنوا يوم القيامة أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مهرب يهربون إليه، والمحيص هو: المهرب والمكان الذي يهربون إليه {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48] أي: أيقنوا ذلك يوم القيامة أنهم لا مهرب لهم من الله سبحانه تبارك وتعالى.(410/6)
تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير)
ثم يخبرنا الله عن حال هذا الإنسان المشرك بالله والكافر فقال: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ} [فصلت:49]، والإنسان جنس، وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص، {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:49 - 50]، هذه جملة من الصفات التي لا يمكن أن تكون في المسلم، ولكن قد تكون فيه بعض الصفات، ولكن لا يمكن أن تكون كلها لذلك يقول العلماء: إن هذا العموم الذي في قول الله سبحانه: ((الإِنْسَانُ))، والمقصود به شيء مخصوص وهو الكافر من الناس، الذي اجتمعت فيه هذه الصفات، وإن كان المسلم قد يكون فيه بعضها، {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ من دعاء الخير} [فصلت:49] قد يكون في المسلم، فلا يوجد أحد يسأم من دعاء الخير، والخير هنا بمعنى المال والصحة والعافية، ومتطلبات الإنسان في الدنيا، فكل إنسان يقول: يا رب! أعطني مالاً، أعطني صحة، أعطني عافية، أعطني عزاً، أعطني سلطاناً، فكل إنسان يطلب ذلك.
{وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] وهذه لا تكون في المؤمن فهو لا ييئس؛ لأن ربنا قال: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فيستحيل أن ييئس المسلم من روح الله.
قال: {وإن مسه الشر} [فصلت:49] والشر بمعنى: الضر، والبأساء بمعنى الشيء الذي يبتلى به الإنسان، من فقر يأتي عليه، أو مرض يصيبه، فهذا شر في نظر الإنسان وإن كان بتقدير الله كله خير للإنسان الذي يعقل ويفهم ذلك، فكأن الإنسان الكافر إذا جاء له الخير يدعو ويطلب الخير، وإذا مسه شيء من البأساء، ومن الضر، ومن الفقر والمرض، {فيئوس قنوط} [فصلت:49]، وهنا صيغة مبالغة وتكرار، والمعنى أنه كثير اليأس، وإن كان يوجد فرق بسيط في المعنى، لكن المقصود شدة يأس الإنسان لما يجيء له شيء من البلاء.
قال: {وإن مسه} [فصلت:49] أي: شيء يأتيه من الشر، {فيئوس} [فصلت:49] كأن يأسه في قلبه بأن يسيء الظن بالله سبحانه، وأن الله لن يكشف ما أصابه فييئس من رحمة الله سبحانه، ويسيء الظن في رحمة الله، {قنوط} [فصلت:49] القنوط هو ظهور أثر اليأس على الإنسان من ذلةٍ وانكسار.
فالله عز وجل تعجب من هذا الإنسان، أصبناه بشيء من البلاء، وإذا به على هذه الحالة وييئس من روح الله ومن رحمته، ويقنط وينكسر!(410/7)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً} [فصلت:50] أي: شيء من رحمة الله عز وجل، بعد ما كان في مرض أعطيناه عافية، بعدما كان فقيراً أعطيناه من المال.
قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [فصلت:50] يعني: كان فقيراً قبل وقت قريب، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50]، أنا أستحق هذا الشيء، وتأخر عني كثيراً هذا الشيء، وكان واجب على ربنا أن يعطيني هذا الشيء، وقد أعطاني الآن لأني استحقه، ويزيد في تبجحه بقوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:50]، فبعدما كان يئوساً قنوطاً الآن تكبر وقال: لا تقوم الساعة! قال تعالى عنه: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50] أي: مثلما أعطاني في الدنيا فإنه سيعطيني ويدخلني الجنة! {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي} [فصلت:50]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع بخلف قالون: وقراءة أبي عمرو وأبي جعفر: ((وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ إِنَّ لِي)) وقوله: ((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ))، اصبروا وستنظروا ما الذي سيحصل، وسنريكم يوم القيامة ونخبركم، والنبوءة هي الإخبار بما غاب عن الإنسان، {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]، فينتظروا عذاب الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(410/8)
تفسير سورة فصلت [49 - 54]
جبل الله الإنسان على حب الخير والنعمة وطلبها، والسعي وراءها، وجبله كذلك على بغض ما يصيبه من بلاء ومصائب، ولذلك فهو يحذرهما ويتوقاهما ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك إذا ما أصابته نكبة أو بلية يتضرع إلى الله عز وجل مخلصاً له الدين أن ينجيه ويخرجه منها، فإذا ما كشف الله عز وجل عنه ما حل به إذا به يرتكس وينتكس، ويعود إلى ما كان عليه من ضلال، وكان الواجب عليه أن يشكر الله على نعمه ويزداد من طاعته.(411/1)
تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:49 - 54].
هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة فصلت، يخبر الله عز وجل فيها عن طبيعة في كل إنسان، أنه لا يسأم، أي: لا يمل من دعاء ربه بالخير، فيدعوه طالباً للخير، وطالباً للمال، وطالباً للصحة والعافية، وطالباً للعز والسلطان، وطالباً ما يتمكن به في الأرض، وطالباً للأتباع والولد، وطالباً من الدنيا ما يريده ويشتهيه، فلا يمل أن يسأل ذلك ربه سبحانه، بل إنه يطلب منه المال والزوجة والمنصب والولد، وغير ذلك، فلا يمل من دعاء الخير، أي: من طلب المال ونعيم الدنيا، قال تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت:49] أي: أي شيء من الشر الذي يُرى أنه شر، وإن كان كل ما قضى الله عز وجل لعباده من قضاء فهو خير، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]؛ فالمقصود بالشر هنا هو ما يراه الإنسان شراً في زعمه ونظره، كأن يبتليه الله بالمرض، فهو يرى أن هذا شر أصابه، والله عز وجل يبتلي العباد إما ليكفر عنهم سيئاتهم، أو ليرفع لهم درجاتهم سبحانه تبارك وتعالى، فيبتليهم ربنا سبحانه بما قد يتألمون منه، رحمة بهم في الآخرة، سبحانه تبارك وتعالى، والعبد لا يدري أنه رحمة به، وإنما إذا {مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] ويئوس أي: كثير اليأس، وعظيم اليأس من رحمة الله، فهو سيئ الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد انقطع أمله في ربه سبحانه، فلا يطلب خيراً بعد ذلك، وقنوط أي: انكسر وظهر عليه أثر هذا اليأس، وأثر هذا الانكسار، والقنوط شدة اليأس، والتكرار هنا مع صيغة المبالغة بقوله: {َيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أي: شديد اليأس، عظيم القنوط، وقد بدا أثر هذا اليأس على مظهر هذا الإنسان.(411/2)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي)
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50]، أي: إن كشفنا عنه هذا المرض وهذا البلاء، وأعطيناه صحة وعافية، وأعطيناه مالاً وولداً، وأذقناه شيئاً من رحمتنا من بعد هذا الضر الذي أصابه، فالمفروض أنه لا ينسى، بل يتذكر أنه كان مريضاً، فيرحم المرضى ويساعدهم، ويتذكر أنه كان فقيراً، فينظر إلى الفقراء ويواسهم، لا أن يتكبر على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويقول: هذا بفضلي وبجدي، وكنت مستحقاً له، وكان واجباً على الله أن يعطيني، وأنه قد منعني بالأمس ثم أعطاني اليوم ما أستحقه! فهذا من غباء من يقول ذلك ويتوهمه، وهذا قول من نسي الآخرة ونسي ربه، وقول من نسي كيف كان يجأر إلى الله عز وجل بالدعاء، فلما كشف عنه البلاء إذا به يقول في الرخاء: هذا لي، وأنا أستحقه.
قال تعالى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي: أنه يتبجح الآن وينكر يوم القيامة، ويقول: ولا أظن بأنني سأرجع إلى الله، يقول: وإن فرضت بأنني سوف أرجع إلى الله فإن لي عنده الحسنى، قال تعالى عن قوله هذا: ((وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)) أي: أنه سيعطيني كذلك يوم القيامة! (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي) هذه قراءة الجمهور، وقراءة قالون وأبي عمرو وأبي جعفر: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).
(فَلَنُنَبِّئَنَّ) هذا قسم، والمقسم به محذوف، والمعنى: والله لننبئنه، والذي دل على هذا القسم لام التوكيد في أول الفعل المضارع، والنون المثقلة في آخره.
(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا) أي: فلنجازيهم، ولنكبتنهم ولنوبخنهم على ما قالوا وما عملوا.
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، أي: شديد لا يطيقونه يوم القيامة.(411/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآى بجانبه)
قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51]، وهذه طبيعة وخصلة في الإنسان إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى، فإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجنبه، أي: مال بجانبه، وصرف وجهه، قال: {أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51]، وكأنه للتأكيد على ذلك؛ لأن أعرض أي: مال بجانبه، ونأى أي: مال فأكثر من الإمالة، ونأى الإنسان أي: ابتعد ومال عن ربه سبحانه وتعالى، وأعرض أي: أعطاه ظهره، فالمعنى: أنه مال بجانبه عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وهذه الآية فيها قراءتان: {َنَأى بِجَانِبِهِ}، وهذه قراءة الجمهور، بمعنى: مال بجانبه، و (نَاء بِجَانِبِه) بمعنى: بعد، وهذه قراءة ابن ذكوان وأبي جعفر، فعلى قراءة: {نأى بِجَانِبِه} [فصلت:51]، فيها التقليل والإمالات لأصحاب التقليل والإمالات، فيقرؤها الأزرق عن ورش بالفتح والتقليل، ويقرؤها خلف عن حمزة والكسائي بإمالة النون وبإمالة الهمزة أيضاً، ويقرؤها خلاد عن حمزة {وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51] والمعنى على ذلك: إن الإنسان يميل بجانبه، أو يبعد بجانبه، والمعنى: تأكيد إعراض الإنسان عن ربه عندما يرى نفسه في رخاء، فتأمل حال الكثيرين من الناس في وقت الرخاء تجدهم معرضين عن الله، وإن زعموا أنهم قريبون من الله ففي وقت البلاء تجده مقبلاً على الله يدعوه، مصلياً متقرباً إلى الله بأنواع الطاعات، وأما وقت الرخاء فإنه ينسى نفسه وينسى ربه، وإن زعم أنه قريب منه، فيترك الصلاة بالكلية، ويبطر فيما آتاه الله، ويجالس أصدقاء السوء، ويذهب إلى الملاهي، ويفعل ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى؛ إعراضاً عن الله سبحانه، وينأى بجانبه عن ربه سبحانه.
قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت:51] أي: عندما نؤدبه بشيء من البلاء فإنه يرجع، كما قال الله: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] أي: ينادي: يا رب يا رب، يا رب يا رب، ويرفع يديه إلى الله، ويطيل في الدعاء، وفي سؤال ربه سبحانه، أما في وقت الرخاء فإنه ينسى الله ويعرض عنه، فإذا أصابه البلاء دعا ربه سبحانه، وهذا قد يستجيب له ربه وقد لا يستجيب له.
وإذا أردت أن يستجيب الله لك في وقت بلائك، فأكثر من الدعاء في وقت رخائك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء) فأكثر من دعاء الله عز وجل في وقت الرخاء، وعود نفسك على أن تستمتع بالدعاء، وعلى أن تستشعر الذل بين يدي الله عز وجل، وأنك محتاج إليه، فإن الدعاء نعمة، فارفع يديك إلى الله، وادعه سبحانه تبارك وتعالى وإذا كان أكثر دعائك بالآخرة فقد من الله عز وجل عليك من فضله وكرمه، فمن الناس من تشغلهم الدنيا، ومنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] فكل همه سؤال الدنيا، وليس له نصيب في الآخرة.
قال الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:201 - 202].
إذاً: على المؤمن أن يكثر من الدعاء في كل وقت، وأما الفاجر والشقي والكافر فإنه لا يذكر ربه إلا في وقت البلاء، فإنه يكون حينئذ ذا دعاء عريض وطويل، فهو يكثر منه في وقت البلاء.(411/4)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52] قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي: أخبروني، أرأيتم: انظروا، يعني: انظروا إلى أنفسكم، وأخبروني عن حالكم في هذا الوقت.
و ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ))، يقرؤها نافع وأبو جعفر بالتسهيل، ويقرؤها ورش بالمد الطويل، فإذا وصل ورش فيها يقول: (قُلْ أَرَاَيْتُمْوآ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّه)، ويقرؤها الكسائي: (قُلْ أَرََيْتُمْ) بهمزة واحدة.
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52] أي: كيف يكون حالكم؟ يعني: فالإنسان لا بد أن يفكر في هذا الأمر، فيا أيها المشركون المعرضون عن الله سبحانه! أخبروني عن حالكم إذا كان هذا حقاً من عند الله وأنتم كافرون به، ماذا يكون ظنكم في الله سبحانه وتعالى؟ فلقد زعمتم أنه ليس من عند الله وقلتم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وهذا فرض منكم، فافترضوا أنه حقيقة من عند الله، فماذا يكون حالكم إذا قابلتم ربكم سبحانه؟ {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52] أي: من أشد ضلالاً من هذا الذي في شقاق بعيد، وشقاق: مأخوذ من الشق وهو الجانب، فجانب الدين في مكان وهم في شق آخر بعيدين عنه، فإذا كان هذا الشق يتسع ويبعد إلى ما لا نهاية، فإنه لن يرجع، ولا يتوقع لهذا الذي سار في شق بعيد أن يرجع إلى الحق في يوم من الأيام، فمن أضل من هذا الذي عرف طريق الله فأخذ طريقاً سواه، وسار فيه في بعد بعيد إلى أن هوى في النار والعياذ بالله، فمن أضل من هذا؟!
و
الجواب
لا أحد أضل من هذا الذي هو في شقاق بعيد، وفي بعد عن دين الله سبحانه وتعالى، وهو محارب ومعاد لله ولرسوله وللمؤمنين.(411/5)
تفسير قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)
قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) أي: سنري هؤلاء الكفار الآيات العظيمة، فيرونها في كتاب الله، وفي كون الله، وفي أنفسهم، والآفاق: جمع أفق، والأفق: البلاد البعيدة النائية، فامشوا في الأرض وانظروا إلى آيات الله سبحانه، وكيف صنع بالأمم السابقة، وانظروا في آيات الله سبحانه، في الأرض، والسماء، والنجوم، والجبال، والبحار، والأفلاك، والأنهار: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد سبحانه وتعالى، وسنريهم هذه الآيات في أنفسهم، كيف يأكلون ويشربون، وكيف ينظرون ويسمعون، وكيف يشمون ويحسون الأشياء، وكيف يفكرون بعقولهم، فيرون آياتنا في أنفسهم وخلقهم، قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:2 - 5].
وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
فقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ} أي: هؤلاء الكفار، والعجب أن أكثر من يظهر هذه الآيات ويطلع عليها هم الكفار، فتجد علماء الفلك منهم يطلعون على أشياء بعد أن تعبوا جداً حتى وصلوا إليها، وفي الأخير يجدونها مسطورة في كتاب الله سبحانه وتعالى!(411/6)
وعد الله يتحقق في العصر الحديث
لعلكم سمعتم عن الذي كان يتكلم في انشقاق القمر، ولكنه كان مكذباً للقرآن، وكان كافراً معرضاً عن كتاب الله، وفي يوم من الأيام أهداه بعض المسلمين كتاب الله، فأخذ ينظر إليه، فكان أول شيء اطلع عليه في القرآن سورة القمر، إذ يقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فإذا به يغلق الكتاب ويتركه ويكذب بذلك، فأعرض عن الله سبحانه، وهو الذي ذكر ذلك، كما ينقل ذلك الدكتور زغلول النجار أكرمه الله وبارك الله فيه.
وقد نقل أن هذا الرجل أسلم بعد ذلك، بعد أن أعرض عن كتاب الله سبحانه وتعالى لما سمع هذه الآيات: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: إن القمر موجود كما هو، فمتى انشق؟ وأنكر ذلك، ثم بعد ذلك اطلع على برنامج تلفزيوني ورأى المذيع وهو يسأل رواد الفضاء ويقول لهم: أنتم أنفقتم ملايين الدولارات من أجل الصعود إلى القمر في أشياء لا تعود بأي فائدة على البشرية، وقد كان الأولى أن تطعموا بها المساكين والفقراء! فقال له رائد الفضاء: نحن أنفقنا ملايين ووصلنا إلى معلومة تساوي أكثر من الذي أنفقنا، لقد اكتشفنا أن القمر انشق في يوم من الأيام، فسأله المذيع: كيف عرفتم ذلك؟ فقال: لقد صورنا القمر فوجدنا فلقة في القمر تدل على أنه في يوم من الأيام في هذا المكان انشق القمر كله، والتحم مرة ثانية، فأعاد قول رائد الفضاء هذا لهذا الذي كفر صوابه، فإذا به يرجع إلى كتاب الله، ويقرؤه ويتأمل فيه بآية رآها الكفار {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:53].
وكم من الآيات اطلع عليها هؤلاء الكفار وقالوها، فوجدوا مصداقها في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن ذلك آيات خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، فأخبر سبحانه أن الإنسان يكون مضغة، ولما ناقش الشيخ الزنداني بعض علماء الأجنة من الأجانب فيها، وقال له: ماذا تسمي هذا الطور الذي سماه ربنا مضغة؟ ولم يخبره أن الله سماه مضغة، وقد كانوا يسمون هذه المراحل أطواراً، ويقولون: الطور رقم واحد، والطور رقم اثنين، فلما سأله: إذا وصفنا هذه المرحلة فبماذا نصفها؟ فإذا بهذا الكافر يقول له: أقرب وصف لها أنها اللبانة التي تمتضغ، فقال له: وفي القرآن سماها الله عز وجل مضغة! فتعجب الرجل وقال: وهل اطلع محمد على الجنين وهو في بطن أمه؟ نحن نصور هذه الأشياء بالمناظير، فأين رأيتموها أنتم؟ فهذا لا يكون إلا من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، يُري هؤلاء الكفار آياته فيطلعون عليها.
ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء الرجل وماء المرأة، وقد كان علماء الطب إلى نهاية العهد الحديث لا يعرفون ماء المرأة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وهم يكذبون بهذا الحديث إلى أن اكتشف الكفار أن المرأة لها ماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا علا ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة آنث بإذن الله) والذي اكتشف بعد ذلك علماء الكفار وليس علماء المسلمين.
وكذلك في خلق الإنسان قال علماء الكفار: يخلق العظم أولاً، وبعده بقليل يكون اللحم، ويوجد هذا في كتاب الله، {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14].
وكم من الآيات في كتاب الله عز وجل ولعل من أكثر الأشياء التي نعرفها ما قاله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، أي: برزخ بين النهر وبين البحر، فلا يتملح ماء النهر ولا يحلو ماء البحر، فبين المائين منطقة وسط، لها كائناتها ولها طبيعتها ولها طعمها، خلاف هذه وخلاف هذه، ويخبر الله عز وجل بذلك، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وليس عنده نهر يصب في البحر من أجل أن يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف هذا الشيء، وإنما يري الله عز وجل الآيات لخلقه حتى يتبين لهم ويتأكدوا أن هذا كتاب الله عز وجل وأنه الحق من عند الله كما قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] وكفى بالله شهيداً، فهو يشهد على العباد بما في قلوبهم مما لا ينطقون بألسنتهم به، والله يشهد على ذلك فهم يعرفون أنه الحق ويكتمون أنه الحق، ويعرفون ذلك ولا يتكلمون به وقد عرف الكفار ذلك، وذهبوا ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرؤه من كتاب الله، ويرجع أبو جهل وأبو سفيان وغيرهم ويحلفون أن لا يرجعوا لسماع النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، ثم يرجعون مرة ثانية ليستمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الوليد بن المغيرة أن القرآن ليس بقول بشر، فلما ضغطوا عليه ليرجع عن كلامه قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] فكتموا ما عرفوا من أنه الحق من عند الله، فقال الله: كفى أننا نشهد عليهم بذلك، بأن هذا الحق من عند الله، ونشهد عليهم بما في قلوبهم، وإن كذبوا وأعرضوا {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، بلى.(411/7)
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم)
قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} [فصلت:54] أي: في شك بعيد من دين الله سبحانه، ومن لقاء ربهم، فهم متشككون في يوم القيامة، ولا بد أن يكون.
{أَلا إِنَّهُ} [فصلت:54] أي: الله عز وجل {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] أي: أحاط بكل شيء علماً، وأحاط بكل شيء قدرة، وأحاط وعلم عدد كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.
ومحيط مأخوذة من الحيطة التي تحيط بالقوم، وتحيط بالبيت، فالله محيط، والإحاطة إحاطة علم وإحاطة قدرة، والمعنى: إنه يحيط بكم علماً وقدرة عليكم، فأين تذهبون من الله سبحانه تبارك وتعالى؟! ففيها من التهديد ما فيها، فقد علم الله كل شيء عنكم، وقد أحاط بكم قدرة وعلماً، وسترجعون إلى الله، فترون ما يكون من عذاب الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(411/8)
تفسير سورة الشورى - مقدمة
سورة الشورى من الحواميم السبع، وهي سورة مكية، وفيها خصائص السور المكية، وقد امتازت عن غيرها ببدئها بقوله تعالى: (حم، عسق)، وقد تكلم العلماء عن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور، واختلفوا في معانيها على أقوال كثيرة.(412/1)
ما تضمنته سورة الشورى
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: بسم الله الرحمن الرحيم.
{حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى:1 - 6].
هذه السورة الثانية والأربعون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الشورى، وهي واحدة من سبع سور بدأت بالفواتح المعروفة (حم) بهذين الحرفين، وهذه السورة زادت على باقي السبع بثلاثة حروف أخر وهي: (عسق)، وسور الحواميم أو آل حم من السور العظيمة التي نزلت في مكة، ونزلت كلها على التوالي بعضها وراء بعض.
وهذه السورة هي السورة التاسعة والستون في ترتيب نزول القرآن من السماء، لكنها في ترتيب المصحف هي السورة الثانية والأربعون.
وسور الحواميم كلها مكية، وفيها خصائص السور المكية، ففيها تربية المؤمنين، وفيها الدعوة إلى التوحيد، وفيها إقرار أمر العقيدة، وبيان توحيد الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبيان قدرة الله العظيمة الباهرة، وبيان الآيات الكونية التي جعلها الله عز وجل لأولي الأبصار يعتبرون بها، ويعلمون أن إلههم إله واحد لا شريك له، خلق السموات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق البحار، قال الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وبيان نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وبيان المصائب التي يبتلي بها العباد، وأن العباد لا يبتليهم الله سبحانه وتعالى إلا بما كسبت أيديهم، قال تعالى: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] سبحانه وتعالى.
وفي هذه السورة الإشارة إلى تحدي الطاعنين في القرآن العظيم، فقد قال الكفار يوصي بعضهم بعضاً: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، فالله عز وجل تحداهم بأن يأتوا بكتاب مثله، وبأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وبأن يأتوا بسورة من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى يتحدى هؤلاء: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} [الشورى:1 - 3] أي: الغالب سبحانه، {الْحَكِيمُ} [الشورى:3] ذو الحكمة العظيمة البالغة.
فالقرآن من جنس هذه الحروف التي تقرءونها وتعرفونها، فائتوا بسورة مثل هذه السورة، أو كأقصر سورة من كتاب الله عز وجل إن استطعتم إلى ذلك سبيلاً.
والعرب قوم يقبلون التحدي، إذا تحداهم أحد سرعان ما ينبرون في قبول التحدي، وفي المخاصمة، ولكنهم هربوا ولم يقدروا أن يواجهوا، ولم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولا بمثل أقصر سورة منه.
كذلك يستدل الله عز وجل في هذه السورة على المعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا الوحي لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما أوحى الله إليه كما أوحى إلى الذين من قبله، وليس بدعاً من الرسل، وليس شيئاً جديداً غريباً على هؤلاء، فقد عرفوا أن قبلك أنبياء من البشر قد جاءوا إلى أقوامهم، فقال الله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3].
كذلك يذكر أنه خلق السموات والأرض، وأن هذه مخلوقات عرفت حق ربها سبحانه، فقال: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]، أي: تكاد السموات ينفطرن من هول ما يقول هؤلاء الذين ادعوا لله الصاحبة والولد! {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [إبراهيم:30].
{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، فهذا الكون كله لله سبحانه تبارك وتعالى، ما علمته وما لا لم تعلمه، كل شيء يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، فالله خلقك، وخلق لك هذه الآيات التي في الكون، وخلق ملائكة يستغفرون لك إذا آمنت بالله وعملت صالحاً، {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
والمشركون لا حجة لهم إلا أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وقد حذرهم الله عز وجل يوم القيامة، يوم الجزاء، يوم يرجعون فيه إلى الله سبحانه وتعالى فيجازيهم بما عملوا، تحذيراً لهم من شركهم، ومن وقوعهم فيما يغضب الله سبحانه وتعالى.
كذلك يسلي الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه هو سبحانه الذي يتولى جزاء هؤلاء المكذبين، إذاً لا تحزن على هؤلاء، ولا تحزن مما يصنعونه بك، وقد أمره أن يتلطف معهم صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ومع ذلك لم يراعوا قرابة ولا رحماً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفوا له بالمرصاد، فالله عز وجل طمأنه أنهم راجعون إلى الله عز وجل فيجازيهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8].
كذلك يذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على العباد، فمن آيات الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض، وما بث فيهما من دابة، ومن آيات الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان مع ما أنعم عليه من نعم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:32 - 34] فيغرق أهلها بما كسبوا، ومع ذلك فهو يعفو عن كثير سبحانه وتعالى.
وختم الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، إذاً لا تحزن على هؤلاء، فكل شيء راجع إلينا؛ لنجازي هؤلاء، ونحاسبهم على ما صنعوا.(412/2)
تفسير قوله تعالى: (حم.
عسق)
هذه السورة العظيمة بدأها الله سبحانه وتعالى بالحروف المقطعة في أولها: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وهذا إشارة إلى تحدي هؤلاء، فهذه الحروف من جنس ما تنطقون، ومن جنس ما تقولون، فأنتم تقرءون حروف: ألف باء، وحروف (أبجد هوز)، وتصيغون منها أشعاركم التي تتفاخرون بها، وتعلقونها على الكعبة، مثل المعلقات السبع والعشر، كلما وجدوا شاعراً مجيداً في قبيلة أخذوا قصيدة من أجمل قصائده وعلقوها على جدار الكعبة، فكان على جدار الكعبة عشر قصائد من أجمل ما قالت العرب.
فقال لهؤلاء: أنتم تفتخرون بلغتكم هذه، فهل هذا القرآن من هذا الشعر؟ إنه شيء آخر لم يعتادوا عليه، وما سمعوا بمثله قبل ذلك، لقد عرفوا كيف يخطبون ويتكلمون بالنثر، وكيف يصيغون الشعر، وكيف يسجعون فيما يقولون، ولكن أن يتكلموا بمثل القرآن فهذا شيء لم يعهدوه من قبل ذلك، فإذا بالله عز وجل يتحداهم به، ويجذب أسماعهم إلى هذا القرآن، فيستمعون وهم مستسيغون لهذا القرآن، مستمتعون به، ولكن في قلوبهم الحنق على النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا أنت بالتحديد أنزل عليك القرآن؟ ولماذا لا نكون نحن؟ فيدفعهم ذلك إلى الغيرة منه صلى الله عليه وسلم، وإلى الحسد له صلوات الله وسلامه عليه، فلا يقبلون أن يعملوا بمثل هذا القرآن، ولا يقبلون أن يسمعوا طوعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يستمعون من ورائه صلوات الله وسلامه عليه، يذهبون إليه وهو عند الكعبة يقرأ القرآن بالليل، فيذهبون متلصصين ليستمعوا، منهم: أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، يذهبون ليستمعوا لبلاغة القرآن، حتى إن الوليد بن المغيرة -وهو من أشد الناس معاندة- لا يسعه إلا أن يقول: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر! لم يستطع إلا أن يقول ذلك عن هذا القرآن العظيم.
فما زال به أبو جهل -لعنة الله عليه وعلى أمثاله- يقول له: أغواك محمد؟ هل أعطاك مالاً؟ حتى رجع عن هذا الذي قاله، وقال لهم: ماذا أقول؟! دعوني أفكر، فذهب إلى بيته، واحتبس عنهم، وفكر وقدر، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:19 - 25]، وهو نفسه الذي قال عن القرآن: إن له لحلاوة وكان يذهب ليستمع بالليل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤه، ومع ذلك يقول: إنه قول البشر؛ خوفاً من طعن المشركين عليه، ومن تعييرهم له، وأنه يذهب إلى محمد من أجل أن يعطيه شيئاً، وحتى يجمع له مالاً، ومن أجل أن يطعمه، وقد كان من أغناهم، ومن أعزهم، فأصابته نعرة الجاهلية، وحمية الباطل، فإذا به يرفض أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وقال عن كلام رب العالمين: هذا قول البشر، بعدما قال عنه: وما هو بقول البشر!(412/3)
عدد آيات سورة الشورى
هذه السورة آياتها ثلاث وخمسون آية على العد الكوفي.
وتسعة وأربعون آية على العد البصري.
وخمسون آية على العد الحجازي.
وإحدى وخمسون آية على العد الحمصي.
وعد الآي مأخوذ من وقوف النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتبرون وقف النبي صلى الله عليه وسلم على رأس آية، فهذا سبب الخلاف، والآيات هي نفس الآيات وليست آيات أخرى، ولكن يختلفون أين وقف.
فالكوفيون أكثرهم عداً، يقولون: (حم) آية، و (عسق) الآية الثانية، و (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم) الآية الثالثة.
وغيرهم يقولون: (حم عسق) آية واحدة، وجميع الذين يقولون: إنها آية أو آيتان، يقولون: لا تقف على هذه الحروف، ولكن أوصلها؛ لأنها حروف وليست كلمات تعطي أمراً أو نهياً، وإنما هي مجموعة من الحروف، فتوصل مثلما يوصل قوله: {كهيعص} [مريم:1] وكذلك هنا: (حم عسق).
إذاً: سبب الخلاف: أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأين نقف؟ فإذا وقفوا يعدون رأس آية، فبعضهم يعتبرون (حم عسق) آية واحدة، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] آية كما سنذكرها، وكذلك قوله: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] يقف عليها البعض، ولا يقف عليها البعض.
وهذا علم اسمه: علم عد الآي، فالسورة هي نفس السورة بنفس الكلمات، وليس فيها زيادة أو نقصان، ولكن أين يوقف؟ فقد يقف هؤلاء هنا، ويقف الآخرون هنا، فيعتبرون هذه آية، وهذه آية، وقد لا يقف، فيعتبرون الآيتين آية واحدة.
وهذه السورة كما قلنا: سورة مكية، ما عدا أربع آيات فيها الراجح من كلام العلماء أنها مدنية، وهي من قول الله سبحانه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] إلى نهاية أربع آيات، فهذه قالوا: نزلت بالمدينة، وعندما نأتي إليها سنتكلم عنها.(412/4)
كيفية قراءة (حم.
عسق)
تقرأ: (حم عسق) موصولة، وتمد الحاء حركتين فقط، ولا تمد مداً طويلاً، بل تمد المد الطبيعي.
والميم وما بعدها تمد مداً طويلاً، والعين يجوز أن تمدها مداً طويلاً، ويجوز أن تمدها أربع حركات فقط.
وتقول: حا، ولا تقل: حاء بهمزة في آخرها، وتمد الميم ست حركات مداً طويلاً، والحركة بمقدار ما تقبض الإصبع، والعين يجوز فيها المد أربع حركات، ويجوز فيها المد ست حركات، والسين والقاف تمدان مداً طويلاً.(412/5)
كلام العلماء في الحروف المقطعة
الله سبحانه تبارك وتعالى يختار الحروف لحكمة منه سبحانه وتعالى، والعلماء يقولون: الذي نفهم من هذه الحروف أن الله يتحدى العباد بهذه الحروف، وكأنه يقول: القرآن من جنس ما تتكلمون وتنطقون به من حروفكم، ولكن لماذا اختار هذا الحرف هنا؟ واختار هذا الحرف هنا؟ هذا لحكمة من الله سبحانه وتعالى، ولا مانع أن يدلي العلماء بدلوهم في ذلك، ولكن لا نقول: هذه هي الحكمة الوحيدة التي من أجلها ذكر الله عز وجل ذلك، فإن هذا مرجعه إلى الله سبحانه وتعالى.
ينقل الحافظ ابن كثير عن الزمخشري وغيره كلاماً في هذه الحروف، يقول: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها.
وحروف اللغة العربية بعضهم يعدها: أبجد هوز حطي كلمن إلى آخره، ونحن نقرؤها: ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء هذا ترتيبنا، وهم يرتبونها بأبجد هوز.
والحروف ثمانية وعشرون حرفاً، إذا لم نعد اللام والألف (لا) لأنهما حرفان: اللام والألف، فالحروف ثمانية وعشرون حرفاً، والسور التي هي مبدوءة بالحروف المقطعة ثمانية وعشرون سورة، وستجد هذه الحروف على النصف من عدد الحروف، وعندما نقول: ثمانية وعشرون سورة مبدوءة بحروف مقطعة، وإذا جمعنا هذه الحروف وحذفنا منها المكرر، فسنجد السورة بدأت بحرف واحد، مثل: حرف: نون، قاف، صاد، وقد تبدأ السورة بحرفين مثل: (حم)، وقد تبدأ بثلاثة مثل: (الم)، وقد تبدأ بأربعة مثل: (المص)، وقد تبدأ بخمسة مثل: (حم عسق) أو (كهيعص).
إذاً: الحروف المقطعة قد تكون حرفاً واحداً، وقد تكون حرفين، أو ثلاثة أحرف، أو أربعة أحرف، أو خمسة، وكأنه يقول: كلماتكم تتكون من حرف، وحرفين، ومن ثلاثة أحرف، ومن أربعة أحرف، ومن خمسة أحرف.
وعندما نجمع هذه الأحرف ثم نحذف منها الزيادة، نجد أنها أربعة عشر حرفاً من غير المكرر منها.
إذاً: هذه السور ثمانية وعشرون سورة، والحروف التي في أوائلها من غير تكرار أربعة عشر حرفاً، وقد جمعوا الأربعة عشر حرفاً في جملة (نص حكيم قاطع له سر)، فهذه الحروف من أسرار القرآن، والغالب أن الحروف التي بدأها الله عز وجل في السور إذا عددت هذه الحروف في نفس السورة وقورنت بباقي الحروف كانت أكثرها أو من أكثرها في العدد في السورة التي تذكر فيها.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه الحروف نصف الحروف عدداً، أي: نصف حروف المعجم، والمذكور منها أشرف من المتروك، أي: أهل العربية يقسمون الحروف إلى أقسام منها: حروف مهموسة، وحروف مجهورة، وحروف رخوة، وحروف شديدة، وحروف مطبقة، وحروف مفتوحة، وحروف مستعلية، وحروف منخفضة، وحروف قلقلة، وأشرف هذه الحروف ما ذكر في أوائل هذه السور.
هذا الكلام ذكره الحافظ ابن كثير وكذلك ذكره الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن، فذكر فيه أن القرآن بديع في نظمه، عجيب في تأليفه، متناه في بلاغته، إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، وذكر الذي يشتمل عليه من البديع في كتاب كامل يتجاوز الثلاثمائة صفحة، وهو كتاب عظيم جداً، فيه نوع من أنواع الإعجاز، وهو الإعجاز اللغوي، يتكلم عن إعجاز اللغة بما يفهمه فصحاء الناس وليس جهال الناس، وقد أجاد وأبدع في كتابه، ونقل عن غيره كـ الرماني والجاحظ في فصاحة هذا القرآن وبلاغته.
ومن ضمن ما ذكره أنه أتى بأبيات من شعر فحول العرب، من أصحاب المعلقات وغيرهم، وقال: إن البعض منهم يجيد الشعر في نوع ولا يجيده في غيره، فيجيده في الغزل ولا يجيده مثلاً في الحرب وفي القتال، أما القرآن فيتكلم في كل شيء، وهو فصيح بأعلى الدرجات في كل شيء.
وذكر كلاماً كثيراًَ في ذلك، وذكر فواتح السور نحو: (الم)، و (حم) ونحو ذلك، فذكر عدد حروف المعجم، وقال: إن عدد السور المفتتحة بهذه الفواتح في أولها ثمانية وعشرون سورة، قال: والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليه وجوهاً نحن ذاكروها، فمن ذلك أنهم قسموها إلى: مهموسة، ومجهورة، والحرف المهموس حرف ليس معتمداً في مكانه، فعندما يخرج من الفم يخرج معه النفس، ويجمعها قولهم: (فحثه شخص سكت) الفاء والحاء والثاء والهاء والشين والخاء والصاد والسين والكاف والتاء، تسمى هذه: حروف الهمس، وغيرها حروف مجهورة، أي: يخرج الحرف ولا يخرج معه نفس.
هذه الحروف التي ذكر العلماء أنها تنقسم في اللغة إلى هذه وهذه، جاء القرآن فأخذ من هذه الحروف أعلاها، وبدأ بها في فواتح السور.
قال: عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، والحروف المهموسة هي: (فحثه شخص سكت)، فأخذ منها الحاء والهاء والصاد والسين والكاف، فكان نصف الحروف المهموسة في فواتح السور، ونصف الحروف المجهورة في أوائل السور، والحروف المهموسة عشرة أحرف، فذكر الله عز وجل في كتابه النصف منها -أي: خمسة أحرف- والأحرف المذكورة في أوائل السور أربعة عشر حرفاً، فنصف المهموس هذه الخمسة، والباقي من الأربعة عشر: تسعة أحرف، إذاً مجموع الحروف المجهورة: ثمانية عشر حرفاً، ونصف الثمانية عشر في فواتح السور، أي: نصف المجهور ونصف المهموس.
وهذا شيء عجيب لمن يتفكر فيه! فهذه الحروف نصف المهموسة ونصف المجهورة!! أخذ الله عز وجل نصف المجهورة ونصف المهموسة فجعلها في فواتح السور، وقلنا: إن عدد السور ثمانية وعشرون بعدد الحروف الأبجدية، وعدد الحروف المقطعة من دون التكرار أربعة عشر حرفاً، على نصف عدد السور، وعلى نصف عدد الحروف، وهذه الحروف المذكورة في أوائل السور تتصف بوصفين: نصف مهموس، ونصف مجهور، فنصف الحروف المهموسة مذكورة في أول بعض هذه السور، ونصف الحروف المجهورة مذكورة في أول بعض هذه السور! وهذا شيء خاص باللغة العربية، ليس للرياضيات ولا الحساب ولا الإحصاء شأن في ذلك.
وليس هذا فقط في المهموس والمجهور، بل هناك حروف حلقية، وهي ستة: الهمزة، والهاء، والعين، والغين، والخاء، والحاء، وباقي الحروف من غير هذا المخرج، فنصف الحروف الحلقية في فواتح السور! كأنه يقول: إن عدد الحروف المعجمة ثمانية وعشرون حرفاً، سنذكر نصفها؛ لندل على الباقي، ولن نذكر لك كل الحروف، وأنت اعرف الباقي.
فنذكر لك نصف المهموس والنصف الآخر من المجهور في فواتح السور.
كذلك الحروف تنقسم إلى: شديدة، وغير شديدة، والحروف الشديدة هي: (أجد قط بكت): الألف، والجيم، والدال، والقاف، والطاء، والباء، والكاف، والتاء، ثمانية أحرف، فنصفها في بعض السور والنصف الآخر في باقي هذه السور! وكأن أنواع الحروف التي تنطق بها القرآن يذكر من كل نوع نصفه ويضعه في أول كل سورة من هذه السور، ويقول لك: سنحضر لك من كل الحروف أشرفها ونضعها، ونأتي بهذا القرآن من مثلها، وحاول أنت أن تأتي بمثل ذلك، ولن تستطيع إلى ذلك سبيلاً.(412/6)
قول بعض اليهود في الحروف المقطعة
اليهود سمعوا هذه الحروف وهم في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحاء في أثر إسناده فيه ضعف: أن أبا ياسر بن أخطب في رجال من اليهود مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ فاتحة سورة البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، فذهب أبو ياسر بن أخطب إلى أخيه حيي بن أخطب -وهما من أكابر اليهود- فقال: إني سمعت محمداً -صلى الله عليه وسلم- يتلو فيما أنزل الله عليه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، فقال: أنت سمعته قال ذلك؟ قال: نعم، فمشى إليه حيي بن أخطب، وهل يريد متابعة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا مستحيل! فليس هناك يهودي من نفسه يريد أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الندرة القليلة، فقد أسلم الكثيرون من النصارى، أما اليهود فلم يسلم منهم بعدد أصابع اليدين، فاليهود لا يسلمون إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.
وإذا بالرجل يتوهم شيئاً ويقول: هذا عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن لهم نوعاً من الحساب يحسبونه، فيعطي كل حرف من حروف (أبجد هوز) عدداً من الأعداد، فيقول: الألف: بواحد، والباء: باثنين، والجيم: بثلاثة، والدال بأربعة، والهاء: بخمسة، والواو: بستة، والزاي: بسبعة، وكل حرف يعطيه عدداً إلى أن يصل إلى رقم عشرة، ويبدأ الذي بعده يعد بالعشرات، فيكون الأول بعشرة والذي بعده بعشرين، ثم بثلاثين، إلى أن يصل إلى المائة، ثم بعد ذلك يعد بالمئات.
مائة ثم مائتين، ثم ثلاثمائة، وأربعمائة وهكذا.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال: جاءك بها جبريل من عند ربك؟ فقال: نعم، قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وأجل أمته غيرك، كأنه يريد أن يوهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقل الأنبياء مكثاً في قومه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: الألف: واحدة، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فتكون مدة قومك إحدى وسبعين سنة! من أين أتى هذا الكذاب بهذا الشيء؟! وهو يريد إلقاء الشك في قلوب من حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه يقول له: أنت مدة دعوتك واحد وسبعون عاماً، ولن تمكث أكثر من ذلك، ونحن لا نريد هذه الدعوة التي عمرها إحدى وسبعون سنة! ثم قال: ماذا نزل عليك غير هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المص) فقال: هذه أثقل وأطول، الألف: بواحد، واللام: بثلاثين، والميم: بأربعين، والصاد: بسبعين، فيكون مائة وواحداً وثلاثين، إذاً: ستمكث هذه الأمة مائة وواحداً وثلاثين عاماً، يريد أن يقول له: نحن قد مضى علينا أكثر من ألف سنة، وأنت ستجلس هذا العمر، إذاً لن يتبعك أحد؛ ليلقي الشك في قلوب الناس.
فقال: ماذا أنزل عليك أيضاً؟ فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (الر)، فقال هذا أطول، وحسبها مائتين وواحداً وثلاثين.
قال: هل نزل غيره؟ قال: (المر) قال: هذه أكثر، وحسبها مائتين وواحداً وسبعين.
فقال شخص منهم: لعل الله جمع له هذا كله! فجمعوها فقالوا: سبعمائة وأربعة، وقالوا: لقد خلط علينا! والآن نعرف يقيناً كذب هؤلاء، فنحن الآن في سنة ألف وأربعمائة وستة وعشرين، وهم قالوا له: أقصى شيء يكون عمر أمتك هو سبعمائة وأربع سنين، وهذا كذب، ولا يجوز للمسلم أن يقول به.
والكثير من الكهنة والعرافين يحسب هذا الشيء، فيقول لك: ما هو اسمك؟ فيحسب لك حروفك، ويقول: الاسم هذا يوافق العدد كذا، فيكون لك كذا من النحس أو من الشؤم، أو من كذا، وهذا من الكذب، فلا يجوز لمسلم أن يتعامل بمثل هذه العلوم التي يتعامل بها هؤلاء السحرة.(412/7)
اختلاف القراء في إمالة (حم)
قوله سبحانه: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2] يقرؤها ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالإمالة: (حِم)، ويقرؤها أبو عمرو كـ الأزرق بالتقليل، وباقي القراء يقرءونها بالفتح.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(412/8)
تفسير سورة الشورى [1 - 5]
سورة الشورى من السور المكية، وقد ابتدأها الله عز وجل بذكر خمسة أحرف من الحروف المقطعة، وبين بعدها أنه سبحانه هو الذي يوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الوحي هو من الله عز وجل فيجب الإيمان به وتصديقه، والامتثال لأوامره ونواهيه.(413/1)
تفسير قوله تعالى: (حم.
عسق.
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فسورة الشورى بدأنا فيها في الدرس السابق، وذكرنا أن الله سبحانه وتعالى بدأها بخمسة حروف افتتح بها هذه السورة، وهي قوله سبحانه: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، ثم قال بعدها: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3].
فذكر العلماء أن الله سبحانه وتعالى حين يفتتح السورة بحروف من هذه الحروف لابد أن لها حكمة، وقد تكلم العلماء عن بعض هذه الحكم وإن كان في النهاية الحكمة الأساسية في سبب اختيار هذه الحروف لهذه السورة هي عند الله سبحانه وتعالى، وهي من أسرار القرآن، ولكن من الأشياء الظاهرة أن الله عز وجل يتحدى المشركين بهذه الكلمات وبهذه الحروف التي هي من جنس حروفهم التي ينطقون بها، فيتحداهم ويعجزهم هل يقدرون أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟ وهم لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، بل بلغ التحدي أعظمه حين يقول سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
ليس الإنس فقط، وليس القرشيون فقط، بل كل الإنس وكل الجن، فلو كان أحد يقدر أن يعارض القرآن بمثله لحاول ذلك، حتى الذي أراد أن يأتي بمثل هذا القرآن تكلم بكلام ضحك الناس منه، وعلموا منه أنه كذاب، حتى إن أحدهم ليقول لـ مسيلمة: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أي: أنت عارف أننا نعرف أنك كذاب.
فكان من تحدي هؤلاء أن يذكر لهم: {ن} [القلم:1]، {ق} [ق:1]، {ص} [ص:1]، {الم}، {حم}، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وكأنه يقول: كلامكم من جنس هذه الحروف، فهل تقدرون أن تصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن؟ أو سورة كأقصر سور هذا القرآن؟ فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وأيضاً حين يذكر: (الم) هذا فيه افتتاح السور، وقريش لم تكن معتادة على ذلك، فهذا مما يجذب انتباه الذي يستمع إلى ذلك، فحين يسمع الواحد منهم من يبتدئ كلاماً بأن يقول: ((الم)) أو ((الر)) وهي حروف لكنه لا يفهم ما المراد من ذلك، فإنه يحاول أن يفهم ذلك، فيصغي السمع لما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان العرب أحياناً يتكلمون بحرف يعبر عن كلمة، كقول بعضهم: قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف فقوله: قاف، أي: وقفت، ولكن لابد أن يكون هناك شيء يدل على معناها قبل ذلك، وأما أن يبتدئ على طول فيقول: (الم)، (حم * عسق)، فهذا مما يشد الانتباه، وكأنهم يقولون: هذا خطاب غريب لا نفهمه، فيستمعون إلى ما يلي ذلك من كلام القرآن المعجز.
قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3]، وما من أحرف تأتي إلا وغالباً أنه يكون بعدها إشارة إلى هذا القرآن، كقوله سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، وكقوله: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:1 - 3]، فإنه إشار بعد ذكر هذه الحروف إلى هذا القرآن، وإلى هذا الوحي العظيم الذي جاء من عند رب العالمين، فقال: (كَذَلِكَ يُوحِي)، و (ذلك) اسم إشارة للشيء البعيد، أو للقريب الذي يعظم، فالذي يشير إلى البعيد يقول: ذلك، والذي يشير إلى القريب تعظيماً له يقول: ذلك، والكاف هنا حرف تشبيه، والمعنى: كهذا الشيء العظيم الذي أعطيناك إياه، وأنزلناه إليك، وأوحيناه إليك، وكما أوحينا إليك هذا الكلام أوحينا إلى الذين من قلبك، فلست بدعاً من الرسل.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)، من الذي يوحي؟ (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فذكر ثلاثة أسماء من أسمائه الحسنى: (الله) هو لفظ الجلالة أي: المعبود وحده لا شريك له، الإله الحق لا شريك له، ولا إله سواه، (العزيز): الغالب القوي، الذي لا يغالب، ولا يمانع: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلا يقدر أحد أن يمتنع منه، فإذا قال: كن إنساناً، كان إنساناً، وإذا قال: كن حيواناً كان حيواناً، كن صغيراً كن كبيراً كن حياً كن ميتاً فإنه يكون كما أمر ولابد أن يكون، فلا شيء يمتنع عليه سبحانه وتعالى.
والله عز وجل له مشيئتان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة شرعية، والمشيئة الكونية القدرية يستحيل أن يعارض أحد فيها، والمشيئة الشرعية كأن يخبر أنه عز وجل يحب كذا، وأنه يريد لعباده الإيمان، يحب منهم ذلك فيأمرهم به، وهذا الأمر غير الأمر الأول الذي ذكرناه.
فالمشيئة الشرعية: ما يحبه الله عز وجل من عباده، فلم يكن أمراً من الله عز وجل كونياً، ولكن جعل الله عز وجل للعبد الاختيار، وإن كانت مشيئة الله غالبة، فنؤمن بقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله أعطاك في نفسك ما تستشعر به أنك مختار، وأنك تريد كذا أو لا تريده، وأنك تمسك أو تترك، وأنك تأخذ بهذا أو تترك هذا، وعلى هذا الاختيار يجازيك يوم القيامة، فإذا اخترت أن تصلي فإنه يثيبك بالجنة، وإذا رفضت ذلك واخترت متابعة الشيطان ومطاوعته فإنه يعاقبك.
فالله عز وجل له مشيئتان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة أخرى شرعية، وهي التي يأمر العباد بها من أوامر تدخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى فيما يحبه من عباده سبحانه أن يفعلوه، وفيما يكره من عباده أن يأتوه، فجعل لهم اختياراً فيقولون: سنفعل، ويقولون: لن نفعل.
فالمشيئة الشريعة مثل أن يقول: صل، صم، حج، اعتكف، افعل الخيرات، نكره كذا، لا تزن، لا تسرق، لا تعص، لا تفعل كذا، فهنا الله عز وجل يأمرك ويترك لك خياراً، فتختار هذا فتثاب عليه، أو تترك وتختار الآخر فتعاقب عليه، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، أي: دللناه على الطريقين: طريق السعادة، وطريق الشقاوة، ولا يتعارض هذا مع علم الله السابق أن هذا سيختار الكفر ويترك الإيمان، فكتب عنده ذلك، وأن هذا سيختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وأنه كتب ذلك عنده، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
قوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ)، أي: الغالب سبحانه، القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة العظيمة البالغة، فكل شيء يرجع إلى حكمته سبحانه.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ)، خص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذه حكمة من الله عز وجل؛ فهو أعلم بمن خلق، والله يصطفي من يشاء، ويجتبي من يشاء، ويهدي من يريد، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله على البشر، والاختيار إلى الله سبحانه وليس إلينا، كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
إذاً: فالله عز وجل بعلمه وحكمته اختار محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الوحي من السماء في هذا الوقت، وفي هذا المكان، ومن بين هؤلاء الناس، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى أوحى إلى نبيه بهذا القرآن العظيم المحكم المتين، فالله سبحانه حكيم أنزل كتاباً محكماً، والله سبحانه قضى وقدر أمراً مبرماً محكماً، فالله حكيم سبحانه، والله الحاكم، والحكيم صيغة مبالغة منه، قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، وهو ذو الحكمة، وهو الحكيم والحاكم والحكم سبحانه وتعالى، الحكيم: الذي يحكم الأمور فيتقنها فلا يعتري ما أحكمه خلل ولا تلف ولا كساد.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك)، أي: كهذا الذي أوحينا إليك في هذه السورة نوحي إليك أيضاً باقي هذا القرآن، وننزل عليك الوحي من عندنا من السماء، فيوحى إليك من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه وتعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:36 - 37]، وهنا يقول: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) وتمت الجملة بقوله: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقوله في سورة النور: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فقوله: (رِجَالٌ) هو الفاعل هنا، وبه تمت الآية وتمت الجملة.(413/2)
تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم)
ثم قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:4]، فالله سبحانه وتعالى يسوق لنا دلائل ألوهيته وربوبيته سبحانه وتعالى، فالله عزيز وحكيم سبحانه، والله يملك، وهذه صفات ربوبيته سبحانه وتعالى، فمقتضى ربوبيته أنه الذي يخلق، والذي يرزق، والذي يملك، والذي يعطي، والذي يمنع، والذي يعز، والذي يذل، والذي يفعل بعباده ما يشاء سبحانه، هذا مقتضى أنه رب، والإله مقتضاه: أن عباده يتوجهون إليه بأفعال شرعها لهم، فأنت توحده فتعبده فتقول: لا إله إلا الله.
فمقتضى ألوهيته أن العباد يتوجهون إليه بالعبادة ولا يشركون به شيئاً.
والربوبية مقتضاها: صدور أفعال منه سبحانه وتعالى لا يقدر عليها غيره، فالله الرب الذي يخلق، والذي يربي، والذي يعطي ويمنع، والذي يملك كل شيء، والذي يشرع لعباده سبحانه وتعالى، هذا مقتضى أنه رب.
قال تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، خلق السماوات وخلق الأرض، ويملك السماوات ويملك الأرضين، وله كل ما فيهما من خلق.
ثم قال: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، وهذان اسمان له تبارك وتعالى أيضاً، فالله هو العلي، والله هو العظيم، وهنا في هاتين الآيتين ذكر سبحانه خمسة أسماء له تبارك وتعالى، وهي: الله، العزيز، الحكيم، العلي، العظيم.
وقوله: (الْعَلِيُّ) ذكر العلي وذكر المتعالي سبحانه وتعالى، فهو له العلو فوق خلقه، وكل شيء تحته ودونه سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، خلق السماوات وجعلها أعلى ما يكون، وجعل سمك السماء مسيرة خمسمائة سنة، وجعل بينها وبين التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، ثم السماء الأخرى جعل سمكها مسيرة خمسمائة سنة، وجعل بينها وبين التي تليها مثل ذلك، وهذا شيء عظيم جداً جداً.
فالسماء الدنيا لا نحصي ما تحتها من كواكب ونجوم وشموس وأقمار وغيرها، فكيف بالسماء نفسها؟ وكيف بمخلوقات الله التي في هذه السماء؟ فالله فوق سماواته سبحانه وتعالى، قال لنا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:16 - 17]، والذي في السماء هو الله الذي ترفع إليه يديك وتقول: يا رب! يا رب! {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، الذي ينزل الملائكة والروح من السماء ليكونوا مع الخلق في ليلة القدر، إنه الله عز وجل الذي يفعل ما يشاء وهو الكبير المتعال سبحانه وتعالى.
فالله له العلو المطلق، فله علو الشأن، فشأنه عظيم، ولا يحيطون بشيء من علمه، ولا يحيطون به علماً سبحانه وتعالى، وله علو القهر، فقد غلب كل شيء، وقهر كل شيء، وعلا على كل شيء، وله علو الذات سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فاستوى فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، كما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسي بجوار العرش كحلقة في فلاه)، والله على عرشه استوى، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، يأمر سبحانه وينهى، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].
فهو العلي العظيم سبحانه وتعالى، صاحب العظمة سبحانه وتعالى، فلا تتكبر؛ فالكبر لا يليق بك، والكبر لا يليق إلا بالله وحده لا شريك له، الكبر لمن يملك صفات الجلال وصفات الكمال، وصفات العظمة، وهي لله وحده سبحانه وتعالى، فلا يليق بمخلوق ضعيف أن يقول: أنا أتكبر فليس لك أن تتكبر، وليس عندك ما يجعلك تتكبر، فهذه الصفة ليست لك، وإنما هي لله هي وحده سبحانه، فإذا نازع إنسان ربه في صفة الكبر أدخله النار، ولذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ لأنه ينازع الله عز وجل في صفة لا تكون إلا له سبحانه، كما قال: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، وقال في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار)، فالذي ينازع ربه سبحانه وتعالى ويتعزز على ربه، ويرفض أمر ربه سبحانه، ويستكبر على دين الله، ويستكبر على خلق الله، فكأنه ينازع الله عز وجل صفة من صفاته، ولذا قال: (أدخلته النار)، أي: يدخل هذا المتكبر النار والعياذ بالله، فالله له العظمة وحده لا شريك له، وله الكبرياء وهو العلي العظيم.(413/3)
تفسير قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم)
يقول الله سبحانه وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5].
قوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع والكسائي: (يكاد السموات) والتأنيث ليس تأنيثاً حقيقياً، فجاز فيه أن يأتي الفعل بتاء التأنيث وبياء التذكير فيها.
وقوله: ((يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب وقراء شعبة عن عاصم: (ينفطرن من فوقهن)، أي: تكاد السماوات تتشقق، وتكاد تنفطر وتنهد، لماذا هذا كله؟ يذكر الله عز وجل سبب ذلك فيقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95].
فذكر الله عز وجل أن السماوات تكاد تتفطر وتتشقق، وتسقط وتهوي من عظيم وشنيع ما قاله هؤلاء المشركون حيث قالوا: إن الله اتخذ ولداً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وجعلوا أصنامهم معبودات مع الله سبحانه وتعالى، فالسماوات تكاد تتشقق من هيبة الله، ومن خوف الله, ومن عظيم وشنيع ما قاله هؤلاء المشركون، فإنهم أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وتبجحوا وقالوا ذلك.
وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، الملائكة خلقهم الله عز وجل من نور، والإنسان خلقه الله عز وجل من تراب، والجان من مارج من نار، فكان أشرفهم في الخلقة هم الملائكة؛ لأن الله عز وجل خلقهم من نور، فكانوا أشرف المخلوقات، والإنسان خلقه الله عز وجل من تراب، ولذلك استكبر عليه إبليس وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، أي: أأسجد لهذا المخلوق من الطين؟ فالإنسان خلقه الله عز وجل ثم كرمه سبحانه وتعالى، فالتكريم للإنسان ليس لأصل خلقته، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، فالإنسان كجنس فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وبعض العلماء يقولون: أيهما أفضل: هذا الإنسان الذي كرمه الله أو الملائكة؟
و
الجواب
أن الملائكة أفضل من الإنسان بأصل الخلق، ولكن الله عز وجل بتكريمه يجعل من يشاء يتجاوز الملائكة، كما جعل محمداً صلوات الله وسلامه عليه يرقى ويتجاوز سدرة المنتهى التي حين وصل إليها جبريل عليه السلام كان كالحلس البالي، والحلس: هو الكساء الذي يوضع على الدابة ليجلس عليها صاحبها، فجبريل هذا العظيم الذي خلقه الله عز وجل وجعل له ستمائة جناح يسد الأفق، وهو رسول رب العالمين إلى أنبيائه، السفير بين السماء والأرض، ومع ذلك مقامه عند الله عز وجل كان دون النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه عن الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164]، فلما وصل إلى سدرة المنتهى لم يستطع أن يتجاوزها، وجازها النبي صلوات الله وسلامه عليه بإعانة الله عز وجل له، وبفضله عليه سبحانه وتعالى.
فالغرض: أن الله خلق الملائكة وشرفهم بأن جعل أصل خلقتهم من نور، وشرفهم بأنهم يعبدون الله ليل نهار، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وملك واحد من الملائكة نزل على قرى قوم لوط فرفعها وقلبها على أهلها، وأتبعها الله عز وجل بحجارة من نار جهنم والعياذ بالله، ملك واحد فعل ذلك، فيا ترى كم تكون قدرة هؤلاء الملائكة؟! فالله سبحانه وتعالى أعلم بقدرتهم، ولكن جبريل كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ليل نهار بأخبار السماء، ينزل من السماء إلى الأرض في وقت يسير، ويصعد إلى السماء في مقدار لو قطعه إنسان بأسرع ما يملكه فإنه يحتاج إلى ألف سنة مما تعدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يسر عليه ذلك، فكم ينفق الإنسان ليصنع آلة يصعد بها إلى القمر؟ وكم ينفق من مليارات على ذلك؟ وكم يكلفه من احتياج لآلات قوية جداًَ من أجل أن يفعل هذا الشيء؟ وجبريل لا يحتاج إلى ذلك، وإنما أمر الله (كن) فيكون، فيأتي من السماء إلى الأرض في الوقت الذي يقدره الله سبحانه وتعالى، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشياً ووقت ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
ولذلك سمي الصديق صديقاً رضي الله تبارك وتعالى عنه لتصديقه خبر السماء، فالكفار حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بأنه أسري به، تعجبوا من أمره عليه الصلاة والسلام وكانوا مندهشين، وكانوا ما بين فاغر فاه، ومصدق، ومكذب وضارب رأسه بيده؛ لأنهم لا يصدقون منه صلوات الله وسلامه عليه، فيذهبون إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيقولون: أما ترى إلى ما يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أما تسمع قوله؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس في الليل وصعد إلى السماء! قال: لقد صدقت، وصدقه الصديق رضي الله عنه، وقال: إني أصدقه في خبر السماء ينزل عليه ليل نهار، أفلا أصدقه في هذا؟ فسمي ولقب بـ الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.(413/4)
تسبيح الملائكة بحمد الله واستغفارهم للمؤمنين
قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، فالملائكة يسبحون بحمد ربهم، وينزهون الله سبحانه، ويقدسون الله سبحانه وتعالى، ويصلون لله سبحانه وتعالى، روى الترمذي وابن ماجة عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى ما لا ترون)، وحق له صلوات الله وسلامه عليه أن يرى ما لا نرى، قال: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط) أي: لا تلام السماء أن تئط، وكلمة أط معناها: هبط، أو أنه يكاد أن يسقط من ثقل ما عليه، فمثلاً: تقول إذا كان السقف عليه أحمال: السقف يئط، أي: أنه بدأ يهبط، ويكاد أن يقع من ثقل ما يحمله، فقوله: (أطت السماء)، لحملها شيئاً ثقيلاً، وما هو الحمل الذي جعل السماء تئط؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله)، أي: ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك واضع رأسه لله عز وجل، وساجد لله سبحانه وتعالى، وهناك ملائكة قيام لله عز وجل منذ خلقهم يعبدون الله، وهناك ملائكة ركع منذ خلقهم الله سبحانه، وملائكة ساجدون لله منذ خلقهم، فإذا جاءت القيامة وجاءت الساعة قاموا فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! قال الله سبحانه وتعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: ينزهونه ويقدسونه ويصلون مطيعين لله سبحانه وتعالى حامدين ربهم، يسبحون فيحمدون ويحمدون فيسحبون، فهم ما بين تسبيح وتحميد، فوراء التسبيح تحميد وهكذا فسبح باسم ربك، وسبح بحمد ربك سبحانه وتعالى، وكن حامداً له سبحانه، فالملائكة دائماً يسبحون ويحمدون الله سبحانه، فهم بحمده يسبحون، وبتسبيحه يحمدون، فيحمدون الله على ما آتاهم سبحانه وتعالى من نعمة حبه وعبادته، ومن شرف مكانتهم.
وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) وهذا من نعم الله عز وجل على عباده، ومن في الأرض هنا عموم يراد به الخصوص، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
إذاً: الملائكة تستغفر لمن يقبل الله عز وجل استغفارهم له، فيستغفرون للمؤمنين، للمسلمين، للموحدين، وليس للمشركين، فلا يستغفرون للمشركين؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، فإذا تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه، وجعل الملائكة يستغفرون له إن أسلم.
فالملائكة يستغفرون لعباد الله الموحدين المسلمين قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7].
واستغفار الملائكة للمؤمنين ذكره الله عز وجل في سورة غافر، قال عز وجل حاكياً عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]، هذا الدعاء العظيم الجميل تدعو به الملائكة لكل إنسان مؤمن، فكل إنسان مؤمن يستغفر ربه ويتوب إليه الملائكة تدعو له، وتطلب من ربها سبحانه أن يغفر له، وأن يتوب عليه.(413/5)
معنى اسم الله الغفور والرحيم
قال عز وجل: (أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ذكر هنا اسمين له، وقبل ذلك ذكر عز وجل من أسمائه: الله العزيز الحكيم العلي العظيم، وذكر هنا: الغفور الرحيم سبحانه وتعالى.
والغفور: العظيم المغفرة فهذه صيغة مبالغة، كما قال عز وجل عن نفسه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر:3]، وذكر الغفار فقال: {الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42]، وذكر الله الغفور سبحانه وتعالى، فالله عز وجل الغافر للذنب، وهو الغفار الغفور سبحانه وتعالى.
وغفر بمعنى: ستر وغطى، ومنه المغفر، وهو الدرقة التي يتقي بها الإنسان عدوه حتى لا يصيبه سهم أو سيف عدوه.
فالله عز وجل هو الغفور العظيم الستر على عباده الذي يمحو عنهم أثر ذنبوهم ليمحو عنهم الذنوب، بل قد يبدل ذنوبهم وسيئاتهم حسنات إذا تابوا وأصلحوا، فهو الغفور سبحانه وتعالى الرحيم، عظيم الرحمة، كما قال عن نفسه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
والرحمن والرحيم صيغة مبالغة من الرحمة، فالله هو الرحمن، والرحمن متضمن لصفة فيها عموم وخصوص، والرحيم متضمن لصفة فيها عموم وخصوص، فالرحمن متضمن لصفة الرحمة، وهي رحمة من الله عامة لكل خلقه، ففي الدنيا يتراحم الخلق: المسلمون يتراحمون، والكفار يتراحمون، والدواب تتراحم، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها حتى لا تؤذيه، فهذه من رحمته المأخوذة من اسمه الرحمن سبحانه التي جعلها في قلوب من يشاء من خلقه، ومن رحمته العامة أنه سبحانه أنزل الكتب هداية للخلق، فمنهم من يهتدي ومنهم من يضل، فالله عز وجل قد أعذر إذ أنذر سبحانه وتعالى، فأنذر خلقه وأعذر إليهم، وأقام عليهم الحجة سبحانه وتعالى، فرحمة الله عز وجل عامة لجميع الخلق.
ولا يتسمى بالرحمن إلا الله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: هل سمعت أحداً يتسمى بالرحمن قبل ذلك؟ فما أحد تسمى بذلك، إلا أن يكذب المشركون فيدعون أن باليمامة إنساناً اسمه الرحمن، فيكذبون، لكن أن أحداً يسمي نفسه رحماناً هذا لم يقع، فالرحمن عز وجل ليس له سمي يتسمى باسمه سبحانه وتعالى، والسمي: هو المقابل الذي يتسمى بهذا الاسم، يقال: اسمي فلان، وفلان سميي أي: اسمه مثل اسمي.
فالخصوصية أن الله عز وجل وحده هو الذي يتسمى بذلك، كما أنه وحده الذي يتسمى: (الله) سبحانه وتعالى.
والرحيم: يتضمن صفة الرحمة، وفيها عموم وخصوص، فالعموم فيها: أنها صفة الرحمة التي يجوز للمخلوق أن يتصف بها، وأن يوصف بها، فيقال: فلان رحيم، والله عز وجل كان بالمؤمنين رحيماً، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الناس يقولون: فلان رحيم، وهذا عموم فيها، فالله عز وجل هو الرحيم، وخلقه فيهم الرحماء.
والخصوصية: أن الله بمقتضى أنه الرحيم يرحم المؤمنين فقط، فكأن الرحمة في الرحيم رحمة تختص بالمؤمنين، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فالله عز وجل من أسمائه الحسنى: الله سبحانه، والعزيز، والحكيم، والعلي، والعظيم، والغفور، والرحيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة).
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على إحصائها، وأن يجعلنا من أهل جنته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(413/6)
تفسير سورة الشورى [6 - 8]
من اتخذ من دون الله ولياً فقد أمر الله نبيه أن يعرض عنه، وأخبره: أنك أيها النبي لست مراقباً لأعمالهم ومحصيها عليهم، بل الله حفيظ لأعمالهم وسيجازيهم عليها، إنما وظيفتك متعلقة بما أوحيناه إليك من قرآن عربي مبين، فأنذر به مكة ومن حولها، وحذر من يوم الجمع الذي لا شك في مجيئه، وسينقسم الناس في ذلك إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد بين الله كمال قدرته وتصرفه في الناس، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة إما على الإيمان أو أعلى الكفر، وذلك لا يعجزه، لكن اقتضت حكمته أن يدخل من يشاء في رحمته، أما الظالمون فليس لهم ولي ولا نصير يدفع عنهم ما استحقوه بكسب أيديهم.(414/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى:6].
في هذه الآية يقول لنا ربنا سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي: من دون الله سبحانه، (أَولِيَاءَ)، الولي: من يلي أمر الشيء، ومن يلي أمر الإنسان هو وليه، وقد يكون قريباً وقد يكون بعيداً.
والولي يطلق في اللغة على القريب الذي يكون بين الإنسان وبينه نسب، كالعم وابن العم ونحو ذلك.
ويطلق فيراد به ولينا ومولانا ربنا سبحانه وتعالى، فهو نعم المولى ونعم النصير.
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ)، الذين اتخذوا من دون الله عز وجل أصناماً، اتخذوا من دون الله عز وجل من ظنوا أنهم يقومون بأمرهم عند ربهم، فيوصلون أدعيتهم إلى الله عز وجل فعبدوهم من دون الله، وادعوا أنهم يرفعون الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فهؤلاء الذين عبدوا أصناماً من دون الله، وجعلوها أقرب إليهم من الله سبحانه، وجعلوها وسائط بينهم وبين الله سبحانه بغير دليل في ذلك أو سلطان، قال تعالى: (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ)، فالله مراقب لهم، والله محصي عليهم أعمالهم وأقوالهم، والله شاهد عليهم سبحانه وتعالى، والله يحفظ عليهم أعمالهم، ويحكم عليهم يوم القيامة بهذا الذي صنعوه وفعلوه، بعلمه وقدرته.
فـ (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي: شاهد ورقيب سبحانه.
قال تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، فليس أمرهم موكولاً إليك فتصير وكيلاً عنهم في هذا الذي يفعلونه، إنما أمرهم إلى الله رب العباد سبحانه وتعالى، وليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن آمنوا فبفضل الله سبحانه، وإن كفروا فبعدل الله سبحانه والله عليهم قدير.
فالأمر موكول إلى الله يحكم فيه بما يشاء، ولذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، فأمره أن يذكر هؤلاء، وأنه لا يملك هدايتهم كما قال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
فهو ليس وكيلاً عليهم صلوات الله وسلامه عليه، وليس حفيظاً عليهم، وإنما هو مبلغ رسالات ربه سبحانه وتعالى.
أما الهداية المضافة إليه فمعناها: أنه يدلهم على الخير وعلى طريق السعادة، ويحذرهم من طريق الشقاوة، والأمر راجع إلى الله فهو الوكيل سبحانه وتعالى.(414/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي: هذا القرآن العظيم الذي نزل بلسان عربي مبين من عند رب العالمين.
والوحي من الله سبحانه وتعالى بأن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم جبريل سفيراً بين السماء والأرض ينقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله ما يشاء سبحانه من قرآن ومن سنة.
وقد نزل بهذه اللغة التي هي أشرف اللغات، فهذا القرآن أعظم الرسالات، نزل بسفارة أشرف ملائكة الله عز وجل وهو جبريل، ونزل في أشرف وأفضل شهر وموسم في رمضان في ليلة القدر من عند ربنا سبحانه إلى بيت العزة في السماء، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف بقعة في الأرض وهي مكة المكرمة.
فكان القرآن أعظم كتاب نزل من السماء بأفضل لغة وهي اللغة العربية، على أشرف وأفضل الخلق النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا القرآن {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، أي: مبين مفصح معبر، فهو بين واضح فصيح بليغ، وهنا يذكر الله سبحانه وتعالى أنه نزل من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً، والقرآن بمعنى: الكلام المجموع المقروء الذي يقرأ ويتلى.
فهذا القرآن كتاب واحد نزل من السماء إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، وحياً من الله مع جبريل الملك عليه السلام.
وفي أول السورة قال: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى:3] أي: بمثل هذا الوحي ينزل جبريل عليه السلام من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الذين من قبله.
لما أراد اليهود أن يختبروا النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنه على حق أم لا سألوه أسئلة فأجابها، فلما أجابها قالوا: إنك نبي والآن نتابعك أو نفارقك، من وليك من الملائكة؟ قال: جبريل وليي وولي من قبلي، وهو الذي نزل علي، ونزل على كل من كانوا قبلي.
قالوا: لا نتبعك، ولو كان وليك من الملائكة ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والذي ينزل بالقطر لاتبعناك، ولكن جبريل ينزل بالعذاب.
فهذا كلام اليهود لعنة الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، فلم يغب عنهم أنه حق صلوات الله وسلامه عليه، ولكنهم أرادوا المفارقة، وأرادوا عدم الاتباع، وغيرهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نخاف أن نتبعك فتقتلنا يهود.
فالعلة الصحيحة أنهم هم خائفون أن يقتلهم اليهود لو اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وغيرهم يخافون على ما عندهم من كراس وأموال، فلا يريدون أن يفقدوها، وظنوا بالآخرة وطمعوا في الدنيا فرفضوا أن يدخلوا دين النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومنهم من يقول: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبياً، فنحن ننتظر نبياً من ذرية داود، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت نبي ولكن نبي إلى الأميين ولست إلينا.
فشهدوا له بالنبوة، وكونهم يشهدون له بالنبوة هذه شهادة له أنه معصوم صلوات الله وسلامه عليه من الكذب، إذ كيف يكون نبياً من عند رب العالمين ثم يكذب عليه الصلاة والسلام؟ فشهدوا له بالنبوة ثم رجعوا فرفضوا، فهو يقول: أنا رسول للخلق أجمعين، وهم يقولون: أنت نبي إلى العرب فقط.(414/3)
مكة هي أم القرى
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) وقد ذكرنا أن في كلمة (قرآن) قراءتين: قراءة ابن كثير: (قراناً عربياًً)، وقراءة باقي القراء: (قرآناً) بالهمزة.
قال تعالى: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) أم القرى مكة، وكأن مكة أصل، وأم الشيء أصله، كما تقول: أم الدماغ، أي: أصل الدماغ، وأم الكتاب: أصل الكتاب.
فأم الشيء أصله، وكذلك مكة كأنها أصل القرى، وأفضل القرى، وأحب البلاد إلى الله سبحانه وتعالى، ومركز الدنيا جميعها.
وقد سماها الله عز وجل في القرآن مكة وسماها بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة، وتمك بمعنى: قليلة المياه.
أما لماذا سميت أم القرى؟ فقد ذكر المفسرون أن الأرض دحيت من عندها، أو من تحتها، فكانت كالأصل وباقي البلاد حولها.
وهذا الكلام الذي يقوله المفسرون في الماضي يؤيده العلماء في الحاضر، فيقولون: إن سرة الأرض وأوسطها هي مكة.
فقبل أن تكتشف الأمريكتان، وبعد أن اكتشفت أمريكا وأستراليا، فمكة هي مركز الدنيا وأصل الأرض.
وهنا تتعجب عندما أن تسمع كلام هؤلاء العلماء في أمر مكة، فهذا عالم من العلماء المصريين اسمه: الدكتور حسين كمال الدين؛ يثبت هذا الشيء من غير قصد، فبينما هو يعمل خريطة من الخرائط من أجل أن يوضح القبلة في كل بلد من بلدان المسلمين، وخاصة المغتربين الذين يخرجون من بلادهم ويذهبون إلى بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها، ويريدون أن تحدد لهم القبلة، وفجأة يحط البرجل على مكة ثم حركه إلى الطرف الثاني، وإذا به يدور ومركز البرجل في مكة، ويحيط بالدول جميعها.
ثم رجع بعد ذلك يرسم الخريطة ثانية من غير أن يحط فيها أستراليا، وقبل اكتشاف أستراليا وأمريكا رسم خريطة الماضي، ووضع البرجل في مكة وحركه فوجد مكة هي منطقة الوسط ومركز العالم كله، العالم القديم والعالم الحديث.
فهي أم القرى هذه البلدة العظيمة التي أنزل الله عز وجل القرآن فيها على النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه؛ لينتشر النور من مركز الأرض إلى جميع أنحاء الدنيا.
وكالة (ناسا) كانت قد نشرت صورة في وقت من الأوقات، وبعد مدة لم تظهر هذه الصورة مرة ثانية، وفي هذه الصورة يرى من الفضاء أنه أكثر مكان في الأرض يشع نوراً سواء بالليل أو بالنهار كانت مكة والمدينة.
وقال عالم مسلم: إن أحد العلماء الأمريكان في علم الجغرافيا يحقق في وجود هذه البلدة ومطلعها الجغرافي من غير أن يدفعه شيء عقدي، إذ ليس مسلماً، ومن المعلوم أن كل كوكب خلقه الله عز وجل يخرج منه إشعاع إلى الكوكب الآخر ثم من الكواكب المحيطة إلى الأرض.
فتوصل هذا العالم الأمريكي في أبحاثه إلى أن مركز تلاقي الإشعاعات الكونية التي تخرج من النجوم ومن الأفلاك المحيطة بنا في مكة.
وهذا شيء عجيب جداً أن تكون مركز تلاقي النور من السماء، وينزل القرآن في هذا المكان ليشع نوراً إلى بلاد الدنيا؛ ليكون النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين نذيراً، ويتعجب هذا الرجل وهو يذكر أن هذه البلدة عجيبة، فالذي يذهب إليها يتعلق قلبه بها، وينجذب إليها، فهي مركز جذب يجذب إليه الكواكب الآخر، ويجذب إليه قلوب المؤمنين.
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) يبدأ في الإنذار بأم القرى، ثم تتسع الدائرة إلى أن يشمل الدنيا كلها فيدخلها دين الله تبارك وتعالى بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله عز وجل الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله عز وجل به الكفر وأهله.
ومن الأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك).
وروى الترمذي وأحمد وغيرهما عن عبد الله بن عدي بن حمراء قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله).
فهي أحب البلاد إلى الله، وأحب البلاد إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولولا أنه أوذي فيها الأذى الشديد فأمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة لما خرج صلوات الله وسلامه عليه وما تركها، وإنما هي الدعوة إلى الله، فحيث يأمره الله عز وجل بالتوجه ليدعو إليه سبحانه وتعالى يمتثل.(414/4)
إنذار النبي صلى الله عليه وسلم للناس
يقول ربنا سبحانه: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)، هو هنا نذير، وأخبر في غير هذه الآية أنه بشير وأنه نذير، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
إذاً: النذير من النذارة، وينذر: يخوف ويهدد بعذاب الله عز وجل من يكفر بالله ويشرك به سبحانه.
قال تعالى: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ)، أي: تنذر يوم القيامة، فتحذر الناس من هول المطلع في ذلك اليوم.
ففي يوم القيامة يأمر الله عز وجل إسرافيل عليه السلام فينفخ في الصور ويهلك جميع من على الأرض، وجميع من يشاء الله سبحانه وتعالى.
ثم يأمره الله عز وجل فينفخ في الصور مرة ثانية، فإذا بالناس يقومون للحساب والجزاء عند رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: تهدد وتخوف من يكفر ويشرك بالله بهذا اليوم الموعود يوم القيامة الذي فيه الحساب الشديد من رب العبيد سبحانه وتعالى، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
يوم القيامة يوم تدنو الشمس من الرءوس، ويعرق كل إنسان بحسب ما كان يضيع في الدنيا ويفرط، ولا يبذل الجهد في طاعة الله سبحانه وتعالى، فالعرق الذي لم يبذله في الدنيا سوف يبذله يوم القيامة حين تدنو الشمس من الرءوس.
من كان لاهياً غافلاً في الدنيا، تاركاً لدين الله وراء ظهره يلجمه العرق، أو يغطي رأسه عرق وشمس محرقة، وموقف عظيم بين يدي الله عز وجل؛ حتى إن الإنسان يقول: يا رب! اصرفني ولو إلى النار، يظن أن النار أهون من هذا الموقف الذي يقف فيه، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4].
فهو ينذر ويخوف العباد من هذا اليوم، يقول: احذروا أنا نذير، أحذركم عذاباً قريباً سيأتيكم، وأحذركم من الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (يَوْمَ الْجَمْعِ) أي: يوم يجمع الله الخلق، ويجمع الرسل، فهذا اليوم لا شك فيه.
وفي قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ)، قراءتان: فيقرؤها الجمهور: (لا رَيْبَ فِيهِ)، ويقرؤها حمزة بالتوسط في المد في قوله: (فيه)، والمقصود من المد هنا كأنه تأكيد للنفي، كما أنك تقول: لا إله إلا الله، فتمدها، ويمدها حتى من يقصر المد المنفصل لتأكيد هذا النفي.
وهنا أيضاً كان المد لتأكيد النفي في معنى الشك في يوم القيامة، فلا شك أبداً، فهو يوم لا بد أن يأتي.
فإذا جاء يوم القيامة وانتهى الحساب توجه البعض إلى الجنة، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} [الشورى:7] والبعض الآخر إلى النار كما قال تعالى: {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
وكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الله عز وجل قال قبل ذلك: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي) فالله عز وجل خلق خلقه فجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، ويدخلون السعير بأعمالهم التي يحصيها لهم ويحاسبهم عليها، فإذا أوبقتهم أعمالهم قال لهم: لوموا أنفسكم، أنتم الذين قصرتم في ذلك، كما قال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] فيقال للعبد يوم القيامة: اقرأ أنت عملت كذا، ولا يقال: إنا قدرنا عليك أن تدخل النار، فنحن نحاسبك على القدر.
إنما يقال: أنت فعلت هذا الشيء، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وشهيداً، فالإنسان يوم القيامة يشهد على نفسه بما فعله في الدنيا.(414/5)
تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة)
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8] فكما جعل للملائكة وهم أكثر عدداً من الخلق السماء قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء)، أي: صوتت من ثقل الملائكة الذين عليها، والسماء أعظم من الأرض بكثير، وإذا قورنت الأرض بالسماء كانت كقطرة في بحر وكحلقة في فلاة، والمخلوقات التي في الأرض لا يبلغون أن يكونوا كعدد ملائكة السماء ففي كل أربع أصابع يوجد ملك، فالسماء امتلأت بملائكة الله سبحانه الذين يطيعونه ولا يعصونه سبحانه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد لله عز وجل) وكما قال الله سبحانه وتعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وبنو آدم في هذه الكرة الصغيرة التي لا تكاد ترى في هذا الكون العظيم منهم من يعبد الله ومنهم من يشرك بالله.
وربنا كان قادراً أن يجعلهم كلهم في الجنة؛ فالله على كل شيء قدير، ولكن أراد أن يكلف هؤلاء العباد وأن يختبرهم: إذا ترك لهم الخيار هل يختارون طريق الله سبحانه والجنة أم أنهم يختارون غير ذلك؟ فالله عز وجل خلق الإنسان ليبتليه، كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] فجعلكم مكلفين، وجعل لكم عقولاً هي مناط هذا التكليف، يكلفكم ويختبركم ثم يجازيكم يوم القيامة، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن الله سبحانه يدخل من يشاء في دين الإسلام ليستحق الرحمة ويستحق رضوان الله وجنته يوم القيامة.
قال تعالى: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، وأعظم الظلم هو الشرك بالله سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فمن ظلم نفسه فكفر بالله وأشرك بالله سبحانه وقع في هذا العذاب، فالظالمون ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير، والولي: هو القريب، أي: ليس لهم من يحن عليهم يوم القيامة من قريب، كابن عم أو ابن أخ، أو يرحمهم ويقف بجوارهم ليدافع عنهم، وليس لهم نصير يدافع عنهم أمام الله، فلا يوجد محامٍ يوم القيامة يحامي على الإنسان، ولا مناصر يمسك السيف ويدافع عنه.
وإن كان الكفار بجهلهم وغبائهم زعموا ذلك، فوقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم معاندين، فخوفهم وحذرهم من بطش الله سبحانه، فإذا بهم يصرون على ما هم فيه، وقالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فلما ابتلاهم الله في الدنيا إذا بهم يهرعون للنبي صلى الله عليه وسلم يجأرون بالدعاء ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع لنا ربك يرفع عنا ما نحن فيه)، ويناشدونه الله والرحم يوم أن دعا عليهم وهم في مكة بسنين كسني يوسف في شدة القحط؛ ليذيقهم عذاباً في الدنيا.
فلما حدث بهم ذلك جاءتهم سنة فأكلوا الميتة، وأكلوا الجلود، وأكلوا الكلاب وكل ما وجدوه، فإذا بهؤلاء الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نناشدك بالله وبالرحم.
عرفوا الرحم في هذا الوقت وقد قال لهم: عرفتم الآن الرحم؟ لقد قال لهم من قبل: لا تقطعوا الرحم الذي بيني وبينكم، كما قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] لكنهم رفضوا.
فلما ابتلاهم الله أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم أن يدعو الله ليرفع عنهم ما هم فيه، فحن لهم صلوات الله وسلامه عليه وأشفق عليهم، فدعا ربه فرفع عنهم ذلك، قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سيرجعون مرة ثانية إلى عدم الإيمان وقد رأوا الآيات والمعجزات وكذبوا بيوم القيامة، وأعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
ثم جادلوا فقالوا: وعلى فرض حصول يوم القيامة فمثلما أعطانا في الدنيا سيعطينا يوم القيامة، ونكون نحن المقربين عنده وقد جعلكم في الدنيا فقراء وضعافاً، أما نحن فقد أغنانا وكذلك في يوم القيامة، وعلى افتراض أنه سيعذبنا، فسنتجمع وندافع عن نفسنا.
وقد كان فيهم رجل اسمه أبو الأشدين كان شديداً، فبلغ من قوته أنهم كانوا يضعون جلداً على الأرض، ويضع رجله عليه ثم يشده عشرة منهم حتى يتمزق الجلد ولا يستطعيون سحبه من تحته.
فقال لهم: يوم القيامة علي من التسعة عشر ملكاً الذين هم على النار عشرة، وأنتم عليكم من تبقى وهم تسعة.
انظروا إلى الجهل والحماقة والغفلة! هذا هو تفكيرهم في يوم القيامة، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، حتى قتلهم الله فصاروا جيفاً في يوم بدر، وألقوا في القليب، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب فناداهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟).
فيقول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تنادي من جثث قد جيفت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).
فعرفوا الحق ويوم القيامة سوف يجمعهم الله ليجازيهم على أعمالهم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(414/6)
تفسير سورة الشورى [8 - 12]
يخبر الله تعالى أنه قادر على أن يهدي الخلق كلهم أو يضلهم كلهم، لكنه تعالى هدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء، وله الحكمة والحجة البالغة، وكذلك أخبر سبحانه منكراً على المشركين اتخاذهم آلهة من دون الله، مع أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على كل شيء، فقد خلق الخلق كلهم وخلق السماوات والأرض وما بينهما وغير ذلك على غير مثال سابق، ففطر هذه المخلوقات وأبدعها وأتقنها سبحانه، فلماذا يعبد سواه إذن؟!(415/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة وهو على كل شيء قدير)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى:8 - 9].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكن الله سبحانه وتعالى له حكمة عظيمة بالغة أن يخلق العباد فمنهم مؤمن ومنهم كافر، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فهو خلقهم لحكمة منه سبحانه، فالله عنده ملائكة يعبدونه ليل نهار، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فأراد أن يخلق خلقاً يختبرهم ويبتليهم، قال الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فعرضت أمانة التكاليف على السماوات فأبت وخافت من الحساب يوم القيامة، وعرضت على الأرض فأبت، وعرضت على الجبال فرفضت، وعرضت على الإنسان فقبل وتحمل ذلك، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، كأن المعنى هنا: جنس الإنسان الذي أخذ والذي قبل وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ففي ذرية آدم الظلم وفيهم الجهل، فوصف الجميع بهذه الصفة، فقال: (إِنَّهُ) أي: الإنسان: (كَانَ ظَلُومًا)، أي: فيه ظلم وفيه بغي، (جهولاً) أي: لا يدري مصلحة نفسه، فيجهل فيقع في الخطأ.
قال الله تعالى هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، فالله تعالى يرحم من عباده الرحماء، يرحم من عباده من يعبده ولا يشرك به شيئاً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] لكن من عبد غير الله فهذا هو الذي ظلم نفسه، وهذا هو الذي يستحق العذاب، وهذا الذي يعبد غير الله هل وجد في غير الله سبحانه صفات هو بسببها يستحق أن يعبد؟! هل هذا يصلح أن يتولى أمره هذا الصنم الذي يعبده، أو الجني الذي يتقرب إليه؟! هل يصلح أن يتولى أمره وأن يرزقه وأن يعطيه وأن يمنعه وأن يرفعه وأن يضعه؟! هل يصلح لذلك؟! قال سبحانه: ((أَمِ اتَّخَذُوا))، هذه (أم) الإضرابية المقدرة ببل والهمزة، والمعنى: اضرب عن هذا وانظر فيما يقول هؤلاء: هل اتخذوا من دون الله من يصلح لهذه الصفة أن يكون إلهاً، أم أنهم صنعوا من الأحجار آلهة فعبدوها وهم موقنون أنها لا تنفع ولا تضر؟! قال تعالى: (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: الله سبحانه وتعالى هو الولي وحده الذي يتولى أمر خلقه ويدبر الأمر، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، أي: الله يدبر أمر كونه، فهو القائم والقاهر فوق عباده، وهو الحي القيوم الذي يقوم بكل شيء، وكل شيء لا يقوم إلا به سبحانه وتعالى، فهو يتولى أمرك، ويصلح لك حياتك ومعيشتك، قال تعالى: ((فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، هذه صفة فعل من أفعاله سبحانه وتعالى، فهو الرب يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
فهل هذه الآلهة تحيي الموتى؟ الله وحده هو الذي يحيي الموتى لا شريك له، وهو على كل شيء قدير، وكل ما يكون من شيء فالله هو الذي يوجده ويكونه سبحانه وتعالى، وهو القادر على أن يبيده ويهلكه، فهو كما أنشأه من عدم قادر أن يرده إلى العدم مرة ثانية، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.(415/2)
تفسير قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)
قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، أي: فمهما اختلفتم فيه من شيء فردوا الأمر إلى الله، فهو الذي يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، ولو ترك الإنسان ونفسه وجنسه لظلم الناس بعضهم بعضاً، الإنسان من طبيعته فيه الظلم، فلا يصلح أن يحكم غيره بشريعته وبهواه هو، وبما يريده، فهو مهما ادعى الحق والعدالة والمساواة والحرية وغير ذلك من الكلام الباطل الذي تطلقه عصبة الأمم وتقول: نريد المساواة ونريد الإخاء ونريد ونريد فهذا كلام باطل، صاغه اليهود حتى يلعبوا بالأمم جميعها، يقولون: نحن الذين نقول وأنتم الذين تنفذون، ونحن الذين نحكم وأنتم الذين تكونون وراءنا، نحن لنا الدنيا كلها وليس لكم منها شيء، فصاغوا للناس ما يشتغل الناس به، يريدون الحرية، ويريدون مساواة، ويريدون ديمقراطية، ويريدون كذا ويريدون كذا، وهم بعيدون عن الحق والعدل.(415/3)
المفاسد المترتبة على تحكيم غير شرع الله سبحانه
إن حكم الله عز وجل هو الشريعة والمنهاج الذي لا يظلم أحداً أبداً، يقولون: نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لا نريد الدين، دعه وراء ظهرك، فالديمقراطية معناها: حكم الشعب نفسه بنفسه، بينما الدين يقول: الحكم إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا دين الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وهم يقولون: لا نريد الدين، ويقولون: لماذا الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرع لنا هذا الدين؟ ويقولون: العبادة دعها لله والدنيا دعها للناس، ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أي: لا يتدخل أمر الله في أمر البشر.
ونقول لهم: يقول الله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، أي: هو الذي خلقكم، فهو أعلم بنفوسكم وبطبائعكم، وهو الذي يشرع لكم حتى لا يظلم بعضكم بعضاً، يقولون: لا نريد هذا الشيء، نريد أن نكون نحن الذين نحكم أنفسنا بما نريد، فيحكمون بما يريدون، ويضعون القوانين، ومن ثم القوي يقول: لا يطبق علي هذا القانون، وإنما يطبق عليكم وإن خربت الدنيا كلها، فمثلاً: يقولون: إن ثقب الأوزون الذي في السماء يتخرم بسبب الآلات الكثيرة الموجودة في البلاد، وبسبب العلوم الحديثة والاختراعات الكثيرة والطاقة المستهلكة الكبيرة، والأوزون هو الذي يحمي الكرة الأرضية من أشعة الشمس ومن الإشعاعات الكونية الآتية من الخارج، فيقولون للدول: قللوا من استهلاك الطاقة، وكلكم يوقع على ذلك، أما أمريكا، فيقولون: لا تدخل في هذا الشيء، وكلكم عبيد لها، وهي وحدها التي تحكم.
هذه هي الديمقراطية التي تريدها، القوي يحكم الدنيا كلها، والضعيف ليس له شيء، إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، هذا حكم العبد للعبد، وحكم الإنسان للإنسان أن القوي يشرع وتعمل أنت بالذي يقوله، ويقولون: نحن نملك أسلحة نووية وأسلحة ذرية، وأنتم لا؛ لأنكم أقل في العقول من أن تملكوا، هذه الأسلحة، بل أنتم مثل الطفل الصغير الذي يمسك النار ويحرق به نفسه، لكن نحن كبار، نأخذ النار ونعرف ماذا نعمل بها.
لو فكرت دولة من هذه الدول المستضعفة أن تصنع شيئاً لقالوا: لا، القانون يمنعكم من هذا الشيء، فإن أبيتم الامتناع غزوناكم في دياركم من أجل أن نمنعكم من أن تصنعوا هذا الشيء الممنوع عليكم؛ لأنكم ستكونون الند لنا، وستخوفوننا في يوم من الأيام، إذاً لا تفعلوا شيئاً من ذلك، بل نحن فقط الذين نعمل؛ لأننا بلغنا سن الرشد! والمساواة عندهم أن تلغي الدين وأن تجعله وراء عقلك، والمساواة التي ينادون بها هي أن تساوي بين الرجال والنساء، فلا يوجد عندهم فرق بين الرجل والمرأة، فالرجل عندما يطلق المرأة عليه أن يعطيها نصف ما يملكه، هذه شريعتهم الكفرية التي يريدون أن يحكموا بها الدنيا كلها، يريدون أن يحكموا الناس بحديد ونار، يضعون الأغلال في أعناقهم ويقولون: اعملوا ما نقوله لكم وإلا خربنا عليكم بيوتكم.
هذا الذي يريدونه من المساواة المثلية، أن يكون الرجل مثل المرأة، فما المانع عندهم أن يتزوج الرجل الرجل والمرأة المرأة، هم يريدون السحاق بين النساء، ويريدون الشذوذ بين الرجال، ويسنون القوانين بذلك، ففي إيران يعدمون رجلين لوطيين وقعا في اللواط فأقاموا عليهما شرع الله عز وجل بالإعدام، فإذا بالمظاهرات في بلاد الكفر تستنكر إقامة الحدود الشرعية، ويصورون امرأة في مجلة خنقت نفسها ومنظرها منظر قبيح شنيع استنكاراً على المسلمين أن يقيموا شرع الله في أن يقتلوا اللوطي، هذه هي الحرية التي يريدونها، حرية إباحة الفاحشة، إباحة الزنا والدعارة واللواط والجنس في بلاد المسلمين، عرفوا أن بلاد المسلمين محفوظة بهذا الدين، فأرادوا أن يخربوا العقول بإدخال المخدرات إليها، فإذا ظهر في أفغانستان من يمنع ذلك كطالبان فإنها منعت زراعة المخدرات، فماذا فعل الغرب وعلى رأسهم أمريكا؟ لقد قاموا بضرب أفغانستان من أجل أن تستمر زراعة المخدرات وتخرج من هنالك.
كذلك البترول الموجود هنالك سيطروا عليه، ولما كان في العراق مخزون البترول الذي سينفعهم في يوم من الأيام حين ينفد بترولهم، قاموا بغزوهم العراق حتى يأخذوا بترول العراق، وتؤخذ أرض العراق، وهكذا في كل بلاد المسلمين، والدعوى التي يتشدقون بها هي نشر الديمقراطية، ونشر الحرية، وإزالة الناس الذين يحكمون بلاد المسلمين؛ لأن هؤلاء الحكام لا توجد عندهم حرية، وفيهم ديكتاتورية وفيهم كذا وكذا، وما هو الذي يريدون أن يأتوا به إلى بلاد المسلمين؟ أمركة جميع بلاد المسلمين، حتى تصير هذه البلاد تابعة لهؤلاء في كل شيء، وأول الأشياء هو إلغاء دين الله سبحانه وتعالى.
ألم تسمعوا لهم كيف تبجحوا وقالوا: نريد إخراج مصحف للمسلمين محذوفة منه آيات الجهاد! إنه لما ضعف المسلمون سكتوا لهؤلاء وجعلوهم يتحكمون فيهم بما يشاءون، وتركوهم يشرعون لهم ما يريدون، حتى إنهم يتدخلون في مناهج التدريس في بلاد المسلمين: درسوا كذا ولا تدرسوا كذا، وإذا ذهب المسلمون إلى بلادهم ليتعلموا علموهم فقط الأشياء التي سينتفعون من ورائها من المسلمين، أما أن المسلم يصل لدرجة عالية ويكون خادماً لبلاده فلا، بل يؤخذ لبلادهم هم، ويخدمهم هم، ولا يخدم بلاده إذا كان عالماً في الذرة، إذا كان عالماً في علوم عالية تصلح لها البلاد، هذا يستقطبونه ويأخذونه إليهم ولا يتركونه في بلاد المسلمين.(415/4)
وجوب التحاكم إلى شرع الله عز وجل عند الاختلاف
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] إذا اختلفتم في شيء بعضكم مع بعض، أو أنتم مع الكفار فردوا الحكم إلى الله سبحانه، واحذروا أن تطيعوا الكفار؛ لأنكم إذا أطعتموهم فالنار مثواكم.
قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: الله المتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، وهو الرب المتفرد بالخلق سبحانه وتعالى، فمن خلق فهو الذي يستحق أن يعبد وهو الذي يستحق أن يشرع، فإذا اختلفت مع أحد في شيء فتحاكموا إلى دين الله عز وجل لا إلى الناس، فالناس يظلم بعضهم بعضاً، ويتطاول بعضهم على بعض، وربنا سبحانه يذكرنا بشيء في طبائع نفوس الناس فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، أي: قم لله سبحانه وتعالى في أمرك في دينك ودنياك بالعدل، كن عادلاً مع المسلمين ومع الكفار، اعدل مع الخلق جميعهم.
قوله: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أي: أقيموا الشهادة ابتغاء وجه الله حتى ولو كانت على أنفسكم، ولو كانت على الوالدين، ولو كانت على الأقربين، اشهد بالحق ولا تجامل أحداً، ولا تكتموا الشهادة؛ فالله هو العليم بالنفوس، يقول: ((إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)) أي: الذي ينحرف في الشهادة إما لأن هذا غني ينتفع منه، فيقول: فلان غني سيعطيني كذا لو لم أشهد، وسيعطيني كذا لو شهدت معه، أو يقول: فلان هذا مسكين وفقير فلن أشهد عليه لئلا يؤذوه.
فيقول الله عز وجل: إن كان غنياً وأنت تريد نفعاً من ورائه أو تخاف سطوته، أو كان فقيراً وأنت ترحمه فالله أولى بهما سبحانه وتعالى، والله رحيم بعباده، وهو الذي أمرك بذلك أن تشهد، هذا الدين هو الذي يجردك عن النظر لفلان لكونه فلاناً ولعلان لكونه كذا، ويجعلك تنظر إلى الله فقط سبحانه وتعالى، فهو يراقبك وهو أولى بخلقه سبحانه وتعالى.
إذاً: المسلم الحق لا يخاف في الله لومة لائم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح متجرداً ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، هذا دين الله سبحانه وتعالى، الذي يقول لنا في كتابه العظيم: (فَحُكْمُهُ إِلَى الله)، أي: حكم كل أمر مرده إلى الله سبحانه، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي: توكلت على الله، ووكلت أمري وفوضت أمري إلى الله سبحانه وتعالى، لا أقدر على القيام بأمري؛ لأني أضعف عن ذلك، فأكل الأمر إلى الله سبحانه، فترجو من الله أن يعينك، وأن ينصرك، ولا تقل: أنا أستطيع، أنا سأعمل كذا وأفعل كذا، فأنت لا تقدر إلا أن يعينك الله، هذا معنى التوكل، أن تتوكل على الله وترجو منه الإعانة وتأخذ بالأسباب، ولا تنسب الفضل لنفسك، فليس لك فضل، فالإنسان الذي يذهب إلى عمله، من الذي أيقظك من منامك، وجعلك تقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور؟ إنه الله الذي أحياك سبحانه وتعالى، وهو الذي رد عليك سمعك وبصرك، وهو الذي وجهك بعقلك أن تتوجه إلى شغلك فلا تضل السبيل، والله سبحانه وتعالى هو الذي مكن يديك ورجليك في العمل أن تعمل وتنتج، والله سبحانه وتعالى هو الذي جعل عملك جيداً حيث أعانك عليه، وأنت عندما تنسب الفضل لنفسك وتقول: هذا بجهدي وبتعبي، وهو الذي وفقك سبحانه وتعالى، ألا تنسب الفضل لصاحبه، فتقول: الحمد لله الذي وفقني، وإنما أنا سبب من الأسباب، والله عز وجل هو الذي يدبر الأمر.
قوله: (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: أرجع إليه وأتوب إليه سبحانه؛ لأن مرجعي إليه في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا أرجع إليه تائباً، وفي الآخرة مرجعي إليه ليحاسبني سبحانه.(415/5)
تفسير قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً)
قال الله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
قوله: (فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: هو فاطر مبدع ومنشئ على غير مثال سابق سبحانه، فطر السماوات وأنشأها أول إنشاء، فلم يكن هناك سماء قبل هذه السماء التي خلقها الله، ولم يكن هناك أرض قبل الأرض التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فهو فاطرها ومنشئها أول مرة على غير مثال سابق، لا يقلد، وعادة المخترعين في الدنيا أن يقلد كل منهم الآخر، فيطور شيئاً فشيئاً، فتجد الآلة كان لها أصل، فهم لما فكروا في صناعة الطائرة هذه التي تطير في السماء، كان ذلك في زمان عباس بن فرناس، فقد قام وصنع جناحين، وحاول أن يقلد الطيور، فهو لم يأت بفكرة الطيران من رأسه، وإنما وجد أمامه طيراً فحاول أن يقلده وأن يطير، فهذا لم يفطر هذا الشيء وإنما قلد ما خلقه الله عز وجل، ثم طور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى هذا الشيء، لكن الله سبحانه خلق السماوات على غير مثال سابق، فلم تكن سماوات قبل ذلك.
قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، أي: جعل حلائلكم ونساءكم من أنفسكم.
وقوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فيها معنيان صحيحان: الأول: من أصلكم وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، خلقه الله عز وجل، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، فـ حواء من آدم من جنسه.
الثاني: جعل لكم من جنسكم من الإنس من البشر النساء، ولم يجعل لكم النساء من الجن، بل جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة سبحانه وتعالى، ولذلك لما خلق الله بقدرته سبحانه وبرحمته لآدم حواء، آنس شيئاً بجواره وركن إليها ومال إليها؛ لأنها منه ومن بعضه، فكذلك الإنسان يكون في بيته مع أهله يستشعر المحبة والمودة، ويستشعر الرحمة؛ لأنها من الجنس الذي هو منه، هي من البشر وهو من البشر.
قوله: (وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا)، أي: ملككم هذه الأنعام وجعل للأنعام من أنفسها أزواجاً، وهي أصناف وأنواع وأشكال، وجعل منها الذكر والأنثى.
وبهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، فجعلها أصنافاً ذكوراً وإناثاً، وملككم ذلك.
قال سبحانه: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)، أي: يبث وينشر ويخلق ويكثر، فيجعلكم كثيرين في هذا الخلق الذي خلقه، كثيراً من الناس، كثيراً من الدواب والحيوان والطيور، فهو سبحانه يبثكم وينشركم ويجعلكم في هذه الدنيا كثيرين.
قال عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: ليس مثل الله شيئاً، ولا شيء في خلق الله سبحانه يشبه ربه سبحانه في صفاته وفي قدرته سبحانه وتعالى، وفي ذاته.
وكلمة (مثل) هنا من أدوات التشبيه، وكذلك الكاف من أدوات التشبيه أيضاً، وهنا جمع الاثنين فقال: (ليس كمثله).
فالكاف كأن تقول: محمد كأحمد، فتشبهه، وتقول: يده كيدي ورجله كرجلي وعينه كعيني، وتقول: فلان مثلي.
فهنا جمع الاثنين لتأكيد النفي أنه لا يشبهه شيء أبداً، ولا يشبه هو شيئاً أبداً، فإذا حذفت أحد الاثنين قلت: ليس هو كشيء من الأشياء، لأن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا شيء من خلقه يشبهه، حاشا لله سبحانه وتعالى.
والكاف لتشبيه العوارض والصفات، تقول: صفاته كصفاتي، وهنا ليس كصفات الله عز وجل شيء، وكذلك لا يشبه ذات الله سبحانه وتعالى ذات من الذوات، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، لا يشبهه شيء لا في ذاته سبحانه ولا في صفاته، وإن اشترك معه المخلوق في شيء من الصفات في المسمى فهو اشتراك في التسمية نفسها، فالله حي سبحانه وتعالى، والمخلوق حي، وحياة المخلوق حياة ضعيفة ومحدودة بهذا المخلوق، والله الحي سبحانه الذي لا يموت، والمخلوق يعتريه الموت.
والله هو السميع البصير، له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى، لا يشبهه فيها شيء أبداً، والإنسان يسمع ويبصر، فإذا قلنا: فلان هذا بصير، ينظر بعيداً، فلان هذا نظره طويل، ولكن الإنسان يعتريه العشا ويعتريه العمى، وتعتري الإنسان الغفلة، ويعتريه النوم، والله سبحانه هو البصير الذي لا يعتريه شيء سبحانه وتعالى.
والإنسان يبصر فيحتاج إلى نور حتى يبصر فيه، والله يرى كل شيء سبحانه، الإنسان يرى ما ظهر، أما ما خفي فلا يراه، والله يرى كل شيء ما دق وما قل، وما خفي وما ظهر، وقس على ذلك كل صفات الله سبحانه وتعالى التي يجوز أن يوصف مخلوق بشيء منها، فالمخلوق يسمع ويرى ويتكلم، فهذه الصفات للمخلوق هي محدودة تليق بضعفه وعجزه، أما الله عز وجل فله الصفات التي تليق به سبحانه، فهو الحي القيوم وهو الرب سبحانه وتعالى، ولذلك هنا نفى وأثبت فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: لا شيء يشبه الله سبحانه وتعالى، ثم حتى لا تقدم على النفي المطلق فتنفي كل شيء عن الله عز وجل قال: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، أي: له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولكن لا يشبهه شيء في سمعه ولا في بصره سبحانه وتعالى، ولا في صفات أفعاله ولا في صفات ذاته سبحانه.(415/6)
تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السموات والأرض)
قال الله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:12].
قوله: ((لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: يملك مفاتيح السماوات والأرض، فلا يقدر أحد أن يفتح خزائن الله إلا أن يشاء الله، له الخزائن كلها، وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، العباد يسألونه سبحانه وينزل خيره إلى العباد، لكن لا يتخيل الإنسان أنه سوف ينزل من عند الله ما يشاء بمشيئته هو، فمشيئة البشر مفاتيحها عند الله سبحانه وتعالى، يملكها فلا يعطيها أحداً من خلقه، فلا يأخذون شيئاً إلا بما يشاء سبحانه، {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، ينزل رحمته فلا يقدر أحد أن يمسك هذه الرحمة ويمنعها، {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2].
إذا قدر وضيق وأمسك من الذي يترك هذا وينزله؟ لا أحد، فالمفاتيح عند الله سبحانه وتعالى، (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) والمعنى: أنه يملك مفاتيح كل شيء، ويملك خزائن كل شيء.
قوله: ((يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ)) أي: يعطي ويفتح سبحانه الرزق لمن يشاء من خلقه، ((وَيَقْدِرُ)) أي: يضيق، فهو الذي يبسط وهو الذي يضيق، وهو الذي يفتح وهو الذي يغلق سبحانه وتعالى، ((إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) أي: كل شيء تتخيله الله يعلمه سبحانه وتعالى، فكر في الشيء القليل ثم قس على ذلك الكثير، انظر إلى النخلة المثمرة، خرجت من نواة الله أعلم بها سبحانه وتعالى، هذه النواة ألقاها من أكلها، والله أعلم أين ستذهب هذه في الأرض، وينزل لها الماء الذي ينفعها، وأخرجت نبتاً، وجعل لها ساقاً، وجعل لها جذوراً، وغذاها من الأرض، ثم أخرج منها الجذوع وأخرج منها الثمار، كم عدد هذا البلح الذي في هذه النخلة؟ فالله يعلم أي بلح من هذا البلح يصير تمراً، وأي شيء منه يكون رطباً، وأي شيء منه يكون بسراً، الله أعلم بذلك سبحانه وتعالى.
وقس جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى على ذلك من دواب بثها في الأرض، وجعل لها رزقها، وجعل فيها عقولاً تفهم كيف تأتي بهذا الرزق الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فالنمل هذا المخلوق الصغير الذي جعله الله عز وجل أمماً أمثالكم، كيف تأتي إلى الحبة وتأخذها لتخزنها للشتاء، فإذا خافت عليها من أمطار السماء إذا بها تثقبها، تثقب الحبة من أجل ألا تنبت إذا جاء عليها ماء، من الذي علمها ذلك؟ إذاً: النمل يجمع هذه الحبوب للشتاء، وفي نيجيريا لما حصلت عليهم المجاعة التي هم فيها، ذهبوا ليبحثوا عن الغذاء في جحور النمل، ذهبوا من أجل أن يأخذوا من جحورها الحبوب التي جمعها النمل ليأكلها البشر، سبحان من قدر الأرزاق لمن يشاء من خلقه سبحانه وتعالى! فاحذروا من غضب الله سبحانه وتعالى أن تعصوه، فيمنع عنكم القطر من السماء، أو يرسل عليكم طوفاناً من الأرض.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(415/7)
تفسير سورة الشورى الآية [13]
لقد أرسل الله عز وجل رسله من أجل الدعوة إلى عبادته وتوحيده، فكل الرسل دعوا إلى توحيد الله عز وجل، وليست هذه الشريعة بدعاً عما قبلها، فقد دعت إلى ما دعت إليه سائر الشرائع، فكلها دعت إلى توحيد الله عز وجل، وإن كانت هذه الشرائع قد اختلفت في أحكامها، وقد جاءت هذه الشريعة بكل ما يحتاجه الناس في حياتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنها خاتمة الشرائع كلها، وقد نفس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه على هذه الشريعة، فلم يؤمنوا به كفراً وعناداً، وإن استيقنوا صدقه في قرارة أنفسهم.(416/1)
تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه الرب سبحانه وتعالى، الذي {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:12 - 13] إلى آخر ما ذكره سبحانه.
و (الله): هو الإله المعبود سبحانه وتعالى، وهو الرب الخالق الموجود المعطي سبحانه وتعالى، وقد اجتمع له الأمران: الربوبية والألوهية، ولا يوجد معبود من دون الله سبحانه وتعالى يجتمع له ذلك، فقد يتخذ الناس إلهاً من دون الله فيتوجهون إليه بالعبادة، ولكن هذا الذي يعبدونه لا يملك أن يخلق، ولا يملك أن يرزق وأن يعطي، ولا يملك أن يحيي وأن يميت، ولا يملك السموات والأرض، والله سبحانه وتعالى هو الذي له ملك السماوات والأرض، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وقال هنا: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:12]، أي: يملك مفاتيح خزائن السماوات ومفاتيح خزائن الأرض، فمفاتيح الخزائن بيده، فهو الذي خلقها، وخزائنه لا تغيض بل تفيض، فإن خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، ولا ينقصها عطاء، والله عز وجل هو الذي يعطي ويرزق من فضله ومن كرمه سبحانه، فإنه يقول للشيء: كن فيكون.
هذا الإله العظيم الرب الخالق يقول: ((شرع لكم))، أي: جعل لكم شريعة.
و ((شرع)): سلك بكم طريقاً، ونهج لكم منهاجاً، وسنّ لكم سنناً، فجعل لكم هذا الطريق، وشرع لكم شريعة.
و (شرع) مأخوذ من الشارع، والشارع يطلق على الطريق الأعظم، والطريق الأعظم هو الطريق الواسع الذي يمر فيه الجميع، فالله عز وجل شرع لكم، أي: جعل لكم طريقاً موصلة إليه، ومنهجاً تسلكونه؛ حتى تسيروا على طريق الله سبحانه وتعالى بعبادته، فتصلون إلى جنته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي: شرع لكم ديناً، وجعل لكم شريعة ومنهاجاً تعملون بها فتسلكون بها إلى الجنة، والذي شرع لكم هو الله سبحانه وتعالى، الذي قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، فالله عز وجل كما أنه يخلق -وهذه من صفات ربوبيته- كذلك يحكم ويشرع، وهذه من صفات ألوهيته سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، فالحكم لله، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
فدين الله واحد، وهو دين عقيدة وتوحيد، ودين لا يتوجه فيه الإنسان بقلبه إلا إلى إله واحد سبحانه وتعالى، وهو الإله الحق وحده لا شريك له.(416/2)
الفرق بين النبي والرسول
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) [الشورى:13] وقد ذكر هنا خمسة من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأول الرسل كان نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا يمنع أن يكون قبله آدم نبياً، وأوحى الله عز وجل إليه مما يشاء سبحانه وتعالى.
فإن النبي: كل من يوحي إليه الله سبحانه وتعالى.
والنبوءة: الإخبار بالغيب، والإخبار بما غاب عنا، وقد كان آدم عليه الصلاة والسلام نبياً، يوحي إليه الله، ويأمره ويعلمه وحياً منه سبحانه وتعالى.
وأما الرسول: فهو الذي معه شريعة يبلغها، فيكون رسولاً مرسلاً من الله عز وجل، كما تقول: أرسلت فلاناً برسالة، أي: أنك أعطيته رسالة أو شيئاً ليوصله إلى آخر، فالرسول ينزل الله عز وجل إليه شريعة وكتاباً من السماء، ويأمره بأن يبلغ إلى الناس هذه الرسالة من ربهم سبحانه وتعالى، وهذه الرسالة فيها شريعة من رب العالمين سبحانه وتعالى.(416/3)
بيان اتحاد رسالة الرسل في التوحيد واختلافها في الأحكام
والدين المذكور في هذه الآية هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وعبادة الله سبحانه وتعالى، فالتوحيد هو أصل الدين، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
إذاً: فقد أرسل الله كل الأنبياء والرسل بدعوة واحدة، وهي: أن يدعوا إلى دين الله سبحانه، وإلى التوحيد، وقد كانت دعوة الرسل لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، قال تعالى عن نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وقال عن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وهكذا جميع الأنبياء يدعون قومهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ)، فهي رسالة واحدة، وهي التوحيد.
وأما النظر فيما يصلح لكل أمة من أحكام شرعية، فهذه يختلف فيها الأنبياء، فهؤلاء يضيق الله عز وجل عليهم، فيحرم عليهم أشياء، ويضع عليهم آصاراً، وأولئك يخفف عنهم وينسخ عنهم، وهذا في أحكام التعبد لله سبحانه وتعالى، وإن كان الجميع يتوجهون إليه بالعبادة سبحانه وتعالى.
إذاً: هنا تختلف الشرائع، ولا تختلف الأديان، فأصل الدين واحد، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، فإنك تدين لربك سبحانه أنه هو الإله الواحد الذي يستحق أن يعبد، ولا يعبد إلا بما شرع، فإذا أمرك بالصلاة فصل كما أمرت، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بأن يصلي خمسين صلاة، وإذا بموسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تقدر على ذلك، فيرجع إلى ربه فيسأله التخفيف، فخفف عنه ربنا ووضع عنه، حتى وصل الأمر إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال موسى لنبينا صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك.
قال: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فقال الله سبحانه وتعالى: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، هن خمس وهن خمسون).
إذاً: فموسى أمر قومه بالصلاة، وقد كانوا يصلون بطريقة معينة، وقد علم موسى كيف أمرهم بذلك، ولم يطيقوا، وأمرنا الله عز وجل بالصلاة على هذه الهيئة التي نعرفها، وهي أشرف وأفضل الهيئات، أن نسجد فيها لله سبحانه وتعالى.
إذاً: فقد تختلف الشرائع بحسب مصالح العباد، وبحسب ما يصلح لهم، وبحسب حاجاتهم، ولكن الدين واحد، وهو دين الإسلام، قال الله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] وملة إبراهيم هي دين الإسلام {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فهذا دين الإسلام، وهو: أن تسلم نفسك لله سبحانه، وتوجه قلبك إليه سبحانه، وتعمل بطاعته، وتنتهي عن معصيته، وتكون عبداً له تستشعر العبودية بين يديه سبحانه وتعالى.
هذا هو ديننا دين الإسلام، ودين الأنبياء والمرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم.(416/4)
أولو العزم من الرسل
وقد كان الرسل كثيرين يزيدون على الثلاثمائة رسول عليهم الصلاة والسلام، وكان الأنبياء ألوفاً كثيرة عليهم الصلاة والسلام، وقد اختص الله عز وجل هؤلاء الخمسة الذين يوصفون بأنهم أولو العزم من الرسل، أي: أصحاب العزيمة والقوة في أمر الدين، وإن كان كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أخذوا أمر الله عز وجل بقوة، ولكن الله يفضل من يشاء سبحانه وتعالى، ففضل هؤلاء على غيرهم، بشدتهم في دينهم، وبتمسكهم بأمر الله سبحانه وتعالى، وبتبليغهم للدين أفضل من غيرهم، فكان هؤلاء الخمسة أولي العزم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أي: وأنت يا محمد، (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم عليهم الصلاة والسلام.(416/5)
الأمر بإقامة الدين والنهي عن التفرق فيه
وقد وصاهم الله بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، أي: أقيموا دين الله سبحانه وتعالى في أنفسكم وفي أهليكم على الأرض، وأقيموا دين الله بين الخلق، وبلغوا رسالات الله سبحانه وتعالى، واعملوا بشرع الله سبحانه وتعالى، فأقيموا دين ربكم سبحانه بتبليغه، وبالعمل بما فيه، وبأخذ الناس إليه، وبهداية الناس إلى دين الله سبحانه وتعالى، واستقيموا عليه، وأمروا قومكم بالاستقامة عليه.
ومن معنى: ((أقيموا)) هنا نفهم معنى قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، أي: استقيموا عليها، وواظبوا عليها، وتوجهوا بها إلى الله سبحانه وتعالى، واجعلوها مستقيمة لا عوج فيها، فلا تعوجوا فيها، ولا تتركوها وتسرحوا عنها، ولا تغفلوا عنها، وإنما أقيموا الصلاة كما أمركم الله سبحانه وتعالى.
فنفهم الفرق بين قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] وبين أن نقول: صلوا؛ فإن المطلوب هو إقامة الصلاة والاستقامة عليها وتقويمها وتعديلها على الوجه الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وأيضاً الإخلاص فيها، وأن نكون بها بعيدين عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
وهنا قال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، فأمر الله عز وجل الأنبياء والرسل بإقامة هذا الدين، ونحن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فأمرنا بذلك معهم، فيلزمنا ذلك بأن نقيم دين الله عز وجل في أنفسنا، ونحتكم إليه، ونعمل بشرعه، ونقيمه على أهلينا وعلى الناس، وندعو الخلق إلى دين الله سبحانه وتعالى، ونعلمهم ما هو هذا الدين الذي تركه الناس وراءهم ظهرياً.
وأنت إذا سألت إنساناً اليوم عن دين الله سبحانه لا يعرف أكثر من أنه يصلي ويصوم، ولا يعرف كثيراً عن دين الله تبارك وتعالى، وأما شرع الله وحدوده تبارك وتعالى فإنه غافلا عنها ناسٍ لها، بل لعله يزعم أن هذا كان في الماضي، وأما الآن فلا يوجد هذا الأمر، قال تعالى: ((أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه))، أي: في دين الله سبحانه، وإذا كان الحكم لله سبحانه وتعالى فكيف نتفرق ونحن نحتكم إليه؟ إذاًً: فلنأخذ دين الله ونُرجع الأمر إليه، ونَرجع إليه في جميع أمورنا، ونتحاكم إليه، فإنه الرب الواحد لا شريك له.
وقوله: ((ولا تتفرقوا فيه))، أي: في هذا الدين العظيم.(416/6)
بيان نفرة المشركين من دعوة التوحيد
قال تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (كَبُرَ) أي: كان شيئاً عظيماً عندهم إذا دعوا إلى التوحيد؛ لأنهم يرفضون هذا الشيء، فكبر عليهم في أنفسهم هذا الشيء؛ لأنهم اعتادوا أن يعبدوا آلهةً متعددة، فكان لكل قبيلة إله، بل كل إنسان كان يعبد إلهاً، بل قد يعبد الواحد عدة آلهة، كـ عمران بن الحصين الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد اليوم من إله؟ قال: ستة -أي: ستة آلهة يعبدهم من دون الله- فقال: أين هم؟ قال: خمسة في الأرض وواحد في السماء.
قال: فمن الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء) وهذا الكلام منه صريح وجد؛ لأن الذي في السماء هو الذي يعطيه، وهو الذي ينفعه ويضره، وأما عبادته الباقين مع أنه لا يرجو منهم شيئاً فكما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: إنهم يعبدونهم لأنهم بزعمهم وبكذبهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى إله واحد تعجبوا منه، وتعجب الحمقى والمجانين فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، استغربوا وقالوا: انظروا إليه، يقول لكم: اعبدوا إلهاً واحداً، وأنا أعبد ستة آلهة، وذاك يعبد عشرة آلهة، وذاك يعبد كذا، أفنرجع كلنا نعبد إلهاً واحداً؟ فقد انغلقت عقولهم فلم يفهموا ذلك، وقالوا: هذا شيء عجيب! والإنسان الأحمق هو الذي يعجب من غير عجب، والذي يعجب من أمر ليس فيه عجب.
فهؤلاء يتعجبون من عبادة إله واحد، ودارت الأيام ومات منهم من مات، وقتل منهم من قتل، وأسلم منهم من أسلم، فكانوا يضحكون على أنفسهم بعد ذلك، فكانوا يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد بعد أن يصلوا معه الفجر يذكرون الله عز وجل، وذكر الله بعد الفجر والجلوس في المسجد لمن استطاع ذلك له فضيلة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين إلا كتب له أجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة)، فالذي يجلس في المسجد بعد أن يصلي الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله عز وجل إلى أن تطلع الشمس وترتفع حوالي ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم يصلي ركعتي الضحى، كتب له أجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بعد الفجر في المسجد، وكان أصحابه يجلسون حوله يذكرون الله سبحانه، وكل يذكر الله في نفسه إلى أن تطلع الشمس، ثم يصلون ركعتي الضحى، ثم يتكلمون مع بعضهم، ويذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية، من أنهم كانوا يعملون كذا وكذا، فيقول أحدهم: كنت أصنع صنماً من عجوة فإذا جعت أكلته! فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مما يقولون.
وهؤلاء هم الذين كانوا في الجاهلية يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [:ص5] أي: شيء بالغ في العجب، فإنا ما سمعنا قبل هذا بهذا الكلام، فكان عندهم أولاً عجيباً، ثم أصبح الآن صواباً؛ لأن العقول عندما يهديها الله سبحانه وتعالى تفكر تفكيراً سليماً منطقياً، وعندما يضلها سبحانه وتعالى لا تفهم شيئاً فتخوض فيما لا تفهمه، وتهرف بما لا تعرفه، وتتكلم فيما لا تجيده.
وقد يكون الإنسان رجلاً وصل إلى علم عظيم من علوم الدنيا، أو وصل إلى علم عالٍ بالذرة أو بالفلك، ومع ذلك يشرك بالله سبحانه وتعالى، ويفعل أفعالاً عجيبة، فتجده يعبد حجارة أو ناراً أو أشجاراً أو أنهاراً أو غيرها من دون الله سبحانه وتعالى.
يقول أحد الدكاترة: أنه كان يدرس علم المخ والأعصاب في اليابان، وفي يوم الإجازة ذهب أستاذه وغيره إلى المعبد، وكل واحد منهم أخذ معه جرساً، فسألهم: ماذا تعملون بهذا الجرس؟ فقالوا: نوقظ به الإله حتى ندعوه فيستجيب لنا! والنوم في الإنسان دليل على ضعفه وعلى أنه محتاج إلى الراحة وإلى النوم، وهؤلاء إلههم نائم، فهم يذهبون إليه في المعبد ليوقظوه حتى يرزقهم، ويعطيهم الطعام والشراب! هذا هو إلههم، والذي يفعل هذا عالم بالمخ والأعصاب، ومع ذلك إذا ذهب إلى هذا المعبد نسي وذهب عنه عقله، فيذهب يوقظ إلهه الذي أعطاه صفة من صفات البشر وهي النوم والغفلة، فالإله نائم، حتى يأتي هو ليوقظه ويطلب منه ما يريد.
وقد قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فهو إله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى، ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ)) وهي الغفوة البسيطة، فلا تعتريه أبداً سبحانه، ((وَلا نَوْمٌ)) ولا ينام، وفي الحديث: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام -سبحانه وتعالى- يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
فالله لا يغفل ولا ينام سبحانه وتعالى.(416/7)
الحث على الجماعة ونبذ التفرق
وقد شرع الله لكم هذا الدين قيماً لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، قال تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)، وقد أمرنا الله عز وجل جميعاً بالاعتصام بحبله فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، أي: لا تتفرقوا، بل اعتصموا، فإن العصمة في دين الله، فاجتمعوا على هذا الدين، يجمع الله قلوبكم وأبدانكم، وينصركم على أعدائكم بتمسككم بهذا الدين العظيم.(416/8)
اصطفاء الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] أي: الله سبحانه يجتبي ويصطفي من خلقه من يشاء.
فإن الكفار غاروا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحاروا في أمره عليه الصلاة والسلام، ونفسوا عليه ما هو فيه من رسالة ربه سبحانه، وأبوا أن يدخلوا معه في هذا الدين، كما قال تعالى: ((كبر على المشركين ما تدعوهم إليه))، من الدخول في دين التوحيد، فحسدوه على أن آتاه الله ذلك، مع أن هذا لم يكن بيده، ولم يكن يمن عليهم به، وإن كان فيه المن، وإنما كان يقول عن نفسه: إنه رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى عن نبيه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، أي: لا تعرف هذا الدين، وليس عندك أي فكرة عنه، وإن كان قبل أن يبعث وقبل أن ينزل عليه الوحي على غاية عظيمة من مكارم الأخلاق عليه الصلاة والسلام، فكان لا يذهب إلى أصنامهم كما يذهبون، وإنما كان يبتعد عنها، ويعرف أنها لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان لا يعرف ما هو دين الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: عن دين الله، والذي دلك على هذا الدين هو الله؛ بخلاف البعض منهم كـ ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، اللذين ذهبا يبحثان عن الدين الحق، فأما ورقة بن نوفل فتعلم النصرانية ودخل فيها.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقال: والله يا رب! إني لا أعرف أي الطريق أحب إليك، ولو أني أعرفها لتوجهت إليك بها، فكان هذا على دين، وهذا على دين.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعل مثلهما، وما كان يعرف ذلك، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وكان غيره قد سمع من اليهود والنصارى أن هذا العصر وهذا الزمان وهذه السنين التي نحن فيها سيظهر فيها نبي، وتنزل عليه الرسالة، وقد كان اليهود يقولون ذلك، ويستفتحون على الذين كفروا، فكانوا يقولون لهم: سيأتي نبي وسنقاتلكم معه، وكان المشركون يتساءلون: هل سيظهر نبي أم لا؟ وهل اليهود سيصدقون أم يكذبون؟ وبعض هؤلاء مثل أبي عابد الراهب لما سمع ذلك قال: لماذا لا أكون أنا هذا النبي؟ فذهب يتعبد وينتظر أن تنزل عليه الرسالة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان يجهز نفسه لشيء من ذلك، ولكن كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يجهزه.
فلما نزلت الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم كفر أبو عابد الراهب واشتد كفره، وفسق في هذا الدين أشد الفسق، وبعد عنه أشد البعد، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي عامر الفاسق؛ لأنه كان يتعبد في الجاهلية ويبحث عن الدين، فلما جاء الدين الحق نفس على النبي صلى الله عليه وسلم ما آتاه ربه سبحانه وتعالى، وغار وتغيظ عليه وأبى أن يدخل في دينه.
وآخر كان ينتظر أن تنزل عليه الرسالة -وهو أمية بن الصلت - ويظن أن يكون هو الرسول، وكان يقول لمن حوله: أنا الذي سوف أكون رسولاً في هذا الزمان.
فقابله أبو سفيان بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما تقول في محمد؟ وقد كان أبو سفيان كافراً.
فقال: أما الرسالة فهي، وأما هو ففي نفسي شك منه.
يعني: هذه الرسالة هي من رب العالمين فعلاً، وهذا هو الناموس فعلاً، وأما أن يكون هو النبي ففي قلبي شيء منه.
سبحان الله! وهل ستنزل الرسالة على غير مرسل؟ فإذا كان قد عرف أن الرسالة صحيحة، وأنها قد جاءت من رب العالمين، فقد كان الأولى به أن يصدق أن محمداً هو رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، وعندما جاءته الوفاة قال لمن حوله: أما الرسالة فهي، وأما أنه هو ففي قلبي منه شيء.
ومات الرجل على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد كان شعره ممتلئاً بالتوحيد، وكان يتكلم بالتوحيد في أشعاره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أشعاره وقال عنه (آمن شعره وكفر قلبه)، والله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، بيده مقاليد كل شيء.
فالمقصود: أنه غار المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه، فأمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتجمعوا حول هذا الدين، ولا يتفرقوا عنه، فالمشركون إنما فعلوا ذلك بغياً منهم على المؤمنين، وليس لشيء آخر.
قال الله سبحانه وتعالى: ((اللَّهُ يَجْتَبِي)) أي: يختار ويصطفي وينتقي ويأخذ من يشاء من عباده، فيجعله رسولاً ونبياً، فالخيرة لله سبحانه وتعالى، وليس لكم الخيرة، وليس الاختيار إليكم أنتم، وإنما الخيرة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)، وقد اجتبى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، واختاره لأن يكون رسولاً من صغره عليه الصلاة والسلام، فرباه سبحانه وتعالى ليعرف أن الفضل من الله وحده عليه، وليس لأحد فضل عليه، صلوات الله وسلامه عليه.(416/9)
تربية الله عز وجل للرسول من صغره
وكانت حكمة الله أن يموت أبوه وأمه حبلى به عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقال: إن أباه هو الذي رباه وشجعه وعلمه، وإن أباه هو الذي فعل وفعل، فربته أمه صلى الله عليه وسلم سنيناً، ثم لما ماتت أمه كفله جده عبد المطلب بعد ذلك، فكان وحيداً يتيماً صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كان ربه هو الذي يحميه ويعصمه سبحانه وتعالى، ويعده على أكمل ما يكون من الأدب والخلق صلوات الله وسلامه عليه.
فكان ينظر إلى أصنامهم هذه أنها لا تستحق أن تعبد، وكان أصدق الخلق وأأمن الخلق عليه الصلاة والسلام، وكان أحب الخلق للخلق عليه الصلاة والسلام، حتى إن الكفار كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يذهب إلى مكان إلا وأحبه أهل هذا المكان صلوات الله وسلامه عليه، وفي يوم من الأيام وهو صبي صغير صلوات الله وسلامه عليه كانوا يحملون الحجارة، فكان يحملها معهم على منكبه صلى الله عليه وسلم، فيقول له عمه أبو طالب: يا ابن أخي! ضع ثوبك على كتفك، يشفق عليه، أي: بدلاً من أن تلبس ثوبك إزاراً ضعه على كتفك، وضع الحجر عليه، حتى لا يؤذي الحجر كتفك، وقد كان لابساً لإزاره صلى الله عليه وسلم، وهو طفل صغير، وكان عند المشركين أن الكبير إذا تعرى فلا شيء في ذلك عندهم، فإذا به يخلع إزاره صلى الله عليه وسلم، ولم يكد أن يفعل حتى غشي عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإذا بالملك يقول له: خذ عليك إزارك.
صلوات الله وسلامه عليه.
فكان ربه يربيه وهو صبي صغير على ألا يتكشف، فلما كبر عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يبول جلس وبال، وكان من عادتهم أن يبولوا قائمين، فلما كان هو يجلس كانوا يتعجبون منه ويقولون: انظروا إليه، يبول كما تبول المرأة، لأنه كان يستتر صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاء الدين بذلك فكان هذا من سننه صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد البول جلس ولم يقف؛ حتى لا يترشش عليه بوله، فيبول جالساً، فهذا مما علمه ربه سبحانه وتعالى وأدبه عليه.
ثم نزل عليه القرآن فكمله بذلك سبحانه وتعالى، وقد سئلت السيدة عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: (أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، ولكن أسأل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت: كان خلقه القرآن)، فكان كل ما في القرآن يطبقه صلوات الله وسلامه عليه، فكان خلقه القرآن صلوات الله وسلامه عليه.
وهو لم يجهز نفسه لأن يكون رسولاً يوماً من الأيام، وإنما ربنا سبحانه هو الذي جهزه وهو الذي أعده وهو الذي امتحنه لذلك، صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} [الضحى:6]، أي: لا أب ولا أم، وإنما كفله جده، ثم مات جده فكفله عمه أبو طالب بعد ذلك، فكان وحيداً عليه الصلاة والسلام، ثم فتح الله عز وجل عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً -أي: برجل واحد وهو هو عليه الصلاة والسلام- وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، فالذي علمه هو ربه وقال له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، أي: عندك عيال وتحتاج إلى المال، وكنت فقيراً، فهو لم يرث شيئاً من أهله عليه الصلاة والسلام، وكان أهله أصحاب شرف، وكان له هو أيضاً شرف صلى الله عليه وسلم، وله قدر، وأما المال فلم يكن لديه مال، فقال له ربه: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8]، أي: أن الله سبحانه وجدك صاحب عيال فأغناك، فقد أغنى قلبك فكنت غنياً بالرضا والقناعة، وأغناك فأعطاك مالاً، فعمل بالتجارة فكان له مال صلوات الله وسلامه عليه، وعمل عند إحدى شريفات البلد، وهي السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم اختارها لتكون زوجة له بعد ذلك، فكانت سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها.
فهذه التربية من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول له: إن ربك وجدك يتيماً فآواك، فكن كذلك مع الأيتام، فآوهم وتحنن عليهم، وربت على ظهورهم، وأعطهم من المال، وبش لهم، ولا تجعلهم في بؤس وضيق، وكن لهم بمثابة الوالد صلوات الله وسلامه عليه، فعلمه من صغره، فما عانيت منه فأعن غيرك عليه إذا كان موجوداً فيه، فكان أرحم الخلق بالخلق صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، أي: كما هداك الله -والمنة له وحده- فاهدِ الناس ودلهم على دين الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} [الضحى:8]، أي: إنك قد ذقت الفقر ثم أغناك الله سبحانه وتعالى، فإذا آتاك الله مالاً فأنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً.
فكان ينفق النفقات العظيمة، حتى إن الرجل ليأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا محمد! يا رسول الله! أعطني.
فيقول: انظر ما بين الجبلين، فيجد أغناماً، فيقول: خذها فهي لك)، فيذهب الرجل فرحاً يأخذ كل ما بين الجبلين، وينطلق بها إلى قومه من المشركين ويقول: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
صلوات الله وسلامه عليه، وكان إذا فتح الله عز وجل عليه وقسم الغنائم على الناس كان له خمس الغنيمة، وله خمس الفيء، فكان يأخذ منها نفقة بيته صلوات الله وسلامه عليه، ثم ينفق الباقي على المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(416/10)
تفسير سورة الشورى [13 - 15]
أوجب الله تعالى على الأولين والآخرين إقامة الدين وهو توحيد الله تعالى وحده وعبوديته، وهذا ما شرعه بواسطة الأنبياء والمرسلين، ونهانا تعالى عن التفرق فيه كما تفرقت الأمم السابقة من اليهود والنصارى وغيرهم، وسبب التفرق في ذلك هو البغي والظلم والحسد وغير ذلك، وقد أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأوامر ونهاه عن نواهٍ، وذلك في آية الشورى المشتملة على عشر جمل مشتملة على أحكام، كل حكم مستقل بذاته ومنفصل عما قبله.(417/1)
تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:13 - 14].
ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الشريعة العظيمة التي شرعها لنا، وجعلها لنا طريقاً ومنهاجاً ومسلكاً نسلك بها إلى جنة الله عز وجل، وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)، فهي شريعة الله سبحانه ومنهجه ودينه الإسلام، الذي دعا إليه كل رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، فكلهم دعوا إلى توحيد الله، فقالوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بعث بمثل ما بعث به السابقون، أن يدعو قومه ويدعو العالمين إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي: أقيموا توحيد الله سبحانه وتعالى وادعوا إليه، وانهوا عن الشرك بالله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: لا تتفرقوا في دين الله، كما تفرق الذين من قبلكم من بعد ما جاءتهم البينات، فأمرنا أن نتحد وأن نعتصم بدين الله وبشرع الله سبحانه وتعالى، وأن ندعو إليه، وأسه وأساسه وأعظمه توحيد الله سبحانه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً) فالإسلام خمسة أركان، أعظمها وأعلاها توحيد الله سبحانه وتعالى، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فشرع لنا هذا الدين الذي هو ملة إبراهيم ونوح وآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكل الأنبياء على هذا التوحيد وهو لا إله إلا الله.
وقوله تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: عظم عند المشركين وكبر عليهم أن تدعوهم إلى إله واحد وهم مشركون به سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) كان الكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم أن اختاره الله سبحانه وتعالى نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه، فالله نهاهم أن يجادلوا في ذلك، فليس الأمر إليهم، إنما الأمر إلى الله فهو الذي يجتبي إليه من يشاء ويهدي من يشاء، فيجعله رسولاً أو خليلاً أو نبياً، ويوحي إليه أو ينزل عليه ملكاً من السماء، فهذا الأمر إلى الله عز وجل.
فالله الذي فعل ذلك، وأغلق باب الجدل في ذلك، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فالله هو الذي اختار محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكون رسولاً نبياً، فالله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.(417/2)
معنى قوله تعالى: (الله يجتبي من يشاء ويهدي إليه من ينيب)
ومعنى قوله تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ): يصطفي ويختار من يشاء من عباده أن يكون رسولاً.
وقوله تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ويهدي إليه أيضاً من يشاء، ولكن للهداية أسباب يأخذ بها الإنسان، أما الاختيار والاصطفاء في أمر الرسالة أو النبوة فلا أسباب لها، فلا يقول أحد: سآخذ بالأسباب لكي أكون رسولاً في يوم من الأيام، فالرسالة محض وهبة من الله عز وجل، وهي منحة من الله عز وجل فلا يوجد فيها أخذ بالأسباب.
والذين أخذوا بالأسباب لكي يكونوا رسلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدث أن أعطاهم الله عز وجل شيئاً، بل كفروا ولم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، فالله يختار من يشاء، ويهدي من ينيب إليه، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، فيأمر الله العباد أن يأخذوا بأسباب الهدى من أجل أن ينالوا الهداية من الله، فإذا أردت أن تدخل الجنة فخذ بأسبابها وآمن أن الله يدخل جنته من يشاء، وحقق الإيمان بالقضاء والقدر، وأعظم الأسباب لدخول الجنة هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
فالأخذ بالأسباب فيما تنتج فيه الأسباب نتائجها، لكن الرسالة ليس لها أسباب حتى يقال: خذ بالأسباب لكي تكون رسولاً أو نبياً، ولذلك قطع الله هذا الأمر وقال: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ)، أما الجنة والهداية فلها أسباب، فمن أخذ بالأسباب وصل في النهاية إلى الرب سبحانه وتعالى وإلى جنته، فخذ بأسباب الهداية يهدك الله، وخذ بأسباب التقى يجعلك الله تقياً، وخذ بأسباب الجنة يدخلك الله إياها.
وقوله تعالى: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: من يرجع إلى الله ويتوب إليه سبحانه وتعالى ويستغفره فالله يغفر له ويتوب عليه، والله كريم تواب رءوف رحيم، يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً، فالله عز وجل إذا رفع العبد يديه إليه ودعاه أن يعطيه شيئاً فالله يعطيه، أو أن يهديه فالله يهديه، مع الاعتقاد أن الله هو الموفق لذلك سبحانه وتعالى، وهو المعطي والهادي سبحانه وتعالى، فله الفضل أولاً وآخراً، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى ويعطي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً.
فالعبد أمامه طريقان: طريق السعادة وطريق الشقاء، والمؤمن يرى الطريقين وكذلك الكافر، وكل منهما بين الله عز وجل لهما طريق السعادة وطريق الشقاء، ولكن المؤمن زاده الله عز وجل بصيرة، فأنار له قلبه فاتبع هذا الطريق فسلكه، والكافر قلبه مظلم وممتلئ بالحقد والغل والحسد وبعدم حب الدين، فهو يرى أمامه ما ينفعه ومع ذلك يعاند ولا يريد أن يسلك هذا الطريق، فالله يهدي إليه من ينيب.
ومن ركن إلى الله عز وجل وتاب إليه تاب الله عز وجل عليه، ولذلك نرى ذلك في حكمة الله سبحانه وتعالى أن غفر لآدم ولم يغفر لإبليس، فآدم وقع في الخطيئة فراجع نفسه، واستشعر الذل والندم، فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فوفق الله عز وجل آدم أن يقول ذلك، فتاب الله عز وجل عليه.
وإبليس استكبر وأبى أن يسجد لآدم، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، أي: أنا في مدة عمري أعبدك مع الملائكة، والآن سنسجد لهذا الذي خلقته من طين، فاستكبر، وكان إبليس يعرف ربه حق المعرفة، وعبد الله سنين كثيرة مع الملائكة، ثم أقسم بعزة الله سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فهو يعرف التوحيد ويعرف ربه سبحانه وتعالى أنه هو العزيز سبحانه فلجأ إلى ذلك، وقال: (فَبِعِزَّتِكَ) ثم قال: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]، لأرى هذا الذي كرمت علي، كيف أصنع به؟ فلم تنفع إبليس معرفته بالله سبحانه وتعالى، ولم تنفعه عبادته مع الملائكة زمناً طويلاً؛ لأنه استكبر والجنة لا يدخلها مستكبر، فلما استكبر على أمر الله، وتكبر على آدم واحتقره ورفض أن يسجد له، استحق عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأبى إبليس أن يسجد لآدم استكباراً بعبادته لله سبحانه، وحقداً وغيرة أن الله أكرمه وجعله أحسن منه وهو مخلوق من طين، وتناسى أن الله إليه الخيرة في ذلك، فيختار من يشاء، ويرفع درجات من يشاء.(417/3)
تفسير قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم)
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]، رأى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في المدينة متفرقين، وهم اليهود، وإن كانوا يزعمون أمامه أنهم متوحدون، وأن بعضهم مع بعض، لكن حقيقتهم أوزاع متفرقون.
فلم يتفرقوا عن جهل، فالله بصرهم، وأرسل إليهم الرسل، وعلمهم وبين لهم، وأنزل عليهم الكتب وأقام عليهم الحجج، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر، وآتاهم الله التوراة، ثم أنزل على عيسى الإنجيل فتفرقوا وهم يعلمون.
فما تفرق أهل الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم، فتعلموا فكان منهم الأحبار والرهبان، وتفرقوا مع وجود العلم بسبب البغي فيما بينهم، فقد بغى بعضهم على بعض، وظلم بعضهم بعضاً، وعلا بعضهم على بعض، وغار بعضهم من بعض، وحسد بعضهم بعضاً على ما أعطاهم الله سبحانه، قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54]، فطلبوا الدنيا بالدين فضاع منهم دينهم، وضاعت منهم دنياهم وأخراهم.
وتفرق أهل الكتاب شيعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.
قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهو الدين الخالص الذي نزل من عند الله على النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، وقال سبحانه وتعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40].(417/4)
الواجب عند الاختلاف
وأمر الله المؤمنين بدين واحد وهو الإسلام ونهاهم عن التفرق فيه من بعد ما جاءهم العلم والبينات، وما اختلفوا فيه من شيء فيرد إلى الله ورسوله، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وينظر أهل العلم في ذلك، يقول ربنا سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:82 - 83].
فالمنهج الذي جعله الله عز وجل للمؤمنين أنهم إذا اختلفوا ردوا الأمر إلى الله، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حدث تنازع بين المؤمنين ردوا الأمر إلى الله ورسوله.
ومعنى قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، أي: إذا حدث خلاف، أو شاع إرجاف بين المؤمنين فليهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه إذا كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يكونوا في عهده فليلجئوا إلى أهل العلم ويسألونهم عن ذلك، فإنهم يستنبطون من الكتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلهم على ذلك، فرجعوا فيه.
وليس كل أهل العلم يستنبطون الأحكام وإنما بعضهم، والاستنباط لغة: هو إخراج الشيء الخفي.
واصطلاحاً: استخراج الأحكام الشرعية من مفاهيم الكتاب وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا تنازع المؤمنون في شيء فليردوه إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم يستنبطون حكمه ويستخرجونه من كتاب الله ومن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، إما بالنص، أو بدلالة الإشارة أو بالعبارة، أو بالقياس على الشيء، فينظرون ويستخرجون حكم النازلة التي نزلت.
أما إذا تفرقوا إلى فرق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (كلها في النار إلا واحدة) وهم الذين هم على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كان كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف.
والإنسان الذي يظن بنفسه أنه أفضل وأعلم وأحكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جاهل مغرور، إنما العلم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الصحابة الأفاضل تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه، ثم أمرهم صلوات الله وسلامه عليه فقال: (بلغوا عني ولو آية) وأمروا بالبلاغ ليؤخذ منهم ذلك، فأخذ أهل العلم من الصحابة الأفاضل عقيدة الإسلام الصافية الخالدة، ودين رب العالمين الذي أنزله على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، واعتصموا بذلك ولم يختلفوا أو يتفرقوا، فإذا اختلفوا صاروا كالذين من قبلهم.
وقوله تعالى: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، بغياً: مفعول لأجله، أي: لأجل البغي، أو بسبب أنهم بغى بعضهم على بعض حدثت الفرقة بينهم.(417/5)
تأجيل الله تعالى القضاء بين العباد إلى يوم القيامة
وقال تعال: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)، أي: لولا وعد الله أنه ينظر عباده ويمهلهم إلى يوم يبعثون، فإبليس قال لله عز وجل: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:36 - 38] فأنظر إبليس إلى يوم القيامة، وكذلك وعد الله له ولأتباعه أنه يؤخرهم سبحانه وتعالى إلى يوم يبعثون ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا، ولولا وعد الله لاستحقوا العقوبة حالاً على ما يقولون وما يعلمون.
قال تعالى: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، الأجل المسمى هو يوم الحساب وهو يوم القيامة، يوم الجمع ويوم النشور ويوم الجزاء، وأجلهم في ذلك وعد من الله، ووعد الله حق، ولولا هذا الوعد لقضى الله عز وجل بين عباده.
قال تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، أي: تفرق الذين من قبلنا بسبب البغي فيما بينهم، وورثوا الكتاب للذين من بعدهم، فأخذوا بالتوراة وبالإنجيل وهم في شك في قلوبهم من هذا القرآن ومن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله بين لهم، فوقعوا في الشك في النبي صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا القرآن ببعدهم عن الحق الذي كان عندهم في التوراة وفي الإنجيل، فقد حرفوا وأزالوا الحق عن مواضعه فصاروا في عمى لا يهتدون طريقاً، ووصفهم الله بأنهم ضالون ومغضوب عليهم، ولذلك يدعو المؤمن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): اليهود.
و (الضَّالِّينَ): النصارى.
وهم الذين تفرقوا في دينهم من بعد ما جاءتهم البينات ومن بعد ما جاءهم العلم، فصاروا في شك مريب، أي: موقع للريبة في القلوب.(417/6)
تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)
قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].
قوله: (فلذلك فادع) أي: فلذلك الدين القيم، ولهذه الشريعة ادع الخلق إلى دين ربك وادع إلى كتابه.
قال تعالى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، أي: استقم على دين الله سبحانه وعلى شرعه بتوحيدك لله سبحانه، ونفذ أوامره واجتنب نواهيه.
وقد أمره في سورة هود بالاستقامة على دينه سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها)، فسورة هود فيها ذكر القيامة وفيها ذكر الأشقياء والسعداء، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108]، فشاب النبي صلى الله عليه وسلم مما أمره الله عز وجل في سورة هود، ومما أخبره بما سيكون في يوم القيامة من بعث العبيد وما يكون منهم من شقي وسعيد ومن حساب شديد.
وأخوات سورة هود هن السور التي مثلها في ذكر يوم القيامة والجزاء والجنة والنار، قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فهو سبحانه وتعالى بصير وخبير بكم سبحانه وتعالى، ففي سورة هود أمر بالاستقامة كما في هذه الآية.
وهنا أمره سبحانه وتعالى بالاستقامة فقال: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، فأمره أن يستقيم على هذا الدين، وهو مستقيم على دين الله عز وجل، وهذا من باب: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، فيؤمر بالاستقامة وهو عليها عليه الصلاة والسلام، فالمؤمنون أولى بأن يستقيموا على دين الله سبحانه، ولا يتفرقوا فيه، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103]، ولا تزيغوا عن دين الله سبحانه.(417/7)
الجمل العشر في قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)
وهذه الآية العظيمة اشتملت على عشر جمل في كل جملة حكم مستقل بذاته، وكل منها منفصلة عما قبلها، ولا نظير لها في القرآن كله إلا آية الكرسي، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]، والجمل هي: 1 - (فَلِذَلِكَ فَادْعُ).
2 - (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).
3 - (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ).
4 - (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ).
5 - (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ).
6 - (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).
7 - (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).
8 - (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ).
9 - (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا).
10 - (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
فهذه عشر جمل وفي كل جملة حكم قائم بذاته، ومعنى أراده الله عز وجل وأمر به، ومثلها آية الكرسي، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] 1 - (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
2 - (الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
3 - (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).
4 - (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ).
5 - (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
6 - (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
7 - (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).
8 - (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ).
9 - (وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).
10 - (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
وهذه عشر جمل وفي كل جملة حكم مستقبل بذاته.
وهذا من بلاغة وفصاحة القرآن إذ يأمر الله عز وجل فيها بأمر أو ينهى عن شيء.
فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الخلق لهذا الدين ولهذه الشريعة العظيمة.
ثم أمره بأمر آخر وهو أن يستقم على دين الله سبحانه كما أمر الله سبحانه وتعالى، والمعنى أن ينفذ جميع ما أمر الله به ويمتنع عن جميع ما نهى الله عنه، وهذا أمر بإقامة الدين كله، فمن حقه أن يشيب رأسه صلوات الله وسلامه عليه عندما يسمع ذلك.(417/8)
معنى قوله تعالى (ولا تتبع أهواءهم)
ثم نهاه عن اتباع الهوى فقال تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، فإن هؤلاء الكفار سيدعونك إلى البعد عن دين الله سبحانه، فاحذر أهواء هؤلاء الكفار، ومن ذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا أردت أن نتبعك فلا يليق بنا أن نجلس مع هؤلاء الفقراء، فاجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً، ولا يتحدث العرب أننا جلسنا مع هؤلاء الفقراء والصعاليك، فكاد صلى الله عليه وسلم يميل لذلك، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، فالله عز وجل يحذر نبيه صلوات الله وسلامه عليه: إذا طردت هؤلاء فستكون من الظالمين، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يطردهم ظلماً وعدواناً واستكباراً، فهذا مستحيل، ولكن كونه يطردهم، أو يمنعهم، أو لا يقعد مع هؤلاء الذين يذكرون الله عز وجل، فإنه يعتبر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً.
وكذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد منا التوحيد؟ اعبد آلهتنا وادع إليها، ونحن نستجيب لك وندخل معك في هذا الدين، فيقول الله عز وجل له: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فلا يوجد في الدين قاعدة اسمها (الغاية تبرر الوسيلة)، أي: لكي يدخل هؤلاء في الدين فلا مانع أن نشرك معهم اليوم لكي يسلموا معنا غداً، فالدين دين خالص لله سبحانه وتعالى، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن أعرضوا فعليهم الجزاء من الله عز وجل، والدين دين قيم، ودين قوي، ودين لا يحتاج إليكم، بل أنتم الذين تحتاجون إلى الله الغني الحميد، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، سبحانه وتعالى، فهو مستغن عن العباد وعن عبادتهم، وأنزل الدين لتنتفعوا أنتم، لا لينتفع هو سبحانه وتعالى، فلذلك يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ).
وأبو سفيان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبيل فتح مكة، مر مع أبي بكر رضي الله عنه على مجموعة من المسلمين الذين كانوا مستضعفين قبل ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وإذا به ينظر إليهم وقد صاروا بعز في هذا الإسلام، فينظرون إليه ويقول أحدهم وهو بلال أو غيره رضي الله عنهم: أما أخذت سيوف الله من رقاب أعداء الله؟ أي: أنه بقي من رقاب أعداء الله أمثال أبي سفيان، وكان شيخ الكفار في كفره، ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك تعالى عنه.
فلما قالوا ذلك غضب أبو بكر رضي الله عنه، وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش؟! فـ أبو بكر، يريد أن يتألفه ليسلم ويدخل في دين الله عز وجل، فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لـ أبي بكر: (ارجع إليهم فصالحهم، لعلك تكون أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك) أي: إن كنت أغضبت هؤلاء الفقراء من المسلمين الذين كانوا يؤذون في مكة وكان يؤذيهم أبو سفيان ومن معه فقد أغضبت ربك، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، ورفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال لـ بلال ومن معه: لعلي أغضبتكم يا إخواني، فقالوا: لا، غفر الله لك.
فالله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس مع هؤلاء الفقراء، وألا يتركهم ليذهب إلى هؤلاء الكفار حتى لو كان الثمن دخولهم في الدين، فأمره الله ألا يجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً، وإذا أرادوا فليجلسوا مع هؤلاء الفقراء، وإذا لم يريدوا فلا يجلسوا فهم الذين يخسرون وليس المؤمنين.(417/9)
الإيمان بما أنزل الله من كتب على رسله
قال تعالى: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)، أي: قل وعلم المؤمنين أن يقولوا: آمنت بكتب الله سبحانه التي أنزلت من السماء، والمؤمنون كلهم يؤمنون بكتب الله سبحانه ما أخبرنا بها وما لم يخبرنا بها، ونؤمن إجمالاً أن الله أرسل رسلاً وأنزل كتباً من السماء على هؤلاء الرسل.
فقال لنبيه: قل آمنت بما أنزل الله من كتاب، فالتوراة نؤمن أنها كتاب من عند الله ونزلت من عند الله، والإنجيل كتاب من عند الله، وكذلك صحف إبراهيم والزبور التي أنزلت على داود، فنؤمن بكتب الله التي أنزلها الله على الأنبياء السابقين إجمالاً، وأنها دعت الخلق إلى توحيد الله وإلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأفضل هذه الكتب وخيرها وخاتمتها كلها هذا القرآن العظيم الذي جاء من عند رب العالمين.
قال تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، أي: أمرت أن أحكم بينكم بالعدل، وهذا أمر للنبي صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(417/10)
تفسير سورة الشورى الآية [15]
لقد أمر الله رسوله الكريم في غير موضع من القرآن بالاستقامة، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بها، وحثهم على فعل المأمور على أكمل وجه واجتناب المحظور، وبالاستقامة يحصل العبد على رضا سيده وعلى حب مولاه سبحانه وتعالى.(418/1)
تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].
((فَلِذَلِكَ فَادْعُ)) يأمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى دينه، هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام دين التوحيد، ملة أبيكم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(418/2)
الأمر بالاستقامة على دين الله
قوله: ((وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، أي: استقم على هذا الطريق كما أمرك الله عز وجل ونفذ كل ما أمرك الله أن تفعله، واجتنب كل ما منعك الله عز وجل عنه، فكن مستقيماً على طريق الله سبحانه وتعالى منفذاً لكل ما يريده الله سبحانه وتعالى، مجتنباً لكل ما نهاك الله سبحانه وتعالى عنه.
وأمر الله في سورة هود بالاستقامة أيضاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يسأله وهو سفيان بن عبد الله الثقفي كما في صحيح مسلم قال سفيان: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك أو أحداً غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله فاستقم)، وفي رواية لـ أحمد: (قل آمنت بالله ثم استقم).
فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وبهذا الأمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالاستقامة على دين الله تبارك وتعالى، وفي رواية أخرى لـ أحمد:>أن سفيان قال بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: (فأي شيء أتقي؟ فأشار بيده إلى لسانه صلوات الله وسلامه عليه).
وتتقي غضب الله سبحانه بأن تنفذ أوامره وتجتنب محارمه، ومن أعظم ما تتقي الله عز وجل فيه اللسان، فكن مستقيماً فلا تتكلم إلا بالحق؛ لا تتكلم بزور ولا تتكلم ببلاهة فيحاسبك الله عز وجل عليه يوم القيامة ويعذبك عليه، فقل: آمنت بالله، ثم استقم على طريق الله وعلى دين الله سبحانه وتعالى، واتق أن تقع بلسانك في شيء قد حذرنا الله سبحانه منه.
وفي رواية أخرى قال الرجل: (يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي -أي: ما هي أشد الأشياء التي تخافها علي- فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: عليك هذا).
فأخوف ما يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على كل إنسان مؤمن هو اللسان الذي يقع فيما حرم الله سبحانه وتعالى، واللسان بالكلام السيئ يثور فإذا به يستحق عذاب السعير، واللسان يتكلم بالحق فينجو صاحبه، ويتكلم بالباطل فيوبق صاحبه، واللسان قد يقع في الكذب، في الغيبة، في النميمة، في النفاق، في شهادة الزور، في قول الزور وغيرها من آفات اللسان، ولذلك أخوف ما يخاف على الإنسان من لسانه أن يقع في الحرام بأن يسيء بالكلام الظاهر.
أمر أصحابه بالاستقامة فقال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولم تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ عليها إلا مؤمن)، فالصحابة طلبوا النصيحة، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم من بداية الأمر بكل شرائع الدين لشق عليهم، ولكنه قد أوتي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه عليه، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم الاستقامة فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم) فلا تشرك بالله شيئاً، واعبد الله ولا توجه عبادتك إلى أحد غير الله.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا) أي: لن تحصوا أعمال البر، فالبر كثير جداً، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] وهذه كلمات عظيمة، فقد كانت هناك أشياء يظنونها من البر وهي لا معنى لها، فقد كانوا إذا خرج أحدهم يريد الحج خرج من ظهر بيته، والحكمة من ذلك عندهم: أنه إذا خرج من ظهر البيت فسيرجع إليهم، فكانوا يعتقدون أن من البر أن يخرج من ظهر بيته، فقال تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ))، إنما البر في هذه الأعمال الصالحة، وليست هذه كل الأعمال، ولكنه ذكر رءوس الأعمال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تحصوا)، فأعمال البر كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وما بين ذلك أعمال كثيرة من أعمال البر.(418/3)
الصلاة أفضل الأعمال
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].
((فَلِذَلِكَ فَادْعُ)) يأمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى دينه، هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام دين التوحيد، ملة أبيكم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(418/4)
فضل صلاة النافلة
قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فإذا نقبت عن أفضل الأعمال تجد أنها الصلاة، فهي من أعظم العمل الذي يتقرب به العبد إلى الله عز وجل.
فذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الصلاة أحب العمل إلى الله سبحانه وتعالى، وأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل، مما افترضه الله عليك، وقد افترض عليك الصلاة والصيام والزكاة والحج، وأحب ما تتقرب إلى الله عز وجل من الأعمال المفروضة هي الصلاة، قال الله عز وجل: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فتصلي الصلاة المفروضة كما أمرك الله سبحانه وتعالى، وتواظب عليها، وتؤديها في أوقاتها، لا تسه عنها، ولا تغفل عنها، ولا تفرط فيها، ولا تجمع الصلوات بعضها إلى بعض، ولكن صل الصلوات على وقتها كما أمرك الله بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: فرض محدود بتوقيت، لا يجوز لك أن تخرجها عن وقتها فتصلي الصلاة في غير وقتها.
قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]، فهم كانوا يصلون ولكنهم كانوا يجمعون الصلوات بعضها إلى بعض، ويعطل أحدهم الصلاة عن معناها وعن مقصدها، ويدخل في الصلاة ولا يفهم كيف يصلي ولا ما الذي يلزم في صلاته، وينشغل في صلاته بعمل، أو بمال، أو بأصحاب، فإذا به في صلاته لا يعقل شيئاً منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا اصفرت قام فنقرها أربعاً)، وهذه من سمات المنافقين، حيث يرقب الشمس حتى تكاد الشمس تغرب وقد اصفرت فيقوم فينقرها أربع ركعات، فهو ليس من الذين لا يصلون بالكلية، أما الذي لا يصلي كلية فهو أشد وأعظم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فتصلي الصلاة الصحيحة ويقبلها الله سبحانه وتعالى، فيكفر عنك بهذه الصلاة من سيئاتك، قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فإذا اجتنبت الكبائر فهذه الأفعال مكفرات، ومثله أن يسهو في صلاته.
وقال ربنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فالصلاة التي يريدها الله عز وجل وكانت أعظم أعمالك هي الصلاة التي تنهاك عن الفحشاء والمنكر، فتخرج من الصلاة ولا تؤذي أحداً من الخلق، وتعطي الفقير والمسكين، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحب الصلاة وتنتظر وقت الصلاة التي تليها.
يقول ربنا سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) وهذا من فضل العمل الصالح، وأعظم العمل الصالح صلاة الفريضة، فتصلي الفريضة وتكثر من النوافل، قبل الفجر تصلي ركعتين وقبل الظهر أربعاً وبعده أربعاً، وقبل العصر أربعاً، وبعد المغرب تصلي ركعتين، وبعد العشاء ركعتين تتقرب بذلك إلى الله بالنوافل وترضي ربك، وهي محبة الله لك كما قال تعالى: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإذا وصلت إلى هذه الدرجة وهي محبة الله لك قال: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، كان الله سمعك الذي تسمع به، والمعنى: أن الله يحفظ سمعك، ويحفظ بصرك، ويحفظ لسانك، ويحفظ يدك ورجلك، وكان الله لك في كل هذه الأشياء حافظاً ووكيلاً وحفيظاً عليك: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]، فيحفظ سمعك فلا تسمع إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فعندما يريد إنسان أن يحدثك بغيبة أو بنميمة أو بسخرية بالاستهزاء بكذا فلا تسمع، ولا تحب ذلك؛ لأن الله جعل سمعك سمعاً ربانياً، لا يسمع إلا ما يحبه سبحانه وتعالى، ويكره إليك المعاصي فلا تحبها، فإذا أراد بصرك أن ينظر إلى ما حرم الله إذا بالواعظ في قلبك يزجرك وينهاك فتمتنع من ذلك محبة لله سبحانه وطاعة لله وحباً من الله لك، وكذلك اليد التي تبطش بها تجاهد في سبيل الله، فيسدد الله رميتك لعدوك، قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فأنت تمسك بالسيف لتضرب، وأنت الذي ترمي بالرمح، ولكن الذي يعينك ويعطيك القوة هو الله.
قال: (ورجله التي يمشي بها) فيوفقك الله لطاعته والمشي إلى رضوانه، فتمشي في جنازة أو تعود مريضاً، فتجد نفسك كل مشي في طاعة الله يعينك الله عليه ويوفقك إليه، فكان الله عز وجل لك معيناً في ذلك.
والمعنى: كنت له عوناً معيناً محافظاً حافظاً له مدافعاً عنه ناصراً له، وكل إنسان يحب الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وإذا كان الأمر أنك تريد محبة الله سبحانه، وتريد أن يكون معك، إن كنت تحب الله حقاًً فيجب أن تتبع النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وهذا هو الإيمان الأصل وأنه لا يتحقق إيمان أحد حتى يحب الله أعظم الحب، ولا يوجد شيء يستحق أن يصل إلى كامل المحبة من محبتك لله سبحانه وتعالى، وكذلك حبك لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والصلاة هي التي توصلك لحب الله، ولذلك في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)، ذكر هنا النور والضياء، لكن النور أعظم؛ لأن النور لا يؤذي، تقول: مشيت في نور القمر، وهو نور هادئ لا يوجد فيه إحراق، وتقول: مشيت في ضوء الشمس، وكلما ازداد الشمس كلما ازدادت الحرارة، تشرق الشمس في أولها، فترتفع وترتفع، وكلما ارتفعت ازدادت حرارة، فيأتي الإنسان في وقت الظهر إذا كان في الصيف فيجد حراً شديداً، ولذا جاء في السنة أنك إذا كنت في الصيف في الأيام التي فيها حر قاتل فيجوز لك أن تؤخر صلاة الظهر وأن تبرد بها، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحر يؤخر الظهر ليبرد بها، حتى يرجع الفيء فيخرج يصلي صلوات الله وسلامه عليه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (والصبر ضياء)، فالصبر يضيء لك الطريق، ولكن الصبر لا بد أن يكون على الأذى وعلى المشقة وعلى الكراهة، فالإنسان يصبر على مصيبة نزلت به فالصبر عظيم جداً.
والصلاة نور، فلا يوجد فيها أذى، فتستطيع أن تصلي قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فالصلاة سهلة.(418/5)
فضل الصبر على المصائب
والصبر يكون عندما تنزل بالإنسان مصيبة كالموت فليس له سبيل إلا أن يصبر ويعتصر قلبه ألماً ويصبر على أمر الله، فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وقال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتكلم إلا بالحق صلوات الله وسلامه عليه، وقد كسفت الشمس في يوم موته، فقالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، وكان هذا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر يسيرة، فابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بوفاة ابنه قبل موته عليه الصلاة والسلام؛ ليكون صبره على وفاة جميع أبنائه، ما عدا فاطمة فإنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر؛ لتكون سيدة نساء الجنة مع أمها خديجة ومع مريم ومع آسية رضي الله عنهن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبتليه الله عز وجل، بموت أولاده وبناته صلوات الله وسلامه عليه في حياته، ويصبر صلى الله عليه وسلم على كل ذلك، وهل علم مثل هذا الصبر؟ فإنه في يوم بدر تموت ابنته صلوات الله وسلامه عليه امرأة عثمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم مع المؤمنين في قتال حتى ينصر الله المؤمنين، والمؤمنون في فرح عظيم، فلا يحب أن يكدر عليهم فرحهم فيفرح معهم صلى الله عليه وسلم، فيريهم الفرح وهو يكتم حزنه صلوات الله وسلامه عليه، وهو أشرف الخلق، وأرحم الخلق بالمؤمنين صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من وفاة ابنته إلا أنه يظهر أمام المسلمين الفرح بنصر الله عز وجل وهو يبطن الحزن على ابنته، وهذا صبر عظيم.
ويبتليه الله عز وجل بموت ابنه الصغير، وكان يحبه حباً شديداً، ولكنه صلى الله عليه وسلم يقول: (وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا) ويدفن ابنه فيرجع وإذا بالمؤمنين يتكلمون فيقولون: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فالشمس حزينة على موته، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يتناسى حزنه صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) انظروا إلى يقين النبي صلى الله عليه وسلم العظيم وصبره العظيم؛ فقد مات ابنه ومع ذلك لا يترك أن ينصح الناس، ويبين لهم أن الشمس لم تنكسف لموت إبراهيم، فهي آية من آيات الله، وإذا كان الأمر كذلك فافزعوا إلى الصلاة، فيصلي بهم صلاة الكسوف صلوات الله وسلامه عليه.
وبهذا استشعر النبي صلى الله عليه وسلم عظمة الصلاة، فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان يقول لـ بلال إذا حزبه أمر: (أرحنا بها يا بلال!) أي: بالصلاة.
هذه الصلاة العظيمة التي أمرنا الله عز وجل وأمرنا بها النبي صلوات الله وسلامه عليه في سنته، وأمرنا بأن نعجل هذه الصلاة وأن نستقيم بها وأن نصلي صلاة تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالوضوء شرط في صحة الصلاة، والشرط هو شيء خارج عن العمل، أما أركانها فهي: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والقيام في الصلاة، والركوع، والسجود والركن يكون متعلقاً بالعمل وجزءاً منه، وأيُّما امرئ صلى بدون وضوء فلا تصح صلاته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وهو جزء من حديث الاستقامة: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فتحافظ على الوضوء لأنك تحب الصلاة، فتصلي الصلاة التي كتبها الله عز وجل وافترضها عليك، وتحافظ على الوضوء، والمحافظة على الوضوء شيء عظيم جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه دخل الجنة ورأى بلالاً المؤذن، وبلال كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاملاً نفقة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال له: (إني سمعت خشخشة نعليك أمامي في الجنة) فهو في الدنيا بجوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمامه في قضاء الحاجات وكذلك في الجنة؛ فهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فأخبرني ما تصنع؟ قال: ما توضأت وضوءاً إلا وصليت بعده ما كتب لي) فالرجل يصلي ركعتين بهذا الوضوء، وليس الوضوء للفريضة؛ فإن كل الناس يفعلون ذلك، ولكن زاد بلال عليهم في أنه ما توضأ في أي وقت إلا وصلى خلفه ركعتين.
فالوضوء لا يحافظ عليه إلا مؤمن، فالمؤمن يحب الوضوء، يحب أن يجلس طاهراً متوضئاً، والمؤمن في باله أن يكون دائماً على وضوء.
فالوضوء نور للإنسان، والوضوء يجلب الوقار للإنسان، والوضوء نور المؤمن يوم القيامة، حتى لو دخل إنسان من الموحدين النار سبقت معصيته وسيئاته واستحق النار، فإن النار تأكل من بني آدم كل شيء إلا مواضع الوضوء؛ لأنه لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، فالمؤمن يتوضأ فيصلي، ويجلس لطلب العلم وهو على وضوء، ولا يكون في مجلس إلا وهو على وضوء؛ لأنه علم أن من انتظر الصلاة وهو على وضوء فهو في صلاة، فإذا كنت جالساً من العصر إلى المغرب تنتظر صلاة المغرب فأنت في صلاة.(418/6)
تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [15]
الدعوة إلى الله سبحانه والاستقامة على الدين من صفات الأنبياء والصالحين، وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهواء أهل الباطل، وأمر بالإيمان والتمسك بكتابه وتطبيقه بين خلقه، فلا حجة بعد ظهور الحق ونزول القرآن من عند الله، فإليه سبحانه المرجع والمآب ليحكم بين خلقه بالعدل والقسط.(419/1)
تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].(419/2)
فضل الدعوة إلى الله والاستقامة على الدين
ذكرنا في الحديث السابق والذي قبله هذه الآية العظيمة من هذه السورة، وذكرنا أنها عبارة عن عشر جمل كل جملة منها حكم قائم برأسه مستقل بذاته، وقد اجتمعت العشرة في هذه الآية الواحدة لتعطي معنى إجمالياً باتباع دين الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ))، أي: لتلك الشريعة العظيمة، ولذلك الدين القيم الذي ذكره قبل ذلك في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13].
وفي سورة يوسف أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدعو إلى سبيل الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقال الله سبحانه وتعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إليه، وبين له طريقه، وبين له كيف يدعو إليه، فالطريق هو دين الإسلام دين التوحيد، يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة هو ومن اتبعه.
والمؤمن يدعو إلى الله بعد أن يتعلم، فإذا أردت أن تدعو إلى الله فتعلم، والعلم الشرعي: هو العلم بهذه العقيدة الإسلامية العظيمة، العلم بشرع الله ودينه وفقه هذا الدين العظيم، فتدعو إلى الله على بصيرة وأنت تعلم إلام تدعو، وعلى أي طريق تقف وتثبت، فتدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وتستقيم على هذا الدين كما أمر الله سبحانه، وكما أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: ((وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن).
ففي هذا الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على الصلاة، وأخبر أن الدين عظيم، ولن تحصي أنت أعمال البر وأعمال الخير التي أنت مطالب بأن تأتي بها، ولكن سدد وقارب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا)، فتعمل عمل الخير، ولا تحصي؛ لأن الثواب يحصيه الله سبحانه، وأنت لا تعرف قدر هذا الثواب العظيم عند الله سبحانه.
والأعمال كثيرة، فخذ بقدر طاقتك، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فاعملوا أعمال الخير، ولن تحصوها لكثرتها، فما استطعتم فافعلوا، والثواب عند الله أعظم مما تتخيلون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، بعدما قال: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فأخبرنا أن المحافظ على الوضوء إنسان مؤمن، وكما ذكرنا المحافظة على الصلاة ذكرنا المحافظة على أهم شرط في الصلاة وهو الوضوء.
فلا بد أن تحافظ على الوضوء وتكون على طهارة، فإذا ذكرت الله سبحانه كنت على وضوء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون على وضوء ما استطاع، وذات مرة سلم عليه رجل ولم يكن على وضوء، فتيمم بالجدار ورد عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (كنت على غير وضوء، فكرهت أن أذكر الله) يعني: على هذه الحال، كره أن يرد السلام إلا وهو على وضوء، ولما لم يكن هناك ماء تيمم ورد عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه.
هذا منه صلى الله عليه وسلم شيء عظيم، ولسنا مطالبين بذلك، فهو لم يأمرنا أمر وجوب أن نكون طول اليوم متوضئين، الواجب علينا أن نتوضأ للصلاة، ولكن أخبر إخباراً ليحث على ذلك، أن يكون الوضوء في أكمل حالاتك طالما أنت تقدر على ذلك، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن؛ لأنه سيحافظ على صلاته، وسيحافظ على تكبيرة الإحرام إذا أراد أن يذهب إلى الصلاة، ولو أن المؤذن أذن لصلاة العصر وهو على وضوء، فإنه سيقوم سريعاً ويصلي سنة العصر القبلية، ويتوجه إلى المسجد فيدرك تكبيرة الإحرام.
ولو أن إنساناً أراد أن يدخل الخلاء بعد أن أذن المؤذن، فدخل دورة المياه، وقضى حاجته، ثم خرج فتوضأ، فقد تفوته تكبيرة الإحرام، ولعله إلى أن يأتي تكون قد فاتته الصلاة.
وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، فالذي يحافظ على الصلاة شهراً وعشرة أيام يصلي في جماعة مائتين صلاة، ويحافظ على تكبيرة الإحرام مع الإمام يجعل الله له أجراً عظيماً، ويكتب الله له براءتين ينجيه من النفاق، فلا يكون منافقاً ولا يموت على النفاق، والأمر الآخر أنه يعطيه براءة من النار.
فالمؤمن يؤمل فضل الله سبحانه، ويرجو رحمة الله عز وجل، ويواظب على ذلك، ولعل الله سبحانه يمكنه، ولعله ينخذل منه شيء، فتفوته تكبيرة الإحرام، فلا ييأس ولكن يعمل أكثر، فيحاول حتى يصل في النهاية بفضل الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)) أي: استقم على طريق الله سبحانه وتعالى، وحافظ على دين الله وتعلمه، وحافظ على الصلاة وعلى الوضوء تكن مؤمناً.(419/3)
نهي الله نبيه عن اتباع أهواء المشركين
قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ))، أي: لا تتبع أهواء هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدعونك إلى الشر وإلى الهوى، ويدعونك إلى البعد عن شريعة الله سبحانه وتعالى، وقد كانوا يحاولون ذلك حثيثاً مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد ذهب إليه شيبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وقد كان الوليد أغنى المشركين، وكان أعز المشركين فيهم، وقد لقبه ربه سبحانه بأنه وحيدٌ في ماله، أي: أغنى الناس في المال، وأعز الناس في الولد وفي النسب وفي الرجال، قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11 - 15]، هذا الرجل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطيك نصف مالي ودع هذا الدين.
وشيبة بن ربيعة يقول له: إن ابنتي أجمل البنات، أزوجك ابنتي ودع هذا الدين، ويعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعشر نساء من أجمل النساء على أن يترك الدين فيقول له ربه: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ))، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يتبع أهواء هؤلاء، ولكن الله يقول له ذلك ليعتبر المؤمنون بما قاله الله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستقيم على الدين، فالمؤمنون أولى بهذا، فهو قد استقام وقد أدبه ربه، وعلمه ربه سبحانه، ومع ذلك يقول الله له: ((وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)) فالمؤمنون يأخذون بذلك ويستقيمون على دين الله، وعلى طريقه، ويقيمون أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يتبعون الهوى.(419/4)
أمر الله لنبيه بالإيمان بالكتب المنزلة من عنده وبإقامة العدل
قال الله تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15] أمر أن يتلفظ بذلك: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره حلوه ومره، آمنت بما أنزل الله من كتاب، آمنت بكل الكتب التي أنزلها الله وأخبر عنها وصدقته، وآمنت بأنها منزلة من عند رب العالمين، وآمنت أن الله أنزلها.
ولكن معنى (آمنت): صدقت وأقررت، فالمطلوب منه صلى الله عليه وسلم ومن الخلق جميعهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا دين التوحيد، ويقيموا شرع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو ناسخ لما قبله، قال تعالى: ((وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))، فالمقصود: الإيمان بما أمرنا الله عز وجل أن نؤمن به، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر.
وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك المؤمنون بأن يقيموا هذا الدين وأن يعدلوا، قال تعالى: ((وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))، والعدل لا يكون إلا بكتاب من عند الله، فالله الذي نزل الكتاب بالحق والميزان، وأنزل العدل وبينه لنا، ولو ترك الناس لأهوائهم وأنفسهم، لاخترع كل إنسان ميزاناً للعدل الذي يقوله، ولكان القوي يفرض رأيه على الجميع، ويقول: العدل كذا، وهو محض الظلم، فالعدل هو الذي أمر الله عز وجل به، وفرضه سبحانه، ولا مجاملة فيه، وأنزل الله الميزان لنتعلم كيف نزن، وكيف لا نحيف ولا نظلم.
وكذلك أمرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أن نعدل فلا نظلم، فلا يظلم بعضنا بعضاً ولا نظلم غيرنا.
وقد تكره إنساناً، ولكنك مأمور أن تعدل معه، وقد تبغض إنساناً في الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك أنت مأمور بأن تعدل معه، وتقيم شرع الله عز وجل فيه وفي غيره، هذا هو الدين القيم العظيم الذي يعلمنا العدالة، فلا بد أن نتعلم العدالة ونعمل بها شئنا أم أبينا؛ لأن الله سوف يجازينا يوم القيامة.
وإنَّ في ضمير الإنسان ما يدفعه أن يقوم بالعدل؛ لأن الله سيسأله يوم القيامة، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، فاحذروا من عدم العدل، فإنه ليس لكون المشركين في يوم من الأيام صدوكم فالآن تظلمونهم، قال الله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
وانظر لميزان العدالة في الإسلام، فقد أمر بالعدل ولو مع عدوك، ولو مع من تكرهه وتبغضه في الله سبحانه وتعالى، لذلك يذهب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ليأخذ منهم ما أمر الله عز وجل بأخذه، فالنبي صلى الله عليه وسلم تركهم يزرعونها على أن تكون الثمار قسمة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الصحابة رضي الله عنهم ليأخذ منهم ما هو عليهم أن يدفعوه، فحاولوا أن يرشوه، وأخذوا يحيفون في الأمر، فقال: والله إنكم لأبغض الخلق إلي، ومع ذلك لا يمنعني بغضي لكم أن أعدل فيكم، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض، أي: قامت بالعدل وأمر الله عز وجل بالعدل.
وهذا عمر رضي الله عنه، يأتي إليه رجل من العرب ويطلب منه شيئاً، فأعطاه عمر رضي الله عنه، ولكن في نفس عمر منه شيء، إذ كان الرجل أعرابياً، وكان جلفاً وفيه فضاضة، فقال له عمر: والله إني لأبغضك، فنظر الأعرابي إلى عمر وقال: هل بغضك لي يمنعني من حقي؟ قال: لا، قال: إنما يحزن على الحب النساء.
فهذا الأعرابي يعترف بأن عمر كان عادلاً، وأيضاً هذا لحماقته، فإن الذي يحبه عمر هو الرجل المؤمن، ولن يحب إلا مؤمناً، فإذا كان عمر يكره هذا الإنسان فإن الأولى بهذا الإنسان أن يقول لـ عمر رضي الله عنه: لم تكرهني؟ وما هي الصفة التي أغيرها إذا كان في شيء تكرهه؟ ولكن الرجل لم يفهم.
والمقصود: أنك إن كرهت إنساناً فلا تظلمه، هذه هي العدالة التي أمرنا الله عز وجل بها.(419/5)
معنى قوله تعالى (الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم)
قال تعالى: ((اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)) الله سبحانه هو الرب وهو الإله، ومقتضى ربوبيته: أنه يفعل أفعالاً لا يقدر عليها أحد، فينفع ويضر، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويخلق ويعدم سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، فالله هو الرب الذي يعبد وحده لا شريك له، وكلمة (الله) تعني: المعبود حقاً، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، فالله ربنا وربكم وإن زعمتم غير ذلك، فالله الذي نعبده هو الرب الوحيد سبحانه وتعالى، ولا رب غيره، ولا إله يستحق العبادة سواه.
قال تعالى: ((لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)) أي: ثواب أعمالنا لنا، ولكم شؤم أعمالكم وسيئاتكم، ولن تأخذوا من حسناتنا شيئاً، ولن نأخذ من سيئاتكم شيئاً، طالما أننا دعونا إلى الله، وقمنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقمنا دين الله عز وجل، فلنا ثواب أعمالنا سواء استجبتم أم لم تستجيبوا، قال تعالى: ((وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ))، أي: إن دخلتم في دين الله عز وجل فلكم الثواب، وإذا لم تدخلوا في دين الله فعليكم العقاب والعذاب، ولا تضرون إلا أنفسكم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده)، قالها في حجة الوداع في خطبته صلوات الله وسلامه عليه.
فالإنسان لا يجني إلا على نفسه، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] أي: لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وإنما كل إنسان يحمل إثمه، فإذا سن للناس سنة سيئة حمل إثمها وكأمثال آثام غيره، لا ينقص من آثام الآخرين شيء، وكل إنسان يحمل إثمه على عاتقه.(419/6)
لا حجة بعد ظهور الدين
قال الله سبحانه: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) يعني: قد ظهر الحق، فلا مخاصمة بيننا وبينكم، وليس هناك وقت للخصام والجدال، فقد ظهر الدين وبان، والله عز وجل نشر نوره، وكانوا قد قرروا أن يحتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة، فكان اليهود والنصارى يقولون: ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن آمنا قبل أن تأتوا أنتم، فيقال لهم: إن الله عز وجل قد نبأ وبشر في كتبكم بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وأمرتم أن تتبعوه، وشهد الله عز وجل عليكم بذلك، فلا حجة بيننا وبينكم، أنتم آمنتم بكتبكم ولم تؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن آمنا بكل الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وأمرنا بالعدل مع الخلق وأن نقيم هذا الدين القيم وأن نعمل به، فكل الكتب قبل النبي صلى الله عليه وسلم كتب حقٌ نزلت من عند الله عز وجل، ولكن أصحابها حرفوا وبدلوا ما فيها من حق، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فجاء هذا القرآن العظيم مهيمناً عليه وناسخاً لما فيه، وأمرنا الله عز وجل أن نتبع هذا الدين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم به، فقال له سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49].
فقوله تعالى: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) أي: لا وجه للخصومة بيننا وبينكم، قد تبين الرشد من الغي، وقد ظهر الحق، ولذلك كان اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم حين يجيب على أسئلتهم: أنت نبي، فإذا قال لهم: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ يجيبون بأجوبة شتى، البعض منهم يقولون: نخشى أن تقتلنا اليهود، والبعض الآخر يقولون: إن داود دعا أنه لا يزال في ذريته نبي فنحن ننتظر نبياً من ذريته، والبعض الآخر يقولون: أنت نبي إلى الأميين فقط، يقرون له بأنه نبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أقروا بذلك قد أقروا له بالعصمة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا يتبعونه فيظهر منهم الباطل فيما يقولون.
فهؤلاء يشهدون أنه نبي يوحى إليه من عند الله، ومع ذلك لا يتبعونه! والنصارى يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: نحن على دين مثلما أنت على دين.
وممن ذهب إليه عدي بن حاتم، فقد كان عدي بن حاتم رجلاً نصرانياً، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد علق الصليب، فلما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، فقال: أنا على دين، مثلما أنت على دين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك منك، ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك وهذا لا يحل لك في دينك) أي: أنت على دين اسمه الركوسية، وفي دينك أنت لا يحل لك أن تأكل مرباع قومك، فقد كان يأخذ الربع من قومه وليس العشر، فقام الرجل تواضعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه كاشف أمره فبدأ يتراجع عما هو فيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى دين الله سبحانه وتعالى، وفي النهاية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال، فقال عدي: فإني مسلم)، فدخل في دين الله عز وجل.
وجاءت وفود النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما دعاهم إلى الله رفضوا أن يدخلوا في دين الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، وتهيأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ السيدة فاطمة، وعلي بن أبي طالب، والحسن والحسين وخرج لهم وقال: (تعالوا نتباهل).
نذهب إلى الصحراء وندعو على الكذاب أن تنزل عليه لعنة الله عز وجل، فخافوا من ذلك وقالوا: نعطيك ما تريد، ماذا تريد؟ خذ منا الجزية، ولا نتباهل معك، وعرفوا أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه.
فلذلك قال الله عز وجل: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) أي: ليس عندكم شيء من الصواب الذي تقولون أنكم عليه، ولا وقت للجدال بيننا وبينكم، وقد تبين الرشد من الغي.(419/7)
المرجع والمآل إلى الله تعالى
قال تعالى: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} [الشورى:15] أي: لنا مرجع إلى الله عز وجل، يجازينا ويحاسبنا، فالكاذب والكافر يدخله الله عز وجل النار، والمؤمن التقي يدخله الله عز وجل الجنة، فالله يجمع بيننا يوم القيامة للحساب.
فإن الدنيا فيها الخصومة والمجادلة، والذي صوته أعلى يغلب، فلا بد من حكم يحكم بين الاثنين، وقد يميل الحكم إلى هؤلاء وقد يميل إلى هؤلاء، ولكن في الآخرة لا يوجد مثل ذلك، فالله هو الحكم العدل سبحانه وتعالى، والله وحده يحكم بين عباده، وهو الذي يجمع بيننا ليحكم بين عباده يوم القيامة، وليجزي الظالم على ظلمه، وليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بخير جزاء على ما قدموا وعملوا، فإن يوم القيامة يوم الجمع، قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] أي: ذلك يوم التغابط، ذلك يوم القيامة، يجمع الله بين عباده، ويجتمع الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والمؤمن والكافر، والشقي والتقي، الجميع عند الله عز وجل في موقف واحد، والذكر والأنثى والصغير والكبير، الكل بين يديه، فيفصل بينهم سبحانه وتعالى بالحكم العدل.
قال تعالى: ((اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) أي: إلى الله مصير العباد، وكل يسير في طريقه، وفي النهاية الموت يجمع الجميع، والكل يسير إلى الآخرة، فمنهم من يدخل الجنة، ومنهم من يدخل النار، والله أعلم بحال عباده، فالعقيدة في قلب الإنسان المؤمن أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأن الله هو المعبود، وأنه الرب الخالق سبحانه وتعالى، ويؤمن بملائكة الله سبحانه أنهم يطيعون الله، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
ويؤمن أن الجنة فيها ملائكة، ويتنعم الخلق بما يفيضه الله عز وجل عليهم من رزق وبركات وتسليم الملائكة عليهم، بل ويسلم عليهم ربهم في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
ويؤمن أن النار فيها ملائكة، قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، نسأل الله العفو والعافية، فالإيمان يجعل المؤمن خائفاً من لقاء الله سبحانه؛ لأنه يؤمن بيوم القيامة وأن الله إليه المصير، وأن الله يجمع الخلق يوم القيامة، فهو آمن وصدق وأقر واعترف، فلا بد من العمل طالما أنك مؤمن فاعمل لهذا اليوم، فالإيمان يدفع العبد للعمل، والإيمان بالله يدفعه لحب الله وتوحيده، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يدفعه لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، والإيمان بكتب الله سبحانه، يعني: يأخذ شرع الله من كتابه ويقر بالكتب السابقة كلها، ويعتقد أن هذا القرآن العظيم شاهد ومهيمن على الكتب السابقة، ويعمل بما في هذا الكتاب، فهنا الإيمان يدفع للعمل بشرع الله، وللاقتداء بسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وللخوف من لقاء الله يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
كذلك يؤمن بالقضاء والقدر: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا آمن بالقضاء والقدر كان كل ما ينزل عليه سهلاً على نفسه؛ لأن الله قدر ذلك، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما أخذ هذا الميت سيأخذني أنا أيضاً، فلا أحزن حزناً شديداً يدفعني للسخط على قدر الله، فلا بد أن أرضى بقضاء الله وقدره، وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلنا ملك لله سبحانه، هو خلقنا، وهو يملكنا سبحانه، وإليه نرجع ليجازينا.
وقد كان بين وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عدة أشهر، ولم يكن يعرف متى يموت صلى الله عليه وسلم، مات ابنه قبله صلى الله عليه وسلم حتى يصبر على فقدانه، ولا يطول عليه الأمر حتى يموت هو بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
فالإنسان يفكر: إذا مات فلان فإنني سأموت بعده، فلماذا أتسخط على قضاء الله سبحانه؟ أنا راجع إلى الله وسيجازيني، فالإنسان يصبر نفسه، قال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فالإنسان المؤمن يصبر لأن الدنيا فانية، فالله قبل ألف وأربعمائة سنة قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:1]، فعلى المسلم أن يصبر نفسه، ويواسي نفسه، حتى لا يتسخط على قضاء الله وقدره، وحتى يرضى بقضاء الله سبحانه، وحتى ينال أعظم الأجر عند الله.
نسأل الله من فضله ومن رحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(419/8)
تفسير سورة الشورى [16 - 17]
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن، وظهر به الحق وبان، فلا حجة للكافرين بعد ذلك، فهم لا يؤمنون بالبعث ولا يرجونه، لكن المؤمنين يؤمنون بيوم البعث، فتراهم مشفقين من ذلك اليوم العصيب، وقد جعل الله سبحانه لقيام الساعة أشراطاً وعلامات؛ ولذلك فإن الساعة من الخمسة الأمور التي اختص الله تعالى بعلمها.(420/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:16 - 18].
بعد ما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى هذا الدين القيم بقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى:15]، أمره الله سبحانه وتعالى بأن يبلغ، ونهاه عن أن يتبع أهواء الكفار الذين يريدون منه أن يتبع ما هم فيه، ويشترطون للدخول في دينه أن يتابعهم في شيء، فلا تتبع أهواءهم، واحذر من هوى هؤلاء فإنهم يريدون أن يضلوك عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
والمشركون قد حاولوا أن يضلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وربنا أثبت ذلك في كتابه سبحانه فقال: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].
فحاول الكفار أن يضلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يلفتوه عن دعوته إلى الله، وأن يشغلوه بأمور من أمور الدنيا حتى يتلهى عن هذا الدين.
كذلك حاول أهل الكتاب أن يلفتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يشككوا المسلمين في ذلك، فكانوا إذا سئلوا من أهدى سبيلاً؟ قالوا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، أي: قال أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من محمد سبيلاً.
فعجب الله عز وجل من أمر هؤلاء: كيف أنهم يعرفون الحق ومع ذلك يقولون للمشركين: أنتم أهدى من هؤلاء سبيلاً؟ بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72].
فمن الفتن العظيمة أن الكفار فيما بينهم يتفقون، أن يدخلوا في الدين في الصباح، وبالليل يخرجون من هذا الدين، قال تعالى: {قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]، حتى يرى الناس أن هؤلاء يدخلون ويخرجون منه، فيكون الأمر سهلاً، ولكن لم يقدروا على ذلك.
فهذا دين الله ونور من عند الله وبرهان من عنده، فهو حجة قوية دامغة، أما هم فحجتهم ضعيفة داحضة، عرف ذلك هرقل عظيم الروم حين ذهب إليه أبو سفيان فقال له هرقل: إني سائلك عن أشياء فلا تكذبني، وسأله عشرة أسئلة، من ضمن هذه الأسئلة قال هرقل لـ أبي سفيان: هل أتباعه الضعفاء أم الأقوياء؟ قال: بل الضعفاء، قال كذلك أتباع الرسل، ثم قال: هل يرتد أحد منهم سخطاً لدينه؟ فقال أبو سفيان: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فأخبر أن دين الله لا يدخل فيه أحد ويرتد ساخطاً لهذا الدين، طالما أن المسلمين يدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرتدون عن هذا الدين، إذاً هو من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
وكاد هرقل أن يسلم بعد ما سأل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة كسؤاله لـ أبي سفيان: هل كان أحد من آبائه ملكاً؟ فقال له: لا، قال: لو كان أبوه ملكاً لقلت: رجلاً يطلب ملك أبيه، قال: هل هذا الرجل كان يكذب قبل ذلك عليكم؟ فقال له: لا، لم يكذب، قال: ما كنت لأظن أن يدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وسأله أسئلة وفي النهاية جمع حاشيته في قصره، وأغلق عليهم باب القصر، وقال لهم: أهل أدلكم على دينٍ هو خير؟ اتبعوا هذا الرجل، فنخروه وصرخوا ورفعوا أصواتهم، وهرعوا إلى الأبواب ساخطين عليه، ولكن هرقل بخبثه قال: ارجعوا إنما كنت أختبر قوتكم في دينكم.
ولم يكن يختبر قوتهم، وإنما أراد أن يرى هل سيكونون معه أم لا؟ فإذا به هو الذي يمشي مع هؤلاء على ما هم فيه من باطل، ويظل على ما هو فيه، فرجعوا وسجدوا له، كأنه أراد من قومه أن يسجدوا له ويطيعوه، ويكونوا معه، لكن يدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم ويضيع عليه الملك فهو لا يريد ذلك، ولما قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضن الخبيث بملكه)، خاف هذا الخبيث إن يضيع منه الملك، ولكن دين الله هو الذي يبقى، وتقوى الله هي التي تنفع يوم القيامة.
وملك آخر هو كسرى ذهب إليه خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله سبحانه، فإذا به يمزق الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)، فقتله ابنه، ولم يزل القتل فيهم حتى تولت عليهم امرأة من بناته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فانكسرت بجنود كسرى بعد ذلك بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الملك مزق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فمزق الله ملكه، وتحكمت فيهم امرأة فضيع الله ملكهم بعد ذلك، ونصر الله الإسلام ونشره، وملك المسلمون بلاد قيصر وبلاد كسرى، وأخذوا ممالك الفرس والروم بفضل الله سبحانه وتعالى.
وهنا في الجنوب ملك الحبشة النجاشي واسمه أصحمة ومعناها: عطية رضي الله عنه، هذا الرجل كان نصرانياً يعرف الحق، ذهب إليه المهاجرون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفيهم جعفر بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب وابن عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتغيظت قريش وأرادت إرجاع هؤلاء ليعذبوهم وليفتنوهم، فأرسلوا وراءهم مجموعة فيهم عمرو بن العاص وغيره.
وذهب هؤلاء الكفار إلى النجاشي وإلى من معه بهدايا كثيرة جداً، وكان أهل الحبشة يحبون الجلود من بلاد العرب، فأرسلوا إليهم بجلود كثيرة هدايا للملك ولبطارقته وجنوده، فقبلوا منهم الهدايا، وفي اليوم الثاني ذهب عمرو بن العاص إلى ملك الحبشة وكان كافراً وكان ذكياً جداً، ذهب ومن معه إلى الملك يوقعون بينه وبين المهاجرين، فجاءوا يحتجون: إن قوماً نعرفهم من أقربائنا قد تركوا ديننا وصبوا، وجاءوا إلى بلادكم، وقد أرسلنا قومنا إليك لنأخذهم ونرجع بهم إليهم، فإذا بالرجل يغضب ويقول: لا والله، كيف أرسل معكم قوماً استجاروا بي ونزلوا بلادي ضيوفاً، لا والله لا تأخذونهم، فرجعوا مخزيين ثم فكروا ليلتهم وقالوا: نرجع إليهم بحيلة، وكان صاحب الحيلة عمرو بن العاص، وكان ذكياً كما ذكرنا.
وأصبح في اليوم الثاني وذهب إلى الملك، ثم قال للملك: أيها الملك! إن هؤلاء ليسوا على ديننا وليسوا على دينكم، إنهم يقولون في المسيح مقالة شنيعة، والنصارى يعبدون المسيح من دون الله سبحانه، قال: وماذا يقولون؟ قال: أرسل إليهم، فأرسل إليهم، فبات المهاجرون على رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يفكرون ماذا يقولون للملك؟ ثم قالوا: والله ما نقول إلا الحق.
وذهبوا إلى الملك في اليوم الثاني وسألهم وقد جمع البطارقة، وجمع من معه وسألهم: إن قومكم يقولون: كذا وكذا فبأي شيء جئتم؟ فأخبروه أنه جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أوسطهم نسباً، ومن أفضلهم، ومن أشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، جاء بكتاب من عند الله سبحانه وتعالى، وفيه أنه يأمرنا بالتوحيد، ويأمرنا بالصلاة، ويأمرنا بالصدقة، وينهانا عن الفواحش وعن المنكر، قال: هذا دين حسن، فقال له عمرو: اسألهم ماذا يقولون في المسيح؟ فقال: ما تقولون في المسيح؟ قالوا: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، وإذا بالملك يأخذ عصاه أو قشة من الأرض وقال: والله ما زاد المسيح على ما قالوا بمقدار هذه، وكان من حوله ينفرون مما يقول، فقال: انفروا وإن أبيتم، والله لو قدر لي لأذهبن إليه فلأغسلن قدميه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الرجل الذي قد نصره الله سبحانه وتعالى على قومه، قال لقومه: إن الله لم يستأذنكم حتى يرد عليَّ ملكي، فإن ملكه أخذ منه قبل ذلك، فرده الله سبحانه وتعالى عليه، فقال ونسب الفضل لصاحبه: إن الله قد رد إلي ملكي من غير أن يستأذنكم، والله لا أقول إلا كما يقول، ولو كنت أقدر لتوجهت إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولغسلت قدميه.
هذا الرجل الفاضل العظيم أصحمة النجاشي لما توفي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاته فقال: (قوموا فصلوا على صاحبكم، إن أخاكم النجاشي قد مات)، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فانظر الفرق بين هذا الملك العظيم، وبين هؤلاء الذين ضنوا بملكهم وضلوا عن سبيل الله سبحانه، فتمزق ملكهم، وهذا الرجل لما توفي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضع منه ملكه، بل ظل ملكاً حتى توفاه الله سبحانه وتعالى، هذا الرجل يخبرنا جعفر أنه بعد يومين من ملكه خرج عليه قومه وأراد بعضهم أن يغيروا عليه، فخرج يقاتلهم، فأشفق الصحابة عليه وخافوا، وكان بينهم وبين مكان القتل نهر، فقالوا: من يذهب فينظر خبر المعركة؟ فالمهاجرون يتمن(420/2)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17]، سبحانه وتعالى.
بدأ هذه الآية بلفظ الجلالة، هذه الكلمة العظيمة التي تملأ القلوب، وتملأ العقول نوراً وبصيرة، فهو الله سبحانه الذي يعبد وحده لا شريك له.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الشورى:17]، جاء هذا الكتاب تشريفاً لنا، جاء من السماء من عند رب العالمين، كتاب فيه حكم الله سبحانه، يحكم بيننا ويحكم علينا بحكم الله الملك، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41].
فالإنسان يحكم ويجد من يعقب على حكمه، ومن ينقض حكمه، ويستأنف الحكم من جديد، لكن الله يحكم ولا معقب وليس هناك أحد ينقض حكم الله سبحانه، أو أحد يبدأ حكماً جديداً بعد حكم الله سبحانه، قال الله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)) أي: متلبساً بالحق، ونزل حقاً من السماء، ونزل مشتملاً على الحق.
هذا كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الحق، ونزل من عند الله فهو حق وليس باطلاً، ونزل الكتاب مشتملاً على الحق نزولاً حقاً، نزل وفيه الحق من عند رب العالمين.
(والميزان): معطوفة على الكتاب، منصوبة، أي: وأنزل الميزان، أي: أنزل العدل، وأنزل الشريعة التي تأمركم بالعدل، فعلمكم العدل، وعلمكم الوزن، وعلمكم الكيل، ونهاكم عن التطفيف، وعلمكم كيف تصنعون الميزان، والله هو الذي أرشدكم إلى ذلك سبحانه وتعالى، حتى يحق الحق في هذه الدنيا، وحتى يعرف الإنسان ماذا عليه بشرع الله سبحانه وتعالى.(420/3)
قرب قيام الساعة
ثم يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17]، أي: ما يشعرك، وهل تدري ((لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ))؟ والساعة قريب كما أخبر الله سبحانه، وفي يوم القيامة يوم واحد بخمسين ألف سنة، وقال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، فعمر هذه الدنيا قصير، لا تنظر لمن يقول: إن عمر هذه الأرض خمسون مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإن آدم لم يكن في الملايين التي يزعمونها هذه، فإن العمر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا ألف وأربعمائة سنة.
فقولهم: إن الإنسان القديم من كذا مليون سنة، هذا من الكذب الذي يقولونه، فإن ما بين آدم وبين النبي صلى الله عليه وسلم آلاف من السنين، والله أعلم بها، فقد انقضت سنون من عهد آدم إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وصارت عبرة لمن يعتبرون، والآن نحن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة سنة، والله قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)).
ولم يخبرنا سبحانه وتعالى عن الساعة، قال تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]، وانظر إلى هذه الصفات التي يذكرها الله سبحانه، فالساعة قريبة جداً تنتظرونها كما ينتظر المولود من المرأة الحامل، حتى إذا امتلأ بطنها، واستمر بها حملها، وقرب شهر ولادتها إذا بهم ينتظرون نزول الجنين، قال تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:187]، الكل ينتظرون أهل السموات وأهل الأرض وكأنها المرأة الحامل المثقلة بحملها التي على وشك أن ينزل منها الجنين، قال تعالى: ((ثَقُلَتْ))، أي: ثقلت الساعة على أهل السماء والأرض، قال تعالى: ((لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً))، أي: لا تنزل ولا تأتي إلا بغتة.
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف:187]، أي: كأنك تكثر السؤال عنها، فمحمد صلى الله عليه وسلم لا يسأل إلا عما ينتفع به وتنتفع به الأمة، أما الساعة فالله أخبر أن علمها عنده سبحانه فهو لا يسأل، فقوله تعالى: ((كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا))، أي: كأنك تسأل كما هم يسألون عنها، وكأنك عليم بوقتها، قال تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187]، فعلم الساعة عند الله سبحانه وتعالى.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بارزاً للناس، فسأله جبريل: ما الإيمان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث)، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقال تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، والمصير: هو اليوم الآخر، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فهي ستة أصول للإيمان، فالكل يؤمنون بها.
فجبريل يسأل ليعلم الناس فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ فأخبره أن الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، وبلقائه، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فهذه أصول الإسلام يخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، والصحابة لا يعرفون أنه جبريل، فجاء جبريل ليسأل فيتعلم أصول هذا الدين من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها منزلة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم أن السائل جبريل والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، والعادة كانت العكس، أن ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل بكذا وبكذا.
وهذه المرة جبريل في مكان المتعلم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب، ثم سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها).
إذاً: يعلم النبي صلى الله عليه وسلم علامات الساعة وأشراطها، أما وقتها فلا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها ستكون الساعة في يوم جمعة، ولا يعرف في أي شهر هذه الجمعة وفي أي سنة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها -أي: سيدها- وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولدت الأمة ربها)، يعني: تنسى الأحكام الشرعية فيقع الناس في الحرام وبسبب ذلك تلد الأمة ربها، أي: سيدها، كأن يكون إنسان اشترى أمة واستولدها سيدها، فيكون ابنها حراً ولا يكون عبداً، وإذا توفي السيد تصير الأمة حرةً؛ لأن ابنها أعتقها، والابن لا يجوز له أن يملك أمه، فهذه أمة يملكها هذا الرجل، والرجل وطأ الأمة فأنجبت له الأمة ابناً والابن حر كأبيه، والمرأة أمة كما هي، لأنه اشتراها بماله، أما الزوجة فقد دفع مهرها وأشهد عليها، وأخذها من وليها، فالزوجة شيء والأمة شيء آخر.
فهذه الأمة لما ولدت الحكم الشرعي أنه إذا توفي هذا السيد تصير هي حرة، والذي حررها هو ولدها؛ لأن الولد لما توفي الأب صار هو الوارث لجميع مال أبيه، والأمة من ضمن مال أبيه.
فصار الولد وارثاً للمال بما فيه الأمة، والأمة أمه، فلا يجوز له أن يملكها في الشريعة، فبمجرد ما انتقلت إلى ملك ابنها صارت حرة.
فإذا نسى الناس أحكام الشريعة، وبقي الأمر على ما كان في الجاهلية، أنَّ الولد يملك أمه فيأمرها وينهاها، فإن الساعة تأتي في مثل ذلك.
كذلك ينسى الإنسان الأحكام الشرعية فإذا بالسيد بعدما يطأ الأمة ويحبلها يبيعها، فإذا بها تلد الابن، فيأخذ الرجل ابنه ويبيع المرأة، ولا يحل له أن يبيعها، فإذا صارت لغيره ونسيت ابنها في يوم من الأيام فاشتراها ابنها؛ لأن هناك فرقاً بين المرأة وبين ابنها، فصار الابن يملك أمه، وهذا من أشراط الساعة.
شرط آخر: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان)، فترى الراعي يملك عمارة مائة طابق، يملك عمارة ناطحة السحاب، فالساعة قربت طالما أن هؤلاء الذين كانوا فقراء ومساكين ورعاة يتطاولون في البنيان، فهذه من علامات الساعة، وقد اقتربت الساعة.
وانظر إلى البلدان التي كانت في يوم من الأيام مراعي، وأهلها كانوا رعاة للغنم في الجزيرة وغيرها، صاروا أغنى الناس، وصار عندهم القصور العالية، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وليس المعنى: أنه يحرم عليهم أن يملكوا، وإنما المعنى: أنه إذا انقلبت هذه الأوضاع فإن الساعة آتية، فصاروا يملكون ناطحات السحاب، وصاروا يملكون البيوت والعمارات في بلادهم وفي بلاد غيرهم، ويملك الرجل القرية في سويسرا وفي أمريكا، وغيرها من الدول.
فإذا صار الأمر على ذلك فانتظروا الساعة؛ لأن هذه من علامات الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رعاة الإبل البهم)، والبهم معناه: المجهولون الذين لم تكن لهم مكانة في يوم من الأيام، كانوا رعاة غنم والآن صاروا ملوكاً ورؤساء على الناس، فإذا صاروا كذلك فانتظروا الساعة.
والبهم كأنها صفة للإبل على الكسر فيها، أي: بهيمة الأنعام، ويسميها النبي صلى الله عليه وسلم (حمر النعم)، أي: الأنعام الحمراء، وهي أغلى وأنفس الأنعام عند أصحابها، والسوداء أقل الأنعام ثمناً، ومع ذلك فإن راعي الإبل يصير متطاولاً في البنيان، فهذه من أشراط الساعة في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فأدبر الرجل بعد ما سمع ذلك ومشى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوه)، فأرادوا أن يردوه لكنهم ما وجدوه، وقد جاء إليهم في رواية مسلم: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)، رجل غريب وثيابه نظيفة جداً شديدة البياض، وشعره أسود لا يرى عليه أثر سفر، قال: (ولا يعرفه منا أحد)، فهو آتٍ من قريب، ومع ذلك لا أحد يعرف هذا الإنسان، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوه)، وفطن له النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية حين انصرف فقال: (أتعلمون من السائل؟ قالوا: لا، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
أي: جاء جبريل يعلمكم أمر دينكم؛ لأنكم لم تسألوا عن هذه الأشياء المهمة، فجاء جبريل يسأل فأوضح لكم هذه الأشياء.
قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، أي: أن الساعة قريبة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: عائشة: (كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة) أما أهل الإيمان فلا يسألون عنها، لأن الساعة عند أهل الإيمان هي الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين).
فساعة كل إنسان ستأتيه، سواء جاءت الساعة الكب(420/4)
تفسير سورة الشورى الآية [19]
الله عز وجل لطيف بعباده، فقد خلقهم سبحانه وأسبغ عليهم أنواع النعم والخيرات، وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وبين لهم طريق الخير من طريق الشر، كما أنه سبحانه يدفع عنهم البلايا والمصائب والمحن، وكل ذلك من لطفه سبحانه وتعالى ورحمته بهم.(421/1)
تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:19 - 22].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن اسم من أسمائه وصفة من صفاته العظيمة وهي: صفة اللطف منه سبحانه وتعالى، ومن أسمائه اللطيف، قال سبحانه: ((اللَّهُ لَطِيفٌ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) أي: عد هذه الأسماء، وعرف هذه الأسماء، وحفظها، وعرف معانيها، واستعمل هذه الأسماء في دعائه، فاختار الاسم المناسب للدعاء الذي يريده، فدعا ربه عز وجل به، وذكره به، فالله عز وجل يكشف عنه ما به ببركة استخدامه ذكر الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
وقوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) الله اللطيف سبحانه، واللطف فيه معنى البر منه سبحانه وتعالى، وفيه معنى اللطف والرفق بالعباد، والعلم الخفي بهم، ولننظر إلى آيات الله سبحانه وتعالى، فإنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ))، وهم يؤذون النبي صلوات الله وسلامه عليه، والسورة مكية، وهم يبتعدون وينفرون الناس عنه، والله يلطف بهم، ويرزقهم ويعطيهم، ويمد لهم؛ لعلهم يرجعون إليه سبحانه وتعالى.
انظر إلى إبراهيم وهو يدعو ربه سبحانه: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126] إبراهيم الخليل الذي اجتباه الله واصطفاه بني بيت الله الحرام، ودعا ربه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، ودعا ربه سبحانه أن يجعل ذريته ذريةً مسلمة له سبحانه، وأن يرزق المسلمين من فضله سبحانه، فكان جواب الله عز وجل: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] فهو سبحانه وتعالى لا يمنع رزقه عن مؤمن ولا عن كافر، فقد يضيق على من يشاء ولا يمنعه، فكل إنسان خلقه الله خلق له رزقه معه، فرزق الله سوف يأتيك، ولو أنك تفر من رزقك كما تفر من موتك لأتاك رزقك كما يأتيك الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم فر من رزقه كما يفر من الموت لأتاه رزقه كما يأتيه الموت).
وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، فالله لطيف بهم حفي بهم كريم بهم بر بهم يوصل إليهم أرزاقهم بشيء لطيف خفي، فلا يدري الإنسان حين يخرج من بيته ما الذي يحضره اليوم؟ وما الذي يرزقه الله اليوم؟ فإذا بالله يسبب أسباباً لطيفة خفية، حتى يصل إليه رزقه الذي قسم له، فهو سبحانه يرزق من يشاء من عباده ويمنع من يشاء بلطفه سبحانه؛ فقد تكون محتاجاً لشيء، وتجد ذلك الشيء أمامك، فتمد يدك لتأخذه فيضيع منك، ويأخذه غيرك؛ لأنه لم يقسم لك، فتحزن أنت في نفسك على أن هذا فاتك، ولكن الله لطيف بعباده سبحانه، علم الله بعلمه الخفي أنك لو أخذت هذا لضرك، فمنعه عنك، ومنع عنك الضرر الذي يكون من ورائه، فلا تدري أن الله سبحانه يعطيك بفضله سبحانه، ويمنعك بفضله وبعدله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يتفضل عليك؛ فإذا به يمنع عنك شيئاً سيضرك بعد ذلك، وأنت لا تدري، وأنت تظن أنه نفع محض، والله يعلم أن هذا يؤذيك ويضرك في دينك ودنياك وأخراك فيحجب عنك ذلك ويمنعه بلطفه الخفي تبارك وتعالى.
إذاً: الله لطيف بر رفيق بعباده سبحانه في إيصال المنافع لهم، وفي صرف البلاء عنهم من وجه يلطف إدراكه، أي: يخفى إدراكه، فقد تدعو ربك: يا رب! أعطني، كذا يا رب! أعطني كذا، يا رب! أعطني كذا، وأنت مؤمل أن يعطيك، فيعطيك الله سبحانه، وقد تدعو ربك وتلجأ إليه سبحانه: يا رب! أعطني كذا، فلا يعطيك؛ لأنه يعلم أنه سوف ينزل بك بلاء لو أنك أخذت ذلك الشيء، فيصرفه عنك، ويرفع عنك ذلك البلاء، فأنت قد تدرك أن هذا لم يأتك، ولكن الله سبحانه قد صرف عنك بلاءً شديداً، لعله مرض ينزل بك، أو مصيبة تنزل بأحد ممن تحبهم، فيرفع الله عز وجل ذلك.(421/2)
أنواع استجابة الدعاء للعبد
والدعاء مستجاب للعبد بواحد من ثلاثة: إما أن يعطيك الله عز وجل ما طلبت، وإما أن يصرف عنك من الشر مثل هذا الذي سألته من الخير، وإما أن يدخر لك ذلك إلى يوم القيامة، ويوم القيامة يوم شديد، كثير الكروب، لا مهرب من الله سبحانه ولا منجى منه إلا إليه، فيعلم الله أنك تأتيه محتاجاً لحسنات، فقد تنفد حسناتك يوم القيامة، فربما أنك ظلمت فلاناً، وشتمت فلاناً، وقذفت فلاناً، فتأتي يوم القيامة وقد ضاعت حسناتك في ذلك، واحتجت لحسنات، فأخر لك دعاءً لم يستجبه فتنتفع به في يوم القيامة، فتتمنى يومئذٍ لو أن الله عز وجل لم يستجب لك دعاءً من أدعيتك، وأنه ادخر جميعها إلى يوم القيامة.(421/3)
وجوب الثقة بالله عز وجل ولطفه
فعلى العبد أن يثق في لطف الله سبحانه وتعالى، فإذا عجل لك شيئاً فقد ادخر لك أشياء، فتحمد ربك أنه لم يعطلك الدنيا كلها، فقد كان أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه يقولون: نخشى أن تكون عجلت لنا طيباتنا؛ لأن الكفار عجلت لهم طيباتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رآه عمر بن الخطاب في مشربة له -في غرفة مرتفعة- وكان قد خاصم صلوات الله وسلامه عليه نساءه، فأراد الناس أن يستأذنوا عليه، فلم يدخل عليه أحد، فجاء عمر يستأذن ليدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وزير النبي صلوات الله وسلامه عليه في أمره وفي دعوته عليه الصلاة والسلام، فاستأذن فلم يأذن له، فاستأذن ثانية فلم يأذن، فاستأذن ثالثة فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل عمر رضي الله عنه، قال: فما وجدت شيئاً يرد البصر، الحجرة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم لا تحوي شيئاً يرد البصر؛ لأن الإنسان الذي يدخل ويريد أن ينظر في هذه الغرفة لا يجد شيئاً يرد بصره؛ لأن الغرفة خالية لا تحوي شيئاً إلا سريراً ينام عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السرير مفروش بحصير، والحصير قد أثرت في جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس ونظر عمر فلم يجد إلا إهاباً معلقاً، جلد خروف قبل أن يدبغ، وكأنه جاهز ليدبغ.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت! وأنت رسول الله هكذا، وقيصر وكسرى على الحرير وعلى الذهب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! قال: لا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم) كأن الله سبحانه أعطاهم الدنيا حتى يحرموا من الآخرة، فلا يكون لهم عند الله عز وجل يوم القيامة شيء، فإذا صنعوا معروفاً في الدنيا جوزوا عليه في الدنيا، أما الإنسان المؤمن فيدخر له إلى يوم القيامة.
((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) يلطف بك بعلمه الخفي، وبره الحفي، فيعطيك شيئاً، ويدخر لك الكثير عنده سبحانه وتعالى، وهذا الذي يصنعه الإنسان الذي يخاف على نفسه من الدنيا، ويخاف على نفسه من النار يوم القيامة، ينفق في الدنيا شيئاً، ويدخر عند الله عز وجل الأشياء الكثيرة التي تنفعه، فقد ورد أنهم ذبحوا للنبي صلى الله عليه وسلم شاة وفرقوا منها، فلما جاء صلوات الله وسلامه عليه سأل فقال: (ما بقي منها؟ قالت له عائشة: لم يبق منها إلا الكتف، فقال: بل بقي جميعها إلا الكتف)، أي: الذي وزعتموه على الفقراء والمساكين هو الذي بقي ليوم القيامة، وهو الذي نؤجر عليه، والذي أكلناه في الدنيا فقد أكلناه ونفد، قال عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] فالشيء الذي معك في الدنيا هو القابل للنفاد، وأما الذي ادخرته عند الله فهو باقٍ لا يضيع أبداً.(421/4)
من صور لطف الله عز وجل بعباده
قال تعالى: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) لطف الله عز وجل ذكرنا أنه بمعنى البر، وبمعنى الرفق، وبمعنى الاحتفاء والإكرام لأوليائه سبحانه وتعالى، وكذلك من لطفه سبحانه: العلم بغوامض الأشياء، فالأشياء الغامضة التي يشكل عليك أمرها الله يعلمها تبارك وتعالى، ويفرج عنك ما أشكل عليك من ذلك.
كذلك من لطف الله سبحانه: أن ينشر مناقب العباد، وأن يستر مثالبهم، فالله لطيف بعباده، تجد الشيء الخيّر الذي تفعله الله عز وجل ينشره، وتجد من يقول لك: جزاك الله خيراً على ما فعلت، وقد تستر هذا الشيء، ويشاء الله عز وجل أن يعرف؛ ليشكرك الناس، وأنت لم تطلب ذلك.
والذنوب التي أفعلها بيني وبين ربي من لطفه أنه يسترها سبحانه وتعالى، فالله لطيف بعباده، يستر عليك ذنوبك، فلا أحد يطلع على شيء قد ستره الله سبحانه وتعالى، ولم يؤاخذك بها في الدنيا، ولم يفضحك بها في الدنيا، فلطف بك، ونشر ما تمدح به، وستر ما تذم به من لطفه وكرمه سبحانه وتعالى.
ومن لطفه أن كلف العباد عبادته، وكلفهم بما هو دون طاقتهم، ولم يكلفهم ما هو فوق الطاقة، والله عز وجل كلف عباده بأن يعبدوه بأشياء معينة، وبطرق معينة، قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
ولكن هل كلفنا الله طاقتنا جميعها؟ أبداً والله! بل الله سبحانه رحيم لطيف بعباده، كلفنا أقل من ذلك، كلفنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وموسى عليه الصلاة والسلام استثقلها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك.
وها نحن نصلي الخمس الصلوات، ونصلي التراويح، ونصلي النوافل، ونقدر عليها، ونقدر على أكثر منها، ولم يكلفنا الله سبحانه إلا ما هو أقل، وكلفنا أن نصوم شهر رمضان، فنحن نصوم رمضان، ونصوم ستاً من شوال، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وقد يصوم البعض الإثنين والخميس، وغير ذلك.
فعلم الله أنكم تقدرون، ولكنه بفضله كلفكم الشيء الأقل؛ وحتى لا تتعبوا، وحتى لا يشق عليكم، وحتى لا تتركوا العبادة فكلفكم بما تطيقون، وبأقل مما تطيقون أيضاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإنه سبحانه لما أمرك أن تنفق قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ولم يكلفك الشيء الذي لم يؤتك إياه، وقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فكلفك الله بالإنفاق الواجب على زوجتك، وعلى عيالك، وعلى أمك، وعلى أبيك بما أتاك الله، فإذا كنت قليل المال فمن هذا المال القليل، وإذا كنت كثير المال فمن سعتك ومن طاقتك، ومع ذلك يعطيك أكثر مما تنفق، ووعد سبحانه أنه لا ينقص المال من النفقة ومن الصدقة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، هذا رزق الله، وهذا كرم الله سبحانه، فالله لطيف بعباده.
وحين تنزل المصيبة في مكان ويتأمل الإنسان ويقول: يا ترى ماذا سيفعل أهل هذا المكان؟ فمن لطف الله عز وجل أنه يرفع هذه المصيبة، ويرفع هذا البلاء، ويرزق أهله الصبر عليه.
فالإنسان يتوقع لو حصل فيّ شيء فلن أستطيع أن أصبر على هذا الشيء، فيقع عليك وتصبر عليه؛ لأن الذي لطف بك هو الله سبحانه وتعالى، والذي صبرك وقدرك وأعانك على هذا البلاء هو رب العالمين تبارك وتعالى.
فانظر إلى السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين توفي زوجها أبو سلمة رضي الله عنه، وكان أبو سلمة خير الناس لها، وهي لا تظن أن أحداً من الناس خير من أبي سلمة رضي الله عنه، فلما مات حزنت عليه حزناً شديداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أن تدعو وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها)، وأن تقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون).
فالإنسان قد تنزل به المصيبة، والذي أنزلها هو الله، والذي يكشفها هو الله، والذي يعين عليها ويصبِّر عليها هو الله، فالله لطيف بعباده سبحانه، فعلمها فقالت ذلك الدعاء، قالت: ولكن كنت أقول: أبو سلمة مات وأقول: اخلف لي خيراً منه، من خير من أبي سلمة؟ وكونها تقول: اخلف لي خيراً منه، قد يخلف لها في الدنيا فيعطيها زوجاً آخر، وقد يعطيها صبراًَ ورزقاً ويعطيها ما يشاء تبارك وتعالى، ولا يشترط أن يكون الخير أن يرزقها زوجاً، فهي ظنت أنه لا أحد خير من أبي سلمة.
وتمر الأيام والليالي، وتمر عدتها، وإذا بالذي يخطبها هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا شيء ما كان على بالها أبداً، فلم يكن في بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يخطبها، ولذلك قالت: من خير من أبي سلمة؟ فهي تظن أنه لا أحد خير من أبي سلمة لا أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما، وكل امرأة عندها زوجها هو خير ما يكون، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها ويتزوجها، قالت: (فأبدلني الله خيراً منه)، أبدلها الله خيراً من أبي سلمة بسيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فالله لطيف بعباده؛ يلطف بك من وجه أنت لا تستشعره، ولا تحسه؛ فإذا بلطف الله يأتي ويخفف عنك البلاء، يكشف البلاء، ويرفع عنك الحرج الذي أنت فيه والهم والغم والمصيبة.
والمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة مرة، وهاجروا مرة أخرى، وهاجروا إلى المدينة، هاجروا وهم لا يدرون إلا أن هناك الجنة، وهناك الأجر من الله سبحانه وتعالى، لكن كم مقدار هذا الأجر؟ هل كانوا يتوقعون أن يخلد الله ذكرهم بأن يذكرهم في القرآن ويصفهم المهاجرين السابقين الأولين لأنهم هاجروا إلى مكان الإيمان؟ وأهل المدينة هل كانوا يتوقعون أن يذكرهم الله سبحانه، ويخلد ذكرهم لأنهم تبوءوا الدار، وتبوءوا الإيمان، وكانوا هم الذين ينصرون الله ورسوله؟ فالمهاجرون الصالحون والأنصار المفلحون ما كانوا يتوقعون أن الله يمدحهم في الدنيا، ويذكر ذلك، فإذا بالله يمدح هؤلاء وهؤلاء بما يدوم إلى يوم القيامة من ذكرهم رضي الله تبارك وتعالى عن جميعهم.
فالإنسان المؤمن يفعل الخير وهو يحسن الظن في الله، وهو يؤمل فضل الله، فالله لطيف بعباده، ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)).(421/5)
ذكر بعض ما قاله أهل العلم في معنى لطف الله عز وجل
من لطف الله سبحانه ما ذكره أهل العلم: قال الحسين بن فضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتيسيره، يعني: أن من لطفه سبحانه وتعالى أنه نزل هذا القرآن العظيم السهل الممتلئ، فإن القرآن سهل جداً، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فكل إنسان يفهم العربية ويقرأ القرآن يفهم هذا الذي يقوله الله سبحانه، لكن هذا الشيء السهل جداً هل تقدر أن تأتي بمثله؟ لا تقدر، فإن ذلك صعب جداً، بل مستحيل، كما قال عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
فاذهب واحفظ قواميس اللغة كلها، واعرف كلام العرب كله، وحاول أن تأتي بمثله، فلن تقدر؛ فإن العرب كانوا عارفين بهذا الشيء، ولكنهم ما قدروا على ذلك أبداً، ولا استطاعوا إليه سبيلاً، وقد حاولوا فما وصلوا.
فمن لطف الله أنه أنزل هذا القرآن العظيم شريعة ومنهاجاً، وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فتحفظ كتاب الله فتجده سهلاً، وبقدر الآيات التي تحفظها لو أعطوك كلام أناس تحفظه فإنك ستجده صعباً وتقول: لا أستطيع، وهكذا أبيات الشعر، لكنك تستطيع أن تحفظ من القرآن ما يشاء الله سبحانه وتعالى، والقرآن ميسر الفهم، فأنت تفهم القرآن، وكل من يفهم العربية يفهم القرآن، والله يفضل بعضكم على بعض في الفهم؛ فإذا قرأت الآية: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ))، فإن كل واحد يفهم أن الله لطيف، فعندما تنزل مصيبة بإنسان يقول: يا لطيف! يا رب! الطف بنا، تجد الإنسان يقول هذا من غير أن يعرف اللغة العربية، فالله لطيف بعباده، لطف الله سبحانه بعباده فكان براً بهم، وحفياً بهم، ورفيقاً بهم، أوصل إليهم النفع بطرق خفية، وأحدهم لا يدري من أين يأتي هذا النفع إليه، تشتد بهم المصيبة حتى تبلغ الذرى فإذا بفضل الله يأتي وتنكشف الكرب التي هم فيها، فالمصائب إذا نزلت وجلت وعظمت، فكلما عظمت إذا بالله يخففها فترتفع، والبلاء حين يشتد ينفرج، كما قيل: اشتدي أزمة تنفرجي، فإذا اشتدت الأزمة ونزل الكرب بالإنسان جاء لطف الله سبحانه، فانكشفت هذه الأزمة، كما قال الشاعر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج فقد يشتد البلاء والأزمة فتقول: لا أستطيع، لا أقدر، وإذا بلطف الله يأتي، وترى المريض يبيت في البيت يصرخ ويصرخ، ويطلع الصبح فيقول: سبحان الله! كانت ليلة شديدة، فإذا اشتد الكرب جاء الفرج من عند الله سبحانه، وذهب هذا الشيء، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى، وكلنا نفهم هذا المعنى.
وقوله: ((يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ)) أي: يعطي من يشاء الرزق.
وقوله: ((وَهُوَ الْقَوِيُّ)) أي: القادر القاهر العزيز سبحانه.(421/6)
من لطف الله تعالى تيسيره لفهم القرآن
والكل يفهم هذا المعنى، فإذا جاء أهل العلم فهموا منها أعلى مما يفهم غيرهم، فالله لطيف، وكلمة (لطيف) في اللغة معناها كذا ومعناها كذا، ولطيف من لطف، والله عز وجل إذا عبر عن نفسه أنه لطيف فهي من (لَطَف (بالفتحتين، وليس من (لَطُف) بالفتح والضم، فأنت محتاج أن تعرف هذه الأشياء، وليس كل إنسان يقدر أن يعرفها، قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فإذا بالعالم يفهم أشياء عظيمة يفرح بها، وإذا بالأمي يفهم أشياء في نظره أيضاً هي عظيمة يفرح بها، فأنا فهمت، وأنت فهمت، والثالث فهم، والعالم فهم، والجاهل فهم، وكل فهم ما يقصده الله سبحانه وتعالى.
فمثلاً: قول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] هل يأتي إنسان ويقول: لا أفهم معنى كون الطلاق مرتين؟
الجواب
لا، بل يفهم أنه لك أن تطلق مرة وتراجع، وتطلق مرة أخرى وتراجع، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فالإنسان يفهم هذا، وفهم هذا، وفهم أهل العلم من وراء ذلك.
فأعطى الله عز وجل كل إنسان على قدر ما آتاه من علم أعطاه فهماً وفقهاً، ولا يحرم أحداً، بل الكل يقرأ القرآن فيفهم ولو المعنى العام الذي تدل عليه هذه الآيات، فيفرح بأن يسر الله عز وجل له دينه.
قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] أي: هل من متعظ؟ فإنك تقرأ قصيدة من قصائد الشعر فتقف عند كل بيت قليلاً وتقول: ماذا يقصد هنا؟ وهكذا البيت الثاني، ويمكن أن تقف عند القصيدة كلها، وإذا قرأت السورة من القرآن فمستحيل أن يكون الأمر كذلك؛ فإن هذا كتاب رب العالمين نزل للخلق جميعهم هداية من رب العالمين، فجعله سهلاً، فاقرأ القرآن يفهمك الله سبحانه، ويعلمك الله، كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
إذاً: من لطف الله سبحانه أنه نزل القرآن ويسره وفصله، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يفهمهم ما قد يشكل عليهم منه، وعلم أهل العلم ففهموا وفطنوا، وعلَّموا خلق الله ما يريده الله سبحانه وتعالى.(421/7)
لطف الله بأوليائه
قال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.
فمن لطف الله عز وجل أنه جعل أولياءه يعرفونه، قال عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فإن كنت تريد أن تكون ولياً فالأمر سهل، وليس صعباً، فالناس يرون أن الأولياء هم الذين ماتوا.
وأن الأولياء هم سيدي فلان، وسيدي فلان، وقد يكون هؤلاء من الأولياء، ولكن الولاية لم يحجرها ربنا على قوم دون غيرهم، بل الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم أولياء الله؟ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فآمن واتق ربك تكن من أولياء الله سبحانه وتعالى.
فأولياء الله تولوا ربهم ولم يتولوا غيره، ولم يشركوا بالله سبحانه، وتوكلوا على الله، ولم يكلوا أمورهم لغيره سبحانه، وأخذوا بالأسباب ولم يتكلوا، وكانوا رءوساً في دين الله سبحانه وتعالى، وتوجهوا إلى ربهم فاستعانوا به فأعانهم، وآمنوا فاستشعروا بحلاوة الإيمان، ولا يستشعر الإنسان حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فكن كذلك تكن ولياً لله سبحانه وتعالى.
فاستقم على طريق الله سبحانه حتى يعطيك من فضله ومن رحمته ما يوصلك إلى هذا المقام العظيم، مقام التواضع بين يدي الله سبحانه، مقام هضم النفس، وترى نفسك أنك لا شيء، فكلما زادك الله علماً ازددت علماً بجهلك، وكلما زادك الله مكانة ازددت تواضعاً، وكلما أعزك الله سبحانه هضمت أنت نفسك؛ حتى تكون ولياً لله سبحانه وتعالى.
قال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه.
أي: حتى عرفوا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، علموا أن الله هو القاهر القوي الغالب القادر، علموا أن الله هو الرحمن الرحيم، اللطيف، الخبير، عرفوا الله بأسمائه الحسنى، عرفوا الله من شرعه، عرفوا الله من آياته، رأوا في كل شيء لله عز وجل آية: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فمن لطف الله أن عرفهم، ويسر لهم العلم فتعلموا، فكانوا أولياء الله سبحانه وتعالى.
قال: ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.
وهذا محمد بن علي الكتاني يقول: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق.
أي: أن الله سبحانه هو اللطيف بمن لجأ إليه وقد يئس من العباد، وجد كل الناس يخذلونه، ولا أحد يقف بجواره، وجد نفسه مظلوماً، وعادة الناس أن يقفوا مع القوي، فإن كان القوي هو المظلوم وقفوا معه، وإن كان القوي هو الظالم وقفوا معه؛ لأنهم يخافون من الظالم القوي، فيكونون معه، وهذه عادة الناس، فإذا استيئس الإنسان من الناس لجأ إلى رب الناس سبحانه فلطف به سبحانه وأعطاه وكان معه، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فقوله: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)) أي: يئسوا من إيمان قومهم، وحصل عندهم اليأس من إيمان قومهم، كما قال نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يذكر قومه: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: هؤلاء لو تركتهم يا رب فأولادهم سيكونون مثلهم، فأنا قد بلوتهم وخبرتهم، وعشت معهم، كما قال سبحانه حاكياً عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:5 - 12].
دعاهم بالترغيب ليل نهار، ولكن لا فائدة، ولذا قال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: لا تخافون من ربنا؟ فدعاهم بالترهيب والتخويف، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، وذكر لهم آيات الله سبحانه، وفي النهاية: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] أي: لا يوجد فائدة يا رب! فقد صار لي ألف سنة أدعو هؤلاء القوم، ولكن لا فائدة {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27] أي: لا فائدة فيهم، كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] أي: ظن الرسل أن قومهم كذبوا بهم، جاءهم نصر الله.
فظن الرسل أنهم قد كذبوا، أي: حدث لهم ظن أن قومهم كذبوهم، وظن أتباعهم أن رسلهم قد كذبوا، وأنهم لم يفهموا عن ربهم ما أراده سبحانه.
فالأمر ضيق جداً، والرسل يجدون الكفار يكيدون لهم، والأتباع بدوا يتشككون، فلما ضاق الأمر جاء أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ((فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) [يوسف:110] أي: فينجي الله بعظمته سبحانه وتعالى المؤمنين.
وقوله: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] هذا من لطف الله بعباده المؤمنين؛ حتى لا يصلوا إلى الشك، فيكفروا بالله سبحانه وتعالى، فإذا بنصر الله يأتي، ونصر الله قريب، فالله لطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق، فإذا توكل على الله سبحانه، ورجع إليه، قبله الله سبحانه، وأقبل الله عز وجل عليه.(421/8)
لطف الله بعباده
قوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) ينشر من عباده المناقب، ويستر عليهم المثالب، ينشر مناقب عباده، فتسمع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وكان جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الكرم، فكان رضي الله تبارك وتعالى عنه من أكرم الناس، ولما قتل إذا بأكثر من مائة بيت من أبيات المدينة يستشعرون: أين الطعام الذي كان يأتينا؟ فقد كان يذهب في الخفاء بالليل بالطعام للبيت الفلاني من غير أن يعرفوا من الذي جاء إليهم بذلك، فإذا بهم لما قتل شهيداً رضي الله عنه يفتقدون الطعام الذي كان يأتيهم، فـ جعفر رضي الله عنه الله كتم ذلك وأسره طاعة لله، وابنه كان يقتدي بأبيه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقتل شهيداً رضي الله عنه، وكان باراً كريماً رضي الله عز وجل عنه، فجعل الله له جناحين يسرح ويطير بهما في الجنة، ويأخذ من أرزاق الجنة من حيث يشاء.
فلم يكن وهو ينفق على الناس يقول: أنا جعفر بن أبي طالب أعطيكم هذا الطعام، وإنما كان يكتم ويستر؛ ولما مات نشر الله سبحانه وتعالى له هذا الفضل، فنعرف فضله، ونعرف فضل المنفقين من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، أسروا طاعة الله سبحانه؛ فإذا بالله ينشرها، ويطلع المؤمنون على فضل الله على هؤلاء، فيقتدون فهم، ويؤجر أولئك الصحابة مثل أجرهم، وكمثل أجر من يعمل بأعمالهم إلى أن تقوم الساعة.
((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ))، فهو الذي يظهر الجميل، ويستر القبيح سبحانه، ويبذل الكثير، وييسر العسير بفضله وكرمه.
نسأل الله من لطفه وكرمه وفضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(421/9)
تفسير سورة الشورى [19 - 23]
الله سبحانه لطيف بعباده، فقد جعلهم شعوباً وقبائل وسخر بعضهم لبعض لتبادل المنافع، ومن كان عمله لله عز وجل وجد ثمرته في الآخرة، ومن لم يبتغ بعمله الدار الآخرة يؤتيه الله ثمرة هذا العمل في الدنيا وقد لا يؤته، وفي يوم القيامة يفصل الله فيه بين عباده، فمنهم من يدخل النار جزاء ما قدم، ومنهم من يدخله الله الجنة جزاءً بما كانوا يعملون.(422/1)
تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:19 - 22].
قال الله عز وجل: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) سبحانه وتعالى، واللطيف: البر الرفيق سبحانه وتعالى، يبر عباده ويعطيهم ويرزقهم ويمنحهم سبحانه، واللطيف: ذو العلم الخفي، والتقدير المحكم الجميل سبحانه وتعالى، له في عباده لطفٌ في إيصال الخير لهم، وفي صرف الشرور عنهم؛ ولذلك عقب ذلك بقوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)).
يرزق العباد بعضهم من بعض، والله عز وجل له حكمة عظيمة إذ جعل هذا صغيراً وهذا كبيراً، وهذا يريد هذه الصنعة، وذاك يريد صنعة أخرى، وجعل عباده يحتاج بعضهم لبعض، وهذا من لطف الله بعباده، ولو أن كل إنسان قدر أن يخدم نفسه، وقدر على كل مصالحه، ما احتاج واحد لآخر، لكن الله سبحانه قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
والإنسان عندما يرى نفسه مستغنياً عن خلق الله سبحانه يستكبر عليهم، ولا ينظر لأحد منهم، ويرى أنه لا يريد من أحد شيئاً، فلا يريد أن يعرف أحداً، ولا يتعرف على غيره إلا إذا احتاج إليه في يوم من الأيام، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، وطبيعة الإنسان إذا استشعر في نفسه الغنى لم يعد يحتاج إليك، فتراه يتكبر على الخلق، بل يتكبر على خالقه سبحانه وتعالى، ونسي أن الله هو الذي أعطى له ذلك، فإذا به يشرك بالله سبحانه، ويعبد غير الله، فإذا ضيق ربه عليه رجع إلى ربه يقول: يا رب يا رب! قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:8]، وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49].
وهذه طبيعة عجيبة في الإنسان، فالإنسان عندما يضيق الله عليه يقول: يا رب! أعطني، فإذا أعطاه من فضله نسي ذلك وقال: بعملي وجهدي وذكائي، أنا وارث مال كذا، وربنا يعطيني لأني أستحق ذلك، فيغتر ويتكبر ويمن على ربه، بأنه يعبد الله سبحانه وتعالى، فلذلك من حكمته سبحانه أن جعل العباد فقراء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15].
فيستشعر الإنسان الفقر في نفسه، فإنه مهما أعطاه الله الغنى يخاف أن ينقص المال، فيريد مالاً أكثر؛ لأنه يخاف أن يفاجأ بصروف السنين، فيحس أنه سيحتاج في يوم من الأيام، فيريد أن يكثر المال؛ لأن الإنسان فقير بخلقته وبطبعه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
فالله وحده سبحانه الغني، وخزائنه ملأى لا تنفد، سحاء الليل والنهار، ينفق ويعطي عباده دائماً، وخزائنه لا تنفد أبداً.
والإنسان ظلوم كفار، ظلومٌ لنفسه، يشرك بربه، ويكفر نعم الله عز وجل عليه، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
والله لطيفٌ بعباده سبحانه، فمن لطفه أن جعل بعضكم لبعض سخرياً، قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، أي: سخره بأجره واستخدمه بأجرة، فيتخذ الناس بعضهم بعضاً، وكل فرد يحتاج إلى غيره، فقد يحتاج الغني إلى الصانع؛ لأنه لا يجيد الصنعة الفلانية، فيعطي الصانع أجرة على عمله، وبذلك حصل تبادل منافع بينهم، فلو لم يوجد الاحتياج لاستغنى الناس بعضهم عن بعض، ولتقطعت الأواصر والصلات بسبب الاستغناء، ولكن الله من لطفه الخفي سبحانه أن جعل عباده يفتقر بعضهم إلى بعض، فيحوج الله عز وجل العباد بعضهم لبعض، حتى يجتمعوا ويتعارفوا فيما بينهم.
قال تعالى: ((يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) سبحانه وتعالى، فالإنسان يحتاج إلى رزقه لأنه ضعيف، والله هو القوي لا يحتاج إلى أحد، وهو القاهر والغالب سبحانه، ومهما تعاظم في الإنسان قدر نفسه وقوته فليعلم أن الذي خلقه أقوى منه، وهذا هو الذي كان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقد رأى أبا مسعود البدري رضي الله عنه وهو يضرب غلاماً له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم أبا مسعود) فلم ينتبه أبو مسعود من شدة غضبه وضربه للعبد الذي عنده، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم أبا مسعود) فانتبه أبو مسعود فنظر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فكف عن ضرب الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام) أي: الله قادر على أن يمنع يدك هذه التي تضرب بها، والله قادر على أن يسلبك قوة يدك، فلا تقدر على أن تحركها، فاعلم حين ترى من نفسك القدرة على الغير، أن الله أقدر عليك، فهو قوي سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء.
فهو الرزاق لجميع العباد في وقت واحد، فترى كل عبد يجد ما يقوته وما يقوم بأمره، فهو القوي القاهر العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع سبحانه وتعالى، فرزقك المقسوم لا بد أن يأتيك مهما أخفاه غيرك ومهما أراد الغير أن يمنعه منك، فالله إذا شاء شيئاً فعله، ومن هذا الذي يغالب ربه، ويمنع نعمة أراد الله أن يرسلها لفلان؟! وما يفتح الله للعباد من نعمة أو فضل فلا أحد يقدر أن يمسك ذلك، وإذا أراد الله أن يمسك ذلك وأن يمنع فلا أحد يقدر أن يفتح ذلك، قال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].
فقوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) أي: عزيز لا يغالب ولا يمانع، إذا أراد شيئاً لا بد أن يوجد ويقع ما أراده الله سبحانه.(422/2)
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه)
قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
فالذي يريد الدنيا يعطيه الله، والذي يريد الآخرة يعطيه الله سبحانه وتعالى، ولكن عطاء الله مقيد بقضائه وقدره سبحانه وعلمه وحكمته، فالإنسان يطلب الدنيا، والله يقول: سنعطيك من الدنيا، ويعطيه ما قسم له؛ ولذلك الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها الإعطاء قيدها بآية في سورة الإسراء، قال الله سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18].
فإذا كنت تريد الدنيا عجلنا ذلك لك، ولكن لا يأتيك منها إلا ما قسمناه وما أردناه أن يصل إليك، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:18 - 20].
فالله يعطي الجميع ويرزق عباده، ولا يمنع الله سبحانه رزقه وعطاءه عن أحد، وإنما بما قدره وقسمه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ))، والحرث: كسب الآخرة، فإذا أردت أن تكسب الجنة وتكسب رحمة الله وتخفيف الحساب يوم الحساب، فاعمل لهذا اليوم.
قال الله تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) أي: يعطيه الآخرة ويعطيه الحسنى وزيادة، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحسنى وزيادة، وأن يعطينا حرث الآخرة وألا يحرمنا من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى، فإذا أردت الآخرة وسعيت لها سعيها ابتغاء وجه الله عز وجل فإن الله يعطيك.
قال الله تعالى: ((وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا)) أي: إذا كنت تريد الدنيا وتعمل لها أعطيناك من الدنيا ما أردنا، وفي الآخرة قال تعالى: ((وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)) فقد أخذ حظه في الدنيا، ولم ينل شيئاً من الآخرة.
والناس أصناف، قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)).
ولكن من الناس من: {يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200].
يريد الدنيا فقط، فهي همه الشاغل ليل نهار، فيؤتيه الله عز وجل ما شاء من الدنيا وقد يحرمه منها، وفي الآخرة له عذاب النار والعياذ بالله، فإذا أعطى الله عز وجل عبداً من عباده الفهم والعقل والإيمان سأل ربه الآخرة، وقال: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)).
وحسنة الدنيا: معرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته ورزقه الحلال، فيعطيه المال الطيب والرزق الطيب والولد الطيب والزوجة الطيبة في الدنيا؛ لينتفع بها على أمر الآخرة، وليستعين بها على أمر الآخرة، وفي يوم القيامة يكون له الحظ الوافر عند الله عز وجل، ومن الناس من يطلب الدنيا فقط ويقول: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا)) فتراه يريد مالا كثيراً وزوجة جميلة سواء كانت صالحة أو طالحة، المهم أن تكون جميلة فقط، والمال لا يهمه أهو من حلال أم من حرام؟ فإذا آتاه الله عز وجل الدنيا ضيع حظه في الآخرة، قال تعالى: ((وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)).
أي: ليس له حسنة في الآخرة وليس له نصيب في الآخرة.
لذلك لا بد أن يكون قلب الإنسان نقياً يطلب الآخرة، مخبتاً يرجع إلى الله سبحانه وينيب إليه، ولا بد أن ينوي النية الحسنة في كل أعماله، فإن صاحب النية الحسنة يؤجر، والآخر لا شيء له، والذي ينام وينوي أن يقوم الثلث الأخير من الليل ليعبد ربه ويصلي، ثم نام ولم يقم الليل، ونام عن صلاة الفجر أيضاً، فإن نومه صدقة عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فيصلي حين يذكرها وتكتب له بنيته، وقس على ذلك كل عمل تنوي به الخير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فالأعمال الصالحة تكون بالنوايا الخالصة، والأجر العظيم منه سبحانه.
والحرث في الدنيا بمعنى: الزرع، ونتيجة زرعهم يُرى في الآخرة، فحرث الآخرة: هو جنى ما زرعه في الدنيا، ومن يرد جنى الآخرة {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].(422/3)
تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)
قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21].
يعني: بل هل لهم شركاء شرعوا لهم من الدين؟ والذي يشرع هو الله الرب سبحانه وتعالى، والتشريع من صفاته سبحانه، فهو الحاكم الذي يحكم بين عباده، ومن صفاته: أنه صاحب الشريعة، فالله عز وجل هو الذي يشرع لعباده، فهو الذي شرع لنا هذا الدين، فهل لهؤلاء المشركين شركاء شرعوا لهم من الدين؟ أين شركاؤهم؟ وأين هذه الآلهة التي يزعمون؟ هل هذه الأصنام كلمتهم وقالت لهم: اعبدوا بالصورة الفلانية؟ هل عندهم أثارة من علم أو كتاب يقول لهم: اعبدوا بالصورة الفلانية؟ ليس عندهم شيء، بل عرفوا أن الأصنام لا تعقل ولا تفهم ولا تسمع ولا تجيب، فكيف يعبدونها من دون الله، وهي لا تملك أن تشرع ولا تسمع ولا تعقل.
قال الله تعالى: ((وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)).
أي: ولولا كلمة القضاء من الله عز وجل، والفصل بمعنى: القضاء والحكم بين العباد، فهو سبحانه يفصل الخصومة ويقضي بين الناس، هذا شقي وهذا سعيد، هذا في الجنة وهذا في النار، والكلمة التي سبقت من ربك ألا يعاجلهم بالعقوبة، بل يؤخرهم إلى يوم القيامة ليجازيهم، فلولا هذه الكلمة لقضي بينهم، ولذلك لم يقض بينهم الآن، و (لولا) حرف امتناع لوجود، فـ (لولا) حرف امتناع القضاء بين العباد في الدنيا لوجود الكلمة التي سبقت، فالله يمتنع من أن يقضي بين العباد الآن، إنما القضاء يكون يوم القيامة.
قال تعالى: ((وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)) أي: لقضى الله عز وجل وفصل وحكم بين العباد.
قال تعالى: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) يعذب الله سبحانه وتعالى يوم القيامة جميع الظالمين، خاصة المشركين، إذاً: الظالم يعذبه الله سبحانه، ولكن هنا قصد المشركين، الذي يشركون بالله سبحانه؛ ولذلك عقب بقوله سبحانه: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى:22].(422/4)
تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا)
قال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:22].
قوله: ((تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا)) أي: ترى الظالمين خائفين مما أشركوا، والمقام مقام ذكر التوحيد والشرك، فالمشركون بالله الذين ظلموا أنفسهم الظلم الأكبر تراهم مشفقين مما كسبوا، عبدوا الأصنام من دون الله وتوجهوا لها وتركوا دين الله، فهم يوم القيامة مشفقون من حساب رب العالمين سبحانه، وكذلك غيرهم من الظلمة والمجرمين تراهم مشفقين مما كسبوا، أي: من جزاء ما كسبوا.
قال تعالى: ((وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ))، أي: ترحموا على أنفسكم ما شئتم يوم القيامة، فإن يوم القيامة يوم جزاء وليس يوم تكليف، وليس في يوم القيامة تعويض لما سلف، فإن أمر العبادة كان في الدنيا.
فقوله تعالى: ((وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ))، أي: عذابه سبحانه، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضات الجنات، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)) يقال: روضات ورياض، والروضة: البستان العظيم والنزهة التي يتنزه فيها الإنسان، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
فقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا))، قيدت بقوله تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ))، أي: في بساتين مزهرة، وفي قصور عامرة في جنات رب العالمين، ترى هؤلاء يلعبون وينعمون، ويفرحون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فالروضة: موضع النزهة الذي يتنزه فيه الإنسان وهو كثير الخضرة.
وقوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (ما) من ألفاظ العموم، أي: كل ما يتمنونه ويشتهونه، فأنت في الجنة اطلب من الله ما شئت، فهي دار يشرفك الله عز وجل فيها، ويعطيك ما تشتهيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي عليهم المنادي: يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً) كل ذلك في جنة الخلود، قال تعالى: {َلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
فلا يخافون من المستقبل أمامهم، فهم في رحمة الله عز وجل، وقد طمأنهم الله عز وجل بأن هذه الجنة دار الخلود، وقد رضي الله عنهم فلن يسخط عليهم بعد ذلك أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
قال الله سبحانه وتعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن رجلاً من أهل الجنة قال: (يا رب أريد أن أزرع؟ فقال الله عز وجل: أوما يكفيك هذا؟) أي: كل الذي أعطيتك هذا لا يكفيك؟ (قال: أشتهي ذلك، قال الله عز وجل: دونك، فرمى البذرة فزرعت وحصدت، قال الله: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء) وكان رجل أعرابي جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تراه رجلاً من هؤلاء، يعني: من الأنصار، أما نحن فنحن أصحاب إبل وهؤلاء أصحاب زروع، رضوان الله على الجميع، وإذا اشتهى العبد في الجنة الولد، فيكون حمله ووضعه وفصاله في مقدار ساعة، لا تعب كما كان في الدنيا، تسعة أشهر ووضع ورضاعة وتعب، فالجنة عظيمة وغالية، والذي يعرف الجنة لا يأبه لما يأتيه أو يضيع منه في هذه الدنيا إلا لأمر دين الله سبحانه وتعالى فقط، قال الله سبحانه: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12] أي: النجاح الباهر العظيم أنك تصل إلى الجنة، فإذا دخلت الجنة فقد فزت هذا الفوز العظيم عند الله، وأفلحت ونجحت.(422/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23].
قوله: ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: ذلك الفضل العظيم من الله الذي يبشر به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بشارة من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، فالمؤمن الذي يتعب نفسه لله سبحانه، ويحسن العمل لله، ويخلص النية لله، يبشره الله بذلك.
وقد تكررت هذه الكلمة في القرآن، وفيها قراءتان: (يُبَشِّر)، و (وَيبْشُر)، أي: يظهر البشرة على وجه المؤمن بما حدث في قلبه من فرح، فالجمهور يقرءونها: ((يُبَشِّرُ)) ويقرؤها حمزة والكسائي وفي هذه الآية فقط يقرؤها ابن كثير وأبو عمرو مع حمزة والكسائي: (يَبْشُر)، (يُبَشِّر) للتكثير، تكثير البشارة، و (يبْشُر) يظهر البشر على وجوه المؤمنين بما فرحت قلوبهم.
فقوله تعالى: ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: يبشر المؤمنين الذين أتعبوا أنفسهم في الدنيا من أجل دينهم ومن أجل أن يفوزوا برضى ربهم، ومن أجل الجنة عملوا الصالحات.
(قل) لهؤلاء جميعاً: ((لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) والاستثناء إما أن يكون متصلاً وإما أن يكون منقطعاً، وهذا الاستثناء يسمى: الاستثناء المنقطع، أي: أنه منفصل عما قبله، فلو كان استثناءً متصلاً لقال: أجري عندكم المودة في قرابتي، ولكنه قال: لا أسألكم أجراً، أي: لا أريد منكم أجراً أصلاً، ولكن أطلب منكم أن تراعوا ما بيني وبينكم من القرابة.(422/6)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إلا المودة في القربى)
جاء عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما ما يوضح معنى قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
فقد روى البخاري عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وكان من الجالسين سعيد بن جيبر من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما فقال: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: عجلت -أي: استعجلت في الجواب- فالصحابي عبد الله بن عباس موجود، فلماذا يجيب التلميذ؟ فقال: عجلت، أي: ليس المعنى كذلك، ثم قال رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعله الله عز وجل وسطاً في قومه، فإن قريش جميعها أقرباء للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا يلتقي معه في الجد الأول، وهذا في الجد الثاني، وهذا في الجد الرابع، وهذا في الجد السابع، فكل بطون قريش أقارب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم نسوا هذه القرابة، فمن هؤلاء من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يسلم، والذي لم يسلم آذى من أسلم، فقال لهم ربهم سبحانه وتعالى: راعوا القرابة التي بينكم، فهؤلاء المسلمون منكم وبينكم وبينهم قرابة، فلا أطلب منكم مالاً، وقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطلب من مالنا ما شئت، واطلب من نسائنا ما شئت، وإن كان بك مس من الجن أرسلنا الأطباء حتى نعذر فيك، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، وقال: (إنما الذي أريده كلمة واحدة، قالوا: وأبيك عشراً، اطلب، أي: نحلف لك أن نعطيك عشر كلمات وليس كلمة واحدة، قال: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا: أما هذا فلا، فهم يعرفون أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله سوف يتركون كل ما هم فيه، ويتوجهون إلى الله ويأخذون هذه الشريعة من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن غرورهم منعهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، وحجتهم أنهم إذا قالوا كلمة التوحيد سيكونون أتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أصغر منهم سناً، فرفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله.
إذاً: أنتم رفضتم ذلك فلا تعذبوا المؤمنين، وراعوا القرابة التي بيننا، دعوني أدعو غيركم، ولا تقطعوا الأرحام، وكانت قريش من أكثر الناس صلة للرحم، وما قطعوا الرحم إلا عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى دين الله عز وجل، فبدءوا يقطعون الأرحام بسبب ذلك، ويعذب كافرهم مؤمنهم بذلك، فقال لهم ربهم: ولكن راعوا المودة في القربى، أن توادوني في قرابتي وفي أنفسكم، فكلكم بيني وبينكم قرابة، فلا يعذب بعضكم بعضاً، ولا يتشاجر بعضكم مع بعض.
إذاً: (إلا) هنا بمعنى: ولكن، أي: لا أسألكم عليه أجراً أصلاً، ولكن أطلب منكم مراعاة صلة الأرحام التي بيننا.(422/7)
مضاعفة الحسنات من الله تعالى
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23] أي: الذي يكسب حسنة يزيده الله تعالى الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقد يغلب الدرهم بالحسنة مائة ألف درهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) ومعلوم أن الحسنة بعشر أمثالها، ولكن في هذا الحديث يضاعف الله الدرهم مائة ألف درهم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقيراً له درهمان ورجلاً غنياً له مالٌ كثير، والفقير تصدق بدرهم من درهميه، أي: أنفق نصف ثروته، وأعطاها لفقير آخر، وآخر له مالٌ عظيم أخذ من عرض ماله مائة ألف، ولم يؤثر فيما بقي، ولكن الله لا يضيع الإحسان، لا من هذا ولا من هذا، ولكن هذا الفقير إذا نظرنا إلى النسبة والتناسب، نجده أنفق نصف ثروته، فسبق الدرهم مائة ألف درهم بفضل الله سبحانه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] أي: نزيد من عندنا إحساناً على ما أحسن هذا الإنسان.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23] أي: يغفر لعباده سبحانه، ويشكر لهم حسن صنيعهم، ويشكر لهم ما أنفقوا وما قدموا.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الإحسان وأن يثيبنا عليه الحسنى وزيادة بفضله وكرمه ومنه، فهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(422/8)
تفسير سورة الشورى [22 - 23]
يخبر الله تعالى عن حال الظالمين في عرصات يوم القيامة، كيف أنهم مشفقون خائفون من عذاب الله تعالى، وهذا الخوف والإشفاق لا ينفعهم؛ بل عذاب الله واقع بهم لا محالة، بينما المؤمنون في روضات الجنات لهم فيها ما يشاءون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهله وقرابته، ومحبتهم الحب الشرعي الذي ينبغي لمثلهم.(423/1)
تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:22].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بأن الظالمين يوم القيامة يشفقون على أنفسهم من كسبهم الباطل، مما اكتسبوا من الشرك بالله سبحانه والكفر، والوقوع في المعاصي العظيمة وظلم الخلق، تراهم مشفقين حين لا تنفعهم شفقتهم.
قال تعالى: ((تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا)) أي: مما اقترفوا في هذه الحياة الدنيا.
قوله: ((وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ)) أي: جزاء أعمالهم واقع بهم، فسيجازيهم الله عز وجل يوم القيامة ويعذبهم، ولا تنفعهم رحمتهم لأنفسهم ولا شفقتهم على أنفسهم ولا اعتذارهم إلى ربهم سبحانه.
أما المؤمنون فهم في روضات الجنات، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)) فالمؤمن هو الذي اتقى ربه سبحانه، والذي عمل بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبدل ولم يحرف ولم يغير، واتبع صراط الله المستقيم، فهؤلاء المؤمنون الذين عملوا الصالحات لهم روضات وبساتين في جنات الخلود، في أعالي الجنات، ولهم مكان عظيم يتنزهون فيه ويتنعمون فيه ويفرحون بالجزاء فيه، ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ)) ذلك الفضل تفضل الله عز وجل به عليهم، وجعلهم الفائزين الناجين المفلحين، وأعطاهم من رحمته سبحانه وتعالى، وأدخلهم الجنة وجعل ذلك أعظم الفوز.(423/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا)
قال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23].
قوله: ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) ذلك الفضل الكبير جنات الخلود وروضات الجنات هو الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، المؤمنين الأتقياء، ولاحظ أنه يكرر (آمنوا وعملوا الصالحات)، فالإنسان الذي يقول: آمنت بلسانه ولا يعمل شيئاً لا ينتظر هذا الجزاء، وإنما يحاسبه الله سبحانه ويقول له: أين العمل الذي أمرناك أن تعمله؟ أين صلاتك؟ أين صيامك؟ أين أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟ هذا كله من خصال الإيمان.
فالإنسان إذا قال: لا إله إلا الله دخل الإسلام، ولكن لا يكفي، بل لابد أن يعمل؛ لأن الذين آمنوا صدقوا وعرفوا أن الله ربهم، فقالوا: لا إله إلا الله وعملوا الصالحات.
قال الله سبحانه: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)) أي: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل للناس للكافرين وللمسلمين: لا أسألكم عليه أجراً، أي: لا أطلب أجراً من أحد لا من أهل الإسلام ولا من الكفار على تبليغ رسالة الله سبحانه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحهم أن يصلوا أرحامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقطعونها، وأن يصلوا أرحامهم بعضهم مع بعض ولا يقطعونها، فهو يقول: لا أسألكم عليه أجراً، ولكن أطلب منكم المودة في القربى، أن تودوا ما بيني وبينكم من قرابة، هذا يقوله الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ويقول للناس: أن راعوا ما بينكم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من مودة ومن صلة رحم فلا تقطعوها.
وهذه السورة سورة مكية ما عدا أربع آيات فيها مدنية، وهذه الأربع آيات هي هذه الآية التي معنا: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وما يليها.(423/3)
وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته وعدم أذاهم
قال المفسرون: وكأن الخطاب للمؤمنين أيضاً: أن راعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تتعرضوا لهم بأذى، حتى وإن كان إسلامهم متأخراً.
وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم منهم من كان من السابقين كـ علي رضي الله تعالى عنه، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم، ومنهم من تأخر في إسلامه وتأخر في هجرته للنبي صلى الله عليه وسلم، كـ العباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلعل البعض من المؤمنين يقول للعباس شيئاً يؤذيه به: أنت رجل كبير وأنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تتأخر في الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم! فلعل النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك أو يبلغه فيتأذى بذلك، فينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ذلك، ويأمرهم بحب آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحبوهم وأن يراعوا القرابة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل البعض من الناس يقول لبعض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم تأخرتم في إسلامكم فلا ينفعكم أنكم أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء أخطئوا في ذلك؛ لأن أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم تنفعهم مودة النبي صلى الله عليه وسلم، وينفعهم نسبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال: (كل نسب وسبب مقطوع يوم القيامة إلا نسبي وسببي) صلوات الله وسلامه عليه، فكل نسب وسبب مقطوع يوم القيامة إلا نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ينتفعون بقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المؤمنون منهم الذين دخلوا في دين الله عز وجل، فهؤلاء ينفعهم قربهم من النبي صلوات الله وسلامه عليه، طالما أنهم أسلموا حتى ولو كان إسلامهم قد تأخر فتنفعهم قرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أراد عمر رضي الله عنه أن يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، فلذلك تزوج من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت صغيرة في السن، وهو رضي الله عنه لم يتزوجها إلا لهذا الشيء، مع أن ابنته السيدة حفصة بنت عمر زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أحب أن يرتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب آخر فيكون أقرب، فتزوج بابنة علي رضي الله تعالى عنه.
فالغرض: أن بعض المسلمين قد أساء مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم لعله تطاول عليهم وقال: لا ينفعكم سببكم ولا نسبكم للنبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر إسلامكم، فهذا أحزن النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يأمر الجميع ويقول: صلوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وراعوها، ولذلك كان لهم تشريف عند الله عز وجل بأنهم ممن منعهم الله عز وجل أن يأخذوا الصدقة، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60].
فجعل الصدقات لهؤلاء، أما قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل لهم سهماً آخر وهو سهم ذوي القربى، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال:41] فجعل سهم قرابة النبي صلوات الله وسلامه عليه في المغانم.
فجعل الله عز وجل لهم أشرف ما يكون ومنعهم من أحقر ما يكون؛ تشريفاً لقرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن مرة وقد مد يده على تمرة ملقاة من تمر الصدقة، فأخذها ووضعها في فمه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذها منه ويقول: (كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟) وهو طفل صغير، وهذا لا يقال إلا لإنسان كبير ومع هذا قال ذلك لطفل صغير في السن حتى يعلمه، ولم يتركها له، ولم يقل: سأدفع ثمنها، وإنما منعه من أن يأكلها صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض: أن الله سبحانه قال للخلق جميعهم الكفار والمؤمنين: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منكم شيئاً على أن يبلغ رسالة الله سبحانه، ولكن الذي يأمركم به أن تراعوا القرابة التي بينكم وبينه، وهذا الخطاب لقريش الذين تربطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قرابات ما من بطن من بطون قريش إلا وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة، ثم باقي الناس يطلب منهم صلة الأرحام ويقول: لا تؤذوا قرابتي، مثل العباس رضي الله عنه وغيره من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تأخر إسلامهم، وقد وبخهم البعض على ذلك.
فالله عز وجل يبين لهم أن هؤلاء أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، واحترامكم لهؤلاء من احترامكم للنبي صلى الله عليه وسلم، والعباس كان السن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ليس كبيراً، ومع ذلك كان يفرح النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه، ويقول: (هذا العباس هذا عمي) ويقول: (عم الرجل صنو أبيه) والنخل منها صنوان وغير صنوان، والنخلة غير الصنوان هي التي تكون قائمة على ساق واحدة ويطلع الفروع من الساق الواحدة، أما الصنوان فهي التي لها ساقان، فيكون أصل النخلة واحداً ويتفرع منه ساقان، وكل ساق فيه رأس نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما رأى العباس: (عم الرجل صنو أبيه)، يعني: أنه يجتمع مع أبيه في جده، فإذا كان يقول عن جده أنه أبوه فكذلك العم يكون أباً للإنسان مع عدم وجود أبيه، وهو أولى الناس به مع عدم وجود أبيه.
وكون العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالحق ويأمر الناس أن يأخذوا منه الحق، ولما خرج جيش الكفار إلى بدر كان العباس فيهم، وهو لم يخرج للقتال، وإنما أجبروه على الخروج معهم، فخرج ولم يقاتل، وأسر العباس رضي الله تعالى عنه، فلما أسر وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا الفدية أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا من العباس الفدية، وقال: (لا تدعوا له درهماً، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني كنت مسلماً قبل، قال: ظاهرك كان علينا)، يعني: وإن صدقناك في أنك كنت مسلماً لكنك كنت في جيش العدو، فظاهرك كان علينا، فلابد أن تدفع حتى تخرج من الأسر، ودفع العباس، والله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70].
فـ العباس دفع الفدية وفدى نفسه وفدى عقيلاً ابن أخيه، ولما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] قال العباس بعد ذلك: (فوالله لقد آتاني الله عز وجل خيراً مما أخذ مني وأنا أرجو الأخرى) يعني: أنا دفعت الفدية عن نفسي وعن عقيل ابن أخي، والله عز وجل عوضني خيراً من ذلك، وأنا أنتظر مغفرة الله؛ لأن الله وعد بذلك.(423/4)
تألف النبي صلى الله عليه وسلم بعض قريش وإعطاؤهم من الغنائم يوم حنين
إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يراعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعرضوا لهم بشيء من التوبيخ أو بشيء من التعيير؛ فإنهم آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه تألف البعض من قريش، فإذا بالأنصار يحدث في قلوب بعضهم شيء من الحزن: كيف لما فتح الله عليه يبدأ بقرابته وقبيلته ونحن أهل المدينة الذين عملنا كذا وكذا؟ فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهم من طريق عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قام النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الغنائم في المؤلفة قلوبهم)، ولاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جمع أهلها قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم) فهم الآن في ضعف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعاملهم مثل معاملتهم له، بل قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فعفا عنهم صلوات الله وسلامه عليه، فأسلم خلق كثير من أهل مكة، وكان جيش النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من المدينة لفتح مكة كان عدده عشرة آلاف، فإذا بأهل مكة يمدون النبي صلى الله عليه وسلم بألفين من الجنود يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مكسب كبير للإسلام، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين، وخرجوا معه إلى الطائف وإلى هوازن في حنين، وأفاء الله عز وجل وفتح على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أعطاهم الله درساً هنالك في حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فلما غنم صلوات الله وسلامه عليه وبدأ يوزع المغانم، وزع على أصحابه على من يستحق، ولكن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم البعض تأليفاً لقلوبهم ومنع البعض الآخر، فأعطى بعض كبار قريش، فتكلم بعض الأنصار، يقول عبد الله بن زيد بن عاصم: (فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس) يعني: وجدوا في أنفسهم وحزنوا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أقرباءه وقبيلته، ولم يعطنا نحن؟! وفي رواية الإمام أحمد من حديث أبي سعيد قال: (وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة) يعني: بدءوا يتكلمون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهله قرابته، ولم يعطنا، والنبي صلى الله عليه وسلم حاشا له أن يقسم بغير العدل، فهو صلى الله عليه وسلم لا يطلب شيئاً من الدنيا، وقد نزلت هذه الآيات من قبل ذلك تقول لهم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23] أي: لا آخذ أجراً على الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن أطلب منكم المودة في القربى.
قال: (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فقال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم) أي: أصابهم حزن أنك أعطيت القرشيين ولم تعط الأنصار من هذا الفيء الذي أصبت، فأنت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، وكأنهم نسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام أخبرهم (أني أعطي الرجل وغيره أحب إلي) يعني: أنا أعطي الإنسان وغيره أحب إلي حتى أتألفه، وأدع هذا للإيمان في قلبه، فهذا قلبه ممتلئ بالإيمان عامر غير محتاج إلى أن أتألفه على هذا الدين، ولكن البعض الآخر أعطيه من أجل أن يثبت على دين الله سبحانه ولا يتزعزع ولا يتزلزل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل سعد بن عبادة فقال: (قد وجدوا عليك وقالوا: قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي) يعني: أنا واحد منهم، لقد كانوا صادقين رضوان الله تعالى عليهم، لا يكذبون، فلم يقل له: لقد أنكرت عليهم وعملت كذا، ولكن قال: أنا واحد منهم.
فقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه رجلاً صادقاً وهو سيد الخزرج، أما سعد بن معاذ سيد الأوس فكان قد قتل شهيداً أصابه سهم في أكحله يوم الخندق، فدعا ربه سبحانه وتعالى وقال: (إن كنت أبقيت في قتال المشركين شيئاً فأبقني لهم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها) فقبض في ذلك بعدما حكم في بني قريضة، فكان استشهاده قبل حنين بحوالي ثلاث سنوات رضي الله تعالى عنه.
فقال سعد بن عبادة: (ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فجمع الأنصار، فاجتمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا، وحضر بعض المهاجرين فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر غيرهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟).
هذه المعاتبة الرقيقة منه صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء، يعني: أنتم نسيتم عندما جئتكم وكنتم تعبدون أحجاراً فهداكم الله على يدي، ثم قال: (وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم) أي: كنتم عالة فقراء ففتح الله الفتوح عليكم فأغناكم الله بي، وكنتم تقتتلون فيما بينكم الأوس مع الخزرج فاجتمعتم مع بعض وصرتم الأنصار، فألف الله بين قلوبكم بي، (قالوا: الله ورسوله أمن وأفضل) فهم اعترفوا بالحق، وقالوا: لله المنة ولك علينا المنة، وكنا مخطئين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ فقالوا رضوان الله عليهم: وبم نجيبك يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك) انظر للإنصاف من النفس، وإن كان الحق كله معه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك يقول هذا تأليفاً وترضية للأنصار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟) يعني: أوجدتم في أنفسكم على حقير من أمر الدنيا تألفت به هؤلاء؟ هل حزنتم من أجل ذلك؟ ثم قال: (أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟) أي: ألا يكفيكم أن الناس يرجعون بالشاء والبعير والغنائم وترجعون أنتم وأنا معكم إلى دياركم؟ فلقد فتحت مكة، وكان بإمكاني أن أمكث في مكة بلدي، لكن لا، بل أرجع معكم معشر الأنصار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)، يعني: لولا فضيلة الهجرة وأني مهاجر من مكة إلى المدينة والهجرة لا يعدلها شيء، لقلت: أنا من الأنصار، أي: أنا محمد صلى الله عليه وسلم المدني الأنصاري، فنقول إذا نسبنا النبي إلى البلاد: هو المكي ثم المدني صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عاش في مكة وولد فيها وتربى فيها صلى الله عليه وسلم فهي بلده، ثم هاجر فصار مقره المدينة فصار مدنياً بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، فلو شاء النبي صلى الله عليه وسلم لكان امرأً من الأنصار لا من المهاجرين، ولكن الهجرة لها المنزلة العظيمة عند الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بهذه الدعوة العظيمة المباركة التي ظلت فيهم وفي أبنائهم بهذا الأمر العظيم الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاله ثم بكى الأنصار حين سمعوا ذلك، وقالوا: (رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً) أي: رضينا أن يأخذ الدنيا ونحن نأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكفينا هذا الحظ الأعظم لنا.
وقد جاء في بعض الروايات أن بعض الأنصار كأنه عير العباس فقالوا: أسلمنا قبلك، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حزن لذلك وأمرهم أن يحبوا آل بيته صلى الله عليه وسلم كما يحبون النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: فيدين الإنسان المؤمن بحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحب المهاجرين، وحب الأنصار، وحب آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين وصى الله عز وجل بهم.(423/5)
عظيم عطاء الله عز وجل وإحسانه وشكره ومغفرته
يقول الله عز وجل: ((وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) أي: من يكتسب حسنة فإن الله عز وجل يعطي على الحسنة من فضله سبحانه وتعالى الإحسان العظيم، ويزيدهم من فضله، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) أي: إن الله غافر الذنب سبحانه وتعالى، فهو غافر وهو غفور وهو غفار سبحانه وتعالى، والمعنى في ذلك من الغفر، والغفر بمعنى التغطية، فهو يغطي الذنوب سبحانه وتعالى، فكأن الله سبحانه يغفر ويستر ويكفر ويمحو سبحانه وتعالى، وقد يبدل هذه السيئات إلى حسنات، كما قال الله عز وجل في عباد الرحمن: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) أي: يستحق أن يشكر سبحانه وتعالى، فهو المشكور على ما ينعم به على عباده، وهو الذي يشكر صنيع العباد إذا فعلوا الخير وإذا فعلوا الإحسان، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، إذا أحسن العباد فالله يشكر لهم ذلك ويثيبهم عليه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] أي: إن تشكروا نعمة الله يشكر لكم صنيعكم.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان شكره لهذه النعمة أحب إلى الله منها)، انظر كيف ينعم الله عليك، والإنسان عندما يذهب إلى شخص ويعطيه هدية، يقول له: شكراً، فقيمة الهدية (شكراً) وهي كلمة قالها بلسانه، لكن الله الكريم سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليك بإسلامك، وهو الذي أعطاك نعمة الشكر والعطاء، فأي النعمتين أحب إلى الله؟ الشكر أحب إلى الله مما أعطاك من مال ومما أعطاك من نعم منه سبحانه وتعالى.
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نثيب في العطاء، فعندما يهدي لك إنسان فكافئه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي على الهدية المثلين والثلاثة والأربعة والسبعة الأمثال، كان يعطي كثيراً صلى الله عليه وسلم ليذكرنا بفضل الله وبنعمته، فهذا النبي الذي هو عبد لله ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم كان يعطي هذا كله فكيف بعطاء ربي سبحانه وتعالى؟ كم يعطي من فضله وكرمه! فالله شكور يشكر لعباده {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فاشكروا الله يشكركم ويعطكم من فضله ومن إحسانه سبحانه وتعالى.
نسأل الله من فضله ومن رحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(423/6)
تفسير سورة الشورى [23 - 25]
لم يعهد الكفار في الجاهلية على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً قط، فكان لزاماً لذلك بل الأحرى ألا يكذب على الله عز وجل، فالذي يكذب على الله عز وجل أو يعصيه له عذاب شديد، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، فقد جعل باب التوبة مفتوحاً لكل مذنب تائب، حتى المشرك يغفر الله له شركه إذا تاب قبل موته، ولابد في يوم القيامة من القصاص لرد الحقوق إلى أهلها.(424/1)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذباً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:24 - 25].
قال الله سبحانه وتعالى للنبي صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ومعناها كما قدمنا: لا أطلب أجراً على تبليغ رسالة الله سبحانه، والاستثناء استثناء منقطع، أي: ولكن الذي أطلبه منكم أن تودوني في قرابتي، وأن يود بعضكم بعضاً، ولا تقطعوا الأرحام، بل تصلوا ما بيننا من أرحام، حتى ولو لم تتابعوني في أمر الدين، ودعوني أبلغ رسالة الله عز وجل.
فكأنه يقول لهم صلى الله عليه وسلم راعوا ما بيننا من أرحام في أن تكفوا شركم عنا، إذا لم تتقوا الله عز وجل وتخافوا من الله سبحانه وتعالى، وتدخلوا في هذا الدين فأقل ما فيها مراعاة الأرحام، وهذا الطلب منه صلوات الله وسلامه عليه لأن قريشاً كانوا من أوصل الناس رحماً، وكانوا يعرفون صلة الأرحام ويفعلون ما يصلون به أرحامهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بما قاله الله سبحانه: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: صلوا الرحم التي بيني وبينكم، ولا تقطعوها ودعوها موصولة، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهم لو قاتلوا وحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم انقطعت الأرحام التي بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، فيقول: صلوا الأرحام ودعوني أدعو غيركم إلى الله، فإذا استجاب هؤلاء فذلك خير، وأنتم انظروا في هذه الاستجابة إما أن تتابعوا وإما أن تظلوا على ما أنتم عليه، ولكن عليكم لصلة الرحم، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23]، الذي يقترف ويكتسب حسنة من الحسنات يعطيه الله عز وجل من فضله الحسنى وزيادة.
قال الله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ))، أي: بل أيقولون؟ تسمى (أم) هذه الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، تحذف (أم) وتوضع مكانها (بل أ) كأنه يقول: أضرب عن هذا وانظر في أمر هؤلاء هل يقولون أنك افتريت على الله سبحانه وتعالى، اعجب لأمر هؤلاء، بل أيقولون قد افترى على الله كذباً، وهم قد قالوا ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
فالله عظيم وكريم ولطيف، فانظر إلى تلطفه بنبيه صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان عندما يكون صادقاً إذا قيل له: أنت كذاب، يتألم ويتوجع ويتأسف، بخلاف الإنسان الكذاب، إذا أتى إنسان وقال له: أنت كذاب لا يتأثر؛ لأنه يعرف نفسه أنه كذاب، وإن كان يظهر أمام الناس أنه متأثر، فكل ذلك كذب وكله تمثيل، لكن الصادق عندما يقال له: أنت كاذب، فهذا يؤلمه جداً ويتعبه، وقد يهلكه مثل هذا الافتراء ومثل هذا الاتهام.
فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كذاب، فأتعبه ذلك جداً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بالله يتلطف معه ويقول له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، أي: هم يعرفون الحق تماماً، وأنا أظهر لك ما بداخل قلوبهم، فهم يجحدون، والجحود عكس الإقرار، فالإقرار: أن تشهد على نفسك بالحق الذي تعلمه، والجحود: أن أنفي ما أنا مقر به في داخلي، وهذا بخلاف الإنكار، فالإنكار: كمن يقول لك: ليس لك عندي شيء، والله ما لك عندي شيء، فهو يحلف وفي زعمه أنه صادق في نفسه، فهو ينكر هذا الشيء وقد يكون ناسياً، إما الجاحد فإنه يجحد الشيء وينفيه وهو في قلبه معترف به ويعرفه، فالظالمون بآيات الله لا ينكرون وإنما هم بآيات الله يجحدون، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أنت ستهلك نفسك عليهم لماذا؟ فقوله تعالى: ((بَاخِعٌ))، أي: مهلك ((إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا))، أي: ألا يكونوا مؤمنين، فالنتيجة ليست عليك، فلست عليهم بمسيطر، ولست عليهم بوكيل ولا حفيظ، النتيجة على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، عليه الصلاة والسلام، فعليك أن تبلغ الرسالات، فإن استجابوا فلك الأجر ولهم الأجر، وإن لم يستجيبوا فلك الأجر وعليهم الوزر، فعلى ذلك إن قالوا: افتراه، فهم يجحدون ويكذبون.
فقوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، أي: بل أيقولون افترى على الله الكذب، وافترى، أي: جاء بالفرية، والفرية: أعظم الكذب، فكأنه يقول: هل يقولون عنك جئت بأعظم الكذب؟ تركت الكذب على الناس وكذبت على الله سبحانه وتعالى؟ وقد سأل هرقل أبا سفيان فقال: هل عهدتم منه كذباً؟ قال: لا، قال: فما كنت لأراه يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى.(424/2)
عقاب الله تعالى لمن يفتري عليه
قال الله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، لو حصل أنك افتريت على الله سبحانه -وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه- لختم الله عز وجل على قلبك، فهؤلاء بلغت بهم السفاهة أن يظنوا أنك تكذب على الله سبحانه، ويؤيدك الله بالمعجزات وأنت تكذب عليه كيف يكون ذلك؟ ولو حصل أنك كذبت على الله- وحاشا له صلى الله عليه وسلم- لطبع الله على قلبك وعاقبك، وهم يعرفون كيف ينتقم الله عز وجل ممن يعصيه وخاصة في الحرم، فقد كان عندهم تمثالان: إساف ونائلة، يقولون: هما رجل وامرأة كانا يزنيان في الحرم فمسخهم الله إلى صنمين، فكانوا يعرفون أن هذين ارتكبا معصية لله عز وجل في الحرم، والكفار كانوا يقعون في الزنا.
فالله عز وجل يعاقب داخل الحرم من يقع في معصية أو يكذب على الله سبحانه، فإن أبرهة لما أتى إليهم من اليمن وأراد أن يدمر الكعبة وأن يصرفهم من التوجه إلى البيت إلى القليس دمره الله عز وجل وجنده، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2]، أي: في ضلال، تاه كيدهم وذهب والإنسان يجمع كيده حتى يتوجه بهذا الكيد كله على عدوه فيقصمه، فإذا جمع العدد والعدد، وجاء بسلاحه هذا، وفجأة ضرب بالسلاح فكان هباءً منثوراً، وذهب وضل كيده، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3 - 4]، أي: من نار جهنم {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، أي: صاروا كتبن أكلته البهائم ثم روثتهم، فالله هو الذي يصنع ذلك بأعدائه دائماً، فهل يترك الله إنساناً يفتري عليه، وليس هذا فقط، بل ويؤيده بالمعجزات، فيعطيه القرآن العظيم المعجزة الخالدة، ويجعله يشير إلى القمر فينشق القمر، ويرون من آياته صلوات الله وسلامه عليه ومعجزاته، أين ذهبت عقول هؤلاء؟ ولذلك يقول لهم سبحانه وتعالى، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، ولها معانٍ من ضمنها هذا المعنى الذي ذكرناه، فقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، أي: إن كذبت على الله سبحانه وتعالى فالله عز وجل يطبع على قلبك وينسيك هذا الذي أنت فيه من أمر الدعوة إلى الله والرسالة وغير ذلك.
والمعنى الآخر لقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]: إن يشأ الله يحرمهم من هذا الفضل العظيم ويحرمهم من هذا القرآن، فيختم على قلبك فلا تبلغهم شيئاً، ففي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم جميعهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم اطلع الله على أهل الأرض فأبغضهم جميعهم ومقتهم، والمقت: أشد البغض لشركهم بالله، إذ كانوا يعبدون الأصنام وكانوا يتوجهون بها إلى الله سبحانه، وكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغصب بعضهم مال بعض، ويأخذ بعضهم حريم بعض، ولا يوجد عدل بينهم، ولا إحسان فيما بينهم، فمقت الله أهل الدنيا جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على التوحيد، وليس كل أهل الكتاب، وإنما الذين كانوا على التوحيد، وكانوا ينتظرون خروج النبي صلوات الله وسلامه عليه.
الغرض: أن الله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ} [الشورى:24]، (إن) لفظة جازمة، تفيد تأكيد أن هذا قبل الحدوث، بخلاف (لو) فإنها تفيد امتناع وقوع شيء لامتناع وجود شيء آخر، فهي حرف امتناع لامتناع، تقول: لو جئتني أكرمتك، فهو يعرف أنك لن تأتي، ولكن الله تعالى قال: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُِ}، فالقدرة صالحة، والله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ولذلك كان يقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ويقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان طالما وهو في الدنيا فهو في قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، فلا يعجزه شيء، فإذا قال ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى أن يخاف المشركون على أنفسهم؛ إذ إن هذا القول للنبي الذي هو خليل الرحمن وحبيب الله سبحانه وتعالى ومع ذلك يقال له ذلك، إذاً: خافوا على أنفسكم أنتم.
فقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، أي: ينسيك هذا الذي آتاك الله سبحانه وتعالى، ويحرمهم من هذا الفضل.
المعنى الثالث لقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، أي: يربط على قلبك، ويقويك على هؤلاء، وهذا وعد قد فعله الله سبحانه وتعالى ونفذه، فـ (إن) تفيد احتمال وجود ذلك، بخلاف (لو)، والآية تحتمل معاني كما ذكرنا، وبعضها يعضد بعض وليست متنافرة.(424/3)
محو الله للباطل وإحقاقه للحق
قال الله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى:24] ستجد هذه الكلمة مكتوبة في المصاحف كلها: {وَيَمْحُ} [الشورى:24] ياء، ميم، حاء، لا يوجد بعدها واو، وإن كان إعرابها أنها استئنافية مبتدأ بها، فهي جملة جديدة، فهو فعل مضارع مرفوع وليس مجزوماً، فليست معطوفة على ما قبلها، وهذا من جمال كتاب الله سبحانه ومن توفيق الله سبحانه للذين كتبوا المصحف فقد كتب المصحف بطريقة في غاية العجب، ولو أن الإنسان تفكر كيف كتب هذا المصحف لشعر أن من ضمن إعجاز القرآن كتابة القرآن.
والقرآن العظيم كتب من غير نقط، والذين كتبوه هم الذين تلقوا القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكتبوا القرآن على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن بكل قراءاته، فكتبوا الكتاب الذي يحتمل جميع القراءات التي فيها، بل وتحتمل اللهجة أيضاً في الكلام، فتجدهم كتبوا الكلمة التي ترجع لأصل فيها، مثل كلمة (الصلاة) فقد وضعوا بعد اللام واواً؛ لأن ألفها أصلها واو، ولذلك ردها للأصل، والزكاة أصلها واو وأعادها إلى أصلها، فعندما يعيدها إلى أصلها وتقرأ قراءة من القراءات لأهل الإمالة مثل: حمزة والكسائي وخلف، فإنك تعرف أن ألف الزكاة واوية، وليست يائية، ومستحيل أن يكون فيها إمالة، إلا أن يخطئ الإنسان في قراءة أو في كلام، كقراءة البعض من الناس، وكلهجة بعض الناس يقول لك عن الساعة: السيعة مثلاً، فهذه لهجته.
وقد راعى القرآن لهجات العرب في ذلك، ومن كتب القرآن راعى أصول الكلمات حتى لا يخطئ من يقرأ على أي وجه من الوجوه، ويعرف أن هذه واوية لا تقرأ أبداً بإمالة، فلا نقول في الصلاة: الصلية مثلاً، ولا في الزكاة: الزكية، بخلاف الربا، وإن كتبت لاحتمال الأمرين، فتقرأ بالإمالة وتقرأ: (والربا)، كذلك هنا في هذه الكلمة لاحظ الكاتب أن {يَمْحُ اللَّهُ}، الواو بعدها ألف الوصل، فلو أنه كتب (يمحو الله) فستقرأ: (ويمحو الله) وهذا لا يصلح، فلالتقاء الساكنين لابد من حذف واحد من الاثنين والتعبير عنه بحركة من الحركات، لذلك كتبت {وَيَمْحُ اللَّهُ}، لأنك تنطقها هكذا: {وَيَمْحُ اللَّهُ}، ولكن لا تعرب أنها معطوفة على ما قبلها.
فقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ}، إن: أداة جزم، يشأ: فعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط،
و
الجواب
يختم، {وَيَمْحُ}، لو جعلناها معطوفة على {إِنْ يَشَإِ}، لكان المعنى: يمحو الله الباطل إن يشأ، وهذا لا يصلح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى بأنه يحق الحق ويبطل الباطل، فقد قضى أن هذا لا بد أن يكون، فلذلك (يمحو) ليست معطوفة ككلمة، وإنما العطف عطف جملة، فتصبح الواو عاطفة لما بعدها للجملة كلها على ما قبلها، وتصير (يمحو) كلمة في ابتداء، فيصبح فعلاً مضارعاً مرفوعاً.
ومثل هذه الكلمة قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18]، فليست لزوماً، بل أصلها (سندعو): فعل مضارع مرفوع، ولكن كتبوها عيناً مضمومة لالتقاء الساكنين، وهذا من حكم كتابة القرآن بهذه الطريقة العجيبة الجميلة، كذلك عندما تقرأ في المصحف الذي لم يكن منقوطاً فإن الله يذكر معنى في آية ما، وإذا قرأت نفس الآية بوجه آخر فإنك تجد لها معنى آخر، يريد الله عز وجل هذا المعنى ويريد هذا المعنى، ففي القراءة الأولى لا نضع نقطاً، وطالما أن هذه قراءة وهذه قراءة فلا نضع نقطاً، حتى إن الذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك، والذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك.
قال تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}، أي: يزيل الباطل، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، ويقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] انظر لهذا التعبير، نور الله سبحانه نور عظيم، وكأنهم ظنوا أنها نار خافتة بسيطة سوف يطفئونها بالنفخ فيها، وقد حاولوا وفعلوا، وإذا بهؤلاء الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله سبحانه يجعل الله عز وجل في قلوب بعضهم نوراً فيدعون إلى دين الله بعد ذلك، منهم: عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تبارك وتعالى عنه، الذي أراد في يوم من الأيام أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يقرأ القرآن فإذا به يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الصحابة خافوا منه، فقد أتى وهو متقلد سيفه، وإذا بـ حمزة رضي الله عنه يقول: دعوه فإن أراد شيئاً قتلناه بسيفه، ويدخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم ويمسكه النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه ويقول: أما آن لك أن تؤمن؟ قال: لقد جئت لأسلم، فكان إسلام عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً، وما تجرأ المسلمون أن يمشوا في الطريق إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه.
ولم يكتم عمر إسلامه؛ بل خرج بين الناس وصرخ فيهم بلا إله إلا الله، وأعلن إسلامه، يقول عبد الله بن عمر وكان صغيراً: إذا بهم يفيضون إليه كالسبيل، أراد الكفار من كل وادٍ أن يهجموا على عمر ويضربوه رضي الله عنه، ومن العجب أن الذي أنقذ عمر هو الوليد بن المغيرة، فقد قال: أنا على ما هو عليه، فخافوا من الوليد بن المغيرة، ولم يكن على ما هو عليه، فإذا بهم يتركون عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يصرخ فيهم بلا إله إلا الله، ويخرج المسلمون مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه ويتوالى إيذاء الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك.
قوله تعالى: {ويُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}، أي: بما أنزل من هذا القرآن العظيم، يحق الحق بقضائه وقدره، ويحق الحق بكن فيكون، ويحق الحق سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين، والمؤمن يجاهد بلسانه وبيده وبقلبه وإيمانه ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فالإنسان يجاهد والذي يأتي بالنتيجة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي ينصر الدين وينشره ويفتح له القلوب، وإنما المجاهد سبب من الأسباب فقط.
قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فهو العليم، وهو الشهيد، وهو الخبير، وهو اللطيف سبحانه وتعالى، وهذه كلها من أسماء الله الحسنى العظيمة التي فيها معانٍ متقاربة، وإن كان كل منها يختص بشيء فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فالله عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب، يعلم كل ما ظهر وما خفي، وما كان في السر وما كان في العلن سبحانه وتعالى.
ولكن يعطي معنى زائداً هنا أنه ما خفي علمه الله سبحانه وتعالى، ففي هذه الآية إشارة للعلم الخفي، والله شهيد أي: عليم سبحانه، ولكن العلم بالجلي أي: الشيء الظاهر المشاهد، فالله عز وجل عليم وخبير وشهيد، والله سبحانه لطيف عليم، فيعامل العباد بعلمه سبحانه وتعالى وبلطفه الخفي، فيرفق بهم لما يعلم في قلوبهم سبحانه وتعالى مما يستحقون، وقد فسرنا قبل ذلك هذه الكلمة العظيمة.
فقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]، أي: عليم بما تحتويه صدور خلقه.
وقوله: {بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]، أي: بما في القلوب.(424/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، فانظروا إلى كرم الله سبحانه وتعالى، هم يقولون: افتراه، والله عز وجل يخبر عن هذه الجريمة التي قالوها وعن العقوبة، ثم يقول: إنه يبسط لهم يد التوبة إن تابوا إلى الله، فيتوب الله عز وجل على هؤلاء إن تابوا إليه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، أي: يقبل توبة عباده، فعل وفاعل ومفعول، قوله تعالى: {عَنْ عِبَادِهِ}، يعتبر المفعول الثاني، فكلمة (يقبل) تتعدى لمفعول واحد فقط، ولا تتعدى للمفعول الثاني إلا بمن أو بعن، فهنا تعدَّت للمفعول الثاني بقوله: {عَنْ عِبَادِهِ}.
ومن العباد من يتوبون إلى الله فيقدمون هذه التوبة فيتجاوز الله عن عباده سبحانه وتعالى، فكأن معنى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، أي: يعفو ويتجاوز عن عباده، فالقرآن كتاب فصيح وبليغ، يعبر بالكلمة عن الجملة، وبالحرف عن الجملة، فقوله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، أي: أخذها، ولكن لا نعرف ماذا فعل بهم، لكن لما قال: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]، قد قبل ما قالوا، قالوا: تبنا، فقال: تبت عليكم ولن أعاقبكم، ومحونا هذا الذنب وتجاوزنا عنه وعفونا عنه، فقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، اي: يعفو عن هؤلاء العباد فيما أسرفوا وفيما وقعوا فيه، يقبل التوبة عمن تابوا إلى الله وأخلصوا لله، ودخلوا في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن العاص: (مد يدك، فمد يده ثم سحبها، قال: لم يا عمرو؟! فقال: أريد أن أشترط، قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر الله لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تهدم ما قبلها).
فإذا كان إنساناً كافراً دخل في دين الله عز وجل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصلح، فهذه تجب ما قبلها، ويغفر الله له كل ما وقع فيه قبل ذلك، ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فالله يتوب عليه.
قال الله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ}، أي: يتجاوز سبحانه وتعالى عن سيئات وقع فيها صاحبها، وقوله: {السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، أي: جنس السيئات وكل السيئات يعفو عنها، ولا يوجد ذنب يتعاظم على الله سبحانه وتعالى، فإن {اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، فيغفر الله الشرك فما دونه، فكل الذنوب يغفرها الله سبحانه بالتوبة.
وإذا مات العبد على الشرك فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، لأن الشرك يحبط كل الحسنات، فهو أقبح السيئات التي يقع فيها العبد، فإذا مات العبد على الشرك فإنه لا يرجو مغفرة من الله عز وجل، ولو أن العبد لم يقع في الشرك بالله سبحانه، ووقع في معاصٍ، فإنه يكون في خطر المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أوبقه وعذبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، وإذا لم يمت العبد وتاب فإن الله يغفر الذنوب جميعاً الشرك وما دونه، طالما أن العبد يتوب إلى الله فالله يتوب عليه، ولكن التوبة بشروطها.
فمن تاب إلى الله عز وجل إذا كانت المعصية بينه وبين الله يتوب إلى الله ويستر نفسه ولا يفضحها، وإذا كان بينه وبين الخلق مظالم فلابد من إرجاع المظالم لأصحابها أو التحلل منهم، فالله يعفو عن السيئات بالتجاوز عمن تاب إليه سبحانه.
وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب، وباقي القراء وهم الجمهور يقرءونها: (ويعلم ما يفعلون) سبحانه علام الغيوب، فهو يعلم ما يفعل هؤلاء الكفار، وما يفعلونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن تاب منهم تاب الله عز وجل عليه.(424/5)
بعض الآيات والأحاديث الدالة على كرم الله على عباده وتوبته عليهم
نذكر في التوبة بعض هذه الأحاديث كي نعرف توبة الله وكرم الله سبحانه وتعالى على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فالله عظيم سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، وعندما تسمع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، تجد كرم الله سبحانه في كونك مسلماً ولست مشركاً، فترجو من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى، فكل من يقول ذلك لا يقع في الشرك ولا يدعو إلا الله، ولا يتوسل إلا بالله، ولا يطلب من غير الله ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى.
فالدعاء والاستغاثة والاستعانة كلها عبادات، فتلجأ إلى الله عز وجل، وتقول: لا إله إلا الله بشروطها: علم، ويقين، وقبول، وانقياد، وصدق، وإخلاص، ومحبة، وولاء، وبراء، فإذا أتيت بحقها وعرفت معناها، وأيقنت بذلك فإنك مسلم، وإذا وقعت في الذنوب يتوب الله عليك إذا تبت إليه.
ومن الأحاديث: ما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135])، فليس هناك أحد يغفر الذنوب إلا الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، بشرط {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، فلابد أن تتوب إلى الله ولا تصر على فعلك، وإذا كانت المعصية تتعلق بحق إنسان، وقيل لك: اذهب استسمح من فلان إذا أردت التوبة، فلم تذهب بل أبيت، فأنت مصر على ما أنت عليه من المعصية، وقد تظلم إنساناً وتقول: لأنه سيئ الأخلاق، فلابد أن تعطيه حقه حتى وإن كان سيء الأخلاق.
ومن الناس من تجده كثير العناد فيقع في الكفر؛ لأنه يعبر بتعبيرات يخسر بسببها عند الله عز وجل.
والذي يريد أن يتوب إلى الله لابد أن يرد المظالم إلى أصحابها، ويستسمح ممن وقع في حقهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً).
وروى الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، -وهذا يدل على اهتمامهم بطلب العلم- إذ إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع حديثاً، وهذا الحديث لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعه ممن كان معه، فأحب أن يكون إسناد الحديث عالياً، أي: أقصر سلسلة توصل إلى راوي الحديث، فأراد جابر بن عبد الله أن يسمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فقام يشد رحله إلى الشام شهراً كاملاً، يركب جملاً ويسافر من المدينة إلى الشام لسماع حديث واحد.
قال: ثم شددت عليه رحلي، فسرت إلى الشام شهراً حتى قدمت عليه، فإذا عبد الله بن أنيس -وهو صحابي من الصحابة الأفاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: فقلت للبواب: قل له: جابر، قال: جابر بن عبد الله؟ قلت: نعم.
فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقد تعجب عبد الله بن أنيس من حاله، فقد أتاه من المدينة قائلاً له: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، أي: في قصاص الآخرة، قال: فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعك، قال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس -أو قال: العباد- يوم القيامة عراة غرلاً بهماً)، قوله: (عراة)، أي: كما خلقهم الله عز وجل، (غرلاً)، أي: غير مختونين كما نزلوا من بطون أمهاتهم، قال: (قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء)، أي: فقراء ليس لديهم دراهم ولا مال، قال: (ثم يناديهم -أي: ربهم سبحانه وتعالى- بصوت يسمعه من قرب)، يعني: الجميع يسمعونه؛ لأن الصوت قريب منهم، قال: (بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان)، والديان: الذي يدين العباد سبحانه وتعالى، والدين بمعنى: الجزاء، أي: الذي يجازي العباد، ولا أحد يجازيهم غيره (أنا الملك الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه).
فهذا من أهل الجنة ذاهب إلى الجنة وقد جاوز الصراط، وحسناته غلبت سيئاته، ولكنه عمل عملاً أوقفه عن دخول الجنة، كأن يكون ظلم شخصاً حتى إن كان من أهل النار، قال: (ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة)، أي: ضرب إنسان بيده ظلماً، وقد كان أهل الجاهلية عداة ظالمين بغاة، فقد كانوا يفتخرون بأنفسهم أنهم طغاة، هذا منطق أهل الجاهلية، فلما جاء الإسلام منع الظلم ورد المظالم إلى أهلها، فالمسلم إذا تطاول على خلق الله يأتي به الله يوم القيامة فيأخذ من حسناته ويعطيها لمن ظلم، وهذا هو المفلس يوم القيامة، يأتي بحسنات أمثال الجبال، ولكنه ظلم الخلق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، ولطم هذا، وقذف هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاته فطرحت عليه فطرح في النار).
هنا يقول الله عز وجل: (حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)، هذا المفلس هو المسكين يوم القيامة؛ لأنه وجد نفسه سيدخل الجنة، لكنه ظلم خلقاً كثيرين، فتؤخذ من حسناته لهذا ولهذا ولهذا، حتى تفنى حسناته كلها، فإن بقي عليه مظالم أخذ من سيئاتهم إلى سيئاته فيقذف في النار، فإياك إياك والظلم، واحذر من العناد والكبر، فهي معصية إبليس، فإياك أن تقتدي بإبليس، فقد قال لله عز وجل عنه أنه قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، ما دمت قد خلقته من طين فأنا أحسن منه خلقتني من نار، فلماذا أسجد له؟ وهكذا تكبر إبليس، فكانت أول معصية يعصى بها الخالق سبحانه أن يستكبر إبليس عن الطاعة، فاحذر أن تقلده حتى لا تكون معه في النار.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(424/6)
تفسير سورة الشورى [25 - 27]
إن الله تعالى يقبل توبة العبد إذا تاب إليه توبة نصوحاً خالصة، مستشعراً الندم والحسرة على فعله، عازماً على ألا يعود إلى ذلك الذنب، بل ويبدل الله سيئاته حسنات، والله ذو الفضل العظيم.
ولا يضر العبد إذا عاش فقيراً إذا كان طائعاً تائباً عابداً قانتاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت تمر عليه الأهلة وما يوقد في بيته نار، وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع، وهو سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(425/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:25 - 27].
قوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)، فالله توّاب رحيم سبحانه، فهو يتوب على عبده، والله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إلى الله عز وجل، فالله يستجيب له، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل)، وقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يدعُ بإثم أو قطعية رحم)، فالله سبحانه يستجيب دعوات العبد ما لم يعجل في دعائه وطلبه من الله عز وجل، وما لم يدع بقطيعة رحم أو بإثم.
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أي: يقبل فيتجاوز عن سيئاتهم وعن ذنوبهم.
(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ) هنا يخبر أنه يعفو عنها، فيمحو هذه السيئات ويجعلها كأنها لم تكن شيئاً، فيعفو الله سبحانه وتعالى عنها ويسامح في ذلك، ففضله على خلقه عظيم سبحانه، وأعظم السيئات هو الشرك، فإذا تاب العبد منه إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه.
(وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: يعلم ويقدر على المجازاة سبحانه، فيجازي العبد على ما يفعله.(425/2)
أحاديث تحث على التوبة
وقد ذكرنا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في توبة الله سبحانه على عباده ومن هذه الأحاديث ما في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الناس من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فأنزل الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، والآثام: هي عقوبة الإثم، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:69 - 70].
إن الله غفور رحيم، وعفو كريم، فهو يبدل السيئات حسنات، ويبدل الآثام بالحسنات، وهذا من فضله سبحانه، ويؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله عز وجل لملائكته: أحضروا كبار وصغار سيئاته، فيأتي ببعض سيئات هذا العبد ويخفي عنه الباقي، والعبد يتذكر: عملت كذا وعملت كذا، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيقول: نعم، وهو يعلم أن هناك ما هو أشد من ذلك، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيعترف بذنبه أمام الله عز وجل، ويقول له: وعملت كذا؟ فيقول: نعم يا رب! كل ذلك وقد ستر الله عز وجل عنه من كبائر ذنوبه؛ لأنه قد تاب في الدنيا، فالآن الله عز وجل ستر عنه البعض وأراه البعض الآخر، فلما رأى ذلك من فضل الله سبحانه إذا بالله سبحانه يقول: قد عفونا عنك، وقد بدلناها لك حسنات، أي: فهذا الذي تراه أمامك الآن قد غفرناه لك، وبدلنا هذه السيئات حسنات، فإذا بالعبد يتطاول ويقول لله عز وجل: هناك ذنوب ليست هاهنا، يعني: هناك معاصٍ أنا عملتها وليست مكتوبة، وذلك لما رأى أن السيئات تنقلب إلى حسنات، والله عز وجل كريم يتفضل على عبده بالتوبة والمغفرة.
فهذا الحديث فيه: أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا على الشرك، وقالوا: نحن في أيام الشرك عملنا كثيراً من السيئات، فقد قتلنا وسرقنا وزنينا وأكثرنا من ذلك، فهل إذا دخلنا في الإسلام سيفغر لنا ربنا أو ماذا سيفعل بنا؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وأنزل الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، فإذا تبتم إلى الله ودخلتم في الإسلام، فالله يغفر الذنوب جميعاً سبحانه.
ومن الأحاديث العظيمة ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل ممن كانوا قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً فأراد أن يتوب، فذهب يبحث عن أعلم أهل الأرض، فدل على عابد من العباد، فذهب إليه فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فقتله وكمل به المائة، ثم سأل فدلوه على عالم فذهب إليه وسأله: قتلت تسعة وتسعين نفساً وكلمت مائة فهل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة؟ ولكن أنت في أرض أهلها أشرار، اترك هذه الأرض واذهب إلى مكان كذا؛ فإن فيه أناساً يعبدون الله، فاذهب فاعبد الله معهم، فخرج هذا الرجل من هذه الأرض إلى الأرض الأخرى ومات في الطريق، فإذا بالملائكة يختصمون فيه، فملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، وملائكة الرحمة يقولون: إنه خرج تائباً، فأوحى الله عز وجل إلى الاثنين أن قيسوا ما بينه وبين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فإذا بالله يوحي إلى الأرض أن اقربي من هنا وابعدي من هنا، فوجدوه أقرب إلى أرض الرحمة فجعلوه من أهلها، فيقبض إلى رحمة الله سبحانه).
فهذا قتل وأكثر، وتاب إلى الله فأدركته الرحمة فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟! فإذا تاب العبد تاب الله عز وجل عليه، حتى ولو كان قاتلاً ثم تاب فإن الله يرحمه، ولكن الغالب أن قاتل النفس لا يتوب.
فإذا أدركت العبد التوبة من الله عز وجل فالله يتوب عليه، أما إذا لم تدركه التوبة وافتخر بما فعل، وفعل هذا الشيء معانداً، وفرح بهذا الذي فعله من قتْل مؤمن بغير جرم وبغير حق، فهذا الذي جاء فيه الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الله ليجعل لقاتل مؤمن توبة).
إن الإنسان الذي يعرف الإسلام ويعرف الحق، ويعرف أن هذا مؤمن ثم يذهب فيقتله بغير ذنب، أو يقتل إنساناً مؤمناً على شيء حقير من الدنيا لا يساوي أن يقتله من أجله، فنقول: رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الله له الحكمة البالغة، فبحكمته سبحانه يلهم هذا التوبة فيتوب، ويحجب عن هذا التوبة فلا يتوب، فالله عليم حكيم والأمر راجع إليه سبحانه وتعالى؛ لذلك فالعبد يخاف من الله عز وجل، وما يدريه إن قتل إنساناً فلعل الله لا يلهمه أن يتوب، ولكن من وقع في المعصية فنقول له: تب إلى الله عز وجل، والله يتوب على من تاب، لكن عليك أن تفكر إذا عملت معصية من يضمن لك أن ترجع إلى الله وأن تتوب، أو تعيش حتى تتوب؟ فلعلك تقع في المعصية ويقبضك الله عز وجل عليها، فتموت على هذه المصيبة التي فعلت.
فلذلك الإنسان المؤمن إذا وقع في المعصية فليتب إلى الله، وإذا لم يقع في المعصية فليقل لنفسه: من لي بالتوبة إذا وقعت في هذه المعصية، ولعلي أموت عليها فأكون من أهل النار، ولذلك فابتعد عن المعاصي، وإذا وقعت فتب وبادر بالتوبة إلى الله، فإنه هو الغفور الرحيم.
فعلى المسلم أن يستشعر التوبة، وأن يستشعر بالجرم الذي وقع فيه، وأن يستشعر أنه وقع في شيء عظيم تجاه الله سبحانه، فإذا استشعر ذلك فتاب تاب الله عليه، وقد يعاود فيقع مرة ثانية ويستشعر بالذنب فيبادر بالتوبة، فالله عز وجل جعل ملكين: ملكاً على اليمين وملكاً على الشمال، ملكاً يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات، وجعل ملك الحسنات هو الأمير على ملك السيئات، فإذا وقع العبد في معصية يقول: ارفع يدك؛ لعله يتوب، فيرفع يده ست ساعات عن العبد لعله يتوب إلى الله، فإذا مات فلا يلومنّ إلا نفسه؛ لأنه هو الذي وقع في ذلك، فقد فُتح له الباب للتوبة فلم يتب إلى الله، فاستحق العقوبة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه سبحانه، قال: الله عز وجل: (إذا أذنب العبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب ذنباً وتاب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، ثم أذنب العبد ذنباً ثالثاً ثم رجع تائباً إلى الله، فقال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، وفي الرابعة يقول الله: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
فإذا وقع في الذنب علم أن الله سيعاقبه فيبادر سريعاً، وقد جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولا يمكن ألا يقع الإنسان في حياته كلها في الذنب، ولكنه إذا أذنب رجع فتاب إلى الله، ويندم على ذنبه، ويستغفر على معصيته، ويعزم ألا يرجع إلى الذنب مرة ثانية، وإذا كان في حق إنسان رد المظلمة إليه واستحله، ففي هذه الحالة يكون تائباً حقيقة، فالتائب ليس هو الذي قال: أستغفر الله وكفى، بل التائب هو الذي يتوب ويندم ويبكي على خطيئته التي وقع فيها، ويعزم على ألا يرجع إليها مرة ثانية فهذا يستحق أن يتوب الله عز وجل عليه، وكلما أذنب رجع، فكأن الله يقول له: إن كانت هذه عادتك: أنك إذا وقعت في الخطأ لم تتعمد هذا الخطأ، أو تعمدت فوقعت فيه وبادرت بالتوبة، فإذا فعلت ذلك ولو مراراً فسنغفر لك، فرحمة الله عظيمة واسعة، وكما جاء في الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
والعبد يكون مع ربه بين الخوف والرجاء، بين الخوف من الذنوب، والخوف ألا يتوب الله عليه، وبين رجاء رحمة الله، فهو يرجو رحمته ويخاف عقابه، فإذا كان هكذا فهو جدير بأن يتوب توبة صادقة، وأن يغفر الله له، وفرق بين هذا وبين من ينوي العود إلى الذنب، وإذا تاب فإنما يستغفر الله باللسان، وأما القلب فلم يتحرك، ولم يندم، ولم يعزم على ترك الذنب، فالقول باللسان لا ينفعه عدم موافقة القلب، وليس داخلاً في هذا الحديث، وإنما هذا الحديث في التائب الصادق إلى الله سبحانه.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، يعلم ما تفعلون فيجازيكم على ما فعلتم.(425/3)
تفسير قوله تعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:26]، السياق في ذكر رحمة رب العالمين سبحانه، ولذلك أكثر المفسرين على أن الضمير في قوله: (يَسْتَجِيبُ) عائد إلى الله سبحانه، (ويستجيب) بمعنى: يجيب، وقالوا: أجاب واستجاب تأتي بمعنى واحد أحياناً، فهذا منها.
إذاً: فالله يقبل، والله يعفو، والله يعلم، والله يستجيب، والأصل المعروف أن تكون الجملة هكذا: ويستجيب للذين آمنوا، ولكن قال هنا: ((ويستجيب الذين آمنوا))، فهي أحياناً تتعدى للمفعول بنفسها، وإن كان الغالب أنها تتعدى للمفعول باللام، فيقال: يستجيب لـ (كذا)، وقد تكون: يستجيب كذا، فيستجيب بمعنى يجيب، وكأن السين لاستدعاء الفعل منه سبحانه، وكأنهم طلبوا فاستجاب سبحانه لهم، تقول: طلبت من الله فأجابني، ودعوت الله فاستجاب لي.
فقوله: ((يستجيب الذين آمنوا)) معناها: يجيب الذين آمنوا، فضُمِّن معنى الإعطاء.
قالوا: ومن معانيها أيضاً: ليشفع بعضهم في بعض، فكأنهم يطلبون منه فيفعل، فيدخل بعضهم الجنة، ثم يطلع على النار فيجد فيها صديقه الذين كان معه في الدنيا وكان على الإسلام، ولكن عصى الله سبحانه، فيقول: يا رب! شفعني فيه، إنه كان صديقي في الدنيا، فيستجيب الله عز وجل فيشفع هذا في هذا، ويخرج هذا من النار بشفاعة هذا فيه، فتأتي بمعنى: أنه يستدعي للذين آمنوا الإجابة، أي: يجيبهم فيما سألوه وطلبوه.
وكذلك قد يأتي المعنى في قوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) على بابها وعلى أصلها، أي: فيستجيب المؤمنون لله، ويدخلون في دين الله طواعية، ويتابعون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويعملون بما أمر الله عز وجل به، ويتركون ما نهى الله عز وجل عنه، فيزيدهم الله عز وجل من فضله، وإن كان المعنى الأول أجمل في أن الضمير في كل الأفعال السابقة عائد على الله سبحانه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو يعلم ما تفعلون، وهو الذي يستجيب سبحانه، ويزيدهم من فضله سبحانه.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) إذاً فالذي يستحق الإجابة من الله وأن يعطيه سبحانه هو المؤمن الذي يعمل الصالحات؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الكافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك إذا أسلم فحسن عمله، فالله عز وجل يكفر عنه ما مضى، فالإنسان في كفره يقع في معاصٍ كثيرة، والكفر أعظم الذنب، فإذا أسلم وأحسن فالإسلام يهدم كل ما كان قبله.
فإذا أسلم ولم يحسن، إذا أسلم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن ما زال يسرق، أو يزني، أو يقع في المعاصي فإنه يؤاخذ بهذه الذنوب، أي: بما يفعله الآن في الإسلام، وتنفعه لا إله إلا لله في أنه لا يخلد في النار، فإذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنها تنفعه يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه، إذاً فكلمة لا إله إلا الله تنفع كل مسلم حتى وإن دخل النار، وفي النهاية فالله سبحانه يخرجه من النار برحمته وشفاعة الشافعين ويدخله جنته سبحانه، وهؤلاء هم عتقاء الله من النار، لكنه قد يكون في النار إلى ما شاء الله، وهذا خلود دون خلود الكفار، فالكفار يخلدون في النار فإذا رأوا البهائم قد صارت تراباً قال أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ولا يكونون تراباً، بل لا يزالون في النار أبد الآبدين، نسأل الله العفو والعافية.
فيستجيب الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ((ويزيدهم من فضله)) أي: يعطيهم الحسنى ويزيدهم من فضله سبحانه.
فالعبد يسأل ربه والله يستجيب له ويعطيه عطاء عظيماً، وعطاء يليق به، والعبد مهما تخيل الجنة فلن يصل إلى حقيقتها، وسيتخيل من البيئة التي هو فيها، ومن الأرض التي خلق عليها، فالإنسان عندما يرى بستاناً عظيماً جميلاً فيه من الثمار ما شاء الله فإنه يقول: هذا مثل الجنة، وهذا في تخيله هو وإلا فالجنة أعظم من ذلك بكثير، فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن الحقيقة أعظم بكثير، وانظر إلى أهل الجنة وهم يعطون من ثمار الجنة فيقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، فتشتبه مع الثمر السابق في المنظر فقط، وأما الطعم فشيء آخر خالص، فيقول الله سبحانه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] فالتشابه في المنظر، وأما الطعم فيختلف.
فيعطيهم ما طلبوه ويزيدهم، والحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه.
(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)، وأعظم فضله سبحانه على عباده: النظر إلى وجهه، وأعظم فضله سبحانه رضوانه، ولذلك جاء في الحديث أن الله يقول لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! هل لكم من شيء تريدونه؟ فيقولون: يا رب! وماذا نطلب وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من العالمين؟! فيقول: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).
وأما الكافرون فيقول الله سبحانه عنهم: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، وانظر إلى منظرهم في النار، قال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، تقول: فلان كلح وجهه، إذا اشتد قبح وجهه ولو أن إنساناً لفحته النار في وجهه -والعياذ بالله- فإن منظر وجهه سوف يتغير، ويحتاج إلى عدة عمليات تجميل حتى يرجع شيء مما كان عليه قبل ذلك، فالكفار إذا دخلوا النار كلحت وجوههم، فصاروا سود الوجوه، زرق العيون، عمياً في النار، فتحرقهم النار، فإذا بالشفة السفلى تنزل إلى صدر أحدهم، والشفة العليا تشمر إلى أعلى، فتخيل منظر إنسان بهذه البشاعة!! وأهل النار يوبخهم ربنا سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105]، {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31]، ألم تكن الآيات تتلى عليكم، فلماذا لم تتبعوا القرآن ولم تتبعوا الآيات؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110]، فقد كان الكفار المجرمون أهل النار يضحكون من المؤمنين ويسخرون منهم، وكم من إنسان أراد أن يصلي فيمنعه هؤلاء المجرمون بسخريتهم، وهؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، وفي يوم القيامة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].(425/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)
يقول ربنا سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، فالله له الحكمة العظيمة البالغة، فثق بالله سبحانه سواء أعطاك قليلاً أم أعطاك كثيراً، كن على ثقة أن الله عز وجل يفعل بك الخير، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، فربك الكريم سبحانه يقول لك: أنت ضعيف وأنا أريد أن أخفف عنك، فافعل ما آمرك به حتى أخفف عليك في الدنيا وفي الآخرة، حتى أخفف عنك الحساب يوم القيامة، فأنت ضعيف لا طاقة لك بعذاب الله سبحانه، ولا طاقة لك بأن يضيق عليك في الدنيا وفي الآخرة، فتب إلى الله سبحانه.
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) ماذا سيكون؟ لو أن كل الناس صاروا أغنياء فهل سيحتاج بعضهم إلى بعض؟ وهل سينظر أحدهم إلى الثاني؟ وأين التكافل الاجتماعي بين الناس؟ لكن في حال وجود الضعيف مع القوي فالقوي يشفق على الضعيف ويحنّ له، ويميل إليه فيعطيه وينفق عليه، فالفقير يحب الغني الذي يعطيه، فيدعو له، فتكون هناك ألفة وترابط بين الناس، فالله عز وجل بحكمته جعل العباد فيهم الضعيف والقوي، وفيهم الفقير والغني، وفيهم الصغير والكبير، وجعل الله عز وجل العباد يحتاج بعضهم إلى بعض؛ حتى يوجد التكافل بين الناس، وتوجد المعاشرة والمحبة بينهم، ولا يستغني بعضهم عن بعض.(425/5)
بيان ما كان عليه النبي من الحاجة والمخمصة
قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) ماذا سيحصل؟ (لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] فالله هو الذي خلق الإنسان، وهو يعرف طبيعته، وطبيعته أنه إذا أعطي وصار غنياً فإنه يطغى ويبغي على خلق الله سبحانه، لذلك كان نبينا الكريم العظيم صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه ويقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، فهذا حال النبي الذي لو طلب من ربه لجعله ملكاً من الملوك، وقد أنزل الله عز وجل عليه جبريل فقال له: (إن ربك يخيرك: إن شئت عبداً نبياً، وإن شئت ملكاً نبياً، فنظر إلى جبريل يستشيره - والمستشار مؤتمن - فأشار إليه جبريل أن تواضع، فقال: بل عبداً نبياً) فتواضع النبي صلى الله عليه وسلم فيما طلب من ربه سبحانه، ورفض الدنيا، وفضل أن يجوع يوماً ويأكل يوماً، فإذا جاع سأل ربه، وإذا شبع حمد ربه سبحانه.
وكان يخرج من بيته صلوات الله وسلامه عليه وقد استشعر الجوع الشديد، ولا شيء في بيته صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد طعام يطعمه في بيته، فكان يمر عليه اليوم واليوم واليوم ولا يوجد في بيته شيء صلوات الله وسلامه عليه، وكان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد خرج يوماً فإذا بـ أبي بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع يا رسول الله! وجاء عمر رضي الله عنه فقال له: ما أخرجك؟ قال: أخرجني الذي أخرجكما الجوع، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر حتى وصلوا إلى بيت رجل من الأنصار، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فرح به ودعاه هو وأبا بكر وعمر، فجلسوا وآتاهم بعنقود من عناقيد حديقته فيه رطب، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وجاء لهم بماء بارد فشربوا الماء وحمدوا الله، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لتسألن عن النعيم) أي: هذا من النعيم الذي تسألون عنه، فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي نعيم يا رسول الله؟! وإنما هما الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)، فهذا النبي الكريم جعله الله سبحانه يجد أحياناً ولا يجد أحياناً، ويموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد مرت عليه شهور ولم توقد في بيته نار، ولم يطبخ في بيته شيء، ومن منا يمر عليه ستون يوماً ولم توقد النار في البيت لعمل الطعام والشراب؟!! فتُسأل عائشة: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان - أي: السائد عندنا في المدينة - التمر والماء.
وهذا أبو هريرة يطعم الناس الخبز، فقد عمل لهم فرناً وأوقف عليه خبازاً، وأبو هريرة كان من أفقر خلق الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، وكان رجلاً قنوعاً، وقد تعلم القناعة من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أهم شيء عنده أن يطلب العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظ منه أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن دعا له أن يحفظ فلا ينسى، قال: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنني أنسى، فقال: ابسط ثوبك، فبسط ثوبه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اضمم عليك ثوبك، فضم عليه ثوبه، قال: فما نسيت بعد ذلك شيئاً حفظته)، فـ أبو هريرة استحق المكافأة مع أنه لم يكن من السابقين المهاجرين، فإسلامه كان متأخراً، فقد أسلم في عام خيبر، ومع ذلك حفظ من الأحاديث ما لم يحفظه غيره رضي الله عنه، وصار راوية الإسلام رضي الله عنه، فأحب الدين، وأحب الله، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكرمه، وجعله قريباً منه ليسمع منه أحاديثه الكثيرة التي يقولها، ودعا له أنه لا يحبه إلا مؤمن، وفعلاً ما من مؤمن يرى أبا هريرة إلا ويحب أبا هريرة رضي الله عنه، وما من مؤمن يسمع لـ أبي هريرة إلا ويحب أبا هريرة، ومن أبغض أبا هريرة فلا يستحق أن يكون مؤمناً.
فـ أبو هريرة رضوان الله تبارك وتعالى عليه كان فقيراً، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أغناه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينسَ الفقر، ولم ينسَ أنه كان فقيراً، وكان يقول للناس: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكل النقي من الخبز.
فـ أبو هريرة كان يطعم الناس الخبز، ويقول لهم: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعم ولم يأكل من هذا صلوات الله وسلامه عليه، فعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به، والمؤمنون الفقراء يتأسون به، ولما فتحت عليه الدنيا صلى الله عليه وسلم ما وضعها في جيبه، ولم يدخرها، وإنما أنفق لله سبحانه، وكان يأخذ ما يقوت أهله، والباقي ينفقه على المؤمنين وعلى ضيوفه، حتى إنه قبل أن يتوفى فتح الله عز وجل عليه، فصار له نصيب من المغنم، ونصيب من الفيء، فكان له فدك وغيرها، فيقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) أي: ما تركناه فهو صدقة، فلا يورث مال النبي صلى الله عليه وسلم، فأنفق ماله كله مما فتح الله عز وجل عليه في سبيل الله، والمسلمون كذلك كان لهم من المغانم، ويموت أحدهم وله أموال، وله بيوت، ويرثه أهله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن كذلك، فقد توفي صلى الله عليه وسلم وكل ما تركه صدقة على المسلمين، فلم يأخذ شيئاً حياً ولا ميتاً صلوات الله وسلامه عليه، ولا ترك لأهله إلا محبة المسلمين والدعاء لهم، وما جعله الله عز وجل لهم في كتابه سبحانه وتعالى.
إذاً: لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا، ولكن جعل منهم فقراء وأغنياء، فالفقير يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وليس عنده شيء صلوات الله وسلامه عليه، ومات ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود في أوساق من شعير، وإذا لم يدفع أحد الثمن فإن اليهودي سيبيع هذه الدرع ويأخذ منها ثمن الشعير، ولكن قضى عنه علي رضي الله عنه دينه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، واسترد هذه الدرع من اليهودي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الحالة، مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
والسبب الذي جعل النبي صلوات الله وسلامه عليه يشتري من اليهودي أن اليهودي سيطلب حقه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشتر من المسلم شفقة وخوفاً أن المسلم لا يأخذ ماله، أو إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم فإن المسلم يستحي أن يقول لأهل النبي صلى الله عليه وسلم: أين حقي؟ فسيقولون: ما ترك لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحي المسلم أن يأخذ حقه، وأما اليهودي فلن يستحيي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي حتى فكها علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض من هذه القصص بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحزن المؤمن إذا وجد نفسه فقيراً، وإذا بات جائعاً، أو بات عارياً، وإن كان هذا نادراً ما يحدث، ولكن الله يفعل بعباده ما يشاء.
نسأل الله من فضله ورحمته في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(425/6)
تفسير سورة الشورى الآية [27]
إن المتأمل في حال الناس يجد فيهم الغني والفقير، والموسع عليه ومن قدر عليه رزقه، فيقف عقله حائراً أن يجد لذلك تفسيراً؛ إذ كل الناس على هيئة وخلقة واحدة، لكن لما كان الله تعالى يسمى بالحكيم ويتصف بالحكمة كشف لنا في هذه الآية سبب ما نراه من تفاوت في الرزق ولماذا لا يكون كل الناس أغنياء؟ فبين الله أنه لو بسط الرزق للعباد لكان ذلك سبباً في بغيهم في الأرض وطغيانهم وعدوانهم على بعضهم، لكن الحكيم الخبير يعلم ما يصلحهم فينزل الرزق بقدر ينتفي معه طغيانهم وفسادهم جميعاً في الأرض، وذلك مقتضى حكمته وخبرته جل وعلا.(426/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
يخبرنا الله عز وجل بفضله وبرحمته وبعلمه وبقدرته أنه يحكم في خلقه بما يشاء، ويقدر لهم أرزاقهم بالنحو الذي تجري به حكمته وعلمه، فلو أنه بسط للعباد جميعهم ووسع عليهم لبغوا في الأرض، ولو أنه ضيق على الجميع لقنطوا من رحمة الله تعالى، ولكن يبسط الرزق فيفتح لمن يشاء ويقدر ويقبض ويضيق على من يشاء، وكل ذلك بعلمه وبقدرته وبحكمته سبحانه وتعالى.
فالله يخبرنا أنه لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، والبغي هو الطغيان، وهو أشد الظلم.
والبغي أن الإنسان يطلب ما عند غيره لنفسه قهراً وظلماً وعدواناً، فلو أن الله عز وجل بسط الرزق لعباده جميعهم لكانوا كلهم أغنياء وما احتاج أحد إلى أحد.
وإذا لم يستشعر الإنسان حاجته إلى جاره كانت العداوة والبغضاء، وكان كل منهما يريد أن يأخذ ما عند الآخر.
لكن الله عز وجل يحوج العباد بعضهم إلى بعض؛ ليتعطافوا فيما بينهم، ولتكون بينهم المودة والرحمة، والحاجة والانتفاع.
فلله سبحانه حكمة في أن ضيق على فلان، ووسع على فلان؛ ولذلك الذي يعطيه الله شيئاً فليرض بما قسمه الله، سواء كان هذا الشيء قليلاً، أو كان كثيراً.
فالله لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل سبحانه وتعالى بقدر ما يشاء، فالرزق نازل من السماء، وخزائن الله عز وجل ملأى يعطي لعباده بقدر، فيعطي هذا ويضيق على هذا لحكمة منه ولقضاء وقدر حكيم من الرب جل وعلا، فأنت تدعو ربك: يا رب، يا رب! فيصعد الدعاء وينزل الرزق من السماء.
فالله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله، فلعله ضيق عليك لتقول: يا رب، يا رب! وترفع يديك إلى الله عز وجل، فيصعد صوتك إلى السماء، فيجيبك الله عز وجل، ويجازيك وينزل عليك الرزق سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يستجاب له وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء).
فصوتك مسموع في السماء في وقت الرخاء تدعو ربك، وتشكره، وتثني عليه سبحانه؛ فعندما يضيق بك الأمر تجد ما عند الله عز وجل من فرج قريباً جداً من حيث لا تحتسب، قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فالمؤمن يتقي الله سبحانه، ويتقي أن يغير الله عليه، ويتقي معاصي الله، فإذا ضيق الله عز وجل عليه فهو راض في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقنع بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فبقناعتك بما أعطاك الله سبحانه تكن غنياً، ويجعل الله عز وجل في قلبك الإيمان والحب له سبحانه.
والقناعة أفضل من المال، وكم من إنسان يؤتيه الله عز وجل المال وإذا به يطمع في غير الذي أعطاه الله سبحانه، وإذا به مع كثرة ما أعطاه الله سبحانه يبغي في الأرض، قال تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)) أي: لظلم بعضهم بعضاً، ونعرف ذلك من قوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان وقتما هو فقير محتاج يقول: يا رب يا رب! ويظهر التعاون مع الناس والحب لهم والرحمة، وعندما يغنيه الله سبحانه إذا به يبطر نعمة الله، ويكون مع ربه كالعبد اللئيم مع سيده، فيعصي ربه سبحانه، ولا يطيع أمره ولا يعمل بما قاله الله سبحانه، وطغيانه عندما يرى نفسه استغنى، ويشعر أنه غني، ويترك الدعاء ويطغى على خلق الله، ويبغي في الأرض فساداً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
وانظر في المقابل إلى هذا الإنسان الذي ذكره الله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، فعلينا أن نكون كهذا الثاني الذي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فالله اشترى منك نفسك واشترى منك مالك وأعطاك عوض ذلك الجنة، فقبل منك البيع وأعطاك العوض ورد عليك الثمن أيضاً.
فانظر إلى فضل ربنا الكريم، طلبت منه الجنة ودفعت نفسك ودفعت مالك فقبلك، وأعطاك الجنة، وأعطاك نفسك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فهم أحياء عند ربهم، قدموا أنفسهم لأجل الجنة، ودفعوا الثمن أموالهم، فإذا بالله يعطيهم الجنة التي أرادوها ويرد عليهم أرواحهم ليكونوا أحياء وغيرهم أموات في البرزخ.
أما الذي يبيع نفسه للشيطان، ولا يقدم لله عز وجل شيئاً إلا الكلام كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، وكما قال الشاعر: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب فقد كان المنافقون إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا كلاماً جميلاً عن الإسلام، فإذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا بهم يكفرون بالله، ويجدون جمالاً فأخذوها وسرقوها، ووجدوا قبيلة بينهم وبينهم نزاع فأحرقوا أموالهم، فأنزل الله عز وجل يفضحهم بهذه الآية.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة:205] تولى: لها معنيان: تولى بمعنى أدبر، أي: رجع عما قال وأفسد في الأرض.
أو تولى بمعنى: أصابته ولاية، فصار والياً وحاكماً، وله مركز عند الناس، فنسي ما كان يقول، كان يتكلم عن صلة الرحم فنسي ذلك.
وإذا قيل لأمثال هؤلاء: اتقوا الله، تأخذهم العزة بالإثم، ويقول لك: أنت تعلمني! ويغضب وينفر منك.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل لأحدهم: اتق الله، يقول: سمعنا وأطعنا، يخشع لله تبارك وتعالى، لكن بعض الناس إذا قيل له: اتق الله، يقول: أنت تراني مجنوناً حتى تقول لي: اتق الله! وقد تقول لإنسان: هداك الله، فيقول لك: تراني ضالاً حتى تقول لي: هداك الله! يريد أن ينفذ ما يمليه عليه هواه.
وهذا الإنسان الذي يسير وراء هواه، آخر أمره أنه باغ في الأرض، وأنه بغيض إلى الله عز وجل، والله لا يحب المفسدين.
فمثل هؤلاء يقول الله سبحانه فيهم: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] أي: لصاروا بغاة ظالمين، يظلم بعضهم بعضاً.
وقد جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه أخبر عن طمع ابن آدم فقال: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى له ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)، فلو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى له ثانياً، ولو كان له واديان لتمنى ثالثاً ولا يقنع.
وعندما يتفكر الإنسان في ذلك لو كان الوادي مليئاً بالذهب ماذا سيعمل به؟ ومتى سينفقه؟! لكن طمع الإنسان يجعله يتمنى أن يعيش كثيراً طالما أنه يوجد مال كثير وينسى ربه سبحانه وتعالى، لكن التراب الذي خلق منه هو الذي سيملأ جوفه لا الذهب ولا الفضة، ومن تاب من الشره والطمع ومن المعاصي والبغي والإفساد في الأرض، ومن الحسد للخلق؛ فإن الله يتوب عليه.(426/2)
رزق الله تعالى لعباده بقدر
قال تعالى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ} [الشورى:27]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فالرزق قضاء وتقدير من الله سبحانه ينزل بحساب منه، هذا يستحق كذا، وذاك يستحق كذا، والأرض الفلانية تستحق المطر؛ لأن أهلها يستحقون، والأرض الفلانية لا تستحق؛ لأن أهلها لا يستحقون، والأرض الفلانية لا تستحق، لكن سينزل عليها المطر من أجل أن فيها بهائم، وفيها من خلق الله من يحتاج إلى ذلك أما أهلها فلا يستحقون وهكذا.
وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم: (أن رجلاً كان يمر في صحراء إذ سمع صوتاً من السماء يقول: اسق حديقة فلان، فصار وراء السحابة، فسقت الحديقة، فإذا بالرجل ينادي صاحب الحديقة: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: ولم؟ فقال: أخبرني ما اسمك، فأخبره ثم قال: لم سألتني عن اسمي؟ قال: سمعت منادياً ينادي من السحاب: اسق حديقة فلان، فأخبرني ما الذي تصنعه؟ قال: أما إذ أخبرتني عن ذلك فإني إذا جمعت ثمار هذه الحديقة فآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه، وأتصدق بثلثه).
فقد جعل لله حظاً في ماله مقداره ثلث المال، وإذا كان العبد يفعل ذلك فانظر كيف يصنع الله به ويعطيه من فضله هذا الخير وهذه البركة.
وقد ذكر الله تعالى أصحاب حديقة آخرين وهم أصحاب الجنة، كان أبوهم رجلاً صالحاً وكان يعطي الفقراء والمساكين ويتصدق، فلما توفي أبوهم قال الأبناء: إن أبانا كان مبذراً، وكان سفيهاً، كان ينفق المال ويعطي الفقراء، وأي حظ للفقراء في هذه الحديقة؟ وقد ذكرنا أن الإنسان قد يعطيه الله عز وجل فيطغى، وهؤلاء وجدوا الحديقة فيها ثمار كثيرة جداً، والفقراء يشاركونهم فيها، فقال الله عنهم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18]، فحلفوا أن يحصدوها في الصباح فإذا جاء الفقراء وقت الظهر لا يجدون شيئاً.
ولم يستثنوا ولم يقولوا: إن شاء الله نصنع كذا، لكن أقسموا وهم قادرون، قال تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25]، (على حرد) أي: على انفراد عن الفقراء، وهم في أنفسهم يظنون أنهم قادرون على ذلك.
قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20]، حصدت قبل أن يحصدوها، وأخذها الله قبل أن يأخذوها، وأرادوا حرمان الفقراء فحرمهم الله، قال تعالى واصفاً حالهم: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:23 - 26]، تائهون، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:27 - 28]، أي: أما قلت لكم: إياكم وهذا العمل السيئ، نزهوا ربكم سبحانه أن تتعاملوا معه معاملة اللئام، ألم أحذركم من ذلك؟ تذكروا: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم:29 - 30]، كل واحد يقول للآخر: أنت السبب، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:31]، أي: قد طغينا أن وجدنا هذا الرزق العظيم فأحببنا الانفراد به، وظننا أنه من كدنا ومن تعبنا، ولمنا أبانا الذي توفي على ما كان ينفقه على الفقراء، فأصبحنا نحن الملومين وصرنا نحن والفقراء سواء.
فحرمهم الله عز وجل بسوء صنيعهم، وليس كل النفوس واحدة، فليس كل النفوس تشكر الله سبحانه وتعالى، وتخرج لله سبحانه وتعالى طمعاً فيما عند الله، إنما الغالب في الإنسان الشح والبخل بما أعطاه الله، ولا يعطي الحقوق لأصحابها.(426/3)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا
وفي قوله تعالى: ((وَلَكِنْ يُنَزِّلُ))، قراءتان: قراءة الجمهور (ولكن ينزِّل)، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: ((وَلَكِنْ يُنَزِلُ)).
قال تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا))، أي: طمع بعضهم في بعض، أفراداً وجماعات ودولاً، ويبغي بعضهم على بعض، ولكن الله يقدر ما يشاء وينزل بقدر ما يشاء سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها)، وكان ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حديث في الصحيحين.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، أي: أما وأنتم فقراء فلست خائفاً عليكم، إنما أخاف عليكم عندما تصبحون أغنياء (فقال رجل: يا رسول الله! أويأتي الخير بالشر؟)، يعني: الخير الذي هو فتح الدنيا، وما يرزقنا ربنا وينزل علينا من بركات من السماء ويفتح لنا الأرض، هل هذا الخير سيأتي بعده شر؟ (فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل للرجل: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: فرأينا أنه ينزل عليه)، أي: جاء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عنه الرحضاء؛ لأنه لما كان ينزل عليه جبريل بالوحي من السماء كان يكون عليه ثقيلاً، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، ويكون في اليوم المطير يتصبب عرقاً كأنه في يوم شديد الحر صلوات الله وسلامه عليه.
(ثم مسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده على أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر)، أي: فالعادة أن الخير تبعه الخير، لا الشر، فالمال نعمة من نعم الله تعالى لكن إذا كان في نفس الإنسان الطمع فهنا يأتي إليه الشر.
ويضرب لنا هذا المثل صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم)، وفي رواية: (إنه كل ما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر)، والمعنى أنه عندما ينزل المطر يكون في الأرض جداول الماء، فينبت نبات كثير، وتأتي البهائم والمواشي والأغنام فتأكل كثيراً إلى أن يقوم الراعي بالانصراف بها، ولعل بعضها يأكل حتى يقتل حبطاً، والحبط: الانتفاخ، فإذا انتفخت ولم تخرج فضلاتها ماتت إلا أن يدركها صاحبها.
وكذلك الإنسان في الدنيا يأكل المال، ولا يخرج زكاة ولا يعطي الفقراء ولا المساكين ولا يصل الرحم، إنما يجمع ويجمع ثم يحرس هذا المال، ويأكل إلى أن ينتفخ، فتجده غنياً عنده ملايين كثيرة ثم يصاب بالأمراض الكثيرة، يريد أكل اللحم كل يوم فيؤدبه الله بمرض النقرس المسمى داء الملوك، فيمنعه الطبيب من أكله، عندها يريد أن يأكل كل شيء، وفي آخر حياته يندم.
سمعت أحد الممثلين وكان مليونيراً يقول: إنه يتمنى أن يأكل مثلما يأكل الناس فلا يقدر، بل يقدم ما يشتهيه من الطعام للناس يأكلونه أمامه وهو محروم.
يقول: ليت الملايين التي عندي تذهب وترجع لي صحتي، ولو أعرف أن شيئاً يرجع لي ذلك لأنفقت فيه كل مالي.
ونحن نقول: أما كان ذلك من أول شيء أن تعتدل في حياتك، وتطيع الله سبحانه وتعالى، ولا تعصي ربك سبحانه وتعالى، لأن الله يؤدب العباد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت)، يعني: أن البقرة أكلت شبعها ثم استقبلت الشمس وعرقت وثلطت وبالت وانتفعت بهذا الذي أكلته.
ثم يعقب على هذه الصورة وعلى هذا المثل فيقول صلى الله عليه وسلم: (وإن هذا المال خضرة حلوة) أي: إن هذا المال هو كالنبات الذي للبهائم، فهو طعام وزرق إن استخدمه الإنسان استخداماً صحيحاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه، فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين، ومن لم يأخذه بحقه فهو كالآكل الذي لا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) أي: يكون شهيداً يوم القيامة على الذي يأخذه من غير حق، كأن يسرقه أو يحسد غيره ويتمنى زوال النعمة لتصير له، فيسعى في ذلك، ويبغي بغياً وظلماً وطغياناً وعدواناً.
فيأخذ هذا المال من غير حقه، وينفقه في غير حله، فيكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة.
فإذا ضيق الله عز وجل على إنسان فليحمد الله سبحانه، وليطلب من الله، وليرض بما قسم الله له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فإذا رضيت وقنعت فترضى عن الله سبحانه وتكون أغنى الناس بهذه القناعة، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقنعوا، وأن يرضوا بما أعطاهم الله سبحانه.(426/4)
قصة حكيم بن حزام رضي الله عنه عند سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم مالاً
وهنا قصة لـ حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه، إذ كان سيداً من سادات العرب، أسلم متأخراً وذهب إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ثم قال: (أعطني يا رسول الله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ثانية فقال: أعطني يا رسول الله! أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء ثالثة فأعطاه، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى).
أي: أن هذا المال مثل البقل الذي ينبت في الأرض، فتأكله المواشي، فالماشية تستحلي هذا الذي ينبت الربيع، وكذلك الإنسان يستحلي هذا المال، قال: (فمن أخذه بسخاوة نفس) جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه)، كما لو أن إنساناً أعطته الدولة جائزة فيأخذها، وكذلك لو أن إنساناً قال: سأعطيك هذا الشيء هدية، فاقبل طالما أنك لم تستشرف لها ولم تطلبها وهي من حلال، فخذها يبارك لك في ذلك، لكن لو أن الإنسان يقول: أنا أريد أكل كذا، أو أريد المال الفلاني، أو أريد فلاناً يهدي لي هدية، أو أريد هدية على لا شيء قدمته له، فهذا طالب مال من غير أن يبذل له منه شيء، فيقول لك: لا تطلب المال بهذه الصورة، لكن لو أتاك من غير مسألة ولا إشراف نفس فاقبله، وسيبارك لك فيه.
وإذا كان الإنسان لحوحاً كثير المسألة يطلب المال من غير وجه حق لا يبارك له فيه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) فنفسه سخية، ليس طماعاً، ولا مستشرفاً، ثم يأخذ هذا المال ويصل به رحمه أو يدفع به حاجة ولا يقول: سأضعه في البنك لما تحصل لي حاجة ثم أصرفه.
ولكن قال: سأنفق هذا المال، ومثلما أنتفع أنفع فلاناً وفلاناً.
فهذا أخذه بسخاوة نفس، فهو يستحق البركة، فالله يبارك له فيه، فإذا أخذ مائة تصدق منها بثلاثين أو أربعين، وكأن المال لم ينقص منه شيء ببركة الله تبارك وتعالى.
وغيره يأخذ المائة وهو يستشعر الفقر والخوف، ألا تنتهي ولعلها تنتهي منه قدام عينيه سريعاً، فالله عز وجل يبارك لسخي النفس المؤمن.
قال: (ومن أخذه بإشراف نفس) بأن كان طماعاً، يحاول أن يأخذ المال الذي ليس من كسبه ولا من تعبه، مثل كثير من المتسولين يمد أحدهم يده ويطلب من الناس، ولا يعمل؛ لأنه يكسب في اليوم عشرة جنيهات أو عشرين جنيهاً أو أكثر من ذلك، فهو أحسن له في نظره، ففرق بين إنسان وإنسان، وينبغي للإنسان أن يعطي الفقراء الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ويبحث عن هؤلاء في عائلته، أو جيرانه، وسيلاقي من يستحق العطاء، أما مثل هؤلاء المتسولين فالذي ينبغي في حقهم ألا يعودوا على هذا الفعل، وأن يتحرى في معرفة الصادق منهم فيعطى، أو يؤمرون بالذهاب إلى لجنة الزكاة ليعطوهم منها، وقد يتعاطف معهم البعض مع أن كثيراً منهم كذابون، وقد رأينا إحدى المتسولات ذهب معها إلى بيتها فوجد فيه حقائب متعددة، وفي واحدة فقط ثلاثة آلاف جنيه، أما الدفاع عنهم بغير وجه حق فلا داعي لذلك.
وبالمناسبة أحياناً قد يأتي إلى المسجد بعض من يتعاطى الحشيش أو المخدرات أو الهروين ويقلب المسجد ويعمل إرباكاً للمصلين، فيقوم بعض الشباب بمنعه من دخول المسجد، ثم يسلمه إلى القسم، ثم تجد بعض الطيبين يعترض على ذلك، وهذا مما لا ينبغي.
وقد يدخل المسجد من يسرق الأحذية، فإذا دعي عليه أو قبض عليه اعترض بعض هؤلاء، وكذلك هذا غير صحيح.
ومرة كنا في جنازة وفي الدور الثاني للمسجد علق رجل جاكته، وفيه ألف جنيه، فأتى السارق وأخذها، فلما مسك هو أو صاحبه اعترض بعض أهل الخير وتحولت المشكلة من قبض على السارق إلى عراك بين هؤلاء.
وحادثة أخرى دخل رجل المسجد ومعه سكين وفي عقله خلل، ويقول: أنا المهدي، وعلامة صدقي أني أشق أحدكم نصفين ثم أحييه.
فبعض هؤلاء يقول: حرام عليك اتركه يصلي، ولو كنت ساجداً فقد يقطع رقبتك، فمثل هذا الاعتراض لا يصح.
وحادثة وقعت في رمضان، أتى سارق فأخذ عشرين حذاءً من المسجد، ثم قبض على السارق، فجاء مجموعة من هؤلاء يقولون: حرام عليك، اتركه يذهب.
لكن هو ليس حراماً عليه سرق الأحذية وترك الناس يذهبون إلى بيوتهم حفاة، وقد يمنع بعضهم من الصلاة في بيت الله سبحانه!! ومرة في صلاة الفجر جئت إلى المسجد فلقيت شخصاً لابساً حزاماً ويمسك السيف في يده، فكيف نصلي وهو واقف على رؤوسنا؟! فيأتي أحد هؤلاء ويقول: حرام عليكم لا أحد يمسكه.
ومرة بعدها جاء السارق فأخذ فلوس أحد هؤلاء، فوقف يصيح ويقول: سرق مني فلوسي! فلماذا هذه المرة تصيح على فلوسك والمرة السابقة تقول: حرام عليك؟! فنحن جئنا إلى المسجد لنعبد الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سأله أحد الصحابة فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء أحد يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه)، يعلمنا الشجاعة والحفاظ على الكرامة، وإذا لم يكن الإنسان قوياً أخذ المجرمون ماله، والدولة اليوم لا تأخذ على أيدي المجرمين وأصحاب المخدرات والحشيش.
فقد يأتي أحد هؤلاء ويقول: هات ما في جيبك، فإذا لم تكن قوياً ضاع مالك، ولا بد في بيوت الله أن يوجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، ونحن لا نقول لك: اعتد على الناس، لكن إذا مسك من يؤذي فلا بد أن ينال جزاءه.
وفي إحدى المرات بدأنا في صلاة المغرب، فدخل شخص يصيح ويتكلم بالكفر، وبعد الصلاة كل واحد انصرف، ولم يكلمه أحد.
وكلنا يعلم المقولة المشهورة: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فالمجنون الذي يدخل المسجد لا يقال له: اتق الله في المصاحف، وكذلك الذي يدخل ليسرق المصاحف من بيوت الله عز وجل، لا بد أن ينال جزاءه حتى يرتدع.
وبعض الإخوة يأتي إلي ببعض السكارى متعاطي المخدرات، وعقله ضائع، ويقول: اجلس معه يا شيخ، ونحن لم نجد وقتاً نكلم العقلاء فكيف نكلم المجانين؟! والله تعالى يقول: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43].
وهناك من يجد المجنون أو المصروع فيقول: اذهب به إلى الشيخ يقرأ عليه، ونحن نقول: اذهب إلى الطبيب يعالجه.
ويوجد بعض الدجالين أحياناً يصلون معنا في المسجد ومعه كراسه مكتوب عليها عنوان مسجد نور الإسلام، وأي واحد صرع أو جن ذهب إليه، فاحذروا مثل هؤلاء.
ونحن نؤمن بالعلاج بالقرآن ونصدق به، لكن عالج نفسك أنت بالقرآن، احفظ آيات الرقية وهي: فاتحة الكتاب و ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ))، و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))، ثم ارق نفسك، أما أن تذهب إلى الشيخ ليرقيك فليس عندنا دجل في المسجد، فإذا كنت متعلماً فارق نفسك، أو يرقيك أخوك، أو أبوك، أما المسجد فلا يفعل فيه هذا الشيء.
وسبب انتشار هذه الظاهرة: أن بعض الناس لا يجد عملاً فيأخذ حقيبته ويضع فيها مسجلاً؛ لأنه ليس حافظاً للقرآن، ويحمل عصاه، فإذا جاء إليه المريض فتح التسجيل وبدأ يضربه بالعصا وقد يقتله، وكم قرأنا في الجرائد مثل ذلك.
فنحن هنا ندرس دين الله سبحانه وتعالى، وندرس التفسير العلمي الصحيح، والمعجزات الكونية التي ذكرها العلماء، أما أن نسأل عمن يعالج ويقرأ القرآن فما السبب أن يخرج العفريت بقراءة الشيخ ولا يخرج بقراءتك؟! وما هو الفرق بينك وبينه؟ إنها عقول عجيبة جداً، وكم من إنسان قالوا: إنه جن، ثم عرض على الطبيب النفسي فشفي، لكن المشكلة أننا دخلنا في السحر، وفي الدجل، والكهانة.
فاتقوا الله تبارك وتعالى، وامنعوا مثل هذا الشيء.
والأصل أن نحافظ على حرمة بيوت الله، وعلى قدسيتها، ونحافظ على أنفسنا تقرباً إلى الله عز وجل بذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(426/5)
تفسير سورة الشورى [27 - 28]
الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق لعباده ويقدر، وله في ذلك الحكمة البالغة، وسوف يعود إليه الغني والفقير، وسيحاسب الشاكر والصابر والجاحد لنعمته، وهو الذي ينزل الغيث فهو في علمه سبحانه لا يعلمه إلا هو، ويرحم عباده ويشكر إذا شكروا، ويحمد نفسه إذا بطروا وكفروا.(427/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
وقفنا في سورة الشورى عند قول الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
الله حكيم سبحانه، والله خبير وبصير، يرى عباده سبحانه ويعلم ما ينفعهم وما يضرهم سبحانه، وهو الخبير سبحانه، العالم بخفايا النفوس، وبخفايا ما يكنه العباد، وقد ذكرنا لله عز وجل الأسماء الحسنى كما ذكر في كتابه، فمن أسمائه سبحانه: العليم، والخبير، والشهيد، وكلها راجعة إلى علم الله سبحانه وتعالى، والعليم أعم، والخبير يختص بالعلم بما خفي، والشهيد يختص بالعلم بما ظهر، فهو العليم، وهو الخبير، وهو الشهيد سبحانه وتعالى، وهو اللطيف، فعلمه دقيق خفي ومعه يصرف ويدبر الأمور بلطفه، وبرفقه، وبرحمته، فهو اللطيف بعباده سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة).
لذلك ينبغي أن نتأمل في أسمائه الحسنى، وأن نحصيها ونعدها، ونحفظها، وأن نتأمل في معانيها ونستخدمها في أوقاتها فيما تطلب من دعاء، فتستخدم الاسم في المناسبة التي تدعو بها وفي ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم العظيم الله خبير، الله بصير، الله لطيف، الله عزيز سبحانه وتعالى.(427/2)
حكمة الله تعالى في تقسيم الأرزاق
قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، فهو يعلم ما الذي ينفعهم فيعطيهم سبحانه وتعالى، وكل شيء يجري بحكمة الله، وهو أعلم بها، وقد يرى العباد مقتضى هذه الحكمة، وقد لا يرى الإنسان ما وراء ذلك، فالله أعلم بمن يستحق فيعطيه سبحانه وتعالى، سواء بدى لنا ذلك الأمر أو لا، فهو الخبير ذو العلم الدقيق الذي هو أعلم بخفايا العباد وبالذي يستحقون، فترى الشيء أمامك وتتمنى له كذا، ولكن تجد في حقيقته في النهاية أنه ليس كما تظن، فالله يدبر أمر الخلق على ما يعرف هو، لا على ما تريد أنت، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريهم أشياء من ذلك بتصرفه هو صلوات الله وسلامه عليه، فيعطي البعض من العباد من الزكاة ويعطيه من الصدقة، ويعطيهم هدية، ويتألفهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيجيء بعض الصحابة ويقول: يا رسول الله! فلان أحوج، فلان هذا أولى من فلان، فيبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف ذلك، يقول: (إني لأعطي القوم وغيرهم أحب إلي، ولكني أكلهم لإيمانهم).
فهذا تصرف من النبي صلى الله عليه وسلم، والناظر إليه نظر إلى أنه لماذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلان هذا ليس هو الذي يستحق، وفلان الثاني أولى منه، فيقول: أعطي هؤلاء أتألفهم ليثبتوا، وليكونوا على الدين حتى لا يتزلزلوا ولا يتزعزعوا، وأترك فلاناً لأن إيمانه قوي، فهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمه علم بشر صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بعلم رب البشر سبحانه وتعالى؟! قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7]، وقال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله بحكمته أعطى فلاناً ومنع فلاناً، فإن من عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الفقر؛ لأنه إذا أغناه الله طغى وبطر وأشر، وصار ظالماً، وصار يأخذ أموال الناس مع أنه إنسان غني، فالله أعلم بأن هذا لا يصلح له إلا أن يكون فقيراً، وإن أراد الله عز وجل به رحمة فيفقره، وإن أراد رحمه، فإن أراد شقاوته أعطاه من المال، وكل يجري بحكمته سبحانه، اختار لهذا الشقاوة ولهذا السعادة وهو أعلم ما الذي يستحقه العبد؛ لأنه هو الذي خلقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]، فهو أعلم بمن يستحق رحمته، ومن يستحق عذابه، وهو أعلم بنفوس العباد، فلذلك يعطي العباد ما يريد، يريد الله عز وجل بعبده الرحمة، ويريد الله عز وجل أن يجعله من أهل جنته، ويعلم أن هذا الإنسان لو كان غنياً فسيطغى في هذه الدنيا، فيجعله فقيراً ليرحمه سبحانه وتعالى.
ويعلم أن فلاناً هذا لا يصلح له إلا الغنى؛ لأنه إذا أغناه الله سبحانه فهو يعطي وينفق في سبيل الله، فيعطيه الله وهو أعلم بعباده سبحانه، ويعلم من عباده أن فلاناً لو أغناه لصار ظالماً، ويريد الله شقاوته، والله أعلم بعباده، فيغنيه ويعطيه، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فإذا به يأخذ ما أغناه الله به وينفقه فيما حرمه الله سبحانه؛ لينال قضاءه وقدره الذي قسمه الله سبحانه وتعالى له، عمل المعصية وهو على علم وبينة أنه عصى الله سبحانه.
لذلك نقول: الله أعلم بنفوس العباد حين يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وحين يضيق على من يشاء سبحانه، ولذلك إذا أعطاك الله عز وجل المال فاعلم أن هناك من يستحق، فأعط وأخرج زكاة مالك، وأخرج زكاة فطرك، وأخرج صدقة مالك، وأعط للقرابة، وأعط للجيران، وأعط للفقراء، وأنفق لله سبحانه وتعالى، ولا تنس الحقوق التي أمرك الله عز وجل أن تؤديها، وإذا ضيق الله عز وجل عليك فاحمد الله سبحانه وتعالى بشرط أن تأخذ بالأسباب، تذهب إلى عملك، وتتعب نفسك وتحاول، فإذا ضيق الله عز وجل عليك فهو أعلم سبحانه أن هذا هو القدر الذي ينفعك ويصلح لك، هو أعلم أنه لو أعطاك أكثر من ذلك لأطغاك فمنع الله عز وجل عنك ذلك، فهو أعلم سبحانه وتعالى ما الذي تستحقه وما الذي يدخره لك عنده يوم القيامة.
الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة، وأيام الآخرة مقدارها كما قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، فيدخل الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة سنة.
فالإنسان المؤمن يصبر نفسه ويسلي نفسه بذلك، فهذا يوم عند الله عز وجل بألف سنة، فأيامنا هذه لا تساوي شيئاً، ولذلك لما قيل لأهل الدنيا: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113]، فإذا كان عمره خمسين سنة، أو مائة سنة وقارنه بيوم قدره خمسون ألف سنة، فإن عمره كله لا يساوي يوماً من أيام الآخرة، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] فهل ستضيع الخلود في الجنة بسبب يوم في الدنيا تحسبه يوماً طويلاً جداً، وهو عبارة عن أيام وليال وسنون قليلة تضيع في النهاية، وتذهب وتتساقط كأوراق الشجر وتذهب إلى ربك سبحانه لتقول: لبثنا يوماً؟ قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104] ويقولون: أو بعض يوم.
إذاً: المؤمن إذا أعطاه الله عز وجل من الدنيا عرف حق الله، وإذا منعه الله سبحانه فليحسن الظن بالله سبحانه أنه لا يمنعه إلا لمصلحة وراء ذلك لهذا العبد أن ينجيه من العذاب ويدخله جنته، ويمنع عنه الفتن في الدنيا، فإن رحمة الله عظيمة واسعة، قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].(427/3)
طمع الإنسان في طلب الدنيا وجمع ما فيها
ذكرنا أن الإنسان لو فتحت له الدنيا لطلب وطلب أكثر، ولا يشبع أبداًَ من الدنيا، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)، فطالب العلم لا يشبع أبداً، كلما ازداد علماً كلما ازداد علماً بجهله، فيطلب أكثر وأكثر ويتعلم أكثر، وكلما ازداد علماً كلما ازداد تواضعاً، وازداد إحساناً وإحساساً بأنه يجهل الكثير.
وطالب الدنيا كلما فتحت له الدنيا لم يشبع، يشيب ابن آدم ويشب معه اثنان: حب المال، وطول العمر، فطالب الدنيا يريد أن يعيش في الدنيا، ويريد أن يطول عمره، وكلما كبر في السن كلما ازداد حرصاً على البقاء وحرصاً على الدنيا، والصغير كلما ازداد في السن كلما ازداد إرادة للعودة إلى الدنيا، إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى.(427/4)
التحذير من الدنيا والاغترار بها
والله سبحانه يحذرنا من هذه الدنيا، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، أي: متاع يستمتع به المغرور، فتراه يستمتع بقوته، وتأتي عليه حالة المرض والضعف، ويستمتع بغناه وتأتي عليه حالات الضياع والفقر فيضيع غناه، ويستمتع بجماله ويأتي عليه الكبر والسن فيذهب الجمال، فهو يستمتع بالغرور لحظات ويضيع بعد ذلك ما استمتع به، فالحياة الدنيا زخرف وزينة، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مرة ليريهم هذه الدنيا، أخذهم إلى مزبلة، أي: قمامة لقوم، وقال: هذه الدنيا، هذا ملحهم وهذا لحمهم، وهذا طعامهم، فالدنيا تتبهرج للإنسان وتتزين له، ويظن أنه حصَّلها، فإذا بها تسحب منه أو يسحب هو منها، هذه هي الدنيا، فإياك أن تفتنك مهما كان لك فيها من شيء، وإياك أن تطلب فوق ما يكفيك، وإذا أخذت ما يكفيك فاحمد الله، فإذا طلبت أكثر من ذلك فقد تطلبه من وجه حرام، فتضيع به.
وقد عرفنا حديث حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة، ومرتين وثلاثاً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوقفه ويذكره صلوات الله وسلامه عليه، ويقول له: (يا حكيم! يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع).
فالإنسان الذي يطلب ويقول دائماً: هات هات، ويمد يده وينهم عليها لن يستفيد منها بشيء، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى له ثالثاً، وفي النهاية لا يملأ جوفه إلا التراب، يموت وينزل قبره والتراب هو الذي سيملأ جسده وعينه، وفهم ذلك حكيم بن حزام رضي الله عنه، وكان من أشراف العرب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: (فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) أي: لقد علمتني، فمن الآن حتى أموت لن أسأل أحداً شيئاً، وأنا سألتك أنت ولا أسأل أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، قال ذلك ووفى رضي الله تعالى عنه، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إلى العطاء، إذ كان يجعل العطاء للناس من الفيء ومن المغانم، فيأتي بـ حكيم بن حزام ويقول: خذ حقك الذي حصلت عليه من الجهاد وحقك في الفيء وفي الغنيمة، فيقول: لا، ويأبى أن يقبله، ومات أبو بكر وجاء عمر رضي الله عنهما، فكان عمر رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر رضي الله عنه للمسلمين: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، إني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.
رضي الله عنه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ولم يأخذ من إنسان شيئاً، ولم يطلب من أحد شيئاً حتى حقه الذي هو له في بيت المال كان يرفض ويأبى أن يقبله رضي الله عنه؛ لأنه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
حكيم فعل ذلك وكثيرون فعلوا مثلما فعل حكيم، فكانوا لا يسألون أحداً شيئاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على ألا يسألوا أحداً شيئاً، فكان أحدهم تقع عصاه وهو راكب على جمله فينيخ الجمل وهو راكب فوقه وأمامه أناس لو طلب منهم أن يعطوه العصا لأعطوه، فإذا سألوه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أسأل أحداً شيئاً، هذه هي بيعتهم، فقد بايعهم على أن يكونوا شرفاء في أنفسهم ولا يطلبون من أحد شيئاً، وبايعهم على أن ينزهوا أنفسهم عن مطامع الدنيا ولا يسألون أحداً من هذه الدنيا طالما أنهم يقدرون عليها، فكانوا على ذلك حين فتحوا الفتوح ولم ينبهروا، فتحوا ديار كسرى وديار قيصر ورأوا الذهب والمجوهرات، ورأوا ما فيها من أشياء فلم ينبهروا بها، ولم يمد أحد يده على شيء يأخذه لنفسه، وإنما يرجع كله للأمير ليقسم بين الناس المغانم والفيء بحق الله سبحانه الذي جعله لهم.
ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن)، وتعجب لهذا الشيء؛ إذ خاف على الناس من القرآن وخاف على الناس من اللبن، قال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك: (أما اللبن فيبتغون الريف، ويتبعون الشهوات، ويتركون الصلوات)، فهذا رجل عنده إبل وعنده بقر، فيأخذ إبله أو بقره فيرعاها بعيداً ويخرج من المدينة، فإذا جاء وقت الصلاة تركها، أو يصليها خارج المدينة، فتراه لا يريد أن يبتعد أكثر عن العشب، وتراه يخاف على بقره وعلى إبله، فيخرج ويبعد عن المدينة شيئاً فشيئاً حتى يترك الصلوات الخمس من أجل أن تدر إبله أو بقره اللبن، وبذلك يحافظ على إدرارها للبن فلا تضمر ضروعها، فيترك الصلوات حتى لا يصلي إلا الجمعة فقط، ثم بعد ذلك يترك الجمعة والجماعة، ولذلك قال لهم: أخاف عليكم اللبن، وليس كل الناس عندهم لبن، وليس كل الناس عندهم بقر، إنما هذا مثال يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: الشيء الذي سيشغلك عن صلواتك احذر منه.
فمن الناس من يقول يوم الجمعة: سأصلي الجمعة في مسجد كذا، فترى كل واحد يوسوس للآخر فيقول: هيا نصطاد وهو يوم جمعة، فيخرج ليصطاد، ويستحلي الصيد في النهار، فيبعد عن المسجد ويقترب من شاطئ البحر ويدخل ليصطاد فيضيع صلاة الجمعة، وهكذا كل يوم جمعة يضيع الجمعة، وهذا هو الذي خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم عليكم، وهكذا كلما اغتر الإنسان بشيء من حطام الدنيا منى نفسه بما شاء فيضيع الصلوات، ويضيع الجماعة والجمعة، ونسي الإنسان نفسه بعدما كان مواظباً على الصلوات، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاف عليكم اللبن، وقس على ذلك غيره.
قال: (والقرآن)، أي: أخاف على أمتي القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (يتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين).
يتعلم المنافق القرآن، كما ينزل المطر على أرض خصبة فتنبت نباتاً حسناً، وإذا نزل المطر على أرض غير طيبة أنبتت نباتاً غير طيب، والقرآن مطر ورحمة من الله عز وجل ينزل على الجميع، فالإنسان الذي نفسه طيبة ينتفع بهذا القرآن، ويخاف الله سبحانه، والإنسان الذي نفسه خبيثة لا يخاف الله فيتعلم القرآن ليجادل به، فكان يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين من جدال المنافقين، يخاف عليهم أن يقال فيهم: فلان شيخ، وهذا الشيخ يفتي بأن البنوك حلال، ولذلك ضاق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ممن يتأول القرآن، فتراه يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي صرح فيه بمنع بناء المساجد على القبور، يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم حذر أصحابه، فيتعلم الإنسان القرآن ويتعلم شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يدخل في الشرك بالله سبحانه.
فتراه يقول ببناء المسجد على القبر، ويقول: ليس في ذلك شيء، بل يتطاول أحدهم ويقول: هذه سنة، وأنتم تميتون السنة أماتكم الله، ونحن نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن مسجداً على قبر في حياته، وأما قولك: قياساً على المسجد النبوي، فالنبي لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، ولم يجرؤ أحد من المسلمين أن يرفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم أو يرفع جسده صلى الله عليه وسلم من قبره ليذهب به إلى مكان آخر، وهو الذي أخبر أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وقد دفن حيث مات صلى الله عليه وسلم، وحين وسع الصحابة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا يتحرون أن يتسع المسجد بعيداً عن قبره صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى عهد الصحابة وجاء من جاء بعدهم فوسع المسجد وأدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أحد يصلي إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه بحيث يكون خلف قبره صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: قبره صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه غيره، فقد حذر أن يتخذ قبره وثناً يعبد صلوات الله وسلامه عليه، كما كان أهل الجاهلية يفعلون عند الأصنام وعند التماثيل، فعندما يأتي إنسان ويتعلم من القرآن ويقول: يا أخي! قال الله في أهل الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، فنقول له: هذا شرع من قبلنا، ولا يكون شرعاً لنا، فإن شرعنا شرع مخصوص جاء إلينا ليعم الأمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ونسخ ما قبله من الشرائع، فكل ما كان قبلنا منسوخ بشرعنا، وكذلك هل في الآية أن المؤمنين فعلوا ذلك؟ ومن الذي قال ذلك؟ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21]، فولاة الأمور هم الذين قالوا هذا الشيء، وهل ولاة الأمور في كل عصر كانوا على علم بالسنة أو على علم بالقرآن؟ إذاً الذي فعل هم الذين غلبوا على أمرهم، فإن كانوا مؤمنين فهذا شرع من قبلنا وليس شرعاً لنا، إنما شرعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول محذراً من ذلك: وهو في آخر حياته، وهو صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا أني أحذركم من ذلك)، فيجيء الإنسان ويقول: لا، إنما يقصد ألا تذهب وتسجد له، وهل كان هناك سجود لأحد بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: إن معاذ بن جبل ذهب إلى الشام ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، فأول ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الأرض قدام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله! وجدتهم يفعلون ذلك لكبرائهم وأنت أولى، فقال الن(427/5)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا)
قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، (ينزل) فيها قراءتان: قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: (وهو الذي يُنْزِلَ) وقراءة باقي القراء بالتثقيل: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ)، و (الغيث): المطر العظيم الذي يغيث الله به العباد، يخرجهم من ضنك وضيق وقحل ومحل إلى نعمة وخصب، وإلى إخراج ما أنزل الله عز وجل عليه المطر من ثمرات، ومن نبات أغاثه الله سبحانه.
ويستحيل أن يقدر مخلوق من مخلوقات الله عز وجل أن يأتي بالمطر أو بالغيث إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى:28]، فينزل الغيث الذي يغيث، فقد تأتي سحابة في السماء وتنزل مطراً قليلاً لا ينبت شيئاً، ولا يكون من ورائه شيء، فهذا مطر، والإنسان يحاول فقد حاولوا في أمريكا وفي اليابان وغيرها أن ينزلوا مطراً، وهم يعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزل الغيث، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
فإنزال الغيث ليس للناس فيه شيء، وإنما الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، فقد حاولوا أن ينظروا كيف ينزل هذا المطر، فعرفوا أن ذرات التراب يتجمع عليها بخار الماء حتى يتكثف ويتثاقل عليها، ثم يكون هناك ثقل بزيادة معلومة، فحاولوا أن يثقلوا هذه السحابة بشيء حتى تعمل وتنزل علينا المطر، وفعلوا ذلك ونزل عليهم مطر على شكل رذاذ، لكن ليس هو الذي خلق السحاب، ولا هو الذي كثف الماء في السحاب، ولا هو الذي أعطاها وقتها للإنزال، السحابة وصلت درجة امتلأت فيها وانتظرت إذن الله سبحانه وتعالى، فجاءت الأسباب وثقلت فنزل المطر حيث يشاء الله سبحانه، فما الذي يصنعونه هم؟ لقد حاولوا خلق الجنين في المرأة الحامل، والله عز وجل هو الذي خلق الجنين، وهو الذي كونه، وأوجده، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:50]، فإذا جاء وقت الجنين وهم منتظرون الشهر التاسع وتعسرت المرأة في الولادة قالوا: سنفتح بطنها، أنتم أخذتم بسبب من الأسباب فقط، فلا أنتم الذين خلقتم الجنين، ولا أنتم الذين أوجدتموه، بل الله هو الذي أوجد كل شيء، ولذلك أرادوا عمل شيء مكلف جداً، وهو البحث عن سحابة وتفجيرها بصاروخ، ومن الممكن أن ينزل المطر وقد لا ينزل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ} [لقمان:34]، وحده سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34].
فعلم إنزال الغيث متى ينزل؟ وكيف ينزل؟ وعلى من ينزل؟ وكيف يقسم؟ الله عز وجل وحده عنده علم ذلك، وهي آية من آيات الله سبحانه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:28]، قد يقنط الإنسان من الرحمة، ويصاب باليأس إذا لم يكن هناك مطر، وانظر إلى البلاد التي إذا منع الله عز وجل عنها المطر كيف يصنعون؟ هناك بلد قريب منا جداً في جنوب الغرب منا وهي النيجر، تعيش هذه الأيام في مجاعة شديدة جداً، إذ منع الله عز وجل عنهم المطر سنة واحدة، فلم تثمر الحقول شيئاً، فإذا بهم يبحثون عن الطعام ويموت الكثير منهم جوعاً، ويحدث لهم هزال شديد جداً، وتفشى المرض فيهم، فأخذوا يبحثون عن الطعام في جحور النمل، يبحثون عن مكان تجمع النمل ليأخذوا الحبوب، نسأل الله أن يفرج عن عباده الهموم ويرفع عن عباده البلاء، ونسأله عز وجل أن يرفع عن المسلمين في كل مكان مقته وغضبه سبحانه، وأن يسقيهم من فضله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا)، إن بلادنا هذه حينما تقرأ في التاريخ أتى عليها زمان لم يجدوا ما يأكلون فيه، وقد ذكر الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام وغيره أن حفنة من القمح كانت تباع بمثلها من الذهب، من المجاعة الشديدة في ذلك التاريخ، قال: حتى أكل الناس كل شيء وأكل بعضهم بعضاً، كانوا يحملون الميت ويذهبون به إلى المقابر وقبل أن يصل إلى المقابر يكون الناس قد أخذوه وأكلوه، وفي الشام حدث ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالله على كل شيء قدير، ونحمد الله سبحانه على فضله، ونحمده على رحمته، ونحمده على ما ينزل علينا من بركات من طعام ومن شراب، فقد رأينا مثل هذه الأشياء، ونسأل الله عز وجل أن يرفع عن المسلمين ما هم فيه.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ)، ورحمة الله عز وجل صورها عظيمة وكثيرة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فينشر المطر وينزل برحمة الله عز وجل على البلاد، فيخرج بها ما يشاء الله عز وجل من ثمرات ونبات، ومما يستفيد منه الخلق، ينشر رحمته ويبثها في كل مكان.
قال تعالى: (وَهُوَ الْوَلِيُّ)، يختم الله الآية باسم من أسمائه الحسنى سبحانه (الولي) أي: مولاك، الذي يتولى أمرك، ويدبر أمورك، فتوكل على الله سبحانه فهو وليك، قال تعالى: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) وانظر لجمال أسمائه الحسنى وكيف يختم بها سبحانه وتعالى الآيات، يقول لك: لا تخف أنا ربك، أنا أتولى أمرك، أنا أدبر لك ما تحتاج إليه، وأشدد عليك لترجع إلي ولتدعوني، فأنا أفعل بك الخير وأصرف أمورك، وأكون وكيلك، فالله هو الولي الحميد سبحانه وتعالى، وهو المحمود وإن لم تحمده أنت، وإن لم يحمده خلقه، فالله الحميد المستحق لذلك، أنزل على العباد من نعمه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وإن كفروا وجحدوا النعمة فإن الله يقول: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، ويصبر ويحلم عن عباده.
فهو الحميد الذي يحمد نفسه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2].
فالله سبحانه هو الولي الذي يتولى أمر عباده ويغيثهم سبحانه وتعالى وينجيهم، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام:63]، فإذا أنزل عليكم الغيث فاحمدوا الله واشكروه على نعمه سبحانه، فإذا فعلتم زادكم من فضله سبحانه، وإن لم تفعلوا فاحذروا من عذاب الله، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(427/6)
تفسير سورة الشورى [29 - 31]
إذا تفكر الإنسان في خلق الله سبحانه عرف حقارة نفسه أمام خلق السماوات والأرض بما فيهما من مجرات ونجوم وكواكب، وقد خلق الله من الدواب في الكون ما لا يعلمها إلا هو سبحانه، ومن فضل الله وكرمه أن يبتلي الإنسان في نفسه أو ماله أو غير ذلك ليكفر عنه سيئاته، ويزيد له في حسناته.(428/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:29 - 30].
إن خلق السموات والأرض من آيات الله سبحانه وتعالى لأولي الألباب، وآياته لقوم يعلقون، وقد ذكر الله عز وجل خلق السموات والأرض في كتابه العزيز، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات من آيات الله سبحانه وتعالى، وعن عظيم هذا الخلق، وأمرنا أن نتفكر في خلق السموات والأرض، ونهانا أن نتفكر في ذاته سبحانه وتعالى، وأمرنا حتى نستدل على قدرته وعلى قوته وعلى عظمته أن نتفكر في آياته سبحانه وتعالى، فالإنسان إذا تفكر في الذات الإلهية يأتي إليه الشيطان فيوسوس له، فنهانا عن ذلك، فنحن مأمورون بالتدبر في آيات الله لنعرف من هو الله سبحانه، فهو يخبرنا عن نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23 - 24].
إذاً: هو الذي يخبر عن نفسه سبحانه، ونحن نؤمن ونصدق، أما أن تتخيل ذلك فلا يجوز؛ لأنه لا تدركه الأفهام، ولا تبلغه الأوهام سبحانه وتعالى، ومهما حاول الإنسان أن يتفكر فلن يصل إلى ذلك، فلذلك أمرنا أن نتفكر في آياته لنستدل على قدرته، وعلى قوته، وعلى عظمته، وعلى أنه وحده الرب الذي يستحق أن يعبد.
فمن آياته خلق السموات والأرض، وقد قال لنا في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
أي: لمن عندهم عقول، وعندهم قلوب تعقل، وبصائر يرون بها آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فيعقلون أنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له.
وفي سورة آل عمران في آخرها يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:189 - 191].
إذاً: تدبروا في آياته وفي خلقه، وعلموا أن الله لم يخلق هذا عبثاً ولم يخلقه سدىً، وإنما خلقه لحكمة منه سبحانه، فتفكروا فيما وراء ذلك، قال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:191] إذاً: وراء ذلك حكمة الله، وقدرة الله، وعلم الله وأسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فهم قد تأملوا في آياته، وتأملوا في أسمائه وصفاته، وعرفوا ربهم سبحانه وتعالى فقالوا: ما قدرناك حق قدرك، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] سبحانه وتعالى.
هذا ربنا العظيم الذي يأمرنا أن نتأمل وأن نتفكر، وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي يخبرنا أن الأرض وما فيها إذا قورنت بالسموات ما هي إلا كحلقة في فلاة، أو قطرة في ماء، وإذا جمعت السموات والأرض وحاولت أن تعرف حجمها بجوار كرسي الله سبحانه لوجدت أن حجمها كحلقة في فلاة، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد علماً بجهله، وقد سمعنا قبل ذلك قوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أي: أنه الحق من عند الله، وأن هذا الكتاب حق، وأن النبي الكريم حق، وأن الساعة حق، وأن ما أنزل الله عز وجل من السماء إلينا شريعةً ومنهاجاً هو الحق، قال تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60].(428/2)
عظمة خلق الله تعالى في النجوم والأفلاك
أهل الفلك يحدثوننا عن أشياء نحن لا نعرفها، ولا يتبين لنا ما فيها، وإذا رأينا من يعد النجوم قلنا: هذا فارغ ليس لديه عمل، لكن أهل الفلك فرغوا لذلك وعدوا النجوم التي يرونها، وأخبرونا بما وراء ذلك، فأخبرونا أن أعدادها هائلة جداً، فتفكروا في خلق السموات والأرض حتى تعلموا من هو ربكم سبحانه الذي خلق ذلك، إذا قرأت {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] عرفت علو الله وعظمته سبحانه وتعالى، فأنت إذا نظرت إلى الأرض، ونظرت إلى الشمس بجوارها عرفت من علماء الفلك أنها بعيدة جداً عن السماء، وعن أطراف الكون الذي ندركه أو يدركونه هم، وعلى ذلك فلا تستطيع أن تدرك أبعاد هذا الكون الذي ندركه، فهل من الممكن أن يدرك الإنسان كم مساحة الكرة الأرضية التي نعيش عليها؟ إن الكون الذي نعيش فيه تملؤه هذه النجوم والأقمار والشموس ولا نستطيع أن نعرف حدوده، بل إن علم الفلك لم يصل إلى ذلك أبداً، وأهل هذا العلم يقولون: مستحيل أن ندرك ذلك، فهم يقيسون المسافات في هذا الكون، والمسافات بين النجوم بعضها البعض يقيسونها بالسنة الضوئية، قال الله تعالى في هذه النجوم: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] إنك ترى النجم على ما يجيء لك من الضوء فتقول: هي تحركت من مكانها وانتقلت إلى مكان آخر، فأنت ترى موقعها ولا ترى النجم نفسه، فالضوء يصل إليك من النجم في أربع سنوات ضوئية ونصف سنة ضوئية.
إن المسافات إذا كانت أضخم من ذلك بكثير فإنك لن تحسبها إلا بالثانية الضوئية، والسنة الضوئية، والثانية الضوئية معناها: المسافة التي يقطعها الضوء خلال ثانية واحدة إلى بعد ثلاثمائة كيلو متر.
إن الشمس تبعد عن الأرض بحوالي مائة وأربعين مليون كيلو متر، وهذا بعد واسع جداً، لكن قياساً على غيرها من النجوم فهو بعد بسيط جداً، فعندما نحسب بعد النجوم نحسبه بالسنة الضوئية، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، اضرب ثلاثمائة وستين يوماً في أربع وعشرين ساعة، ثم اضرب في ستين دقيقة، ثم اضرب في ستين ثانية، ثم تحصل على السنة الضوئية وتضربها في ثلاثمائة ألف كيلو متر، وبذلك تستنتج مسافة السنة الضوئية، فالسنة الضوئية تساوي تسعة وثلاثة من عشرة مليون كيلو متر، والمليون في المليون ترليون كيلو متر، إذاً: تسعة وثلاثة من عشرة ترليون كيلو متر، هذه هي السنة الضوئية، فإذا قيل لنا: إن هذا النجم في السماء يبعد عنا بمقدار أربع سنوات ونصف سنة ضوئية، فاضرب في تسعة وثلاثة من عشرة ترليون سيكون الناتج: أربعين ترليون كيلو متر بين هذا النجم وبيننا.
إن النجوم زينة للسماء الدنيا، ولا ندري كم بعدها في السماء الدنيا، وقد خلق الله سبع سموات، وقد استفتح النبي صلى الله عليه وسلم ففتحت له باب السماء الدنيا، وسلمت عليه الملائكة ووجد فيها من رسل الله فلاناً وفلاناً والسماء الثانية مثلها، فهي سموات عظيمة جداً، وبعد الكون بعد عظيم شاسع واسع، يقول العلماء: يقدر قطر الجزء المدرك من الكون بأكثر من عشرين بليون سنة ضوئية، وهذا أعظم مما يتخيله الإنسان، وهو مخلوق خلقه الله.
وإذا أردنا أن نصنع آلة حديثة توصلنا إلى أبعد من ذلك لما استطعنا؛ لأن الكون يتسع، ودائرة الكون تكبر، فالكون تحت هذه السماء الدنيا، والسماوات فوق السماء الدنيا، والله سبحانه فوق السماوات، ويقول العلماء: إن أفلاك الكون تجري بسرعة الضوء، أي: ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، ويقولون: هذا الجزء المدرك مستمر في الاتساع منذ لحظة الخلق الأولى للكون وإلى أن يشاء الله، وذلك بمعدلات فائقة تتباعد بها المجرات عن المجرة التي نحن فيها، فالمجموعة الشمسية بكل ما نراه حولنا في مجرة واحدة وتتباعد المجرات بعضها عن بعض، وتكاد تقرب من سرعة الضوء، وعلى ذلك يقول العلماء: فإننا كلما طورنا أجهزة الرصد والقياس وجدنا هذا الجزء من أطراف الكون المدرك قد تباعد واختفى عن إدراكنا! فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى في هذا الكون العظيم!! يقول العلماء: ويحصي علماء الفلك الجزء المدرك من الكون بحوالي مائتي ألف مليون مجرة، أي: مائتي مليار مجرة، هذا الذي تمكنوا من إحصائه، والمجرة التي نحن فيها يسمونها: مجرة درب التبانة، وفيها شموس وأقمار وفيها نجوم بعضها مثل الشمس وبعضها أكبر منها، وبعضها أصغر، ويقولون: المجرة التي نحن فيها وتنتمي إليها الأرض على هيئة قرص مفلطح، هذا القرص يبلغ قطره مائة ألف سنة ضوئية، وسمك هذه المجرة يبلغ عُشْر هذه القيمة وهو عشرة آلاف سنة ضوئية، والسنة الضوئية مقدارها تسعة وثلاثة من عشرة ترليون كيلو متر.
والمجرات تتخذ أشكالاً متعددة تحتوي على عدد من النجوم، والمجرة التي نحن فيها وتنتمي إليها الأرض تحتوي على عدد من النجوم يتراوح هذا العدد بين الألف مليون والترليون نجم، وذكروا أشياء كثيرة أكثر من ذلك، وغرضنا ليس هو إحصاءها، وإنما الغرض: أن هذا الكون واسع وفسيح جداً يحار له العقل ولا يدركه، وعندما يتسع الكون يضيع ما قد عرفنا قبل ذلك، كل هذا تحت السموات والأرض التي هي فوق هذا العالم، فإذا كان هذا الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ندرك بعضه ولا نقدر أن ندرك أكثر من هذا الذي أدركناه، والعلماء يقولون: إن هذا الكون ضخم جداً، وهناك تجمعات أخرى نحن لا نراها من هذه المجرات، ولم نستطع أن نصل إليها في هذا الكون؛ لأنها تبعد في كل وقت فيقف العقل البشري عاجزاً عن أن يصل إلى حجم الكون، وهو خلق من خلق الله سبحانه.
فإذا قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] سبحانه الكبير باللام التي تفيد اختصاصه وحده سبحانه بهذه الصفة على عظمتها وعلى أحقيتها، فإذا قلنا: هذا الكون كبير، وفلان كبير، وفلان أكبر من فلان، فإننا نقول: الله هو الكبير، وهو أكبر من كل شيء سبحانه، فإذا دخلت في صلاتك وقلت: الله أكبر، أي: الله أكبر من كل شيء، وإذا واجه الإنسان معضلة من المعضلات أو مشكلة من المشكلات يصلي فيقول: الله أكبر من ذلك، الله الكبير سبحانه القادر على أن يحل المشاكل كلها سبحانه وتعالى، فالله الكبير أكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وأنت لم تدرك من هذا الكون شيئاً، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].
إن الإنسان في تخصصاته في الدنيا إذا تخصص في الطب ثم تخصص في شيء آخر كالسمعيات مثلاً، ثم في الزراعة، فهذا شيء صغير جداً أمام علم الله سبحانه، فالإنسان لا يحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ولهذا أخبرنا سبحانه أن من آياته خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:17 - 19]، أفلا ينظرون كيف خلقت هذه الأشياء؟ وقال لنا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ولما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها)؛ ولذلك إذا قرأت: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] فتأمل في خلق الله سبحانه تعرف قدرة ربك سبحانه وتعالى الذي أحاط بهذا كله علماً، فهذه الشموس، وهذه النجوم التي تمشي وتجري فتروح شمالاً ويميناً، وكلها تدور في هذا الكون بانتظام منسق، ويجعل الله سبحانه وتعالى لكل شيء أجلاً، فهذا النجم ينفجر، وهذا النجم يبدأ ميلاده كما قدره الله سبحانه وتعالى.
والإنسان حيث يشاهد هذا الكون يجد أن كل شيء يحييه الله عز وجل ويميته سبحانه، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] , وقال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:5 - 7]، رفع هذه السموات، وأنزل لكم العدل في أرضه حتى تعدلوا وحتى تزنوا بالحق، وحتى لا تخسروا في الميزان، علمنا العدل الذي به قامت السموات والأرض، وقد قامت السموات والأرض بحساب دقيق عادل من الله سبحانه، ولو أن هذا الحساب فيه شيء من الخطأ لسقط الكون كله، ولتخبطت النجوم في بعضها، وهلك الكون، ولكن الكون موجود به ذلك، ولذلك يخبرنا ربنا سبحانه عن آية من آياته يسمونها: آية التمانع، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فلو كان في الكون آلهة إلا الله لفسد هذا الكون، فنقول: دليل التمانع أنه إله واحد امتنع من الفساد، فالسموات لها نظام موحد، فالنجوم تطلع كل يوم من مكانها، والشمس من مكانها، والقمر يطلع على عادته، والأرض تسير في مكانها منذ أن خلقها الله سبحانه في فلكها، قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] ولو كان هناك آلهة غير الله لقال إله للشمس: اطلعي، والآخر يقول: لا تطلعي، وذلك يقول للأرض: سيري من هذا المكان، والإله الآخر يقول: من هذا المكان، فلو كان ذلك لهلك الكون وفسد.
والعادة أن المركب فيه رُبَّان واحد، ولا يمكن أن يسيره ربانان، فهذا الكون العظيم هل يعقل أن فيه كذا إله يدبر أمر هذا الكون ويسيره؟! قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:22 - 23].
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) إذا قلنا: إن هذه الأرض التي نراها عظيمة وفسيحة بجوار السموات كحلقة في فلاة، وأن هذا الكون الذي حولك تحت السماء، فكيف تكون سما(428/3)
عظمة خلق الله تعالى فيما بث في السماء والأرض من دواب
قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) فهذه آية واحدة من الآيات الموجودة في الكون، فكونه يجعل لنا سبحانه النجوم الزاهرة في هذه السموات ويجعل لنا في هذه السموات ما نستدل به عليه، ومن الناس من يعرف أن هنا شرقاً وهنا غرباً بهذه النجوم، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] فأعطى الإنسان العقل حتى يفكر في ذلك فيهتدي إلى سبيله ويهتدي إلى خالقه سبحانه وتعالى.
وكذلك خلق الله في السموات دواباً لا نعلمها، يقول العلماء: أردنا أن نصعد كوكب الزهرة كي نعرف هل هناك مخلوقات لله سبحانه، أم أنه ليس هناك غيرنا في هذا الكون؟ فقمنا بتحليل تربة كوكب الزهرة لكي نعرف هل هناك أوكسجين أو ماء أم ليس هناك شيء من ذلك؟ فوجدناه محاطاً بالجليد، ولم نعرف من أين جاء هذا الجليد؟ فالله يبث ما يشاء من خلقه فيما يشاء سبحانه وتعالى ويخلق ما يشاء.
وقد علمنا أن السموات ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك من الملائكة، وعلمنا أن الله عز وجل جعل ملائكة في الأرض سياحين يسيحون في الأرض ويبحثون عن مجالس الذكر، ويحيطون بنا ويحفظوننا بأمر الله سبحانه، ونحن لا نرى هذه الملائكة، ولكننا نؤمن بها ونعلم أن قوتها أعظم منا بكثير، وأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فإذا تكلم الإنسان وقال: النجوم خالية فارغة ليس فيها أحد، فنقول: الله يخلق ما لا تعلمون، فالأرض حولنا فيها ملائكة وفيها جان وفيها شياطين، ونحن لا نرى شيئاً من ذلك، ونؤمن بوجود هذه الأشياء، فالله بث في السموات دواباً، وبث في الأرض دواباً، ونحن نعلم شيئاً ويخفى عنا الكثير، والله يعلم كل شيء سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ) أي: نشر، وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أي: من دلائل قدرته وعظمته سبحانه وتعالى آية له، ومن معجزاته وعلامات قدرته ودلائل قوته سبحانه أن خلق السموات وخلق الأرض وبث في السموات والأرض دواباً، وكل ما يدب في مكان فهو دابة.
فقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) أي: من آيات الله سبحانه؛ فإذا حاولت وتأملت كم من الدواب على هذه الأرض وكم من الأجناس التي خلقها الله، فإن تحت كل جنس من هذه الأجناس أنواعاً، وتحت كل نوع أصنافاً، ويقسم العلماء هذه الأشياء ويحاولون حصر الأجناس، وما قدروا أن يحصروها، والحصر مستحيل لخلق الله سبحانه، والله يعلمها بأفرادها فرداً فرداً، وهذا الفرد ما فيه من أعضاء خلقها الله سبحانه يعلمها واحداً واحداً، ويعلم كيف تسير؟ وكيف تقوم؟ وكيف تنام؟ وهو الذي يحييها ويميتها سبحانه، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) وقد عرفنا هذا، وعرفنا أن الحجم أعظم بكثير، والعدد عظيم وعظيم جداً، يخبرنا ربنا سبحانه أنه أحصى كل شيء عدداً، فنحن نجتاز المليون والمليار والترليون، وما بعدها من أعداد لا نستطيع معرفتها، فالله أحصى كل شيء عدداً، وكل شيء عده الله وأحصاه ولا يغيب عنه شيء سبحانه، فهو خالقه ومالكه سبحانه وتعالى، وبث هذه الدواب التي يعلمها في هذا الكون، ثم هو على جمعهم إذا يشاء قدير.
يقولون: إنه كلما ازداد العدد على الإنسان كلما صعب الحساب وصعب الجمع، فالله عز وجل يخبر أنه هو الخالق، وأنه وحده الذي ينفرد بذلك، وأنت لا تقدر إذا زاد العدد عليك أن تجمع هذا العدد، لكن الله يقدر على ذلك سبحانه، وهو قادر على جمع كل ما خلق من دواب، وكل ما خلق في هذا الكون سبحانه وتعالى.(428/4)
قدرة الله تعالى على جمع خلقه يوم القيامة
قال تعالى: (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، ولم يقل: لو يشاء، وإنما قال: إذا يشاء؛ لتحقق ذلك، فهو لا يمتنع أبداً، فوقتما يشاء سبحانه سيجمع الخلائق، ويحشر الجميع، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، (وهو على جمعهم إذا يشاء) أي: في الوقت الذي يريده ويشاؤه (قدير) سبحانه وتعالى.
إذا نظرنا لهذا الإنسان المخلوق كم يوجد من البشر على هذا الكون؟ نقول: الموجودون الآن من البشر أحياء على هذا الكون ستة مليار، فكم ماتوا منذ خلق الله آدم؟ وكم يخلق الله إلى أن تقوم الساعة؟ وكم العدد كله؟ وكم من المليارات، وكم من الأعداد العظيمة من البشر؟! وكل إنسان من هؤلاء خلقه الله وخلق له رزقه، وحسب له حياته ووقت مماته سبحانه وتعالى، خلقه ومعه رزقه وعمله، وإما شقي أو سعيد، ومكانه جاهز في الجنة أو في النار، أليس هو العظيم العلي الكبير سبحانه وتعالى؟! والذي يعلم كل شيء وأحاط بكل شيء علماً ولا يضيع منه شيء، ولا يغيب عنه شيء، ولا ينسى ربك أحداً، ولا ينسى ربك شيئاً سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه يأمرنا أن نتدبر في هذا الكون، فالكون عظيم، والذي خلقه هو الله الأعظم سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر أن يجمع الناس، فإذا كان ربنا خلق هذا الكون وسيجمعهم بعد ذلك فهل يستطيع أحد أن يهرب من ربنا سبحانه وتعالى؟! فالله هو الذي دبر هذا الكون كله، وكل شيء يجري تحت مشيئته وقدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] فهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وكل ما في الكون يحركه الله، وكل شيء يدور وكل شيء يجري في هذا الكون بأمر الله، ومن العجيب أن حركة كل شيء في هذا الكون حركة عجيبة جداً، والناس الوحيدون الذين يوافقون هذه الحركة هم المسلمون، فأنت حين تتحرك وتدور حول الكعبة تدور مثلما يدور الكون كله، فتدور عابداً لله سبحانه، تطوف ببيت الله سبحانه كما يطوف الكون كله بمثل هذه الحركة، وهي حركة عجيبة؛ إذ أن الكون كله يدور على مثل هذه الحركة، وقد أمرنا الله نحن المسلمين أن نطوف حول البيت بمثل هذه الحركة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى، والذي خلق ذلك كله يقول: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] فلا مهرب ولا مفر من الله، فهو الذي أحاط بالكون العظيم كله، فكيف تهرب من الله وأنت لا تستطيع أن تخرج من هذا الكون؟!(428/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)
يقول الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فأنت ضعيف مخلوق خلقك الله سبحانه، وهو القوي العزيز الرحيم سبحانه، والإنسان حين يعصي الله يعاقبه الله بشيء من المصيبة بكرمه وفضله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فأنتم استحققتم ما وقعتم فيه فجازاكم الله، ولو جازانا الله على كل مصيبة فلن نقدر أن نتحمل ذلك.
قال تعالى: (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فجازاكم بالبعض فهو يعفو عن الكثير سبحانه وتعالى لعلكم تعودون إليه وتتوبون إليه سبحانه وتعالى.
يقول لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) انظر إلى رحمة الله وكرمه سبحانه وتعالى، فحتى لا توافي ربك بمعاص كثيرة يوم القيامة يبتليك الله عز وجل بشيء من التعب والنصب أو مرض تؤذى به، أو جرح أو وخز إبرة أو شوكة تشاكها فيعطيك حسنات، أو يكفر عنك من سيئاتك، فتلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد خفف عنك بمصائبك.
قال تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) لذلك إذا حدث لك شيء من ذلك فقل: الحمد لله، ولا تعترض على أمر الله، فكله بما كسبت أيدينا ووقوعنا في المعاصي، فالله يفعل فينا ذلك رحمةً بنا، فالله لا يحاسبنا على كل المعاصي -فهو أكرم من ذلك- وإنما ببعضها تذكرةً لنا بأننا ضعفاء، فالإنسان ضعيف لا يقدر أن يمنع نفسه، وهو الذي يتعاظم على الناس ويقول: أنا قوي، فإذا شاكته شوكة عرف قدره، وعرف أنه ضعيف فتراه يصرخ من جراء ذلك، فالله العظيم سبحانه يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وهذه قراءة الجمهور، وقرأ نافع وأبو جعفر، وابن عامر: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) بغير فاء.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن) إن الهم الذي يهمك ويضايقك لك أجر فيه من الله عز وجل إذا قلت: الحمد لله، ورضيت بقضاء الله وقدره، وعلمت أن ذلك بما كسبت يداك ووقوعك في المعاصي، فإن الله يجعل لك في ذلك أجراً، لكن لا تطلب من ربك أن يعاقبك على ذلك، ولكن اطلب رحمة الله سبحانه فهو يعفو عن كثير سبحانه وتعالى.
قال: (ولا هم ولا حزن ولا أذى) أوذي بكلمة ضايقته، أو مر في الطريق فأوذي وتقطعت ثيابه فحصل فيه جرح أو أذى، أو أصابه الغم أياماً وليالي، كل هذا تكفير لسيئات الإنسان، وزيادة حسنات عند الله سبحانه، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
جاء في حديث في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه دخل شباب من قريش عليها وهي بمنى وهم يضحكون -ولعلهم أقرباء للسيدة عائشة - فدخلوا عليها وهم يضحكون قالت: وما يضحككم.
قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أن تذهب، قالت عائشة: فلا تضحكوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) فتضحك على ماذا؟ تضحك على المنظر الذي أمامك؟ ألا تعلم أن من وراء ذلك يكفر الله عنه سيئات.
إذاً: حقيقة هذا الأمر: أن الله يكتب له حسنات، فهل تضحك على أن الله يكتب له حسنات، وتضحك على أن الله يكفر عنه سيئات؟ لا تضحك على مثل ذلك، وإذا لم يتبين لك ذلك فلا تضحك على مصيبة أخيك، ولا تشمت بمصيبة أخيك فيعافيه الله ويبتليك.
ولذلك كانت السيدة عائشة كثيراً ما تتمثل ببيت واحد من العرب: فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا تذكر أن الدهر إذا أناخ بأرض قوم أو على قوم أناخ على أناس آخرين، وهذه عادة الإنسان في هذا الكون أن الله عز وجل يضعه ويرفعه، فإذا رأيت إنساناً قد وضعه الله فلا تشمت به؛ لأن الضر سيكون عليك بعد ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه).
قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [الشورى:31] ذكر الله لنا من خلق السموات والأرض وقدرته العظيمة الفائقة الباهرة، وهذا الخلق العظيم الذي يحيرنا نحن من خلق الله، فأين نفر من الله سبحانه؟ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) فأنت إذا هربت من الله إلى الله، ستهرب من الله إلى أين؟ إلى الله سبحانه، فارجعوا إلى ربكم وتوبوا إليه وأنيبوا، ارجعوا إلى ربكم ولا تفروا، فأين المفر من الله سبحانه وتعالى وهو القادر عليكم.
نسأل الله من فضله ورحمته إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(428/6)
تفسير سورة الشورى [30 - 34]
يذكر المولى سبحانه أن كل مصيبة تنزل بالإنسان سببها الذنوب والآثام، ومن عظيم رحمته أنه يعفو عن كثير من الذنوب ويغفرها سبحانه، ثم بين بعد ذلك عظيم قدرته في إحاطته بخلقه وأنه لا يعجزه أحد منهم، وليس لهم من قريب أو ناصر يمنعهم من الله إن أراد حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم، ثم ذكر آية أخرى دالة على عظيم قدرته وكمالها من جهة، ومن جهة أخرى تدل على ضعف الإنسان وأنه لا يفعل شيئاً إلا بعد أن يشاء الله تعالى، وهذه الآية هي تلك السفن التي تمخر عباب البحر، فإن أراد الله أسكن الريح فسكنت معها، وإن أراد أن يوبقها أوبقها، ولا يتعظ بهذه الآيات إلا من كان كثير الصبر على البلاء جزيل الشكر على النعماء.(429/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى بأننا لا نبتلى ببلاء في هذه الدنيا إلا بذنب اقترفناه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، ومع ذلك فالله كريم عظيم سبحانه يتكرم ويعفو عن الكثير.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل.
والصحابة لهم تعبيرات جميلة في آيات من كتاب الله سبحانه، فيرى بعضهم هذه الآية أرجى، والبعض الآخر قد يرى آية أخرى.
ومعنى قوله: (هذه أرجى آية) أي: أرجو من الله عز وجل فضلها، وما ذكر في هذه الآية من عفو الله عن الكثير الذي تطمئن الإنسان المؤمن.
وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، قالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأن فيها غفران كل الذنوب.
وقالوا أيضاً في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، هي أرجى آية في كتاب الله طالما الإنسان على التوحيد، ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يقع في الشرك بالله، ولا في الكفر فهو يرجو رحمة الله.
ومعنى قولهم: هذه أرجى، أي: من آيات الرجاء التي يرجو المؤمن ما فيها من فضلٍ وتكفيرٍ ومغفرة.
كذلك هذه الآية: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ)، أرجى آية في كتاب الله، فإذا كان يكفر عنا بالمصائب، ويعفو عن كثير، فماذا يبقى بعد كفارته وعفوه، فابتلاك ببعضها في الدنيا وعفا عن كثير سبحانه، فإذا كان الأمر بين الابتلاء وبين العفو فماذا يبقى بعد ذلك؟ والغرض بيان سعة رحمة رب العالمين سبحانه.
والمؤمن يرجو الله ويخاف من ذنوبه، ويعلم أن الله غفور رحيم، وأن الله شديد العقاب، فلابد أن يسير في الدنيا بين هذين الأمرين، أي: بين الخوف والرجاء، فيخاف ذنوبه أن توبقه، ويحب ربه ويرجو رحمته، ويحسن الظن به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه وهو يموت: (كيف تجدك، قال الرجل: أجدني أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعا في قلب عبدٍ في مثل هذا الموضع إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو).
فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، والمؤمن يعبد ربه بين الخوف والرجاء، كما كان أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فقد قال الله عز وجل عنهم: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] أي: رغبة فيما عندنا، ورهبة مما عندنا، فهذا مقام الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، كلهم يعبدون الله عز وجل بين الخوف والرجاء رغباً ورهباً.
قال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)) جاء عن السلف رضوان الله عليهم في ذلك كلام جميل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، فكل ما يبتلى به الإنسان يكفر الله عز وجل عنه من خطاياه لذلك، وهذا في الإنسان المؤمن الموحد لربه سبحانه، الذي يعبد ربه، ويقع في الذنوب، فالله يتجاوز ويعفو ويغفر ويبتليه في الدنيا بذلك.
أما الكافر فليس بعد الكفر ذنب، إنما يعافي الله تعالى له بدنه، ويعطيه مالاً وولداً؛ حتى يلقى ربه سبحانه، وليس له عنده شيء، وليس له حجة.
يقول الحسن: دخلنا على عمران بن حصين رضي الله عنه، وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأفاضل الذي كانت الملائكة تسلم عليه، وكان قد أصيب ببواسير، فلما اشتد عليه المرض طلب من يكويه فكوي، فكان آخر العلاج الكي، وهو بغيض، وقد كان العرب يستخدمونه كنوع من الوقاية من الأمراض؛ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكي، فلا يستخدم إلا في أضيق الحدود كنوع من العلاج، مثل: توقيف النزيف، أما أنه وقاية من العلاج فلا.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان الشفاء ففي ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية نار، وأنهاكم عن الكي).
فـ عمران بن حصين رضي الله عنه لما كوي دخلوا عليه بعد ذلك، ووجدوه يتألم رضي الله عنه ويقول: لقد اكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا.
ويقصد أنه بعد أن اكتوى لم تعد الملائكة تسلم عليه، ثم ما لبث أن عادت الملائكة تسلم عليه كما كانت.
فـ الحسن البصري دخل على عمران بن حصين رضي الله عنه، فقال رجل من الحاضرين: إني ليمنعني من زيارتك ما بك من الوجع.
فقال عمران: يا أخي! لا تفعل، فوالله إني لأحب الوجع، ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، والله قدره علي فأنا راض بما قدره الله سبحانه.
انظر لحبهم لله سبحانه وتعالى، الألم عليه شديد، وهو يقول: أنا أتألم منه، لكن أحبه لأنه يقربني من الله، والله يحب ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر.
إنه اتهام النفس، والتواضع بين يدي الله سبحانه وتعالى.
قال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحة -ومعلوم أن شريحاً القاضي رجل مخضرم عاش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يسلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعدل القضاة رضي الله تعالى عنه، وقد قضى لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه دهراً طويلاً، وكان من أعلم الناس بالحكم بين الخصوم- فسأله إنسان فقال له: يا أبا أمية ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيدينا، ويعفو عن كثير.
يعني: هذه بسبب ذنوبنا، ويعفو الله عن كثير.
والإمام محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك؛ فقد كان رجلاً كريماً، ويحب الإنفاق، فقال: إني لأعرف سبب هذا الغم، إنه بذنب أصبته منذ أربعين سنة! فما زال رحمه الله تعالى ذاكراً ذنبه الذي ارتكبه منذ أربعين سنة، فلما ابتلاه الله عز وجل عرف سبب الابتلاء.
هذا بعض ما جاء عن السلف الصالح رضوان الله عليهم في ذلك، فعلى الإنسان أن يتهم نفسه إذا ابتلي بشيء وينظر ماذا عمل.
وجاء أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرض مرضاً شديداً وهزل حتى صار كالفرخ من الضعف، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فتعجب من حالته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك دعوت على نفسك بشيء، قال: نعم، قال: بم دعوت؟ قال: قلت: اللهم ما كنت معاقبني به يوم القيامة فعاقبني به الآن.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تستطيع، سل ربك العفو والعافية).
فالإنسان يرى رحمة الله عز وجل العظيمة الواسعة، فلا ينبغي أن يدعو على نفسه، ولكن يدعو لنفسه بالخير، ومن أجمل الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ومن ذلك الدعاء في الليالي التي هي مظنة ليلة القدر بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عائشة: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا).
فيدعو الإنسان المؤمن له ولأهله ولإخوانه وللمؤمنين، يدعو بالعفو، وعفو الله عز وجل أعظم وأوسع بكثير، فلا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا إلا بخير.(429/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض)
قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:31] قد ذكرنا سعة هذا الكون العظيم الذي خلقه ربنا سبحانه وتعالى.
فإذا قال لنا: ما أنتم بمعجزين في الأرض، فهذا صحيح، أين نذهب من الله سبحانه وتعالى؟! الأرض أرض الله، والسماء سماء الله سبحانه وتعالى.
جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان ينبش القبور، ويسرق أكفان الموتى، وما عليهم من حلي، فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإذا أنا مت فأحرقوني، ثم انتظروا يوماً شديدة ريحه فذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فإن يقدر الله عليّ يعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).
كأنه نسي قدرة الله سبحانه، ولو أن إنساناً ظن أن الله لا يقدر عليه فهذا كافر، ولكن كأن الرجل مع اندهاشه من الموت، وشدة رعبه وخوفه من لقاء الله سبحانه وتعالى تكلم بذلك.
فلما مات فعلوا به ذلك، وإذا بالأمر غاية في البساطة، ومن يعجز الله عز وجل؟ يأمر الله الأرض أن اجمعي ما فيك منه، فتجمع له الأرض ما فيها منه، ويأمر البحر أن اجمع ما فيك منه، فاجتمع الرجل وقام بين يدي الله عز وجل، فقال: يا عبد الله! لم فعلت ذلك؟ قال: من خوفك يا رب! فعفا سبحانه وتعالى، ورحمة الله واسعة وعظيمة.
قال تعالى: ((وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)) فأين تذهب؟ الأرض أرض الله سبحانه، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5].
يأمر الله الأرض أن تتزلزل وتخرج ما فيها من كنوز، فيقول الإنسان: ما الذي يحصل فيها؟ فتقول الأرض: إن الله أمرني بهذا وأوحى إلي به وأذن لي فيه.
فإذا بالأرض تحدث أخبارها وما صنع عليها، تحدث عمن كان يصلي ويعبد الله فوقها، ومن كان يطغى عليها.
يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] ذرة: نملة، أو هباء، فمن يعمل مثقال ذلك في الأرض من خير يره.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8]، ما عملت من خير تجزى عليه، وما عملت من شر تجزى عليه، والله يعفو ويتكرم ويؤاخذ ويعذب من يشاء سبحانه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، السماوات وما فيها، والأرض وما فيها وما فوقها وما تحتها وما بينهما، يمسك كل هذه الأجرام والكواكب والأفلاك والمجرات أن تزول، وهي باقية في مدارها وفي ملفها وجريانها، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].
فيقدر الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء ولا شيء يهرب من مكانه، والكل يدور كما أمره الله سبحانه، وماذا يكون هذا الإنسان بجوار هذه الأشياء التي لا يقدر الإنسان على عدها، ولا على معرفة كل ما فيها، ولا على أن يحيط بشيء من علم الله عز وجل فيها.
فالله الذي أحصى كل شيء عدداً، وخلق كل شيء، وجعل فيك أشياء أنت لا تعرفها، ففي كل يوم كذا مليون خلية تموت وكذا مليون خلية تخلق في جسدك وأنت لا تشعر.
فالذي يحييها خلية خلية، ويميتها واحدة واحدة هو الله سبحانه وتعالى، أحصى كل شيء صغيراً كان أو كبيراً.
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:31] الولي هو القريب منك، والمقصود أنه ليس لك ولي يتولى أمرك من دون الله عز وجل، فكلكم تقفون بين يدي الله عز وجل ولا يوجد أحد يجير أحداً من عذاب الله سبحانه وتعالى، وما لكم من دون الله من ولي يتولى أمركم، ولا نصير يدفع ويدافع عنكم أمام الله عز وجل ويناصركم.(429/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام)
ذكر الله لنا آيات من آياته سبحانه، كخلق السماوات والأرض وما وردت فيهما من دلائل، وما أكثر ما يذكر لنا آياته التي تدل على وحدانيته، وأنه وحده الرب القادر، وأنه وحده الإله الذي يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى.
ومن هذه العلامات الدالة على قدرته سبحانه وتعالى ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] وفي قوله: (الجوار) ثلاث قراءات: قراءة الجمهور وصلاً ووقفاً (الجوار)، فإذا وصلوا كان بالكسرة (الجوارِ في البحر)، وقرأها ابن كثير ويعقوب (الجواري) بالياء وصلاً ووقفاً.
و (الجواري) جمع جارية، وهي السفن.
وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو: (الجوار) وصلاًَ، و (الجواري) وقفاً.
والإنسان حين يصنع السفينة ينسى أن الله هو الذي أقدره على ذلك، وهو الذي أجرى الماء، وأرسل الرياح، وهو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي أعطاك العقل لتصنع هذه السفينة، وهذه الغواصة، وهذه الطائرة، وهذه المدمرة، كما قال عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
إذاً: هو الذي خلق لكم السفن الجارية، وخلق لكم الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون، فلو قال لهم في الماضي: أنه سوف يخلق الطيارة، ويخلق السيارة، لم يفهموا شيئاً من ذلك، ولكن قال: (ويخلق ما لا تعلمون).
وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:9] السبيل: القاصد الذي يدلك على طريقك، وجعل عقلك يميز الطرق المختلفة، وبه تعرف كيف تسير، فالذي دلك على الطريق هو الله سبحانه وتعالى بجعله عقلك يستوعب ذلك.
وعقل الإنسان يستوعب أشياء كثيرة، لكن إذا جاء أمر الله وتاه العقل يصبح الإنسان لا يدري شيئاً، فلا يعرف زوجته ولا أخاه ولا الطريق التي كان يسير فيها.
فتعرف نعمة الله عليك، واشكره على النعمة التي أعطاك؛ حتى يزيدك من فضله، فلا تنسب الفضل لنفسك.
فإذا تعاظم الإنسان في نفسه، وادعى الفضل لها، إذا بالله يريه آية من آياته: ((وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)).
والجواري: السفن العظيمة التي تسير في البحر، وأول ما علم الله عز وجل صناعة السفن لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فصنع نوح السفينة، وكان قومه يمرون به ويهزءون ويضحكون ويسألون: ما هذا؟ فيقول: سفينة، فيقولون: وما السفينة؟ قال: تمشي على الماء.
فيضحكون منه، أين الماء الذي سوف تمشي فيه؟! قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] جاءت المعجزة، فإن كنتم متعجبين من سفينة موجودة في الصحراء؛ فسوف نجعل فرن النار يخرج منه الماء.
ولم يمض سوى وقت يسير وإذا بالسفينة يأتيها الماء إلى الصحراء؛ حتى تسير هذه السفينة بأمر الله.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] جرت السفينة في البحر، فعلم الله عز وجل نبيه نوحاً عليه السلام أن يقول: باسم الله مجراها ومرساها، كما قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] أي: أُسمي الله في أول مسيرها، وأسمي الله حين تقف، باسم الله وببركة الله، وبقدرة الله يكون مجرى هذه السفينة ووقوفها.
فإذا تعاظم الإنسان لصنعه السفينة وقال: أنا صنعتها، فإن الله يغرقها، ولما صنع الغرب سفينة سموها: السفينة التي لا تقهر، وركب فيها أغنى أغنياء العالم بثرواتهم لأجل أن يفتخروا أنهم ركبوا أعظم سفينة على وجه الأرض، فتأتي دوامة تلفها، ثم تقسمها نصفين وتغرقها.
يطلع الإنسان بالصاروخ إلى الفضاء، ويظن أنه قهر الفضاء، فإذا به يصنع مثله فلا ينطلق، فعندما يتعاظم الإنسان على خالقه، ويكفر بخالقه سبحانه، ويبغي ويطغى يأتيه التأديب من رب السماء سبحانه وتعالى.
إذا كانت هذه السفينة التي يصعد بها إلى القمر، فهناك مخلوقات خلقها الله عز وجل تصعد أبعد من ذلك، فالجن خلقهم الله وأنت لا تراهم، وجعل الله سبحانه وتعالى فيهم القدرة أن يتشكلوا بما يشاء الله سبحانه، وقد كانوا يصعدون ويسترقون السمع من السماء، فقد كانوا يركب بعضهم على بعض حتى يصلوا إلى السماء، ويسترقوا أخبار السماء بما يشاء الله، ثم تتبعهم شهب تحرقهم.
فهذه المخلوقات صعدت دون أن تحتاج لما يحتاجه الإنسان، إلا أن الله عز وجل منعهم، وأخبر سبحانه وتعالى بذلك فقال: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:18].
إذاً: من ضمن آيات الله المثيرة العظيمة التي ترونها: السفينة الجارية في البحر كالأعلام، أي: كالجبال، والعلم هو الجبل، والقصر العظيم، فالسفينة مثل القصر، فهي ممتلئة بالغرف، وهي شيء عظيم في البحر، ويحملها الماء بقدرة الله تبارك وتعالى.(429/4)
تفسر قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)
قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:33] كانت السفينة في السابق تتحرك عن طريق الشراع الذي تدفعه الريح، فالله قادر على أن يوقف الرياح فلا تتحرك هذه السفينة.
وكذلك السفن التي عمدة حركتها في البحر اليوم على المحركات فالله قادر أيضاً على إيقافها عن الحركة، فمهما صنع الإنسان من أشياء فهي بيد الله، وتحت قدرته، إن شاء سيرها وإن شاء دمرها، فليحذر الإنسان من الغرور، وعليه أن يحمد ربه على ما أعطاه ليزيده، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
والغواصة الروسية المسماة: (المدمرة) كانت قد تعاظمت نفوس أصحابها، فحبسها الله في البحر بشبكة صيادين التفت حول مروحتها فأشرف طاقمها على الغرق لولا أنهم أسعفوا، فالله تعالى يسبب الأسباب، ويدبر لعباده أمر محياهم ومماتهم، ومعاشهم وحياتهم، ليشكروه فيزيدهم من فضله سبحانه.
قال تعالى: ((فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)) الركود: التوقف على ظهر الماء وعدم الحركة، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) أي: في ذلك آيات عظيمة باهرة، وهي معجزات عظيمة أن يخلق الله هذا الماء، ويجعل هذه السفينة تقف عليه وتتحرك، ولكن لمن هذه الآيات؟ ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لكل صبارٍ)) الصبار: كثير الصبر على قضاء الله وقدره، يصبر فيعتبر ويتفكر، فينتفع بهذه الآيات، فهو في وقت البلاء صابر، وفي وقت الرخاء شاكر، وهذا المنتفع بهذه الآيات يركب سفينته فيقول: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41].
وإذا ابتلاه الله عز وجل دعا ربه سبحانه وتعالى، وإذا أنعم عليه وأعطاه حمد الله تعالى، فهو صابر في وقت الصبر، وشاكر في وقت النعمة، فاستحق أن يذكر الله سبحانه وتعالى وصفه أنه يعتبر بهذه الآيات: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5].(429/5)
تفسير قوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير)
قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] أي: يهلك ويدمر ويغرق السفينة بذنوب العباد، فإذا أغرق السفينة فبسبب ظلم أهلها، ويعفو عن كثير.
يركب الإنسان السفينة وهو ماشٍ بقضاء الله وقدره، وليس ذلك بحذق الملاح ومهارته، وقد سمعنا قصة مركب المعتمرين من الإسكندرية، فبينما هم قد قاربوا البر وأصبح أمامهم، إذ جاءهم مركب آخر للبضائع فاصطدم بمركبهم فخرقه، لكن من رحمة الله بهم أن بقي مركبهم ملتصقاً به حتى نجوا بأنفسهم وأنقذ الله ألفاً وأربعمائة ومات واحد أو اثنان.
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
كان أهل الجاهلية إذا ركبوا السفينة نادوا: يا رب يا رب! حتى إذا نجوا رجعوا يعبدون اللات والعزى من دون الله سبحانه وتعالى.
ومن هؤلاء عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فر هارباً؛ لأنه من ضمن من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وكانوا أربعة من أهل الكفر وامرأتان قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة).
فقد روى الإمام النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة).
فالأول: عكرمة بن أبي جهل، والثاني: عبد الله بن خطل، والثالث: مقيس بن صبابة، والرابع: عبد الله بن سعد بن أبي السرح.
فكان كل واحد منهم له عمل في الكفر يؤذي به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان من أشدهم كفراً عكرمة وأبوه أبو جهل الذي قتل يوم بدر.
ومشى على طريقته ومنواله عكرمة بن أبي جهل، فظل يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذي المسلمين، ولا يجد موطناً يكيد فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وفعل ذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأربعة، وامرأتين، قتل منهم اثنان، وتاب اثنان ودخلا في الإسلام، والله يمن على من يشاء.
ويذكر عكرمة بن أبي جهل أنه خرج من مكة هارباً فركب السفينة فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، وكان أصحاب السفينة كفاراً.
وقد ذكرنا في قصة الحصين أبي عمران بن حصين الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ فقال: ستة، واحد في السماء وخمسة في الأرض.
فقال له: من الذي ترجو؟ قال: الذي في السماء.
قال: يا حصين! كيف تعبد من لا تنتفع به؟) ثم أسلم بعد ذلك حصين رضي الله عنه.
فهم كانوا يعبدون هذه الآلهة، وعندما يسألون عنها يقولون: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى، فكانوا يعبدون هذه الأصنام لئلا يأتي إليهم من يقول لهم: اعبدوا الذي أنا أعبده، فكل واحد له إله يخصه؛ إنها عنجهية الجاهلية والعصبية والاستكبار؛ لذلك تركوا دين النبي صلى الله عليه وسلم استكباراً، لا لأنه ليس على الحق، فهم يعرفون أنه الحق، ولكن قالوا: لا نتبعك لأنك ستأمرنا وتنهانا.
قال ربان السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فعند ذلك استيقظ عكرمة من غفلته بعد سنين طويلة في معاداة الله ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره.
وقال: اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً.
فجاء فأسلم رضي الله تعالى عنه.
وكان بعض المسلمين يذكر أمامه أباه، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) وجاهد عكرمة في سبيل الله جهاداً عظيماً رضي الله تعالى عنه، فلما كانت وقعة اليرموك بين المسلمين والروم في أول خلافة عمر رضي الله عنه، وكانت حرباً شديدة جداً، فمر به رجل ورآه يقاتل قتالاً شديداً حتى قتل، فوجدوا فيه بضعة وسبعين ما بين ضربة وطعنة ورمية.
وكان عكرمة قبل ذلك يقول: من يبايع على الموت؟ فبايعه جماعة من المسلمين، وكان يقول رضي الله عنه: إني ما تركت موطناً إلا وقاتلت فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أجد موطناً أدافع فيه عن هذا الدين إلا وقاتلت فيه.
فقاتل وقتل شهيداً رضي الله عنه.
والثاني الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله: عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان قد أسلم، وكان يجيد القراءة والكتابة، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعتبر من كتاب الوحي، ثم فتن بالدنيا، وارتد عن دين الله عز وجل، وهرب إلى الكفار يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وينفر الناس عن الدين، ويقول: أنا الذي كنت أكتب هذا القرآن، أنا الذي كنت أملي هذا القرآن، فالقرآن من تأليفي.
فينسب لنفسه أشياء لم يكن له، وكان كاذباً فيها، وهذه فتنة للكفار، وفتنة للمسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله.
وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة إذا بـ عثمان يأتي به للنبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه.
وظلا منتظرين، فإذا بـ عثمان يلح على النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبايعه، وفي النهاية حقن دمه وتركه، وكأنه وجد على المسلمين فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم لهذا فيقتله -بما صنع من كفر وردة، وآذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وآذى المسلمين- قالوا: يا رسول الله! هلا أشرت لنا بعينك، قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
الثالث ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وقتل: عبد الله بن خطل، وهو رجل من الذين كفروا بالله تبارك وتعالى، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان مسلماً وارتد عن دين الله، وذهب إلى مكة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم هذا الرجل قد أرسله ليجمع الصدقات، ومعه مولى من المسلمين، فلما خرج في الطريق أمر هذا المولى أن يصنع الطعام، ثم نام، فلما وجده لم يصنع الطعام قتله، وهرب ورجع مرتداً إلى الكفار، ثم أتى بمغنيتين تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس الخمر لقريش، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما.
والرابع هو: مقيس بن صبابة وقد قتل، وهذا الرجل كان قد أسلم هو وأخ له اسمه هشام، فقتل أحد الأنصار أخاه، وبحثوا عن القاتل فلم يجدوه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يدفعوا الدية له، فأخذ الدية، وبعدما أخذ الدية قتل رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه، فأخذ الدية، وقتل رجلاً مظلوماً، ثم ارتد وفر إلى مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل.
فهؤلاء الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وكذلك المرأتان اللتان كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وسب دين الله عز وجل، وعفا عن ألوف من أهل مكة، وهم كفار في ذاك الحين، وقد رد ربه سبحانه وتعالى ذلك إلى اختياره إن شاء أن يعفو، وإن شاء أن يقتل، فعفا صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(429/6)
تفسير سورة الشورى [32 - 36]
يخبر الله سبحانه عن آياته العظيمة في هذا الكون، فيجب على الإنسان أن يتأمل في مخلوقات الله ليزيد إيمانه، فإن الله يعفو عن كثير من ذنوب عباده ويتجاوز، لكن في الآخرة لا مهرب ولا مفر من الحساب، والتوكل على الله من صفات المؤمنين الصادقين، ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في توكله على الله وثقته بالنصر على الأعداء.(430/1)
تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:32 - 35].
يخبر الله عز وجل عن آياته العظيمة في هذا الكون التي يجب على كل إنسان أن يتأمل فيها وأن يتدبرها وأن يتفكر فيما خلقه الله عز وجل له، وقدرة الله العظيمة على الخلق أن دله وأن خلق له وبين له، فهذه آية من آيات الله عز وجل لا تقدر أنت عليها إلا أن يعينك الله سبحانه وتعالى، فمن آياته هذه السفن الجارية العظيمة الجواري في البحر كالأعلام، وكالجبال وكالقصور العظيمة.
قال الله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:33] إذا شاء ربنا سبحانه وتعالى أسكن الريح، فوقفت هذه البواخر وهذه السفن العظيمة تنتظر رحمة الله سبحانه وتعالى، فتركد على ظهره، فإن يشأ الله سبحانه وتعالى يوقفها، ونفهم منه أنها تجري من أول الآية، إذاً: بمشيئة الله هي جارية فإذا شاء أوقفها، أو إن شاء أغرقها وأوبقها وأهلكها وأهلك من فيها.
قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] فإن يشأ يسكن الريح، وإن يشأ يوبق السفينة ويعف عن كثير سبحانه وتعالى، فالله العظيم سبحانه وتعالى يعفو ويتجاوز عن ذنوب العباد، ويتجاوز عن ذنوب كثيرة لعباده، فهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك، فإذا شاء عفا وإذا شاء لم يعف سبحانه وتعالى، وإذا شاء عفا عن كثير من ذنوب العباد وإذا شاء عفا عن الذنوب جميعها، فالله على كل شيء قدير، وإذا شاء سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤمناً فهو داخل تحت عفو الله سبحانه، وإذا شاء الله عز وجل كان العبد كافراً فلم يعف عن شيء سبحانه وتعالى.
فالعفو للمؤمن الذي عرف التوحيد، وأناب إلى ربه وتاب وعرف ربه سبحانه، ولم يشرك به، فهذا تحت مشيئة الله عز وجل، إذا شاء الله عز وجل عفا عنه، وهو يعفو عن كثير من الذنوب بهذا العفو لعله ينجيه يوم القيامة، وإن يشأ يوبقه سبحانه وتعالى، أما إذا كان كافراً فلا عفو، والكافر يحاسب يوم القيامة على كل شيء، فليس بعد الكفر ذنب، وإذا لقي ربه كافراً فالله يسأله عن كل شيء سبحانه وتعالى.
فيقول هؤلاء: لم نكن نصلي؛ لأنهم سئلوا عن ذلك: هل صليتم؟ قالوا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ} [المدثر:43 - 46] كانوا كفاراً يكذبون بيوم الدين، ومع ذلك حاسبهم على صلاتهم وحاسبهم على كل ما صنعوا في هذه الدنيا.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتابي اليهودي أو النصراني لو أسلم فله أجره مرتين، والله عز وجل يعفو عما سبق منه، هذا إذا أسلم وأحسن إسلامه، أو أصلح، أما إذا أسلم ولم يصلح ولم يعمل صالحاً فالله يحاسبه على ذنوبه جميعها، ما فعلها في كفره وما فعلها في إسلامه؛ لأنه لم يصلح، وتنفعه كلمة لا إله إلا الله، ولكن المعاصي يحاسب على الجميع، فشرط على هذا الكافر أنه إذا أسلم أصلح، فإذا أصلح فالله عز وجل يعفو عن الذنوب التي كانت مع الكفر، فإذا لم يصلح عفا عما كان من ردته وكفره، ولكن يؤاخذ بذنوبه من كبائر وغيرها.(430/2)
تفسير قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)
قال تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35] الكلمات قبلها كلها ساكنة مجزومة، قال: (إن يشأ يسكن الريح) (أو يوبق) (ويعف عن كثير) سبحانه وتعالى، ثم قال: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} [الشورى:35] فجاءت منصوبة، والعلماء لهم مذاهب في هذا النصب الذي يأتي بعد المجزومات، فقد قال: (إن يشأ)، رجع لمشيئته سبحانه وتعالى، وهنا: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35] يقيناً سيعلمون.
فالله قد شاء ذلك أنهم يعلمون ألا مهرب لهم، ويعلمون ذلك في حالتين: يعلمون في حالة ما يهلكهم الله عز وجل بذنوبهم، فيعلمون أنه لا مفر من الله، فهم يعلمون، فلا يحسن أن يقول: إن يشأ يعلم هؤلاء؛ لأنه قد شاء الله عز وجل أن يعلموا أين الهلاك، قال تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35].
والحالة الثانية: يعلمون يوم القيامة حين يجمعون ليوم القيامة فلا يعرفون الفرار؛ إذ لا مفر من الله سبحانه، فهم يعلمون ذلك، فليس هذا متعلقاً بالمشيئة، ولذلك قالوا في تقدير شيء قبله هنا: لينتقم الله عز وجل من هؤلاء وليفعل بهم وليفعل بهم وليعلم هؤلاء كذا، فجاءت معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: أن الله يبعثهم ويهلكهم، ويجمعهم ليحاسبهم وليعذبهم ولينتقم منهم وليعلم هؤلاء أنهم لا يقدرون على شيء، هذا من أفضل ما قيل فيها، وقيل غير ذلك.
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35] أي: من مهرب يهربون إليه، وأنى يهربون من الله سبحانه وتعالى؟ إذاً: المحيص: المكان الذي يهرب فيه، أو الهروب نفسه، فما لهم من مهرب من الله سبحانه وتعالى.(430/3)
تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)
ثم يقول الله لعباده: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] قال تعالى هنا: (فما أوتيتم من شيء) وقال في سورة القصص: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} [القصص:60] والمعنى: مهما أوتيتم من شيء، ومهما أعطاكم الله عز وجل من شيء لا تفتخروا بهذا الشيء ولا تستكبروا به، ولا يبغ بعضكم على بعض به، ولا تطغوا في الأرض فإن الله عنده ما هو أعظم من ذلك بكثير.
فالذي أعطاكم هذا هو متاع للدنيا، والدنيا زائلة فمتاعها كذلك، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فالمعنى: لا تفرح بغناك، فإنك تترك هذا المال في يوم من الأيام، ولا تفرح بقوتك فإنه يأتي عليك الشيب والشيخوخة وكبر السن، فتذهب هذه القوة التي تفتخر بها، ولا تفرح بصحتك، فإنه يأتي عليك الأمراض يوماً وراء يوم ويذهب هذا الذي كنت فيه، ولا تفرح بجمالك فإنه يزول في يوم من الأيام، ولا شيء يبقى في هذه الحياة الدنيا فكل ما عليها فان، يفنى ويبيد ولا يبقى إلا الرب وحده لا شريك له، وسوف يجازي العبيد يوم القيامة يحصي أعمالهم في الدنيا ويحاسبهم يوم القيامة.
قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36] الذي عند الله هو الجنة، وجنة الخلود خير وأبقى، (خير) على وزن أفعل اسم تفضيل معناها: أخير، أي: أفضل بكثير من هذا الذي تراه في هذه الحياة الدنيا، وقوله تعالى: ((وَأَبْقَى)) إشارة إلى أن الدنيا فانية لا تبقى، والذي عند الله هو الذي يبقى، أما الدنيا فهي تزول.
إذاً: أخبرنا قبل ذلك بقوله: {وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] فأخبرنا عن السماوات وعرفنا ذلك، وأخبرنا عن الفلك الذي تحت السماء الدنيا وفيه ما فيه من الأشياء التي نجهلها، وفي الجزء الذي ندركه منه فقط الأعداد التي لا نحصيها من المجرات والكواكب والشموس والنجوم والأقمار، أشياء عظيمة وعظيمة جداً.(430/4)
عظم نعيم الجنة
هذا هو الخالق الذي خلق ذلك، وحين يقول لنا ويخبرنا عن جنة الخلود أنها عظيمة جنة عرضها السماوات والأرض، وإذا قلنا: إن عندنا أرضاً، والأرض طولها كذا وعرضها كذا، والعادة أن الطول أكبر من العرض، فنعبر بالطول أنه أكبر من العرض، فإذا عبر بالعرض وقال: عرضها السماوات والأرض فكم يكون طولها؟ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، وعن آخر واحد من العصاة الموحدين، مكث دهراً في النار والعياذ بالله، وخلد في النار ما شاء الله عز وجل، ولا يستطيع أن يعرف كم خلد فيها، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فإذا قلنا: الخلود بنظرتنا في الدنيا مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإذا كان هذا بأيامنا فكيف يكون الخلود عند الله عز وجل في أيام يوم القيامة؟ فهؤلاء دخلوا النار فمكثوا فيها، ثم جاء العفو من الله عز وجل عن هؤلاء، فآخر واحد من العصاة الموحدين يخرج من النار ليدخل الجنة، ويمشي على الصراط، يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار مرة، ويزحف مرة حتى يخرج من فوق الصراط، وإذا خرج قال: الحمد لله الذي نجاني من هذا، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، يقول ذلك لأنه قد دخل الجنة بعد أن كان لا يعرف إلا السجن الذي كان فيه في النار والعذاب الأليم المقيم، فهذا خرج من النار، ولكن بقي فيها الكفار ولم يخرجوا، فلما نظر إلى هؤلاء الكفار حمد الله أنه هو الذي نجا، وإن كان مكث فيها ما شاء الله عز وجل، ولكن خرج في يوم من الأيام، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من العالمين.
فإذا بالرب سبحانه وتعالى يري هذا الإنسان شجرة أمامه بعدما تعدى النار وتجاوزها، فنظر إليها وأعجبته، والله يعلم ذلك سبحانه وتعالى، ووجد تحتها ماءً فإذا به يصبر ويصبر، وفي الأخير لم يصبر فقال: يا رب! أدنني من هذه الشجرة، فآكل من ثمرها وأشرب من مائها، فقد كانت أمنيته الخروج من النار، والآن يريد الشجرة هذه، فإذا به يدنو منها ويشرب من الماء الذي نبتت منه ويأكل من ثمرها، فيقول له ربه: لعلي إن أعطيتك ذلك أن تطلب غيرها، فيقول: لا يا رب لا أطلب غيرها، ويعطي ربه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فيقربه الله عز وجل ويدنيه من هذه الشجرة التي يريد، فدنا منها ومكث زمناً، وإذا بالله يريه شجرة أخرى هي أحسن من الأولى، والله حكيم سبحانه وتعالى وهو كريم ويريد له الخير.
فلما أراه تلك الشجرة وهي أعظم من الأولى إذا به يصبر ويصبر ويصبر، وفي النهاية لا يطيق، فقال: يا رب! أدنني من هذه ولا أسألك غيرها، قال: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ قال: يا رب! لا أسألك غيرها، أدنني منها، فيدنيه منها، ويتكرر الأمر ويريه ما هو خير من ذلك ويطلب الخير حتى يدنيه الله، حتى يرى باب الجنة، فيصبر ما شاء الله أن يصبر وفي النهاية لا يطيق، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ فإذا بالله عز وجل يدخله جنته سبحانه وتعالى.
وإذا دخل العبد الجنة رآها مليئة فلا يلقى لنفسه مكاناً، ويجد فيها كل الناس قد أخذوا أماكنهم، وهو في تخيله ليس له مكان فيها، فيسأل ربه: يا رب! أعطني من الجنة، فيقول الله: تمن، فيتمنى ويتمنى ما يشاء، ويذكره الله عز وجل ويتمنى أقصى ما وصل إليه مما يتمناه، فيقول له ربه سبحانه: ألا تحب أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد ويقول: نعم يا رب! فيقول: فلك مثلها ومثلها ومثلها ومثلها وعشرة أمثالها، أي: عشرة أمثال ملك ملك من ملوك الدنيا.
هذا لواحد فقط ممن دخلوا الجنة، فيا ترى كم أعداد أهل الجنة؟ وكم يدخل الجنة من عباد الله سبحانه وتعالى؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها، فإن باب الجنة يأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام؛ لكثرة الداخلين إليها، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
إن ما ذكره الله عز وجل لك في هذه الدنيا لم تحط به علماً، فقد وزع الكواكب والنجوم والأقمار والشموس في السماء، وهي أكثر من الناس، فإذا كانت هذه الكواكب أنت لم تقدر على عدها، ولا علماء الفلك بما لديهم من آلات ما قدروا على عدها، فقد قالوا: عدد المجرات في السماء مائتا مليار مجرة، قالوا: هذا الذي تمكنا من عده ومعرفته، وما فوق ذلك كثير لا نعرف عنه شيئاً، فالمجرة الواحدة فيها أكثر من مائتي مليار من الشموس والأقمار والنجوم، والنجم الواحد أضعاف الأرض مليون مرة، هذا نجم واحد، فهل يعجز الله عز وجل أن يعطي لأهل الجنة في الجنة لكل منهم ما شاء مثل كوكب الأرض وأعظم منه بكثير ليكون ملكاً من ملوك الجنة؟ فإن الله على كل شيء قدير، ويملك كل شيء سبحانه، فقد وعد عباده الصالحين بالجنة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذه النجوم والأقمار قد رأتها العين، فالله عز وجل وعد المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الشورى:36] أي: قليل زائل، وما عند الله في جنة الخلود هو الذي يبقى، وهذه الجنة الباقية جعلها الله لمن كانت فيه صفات استحق بها أن يكون من أهل الجنة، وأول هذه الصفات: الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأن توالي في الله وأن تعادي في الله، وأن تحب في الله وأن تبغض في الله، فإن حققت أصول الإيمان فأنت من المؤمنين الذين يعملون الصالحات.(430/5)
التوكل على الله من صفات المؤمنين
قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] فالمؤمنون يتوكلون على الله عز وجل، ويعلمون أن الله خالقهم، وأن الله رازقهم، وأنه مدبر أمرهم، وأنه هو الذي يملك كل شيء، ولذلك كان التوكل على الله أمراً واجباً، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] فالمؤمن يكل أمره كله إلى الله، ويقول: الذي يملك النفع ويملك الضر هو الله سبحانه وتعالى، والذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى.
إذاً: أنا أتوكل عليه، وأفوض أمري إليه، وأوجه وجهي إليه سبحانه وتعالى، جعلت ربي وكيلي، أنا لا أقدر والله يقدر على كل شيء، فهو الذي يقوم بتدبير أموري ومصالحي، والذي يقدرني على كل شيء، هذا هو التوكل على الله، فأنت حين توكل المحامي ليتكلم بالنيابة عنك توكله لأنك لا تستطيع أن تتكلم، ومع ذلك فأنت تعطيه أجرة على توكيلك له، فالإنسان يوكل إنساناً فيما لا يقدر هو أن يقوم به، فوكيل الإنسان نائب عنه؛ لأنه فوض إليه هذا الأمر أن يقوم به لعدم استطاعته أو لعدم تخصصه.
فالإنسان حين يوكل غيره يوكله لأنه محتاج إليه، ولله عز وجل المثل الأعلى، فهو وكيلك سبحانه يدبر كل شيء، ويعطيك اليد التي تبطش بها، والعين التي تنظر بها، ويدلك على الخير فتفعل هذا الخير، وينزل عليك الرزق من السماء فتأخذ أنت هذا الرزق، ويقدرك على أن تأخذه، وعلى أن تأكله وتشربه، وعلى أن تستطعم به، وعلى أن تهضمه وتخرجه، فهو وكيلك سبحانه وتعالى في كل شيء، وهو الذي يقدرك على الخير سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطيك، ولذلك عندما تقوم من النوم قل كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
فهو الذي أحيانا بعد ما أماتنا في هذا النوم، وتحركنا بعد ما كنا هامدين على الفراش، وتحركت أعضاؤنا وقمنا نواصل أعمالنا، فالذي له الفضل هو الله وحده لا شريك له، والذي يتوكل على الله ليس كلاماً يقوله، وإنما ثقة في قلبه أن الله قادر على كل شيء.
إن الله أمره للشيء كن فيكون، فإذا توكلت على الله فاملأ قلبك بالإيمان والثقة به سبحانه، فهو القادر على كل شيء، فتخرج إلى عملك وتطلب الرزق وفي قلبك الثقة في الله ولسان حالك: سيرزقني وسيعطيني الله سبحانه وتعالى، فالله أعظم وأكرم.
فليمتلئ قلبك بالثقة به سبحانه وتعالى، وكن عند حسن الظن بالله سبحانه، أحسن الظن بالله وأحسن العمل يكن الله عز وجل عند حسن ظنك، فهو الذي يقول: (أنا عند ظن عبدي بي) ويقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل، فهي ليست كلمة تقال باللسان، فإن الطير خرج ثقة في الله عز وجل، وبحث عن الرزق فوجد الرزق وأعطاه الله عز وجل، خرج وهو خامص بطنه فرجع وبطنه مليء بالطعام ويطعم فراخه كذلك، ولو أنكم تتوكلون على الله وتثقون في الله عز وجل أعظم الثقة لأعطاكم الله عز وجل ما تريدون منه، ولزادكم من فضله سبحانه وتعالى.
ولولا ثقة المؤمنين في ربهم سبحانه وتعالى في يوم بدر لما انتصروا على جيش المشركين الذي يبلغ تعداده ألف مقاتل، خاصة وأن عدد المسلمين في هذه الغزوة ثلاثمائة رجل فقط، إذ كانوا لا يريدون قتالاً ولكنهم خرجوا من أجل قافلة لقريش، ولم يستعدوا للقتال، لكن أهل مكة تجهزوا بألف أو يزيدون مستعدين للقتال.
والنبي صلى الله عليه وسلم يرى الأمر على ذلك، فهو كله ثقة في الله عز وجل ولكن يريد أن يسمع من أصحابه، هل الثقة في قلوبهم أم لا؟ فيقول: (أشيروا علي أيها القوم)، قريش جاءت، أشيروا علي أيها القوم! فالمهاجرون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اغد على بركة الله)، لكنه لم يرد المهاجرين، وإنما كان يريد الأنصار، فقال سيد الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدنا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال الرجل: يا رسول الله! أوصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، وسر حيث شئت وقف حيث شئت، فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه معك).
ففرح النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بالنصر، وأخذ يريهم مصارع القوم، هنا يقتل أبو جهل، هنا يقتل فلان، هنا يقتل فلان، يشير قبل القتال، ثقة في الله سبحانه وتعالى، ووحي من الله سبحانه وتعالى.
وبدأ القتال، وقاتل المسلمون قتالاً عظيماً، ولولا التوكل على الله سبحانه لما انتصر هؤلاء، فقتل أبو جهل، فرعون هذه الأمة، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، ووصفه بأنه فرعون هذه الأمة، ويروي لنا عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة قصة حدثت في يوم بدر يقول: إنه كان عن يمينه غلام وعن يساره غلام صغيران في السن يقاتلان، فهؤلاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رجالاً وكانوا أبطالاً، قال: وجدت غلاماً عن يميني وغلاماً عن يساري فوددت لو أني بين أشد منهما، يقصد معاذ ومعوذ ابني عفراء، يقول أحدهما له: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ قال: نعم أعرفه، قال: إذا رأيته فدلني عليه، قال: ولم؟ قال: قد أقسمت لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يكون الأعجل منا قتيلاً، أي: لا أفارقه حتى أقتله، أو أموت شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فقال الآخر: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ فيعجب من هذا، وإذا بـ أبي جهل يخرج مثل الحرجة، والحرجة: الغابة الكثيفة، فقال عبد الرحمن بن عوف: ذاك صاحبكما، وأشار إليه، وإذا بهما ينطلقان إليه، وفعلا ما قالاه، فهذا يضربه من هنا وهذا يضربه من هنا، حتى جندلاه على الأرض وأوقعاه، وذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلته يا رسول الله! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وفرح بهما وقال لأحدهما: (أرني سيفك، أرني سيفك، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على آثار سيفيهما الدم قال: كلاكما قتله).
وإذا بـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يقاتل يجد أبا جهل على الأرض، فذهب إليه وضربه بالسيف، يضرب أبا جهل بسيفه فلا يؤثر فيه.
فقال له عبد الله بن مسعود: قد أخزاك الله وأبعدك يا عدو الله، فقال أبو جهل: أبعد من رجل قتله قومه، فيضربه بالسيف فلا يؤثر فيه، فقال أبو جهل: خذ سيفي فاضربني به، فيأخذ سيفه ويحز به رقبته ويقتله، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: هذا رأس أبي جهل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا فرعون هذه الأمة)، ويأمر به وبأمثاله أن يدفنوا في قليب بدر، بئر من الآبار دفنوا فيها.
والغرض: ما الذي نصر المؤمنين في هذه الموقعة؟ فهذه صورة رجل من الكفار هو أبو جهل، وهذا ابن مسعود يضربه بالسيف لا يؤثر فيه، وهذا غلام صغير وهذا غلام صغير، وعبد الرحمن بن عوف يتمنى لو أنه بين أقوى منهما، هل مثل هذا الجيش بتقدير العقل يغلب وينتصر؟ في تقدير العقل يقول: لا يمكن ذلك أبداً، ولكن الأمر ليس أمر العقل، الأمر أمر الله الذي يمن على المؤمنين فيقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
فلما يتوكل المؤمنون على الله ويعلمون أن الله هو الذي ينصرهم، وأنه هو الذي يعزهم ويقويهم، ويهلك أعداءهم، يأتي النصر من الله سبحانه، فأعدوا العدة وثقوا في الله عز وجل وتوكلوا على الله سبحانه، وإذا انعكس الأمر وظن المؤمن أنه هو الذي يغلب العدو وهو الذي يقاتل العدو فإن الله سبحانه قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
فتح المؤمنون مكة في العام الثامن من الهجرة في رمضان، وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، ودخل من أهل مكة جيشان مع جيش النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، وتوجهوا إلى الطائف إلى هوازن للقتال هناك، وتحصن أهل الطائف من النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف أهل هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم على جبلين، والمسلمون ذهبوا إلى هنالك فرحين بالنصر الذي فات، وكثيرون منهم شباب، وكثيرون منهم من قريش دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل مكة، فلما رأوا أن فتح مكة كان سهلاً أخذهم الغرور، فلم يأخذوا عدتهم للقتال ولم يلبسوا دروعاً وذهبوا يقاتلون بهذه الصورة، واغتروا بعددهم فقد كان عددهم اثني عشر ألفاً، فذهبوا إلى هنالك، وانتظرهم المشركون فوق الجبال، وبالسهام والرماح كادوا يقضون عليهم، وفر الجيش كله، ويثبت النبي صلى الله عليه وسلم ويثبت معه أصحابه الأفاضل أبو بكر وعمر وغيرهم، ويثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته رضوان الله تبارك عليهم.
فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانين من أصحابه، إذ لم يثبت من أصحابه إلا ثمانون من اثني عشر ألفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه يقف في موطن يفر فيه المؤمنون الشجعان، ويفر فيه الأنصار والمهاجرون، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم للكفار، ويتقدم عليهم صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا به يتقدم إليهم، لولا أن العباس كان يحوش بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتقدم(430/6)
تفسير سورة الشورى [36 - 37]
متاع الدنيا زائل، وما في الآخرة خير وأبقى، وقد عرف المؤمن ذلك فهو يجتنب الفواحش والكبائر، وتراه متوكلاً على الله، ويعفو عمن ظلمه، والكبائر كثيرة مبسوطة أدلتها في الكتاب والسنة، فعلى المسلم أن يجتنبها ليفوز برضا الله سبحانه في الدنيا والآخرة.(431/1)
تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:36 - 37].
ذكر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان مهما أوتي في هذه الدنيا من نعم الله سبحانه وتعالى فهو متاع قليل، وهو زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، فالذي يؤتاه العبد في الدنيا ينبغي عليه أن يشكر الله سبحانه وتعالى عليه، ولا يفعل ذلك إلا المؤمنون الذين ذكر الله صفاتهم هذه، قال تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، للمؤمنين، المتوكلين، المستجيبين لله سبحانه، الذين يجتنبون ما حرم الله، ويفعلون ما أمرهم الله عز وجل به، والذين يكبتون أنفسهم عن غيظها وعن ملذاتها إلا ما أحل الله سبحانه وتعالى.
ووصف الله الذين آمنوا بقوله: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وما عند الله خير وأفضل من هذه الحياة الدنيا، ولا وجه للمقارنة، فالدار الآخرة للمؤمنين الصالحين، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].(431/2)
الإيمان شرط في قبول العمل الصالح
فالإنسان المؤمن التقي الذي لا يبتغي العلو ولا الإفساد في الأرض، ولا البغي على الخلق ولا الطغيان هو الذي لا يظلم أحداً، فإن هذا الإنسان المؤمن له عند الله عز وجل هذه الدار الآخرة، قال تعالى: (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، إذاً: هذه من أول صفاتهم: الإيمان، أما الكافر فليس له عند الله شيء، فإذا مات الإنسان الكافر فقد أعطاه الله عز وجل في الدنيا ما شاء سبحانه، فإذا جاء يوم القيامة وقال: لقد عملت صالحاً، كنت أصل الرحم، كنت أتصدق، كنت أفعل كذا، يقال له: لا ينفعك هذا كله؛ لأنك لم تكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى.
والذي يعمل الخير ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى سوف يأخذ أجره من الله، والذي يعمل الخير ابتغاء مرضاة الناس سيأخذ ثوابه من الناس، فسوف يمدحونه، ويشكرونه، وسيأخذ شهرة في الناس، فقد أخذ أجره في الدنيا؛ لأنه لم يبتغ به وجه الله سبحانه وتعالى.
لذلك الكافر فعل هذا في الدنيا حتى يقال: إن هذا إنسان جواد، ويقال عنه: جواد حتى يشتهر، ويأخذ عند الناس منصباً كبيراً، ويكون رأساً فيه، والناس يمدحونه ويحبونه ويثنون عليه، لكن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولذلك فإن الكافر يطلب العمل الحسن الذي عمله، ويظن أنه يؤجر عليه يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، أي: يصير كالهبأة التي تراها في الغبار وذرات الغبار، وكذلك عمله صار هَبَاءً مَنْثُورًا؛ لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي، رب ارحمني، ولذلك جبير بن مطعم بن عدي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل أبيه مطعم، وجبير كان مسلماً وأبوه كان رجلاً كافراً، وكانت له خصال حميدة وكثيرة جداً مع الناس، من إطعام الفقراء، واسمه مطعم؛ لأنه كان يطعم الناس، فيسأل جبير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي كان يفعل من البر هل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
فلم يكن يؤمن أن هناك بعثاً، بل كان يعمل هذا للدنيا فقط، وأخذ ثوابه في الدنيا من ثناء الناس عليه، ومن كلامهم الطيب عنه، ومن شكرهم له، أما عند الله فلا ينتفع بعمل تطلب به الناس وتطلب به الله في نفس الوقت؛ لأن العمل لابد أن تطلب به الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
إن أصل الأصول هو توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بما جاء من عند الله سبحانه والتصديق به، فإذا صدق الإنسان بذلك نفعه هذا الذي فعله، وإذا لم يكن مصدقاً لم ينتفع بشيء، قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، فقوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ)، أي: هل نخبركم عن هؤلاء؟ قال تعالى: (بِالأَخْسَرِينَ)، أي: أخسر الخلق (أَعْمَالًا)، قال تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، أي: تاهوا وضاعوا، اتبعوا شيئاً خلاف ما قاله الله سبحانه وتعالى، فكان سعيهم لغير وجه الله سبحانه، فضل وضاع، فلما جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً عند الله سبحانه وتعالى، لأنهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ومصيبتهم أنهم (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
والإنسان إذا كان عاصياً نرجو أن يتوب هذا العاصي، ويعلم أنه عاص لله سبحانه، فإذا كان لا يعرف أنه يعصي فكيف يتوب؟ وإذا كان لا يعرف الحق، أو ترك الحق وراءه وضل وسار على الضلال، فكيف يقبل الله منه عملاً صالحاً يعمله؟ فالمسافر إذا أخبرته أن هذا المكان خاطئ، وعرف أن المكان خطأ، فسار فيه فلعله يضيع ولعله يرجع، ولكن الإنسان إذا عرف طريق الصواب، ومشى في الطريق الخطأ وهو يظن أنه على صواب حتى ضاع في النهاية، فمستحيل أن يرجع هذا الإنسان وهو يظن أنه على صواب، كذلك هؤلاء قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف:104]، أي: خاب وخسر سعيهم في الحياة الدنيا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:104 - 105] حبطت أعمالهم أي: خاب سعيهم وشقوا في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا لم يعرفوا ربهم ولم يصدقوا بما جاء من عند ربهم، فعملوا أعمالاً ابتغاء وجه الناس، وعملوا أعمالاً يظنون أنها تخلدهم ذكراناً بعد موتهم، فلما ماتوا ولقوا ربهم سبحانه لم يجدوا أعمالهم، فضاعت منهم هذه الأعمال التي طلبوا بها الناس في الدنيا.
لذلك على المؤمن أن يصدق بالله سبحانه، ويعمل لله سبحانه، ويتوكل على الله سبحانه.(431/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)
ومن صفاتهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، فهذه ثلاثة أوصاف لهؤلاء: يجتنبون كبائر الإثم، ويجتنبون الفواحش، (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، فهو إنسان مؤمن تقي نقي يبتعد عما حرم الله سبحانه ويجتنب الكبائر، وهنا قال تعالى: (كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)، فالإثم مضاف إلى الكبائر، والفواحش معطوف على الكبائر، فالكبائر كبائر، والفواحش كبائر، إذاً: هم يجتنبون كل الفواحش، فلا يقع المؤمن في الفاحشة أبداً، ويجتنب جميع الكبائر، والله عظيم وكريم قد وعد عبده المؤمن أنه إذا اجتنب الكبائر في الدنيا يكفر عنه عند وفاته سيئاته.(431/4)
من الكبائر اليمين الغموس
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (واليمين الغموس)، وهي مأخوذة من الغمس، فاليمين الغموس تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله.
واليمين الغموس أن يأخذ الإنسان الشيء أو يفعل الفعل ثم ينكر ويحلف بالله أنه ما فعل ذلك، ليقتطع مال امرئ مسلم بعير حق، أو رجل آخر يأخذ وديعة من رجل آخر، فيأخذ الوديعة ويصرفها على نفسه، ولما يأتي صاحبها ويطلب حقه ينكره ويقول: لم تعطني شيئاً، أو متى أعطيتني؟ فيقول صاحب الوديعة: والله لقد أعطيتك ويحلف عليه، فيقول الذي أخذ الوديعة: والله ما أخذت منك شيئاً، فيحلف ليستحل مال المسلم، فإذا فعل ذلك استحق أن ينزل ويحل في نار جهنم والعياذ بالله باليمين الغموس.
واليمين الغموس لا كفارة لها؛ لأنها ذنب أعظم من أن تقول: أصوم وأنجو من العذاب، فإنها لا كفارة لها إلا أن تدركك رحمة الله سبحانه وتعالى، فتتوب وتعيد الحقوق لأصحابها، وإلا يعذبك الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة)، أي: شيء تافه لا قيمة له، أخذ من الآخر شيئاً بسيطاً من ماله ثم حلف بالله أنه لم يأخذ شيئاً واستهان بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (إلا جعلت نكتة - نقطة سوداء- في قلبه إلى يوم القيامة).
ومن الكبائر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وحرمها ومنعنا منها: الرشوة، وقد ذكر القرآن عن اليهود أنهم كانوا يأكلون السحت، وأنهم كانوا يتعاملون بالرشوة، فالرشوة من الكبائر، وأكل السحت من الكبائر، والإنسان قد يقع فيما حرم الله سبحانه وتعالى فيتحمل الوعيد من الله عز وجل، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، فهو إنسان شرير يخيف الجيران فيكون الجار خائفاً منه أن يسرقه أو يؤذيه أو يضرب عياله، فمثل هذا قد نزع النبي صلى الله عليه وسلم منه الإيمان وقال: (والله لا يؤمن)، فهذا الجار المؤذي قد استحق بهذه الخصال الشريرة أن يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السرقة وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) إذاً: هؤلاء وقعوا في جرائم، فهو إنسان سارق، وإنسان منتهك، وإنسان مختلس، وإنسان مغتصب وقعوا في كبائر، وليس عندهم إيمان في حال وقوعهم في هذه الكبائر.(431/5)
الربا من كبائر الذنوب
وهناك كبائر من الذنوب نص النبي صلى الله عليه وسلم على أشياء منها، فالربا مثلاً من أفحش ما يقع فيه الإنسان من الذنوب، يقول لصاحبه: أسلفك مائة على أن تردها لي مائة وعشرة، أو تردها لي مائتين، فهذا يأكل دماء ولا يتاجر، فلابد أن تعطي إنساناً القرض على سبيل المواساة والرفق به، وتأخذ مالك بعينه، ولا يجوز لك أن تقرض الإنسان شيئاً وتقول: لو وضعت هذا في البنك لربحت كذا، ولو شغلتها لربحت كذا، فإذا أردت أن تأخذ مني قرضاً ثم ترده بزيادة ووافقت فهذا حرام لا يجوز؛ لأنك لو نظرت النظرة الأخرى لوجدت أن مالك سيضيع ويبور، لكن ضع مالك معك ولا تأخذ رباً على ذلك، فإذا أخذت الربا فإن الله سبحانه يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] أي: يقومون من قبورهم يوم القيامة مثل المصروعين، والسكارى، يترنحون شمالاً ويميناً بسبب أكلهم أموال الناس بالباطل، وشربهم من دماء الناس بالباطل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ذكره سمرة بن جندب: (رأيت الليلة رجلين -وذكر في الحديث- قال: فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع حيث كان قال: فقلت: من هذا؟ فقال: آكل الربا).
هذا عذابه في البرزخ إذا كان في قبره، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أصنافاً من الناس يعذبون في قبورهم، من هؤلاء الذين يعذبون آكل الربا؛ لأنه كان يسلف ويقول: أعطيك المائة وتردها لي مائة وعشرة، سأعطيك الألف ورتده لي ألفاً وكذا، هذا الذي يأكل دماء الناس في قبره يكون في نهر من دماء الناس يسبح فيه، فالإنسان إذا جرح ونزف الدم ثم وقف يذهب ليغسل يديه من أثر الدم، فكيف بمن يسبح فيه كله، كما كان في الدنيا طعامه وشرابه من ذلك، كذلك هو في قبره يغوص في هذا الدم ويسبح فيه.
وفي الدنيا الإنسان إذا أراد العوم في ماء البحر لا يعرف أن يعوم؛ لأن الماء كثير، فيصعب عليه السباحة، فكيف به إذا كان يسبح في نهر من دم، ومع ذلك يسبح ويريد أن يهرب من هذا النهر، فإذا وصل إلى الشاطئ فتح فمه ليتنفس، وإذا بالذي يقف على شاطئ النهر معه حجر يرمي به في فم هذا الإنسان، فيرجع مرة أخرى إلى النهر ليسبح، وهكذا إلى أن تقوم الساعة وهو على هذه الحال.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة: من يحل للناس الحرام ويغير اسمها بأسماء أخر، فمنهم من يستحلون الخمر ويتناولونها ويشربونها، ويسمونها بغير اسمها، فتراهم يشربون الخمر ويقولون: هذا ليس خمراً، هذا اسمه حشيش، أو هذه بودرة، فيغيرون اسم الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والخمر ما خامر العقل)، أي شيء تشربه ويذهب عقلك فهو الخمر بعينه، سواء كان جامداً أو يابساً أو طرياً، فكل ما تشربه ويذهب عقلك أو يخالط عقلك فهو من الخمر، ولكنهم يسمونها بغير اسمها ويستبيحونها ويحللونها، وكذلك الربا يسمونه: فوائد البنوك، ومن ثم يقولون: هو مال حلال ليس فيه شيء من الحرام، ويقولون لك: خذ بقول المبيح، وهذه قاعدة عجيبة جداً ما سمعناها أبداً، وما قالها أبداً أحد من أهل العلم، وهو قولهم: المسائل إذا اختلف فيها فخذ بقول المبيح، والقاعدة هي: خذ بقول من تثق فيه، ليس بقول المبيح، وإلا لأصبح كل واحد يبيح شيئاً فيأخذ الناس منه ما أباح فيبيحون الخمر والربا والسرقة، فيصبح الدين كله خذ بقول المبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه قاعدة ما سمعناها أبداً، وما قالها أحد أبداً، لا من فقهاء الإسلام ولا من الأصوليين ولا من غيرهم من علماء الدين، بل هذه قاعدة شيطانية يجعلها بعض الناس ليستبيحوا ويستحلوا ما حرم الله سبحانه وتعالى.
إنما على الإنسان إذا استفتى أن ينظر من الذي يفتيه، وينظر إلى دينه وإلى علمه، قال معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه: (احذروا من زيغة الحكيم، قالوا: وكيف نعرفها؟ قال: إن الشيطان يأتي للحكيم فيجعله يغيب ويبعد عن الصواب)، فالناس لا يسكتون جميعاً، بل لابد أن يجعل الله عز وجل في أمة النبي صلى الله عليه وسلم من ينكر المنكر على صاحبه.
إن ابن عباس رضي الله عنهما من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمع حديثاً ولم يعرف باقيه فحدث بالذي سمعه فقال: (لا ربا إلا في النسيئة)، وهو عالم عظيم رضي الله عنه، ولكن فلتة عظيمة وقع فيها رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا بالناس يقفون له ويقولون: ما هذا الذي تقول؟ الربا في النسيئة وفي غير النسيئة، فقد نهى الله عن الربا، قال: والله ما قلت إلا ما سمعت من فلان، إذاً: هو سمع شيئاً فحدث، ولم يسمع الباقي فأخطأ رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فلذلك العلماء يقولون: معنى الحديث: أن الربا الذي كان موجوداً عندهم هو ربا النسيئة، فإذا كان ربا النسيئة حراماً وأنت تستفيد منه، فكيف يكون ربا الفضل حلالاً؟ والفرق بين الاثنين: أن ربا النسيئة أن تستقرض الألف وبعد شهر تردها ألفاً ونصف الألف، وهو حرام لا يجوز، أما ربا الفضل فكأن يقول لك: خذ ألفاً وأعطني ألفاً ونصف الألف، فقوله: (لا ربا إلا في النسيئة)، أي: الغالب ذلك، فإذا كانت النسيئة حراماً فربا الفضل أشد حرمة منه، ولكن ابن عباس حدث بذلك فأخطأ رضي الله عنه فوقف، فهو صحابي وعالم كبير.
وحدث ابن عباس بنكاح المتعة بأنه يجوز، فقام له الصحابي علي بن أبي طالب وقال له: إنك إنسان تائه، وهذا اعتراض من علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ابن عباس، قال: إنك إنسان تائه، ثم قال: (لقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية وحرم المتعة).
فالحكيم قد يقع في الخطأ، ولكن لن تتركه الأمة على خطئه، بل يقومونه إذا أخطأ، فلذلك حذرنا معاذ من زيغة الحكيم، ولم يحذر من زيغة بقية الناس؛ لأن الإنسان الذي يقوم أمام الناس وهو قدوة لهم أو يظنون فيه أنه كذلك قد يقتدون به في خطئه، والعصمة في كتاب الله وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد حرم الله الربا، وكل العلماء إلى سنين قليلة ماضية متفقون على أن فوائد البنوك حرام، ولكن الوضع تغير الآن، فقد جعلوا هذه الفوائد حلالاً بعدما كانت حراماً، وهي بنوك لم تتغير معاملتها إلى الآن، فاحتالوا على الناس وقالوا: نجعل فرعاً إسلامياً في هذا البنك والمعاملة نفس المعاملة، والموظفون نفس الموظفين، والإنسان المؤمن حين يسمع أحاديث الربا يخاف على نفسه.
هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه بلال رضي الله تبارك وتعالى عنه بتمر جيد، وقد كان من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم تمر رديء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمرنا هكذا؟)، أي: تمرنا تمرنا تمر رديء فمن أين أتيت بهذا؟ قال: إني أبيع الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه! عين الربا، لا تفعل) أي: فأنت قد وقعت في الربا، وبلال لم يكن يعرف ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتخلص من التمر الرديء، فقال: (بع التمر الرديء بالمال، واشتر بالمال التمر الآخر)، إذاً: جعل له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصرف ببيع التمر الرديء بالمال، ثم يشتري بالمال التمر الآخر، لكن لا يبع التمر بالتمر، فإن التمر جنس ربوي والتمر الآخر جنس ربوي، ولذلك قال: (أوه!)، أي: يتأوه ويتوجع لهذا الذي فعله، وقال: (هذا عين الربا).
فالربا مصيبة، ومهما ظن المرابي أنه رابح وأنه سوف يكون له مال كثير، فإن عاقبته في النهاية إلى قلة وإلى ذلة وإلى ضياع، كما أخبرنا النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)، وفي رواية: (اثنان وسبعون حوباً -ذنباً- أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام)، والعياذ بالله! فهذا أدنى ما يكون من الربا، فكيف تقبل من نفسك أن تفعل ذلك؟ وإذا تكلمنا عن البنك نتكلم عن المعاملات أيضاً، فمن الناس من يفتح بقالة، فيأتيه شخص ويعطيه عشرة آلاف جنيه ويقول: شغل هذه النقود لي، وسأعطيك كل شهر مائتي جنيه، فكيف يشغل هذا المال من أجل أن يعطيه كل شهر مائتي جنيه؟ فإما أن يشغل هذا المال مضاربة، وإما أن يكون مستلفاً منه هذا المال، فعلى صاحب البقالة أن يرد المال كما كان من غير زيادة، أو يوضح ما الذي يصنع فيه.
فإذا أردت أن تشغل مال شخص ما، وأخذت منه ألف جنيه، فإذا شغلتها مع مالك كله فتحسب، فتقول مثلاً: مالي عشرة آلاف، ووضعت عليها هذا الألف فصارت إحدى عشر ألفاً فأشغل الجميع، وفي النهاية تقول لصاحب الألف: لك من ربح مالك خمسون في المائة ولي خمسون في المائة من الربح، فإذا خسر المال وكان بتفريط مني فالخسارة علي جميعها، وإذا كان قضاء الله وقدره من غير تفريط مني فنتحملها جميعاً.
هذا إذا أراد أن يضارب بأموال الناس، أما أنه سيأخذ منك عشرة آلاف ويعطيك كل شهر مائتين وهكذا، وأنت تطالب بحقك وتريد مائتين وخمسين، فتجد البعض من الناس بسماجة وغباء يقول لك: أنا لا أتعامل بالربا، فالربح مرة كذا، ومرة كذا، مرة أعطيك مائتين، ومرة أعطيك مائتين وعشرة، فكونك حددت ربحاً على رأس المال فهذا هو الربا.
والمعاملة بالمضاربة أن يأخذ نسبة من الربح، فإذا كان الربح ألفاً يشغل هذا الربح، فإذا كان منه نصف الربح يكون لطرف واحد ربع الربح، وهذا الذي يأخذه ليس من رأس المال، بل من الربح الذي يحصل، فإن لم يكن في ذلك ربح فليس له شيء طالما عمل الطرف الثاني الذي عليه، فهذا الذي يجري في المضاربة الشرعية التي لا يكون عليه شيء فيها، أما أخذ أموال الناس بصورة من صور الربا، فهو داخل تحت هذه الأحاديث التي قالها النبي صل(431/6)
اجتناب الكبائر من صفات المؤمنين
قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فالكبائر: كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى وتوعد عليه بعقوبة من عنده سبحانه وتعالى أو بعذاب أو بغضب أو بلعنة أو بحد يكون في الدنيا، وما ألحق بذلك مما لا حد فيه ولكنه مثل هذه الكبائر.
فالعلماء يقولون: الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، والإنسان حين يتعامل مع ربه سبحانه يعلم أن ربه هو العظيم الكبير فلا يخطئ في حق الله سبحانه، فإذا وقع في معصية يبادر بالتوبة إلى الله، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، والمؤمنون الذين وعدهم الله بالنجاة لا يقعون في الكبيرة؛ لأنهم يريدون النجاة يوم القيامة، بل إن المؤمن يخاف من الصغائر، ولا يستهين بها؛ لأن الاستهانة بالذنب تجعله كبيرة من الكبائر، فلو أنه واظب وداوم على صغيرة من الصغائر مستهيناً بهذه الصغيرة فإنه يستهين بحق الله سبحانه وتعالى.
ولذلك الذنب إذا تهاون به صاحبه واستهان به فهو من الكبائر أو ملحق بالكبائر؛ لأنه يشعر أنه لا دين عنده، فهو يعصي الله، ويتلذذ بمعصية الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال العلماء: إذا استهان العبد بالمعصية فوقع فيها، وفعله يدل على الاستهانة بحق الله، فإن هذه الاستهانة تُصَير المعصية كبيرة من الكبائر.(431/7)
اجتناب الفواحش من صفات المؤمنين
قوله تعالى: (وَالْفَوَاحِشَ) أي: ويجتنبون الفواحش، والفواحش: ما فحش من الذنوب الكبيرة، وقد يكون منصوصاً على الكثير منها أن الفواحش من الكبائر، ولكن هي أشياء تنبئ بشيء من الرذالة والنتانة والقذارة، فالفاحش يقع في الفحش من الشيء، والمؤمن ليس فاحشاً؛ لأن الإنسان الذي يفحش يكون لسانه بذيئاً، وهذا إنسان فاحش بالقول، وإذا كانت أفعاله تدل على الفحش فهذه فواحش الأفعال.
يقول العلماء: الفحش والفحشاء والفاحشة: القبيح من القول والفعل، والقبيح: الشيء السيئ، يقال: أفحش عليه في المنطق بمعنى: كلمه بكلام بذيء، أي: قال القبح من القول، ورجل فاحش أي: ذو فحش، وفي الحديث في سنن أبي داود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش)، فهذا بغيض إلى الله، ومن أبغض العصاة إلى الله سبحانه، وكل العصاة يبغض الله عز وجل فيهم معصيتهم، ولكن هذا أشد الناس بغضاً؛ إذ يبغضه الله سبحانه وتعالى لفحشه وتفحشه.
يقول العلماء: والفاحش: ذو الفحش والخنا من قول أو فعل، يقع في الزنا ويقع في المحارم، والمتفحش: الذي يتكلف سب الناس ويتعمد ذلك، والفاحش في الحديث: هو كل ما اشتد قبحه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن ليس بالفاحش ولا بالبذيء، وكثيراً ما تأتي كلمة الفواحش بمعنى الزنا.(431/8)
ذكر بعض كبائر الذنوب
إذاً: المؤمنون يجتنبون الوقوع في الكبائر، والكبائر كثيرة، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص على بعضها، ويلحق بها غيرها، فمما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات، فهي سبع كبائر من أعظم الكبائر التي يقع فيها الناس، قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
فهذا الحديث ذكر سبعاً من أكبر الكبائر، وفي رواية أخرى ذكرها وذكر فوقها اثنتين، فقال صلى الله عليه وسلم: (وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً).
من هذه الكبائر: الشرك بالله سبحانه وتعالى الذي لا يغفره الله عز وجل، والسحر، فالذي يتعلم السحر يتعلم الكفر، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن هاروت وماروت أنهما يعلمان الناس السحر، قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، أي: لا تكفر بتعلم السحر، وبعمل السحر، فمن الكفر التعامل بالسحر وعمل السحر.
قال: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فهذه من كبائر الذنوب العظيمة، أن يقتل نفساً حرم الله عز وجل قتلها إلا بالحق.
قال: (وأكل الربا)، فأكل الربا من أكبر الذنوب والمعاصي، ومن أفحش ما يقع فيه الإنسان؛ لأنه يعلم أنه يمص دماء الناس، يعطي ديناً ويأخذ عليه مالاً فوق المال الذي أعطاه.
قال: (وأكل مال اليتيم)، كأن يكون عمهم أو أخاهم الأكبر، فيتولى أموالهم ويأخذ منها ما ينفقه على نفسه وعلى أهله وينفقها في الحرام، فهو يضيع على اليتامى أموالهم، وهذا من أقبح ما يكون، وإن لم تنزل الشريعة بتقبيحه، فعقل الإنسان يقبح مثل ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والتولي يوم الزحف)، أي: أن يتولى الإنسان حين يلتقي الصفان، والمؤمنون يطلبون الشهادة والنصر من الله عز وجل فإذا به يهرب ويدخل في قلوب المؤمنين الوهن، ويجعل الناس يخافون من أعدائهم، لأنه بدأ بالهرب فجعل غيره يقلده في ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)، وهو أن ترمي امرأة محصنة فاضلة مستورة بجريمة الزنا، فهذا من كبائر الذنوب.
قال: (وعقوق الوالدين)، أي: أن يعصيهما ولا يبر بهما، يأمرانه بالمعروف وهو يرفض ذلك، وينهيانه عن المنكر وهو يرفض ذلك، فهو لا يطيع الوالدين، بل يقطع ويعق، وهذا من كبائر الذنوب.
قال: (واستحلال البيت الحرام)، أن يستحل ارتكاب الذنوب في بيت الله الحرام، ويستحل أن يقاتل المسلمين فيه، ويستحل أن يؤذي الناس في بيت الله الحرام، ويستحل ما حرم الله في المسجد الحرام، أو في بيت الله الحرام قبلتنا أحياء وأمواتاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه)، والصحابة ما كانوا يتخيلون ذلك، بل العرب لم يكن عندهم أن واحداً يعق أباه أو أمه، مستحيل أن يوجد ذلك؛ لأن العربي بطبيعته يحب أباه ويوقره، ويوقر جده، ويعرف أهله وحق أهله، ولذلك كانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقولوا له على عادتهم التي كانوا يقولونها: (إني سائلك عن شيء، فيقول: سل، فيقول: أنت خير أم جدك عبد المطلب؟).
فعلى عادة العرب أنه ليس من الممكن أبداً أن يقول أحدهم: أنا أحسن من أبي، أو أحسن من جدي، بل كانوا يفتخرون بآبائهم وأجدادهم، لذلك فإن الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى هذه العادة التي عنده: (أنت خير أم عبد المطلب؟)، فلا يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو خير من على الأرض جميعهم صلوات الله وسلامه عليه.
الشاهد: أن العرب كانوا يوقرون الآباء، لذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فالرجل قد يسب أبا الرجل، فيقوم الآخر بالرد عليه فيسب أباه وأمه، إذاً: هذا تسبب في لعن أبيه، فمن الفعل القبيح أن يشتم أبا الرجل، ومن الفحش أن يشتم أباه وأمه، وهذا مما يقع فيه الناس من فواحش الذنوب.
أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس)، فمن أكبر الكبائر والذنوب: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والعق بمعنى: القطع، أي: يقطع والديه، قال: واليمين الغموس، فهذه كبيرة أخرى من الكبائر لم تذكر في الحديث السابق.
إذاً: مفهوم العدد الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو للتعليم فقط، لبيان سبع من الكبائر، وليس المقصود: الحصر في السبع أو التسع فقط؛ لأن الكبائر كثيرة؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه حين سئل: الكبائر سبع؟ قال: هن إلى السبعين أقرب.(431/9)
تفسير سورة الشورى الآية [37]
يخبر الله تعالى أن من صفات المؤمنين الإيمان بالله والتوكل عليه، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، فهم قد يقعون في الصغائر أما الكبائر والفواحش فهم يجتنبونها، وقد جاءت النصوص بالتحذير من كبائر الذنوب، وهي تتفاوت، فبعضها أشنع من بعض وأفظع، فالذي ينبغي للمؤمن أن يحذر من الوقوع في الكبائر والفواحش، وأن يبتعد عنها وعن أصحابها؛ حتى يسلم منها.(432/1)
تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وإذا ما غضبوا هم يغفرون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
وقفنا في سورة الشورى عند قول الله سبحانه: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:36 - 37].
الإيمان بالله عز وجل والتوكل عليه من صفات الذين أعد الله عز وجل لهم في الدار الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهؤلاء اتصفوا بهذه الصفات التي أرضوا بها ربهم سبحانه وتعالى.
ومن صفاتهم أيضاً: اجتناب كبائر الإثم واجتناب الفواحش، والإنسان يستحيل ألا يقع في صغيرة؛ لأنه ليس معصوماً، وإنما المعصوم من اصطفاه الله عز وجل وجعله نبياً ورسولاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) أي: كل إنسان يقع في المعصية، والمعصية تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر، والكبائر منها الفواحش، وهي ما يفحش في طبع الإنسان، ويرى ذلك شيئاً فاحشاً عظيماً شديداً، وهو كبيرة كغيره، ولكن حين يسمع الإنسان عن هذا الفعل الذي يفعله فلان يستشعر بعظيم قبح هذا العمل الذي عمله، وإن كانت كل الكبائر قبيحة وكلها تمجها طباع المؤمنين، ولكن ما فحش منها كان أعظم.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى:37] ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة عدد فيها بعضاً من هذه الكبائر، وهي كثيرة، فحين يذكر ثلاثاً من الكبائر ليس معناه أن هذه الثلاث هي الكبائر فقط، وحين يذكر سبعاً من الكبائر ليس معناه: أنه لا توجد غير هذه السبع، لكن المعنى: أن هذه كلها من الكبائر وبعضها أعظم من بعض، وأعظم وأفحش الكبائر التي يقع فيها الإنسان الشرك بالله سبحانه وتعالى، وكذلك السحر، إلى أخر ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء أخرى غير ذلك.
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في الكبائر: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، والزنا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) فهذه من الكبائر التي يقع فيها الإنسان.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر: استحلال الكعبة، وعقوق الوالدين.
ويذكر القرآن لنا أشياء من الكبائر.(432/2)
استحلال الخمر والزنا والمعازف في آخر الزمان وعقوبة ذلك
جاء في صحيح البخاري: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف).
قوله: (يستحلون الحر) أي: يستحلون الزنا، (والحرير والخمر والمعازف) أي: هؤلاء الأقوام يستحلونها ويتعاملون بها على أنها حلال ليس فيها شيء، فتراهم يشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويسمعون المعازف، ويذهبون إلى الملاهي، ويقعون في الزنا.
ثم قال: (ولينزلن أقوام إلى جنب علم) أي: يذهبون في رحلة صحراوية بجوار جبل من الجبال يلعبون هنالك، قال: (تروح عليهم سارحتهم فيأتيهم آت لحاجته، فيقولون له: ارجع إلينا غداً) عندما يأتي صاحب الحاجة يطلب حاجته منهم يقولون: تعال غداً، أما الآن فهم يلعبون ويبتعدون عن ربهم سبحانه، فإذا فعلوا ذلك قال: (فيبعثهم الله ويقع العلم عليهم، ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).
نسأل الله العفو والعافية، هذه ذنوب ومعاصي الناس.
والآن يشنشنون حول استباحة هذه الأشياء بأي صورة من الصور، يقول لك: هذا الحديث أصله ضعيف، وهذا الحديث أصله كذا، وبعض الدعاة الذين كانوا قبل هذا يقولون: إن هذا حرام، تراه يتراجع قليلاً في الأمر ويقول: ليست حراماً جداً، وإنما الحرام هي الموسيقى التي هي مثيرة للفتن، أما الموسيقى التي ليست مثيرة للفتن فليست حراماً، والأغاني التي لا أدري ماذا فهو لكي يرضي الكفار ويظهر بأن الإسلام دين الوسطية يقول: ها نحن نجيز الموسيقى والرقص والأغاني وغير ذلك ونفعلها، ويقول: إن الإسلام فيه فن وفيه كذا نقول: هذا تمييع للدين، وتجد آخر يقول: أنا لا أفتي ولا أتكلم في الفتاوى، وبعد قليل تجده يقول: الموسيقى حلال ليس فيها شيء، وهي غذاء للروح، كيف تقول: أنك لا تفتي وتقول عن الموسيقى إنها حلال؟! من أين أتيت بهذا الشيء؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون).
وإذا جاء إنسان كان مغنياً كافراً ودخل في الإسلام وجاء إلى صاحبنا فقال له: أنا مغن، ويقولون: إنه لا توجد أغان إسلامية، فيقول: بلى، توجد الأغاني الإسلامية، فبإمكانك أن تغني مع الموسيقى في مدائح للرسول صلى الله عليه وسلم، نقول لهذا: أين ذهبت بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمنع من ذلك وفيه: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)؟ ما هي المعازف؟ أليست هي الموسيقى أم شيء آخر؟ وقد روى هذا الحديث الإمام البخاري في صحيحه، والأئمة الأربعة على المنع من ذلك، فإذا به يقول: نتوسط، ولا يلزم أن نقول: إنه حرام، دعنا نقول: إنه مكروه؛ لأن هناك موسيقى كذا وهناك موسيقى كذا، ولم نسمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم.
نقول لهذا وأمثاله: لا تميع دين الله عز وجل، وحدث بما قاله الله وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: (بلغوا عني ولو آية) فهذا دين الله عز وجل.
وقوله: (يستحلون الحر والحرير) تجد البعض يلبس الحرير ويقول: ليس فيه شيء، وهذا الحرير أنا اشتريته من مالي الحلال، وهذا الحرير وضعته في ماء زمزم، وغير ذلك من الأعذار الواهية، فلماذا تستحل الحرير؟ الحرير حرام على الرجال لا يجوز لك أن تلبسه.
قوله: (والخمر يسمونها بغير اسمها)، فيقول لك: هذا ليس خمراً، وإنما هذا أصله دواء للسعال، فتراه يشتري دواء السعال ويشرب الزجاجة كلها، وهو يعرف أن هذا الدواء فيه من الكحول، وأنه لو شرب الزجاجة كلها سيذهب شيء من عقله، وهناك فرق بين أن يكون هذا الشيء دواء يتعاطاه الإنسان، كدواء يصفه له الطبيب، وبين أن يأخذه إنسان ليشربه حتى يذهب عقله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر ملء الفرق منه فملء الكف منه حرام) أي: لو كان إنسان سيشرب مائعاً كثيراً لكي يسكر سيقول لك: لو شربت شربة واحدة لن أسكر، وإنما أصل إلى حد الإسكار عندما أشرب الزجاجة كاملة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ولا شربة واحدة منها، وملء الكف منه حرام؛ لأنه في النهاية يؤدي إلى الإسكار.
إذاً: على ذلك الإنسان الذي يضحك على نفسه ويقول: هذا ليس خمراً، وإنما هذه اسمها كذا، نقول: لا تضحك على نفسك ولا تخدع نفسك، فالمخدرات هي أشنع من الخمور، ولم تستبح في بلاد الإسلام إلا حين جاء الباطنية الروافض الإسماعيلية، فهم الذين أباحوها للناس، وقالوا للناس: الذي يتبعنا يدخل الجنة، فكانوا يعقدون لهم مجالس ويعطونهم خمراً وحشيشة تذهب عقولهم، ويقولون لهم: نحن ندخلكم الجنة ونفعل كذا أي مسلم يرضى بأن يذهب عقله الذي ميزه الله عز وجل به عن الخلق؟ يذهب عقله بأن يشرب هذه الأشياء التي حرمها الله سبحانه وتعالى.
يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر) أي: إذا كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تجلس مع أناس يشربون المسكرات، حتى وإن كنت لا تشرب؛ لأنك تصير راضياً بهذا سواء تكلمت أو لم تتكلم، فلا تجلس معهم فقد نهاك النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزار)، الإسلام دين النظافة والطهارة، ويعود المسلم إذا كان في مكان عمومي يغتسل فيه أن يلبس إزاره، وأن يستر ما بين السرة والركبة، فكن مستتراً وأنت في هذا المكان.
وقوله: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) فلا ترسل بامرأتك حماماً عمومياً للنساء فتجلس النساء عاريات بعضهن مع بعض فتكون المصيبة، فلا الرجال يجلسون في مجالس عراة بعضهم مع بعض، ولا النساء كذلك، فإن من وراء ذلك غضب الله سبحانه، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يفعل ذلك.
ومن الأحاديث التي جاءت في الخمر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مخمر خمر) أي: كل مغط للعقل، ومخمر الشيء هو الذي وصل إلى أن صار وتحول إلى خمرة، قال: (وكل مسكر حرام).
وقال: (ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) وعيد من الله لابد أن يسقي هذا الإنسان الذي شرب الخمر أربع مرات أو تعاطى الحشيش أربع مرات أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: (ما هي طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار).
ثم قال: (ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه) أي: من ضحك على طفل صغير وأعطاه خمرة يشربها، أو أعطاه حشيشاً يأكله، هذا الذي فعل ذلك قال: (كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) هذا الذي يبيع المخدرات ويضحك على الأولاد في المدارس ويقول: ذق هذه، وشم هذه، واشرب هذه، سأعطيك مجاناً لن آخذ منك شيئاً، ومرة ومرتين إلى أن يتعود الولد على ذلك، ولعل هذا الذي يبيع لا يشربها ولا يأكلها.
فهذا الإنسان حق على الله على أن يسقيه من طينة الخبال من صديد أهل النار، فاحذروا من غضب الله، وربوا أبناءكم على حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى طاعة الله سبحانه، وحكموا شرع الله، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(432/3)
التحذير الشديد من شرب الخمر والتبرج
قال تعال: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى:37] من الآثام العظيمة ذكرنا الربا، وذكرنا الرشوة والسحت، وذكرنا من ذلك الخمر، والخمر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أم الفواحش وأم الكبائر، فمن الأحاديث التي تدل على فاحشة هذه الجريمة -جريمة شرب الخمور- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو مدمن الخمر لقي الله كعابد وثن).
إذاً: مدمن الخمر حين يلقى الله يوم القيامة مثله مثل الذي يعبد الوثن، فعابد الوثن قد ألغى عقله فعبد غير الله سبحانه اختياراً، وهذا ألغى عقله اختياراً فوقع في الفواحش ووقع في الكبائر ووقع فيما حرم الله سبحانه وتعالى.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الخمر أم الخبائث) وفي رواية: (أم الفواحش) وقال: (فمن شربها لم تقبل صلاته أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية) وكل ما خامر العقل فهو خمر، فكل شيء يأكله الإنسان أو يشربه أو يشمه أو يتعاطاه عن طريق الوريد، ويخالط عقل الإنسان فهو خمر.
إذاً: فاسحب هذا الحكم على ما يشربه الإنسان من خمر، وعلى ما يأكله الإنسان من حشيش، وما يشمه من بنج وغيرها، فكلها خمر.
وكم نسمع عن إنسان سهر ليلة فأكل حشيشاً وزاد منه فمات من ليلته، فهذا مات ميتة جاهلية، مات كعابد وثن، ختم له بالسوء ولا حول ولا قوة إلا بالله، شرب الخمر، أو أكل الحشيش، أو أخذ إبرة، أو شم مخدراً ووقع ميتاً، وفي الحديث الآخر: (الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته).
وقال في حديث آخر صلوات الله وسلامه عليه: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة) أي: المتشبهة بالرجال، هذه من الكبائر التي تقع فيها المرأة، فالمرأة حين تلبس كالرجل، فتخرج لابسة البنطلون والقميص، وتقلد الرجل في شغله وفي مشيه، وفي الدب على الأرض أمام الناس، وتتشبه بالرجال وتقول: أنا حرة أفعل الذي يعجبني، وتنسى ربها سبحانه وتعالى، فهذه مهما ظنت أن الناس يحترمون أفكارها فهي مخطئة، بل العكس كل الناس يحتقرونها ولا قيمة لها عند الناس، وإخراج الجنس للناس صنيع اليهود، واليهود هم الذين يحتقرون المرأة أصلاً، واليهود عرفوا أنها الوسيلة لإغواء الشعوب، فأخرجوها للناس حتى يضيع الناس ويتحكم اليهود ويسيطرون على الخلق، هذا المخطط موجود في بروتوكولات حكماء صهيون، فقد قالوا ذلك منذ أكثر من مائة سنة.
فهم الذين أخرجوا المرأة من بيتها، وهم الذين صنعوا بيت الموضة للنساء؛ لأجل أن تخرج المرأة للعمل حتى تأتي بالمال الذي به تأتي بالموضة الجديدة، فتنتهي فلوسها على هذا الشيء، وتكون حقيرة ودمية ولعبة في أيدي هؤلاء، يلعبون بها كيف شاءوا، ويأمرونها بالعري فتتعرى، ويأمرها ربها سبحانه بالحجاب فترفض، وترد كلام ربها سبحانه، وإذا سئلت عن أشياء في الإسلام بسيطة جداً لا تعرفها، تنسى أهم أمور دينها الإيمان بالله سبحانه، فهذه وبالها يوم القيامة ألا يكلمها الله سبحانه، ولا ينظر إليها.
ثم قال: (والديوث) أي: الذي يرضى بالفواحش في بيته.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى)، فمن الكبائر أن الإنسان يعق والديه، ويدمن الخمر، ويمن بما أعطى للخلق، والمرأة تترجل وتتشبه بالرجال، كذلك تبرج المرأة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي لم أرهما: أناس معهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة).
وفي حديث آخر قال عن المتبرجات: (العنوهن فإنهن ملعونات) أي: هذه المرأة المتبرجة التي تخرج للناس كاشفة عما أمرها الله عز وجل أن تستره، ولا تهتم ولا تخاف من الله سبحانه وتعالى، ولا تستحيي من الخلق، وتقول: أنا حرة، فلننظر في حرية هذه حين تأتي يوم القيامة ما الذي تصنعه مع ربها سبحانه وتعالى؟ وقد أغوت الخلق وفتنتهم، واستكبرت على الخالق سبحانه وتعالى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير)، فهذه كبائر يقعون فيها؛ من شرب الخمر، ومن حضور الحفلات والملاهي التي فيها المغنيات والراقصات وهؤلاء يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير.(432/4)
المفاسد المترتبة على ترك تحكيم شرع الله
أما البشر فيحلون بأمزجتهم ويحرمون بأهوائهم، ففي الغرب إذا زنى شخص بامرأة وهي راضية فليس لأحد أن يعترض، كذلك في قوانين بعض البلاد الإسلامية إذا فعل هذا الشيء - والعياذ بالله - ينظر إلى المرأة هل هي صغيرة أو بالغة، فإذا كانت بالغة كبيرة راشدة لها الاختيار في هذا، وإذا كانت صغيرة فيكون بهذا قد اغتصبها، فإذا حوكم هذا الإنسان حكم عليه بستة أشهر سجن ويخرج بعد ذلك.
أما دين الله عز وجل فينظر في الإنسان الذي وقع في هذه الجريمة، فإذا لم يكن متزوجاً جلد مائة جلدة، وإذا كان متزوجاً فإنه يقتل رجماً بالحجارة، يرجم الزاني وترجم الزانية؛ لأنه لو ترك الأمر لأهواء البشر لرجعوا إلى عادات الجاهلية الأولى مرة ثانية يبيحون ما حرم الله سبحانه، ويئدون أبناءهم، ومن العجيب أن الوأد ما زال موجوداً، فعند الكفار إذا كانت المرأة حاملاً وهذا الحمل غير مرغوب فيه فإنها تذهب إلى الدكتور ليجهض الجنين، حتى ولو كان هذا الجنين قد نفخت فيه الروح.
ولا تعجب من ذلك! ففي الصين تقرأ خبراً من الأخبار: حذر مسئول صيني من أن عدد الرجال الذين لا يجدون زوجات لهم في الصين قد يتراوح ما بين ثلاثين وأربعين مليوناً، إن التوازن الطبيعي الذي جعله الله عز وجل في الخلق توازن بحكمة منه سبحانه، فهو جعل الذكور وجعل الإناث، وليس لك أنت أن تختار ذكراً أو أنثى، وإنما الله عز وجل هو الذي يحدد وهو الذي يقدر ما يشاء، فيأتي الإنسان ويلعب في هذا الشيء ويتغافل عن حكمة الله سبحانه وتعالى، فإذا به ينشر الفساد في الأرض.
واسمع هذا الخبر حتى تعرف كيف أن الإنسان عندما يتدخل فيما ينظمه الله عز وجل في كونه يخرب الكون ويجعل البلاء ينزل من السماء، يقول الخبر: إنه بحلول عام ألفين وعشرين سيكون أربعون مليوناً من الصينيين لا يجدون ما يتزوجون من النساء، وهذا يؤدي إلى انتشار البغاء والزنا، والاتجار في الرقيق؛ بسبب عدم وجود نساء.
وأرجع المسئول سبب تراجع أعداد النساء في الصين إلى تفضيل إنجاب البنين؛ لأن في الصين أن قانون الدولة يمنع أن يكون للشخص أكثر من ابن واحد فقط، هذا هو القانون الذي وضعه البشر، فعلوا ذلك خوفاً من الفقر، مع أن الصين غزت التكنولوجيا العالمية وتكسب من ورائها.
فحين أصدروا هذا القانون تجد الرجل يذهب بامرأته للطبيب ليكشف عليها، فإن كان المولود ذكراً أبقاه، وإن كان أنثى أجهضها، هذا هو السبب الذي أحدث فجوة بين الذكور والإناث، وهذا الخبر نشر في الجرائد الذي يقول فيه المسئول الصيني الذي اسمه دي ويشونج نائب رئيس لجنة استشارية بشأن السكان: إن كثيراً من الأزواج يجهضون الأجنة الإناث بعد معرفة نوع المولود من خلال الاختبارات الطبية، مما أدى إلى ارتفاع عدد المواليد الذكور، وتوقع أن يتسبب ذلك في موجات من الجرائم والقلاقل الاجتماعية.
وفي حديث آخر يقول: إن سياسة الصين المثيرة للجدل تسمح لكل أسرة بإنجاب طفل واحد فقط، وقال: إن ذلك ليس توقعاً خيالياً، يعني: توقعه بالجرائم والزنا وبيع الرقيق، وقال: وسيؤدي الأمر إلى أن يصبح عدد العزاب في الصين أكبر من تعداد سكان دولة مثل ماليزيا.
إذاً: هذه الفجوة الكبيرة بين الذكور والإناث، وعدم التوازن في تعداد الذكور والإناث يشكل خطورة كبيرة في المناطق هنالك.
نقول: هذا نتيجة تصرف البشر حين يحكم البشر البشر، وحين يبتعدون عن حكم الله رب العباد سبحانه وتعالى، هذا الذي يؤدي إليه قتل المولودات من البنات، وهذا الذي أخبروا عنه، أما ما كان خافياً فلا ندري كم قدره، وهذا في بلاد واحدة، فماذا في بقية البلدان؟!(432/5)
تعريف العلماء للكبيرة
قلنا: إن العلماء حدوا لها حداً وقالوا: الكبيرة هي ما نص القرآن أو السنة أنها كبيرة، أو توعد فاعل ذلك بأن يعاقبه الله يوم القيامة، أو ذكر أنه ملعون من يفعل كذا، أو ذكر غضب الله على من يفعل كذا.
إذاً: كل ما توعد بغضب أو بلعنة أو بعقوبة في الآخرة أو بحد في الدنيا، فهذا من الكبائر، أو نص على أن هذا الفعل من الكبائر.(432/6)
التحذير من جريمة الزنا
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ويعظم لهم أمر هذه الكبائر حتى لا يقعوا فيها، فيقول صلى الله عليه وسلم وقد سئل: (أي الذنب أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تشرك بالله وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، هذه كلها كبائر.
والإنسان حين يقع في الزنا، فهذه كبيرة من الكبائر، وهي فاحشة من الفواحش، كذلك السارق أتى كبيرة من الكبائر، والزاني أتى فاحشة من الفواحش، والذي يقع في اللواط أتى فاحشة من الفواحش، وهذا كله من الذنوب الكبيرة العظيمة.
والكبائر بعضها أعظم فحشاً من بعض، فإذا كان الزنا فاحشة فكيف بمن يزني بحليلة جاره! المفترض أن يحافظ على حرمة جاره، وأن يدافع عن جاره وعن حريم جاره، فهذا الذي يزني بحليلة جاره يكون قد ارتكب أفحش ما يكون ومن أعظم الكبائر عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22].
إذاً: الزنا كبيرة من الكبائر، وهو فاحشة، وأعظم ما يكون في الزنا أن يزاني بحليلة جاره، وأعظم وأفظع منه أن يتزوج المرء واحدة من محارمه أو ينكحها، فإذا تزوجها فقد كفر؛ لأنه استحل ما حرم الله، فإذا واقعها وزنى بها فيكون واقعاً في فاحشة عظمية، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22].
ولذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم زنى ماعز وزنت الغامدية، فأقام عليهما الحد صلوات الله وسلامه عليه، وزنى إنسان كان مريضاً فأمر بإقامة الحد عليه، قالوا: إننا لو نقلناه لتخسف؛ لأنه ليس به قوة، سبحان الله! ليس فيه قوة ويقع في الزنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه، ولكن خفف وقال: (خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ واضربوه به) والعثكول هو العذق الذي تتعلق فيه البلح، فأمرهم أن يأخذوا عثكولاً ويضربونه ضربة واحدة به، فأقيم عليه الحد بذلك.(432/7)
حكم الزنا بالمحارم
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن إنساناً تزوج امرأة أبيه، يقول البراء: (لقيت خالي وقد حمل الراية ومعه مجموعة من المسلمين، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى رجل تزوج امرأة أبيه لنقتله ونخمس ماله).
فهذه فاحشة من أعظم ما يكون، فكون المرء ينكح زوجة أبيه ويتزوجها، فإنه قد ارتكب جرماً عظيماً، قال الله عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22].
فقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، الأب يتزوج بامرأة، ثم إذا توفي الأب إذا بالابن يمسك هذه المرأة وتكون أسيرة عنده، ومن حقه أن يزوجها لأحد من الناس ويأخذ هو مهرها، أو يتزوجها هو، فجاء الإسلام ليمنع هذه العادات القبيحة ويذكر أنها من أعظم الفواحش: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22].
فالله عز وجل حرم الكبائر ومن الكبائر الفواحش، ولكن نص عليها لفظاعتها، ولعظيم شرها.(432/8)
حكم قتل الأبناء خشية الفقر والعار
قوله: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) من الذنوب العظيمة أن يقتل الأب ابنه، أو الأم تقتل ولدها، فكان أهل الجاهلية يئدون البنات، ويذكر أن رجلاً من أهل الجاهلية يقال له: قيس التميمي، هذا الرجل كان قد أغار قوم على قومه وأخذوا الحريم معهم، ومن ضمن من أخذوا من الحريم ابنة هذا الرجل، فلما أخذوها كانت عند رجل من هؤلاء أمة، ثم بعد ذلك اصطلحت القبيلتان، وجاء هذا السابي يخير البنت بين أبيها وبينه، قال: هل تريدين أباك أو تريدينني؟ فاختارت من سباها، فأقسم الرجل أنه لا تولد له ابنة إلا وأدها، فأخذ منه الناس هذه العادة السيئة وفعلوها، فكانوا يقتلون البنات، ويقولون: نقتل البنات؛ لأن بنت فلان عملت كذا ولا نريد أن تفعل بناتنا هذا الشيء، وهذا في الظاهر، ولكن الحقيقة في الباطن أنهم كانوا يحتاجون إلى الذكور، كانوا يريدون ذكوراً لأجل أن يشتغلوا ويأتوا بالمال، ولكي تغير القبائل بعضها على بعض، فهم يريدون ذكوراً حتى يغيروا على القبيلة الثانية، أما البنت فأنا أصرف عليها وتفقرني ولا تأتي بشيء، والولد سيأتي لي بالمال، فلذلك فضحهم الله عز وجل حين قال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] أي: أنتم تقتلون أولادكم لأنكم لا تريدون أن يأكلوا معكم، قال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] فالرزق من عندنا فنحن نرزق الجميع.
وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] فالرزق من عند الله سبحانه، فكون الإنسان يقتل ابنه هذا تجرد من الرحمة، وتجرد من آدميته ومن إنسانيته، وهذا الفعل من كبائر الذنوب ومما يفحش من الذنوب، حين يسمع الناس أن فلاناً قتل آخر في مشاجرة أو كذا، قد لا يتفاحش عند الناس حين يسمعون ذلك، لكن حين يسمعون أنه قتل ابنه، فهذا شيء فظيع جداً أن يفعله الإنسان.(432/9)
عظمة دين الله عز وجل وشريعته وحكمه
هذه الأمور وقعت في الجاهلية الأولى، ولو ترك الناس لأهوائهم من غير تشريع لعادوا إلى هذه الجاهلية الأولى، سواء اتفقوا على مثل هذه العادات، أو لم يتفقوا، فقد يسن لهم ويقنن لهم هذا الشيء، لذلك نقول: هناك فرق بين الإسلام والقوانين الوضعية، القوانين البشرية تقول لك: حكم البشر للبشر، وهذا أصل معنى الديمقراطية، أي: أصل معنى الديمقراطية أن الحكم للشعب، أما الإسلام فمعناه أن الحكم لله، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، وقال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]، وقال: {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70].
فالله سبحانه وتعالى هو الحكم والحكم له سبحانه وتعالى، ولم يجعل للعباد أن يختاروا، فلم ينزل القرآن لأجل أن يختار الناس ما أرادوا منه ويتركوا ما أرادوا، قال الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] أي: ما كان ولا يكون أبداً لإنسان يتصف بالإيمان أن يختار على الله سبحانه وتعالى، فعلى ذلك يخبرنا ربنا سبحانه هنا ويقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40] أي: هذا الدين العظيم وهذا الدين المستقيم، وهذا الدين الذي يهذب أخلاق الخلق، دين الله سبحانه، فلو ترك الأمر للناس لاختيارهم لاختار الناس ما تقتضيه شهواتهم، فإذا بهم يبيحون الزنا، بل سيبيحون الزنا بالمحارم ولا أحد ينكر ذلك، ويفعلون الفواحش علناً أمام الناس ولا أحد ينكر ذلك، فالذي ينظر إلى الغرب الكافر وإلى أمريكا الكافرة وينظر إلى ما يصنع الناس هناك يعلم أن دين الله حق، فهو الدين الذي يهذب الأخلاق، ويهذب النفوس، ويقوم الخلق؛ لأنه دين الله الذي خلقك فسواك فعدلك، والذي ميزك بقلبك وبعقلك عن البهائم، ميزك عما لا يفهم مما خلق الله سبحانه وتعالى، فهذا دين الله سبحانه يقبح إلينا هذه الأشياء، ويقول: هذه فواحش لا تقربوها فضلاً عن أن تفعلوها.
وهذا الدين يأمرنا بالعدل والإحسان ليس مع المسلمين فقط، بل مطلقاً مع الخلق جميعهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة، الذين يعدلون في أهلهم وحكمهم وما ولوا).
أي: يعدلون العدل الذي أمر الله عز وجل به، فهو سبحانه أنزل الميزان وأنزل العدل بين الخلق ليحكم الناس بالعدل، هذا دين الله سبحانه الذي يحكم خلقه به، وهو أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، فالمؤمنون يفعلون ما أمر الله ويجتنبون ما نهى الله عز وجل عنه، يجتنبون أن يقعوا في كبائر الإثم وفي الفواحش، فيمتنعون من ذلك حتى يغفر الله عز وجل لهم.
إذاً: الله عز وجل هو الذي يحل لنا ما شاء وهو الذي يحرم علينا سبحانه ما شاء، ولو ترك الإنسان لرأيه وهواه لفعل أفحش الفواحش بدعوى أن القانون يجيز ذلك، لذلك حين تسأل إنساناً: هل الخمر حرام؟ يقول لك: ولماذا تباع وهناك تراخيص في بيعها؟ فهذا قال هذا القول لأن القانون يبيحها، كذلك الزنا، يمسك الإنسان الزاني ويدخل السجن ثلاثة أشهر ويخرج، أو إذا عفا أولياء البنت عن هذا الزاني أفرج عنه دون حد.
فالدين لم يترك للخلق، انظر حين حرم الله عز وجل الخمر ما الذي حدث؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يريقوا ما عندهم من الخمور، فأراقوا الخمور على الأرض، فإذا بها تسيح في سكك المدينة كالسيل، هذه الخمور كانت أموال هؤلاء، وهل يوجد إنسان يضيع ماله؟ لم يقولوا: اصبروا علينا قليلاً حتى نبيع الخمر الذي عندنا ثم حرموه علينا، أبداً لم يقولوا هذا، ولكن أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن عندي أموال يتامى وهي خمر أفلا أخللها؟ - أي: أحول خمر الأيتام إلى خل - قال: لا، وأمره أن يريقها) فحرمت الخمر ولم يترك لأحد من الخلق أن يختار على الله سبحانه وتعالى.(432/10)
تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [37]
لما كان ابن آدم خطاء ولابد أن يدرك حظه من الذنوب، جاءت هذه الآية في سياق ذكر صفات المؤمنين، فبين الله عز وجل أن الذنوب تتفاوت، وأن منها كبائر وصغائر، فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة، أما صغائر الذنوب فقد جعل الله عز وجل لها مكفرات كثيرة منها: اجتناب الكبائر وفواحش الذنوب، فمن صفات المؤمنين اجتنابها وعدم الإصرار على الصغائر، ثم ذكر صفة أخرى وهي أن المؤمن ليس كغيره بل هو مسيطر على نفسه، مالك لها، إذا غضب تجاوز عمن أساء إليه، وليس تجاوزه عجزاً، إنما هو تجاوز الكريم عند مقدرته على خصمه، فيعمل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى.(433/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37].
إن اجتناب كبائر الإثم والفواحش من صفات المؤمنين الذين يغفر الله عز وجل لهم عند وفاتهم بفضله وكرمه، قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] فالكبائر إذا اجتنبها المؤمن طول حياته فإن الله عز وجل يكفر عنه سيئاته التي هي صغائر ذنوبه بفضله وكرمه ورحمته سبحانه وتعالى.
وقد جعل الله مكفرات كثيرة، فجعل الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، وكذلك اجتناب الكبائر، كل ذلك مكفرات لصغائر الذنوب عن العبد.
وقد ذكر الله هنا الذين يجتنبون كبائر الإثم ويجتنبون الفواحش، وفي سورة النجم ذكر الاستثناء فقال: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فهم يجتنبون كبائر الإثم، ولكن يقعون في اللمم وهي الصغائر، وكل إنسان لا بد أن يقع في حال غضبه، أو في حال فرحه، أو في حال هربه من شيء، فلابد أن يقع في شيء من اللمم.
فعلى المؤمن أن يجتنب الكبائر ولا يستهين بالصغائر، وإذا وقع في شيء من الصغائر تاب إلى الله تعالى ورجع إليه.
فإذا كان عند الوفاة وبقي عليه شيء من سيئاته وقد اجتنب كل الكبائر فالله عز وجل يكفر عنه هذه السيئات بفضله ورحمته سبحانه.
وكذلك قد جعل الله عز وجل للعبد في حياته مكفرات، مثل الشوكة يشاكها، والبلاء يبتلى به، والمصيبة يبتلى بها، وما يصيبه من هم وغم ووصب ونصب ومصيبة إلا كان له في ذلك أجر وكفر الله عز وجل عنه من سيئاته بذلك.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى:37] قراءتان: قراءة الجمهور: (الذين يجتنبون كبائر الإثم).
وقراءة حمزة والكسائي: (كبير الإِثْمِ)، أي: الإثم الكبير.
وقوله تعالى: {وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى:37]، أي: ويجتنبون أيضاً الفواحش.(433/2)
عفو النبي صلى الله عليه وسلم وكظمه للغيظ
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على ذلك بفعله وهو القدوة الحسنة العظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] يأتي إليه ورجل يقول: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك، ويلببه بردائه)، أي: يخنق النبي صلى الله عليه وسلم بقميصه، ويا ترى هذا الإنسان الذي يفعل هذا الشيء هل يستحق أن أحداً يعطيه شيئاً؟! ويقول: يا محمد، ولا يقول: يا رسول الله، أو يا نبي الله.
ولكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (اترك ردائي، أعطوه من مال الله) ويصفح عنه صلوات الله وسلامه عليه ويأمر بإعطائه ويضرب بذلك المثل القدوة، ولو أنه زجره لاستحق ذلك، ولو غير النبي صلى الله عليه وسلم زجره لاستحق ذلك ولا لوم عليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدبه ربه ويجعله أسوة يكظم غيظه ويصبر طاعة لله، ويأمر لهذا الإنسان بالعطاء.
وجلس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع مجموعة من المشركين يدعوهم إلى الإسلام، وأثناء ذلك يأتي رجل ويقول: (يا رسول الله! علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: قطب وجهه، وعبس صلى الله عليه وسلم، كأنه يتمنى منه الصبر عسى الله أن يهدي هؤلاء.
ولو أن إنساناً مكان النبي صلى الله عليه وسلم وزجره لا يلام؛ لكون الدعوة إلى الله عز وجل هنا أهم من تعليمه ما ليس فرضاً عليه كالصلاة، ويجوز تأخير البيان عن وقت المخاطبة.
إذاً: ليس فرضاً عليه الآن أن يعلم هذا، إنما الفرض عليه أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى عسى أن يدخل هؤلاء المشركون في دين الله.
ولكن أيضاً يؤدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، فينزل القرآن ويقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، فيعاتب في ذلك، وغاية ما فعله مع رجل أعمى أن قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه ملامح الغضب فقط، فيجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيقول: (مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي).
فعلينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شتم أحدنا تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع شيئاً غير تقطيب وجهه وعوتب في ذلك، فيعفو عن هذا الإنسان لعل الله عز وجل يعفو عنا يوم القيامة.
وهذا حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده، وأصله في البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وسنسوق لفظ الإمام أحمد؛ لأن فيه فائدة زائدة عن غيره، وهو حديث إسناده صحيح قال: (قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث) وهذه الغرة ذكرت في رواية مسلم يقول جابر: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها وتفرق الناس)، فالغرة أنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده تحت شجرة وعلق سيفه في الشجرة.
قال: (فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ سيف النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: من يمنعك مني؟)، كأنه يقول: لقيتك أخيراً، وأنت نائم على الأرض، وسيفك في يدي، فمن يجيرك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يمنعني منك، فسقط السيف من يد الرجل، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟)، وهنا كان لسان الحال: فالله منعني، وعرفت أنني على الحق، وأنت كافر، فليس بيننا وبينك أمان، (وإذا بالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كن خير آخذ).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشهد أن لا إله الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك) ومعنى قوله: إني لن أقاتلك مرة أخرى ولن أكون مع قوم يقاتلونك، أما الإسلام فلن أدخل فيه.
(فخلى سبيله، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الناس إليه فقال: إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتاً في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: فشام السيف فهاهو ذا جالس)، ومعنى (شام السيف) أدخله في غمده، واختصر القصة كلها.
ولو أن أحداً مكانه لقال: فعل كذا وفعلت كذا، ويطيل في وصف القصة.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال لهم: إني صرخت فيه، فقلت: الله، فسقط منه السيف، لعل الصحابة يقتلونه.
قال: (فذهب الرجل إلى أصحابه، وقال لهم: قد جئتكم من عند خير الناس).
فهذا الرجل الكافر رجع إلى أصحابه، وقال: جئت من عند خير الناس، قال: (فلما كان الظهر أو العصر صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف).
أيضاً مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس) فإذا أردت أن يحبك الله سبحانه وتعالى فانفع نفسك وانفع غيرك.
فالإنسان حين يعمل ويكسب من عمله وينفع الناس يكون نافعاً لنفسه وللناس، فيحبه الله عز وجل.
قال: (وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعه)، فمن الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى أن تدخل السرور على قلب إنسان مؤمن آذاك في شيء، وتوقع منك العقوبة فهو خائف من هذه العقوبة، فإذا بك تفرج عنه وتعفو فتدخل السرور على قلبه بذلك، فيكون لك الأجر عند الله سبحانه ويحبك الله سبحانه وتعالى.
(أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً)، عليه دين والدين كربة من الكربات ففرج عنه بقضائه، (أو تطرد عنه جوعاً)، كأن يكون صائماً وجاء وقت الإفطار وليس عنده شيء يأكله، فأعطيته وأطعمته.
قال: (ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً) أي: يعتكف في المسجد النبوي، وفي الاعتكاف أجر عظيم جداً.
فأعظم من هذا الأجر أن يمشي مع صاحب حاجة حتى يقضي له حاجته.
قال: (ومن كف غضبه ستر الله عورته)، وهذا الشاهد، فإذا كنت تريد الله تعالى يسترك في الدنيا وفي الآخر فاكظم غيظك ما استطعت، وحدث نفسك بأن الله عز وجل أقدر عليك من قدرتك على هذا، وحدث نفسك بالحور العين، واذكر قول الله عز وجل {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، وإذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع، ولا تتكلم في وقت الغضب لعلك تنطق بالشيء الذي يثير الشر أكثر وأكثر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نعالج الغضب، قال: (لا تغضب)، أي: لا تتعاط أسباب الغضب، فإذا وقعت في الغضب وثرت جداً قال: (إذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع).
وقال: (توضأ وصل ركعتين)، وذلك لأن الغضب من نار، والماء يطفئ النار، فتطفئ نار غضبك بهذا الوضوء.
وقال: (من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه) فهناك إنسان قوي يستطيع أن ينتصر وإنسان ضعيف لا يقدر أن ينتصر، وكل منهما إذا كظم غيظه فهو مأجور، ولكن الأعظم أجراً هو القادر على أن يفعل بخصمه ما يستطيع ثم يكظم غيظه وغضبه ويسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة)، ففي يوم القيامة يوم اليأس، والناس في ذلك الموقف العظيم، يقولون لله: (يا رب! اصرفنا ولو إلى النار)، يقولون ذلك من شدة ما يعانونه من وقوف على أقدامهم خمسين ألف سنة، والشمس قد دنت من الرءوس، فإذا بالله يملأ قلب هذا الإنسان رجاءً، فهو راجٍ ربه سبحانه، ومؤمل ما عند الله، والذي في قلبه الرجاء يعطيه الله ما يرجوه منه سبحانه وتعالى.
قال: (ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)، فالذي يمشي مع أخيه في حاجة، كأن يقول: تعال كلم لي فلاناً، فأنا أخاف غضبه، فيذهب معه ويمنع غضب هذا الآخر عنه، فهذا يثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل الأقدام على الصراط فلا يسقط في نار جهنم.
قال: (وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)، فقد يعمل الإنسان خيراً كثيراً جداً، ولكنه بسوء خلقه يضيع أجره، كان يعطي الفقراء ثم يمن عليهم، أو يشتمهم، ومثل ذلك: كإنسان عنده عسل فيخلطه بالخل فيفسده، وكذلك سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
ذكر أن الأحنف بن قيس رضي الله عنه كان من أحلم الناس، وكان الناس يتعجبون من حلم هذا الرجل، فيقولون له: ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمته من قيس بن عاصم المنقري التميمي -وهو الذي سن الوأد ثم تاب إلى الله عز وجل وبعد ذلك كان من أحلم العرب- قال: شهدته وقد جلس في قومه وهو محتب.
قال: فجاءوا إليه برجل موثق في الحبال فقالوا: هذا ابن أخيك قتل ابنك.
قال: فوالله ما حل حبوته، ثم قال لابن أخيه: يا بن أخي! قطعت رحمك، وأفسدت ما بيننا وبينك.
ثم قال: أطلقوه.
وقال: قوموا إلى أم المقتول فأعطوها مائة ناقة فإنها غريبة.
من يفعل هذا الأمر؟! ليس المطلوب أن تكون مثله، لكن المطلوب ممن يغضب لأتفه الأسباب أن يتذكر هذا الرجل.
وقصة أخرى للأحنف أنه كان واضعاً ابنه على رجليه، وجاءت الجارية وفي يدها سفود فيه شواء، فإذا بالسيخ يسقط من يدها على الغلام فيقتله، ففزعت(433/3)
ضابط الكبيرة
وهنا يتكلم العلماء في أمر الكبائر، وليست الكبائر هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم أو هي التي ذكرها الله عز وجل في كتابه فقط، بل قد وضع العلماء لها ضابطاً، فقالوا: كل ذنب من الذنوب توعد الله عز وجل عليه بالعذاب، أو جعل فيه حداً، أو لعن الله عز وجل فاعله أو غضب عليه فهو كبيرة من الكبائر التي تفحش في نظر المؤمن حين يسمعها، ولو لم ينص على أن هذا من كبائر الذنوب.
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المذكورة في القرآن كالسرقة، والزنا، وقتل النفس، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول مثلاً: فمن شتم الرب سبحانه وتعالى، فانظر إلى المشرك وانظر إلى الذي يشتم، فالمشرك بالله معظم لله تبارك وتعالى، ويقول: أن لا أقدر أنا أعبد ربي مباشرة، إنما أجعل الصنم يوصل هذه العبادة؛ لأنني أحقر من أن أصل إلى الرب فأعبده مباشرة، فهذا عنده شيء من التعظيم، لكنه أشرك في تعظيمه، فوقع في كبيرة من الكبائر.
والذي يشتم الرب سبحانه وتعالى تجده أفحش بكثير من الذي أشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا استهان بربه.
فالأول: جعل معه في ملكه غيره.
والثاني: كأنه ألغى ربه، فلاشك أن الشتم أفحش.
وكذلك الذي يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهين برسل الله عليهم الصلاة والسلام، أو يكذب أحداً من رسل الله.
وقد جعل الله تعالى الحرم آمناً كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].
فالحرم آمن شرعاً وقدراً، ففي الجاهلية كانوا يعرفون حرمة هذا الحرم، فما كان أحد يجرؤ أن يلحد داخل الحرم، كأن يقتل إنساناً، أو يأخذ مال إنسان، بل كان الرجل يجد قاتل أبيه وقاتل أخيه داخل الحرم فلا يمسه بسوء، وينتظره خارج الحرم إن أراده بسوء، أما داخل الحرم فكانوا يخافون من ذلك، فهذا التحريم القدري.
أما التحريم الشرعي فبما أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن ومن سنة.
فلو أن إنساناً ظلم إنساناً داخل الحرم وقد جعله الله حرماً آمناً، فهذا ألحد في الحرم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، ففي الآية وعيد للذي تحدثه نفسه أن يلحد في الحرم أن يذاق من عذاب أليم، فكيف بمن يفعل ذلك؟ ولو كان يؤذي الحرم نفسه، كأن يفكر بهد الحرم، أو يسرق شيئاً من الحرم، أو لطخ الحرم بعذرة، أو تغوط أو بال داخل الحرم الذي قدسه الله عز وجل وجعله طاهراً آمناً، فإذا سقنا كل ذلك على الإلحاد في الحرم نجد أنها من كبائر الذنوب، مع أن هذا مما لم يذكر في القرآن ولا في السنة، ولكن دخل بقياس الأولى، فهذا أولى بأن يكون إلحاداً في الحرم من غيره.
كذلك جعل الله عز وجل المصحف له حرمة عظيمة، قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فلو أن إنساناً رمى المصحف أو مزقه، فقد يكون ذنب هذا الإنسان أفحش من مسه على غير طهارة، بل يكفر الذي يفعل ذلك.
كذلك الزنا كبيرة من الكبائر، فإذا زنى الإنسان بحليلة جاره كان هذا أفحش، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بعشرة أبيات أيسر من أن يزني بحليلة جاره)، وهذا الذي يزني بعشرة أبيات واقع في كبيرة من الكبائر، ولكن أفحش من ذلك أن يقع في حليلة جاره، وأفحش من ذلك أن يمسك امرأة محصنة لغيره ليزني بها، فيقول العلماء: هذا من فواحش الذنوب ومن كبائر الذنوب التي يقع فيها الإنسان.
كذلك القتل من كبائر الذنوب، والذي يمسك بمؤمن لغيره ليقتله هذا مشارك له ومماثل له في هذا الذي فعله.
كذلك من الكبائر: أكل مال اليتيم، فلو أنه أخذ مال اليتيم، واشترى به طعاماً وأكله فهذا من كبائر الذنوب، ولو أنه أخذ مال اليتيم ورماه في البحر، فيكون هذا أفحش بكثير من الأول، فالأول قد يكون جائعاً، ولكنه واقع في كبيرة وأكل ناراً والعياذ بالله.
أما الثاني: فإنه استهان بالشريعة، واستهان بحق اليتيم، وكسر قلبه بأن أحرق ماله، أو أتلفه عليه، فهذا أعظم بكثير.
فهذه الأشياء إن لم تنص عليها الشريعة فقد نصت على ما هو أقل منها، فهذا أفضع وأشنع من الأول الذي نص عليه قوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، كذلك لو أن إنساناً هرب في القتال فقد وقع في كبيرة من الكبائر، وقد توعده الله عز وجل بغضبه، قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]، فلو أن إنساناً دل الكفار على عورات المسلمين بأن قال لهم: في المكان الفلاني مجموعة من المسلمين؛ فتجسس للكفار، فأنزلوا عليهم القنابل فأحرقوا المسلمين، كيف يكون فحش ذنب هذا الإنسان؟ لا ننظر إلى أنه قال كلمة، إنما ننظر للنتيجة لذلك، فهذا أشار بيده على المكان فدمروه.
وهذا مثلما كان يفعل اليهود بالفلسطينيين، يجندون بعضاً منهم يقف لهم في مكان فيشير على السيارة، فتأتي الطائرة وتضرب الصاروخ على قادة حماس وقادة القسام فتحرقهم.
فهذا الذي دلهم ذنبه أعظم من أن يقتل مؤمناً، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلون بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، ويزنون بنسائهم، وانظر إلى الكفار لما دخلوا العراق، واقرأ عن المذابح التي حصلت هناك، واقرأ عن الفواحش التي ارتكبوها في نساء المسلمين، يدخلون لتفتيش البيوت ثم يزنون بنساء المسلمين، والعالم كله ساكت على ذلك، ولا أحد يعترض على هذه الجرائم التي فعلوها في سجن أبو غريب وغيره من السجون هناك.
فهذا الذي دلهم على عورات المسلمين، والذي عرض بلاد المسلمين لذلك، والذي أعان على مثل ذلك، كيف يكون ذنبه عند الله سبحانه وتعالى؟! وأي كبيرة وقع فيها؟ وأي فحش وقع فيه أعظم من هذا الذي يقع في ذلك؟ وقس على ذلك غيره.
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: وهذا نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولية يوم الزحف.
عندما تقول: فلان هرب من الحرب، أيهما أعظم جرماً عند الله سبحانه وتعالى وأيهما أعظم جرماً في عقل الإنسان: هذا الذي دل على العورات، فحصلت كل المفاسد والمصائب، أم الآخر الذي هرب من القتال وحده؟ فإن وقع هذا في كبيرة، فهذا وقع في أعظم وأشنع من أن يوصف بكبيرة فقط.
ولو أن إنساناً كذب ليأكل ويستحل مال مسلم، أو كذب ليأخذ شيئاً من مال مسلم ثم أنكر أنه أخذه، وحلف يميناً غموساً، فهذا وقع في كبيرة من الكبائر استحق بها النار.
ولو أن هذا الإنسان كذب وقال: إن فلاناً هذا رأيته يقتل فلاناً، فأخذوه وقتلوه.
أي الاثنين أعظم جرماً: هذا الذي أخذ شيئاً من المال، أم الذي شهد على الإنسان وكذب عليه فقتل بسبب كذبه؟ لا شك أن هذا أعظم بكثير من الأول، فإذا كان فعل الأول كبيرة؛ فالثاني من فواحش الكبائر.
يقول العلماء: ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص، فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله، وكلهم عالمون بأنهم ظالمون، فذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عمداً وعدواناً.
ولو أن مجموعة تواطئوا مع الحاكم على الشهادة على شخص أنه قتل شخصاً آخر، فأمر الحاكم الجلاد بأن يقتل هذا الرجل فهؤلاء ذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عامداً مع أنهم لم يباشروا القتل.
هذا مختصر لكلام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتاب قواعد الأحكام.
فالخلاصة: إذا أردت أن تعرف أن هذا الذنب كبيرة من الكبائر فانظر لما يترتب عليه من مفسدة، وقسها على الكبائر التي جاءت في القرآن الكريم أو جاءت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتعرف قبح هذا الذنب هل يوصله إلى أن يعد من الكبائر أم لا؟(433/4)
العفو والغفران من صفات المؤمنين
قال الله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37].
الإنسان المؤمن مطلوب منه عند الغضب أن يكظم غيظه، ولا ينفذ غضبه حتى لا يؤذي نفسه ويؤذي غيره إلا أن يكون الغضب لله سبحانه وتعالى.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر ويحلم إلا أن يكون لله فيغضب ويقيم حد الله سبحانه.
والمطلوب من المؤمن أن يتجاوز ويعفو إلا أن يكون في حد من حدود الله سبحانه، إلا أن تنتهك حرمات الله ففي هذه الحالة يغضب لله سبحانه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا لم يتمعر وجهه حين تنتهك حدود وحرمات الله فهو يستحق العذاب لذلك.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقوله: (يغفرون) أي: يتجاوزون ويحلمون عمن يسيئ إليهم.
فـ أبو بكر شتمه إنسان، فتجاوز عنه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلامه الناس لماذا لا يرد عليه، وكان ذلك في مكة، فمدح الله تعالى أبا بكر رضي الله عنه في ذلك.
وقيل: بل نزلت حين لامه الناس على إنفاق ماله كله، وحين شتم فعفا وصفح، فأنزل الله عز وجل ذلك.
ولكن العبرة بعموم اللفظ، فهي وإن كانت نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولكنها تعم أبا بكر وغيره من المؤمنين.
فكل إنسان مؤمن أوذي في شيء وعفا مع قدرته على الانتصار فالله عز وجل يعطيه هذا الأجر.
وقد كانت العرب تعد من مكارم الأخلاق أن يتغافل الإنسان أحياناً عمن يسيء إليك، ولذلك قال أحدهم: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني أي: أمر على هذا اللئيم وهو يسبني فأقول: إنه لا يقصدني إنما يقصد شخصاً آخر، ويتغافل عن مثل ذلك.
وقد يقدر الإنسان أن ينتصر على من ظلمه، ولكن الإسلام يعود الإنسان على ضبط النفس والعفو مع القدرة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم: (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)، لم يقل: فليسبه وليقاتله، ولكن قال: (فليقل: إني صائم)، فيذكر نفسه ويذكر غيره بأنه صائم، فلا يرد على الإنسان ما فعله بمثله، ولكن يعفو ويصفح، إلا أن يكون في حد من حدود الله فينتقم لله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، أي: يتجاوزون ويحلمون، وإذا كظمت الغيظ فقد يهيج الناس المشاعر بقولهم: أنت ضعيف لم تقدر عليه؛ فهنا تذكر نفسك بمثل هذه الآية، وبمثل قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في البشارة بما يكون وراء هذا الصبر العظيم.
فمما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح، ورواه الإمام أحمد أيضاً ونذكر رواية الإمام أحمد وهي أطول من غيرها وهي حسنة، عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء).
فالإنسان المؤمن يذكر نفسه بأن من وراء كظم الغيظ حور العين، وهذه أعظم جائزة يتمناها الإنسان من الله سبحانه وتعالى، والحور العين ليست مثل نساء الدنيا، بل أعظم وأجمل بكثير من نساء الدنيا، ولو أن واحدة منهن اطلعت على هذه الدنيا لأضاءتها، والحور العين خلقهن الله عز وجل لعباده المؤمنين، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
ثم قال: (ومن ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضعاً لله تبارك وتعالى، دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء).
وهذا من فضل الله سبحانه على الإنسان المؤمن الغني حين يتواضع، فهو يقدر أن يشتري أفخر الثياب، وبإمكانه أن يشتري بدلة بعشرة آلاف جنيه، أو بمائة ألف جنيه، لكنه يتواضع فيلبس مثل الناس.
وليس معنى ذلك أن يلبس الصوف، أو يلبس الخشن، أو يلبس الشيء الذي يزدريه الناس، لكن المطلوب هو التواضع، فيعيش كما يعيش الناس، يلبس الزهيد من الثياب، والعادي من الثياب الذي يلبسه الناس، لكن بقصد أن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (وهو يقدر عليه)، فهو لم يتركه بخلاً لكنه بدل أن ينفق هذا المال في شراء الثياب يتصدق به، فيدعوه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره بين حلل الإيمان أيتهن شاء.
وهذا الحديث يدلنا على عظم ثواب كظم الغيظ.(433/5)
تفسير سورة الشورى الآية [38]
من صفات المؤمنين: أن أمرهم شورى بينهم، والاستشارة تكون بعد الاستخارة، والعزم يكون بعد الاستشارة، وإذا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أمر بعد المشاورة فليس له أن يرجع عنه، ويقتدي ولي الأمر به في ذلك، وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مواطن كثيرة منها: غزوة بدر، وغزوة أحد، وحادثة الإفك، وغيرها.(434/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى مدح المؤمنين الذين يتصفون بصفات منها أنهم على ربهم يتوكلون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:37 - 38].(434/2)
ذكر ما جاء من مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر
أيضاً: مما جاء أنه في يوم بدر شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، هذا قبل الخروج لعير أبي سفيان، فقال: (من كان سلاحه حاضراً فليخرج معنا)، فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، ولكن أبا سفيان أفلت إلى مكان آخر، وأرسل إلى الكفار يستغيث بهم، فجاء الكفار لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يجدون أن الأمر ليست عيراً يأخذونها، بل هو جيش آت، وهم ليسوا مستعدين لهذا الجيش، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه.
روى الإمام مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان.
يقصد أنه في البداية شاور، وبعد ذلك شاور صلى الله عليه وسلم حين استغاث أبو سفيان بالكفار، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فتكلم عمر فأعرض صلى الله عليه وسلم، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: إيانا تريد يا رسول الله! وهذا وإن كان في صحيح مسلم إلا أن الظاهر أنه ليس سعد بن عبادة؛ لأن سعداً لم يكن معهم، وإن كان قد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، لكنه لم يكن معهم إنما كان معهم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان فيها المقداد بن الأسود، واشتهر المقداد بمقولة قالها رضي الله عنه، لكن هذه رواية الإمام مسلم.
والحديث في مسند الإمام أحمد وفيه: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما على الأرض من شيء، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً فارساً، وهو الفارس الوحيد الذي كان موجوداً في يوم بدر، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا نبي الله! لما استشاره النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال قائل الأنصار: تستشيرنا يا رسول الله؟ فقال المقداد رضي الله عنه: إنا والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى صلى الله عليه وسلم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن بين يديك، وعن يمينك وعن شمالك ومن خلفك حتى يفتح الله عليك.
وفي رواية أخرى لهذا الحديث ذكرها ابن أبي شيبة فقال سعد بن معاذ -وهذا هو الراجح أن القائل كان سعد بن معاذ سيد الأوس، والآخر سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكن القائل كان سعد بن معاذ، ولعل الآخر قالها قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليه- قال سعد بن معاذ: لئن سرت حتى تأتي برد الغماد من ذي اليمن لنسيرن معك، يعني: سر أينما تريد فنحن معك، حتى وإن سرت إلى اليمن فسنكون معك، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جميلاً وفيه: ولن نكون كالذين قالوا لموسى وذكر ما قال المقداد رضي الله عنه، قال: ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
هذا سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن حين مات شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه وحملته الملائكة، وحمله المسلمون، وكان ضخماً عظيم البدن رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما حمله المسلمون ما شعروا بذلك، فقد كان خفيفاً وهم يحملونه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حملته الملائكة، وهو صاحب هذه المقولة العظيمة الذي عاش مجاهداً في سبيل الله، والذي دعا ربه حين أصيب في أكحله في عرق في يده رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم الأحزاب فقال: اللهم إن كنت أبقيت للمشركين قتالاً فأبقني لهم، فإن لم تبق لهم قتالاً فخذني إليك، فأخذه الله سبحانه وتعالى واستجاب له دعوته.
وكان يهود بني قريظة حلفاء للأوس من الأنصار في الجاهلية، ولذلك لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة تحصن بنو قريظة في الحصون، وأبوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقد كان حليفهم في الجاهلية وأرسلوا إليه، وكانوا قبل ذلك أرسلوا لـ عبد الله بن أبي بن سلول ومن قبلهم بنو النضير أرسلوا إليه، وبنو قينقاع كذلك أرسلوا إليهم، فقد كانوا حلفاء للخزرج، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، وقال أتقتل هؤلاء كذا دارع وكذا رجل معه سيف وكذا، والله لا تقتلهم! وضل يشفع لليهود حتى أجلاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه أخذاً بكلام هذا الرجل، وكذلك أرسلت بنو قريظة إليه وقالوا له: لقد كنت حليفنا في الجاهلية، وأخذوا يتوددون إليه فقال: سأحكم، وسكت ولم يقل: سأحكم بكذا، حتى خرج، فقالوا: لا نريد إلا حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- قال: فحكمي فيكم أن تقتل مقاتلتكم، وأن تسبى ذراريكم ونساؤكم، وأن تؤخذ أموالكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت بحكم الملك)، هذا حكم الله سبحانه وتعالى نطق به سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه سيد الأوس، فكان رجلاً موفقاً في حياته حتى توفاه الله سبحانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها) هذا منديله، فكيف بما أعد الله عز جل لـ سعد وغيره في الجنة؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يقينا عذابه وناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(434/3)
استشارة الأمناء من أهل العلم والعزم والتوكل بعد الاستشارة
يقول البخاري رحمه الله: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: فكان الأمين من أهل العلم لا يرضى أن يفتي السلطان بما حرم الله فيبيح ما حرم الله، ولكن يفتي بما أحل الله عز وجل، وأي حكم ليس فيه دليل على المنع الأصل فيه الجواز، فيفتون للخلفاء بما قال الله وبما قال النبي صلى الله عليه وسلم وبما هو مباح في الأمر الدنيوي، من غير أن يتعرضوا لأمر حرمه الله فيحلونه، ولا لأمر أحله الله فيحرمونه.
قال البخاري: ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؟) لاحظ فقه الإمام البخاري رحمه الله فيما نذكره؛ إذ يسوق القول الذي يختاره هو، ثم يدلل عليه بالدليل، والإمام البخاري فقيه محدث رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأنت تأخذ فقه البخاري من تراجمه، ففي صحيح البخاري ترجمة الباب وعنوان الباب كذا، وقد يكون العنوان كلمة أو كلمتين، وقد يكون العنوان صفحة كاملة، ومن هذا العنوان الذي يذكره البخاري تعرف فقه البخاري واختيار البخاري في صحيحه، أو من الأقوال ما يعمم به في الباب.
فهنا يذكر القول وبعده الدليل، فقد بدأ بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] واختار أن المشاورة قبل العزم والتبين، أي: أنك تستشير، وقبل الاستشارة الاستخارة قبل أن تجزم وتقطع، ثم تستشير الناس بعد ذلك ثم تعزم على الشيء، فالاستشارة قبل العزم، قال: لأن الله عز وجل عقب ذلك بقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] إذاً: إذا استشرت الناس وعزمت على شيء بعد ذلك، فالاستشارة تكون قبل العزم، وهذا دليلهم.
وإذا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء وقطع عليه، فليس له أن يرجع عن ذلك، قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، والسنة أيضاً تفيد ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد لما عزم على الخروج بعد الاستشارة أرادوا الرجوع في ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله).(434/4)
ذكر ما جاء من عزم أبي بكر على قتال المرتدين
ثم قال رحمه الله بعد ذلك: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أنه لا قول لأحد ولا اجتهاد مع النص، فإنه يلزمك أن تنفذ ذلك، فإذا أمر الله فلا اختيار، بل عليك أن تنفذ من غير استشارة.
ودليل الإمام البخاري في ذلك قوله: ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة.
في عهد أبي بكر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الخلافة إذا بأناس كثيرين يرتدون، ويمنعون الزكاة، وقالوا: الزكاة كنا ندفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يأخذها، وقال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] وأنتم لن تصلوا علينا فلن ندفع الزكاة، فسموا الجميع: مانعي الزكاة والمرتدين، مع أن فيهم من لم يرتد ولم يمنع الزكاة ولكنه قال: أنا أدفع الزكاة لكن لن أدفعها للإمام، فكلهم سموا مرتدين وإن كان في ذلك تفصيل، فالإمام البخاري يستدل بأن أبا بكر رأى أن يقاتل هؤلاء، وأن يقاتل الجميع، من ارتد ومن منع الزكاة بتأويل أو بغير تأويل، فإذا بـ عمر يعترض عليه ويقول: كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ وفي اعتراضه أتى بنص من النصوص، فإذا بـ أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه يرد عليه بنص آخر ويقول: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) أي: إن الله أمر بقوله: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه يقيم لهم الصلاة فيصلون جماعة، فمن منع الجماعة هذا نقاتله، وكذلك الزكاة قال: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لأمر الله، فمن منع اعتراضاً على أن الإمام يأخذ الزكاة من الناس فيدفعونها له، فهو مفرق بين الصلاة والزكاة.
إذاً: احتج أبو بكر بالنص؛ فلذلك رضي عمر بما قاله أبو بكر رضي الله عنه.
فمقصد البخاري: أننا إذا اختلفنا في شيء مع وجود النص فإنه يلزم الجميع أن يأخذوا بهذا النص، وأن يتركوا آراءهم، ولذلك ترك عمر رأيه، وأخذ بالنص الذي ذكره أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فالذي يؤيد ما يقوله أبو بكر رضي الله عنه أن أبا بكر اختار أن يقاتل هؤلاء؛ لأن النص معه أن الذي يمنع الزكاة يلغي شيئاً من دين الله ومن أركان الإسلام، فهو مبدل للدين، ونص النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فالمقصد منه: أن الإنسان إذا اختلف مع غيره رد الأمر إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وجد النص في الكتاب والسنة لزمه أن يعمل به.(434/5)
أصحاب مشورة عمر رضي الله عنه
قال: وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً وشباناً.
كذلك كان عمر يأخذ بالشورى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان يستشير القراء وحفاظ القرآن، ولو نظرت إلى هذا الزمان لوجدت أن حفاظ القرآن لا أحد يهتم بهم، لكن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان حافظ القرآن له أهمية كبيرة جداً، كما ذكرنا في الحديث السابق أنهم كانوا يحفظون القرآن عشر آيات عشر آيات، ولا ينتقل أحدهم من العشر الأولى حتى يتقنها ويعلم معناها، ويعلم ما فيها من أحكام ويعمل بها، فكان إذا حفظ القرآن أصبح عالماً بالأحكام، عاملاً بالقرآن، عالماً من العلماء، أما الآن فلا نقدر أن نقول: إن حافظ القرآن عالم أو فقيه أو كذا؛ لأن ذاك يحفظ القرآن، وذاك يحفظ الحديث، وذاك يتعلم الفقه، وهكذا، لكن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد هذه التفرقة، فقد كان حافظ القرآن إماماً وعالماً؛ لذلك كان عمر رضي الله عنه أهل شوراه هم حفاظ القرآن، ليس كما في هذا الزمان الذي أصبح من أهل الشورى الممثلون والرقاصون والكتاب والمخادعون والمنافقون والصحفيون؛ بل الذي يعرف دين الله وينصح لله سبحانه وتعالى هؤلاء هم أهل الشورى.
فأهل شورى عمر رضي الله عنه هم القراء وحفاظ القرآن والعلماء بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر يستشير هؤلاء الحفاظ، وكان إذا استشارهم ووصلوا إلى أمر أخذ بما يقولون رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وأهل مجلس عمر رضي الله عنه كانوا كهولاً، والكهل: الذي جاوز أربعين سنة، أو شباناً وهم دون ذلك وكذلك المشيخة، وذكر أنه كان في مجلس شورى عمر بعض الناس الذين لهم مودة مع عمر رضي الله عنه، فأتى إلى هذا الرجل عمه، وقال: يا ابن أخي! ألك كلام مع هذا الأمير؟ فقال: نعم.
قال: فدلني عليه، كأنه يقول: توسط عنده من أجل أن أكلمه فرضي الله عنه، فأخذه وذهب به إلى عمر رضي الله عنه، وهو لا يعرف ما الذي سيقوله عمه لـ عمر رضي الله عنه، فلما جلس الرجل وعمه قال عم الرجل لـ عمر رضي الله عنه: هيه يا عمر! والله ما تعطي الجزل، ولا تحكم بالعدل.
فقام له عمر بالدرة ليضربه، فإذا بابن أخيه يقول: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يأمر بالعدل ويقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فأنقذ عمه بذلك، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعدل وأن نحكم به، فكان عمر يحكم بالعدل، قال راوي الحديث: وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، فقد كان الرجل ذكياً حين أتاه بهذه الآية، وذكره بأنه يحكم بالعدل، فعلى ذلك لا يضره ما يقول هذا الإنسان، فلما قال: (وأعرض عن الجاهلين) وهذا جاهل، سكت عمر وذهب فوراً غضبه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وسكت عن هذا الرجل، هذا ما ذكر الإمام البخاري في صحيحه من الشورى.(434/6)
ذكر ما جاء من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
يقول الإمام البخاري: وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج؛ إذ إن الكفار قادمون إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، فقد كان الكفار عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم بمقدم جيش الكفار، فاستشار أصحابه في المكوث في المدينة ومقاتلتهم فيها أو الخروج إليهم لقتالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى أن يمكث في المدينة ولا يخرج منها، هذا كان رأيه صلى الله عليه وسلم، فاستشار أصحابه فطلبوا أن يخرجوا كما خرجوا في يوم بدر، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا في المدينة، فهي حصن حصين وعدد الكفار كبير، فالخروج إليهم يتطلب عدداً كبيراً، وكان من أصحاب هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول، فقد كان رأيه أيضاً أن يمكث النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ولا يخرج للكفار خارج المدينة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استشار؛ لأن الله عز وجل أمره بذلك، فلما استشارهم كان أكثر الآراء على الخروج وعدم المكث في المدينة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ينفذ، فلبس النبي صلى الله عليه وسلم لأمة الحرب وأراد الخروج، فقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فذهبوا إليه وقالوا له: يا رسول الله! إن بدا لك أن تقعد فاقعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله) أي: قضي الأمر، فقد لبست لباس القتال فلا ينبغي أن أخلعها، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ عبد الله بن أبي بن سلول يخذل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويخرج بثلث الجيش من أتباعه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعمائة رجل بعد أن كانوا ألف رجل، وجيش الكفار ثلاثة آلاف، فهذا صنيعه، وكم صنع من الإجرام مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل المجرم المنافق الذي كان يبطن الكفر، ويظهر الإسلام، ويتولى اليهود، فلم ينفعه ذلك حتى مات وجاء ابنه يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، هذا الرجل المجرم خذل جيش المسلمين، ورجع بثلث الجيش، ووجد لنفسه عذراً فقال: لم يسمع كلامي، وإنما سمع كلامكم أنتم، ورجع بعدما استيقن أن الكفار قد أتوا، وكأنه وجدها فرصة حتى يتخلص من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين الذين معه، وحصل ما حصل في يوم أحد، وانتصر المسلمون في أولها حتى عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهزموا في آخرها.
فالغرض: أنه استشار القوم، وليس هنا فقط، بل قد استشارهم قبل ذلك في بدر، واستشارهم بعد ذلك في الخندق، وفي مواطن كثيرة كان يستشير أصحابه.(434/7)
ذكر ما جاء من قصة الإفك
يقول الإمام البخاري رحمه الله: وشاور -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- علياً وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن.
لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، ومعه السيدة عائشة رضي الله عنها ورجع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة استعارت من أسماء قلادة لها، فضاعت القلادة من السيدة عائشة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل، وذهبت السيدة عائشة تبحث عن القلادة، وجاء من كانوا يحملون هودجها، وظنوا أنها بداخل الهودج وهو المحمل الذي يحمل فوق الجمل، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله تبارك وتعالى عليهن كن مستورات لا أحد ينظر إليهن، فحملوا الهودج وكانت خفيفة وظنوها بداخله، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم لأمر يريده الله تبارك وتعالى، وبعدما وصلوا إلى مكان ما افتقدوا عائشة رضي الله عنها، فلبثت السيدة عائشة في هذا المكان، فإذا برجل كان في مؤخر جيش النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور يجد السيدة عائشة في مكانها فيحملها رضي الله تبارك وتعالى عنه، واسمه صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فلما رآها إذا به يتعجب ويقول: سبحان الله! وما زاد على ذلك، وأتى بجمله وأناخه، فركبت عائشة رضي الله عنها وأخذها وانطلق بها إلى المدينة، وإذا بالمسلمين يصلون وليست معهم عائشة، فتكلم أهل النفاق في ذلك، ورأس النفاق كان هذا المجرم عبد الله بن أبي بن سلول، والمفروض أن المسلمين قد تعلموا منه درساً في يوم أحد، فمثل هذا لا يصدق فيما يقول، فإذا به يشيع بين المسلمين أن السيدة عائشة أحدثت حدثاً، فإذا بالبعض يتكلم وهو يستخفي ويختبئ ولا يظهر ذلك إلا فيمن حوله، ولكن المسلمين تكلموا فيما بينهم حتى وصل الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجرت قصة طويلة، وفي النهاية قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول للناس: (من يعذرني في رجل قال على أهل بيتي.
كذا وكذا؟) يعني: من يعذرني إن فعلت فيه شيئاً، قال: (والله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، برجل والله ما دخل بيتي إلا معي)، وعبد الله بن أبي بن سلول هذا من الخزرج، فقام الأوس وقالوا: (يا رسول الله! إن كان منا مرنا بأمرك فقتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا بأمرك ففعلنا ما أمرت)، فإذا بالخزرج تأخذهم نعرة الجاهلية فقالوا: (كذبتم والله لا تقدروا أن تفعلوا شيئاً).
وهذه مصيبة أيما مصيبة، فقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بأناس يتكلمون عن زوجته وأحب النساء إليه صلى الله عليه وسلم، ولما أراد أن يقف على المنبر من أجل أن يعذروه صلى الله عليه وسلم إذا بهم يتعرض بعضهم على بعض، وكادوا يقتتلون في المسجد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يهدئهم ويرجع إلى بيته صلوات الله وسلامه عليه، ويستشير علياً رضي الله عنه، ويستشير أسامة، فيسأل علياً: ما هو رأيك في هذا؟ وتأخر الوحي عنه حتى يرينا صبر عائشة رضي الله عنها، وأن الابتلاء كان حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ابتلي إنسان بمثل ذلك صبر، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أسامة، وكان يلقب أسامة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي كان في يوم من الأيام يدعى بـ زيد بن محمد، فلما نزل تحريم التبني كان زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حب، أي: حبيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رباه النبي صلوات الله وسلامه عليه هو وأباه.
فلما استشار أسامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أهلك يا رسول الله! والله ما علمنا عليهم إلا خيراً، فاستشار علياً رضي الله عنه، فإذا بـ علي يتكلم الكلام الذي يليق بإنسان كبير عاقل عنده حكمة، حيث إن الوحي تأخر عنه، وأصابه غم في بيته وبين المسلمين، والأمر أسهل من ذلك أن ينتبه لأمر المسلمين ولأمر الدعوة، فقال علي: طلقها يا رسول الله! والنساء كثيرات، ودامت الوقيعة بين عائشة وبين علي فترة طويلة، إذ لم يكن في نفس علي شيء من عائشة ولم يكن يتهمها رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه رجل دولة، رجل ينظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس متفرغاً حتى ينظر لأمر البيت وأمر كذا، فلا بد أن ينتبه لأمر الدعوة، وربنا يقضي ما يشاء تبارك وتعالى، فلما استشارهما صلى الله عليه وسلم لم ينفذ رأيهما ولكنه استشار، واستشار واحدة أخرى كانت تخدم عائشة رضي الله عنها وكانت أمة وأعتقتها السيدة عائشة رضي الله عنها وهي بريرة رضي الله عنها، فاستشارها فقالت: (يا رسول الله! والله ما علمنا على أهلك إلا خيراً، غير أنها جارية حديثة السن كانت تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فهذه لما استشارها النبي صلى الله عليه وسلم قالت الحقيقة، فأقصى خطأ في عائشة أنها تعمل العجين وتنساه وتنام.
فلما استشار النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية سكت صلوات الله وسلامه عليه، وانتظر أمر الله سبحانه وتعالى، وكانت عائشة في هذا الوقت عند النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: ولم أجد منه ما كنت آراه، أي: لم يعد لطيفاً يدخل ويسلم علي ويقبلني، وعائشة غير منتبهة تماماً لما يدور حولها، ولما رجعت عائشة أصابها شيء من التعب، فأرادت في يوم من الأيام أن تخرج لقضاء حاجتها، فكانت معها أم مسطح بن أثاثة أحد الذين تكلموا في أمر السيدة عائشة رضي الله عنها، وكان رجلاً مؤمناً طيباً، ولكنه سمع فتكلم، فدعت عليه أمه، وحينما خرجت مع السيدة عائشة رضي الله عنها كادت تقع فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة رضي الله عنها: (لم تدعين عليه؟ فقالت لها: أو ما بلغك ما قال؟ قالت: وما قال؟ فحدثتها بالحديث، فرجعت مصابة بالحمى في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أصابتني حمى بنافض، ورجعت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي الحمى، وتعبت تعباً شديداً، ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لي أذهب إلى والدي، فأذن لها وذهبت إلى أبيها وإلى أمها فسألتهما: هل سمعتم هذا الذي حدث؟ فأجابا: نعم، سمعنا بذلك، فقالت لها أمها تطيب قدرها: يا بنية! قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، أي: أنت امرأة جميلة وعند النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحبك، والناس من الضروري أن يتكلموا عنك، فلا تهتمي بهذا الشيء، فإذا بالسيدة عائشة تبكي وما انقطع دمعها، وأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها قبل أن تذهب إلى أبويها، ويخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينزل وحي في ذلك، فينصح أهل بيته قائلاً: (يا عائشة! إن كنت ألممت بأمر فتوبي إلى الله فإن الله غفور رحيم) حتى قالت عائشة: فانقطع دمعي، إذ كانت تبكي قبل ذلك، فلما قال ذلك أخذها الغيظ من هذا، حتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك! وهو يحبها ويعرف قدرها، قالت: فانقطع دمعي وقلت: والله لو أنني أخبرتكم بشيء أنا صادقة فيه والله يعلم أني صادقة تكذبونني فيه، وإن أخبرتكم بشيء أكذب عليكم فيه صدقتموني، أي: لو قلت لكم: أنه فعلاً حصل هذا الذي أشيع عني كنتم ستصدقون، وإن كنت سأصدق في القول فلا أحد سيأخذ بكلامي، ثم استأذنته وذهبت إلى أبيها وقالت: ولا أقول إلا كما قال أبو يوسف -قالت: ونسيت اسمه، نسيت اسم يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بسبب الغم الذي أصابها- لا أقول إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل، أي: أصبر الصبر الجميل حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى، ونزل القرآن وإذا بالله عز وجل يقول في كتابه العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
فالحكمة هنا: أن هذا خير لك يا رسول الله أن تبتلى فتصبر، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصبر ليبين للناس أن العرض فيه حكم الله سبحانه وتعالى، والذين قذفوا نزل فيهم الحد بأن يجلدوا، وأفلت عبد الله بن أبي بن سلول لأنه ما أظهر هذا أمام الناس، إذ كان قوله في السر، فالذين أظهروه هم الذين أخذوا وأقيم عليهم الحد، وكان منهم مسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش أخت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا يتكلمون عن ذلك قالت السيدة عائشة عن زينب: حفظها الله بالورع، وأختها وقعت فيه، أما هي فلم تقع في ذلك مع أنها ضرتها، فقد كانت السيدة زينب بنت جحش ورعة لم تقع في ذلك.
وعلم الله عز وجل المؤمنين الصبر بذلك، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصبر أبو بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، حيث إن عائشة هي ابنته، والذي كان يتكلم عنها هو ابن خالة أبي بكر الصديق مسطح بن أثاثة وكان رجلاً فقيراً، وكان أبو بكر ينفق عليه، ومع ذلك كان من أول من تكلم على السيدة عائشة هو مسطح، فأقيم عليه ال(434/8)
من صفات المؤمنين الاستجابة لله والرسول
ذكر الله عز وجل من صفات المؤمنين صفة الاستجابة، أنهم يطيعون الله سبحانه، ويطيعون رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأنهم سريعون في الإجابة إذا دعوا إلى الله أو دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (استجابوا) أي: أجابوا، كأن السين للاستدعاء، فاستدعوا من أنفسهم ذلك باستدعاء الله عز وجل إجابتهم، فبادروا وسارعوا إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، وإلى طاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهم المجيبون لله، ولمجيبون للرسول صلوات الله وسلامه عليه، والمنفذون لأمر الله وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام.
والاستجابة صفة عظيمة للمؤمنين، وقد جعل الله عز وجل في الأنصار أعظم ما يكون من الصفات صفة الاستجابة، ولذلك لما قدم وفد من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وكان عددهم اثني عشر رجلاً، فدعاهم إلى دين الله عز وجل فاستجابوا، ورجعوا إلى قومهم فدعوهم، فالأنصار استجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم مهد الله للهجرة وجاء الأمر منه عز وجل وهاجر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما وصل إليهم كانت بيوت كثيرة من بيوت الأنصار قد دخلوا في الإسلام، إذ أرسل إليهم قبل ذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه يدعوهم إلى الله، فما في الأنصار من بيت إلا ودخل فيه الإسلام، فكانت دعوة عظيمة من الأنصار رضوان الله عليهم، واستجابة عظيمة منهم لله، ولهذا مدح الله المؤمنين خاصةً الأنصار باستجابتهم لله سبحانه.
فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى:38] هذه سببها مخصوص، ولكن كما ذكرنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل مؤمن يطيع الله عز وجل، وكل مؤمن يستجيب حالاً لكلام الله سبحانه ولكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فهو داخل تحت هذه الآية.(434/9)
من صفات المؤمنين إقامة الصلاة
قال تعالى: (وأقاموا الصلاة) أي: داوموا عليها، وأدوها في أوقاتها التي شرعها الله سبحانه وتعالى، فصلوا لله واستقاموا على هذه الصلاة صلاةً صحيحة مقبولةً، صلاةً يرضى الله عز وجل عنهم وعنها، صلاةً تمنع وتنهى صاحبها من الفحشاء والمنكر.(434/10)
من صفات المؤمنين الشورى فيما بينهم
ومن صفاتهم: أن أمرهم شورى بينهم، هذه من أخص صفات المجتمع المسلم الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس في المجتمع المؤمن من ينفرد برأيه ويلزم الجميع بما يقول، فالله عز وجل مدح هنا المؤمنين ومدحهم في سورة آل عمران، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] فلولا أن عندهم رأياً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، فمدح الله عز وجل المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر، ومعلوم أنه لن يشاورهم في الأحكام الشرعية؛ لأن الأحكام الشرعية ليست محل جدل ومناقشة ومحل شورى بين المؤمنين، إنما يشاورهم في أحكامهم الدنيوية، فإذا خرج للجهاد في سبيل الله عز وجل استشار المؤمنين في الطريق: أي طريق يسلكها؟ واستشار المؤمنين كيف يبدأ بأعدائه، وكيف يفعل بهم صلوات الله وسلامه عليه، ويستشيرهم في أمور من أمور الدنيا، أما أمر الدين فهذا وحي السماء ينزل بالأحكام لا مشاورة فيها لا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه، فهو مأمور من ربه سبحانه بأن يفعل فيفعل، والمؤمنون مأمورون بأن يفعلوا فيفعلوا وينتهوا فينتهوا، فالشورى هنا في أمر دنياهم، يشاورهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان كثير الاستشارة لأصحابه، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، فهو الذي مدحه ربه بأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يتكلم بهواه، وإنما يتكلم بوحي من الله سبحانه وتعالى، فلو أنه مدح المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم لجاء من بعده فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشير أحداً، فينفرد برأيه، ولكن بدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله الذي عصمه الله، والذي أيده ربه بالوحي من السماء، فإذا أخطأ في شيء ينزل القرآن ليصوب له: افعل كذا لا تفعل كذا عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فربنا يأمر المؤمنين بهذه الشورى بأمرين: الأول: القرآن، يقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] فإذا كان النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام يشاور في الأمر فغيره من باب أولى.
والأمر الثاني: مدح المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وينفذ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسنته عليه الصلاة والسلام، فيتعلم من بعده منه.
ذكر الإمام البخاري في صحيحه باباً عن الشورى فقال: باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] و {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وأن المشاورة قبل العزم والتبين؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
وهذا من جميل ترتيب الإمام البخاري لتراجم أبوابه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيذكر أن الله سبحانه قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وأن المشاورة قبل العزم، والمعنى: أني أشاور في أن أعزم على أمر، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر مع هذه الشورى العظيمة، وهي أن تستخير الخالق سبحانه وتعالى، إذاً: هناك استخارة واستشارة، فتطلب الخيرة من الله سبحانه، تطلب منه أن يختار لك وأن يلهمك الصواب، وأن يوفقك لتسير على ما يحبه سبحانه وتعالى، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليصل ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم أني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويذكر الأمر الذي يستخير فيه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به).
إذاً: تستخير الخالق سبحانه وتعالى وتستشير المخلوق؛ لأن هذا أمر الله عز وجل، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فإذا ظهر لك الأمر بناءً على الاستخارة، وبناءً على الاستشارة فاعزم عليه وتوكل على الله سبحانه، ولذلك الترتيب الجميل للإمام البخاري، يقول لك: وأن المشاورة قبل العزم والتبين: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
إذاً: هنا ربنا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، أي: إذا أخذت أمراً وقطعته بشيء فامش في هذا الأمر وتوكل على الله سبحانه.
يقول البخاري رحمه الله: فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله، قال: وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد.
المقصود من كلام البخاري: أنه إذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على أمر: نفعل كذا، ثم بدأ ينفذ النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة هذه الشورى فليس لهم أن يرجعوا في كلامهم بعد ذلك، فلا بد أن يفعلوا ما استشارهم فيه صلى الله عليه وسلم وما وصلوا إليه من أمر.(434/11)
تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [38]
ذكر الله عز وجل مبدأ الشورى في كتابه الكريم، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لما يترتب عليها من المصالح الدينية والدنيوية والأخروية، وهذه الشورى لها آدابها وأحكامها وحدودها، وليست بالشورى التي يتزعمها من رضعوا اليوم من لبان الغرب، فجاءوا يتشدقون بملء أفواههم أن شورى الغرب المستوردة هي من الإسلام، فشورى الإسلام معلومة ومحسومة لا تقبل التعديلات ولا التبديلات.(435/1)
الشورى في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
تكلمنا في الحديث السابق عن صفات المؤمنين الذين يستحقون من الله سبحانه وتعالى أن يعطيهم الخير، أو ما هو أخير من هذه الحياة الدنيا في الجنة من النعيم المقيم، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60]، والذين يستحقون الجنة هم المؤمنون الذين يتوكلون على ربهم، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والذين إذا ما غضبوا هم يغفرون، وكذلك هم الذين يقيمون الصلاة وأمرهم شورى بينهم، وذكرنا أن الشورى صفة تتعلق بهذا المجتمع المسلم، ومن الصفات العظيمة التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ووصف المؤمنين بها ومدحهم عليها، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان يستشير أصحابه صلوات الله وسلامه عليه في أمور الدنيا، كالقتال مثلاً، حتى يعود المسلمين على مبدأ الشورى العظيم.(435/2)
حديث: (المستشار مؤتمن) وما فيه من فوائد وعبر
ذكرنا أن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال في الحديث: (المستشار مؤتمن)، وفيه قصة جميلة رواها الإمام مسلم والترمذي، وهذا لفظ الإمام الترمذي عن أبي هريرة، يقول: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟! فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه وأسلم عليه.
فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا عمر؟! فقال: الجوع يا رسول الله! -فقد كان فقيراً لا يجد شيئاً يأكله- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا قد وجدت بعض ذلك)، وكذلك أبو بكر ولكنه استحيا، ولذلك جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجني الذي أخرجكما)، أي: إذا كان أخرجكم الجوع ولم تستطيعوا الجلوس فخرجتم إلى الطريق، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الجوع، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري -وهو رجل من الأنصار كان كثير النخل والشاة، ولم يكن له خدم، بل كان يخدم نفسه بنفسه- قال: فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء -أي: خرج يحضر لهم ماءً عذباً من بئر بعيد- فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه -فقد وجده خير ضيف أتى إليه- فأقبل إليه يحتضنه ويقبله ويقول: فداك أبي وأمي، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا تنقيت لنا من رطبه -أي: أنه أعطاهم قنواً مملوءاً بالبلح، من الأحمر والأسود، وفيه من كل الأنواع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لو أعطيتنا أقل من هذا- فقال الرجل الكريم: يا رسول الله! إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره -وهذا من كرمه، فإنه لما رأى عليهم علامات الجوع أطعمهم الموجود، ولم يتأخر عليهم- فأكلوا، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد.
فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، -وهذا بعد أن قدم لهم ما كان موجوداً؛ لشدة جوعهم- فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذبحن ذات در -أي: أنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يذبح شاة فيها لبن- فذبح لهم عناقاً أو جدياً -من الماعز- فأتاهم به فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فأتنا)، فرد الجميل بالجميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهدى إليه إنسان شيئاً يعطيه المثل والمثلين وأكثر من ذلك، فبما أن هذا الرجل قد أكرمهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيعطيه عبداً من العبيد يخدمه في المكان الذي هو فيه.
ومما ينبه عليه هنا أن بعض الناس ربما يضحك ممن يقدم للضيف شيئاً قبل الغداء، وقد يقول: إنه ما أعطاهم ذلك إلا لكي يأكلوا بعده ما سيقدمه لهم.
فـ أبو الهيثم بن التيهان لما رأى عليهم الجوع أعطاهم شيئاً يأكلونه، ولو أنه ذهب وذبح الشاة وطبخها لتأخر عليهم وتركهم جياعاً، وهذا من أدبه وكرمه رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف كرم هذا الرجل، ولذلك قال له: (لا تذبحن ذات در)، فلما جاء سبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه هذا الرجل، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعبدين لا ثالث لهما، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اختر -أي: واحداً من الاثنين رداً لجميله الماضي- فقال أبو الهيثم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الشاهد من الحديث كله-: إن المستشار مؤتمن -أي: بما أنه قد استشار النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يختار له الأفضل؛ لأن المشورة أمانة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً).
إن أبا الهيثم له حديقة كبيرة، ونخل كثير، وشاة وغنم كثير، وليس له خادم يخدمه، فهو يخدم نفسه بنفسه رضي الله تعالى عنه، فلذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه ما ينتفع به، فالإنسان حين يهدي لآخر فلينظر الشيء الذي ينتفع به ويهديه له، وبعد أن أعطاه العبد أوصاه به خيراً، فانطلق أبو الهيثم فرحاً بالعبد الذي أخذه وذهب إلى امرأته وقال: هذا العبد أهدانيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرها بأنه قال: (استوص به خيراً)، وكانت امرأة تقية، فقالت له: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، وهذا من صلاحها وتقواها، فلم ترض أن ترتاح مع زوجها والعبد يعمل، فأعتق الرجل العبد واستمع لنصيحة امرأته الفاضلة رضي الله عنهما، وقال: هو عتيق، فهذه المرأة أشارت على زوجها بالصواب، وإن كانت تلك المشورة على نفسها.
فعلى الإنسان أن ينصح ولو على نفسه، يقول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135]، فإذا نصح الإنسان لأخيه كما ينصح لنفسه وأدى الأمانة فلينتظر البركة من وراء ذلك، فهذا الرجل بعد أن أعتق العبد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل حين سمع منه ما فعل هو وامرأته: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً)، وقس على ذلك من بعدهم، فكل إنسان يملك أمراً من الأمور، ويعمل عملاً من الأعمال فحوله أناس، وله بطانة، منهم من يأمره بخير، ومنهم من يأمره بشر، فالذين يريدون أن يأكلوا منه ويأخذوا المال يأمرونه بالشر، أو بأي شيء، المهم أن يأخذوا من ورائه المال، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)، فكأنه يمدح تلك المرأة التي جعلها الله بطانة خير، فقد أشارت عليه بالخير وأمرت بالمعروف.
وهكذا فكل إنسان له بطانتان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة)، فبئست البطانة أن يكون من حولك خونة، ينظرون في مصالحهم فقط، فيعنونك على الخطأ ولا يرشدونك إلى الصواب؛ حتى يأخذوا من ورائك المال، ويحصلوا منك على مصلحة.
فالكبير والصغير من الناس له بطانة سوء تفسد ولا تصلح، وبطانة خير تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي).
نسأل الله عز وجل أن يقينا بطانة السوء، وأن يقينا كل شر في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(435/3)
من هم أهل الشورى
يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يؤت به وحي، وعمهم بالذكر والمقصود أرباب العلم وأصحاب الرأي والحكمة.
فقوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، هذه صيغة عموم، والمقصد من هذا العموم: الخصوص، وليس العموم، والمعنى: شاور بعضهم وليس جميعهم، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، ولكن اجمع أهل المشورة واستشرهم، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يجمع إليه القراء وحفاظ القرآن فيشاورهم، وإذا أشار عليه أحد غيرهم بشيء قبله إذا كان فيه صواب، فقد أشارت عليه امرأة بشيء فقبل منها.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله عز وجل بالشورى قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، ففي يوم بدر قال: (أشيروا علي أيها الناس)، فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، وتكلم عمر فأعرض عنه، وهو يقول: (أشيروا علي أيها الناس) وهو يريد مشاورة الأنصار، فهم أهل المدينة وأصحاب البلد الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، وسيأتي هذا الخبر في قصة طويلة له صلى الله عليه وسلم.
إن الإنسان حين يستشير إنساناً فقد ائتمنه على هذا الرأي الذي يقوله، وكذلك إذا استشارك إنسان فقد ائتمنك، وطلب منك الأمانة، فاحذر أن تشيره بما يكون فيه ضرر عليه، فهذه أمانة ولابد أن تؤدي، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فإذا أعطاك إنسان سره، واستشارك وطلب منك الرد فقد أودعك أمانة، فرد إليه أمانته برأيك الصحيح.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، معناه: أنه مسئول يوم القيامة عند الله عز وجل عن هذه الأمانة التي لزمه أن يردها، وأن يجيب على من استشاره.
قال الحسن رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم، ولكن أراد أن يعرفهم ما في المشاورة من البركة، ففي آراء الجماعة بركة، فأراد الله عز وجل أن يعرف المسلمين ذلك.
وقال عمر رضي عنه: شاور في أمرك من يخاف الله، أي: لا تذهب إلى من يعاديك، أو يتمنى لك الشر لتستشيره، ولكن شاور من يخاف الله سبحانه وتعالى، ويعطيك الرأي السديد.
قيل لرجل من قبيلة عبس: ما أكثر صوابكم! أي: الصواب عندكم كثير، فقال الرجل: نحن ألف -أي: عدد القبيلة ألف رجل- وفينا حازم واحد نشاوره في أمرنا -فإذا حدث للقبيلة أمر شاوروه وأخذوا بمشورته- قال: فصرنا ألف حازم.
فعلى المرء ألا يهضم كلام العلماء ولا يستهتر به ولا يحتقره، وليأخذ بكلام العقلاء والحكماء، وليعمل به، فإن كثيراً من الناس يستشير عالماً في مسألة لا ليعمل أو يتفقه، فإن وافق الحكم هواه أخذ به، وإلا سأل آخر، فيطلب ما يوافق هواه، وهذا استهتار بدين الله عز وجل.
كان علي رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام، أي: مشهده في القتال، فالغلام أقوى في الحرب، ولكن رأي الشيخ خير من مشهد الغلام؛ لأن الشيخ له خبرة في الحياة، وخبرة في الحرب، وقد خاض المعارك قبل ذلك وعرفها، فالأخذ برأي الشيخ أولى من الأخذ برأي الغلام، ومع ذلك فالغلام يؤخذ برأيه، ولذلك لما أراد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يدخل الشام وفيها الطاعون استشار جمعاً من المهاجرين، فاختلفوا عليه: فمنهم من يقول: ادخل، أتفر من قضاء الله سبحانه وتعالى؟ ومنهم من يقول: ارجع ولا تدخل، ثم استشار مشايخ قريش الكبار، فقال: ما رأيكم؟ فلم يختلف عليه أحد منهم، وقالوا: ارجع ولا تذهب، فإنك سوف تهلك نفسك وتهلك الجيش، فهذه آراء الشيوخ، فاقتنع بكلامهم ورجع.
وكان من بركة هذه المشورة أن عبد الرحمن بن عوف كان غائباً، فلما رجع قال لـ عمر بن الخطاب: لقد أصبت فيما فعلت، وعندي في ذلك خبر، فحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ورجع، وهذا هو رأي المشيخة، فلقد كانت آراؤهم أصوب؛ لما لهم من خبرة في الحياة، فإذا لم يكن عندهم سنة في أمر من الأمور فكروا وأعملوا الآراء، وهم أهل لأن يوفقوا، بسبب كبر سنهم، وكثرة عبادتهم، وخبرتهم في إدارة الأمور.
يقول عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلي من أن أصيب من غير مشورة، بمعنى: أنه ليس أحب إليه أن يصيب بدون أن يستشير، بل الأحب أنه لو أخطأ بعد أن استشار، وهذا كلام حكيم من رجل عالم، فلقد كان هذا الرجل يقرب العلماء ويحبهم، فكان إذا أخطأ وقد استشار لم يندم، وإذا أصاب من غير مشورة يدخله العجب، وهكذا فالإنسان عندما يصيب مرة بدون مشورة يفرح ويعجب بنفسه، لكنه إن أصاب هذه المرة فقد يخطئ مرة أخرى ويضيع نفسه ومن معه بعد ذلك، هذا ما قاله العلماء.
ومن كلامهم أيضاً: من طلب الرخصة من الإخوان عند المشورة، ومن الفقهاء عند الشبهة، ومن الأطباء عند المرض، أخطأ الرأي وحمل الوزر وازداد مرضاً، وهذه من حكم العلماء، ومعنى (من طلب الرخصة من الإخوان) أي: أنه يشاور ويريد ممن يشاوره أن يسهل عليه ولا يعطيه الحقيقة؛ فينبغي على المرء ألا يطلب الرخصة عند المشورة، ولذلك قالوا: صديقك من صدقك لا من صدقك، وأخوك من وعظك لا من عذرك، وقالوا: أخوك من عذلك لا من عذرك، أي: أخوك حقيقة هو الذي يعظك ويعذلك، ويذكرك بأخطائك، أما الذي يعذرك دائماً، ولا يقول لك إذا أخطأت: أنت مخطئ، فقد غرك، وسوف تظل على الخطأ بدون أن يمنعك منه أحد، وإذا أتى إليك من ينصحك ويذكرك بأخطائك فقد تظن أنه يكرهك.
وقولهم: صديقك من صدقك، بمعنى أن الصديق الحقيقي هو الذي يصدقك، يقول: ما يقول ولا يكذب عليك، ويقول لك الصدق، فإذا أصبت صوبك، وإذا أخطأت خطأك، فهو صادق معك، وليس صديقك من صدقك، فكلما تقول شيئاً يقول: أنت صادق فيه، مع أن كل الناس يقولون: إنك مخطئ، فمن صفات أهل الجاهلية أن تصوب المخطئ من أجل قرابة بينك وبينه، وهذه هي العصبية.
وقولهم: ومن الفقهاء عند الشبهة، أي: أن يسأل الفقيه في أمر مشتبه فيه ويريد منه رخصة في هذا الأمر.
وقولهم: ومن الأطباء عند المرض، أي: أن يمرض ويذهب إلى الأطباء فيمنعوه من بعض الأشياء، فيطلب منهم ألا يمنعوه من ذلك وأن يسهلوا عليه.
فإذا صنع الإنسان ذلك فقد أخطأ الرأي، وحمل الوزر، وازداد مرضاًَ، طالما أنه يعمل بالشبهة، ويطلب من الفقيه أن يفتيه بجوازها، فيأثم الفقيه ويأثم هو أيضاً، ويحمل الوزر، ويزداد مرضاً.(435/4)
اهتمام الإمام أحمد بالشورى
وللعلماء كلام عظيم في مبدأ الشورى، يقول ابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية: فصل في التزام المشورة في الأمور كلها ومعنى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
قال: قال المروزي: كان أبو عبد الله -يقصد الإمام أحمد رحمه الله- لا يدع المشورة، يقتدي بالنبي صلوات الله وسلامه عليه فيما أمره الله عز وجل به في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، يقول: حتى إنه كان ليشاور من هو دونه فهذا إمام من الأئمة العظام رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، الفقيه العظيم العالم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ من المتون ومن الأحاديث ما لم يكن يحفظ أحد مثله رحمه الله، فقد قالوا: إنه حفظ ألف ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين وغيرهم من أحاديث موصولة بأسانيد كثيرة، ومن أحاديث منقطعة، ومن آثار عن الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم وغير ذلك مما حفظه، فكان فقيهاً عظيماً، وإماماً من أئمة أهل السنة، ابتلي فصبر ودافع عن دين الله عز وجل، حتى توفي وهو على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وأرضاه.
فكان رحمه الله يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في الشورى، حتى إنه ليشاور من هو دونه، وليس هذا عيباً أن الإنسان يستشير غيره، ويأخذ برأي غيره، ويستفيد منه، فلعله يكون عند نفسه مصيباً، فإذا استشار بان له الخطأ في رأيه، وهذا من عظمة الشورى.
يقول: وكان إذا أشار عليه من يثق به، أو أشار عليه من لا يتهمه من أهل النسك من غير أن يشاوره قَبِل مشورته، وكان إذا شاوره الرجل اجتهد له رأيه، وأشار عليه بما يرى من صلاح، وكان يستشير الناس، فإن جاءه أحد من أهل الصلاح المتمسكين والمتعبدين يشير عليه برأي قبل رأيه وأخذ بنصيحته، وهو أيضاً إذا جاءه إنسان يطلب منه النصيحة والمشورة أشار عليه، واجتهد له برأيه رضي الله عنه ورحمه.(435/5)
معنى الشورى
يقول ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] معناه: استخرج آراءهم واعلم ما عندهم بالشورى، فإذا استشرت الناس فكل منهم سيدلي برأيه الذي عنده، فتستفيد من آرائهم إذا رأيت، ولعلك تجد رأياً من آراء الناس أصوب مما تقوله أنت، فلا تحتقر لأحد رأياً حتى تسمع ما يقول.
يقول الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشواراً، وما يكون عن ذلك اسم المشورة، ويقال لها المشورة، يقال: فلان حسن الصورة والمشورة، أي: حسن الهيئة واللباس، وحسن المشورة أي: صاحب رأي.
قالوا: معنى شاورت فلاناً أي: أظهرت ما عندي وما عنده، يقال: وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها -فهذا من معاني كلمة شار- قال: وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل، وعسل مشار، أي: مأخوذ من أماكن النحل.
فالمشورة هي عرض الآراء على الناس، أو على أهل الشورى، وأخذ هذه الآراء والنظر فيها.(435/6)
الهدف من أمر الله نبيه بالشورى
يقول ابن الجوزي: اختلف العلماء رضي الله عنهم لأي معنىً أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، مع كمال رأيه وتدبيره صلوات الله وسلامه عليه، بمعنى: هل كان محتاجاً لآرائهم صلى الله عليه وسلم وقد كمل علمه وحلمه، وكملت أراؤه عليه الصلاة والسلام؟ يقول ابن الجوزي: قيل: ليستن به من بعده، وهذا صحيح، فالله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وليس معنى ذلك أنه لا يتقي الله صلوات الله وسلامه عليه، فيأمره الله عز وجل بذلك ليتقوا الله وليأتمروا بأمره، ولا يستنكفوا عن عبادته.
وقيل مثل ذلك في مقام الوعيد: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، وحاشاه أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم وأن يكون من الخاسرين، وقد أخبره الله بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، والنبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يشرك وقد عصمه الله سبحانه، ولكن إذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فالأمة أولى بذلك، فعلى المسلمين أن يخافوا على أنفسهم من الشرك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه حتى يستن به المؤمنون.
وقيل: لتطييب قلوبهم حين يستشيرهم، ولو استشار الإنسان إنساناً آخر في أمر من الأمور فسوف يحس ذلك المستشار أن له وضعاً واعتباراً واحتراماً، فيقول رأيه وهو طيب النفس، حتى ولو كان أقل منك، ولن تأخذ برأيه، ولكنك قد أرحت باله وطيبت نفسه باستشارتك له.
فالشورى مبدأ عظيم تطيب به نفوس الناس، وإذا حدث خطأ بعدها فلن يقول أحد لآخر: أنت انفردت بالرأي والحكم، ولكن سيقال: هذا رأي الجميع والخطأ منهم جميعاً.(435/7)
فوائد الشورى
قال ابن الجوزي: من فوائد المشاورة: تطييب القلوب، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر تستأمر في نفسها)، فالبكر تستأذن فإذا كانت صغيرة فلأبيها عليها ولاية إجبار، فيجبرها أن تتزوج، ولكن مع ذلك يطيب خاطرها بالمشاورة؛ لأنه يستأمرها، ويأخذ رأيها، حتى وإن كان له ولاية إجبار في سن معينة، ولكن لابد أن يستشيرها ويأخذ رأيها حتى يطيب قلبها، وتطيب نفسها.
كذلك من هذا الباب كما يقول الشافعي: مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه، فقد رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ولا بد أن ينفذ ذلك، فرؤيا الأنبياء وحي من الله عز وجل، فكونه يقول لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، ليس معنى ذلك أن إسماعيل لو رفض الذبح سيترك إبراهيم أمر الله، وإنما لتطييب القلب والموافقة على أمر الله، والرضا بقضائه وقدره، فقال الابن الكريم لأبيه الكريم: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
ومن فوائد المشاورة: أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ولو أن إنساناً استشار جماعة في المسالة الفلانية، وكل أدلى برأيه، واتفقت الآراء على عمل معين، وبعد ذلك لم يتحقق المطلوب، فسوف يقول: هذا قضاء الله وقدره، بعد أن استخرنا الله واستشرنا الناس.
ومن فوائد الشورى أيضاً: أنه قد يعزم على أمر ويتبين له الصواب في قول غيره، فقد يعزم على شيء، ثم يستشير الناس، فيشيرون عليه بترك ذلك الشيء لما سيترتب عليه من المضار، وقد يعزم على نكاح امرأة، ويستشير الناس في ذلك فيشيرون عليه بأن هذه المرأة لا تصلح لك، وفيها من الصفات ما لا يناسبك، ثم يتبين له الصواب في رأيهم بعد ذلك، وقس على ذلك غيره.
يقول علي رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.
وهذا كلام حكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإذا استشار الإنسان غيره وصل إلى الصواب في الأمر، وقد خاطر من استغنى برأيه، أي: أن الإنسان الذي يحسب نفسه أنه يفهم كل شيء، فيعمل ما يريد بدون أن يستشير الناس؛ فإنه قد يصل في النهاية إلى مأزق خطير لا يقدر على الخلاص منه، فيتمنى لو أنه استشار أولئك الذين احتقر آراءهم.
قال رضي الله عنه: وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، بمعنى: ما استدرك أو ما استخرج الصواب، يقال: استنبطت الماء: أي: استخرجته من الأرض، واستنبط الصواب بمعنى: استخرجه من قلوب الناس وعقولهم وتفكيرهم، فعلم الإنسان أن يشاور حتى يصل إلى الصواب.
قال: ولا حصنت النعم بمثل المواساة وهذا كلام رجل حكيم، ومعناه: إذا أردت أن تحافظ على النعم التي أعطاك الله إياها فتصدق منها وأد زكاتها، قال: ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر، والمعنى: إذا تواضعت للناس أحبك الناس كلهم، وإذا استكبرت عليهم أبغضك الناس كلهم.(435/8)
تفسير سورة الشورى [36 - 38]
وصف الله عباده المؤمنين الذين أعد لهم جنات النعيم بأنهم يتوكلون على الله في جميع أمورهم، وأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وأنهم يغفرون عند غضبهم، وأنهم استجابوا لأوامر ربهم، وانتهوا عما نهاهم عنه خالقهم، وأنهم يقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، وأنهم ينتصرون ممن ظلمهم إن كان الخير في الانتصار، وإلا صبروا وعفوا إن كان في ذلك صلاح وخير.(436/1)
بيان صفات المؤمنين المذكورة في سورة الشورى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:36 - 39].
هذه صفات من صفات المؤمنين الذين أخبر الله عز وجل أنه أعد لهم ما هو خير مما في هذه الدنيا من زينة ومال وغير ذلك، قال تعالى: ((فَمَا أُوتِيتُمْ)) أي: مهما أوتيتم أو كل ما أوتيتم من هذه الحياة الدنيا فهو متاع قليل كما قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الشورى:36].(436/2)
فضل الصدقة
الصدقة عظيمة جداً، وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل الصدقة التي تخرجها لله سبحانه، والأجر الذي يكون عند الله، منها ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب)، أي: من تصدق بنحو تمرة أو ما يشابهها، كأن أعطيت فقيراً ثمرة أو ثمن ثمرة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعدل تمرة)، أي: بأقل ما وجد، فالله عز وجل يعلم أن هذه إمكانياتك التي تقدر عليها، فيقبل منك بكرمه وفضله وجوده ذلك.
قال رسول الله: (فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)، الفلو: المهر الصغير، فهو يشبه نماء الصدقة بالحصان الصغير الذي تعلفه وتطعمه وتسقيه إلى أن يصير كبيراً، فكذلك الصدقة التي تصدقت بها فإنها كانت تمرة بسيطة فإذا بالله ينميها لك سبحانه، فيعطيك عشر أمثالها، أو سبعمائة ضعف فيها، أو ما شاء الله عز وجل من أجر عليها، وعندها تصير التمرة جبلاً عظيماً من الحسنات بفضل الله وكرمه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم)، فالدرهم كان لإنسان فقير، كل ثروته درهمان فتصدق بدرهم، فهو أنفق نصف ثروته، والآخر له مال عظيم كثير فتصدق من عرض ماله بمائة ألف، فله أجر عظيم عند الله على المائة ألف، ولكن من نظرة أخرى فإن الأول تصدق بنصف ثروته، والثاني تصدق بشيء من ماله، أو بعشر ثروته، أو غير ذلك، فكأن الدرهم سبق المائة الألف، ولكل أجر وخير عند الله سبحانه وتعالى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: (ما نقص مال من صدقة)، وهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعدنا لأن الله أوحى إليه بذلك، وقد ذكر في حديث آخر أنه قال: (ثلاث أقسم عليهن وذكر منها: وما نقص مال من صدقة).
فثق في وعد الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا أنفقت مالك فإنه لا ينقص بسبب الصدقة، وإنما ينميه الله ويبارك فيه سبحانه وتعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).
والنظرة في هذه الأحاديث كلها نظرة دنيوية ونظرة أخروية، فنظرة الدنيا هي أنك إذا أنفقت من مال الله أتاك الناس ونصحوك بإبقاء مالك فلعلك تحتاجه، فتوقن بأن مالك لن ينقص، بل سيزيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة).
والنظرة الدنيوية الأخرى هي العفو، وذلك حين يعفو الإنسان عمن ظلمه، فنظرة الناس والأهل والأصدقاء أن هذا العفو ضعف من الإنسان.
أما نظرة الآخرة فهي أنك قد تعززت بذلك، فيزيدك الله عز وجل بهذا العفو عزاً عنده سبحانه وتعالى وعند الخلق، فتصير عزيزاً حتى وإن تكلم عليك الناس، ولكن الله عز وجل يجعل لك عزة على الناس بسبب ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).(436/3)
من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله
ومن صفات المؤمنين قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38] أي: إن من صفاتهم الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وسواء قلت النفقة أو كثرت فهي بحسب ما يعطي الله سبحانه وتعالى الإنسان، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، فالإنسان الغني ينفق من هذا الغنى ومن هذه السعة، قال تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه رزقه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] أي: مما أعطاه الله من مال قليل.
وهناك نفقات واجبة على الإنسان كأن ينفق نفسه، أو على زوجته، أو على أولاده، أو على أبيه وأمه الذين يحتاجون إلى ذلك، فهذه نفقات أمر الله عز وجل بها، فهي نفقة وهي صدقة تؤجر عليها، وهناك نفقة إذا كنت غنياً وتملك نصاباً فتخرج زكاة مالك التي أمرك الله عز وجل بها وقال: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فتنفق على الفقراء والمساكين، وعلى من يحتاجون، فالإنسان ينفق مما آتاه الله، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد أمرك بالإنفاق من الطيب فقال: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وقال: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57]، وقال: {وَلا تَيَمَّمُوا} [البقرة:267] أي: لا تتوجهوا إلى {الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] فلا تنفق الشيء الرديء فتقول: هذا لله، ولكن أخرج لله ما يرضى ربك عنك بإنفاقك إياه، وانظر إلى ابني آدم لما أراد كل منهما أن يعرف منزلته وأيهما أفضل؟ فقيل لهما: قربا قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بأجود ما يجد من بهيمة الأنعام التي عنده، وذاك نظر إلى حقله وبستانه وقال: الله غني عن هذا، فنقى أردأ شيء مما عنده وقال: هذه لله، فإذا بالله يقبل ما كان طيباً وصالحاً، فقبل من هذا ولم يقبل من هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
فلا تيمموا إلى الخبيث تنفقون منه وإذا أعطاكم أحد هذا الخبيث فمستحيل أن تقبلوه، قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة:267] أي: إذا أعطاكم أحد هذا الخبيث فلن تأخذوه إلا إذا خدعكم إنسان فأعطاكموه.
فالذي ينبغي في النفقة هو أن تنفق ما تحب أن تأخذه، أو ما تحب أن يرزقك الله عز وجل مثله وأمثاله.
إذاًً: من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، قال الله عز وجل: {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:274]، أي: أنهم لا ينفقون في النهار فقط لأجل الرياء، بل هم ينفقون بالليل والنهار، بل من وجدوه محتاجاً أعطوه من مال الله، وينفقون سراً وعلانية، فإذا كانوا في العلانية أرادوا أن يقتدي الناس بهم، وإذا كانوا في السر أنفقوا فكان أعظم في الأجر، فهم ينفقون في كل أحوالهم بالليل والنهار في السر والعلانية.(436/4)
التوكل على الله
وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36] أي: الذي عند الله هو الأخير والأبقى الذي يناله من فيه هذه الصفات، والتي هي كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] أي: المؤمنون الأتقياء الذين يثقون في الله عز وجل ويتوكلون عليه ولا يكلون أمورهم إلى غيره سبحانه وتعالى، والذين يستيقنون بما أعد الله عز وجل للمؤمنين من فضل وكرامة ورحمة، الذين يستيقنون أن ربهم هو الرزاق الكريم، وأنهم ما خلقوا إلا لعبادته سبحانه، وأنه يرزقهم من فضله سبحانه.(436/5)
اجتناب الكبائر والعفو عن الناس
ومن صفاتهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37].
أي: من صفاتهم اجتناب الكبائر والفواحش، وإذا وقعوا في شيء منها تابوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ورجعوا إليه، وإذا غضبوا على أحد من الخلق أساء إليهم فهم يتذكرون ما عند الله من فضل لمن عفا فيعفون ويصفحون ويسامحون ويتجاوزون، فالله يعاملهم بما عاملوا به الخلق، فلما عاملوهم بالتجاوز والإحسان فالله عز وجل يحسن الله إليهم، ويتجاوز عنهم سبحانه وتعالى.(436/6)
الاستجابة لله وإقامة الصلاة
ومن صفات هؤلاء أيضاً كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] أي: أنهم استجابوا لله سبحانه وتعالى لما دعاهم إليه واستجابوا لما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلا يتلكئون، ولا ينكصون على أعقابهم، ولا يترددون في قبول ما أمرهم الله عز وجل به.
ومنها: أنهم صلوا الصلاة التي يرضى عنهم بها ربهم سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)) أي: اعتدلوا في صلاتهم، وأحسنوا فيها، واستيقنوا بالأجر من الله فاستراحوا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة يقول: (أرحنا بها يا بلال)، ويقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
فكذلك المؤمنون يستريحون بالصلاة لقربهم من ربهم سبحانه وتعالى، فهم أقاموا الصلاة وواظبوا عليها، وواظبوا على صلاة الجماعة فلم يتركوها، وإذا دعوا إليها فنادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، استجابوا وأسرعوا ملبين نداء ربهم مستيقنين بالفضل من الله سبحانه وتعالى.(436/7)
المشاورة في الأمر
ومن صفاتهم قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] فالمؤمنون يشاور بعضهم بعضاً في أمورهم، ولا يستبد أحدهم بالأمر دون غيره، والشورى تكون في أهل الرأي، فلا يستشار الحمقى والمغفلون، وأهل الاستهتار والفسوق، وإنما الشورى تكون لأهل الدين والتقوى، ولأهل الخبرة والحنكة، ولأهل الفن الذي يسأل صاحبه فيه.
فالذي يجيد القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل يستشار في أمور الجهاد والقتال في سبيل الله، والذي يعرف بيع الناس وشراءهم وما يقومون به من معاملات، فيحتاجون لأن يسعر عليهم الحاكم، أو يضع عنهم أشياء من أرباحهم، أو غير ذلك، فيستشير أهل المعرفة والتخصص في هذا الشيء.
وأهل الاقتصاد الذين يفهمون أحوال المسلمين، وأحوال سوق المال الذي عند المسلمين يستشارون في ذلك، أما حدود الله سبحانه وتعالى فيتكلم عنها العلماء والفقهاء وأهل الحديث؛ لأنهم أصحاب المعرفة في دين الله عز وجل، أما أن يترك أهل العلم، وأهل الفقه، وأهل الدين، ويستشار أهل الفسق، وأهل الرقص والغناء، فهذا بمنأى عن التعقل.
فلو أن إنساناً جاء وجمع مجموعة من الناس لا يفهمون شيئاً في أمر البيع والشراء وقال لهم: أنا أريد أن أعمل تجارة فبماذا تشيرون علي؟ لقيل له: بم يشيرون عليك فيها؟ فهم لا يعرفون كيف يشيرون عليك، وإذا أشاروا عليه أخطئوا فيها؛ لأنها ليست مهنتهم، وليست عملهم، ولقيل له: إذا أردت أن تفتح محلاً وتتاجر في شيء فاسأل أهل الصنعة في هذا الشيء.
وإذا أردت أن تبني عمارة من العمارات فاسأل المهندس والمقاول اللذين يفهمان في ذلك.
فالشورى تكون لمن يفهم ويجيد وعنده تخصص في ذلك، بحيث يكون أميناً في دينه، خبيراً في هذا الشيء، فقد يكون الإنسان أميناً ولكن لا خبرة له بهذا الشيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه أهل مشورته كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولقد كانا كالوزيرين للنبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهما في أموره صلى الله عليه وسلم.
فكان كلما حدث شيء جمع له المسلمين الذين يفهمون في ذلك وأخذ بآرائهم صلوات الله وسلامه عليه، ففي يوم الخندق استشار النبي صلوات الله وسلامه عليه المسلمين ماذا يصنعون مع الكفار إذا قدموا؟ فأشار عليه سلمان رضي الله تعالى عنه بحفر خندق بينهم وبين الكفار؛ لأن عدد الكفار القادمون عليهم عدد ضخم جداً، والأمر أصعب من أن يخرجوا لقتالهم، فيفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال سلمان.
وكان النبي بنفسه عليه الصلاة والسلام يحفر معهم الخندق، وينشد مع من ينشد من المسلمين قائلاً: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة.
فالغرض أن الاستشارة تكون لأهل العلم في الأمر الذي يستشارون فيه، فلا يجوز أن يستشير الحاكم في أحكام الله ودينه سبحانه إنساناً لا خبرة له في ذلك، أو يستشير إنساناً فاسقاً في دينه، بعيداً كل البعد عن كتاب الله وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(436/8)
التواضع وفضله
الأمر الثالث الذي يقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، أي: أن الإنسان المتواضع ينكر الناس عليه ويقولون له: لماذا تلبس لباس الفقراء؟ ولماذا تمشي على قدميك؟ ولماذا؟ ولماذا؟ فينظرون إليك على أنك هاضم لنفسك، ولكن النظرة عند الله عز وجل أنك إذا تواضعت لله يرفعك الله سبحانه وتعالى، ولا تظن أنك سترتفع في الدنيا بتطاولك على الناس واستكبارك عليهم، بل هذا الترفع على الخلق يجلب من الناس العداوة والبغض، وهو أسرع طريقة لأن يكرهك الناس، وأسرع طريقة لأن يحبك الناس هي أن تتواضع لهم، وأن توافقهم في الصواب؛ ولذلك كانوا يسألون قيس بن عاصم: لماذا يحبك الناس؟ فقال: لو امتنعوا عن شرب الماء لامتنعت عنه، ومستحيل أن يمتنع أحد عن شرب الماء، وليس مقصده ذلك، وإنما المقصد عدم المخالفة.
وإياك أن تنظر لنفسك وترفعها، فما رفع الإنسان نفسه إلا وضعه الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تواضع، فإذا كنت في مجلس مع الناس وقيل لك: اجلس، فاختر المكان المتواضع لتجلس فيه، ولا تختر أعلى الأماكن وتجلس فيها، فإذا فعلت ذلك لعل الناس يتركونك مرة، ولكن لن يتركوك دائماً في ذلك، وقد نهاك النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس على مكرمة إنسان إلا بإذنه، فإن استضافك أحد عنده في بيته، وأدخلك غرفة الجلوس، فلا تجلس حتى تسأل عن مكان جلوسك؛ فلعلك تجلس في مكان لا يرغب رب الدار أن تجلس فيه.
فهذه آداب عظيمة يعلمناها الإسلام العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد رفعه الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة وكرمه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن).
والتواضع: هو أن ترى نفسك وضيعة، وأنها أقل من الغير، فبهذا يرفعك الله سبحانه وتعالى، أما إذا نظرت إلى نفسك بأنها أعلى من الغير وأحسن منهم، فيأبى الله أن يدوم لك هذا النظر، فيريك أنك أقل من الناس ويبتليك بمرض، فيجعلك تحتاج للدكتور وتحتاج للناس، فتجد نفسك قد احتجت لهؤلاء الذين كنت تستغني عنهم.
والله عز وجل جعل بعضكم يحتاج إلى بعض، فأنت اليوم معك مال ولا تدري بكوارث الأيام ومصائبها؛ لذلك تواضع لله.
ولا تستكبر بوظيفتك، فإن الوظيفة لا تدوم، واعلم أنك مهما عاملت به الناس أثناء غناك أو وظيفتك فإنهم سيعاملونك حين فقدك، فإن تواضعت لهم رفعوك، وإن تكبرت عليهم تركوك وأهملوك، وانظر إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فلقد كان يخرج بين الناس ويمشي بينهم، وينام في الطريق، ولقد نام مرة تحت شجرة، فأتى رجل من بلاد الفرس يبحث عن عمر فدل على مكانه تحت الشجرة، فلما أتى إليه ووجده نائماً قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.
فالإنسان الذي يعدل في الدنيا يحبه الخلق، وفي الآخرة يجعله الله سبحانه وتعالى على منبر من نور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة).(436/9)
فضل الصدقة
نرجع لحديث النفقة، روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقن بصدقة!)، وانظر إلى هذا الرجل كيف يلزم نفسه بالصدقة في وقت تأتي النفس فتجبن صاحبها وتبخله، فهذا الرجل قال: (لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق)، إذ إنه خرج في الظلام فوجد رجلاً فأعطاه تلك الصدقة، ورجع هذا المنفق إلى بيته، ورجع الآخر إلى بيته، ثم قام يحدث الناس بما جرى له في الليل، (فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: الحمد لله على سارق) فحمد الله سبحانه على ذلك، ولم يمنعه ذلك من التصدق مرة أخرى فقال: (لأتصدقن بصدقة، فخرج بالليل فوضعها في يد امرأة) فإذا بها امرأة زانية.
فأخذت المرأة المال، ولما أصبحت تحدثت بهذا الشيء، (فقيل: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، ثم خرج الليلة الثالثة وتصدق بصدقة فوضعها في يد غني ثم ذهب يحدث بها، فتحدث الناس: تصدق الليلة على غني، فقال الرجل: الحمد لله على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فإذا بهذا الرجل ينادى فقيل له: إن الله سبحانه وتعالى يقول: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته).
فالله له حكمة سبحانه وتعالى في ذلك، منها أن هذا الذي أخذها وسخر عليك اليوم، غداً سيتوب ويتصدق كما تصدقت أنت عليه، فقد سننت له سنة حسنة وأرجعته عما كان فيه من ذلك.
قال: (وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)، أي: كأن الله يقول: لم نضيع لك هذه الصدقة، بل لك أجر الصدقة وأجر السنة الحسنة التي سننتها في هؤلاء ليعملوا مثلك بعد ذلك فيكون لك أجر هؤلاء.
وانظر إلى الذكرى كيف يذكرهم الله سبحانه فيقول: {ومَمَا رَزَقْنَاهُمْ} [البقرة:3] فالمال مال الله سبحانه وتعالى، فكأن الله يقول: نحن رزقناك فأعطن فلست الذي خلقت المال، ولست الذي اكتسبته بجدك وتعبك، وإنما ذلك من توفيق الله عز وجل لك، ورزق الله سبحانه وتعالى لك.
روى الإمام أحمد من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة).
أي: أن الصدقة ظل، وهذا الظل ظل الله سبحانه وتعالى، وليس هناك ظل يوم القيامة إلا ظل الله، في يوم مقداره خمسين ألف سنة، والناس قائمون كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وتدنو الشمس من رءوس الخلائق، ويكون هناك حر شديد، وفي الدنيا يغمى على الإنسان من شدة الحر، أما في الآخرة فلن يغمى عليه، والإنسان في الدنيا إذا غرق يموت، أما في الآخرة فإنه لا يغرق في عرقه، فموقف القيامة موقف عصيب وعظيم، والإنسان المؤمن يظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإذا كنت من أهل الصدقة المكثرين فإن الله عز وجل يظلك في ظل صدقتك، ويكون هذا الظل في الموقف كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يفصل بين الناس)، أو قال: (حتى يحكم بين الناس)، وراوي الحديث هو يزيد بن أبي حبيب يحدث عن أبي الخير واسمه مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر، وعقبة صحابي، قال يزيد بن أبي حبيب: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة.
أي: أنه كان يتصدق بأي شيء وجده، فإن وجد كعكة تصدق بها، وإن وجد بصلة تصدق بها.
وهذا الحديث رواه ابن خزيمة، وذكر عن مرثد أنه كان أول أهل مصر يذهب إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما مال، وإما خبز، وإما قمح، حتى ربما رأيته يحمل البصل فأقول: يا أبا الخير! هذا ينتن ثيابك، فيقول يا ابن حبيب! أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غير هذا، إنه حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ظل المؤمن يوم القيامة صدقته).
وأنت أيها الأخ! تصدق بما استطعت من الصدقة، فاللقمة تجعلها في فم امرأتك صدقة، والنفقة على عيالك صدقة، والتبسم لأخيك صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه عليها صدقة، وأن تصلح بين متخاصمين صدقة، وأن تلقي السلام على المسلم صدقة، فتصدق فإن المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة.
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد).
أي: أن أحب أموال أبي طلحة إليه حديقة عظيمة جميلة اسمها بيرحاء، وكانت أمام مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الحديقة كان فيها بئر من الآبار العذبة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يشرب منها.
قال أنس: (فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]) أي: أنه لما سمع هذه الآية فإذا به يفكر، ويرى أن البر اسم جامع لجميع خصال الخير، وحتى أكون باراً وأجمع خصال الخير فلن يتوفر لي ذلك حتى أنفق مما أحب من المال، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء).
وانظر إلى قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا} [آل عمران:92] (من) هنا تبعيضية، أي: من بعض ما تحبون، فهذا يحب هذه الحديقة فيخرج منها شجرة، يخرج منها ثماراً، فـ أبو طلحة قال: أنا أحب هذه الحديقة، فهي كلها لله سبحانه وتعالى.
فقال: (إنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ، ذاك مال رابح)، و (بخ) كلمة تقال عند الثناء والمدح والتعجب لما فعل هذا الإنسان من مكرمة عظيمة، وقوله: (ذاك مال رابح)، أي: أن تجارتك مع الله رابحة عظيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين).
وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم الكريم ومن حنانه؛ إذ لم يأخذها ويوزعها على الناس بنفسه، بل جعل أبا طلحة نفسه هو الذي يوزعها، وهذا أحب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس سيحبونه لذلك، فإذا أعطى الأقربين أحبه الأقربون، ولن يزالوا يذكرون له ذلك ويمدحونه، ويثنون عليه، ويدعون الله له، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذي يفعل ذلك بنفسه حتى يؤجر عليها الأجر العظيم، فقال: (أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على كل ما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(436/10)
تفسير سورة الشورى [39 - 43]
من صفات المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في سورة الشورى: الانتصار ممن ظلمهم؛ ليردعه ذلك عن الاجتراء على أعراض المسلمين وأموالهم، ولكن الأفضل هو العفو والصفح عن الظالم، وهذا لا يكون في الظالم الذي يستحلي ظلمه، وإنما يعفى عمن ترك ظلمه ورجع وتاب إلى الله تعالى.(437/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
يقول الله عز وجل في صفات المؤمنين الذي لهم الدار الآخرة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:39 - 41].
البغي: هو الظلم، فمن صفات المؤمنين أنهم إذا ظلمهم أحد فهم ينتصرون إذا كان قصاصاً أو نحو ذلك، ولكنهم قد يفضلون العفو على ذلك، فلهم أن ينتصروا.
ولذلك كان السلف يحبون الإنسان ينتصف من ظالمه، وإذا كان قادراً عفا عنه، والسبب في ذلك: أنهم كانوا يخافون من تمادي الظالم في ظلمه، فالإنسان الوقح الذي يريد ظلم غيره لو سكت عنه كل الناس، وعفا عنه كل الناس لتمادى في بغيه وفي ظلمه.
فالإنسان المستكبر والظالم الباغي الذي يأخذ أموال الناس لا بد من التصدي له، ولا ينبغي العفو عن مثل هذا.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) فكأن الأصل أن تنتصف وأن تنتصر ممن يظلمك، فإذا وجدت منه تراجعاً وندماً على ما فعل، فيكون العفو أولى عن مثل هذا الإنسان.
والآية في هذه السورة مكية، فهي في المشركين وفي غيرهم، ومن صفات المؤمنين: أنهم ينتصرون من الجميع، من المشركين ومن غير المشركين، سواء كان الذي ظلمه كافراً أو مسلماً.
ويقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى ذكر الانتصار في معرض المدح، وذكر العفو في معرض المدح، فمدح الانتصار والعفو.(437/2)
متى ينبغي للمسلم ألا يعفو عمن بغى عليه
وبعد ذلك قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، وهذا في حالتين -كما يقول ابن العربي المالكي رحمه الله-: الحالة الأولى: أن يكون الإنسان باغياً معلناً بالفجور، كأن يكون قاطع طريق، ويفرح بهذا الشيء، فيجب أن تنتصر منه ولا تعطه حتى وإن وصل الأمر إلى أن تقتله أو يقتلك، ولذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: (أرأيت إن أراد رجل أن يأخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: فإن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار)، فتعلمنا الشريعة الحكيمة العظيمة أن المؤمن لا يتهاون في حقه، ولا يكون التهاون عن ضعف، فلو تركت الناس يتطاولون عليك لأوشك أن يسود السفلة والمجرمون، ومثل هذا يجب أن تأخذ حقك منه في أي صورة من صور أخذ الحق: أن تشكوه للحاكم، أو تشكوه للقاضي؛ ولتمنعه بذلك من ظلمك فلك هذا الشيء، فمدح الله عز وجل من ينتصر في هذا المقام، وكان السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يحبون ذلك.
قال إبراهيم النخعي: إنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفساق، فلو أن فاسقاً مشى يستهزئ بالمؤمن ويشتمه، والمؤمن الأول يسكت عنه، والثاني يسكت عنه، والآخر يسكت، فسيشيع بين الناس الاستهزاء بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبالدين كله.
لكن لو أن المسلم أخذ حقه فوقف لظالمه يدافع عن دين الله وعن حقه، سيخاف الفساق، يذكر أن ثمانية أفراد ركبوا في القطار وأخذوه من محطة إلى محطة، وفتشوا جميع الركاب، وأخذوا كل أموال الركاب، وآذوا الركاب، والعجيب أنه قطار كامل يُفعل به هذا الشيء من ثمانية أفراد فقط! ويعفو المسلم إذا خاف الظالم من الله عز وجل، وندم على ما فعله، ورجع عن الذي هو فيه، ففي هذه الحالة اعف واصفح عنه، لكنه إذا ظل على ما هو عليه من إجرام وظلم، فانتصر منه بأي صورة من صور الانتصار.
لذلك قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفساق، وهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك، وهذه الصورة الأولى: الإنسان الباغي المعلن الفجور، الوقح، والذي يجهر بوقاحته، والذي يؤذي الصغير والكبير، فالانتقام منه أفضل.(437/3)
متى يستحب للمسلم أن يعفو عمن بغى عليه
الصورة الثانية: في الإنسان الذي يقع ذلك منه فلتة، وليس من عادته أن يعمل هذا الشيء، فوقع في ظلم وندم على فعله؛ لأنه ليس من عادته، فالعفو عن مثل هذا أفضل، وهذا قد يجعله يستحي ويخجل مما عمله، فالفرق بين الصورتين: أن الأول مجرم، فهذا يستحق أن يؤاخذ، ولا يعفى عنه؛ لأنه يتطاول على الجميع، ولا أحد يردعه، وينطبق عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39].
لكن الحالة الثانية: أن فعله هذا فلت منه وليست عادته، فيسن في مثل ذلك الصبر والعفو؛ لعله يراجع نفسه، ولعله يستحيي مما صنعه.(437/4)
تفسير قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)
ثم قال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] هذه سيئة وهذه سيئة، ولكن الفرق بينهما أن الأولى جرم من صاحبها، فهي سيئة ساءت غيره.
والثانية: عقوبة لهذا الظالم الذي يستحق العقوبة، وسميت الثانية سيئة كمشاكلة لفظية، وأن فيها إساءة للظالم فعومل بما يسوؤه ويزعجه ويؤدبه ويردعه، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) أي: جزاء الإثم والإجرام: العقوبة، والعقوبة حسنة وليست سيئة، لكن بالنظر من ناحية المجرم، فحين وقعت العقوبة عليه أساءت إليه وقبحته أمام الناس.
وهنا معنى المشاكلة اللفظية: أن اللفظة هي اللفظة، ولكن تختلفان في المعنى، فجزاء الإساءة من الإنسان أن يعاقب على إساءته، وتأول العلماء هذه الآية على أن للإنسان أن يأخذ ماله ممن أخذ منه هذا المال بأي صورة من الصور، طالما أن هذا مالك بعينه، ولست متأولاً فيه، فلو أن إنساناً وجد حقيبتك وأخذها ثم خبأها فقلت: هات الحقيبة التي أخذتها، فقال: لن أعطيك شيئاً، وأنت عرفت المكان الذي خبأها فيه، فكسرت المكان وأخذت الحقيبة، فيجوز لك ذلك؛ لأن المال مالك بعينه ولست متأولاً.
وصورة التأويل التي يقع فيها الظلم: إنسان يعمل عند شخص، واتفق معه على أن يعطيه عشرة جنيهات في اليوم، فوجد أنه يبذل شغلاً أكثر مما يبذله غيره، وغيره يأخذ مالاً أكثر منه، فتأول لنفسه وقال: أنا أستحق أن آخذ مثلما يأخذون، إذاً سأستخرج من ماله، وهذا لا يجوز؛ لأنك متفق معه أصلاً على مقدار معين، فلا يجوز لك أن تأخذ أكثر منه إلا إذا أعطاك صاحب العمل.
فتأول العلماء على أن للمظلوم أن يأخذ حقه ممن ظلمه، ولو عنوة، ولو بالقوة، ولو بالشكوى، ولو بأن يمد يده ويأخذ هذا المال، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة عظيمة، وفي هذا نظرتان: نظرة أنك عند الله مظلوم فلك هذا الشيء.
ونظرة أخرى أنك تعامل على الظاهر، فالقاضي ليس مطلوباً منه أن يتفهم موقفك وبأن هذا مالك.
قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فهذا في القصاص، فإذا ضرب إنسان إنساناً وجرحه أو قطع عضواً من أعضائه، فجزاء السيئة القصاص إذا كان مما يقتص فيه.
فإذا عفا أولياء المظلوم أو من أسيء إليه فلهم الأجر على عفوهم، والعفو -كما ذكرنا- يكون عن الإنسان الذي حدثت منه السيئة فلتة، ليس مجرماً أصلاً، أما إذا كان محارباً لدين الله ولرسوله، فلا يعفى عن مثل هذا الإنسان قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) أي: ترك القصاص، وأصلح بين الظالم والمظلوم فله أجره عند الله سبحانه وتعالى.
وذكرنا أن القصاص ليس فيه مقابلة القصد بالقصد، فلو أن إنساناً قال لإنسان: يا ابن كذا! فسب أباه، فيرد عليه ويقول: لا، أنت ابن كذا، فهذا خطأ، فليس لك أن تقتص في مثل ذلك، وإنما هذا يعزر بما يليق به من ضرب أو سجن أو بما يحكم الحاكم فيه.
قال تعالى: (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فالظالم بغيض إلى الخالق سبحانه وتعالى، كما أن الناس لا يحبونه، فالله سبحانه وتعالى يبغضه، والله أعد له نار جهنم التي أعدت للظالمين.(437/5)
تفسير قوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)
قال سبحانه: {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] فالذي ظلم فانتصر ممن ظلمه، وانتصف منه، وأخذ منه (فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس عليهم حرج، ففي هذا المقام أنت مخير بين العفو ولك الأجر، أو أن تنتصر من الظالم ولا شيء عليك، وإذا انتصرت بشرط أن تأخذ حقك وليس أكثر من ذلك.
فللإنسان أن يستوفي ذلك بنفسه، أو أن يطلب من الحاكم أن يأخذ له حقه.(437/6)
تفسير قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس)
قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
(السبيل) هو العقوبة بأن يعاقبه الله عز وجل، قال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي: لكم عليهم سبيل وطريق، ولكم عليهم أن تقوموهم وأن تقيموا عليهم حدود الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم ظلموا.
قال تعالى: (وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ) أي: يطلبون البغي وهو الظلم (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: بغير وجه حق.
قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] وهذه الآية التي ذكرها الله في سورة التوبة، وذكر في هذه السورة: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ) فهنا مقابلة، فالإنسان الظالم لكم عليه سبيل، بينما الذي يحسن أو ينتصر ويأخذ حقه فهذا محسن، فلا سبيل على من يأخذ حقه.(437/7)
حكم تحليل من أخذ مالك أو انتهك عرضك
اختلف العلماء كما يقول القرطبي رحمه الله في التحليل، وكان يقول باستحبابه، أي: عندما يأتي إليك إنسان ويقول لك: حللني أي: سامحني فيما فعلت فيك، فهل يستحب لك أن تحلله؟ كان سعيد بن المسيب لا يحلل أحداً من عرض ولا مال.
فإذا كان الإنسان من النوع الذي اعتاد السرقة، فكلما سرق ذهب إلى الشخص المسروق وطلب منه السماح، فهذا لا يستحق المسامحة، من باب الردع له؛ لأنه إذا وجد أن لا أحد يريد أن يعفو عنه، سيخاف من الله عز وجل.
لكن ليس كل الناس بمثل هذه الصورة، فهناك أشخاص يتوبون، فما المانع أن يحلل الإنسان أمثالهم؟ لذلك كان سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين يحللان من العرض والمال، فإذا أخذ إنسان منهم مالاً وذهب يتسامح منهم، كانا يحللانه في ذلك.
أما الإمام مالك فهو وسط بين القولين، فكان يرى أنه يحلل من المال دون العرض، فإذا أخذ إنسان منك مالاً، وجاء يقول لك: أنا أخذت منك هذا المال فسامحني، ورد لك المال فقال: لا بأس بأن تحلله، أما العرض فقد سب وانتهى الأمر، ففي أي شيء يحلله الإنسان؟ ووجهة نظره: أنه لو اعتاد البذاءة، وكل من سبه سامحه سيتمادى، فمثل هذا لا يستحق؛ لأنه سيعتاد على انتهاك أعراض الناس، والكلام البذيء الفاجر الفاحش.
والأمر واسع في ذلك، والأولى في الجميع أن يعفو الإنسان ويصفح كما أمر الله سبحانه وتعالى، فصارت المسألة ثلاثة أقوال: الأول: لا يحلله بحال وهو قول سعيد والثاني: يحلله وهو قول القرطبي، والثالث إن كان مالاً حلله، وإن كان عرضاً لم يحلله وهو قول الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن العربي: ووجهة النظر أن الرجل إذا غلب على أداء حقه، فمن الرفق به أن يتحلله، أي: إنه قد يكون أخذ منك مالاً في يوم من الأيام ثم تاب إلى الله وليس معه مال، فجاء يقول لك: سامحني لقد سرقت منك عشرة جنيهات في يوم من الأيام، أو اختلست منك مبلغاً، والذي جعله يفعل هذا أنه خاف من الله، ورجع عن هذا الذنب، فاعف عنه، ولا تتركه معذباً في الذي صنعه.
أما الإنسان الذي تطاول في العرض، فأصبح لسانه بذياً أي: متعوداً على هذا، فمثله لا يعفى عنه، لكن إذا تاب إلى الله، وأصلح فيما بينه وبين الله، وتغير حاله، وتغير أدبه، فلا مانع من أن يعفى عنه ويستر عليه.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي اليسر حديثاً وفيه: أنه استدان منه إنسان مالاً، فذهب ليطالب بالمال، وقد كاتب عليه ورقة؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فخرج إليه ابنه فقال: أين أبوك؟ قال: إن أبي حين رآك ذهب فاختبأ في غرفة أمي، فنادى أبو اليسر عليه وقال: اخرج إلي فقد علمت أين أنت، فخرج إليه الرجل، فقال له: ما حملك على أن اختبأت مني؟ أعطني المال الذي سلفتك، فقال الرجل: خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت معسراً، يعني: أنت صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما الذي يلزمني أن أخرج وأكذب عليك، أو أعطيك وعداً تدعو علي، فأنت صحابي فاضل، لا أستطيع أن أكذب عليك، فقال أبو اليسر لهذا الرجل: آلله! يعني: أسألك بالله هل الذي تقوله صحيح؟ قال: والله! أنا صادق في الذي أقوله، قال: فأتى بالصحيفة التي كتب فيها الدين ثم قطعها، ومحا ما فيها، ثم قال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل.(437/8)
تفسير قوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)
قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] فالإنسان الذي يصبر ويعفو ويتجاوز عما فعل فيه، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي: من عزائم الأمور، وكأن الآية فيها شيء مضمر، وهذا مثلما نقول: {أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فالرسل كلهم أفاضل، وكلهم قاموا بأمر الله عز وجل، وبلغوا رسالات الله، وأمر الله عز وجل، لكن كان هناك من كانوا أقوى من غيرهم، وأشد عزيمة من غيرهم، فكأن الإنسان الذي يعفو ويصبر أشد عزيمة من غيره، وقوي العزيمة، صابر على أمر الله، وهو إنسان قوي شديد في أمر الله، ومتمسك بدين الله، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي: متمسك بما يحبه الله سبحانه وتعالى، وما يرتضيه من عباده أن يفعلوه.
إذاً: الإنسان له أن ينتصر ممن ظلمه، وله أن يعفو عمن ظلمه بحسب حال هذا الظالم، وإذا كان الظالم يستحلي الظلم فلك أن تنتصر منه، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي جاء في قصة السيدة عائشة مع السيدة زينب رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
فالسيدة زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلوات الله وسلامه عليه، من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تفتخر أن الذي زوجها من النبي صلى الله عليه وسلم هو الله من فوق سبع سماوات، تقول: زوجكن أباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، ولها الحق أن تفتخر بمثل هذا.
ولكن قد يحدث من الغيرة بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يكون محموداً، ولذلك جاءت إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، وكأنها تغيضت منها أن النبي صلى الله عليه وسلم عندها، فقالت لها كلاماً شديداً موجعاً، فسكتت السيدة عائشة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول للسيدة عائشة: (دونك فانتصري) وهذا المقام مقام العفو، فعفت عائشة وسكتت، ولكن لما استطالت الأخرى في ذلك، ردت عليها فأفحمتها، قالت: فجف ريقها في حلقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نرضيه بأقوالنا وأفعالنا ونوايانا، وأن يتقبل منا سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(437/9)
تفسير سورة الشورى [44 - 48]
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات من سورة الشورى أن من أضله الله فلا هادي له، كما ذكر حال الظالمين في يوم القيامة عندما يرون العذاب ولا محيص لهم منه، وأمر الله عز وجل عباده بأن يستجيبوا لأوامر الله وأوامر رسوله، وبين الله تعالى أن طبيعة الإنسان إن أصابته حسنة فرح بها، وإن أصابته سيئة فإنه يقنط من رحمة الله تعالى وييأس.(438/1)
الإيمان بالقضاء والقدر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:44 - 48].
في هذه الآيات يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قضائه وقدره، وأنه بيده مقاليد كل شيء، فيهدي من يشاء وهذا من فضله سبحانه، ويضل من يشاء بعدله سبحانه وتعالى، قال جل شأنه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال أيضاً: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله بيده مقاليد كل شيء، وكان صلى الله عليه وسلم يحمد ربه سبحانه ويقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مباعد لما قربت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت).
وإذا أراد الله شيئاً فيستحيل أن يكون على غير ما أراده سبحانه وتعالى، فالله قدر كل شيء، وكتب عنده كل شيء، وجعل العباد في هذه الدنيا يعملون ويجازيهم الله على أعمالهم، وهو أعلم بحالهم أيستحقون الجنة أو يستحقون النار؟ خلق خلقه فقال: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي).
والصحابة رضوان الله عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الأمر قد فرغ منه، فهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ففيم العمل إذاً؟ فأرادوا أن يجادلوا في القضاء والقدر، فقطع عنهم هذا الأمر، فالقضاء والقدر ليس للجدل فيه مكان وإنما يجب الإيمان به، أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قدر مقادير كل شيء سبحانه وتعالى، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن مشيئته أن جعل للعباد مشيئة، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] أي: ما تريدونه وما ستفعلونه قد علمه الله، ولكن جعلكم تكتسبون، فتجازون على ما اكتسبتم.
وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286] أي: من خير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] من شر، فالإنسان يكسب ويكتسب، يكسب لنفسه الحسنات ويكتسب عليها السيئات، فاكتساب العبد محل الجزاء.
فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة وسط بين من يقول: العبد مجبور، ومن يقول: ليس هناك قدر والله لا يعلم إلا بعد عمل العبد، فأهل السنة وسط بين الاثنين، فهم يقولون: الله يشاء، والله يعلم سبحانه وتعالى، وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
والله كلف العباد وجعل لهم الاختيار فيما يكتسبون، وقد علم الله سبحانه ذلك وكتبه عنده وقدره، فيبقى على العبد أنه يكتسب بكامل حريته، فيكون مختاراً مريداً فاعلاً آخذاً تاركاً معطياً مانعاً، فيرى نفسه تفعل ذلك ولا أحد يجبره.
فالعبد إذا أمسك كوباً من الماء فإنه مختار فيه، فإن شاء شرب الماء وإن شاء لم يشربه، وهذا الاختيار هو الذي يسأل الله عز وجل عنه ويحاسب عليه يوم القيامة، فشرب الماء قد يكون مباحاً أو واجباً عليه حتى لا يهلك نفسه، وقد يكون آثماً في وقت الصيام ويبطل صومه بذلك.
فهنا ثلاث حالات في اختيار العبد في شرب الماء؛ ففي حالة يجب عليه، وفي حالة يباح له، وفي حالة يحرم عليه، ويبقى العبد مختاراً حين يفعل ذلك، فإذا قال العبد: الله أجبرني على ذلك، فإنه يكون كاذباً فيما يقول، فإن الله لم يجبره، وإنما شاء سبحانه وتعالى، وأعطاه مشيئة يختار بها ما يريد فيحاسبه الله على ما اختاره، فيحاسبه على كسبه من خير أو شر.(438/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44].
قوله: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: من يخذله الله سبحانه وتعالى فإنه في ضلال، فالإنسان المجرم الذي اتبع الشيطان وترك دين الله سبحانه وتعالى، فإنه مخذول قد خذله الله سبحانه، ومن يهده الله فلا مضل له، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف:178] فهذا قد أنعم الله عز وجل عليه بذلك.
فالله سبحانه بيّن لجميع عباده حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أنزل الكتب من السماء، وأرسل الرسل يهدون الخلق إلى الله سبحانه، والإنسان المؤمن جعل الله عز وجل قلبه مفتوحاً وعقله مفتوحاً منيراً، فأبصر واختار وعرف الطريق الصواب، والإنسان الكافر أظلم قلبه بكفره وبجحوده بالله.
فإن المعاصي تنكت على القلب نكتاً سوداء حتى يسود القلب، فلم يضئ له الله عز وجل ما أظلم من قلبه، فيبقى في ظلمة لا ينتفع بما جاءه من النور.
والمؤمن أراد الطاعة وأحب ربه سبحانه فأنار الله له قلبه، فإذا به يبصر وينتفع بما جاء من عند الله، فالأول: لم يعطه الله عز وجل نوراً، والثاني: أعطاه الله عز وجل نوراً، فمن أظله الله من الذي يهديه بعد ذلك؟ فمن كان قلبه قد أظلم لم يجعل الله عز وجل فيه ما يضيء له بسبب ما اقترفت يداه.
ومعنى قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ) أي: من سيلي أمره؟ والولي القريب هو الذي يتكفل بأمور الإنسان ويقوم عليها ويدبر له حاله، فهذا من الذي يليه بعد الله سبحانه وتعالى إذا أضله الله فحجب عنه النور؟ فلا هادي لهذا الإنسان وليس له من يلي أمره فيدخله في الإيمان.
ومعنى قوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: حين رأوا العذاب في قبورهم حين كانت قبورهم عليهم حفرة من حفر النار، وكذلك حين رأوا العذاب في يوم القيامة فهم يجأرون ويصرخون، قال تعالى: {ويقولون هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]، أي: هل إلى مرد نرد مرة ثانية إلى الدنيا؟ وهل إلى مرجع إلى الدنيا من سبيل؟ وهل هنالك وسيلة نعتذر بها لنرجع إلى الدنيا؟ فليس هنالك رجوع، فإن الحياة الدنيا مرة واحدة، ثم بعدها الوفاة ثم البعث والجزاء في دار الخلود إما جنة وإما نار، فهذه هي الحياة الباقية.
والله عز وجل قضى أن لا رجوع إلى الدنيا، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] ولو أعاد الله الكفار إلى الدنيا فإنهم سيعملون ما حرم الله عليهم، فالله يعلم بتقلبات قلوب عباده، فيعلم جحود من جحد وكفر من كفر وإيمان من آمن، ويعلم أن الكفار لو عادوا إلى الدنيا فإنهم سيرجعون إلى الكفر والجحود، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] أي: لكاذبون فيما يدعون.
وقوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: في وقت الوفاة، عندما تنزل عليهم ملائكة من نار جهنم والعياذ بالله، معهم مسوح من النار لتأخذ أرواحهم فيها، فعندما يرون هؤلاء الملائكة إذا بهم من شدة الرعب والذعر تتفرق أرواحهم في أجسادهم فتسحبها الملائكة وتخرجها بقوة، فيتمزق منها العروق والعصب كالشوك الكثير الشعب في الصوف المبلول.
فإذا وضعت صوفاً مبلولاً وبداخله أشواك مختلفة ومتفرعة وحاولت أن تسحب الشوك فإن الصوف يتمزق، والشوك يتكسر، فهؤلاء تنزع أرواحهم بهذه الطريقة، تتفرق في أجسادهم من شدة الرعب فتسحب وتؤخذ بقوة، ويقال لها: أيتها النفس الخبيثة! كنت في غضب من الله فاخرجي إلى غضب من الله سبحانه وتعالى.
فهذا في الفجار، وهذا أول ما يكون مما يرون من العذاب، ثم إذا حملوا على النعش وذهب بهم إلى قبورهم فإن روح كل منهم تقول: يا ويله! إلى أين تذهبون به؟ لا يريد أن يصل إلى القبر؛ لأنه يعرف ما الذي ينتظره هنالك، فسوف ينزل إلى القبر فيجده حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.
فهذا العبد يقول: (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)،
و
الجواب
لا، ليس هناك مرد مرة ثانية، فإذا قامت الساعة فإن الكافر أو الفاجر في قبره عندما يفتح له باب إلى النار فيرى ما ينتظره هنالك فإنه يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.
والمؤمن يرى النعيم الذي هو فيه وهو في القبر ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك من الجنة، فيقول: رب أقم الساعة، كي أعود إلى أهلي ومالي في الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ورحمته سبحانه.(438/3)
تفسير قوله تعالى: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل)
قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45] أي: إذا قامت القيامة فإنه يعرض الذين كفروا على النار، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] أي: ما أعطيناه لكم من طيبات الدنيا فإنكم ضيعتموها في معصية الله، وفي الكفر والشرك بالله، وفي طلب الملاذ المحرمة، {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20] أي: الإهانة والتحقير والخلود في النار والسعير بسبب ما كنتم تصنعونه في الأرض من استكبار، فهذا الجزاء بسبب ما عملتم من معصية الله، واستحققتم هذا الذي نالكم، فيعرضون على النار ويعذبهم الله سبحانه وتعالى فيها ويقول لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30].
فتأمل منظر هؤلاء عندما يعرضون على النار، فلو أن إنساناً أوقد له نار وقيل له سنقذفك فيها، ثم يدفع إلى النار وهو ينظر إليها ويرى العذاب أمامه وسيدخل فيه، فهذا مثل هيئتهم التي يصورها القرآن العظيم.
وقوله تعالى: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: في غاية الذل وهم يساقون إلى نار جهنم، فلا ينفعهم الخشوع الآن فقد كانوا في الدنيا مستكبرين، واستعلوا بأنفسهم على خلق الله، وأفسدوا في الأرض وابتغوا فيها الفساد، فلا ينفعهم في هذا اليوم الخشوع.
وقوله تعالى: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) انظر إلى منظر هؤلاء وهم ينظرون من طرف خفي، تأمل إنساناً مصبوراً موثوقاً مكتفاً يسوقونه للإعدام، والسياف آخذ بالسيف وسيضربه على رقبته، فهو ينظر إلى هذا السيف من طرف خفي، لا يقدر أن يفتح عينه بكاملها؛ لأنه مرعوب، فهو يسارق النظر إلى السيف متى سينزل عليه؟ وكذلك عندما توضع نار أمام إنسان ويدفع إليها فإنه من شدة الخوف ينظر إليها من طرف خفي، فلا يقدر أن يفتح عينيه لينظر إليها، فكيف به وقد أعماه الله عز وجل، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] وهكذا الكفار قد أعمى الله عز وجل أعينهم فاستشعروا بهذه النار بقلوبهم وبأبدانهم، ومنهم من ينظر إليها ويسارقها ويراها، قد غارت أحداقهم بداخل محاجرها، واختفت من شدة الذل وما يرونه من العذاب أمامهم.(438/4)
الخسران الحقيقي هو يوم القيامة
وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمؤمنون الآن يتكلمون، فقد كانوا في الدنيا مكتوماً على أنفاسهم لا يتكلمون من هؤلاء الفجرة الكفرة المجرمين، فلما أدخل المجرمون النار فرح المؤمنون برحمة رب العالمين عليهم وحمدوه على ذلك، (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ذهب منهم كل شيء كان معهم في الدنيا، فقد كانوا ملوكاً وحكاماً وأمراء وكان معهم في الدنيا أشياء كثيرة، أما في يوم القيامة فلا يبقى معهم شيء من أشياء الدنيا، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:22 - 26].
أي: لا يقدر أن ينصر بعضهم بعضاً، فأين ذو الأكتاف الذي كان يقول: سنقف على باب جهنم؟ قال الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: قد أذلهم الله سبحانه بما استكبروا في الدنيا على خالقهم، دعوا إلى دين الله فأبوا واستكبروا، ورفعوا أصواتهم على خلق الله سبحانه، فالآن يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كانوا يفسقون.
قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) هذا هو الخسران الحقيقي، أما الخسران في الدنيا كخسارة الأموال، أو تعذيب الظلمة لنا ونحو ذلك فهذا ليس خسراناً حقيقي، والخسران الحقيقي هو أن هذا الإنسان لا يملك شيئاً، ويقاد إلى نار جهنم وقد غلت يداه إلى عنقه ولا يقدر على الفكاك، ويرى النار ولا يجرؤ أن يفتح نظره إليها والعياذ بالله، قال الله عز وجل في سورة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43].
والناس في هذا اليوم منهم من أعماه الله فلا يرى شيئاً، ومنهم من يبصر ولكنه قد أغمض عينيه من شدة الرعب والخوف فلا يقدر أن ينظر في هذه النار.
ومعنى قوله تعالى: (مُهْطِعِينَ) أي: مسرعين تدفعهم الملائكة وتسوقهم إلى النار وهم منقادون معهم.
ومعنى قوله تعالى: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) (قنع) من الكلمات التي لها معنيان متضادان، فهي بمعنى: رفع رأسه، وبمعنى: خفض رأسه، والصورتان في بعضهم البعض، فهم قد خفضوا رءوسهم من الذل أو قد رفعوها من الرعب ينظرون أمامهم إلى النار.
ومعنى قوله تعالى: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي: قد أحدقوا النظر إلى النار لا يرون غيرها والعياذ بالله.
أما أفئدتهم فقد ذهبت من صدورهم إلى أعناقهم وحل محلها الهواء من شدة الرعب والخوف في هذا اليوم، قال تعالى: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، لقد كان يشغلهم في الدنيا المال والبنون والزوجة حتى صارت قلوبهم فارغة قد امتلأت بالغم والهم والرعب والخوف والجبن في هذا اليوم العظيم.
أما المؤمنون فقد فرحوا برحمة الله فهم في حبور وسرور وفرح.
والإنسان يجمع الدنيا كلها من أجل أن يخلد فيها، فهو يريد أن يعيش، أما في يوم القيامة فقد فقدَ نفسه التي يحميها ويدافع عنها، فهي تدخل الجحيم والعياذ بالله، فهذا الخسران هو أعظم الخسران عندما خسر نفسه التي كان يفديها بأي شيء في الدنيا.
وكذلك خسر أهله، فقد كان في الدنيا له أولاد ونساء يستمتع بهم وكانوا كفاراً فكلهم يدخلون النار، فكل واحد له عذابه وله سجنه الذي هو فيه وإذا كانوا معه يتبرأ كل منهم من الآخر.
فإذا كان أهله مؤمنين فاستحقوا الجنة كامرأة فرعون فمستحيل أن يراهم بعد ذلك، أو أن ينال منهم شيئاً، فإن كانت زوجته فقد ضاعت منه وورثها غيره من أهل الجنة فصارت له، فقد خسر أهله أعظم الخسران ويقاد إلى النيران، ويقال له: هذا منزلك في الجنة لو أنك آمنت بالله تعالى، فأننت محروم من دخول الجنة.
والكفار لهم منزلة في الجنة وفيها الحور العين، فأورثها الله عز وجل للمؤمنين، فكان على هؤلاء أعظم الخسران والحرمان والندم والشقاء حين ضاعت الجنة وضاع كل هذا الجمال وكل هذا الذي فيها وأخذها المؤمنون.
هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليهم في الدنيا عبيداً وخدماً فيقول أهل النار: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الأَشْرَارِ} [ص:62] كانوا معنا في الدنيا، وكنا نظنهم من الأشرار الحثالة الذين ما لهم قيمة أين هؤلاء؟ يبحثون عنهم في النار ولم يجدوهم.
ثم عرفوا أن هؤلاء دخلوا الجنة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] فاز المؤمنون فأخذوا الجنة العظيمة، وخسر الكفار والفجار فدخلوا النار.
قال سبحانه: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الخسران الحقيقي (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).
روى ابن ماجه في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني عن أبي هريرة قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار)، أي: كل إنسان له مكانان مكان في الجنة، ومكان في النار، فإن عمل صالحاً دخل الجنة، وإن عمل غير صالح دخل النار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله)، أي: أخذوا نصيب الكفار من الجنة، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].
والنار يملؤها الله عز وجل بالكفار فلا تمتلئ، وتظل هكذا وهي تقول: هل من مزيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط)، أي: يزجرها الله عز وجل فتقول: اكتفيت فتسكت.
والجنة واسعة عظيمة لا تمتلئ بأهلها وكلما أعطاها الله عز وجل من أهلها فهي لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر، أي: يخلق لها خلقاً لم يذنبوا قط ويجعلهم في الجنة ينعمون فيها.
يقول ربنا سبحانه: (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) (إن) للتحقيق والتأكيد، فالظالمون يقيناً في عذاب مقيم خالد لا يفنى ولا يزول عنهم، ويظلون في نار جهنم، كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] أي: يبدل الله عز وجل جلودهم، وهذا أصعب ما يكون من العذاب، وكذلك إذا اخترقت أمعاؤه ومعدته كأن يحصل للمعدة قرحة فيتألم الإنسان ألماً شديداً جداً، ولو أن القرحة فتحت المعدة وخرقتها لكان الألم مثل الموت تماماً.
فهؤلاء تتمزق أمعاؤهم في النار، قال تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:20 - 22].
فعذابهم في النار كلما نضجت جلودهم وتفحمت وظنوا أنهم سيموتون ويرتاحون من العذاب، فإذا بجلودهم تتبدل مرة ثانية وثالثة وهكذا أبداً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ويقال لهم: ذوقوا عذاب السعير والعياذ بالله وهم في عذاب مقيم دائم لا ينقطع.(438/5)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله)
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:46] أي: من الذي يتولى أمرهم ويدافع عنهم؟ فإن ذهبوا إلى الشرق أو إلى الغرب من أجل أن ينصروا من دون الله، فليس لهم أحد يجيرهم من عذاب الله سبحانه.
قال تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)، وسبق قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى:44] وختم بقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس له طريق للهداية يصل بها إليه، لأن الله قد أعمى بصره وبصيرته فلا ينتفع بما جاءه من عند الله سبحانه.(438/6)
تفسير قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)
ينادي ربنا سبحانه خلقه فيقول: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47].
قوله: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي: الحقوا أنفسكم فقد أعذر الله وأنذر خلقه وبصرهم وبين لهم، فلا عذر لأحد بعد البيان؛ لأنهم يؤمنون أنه الرب، وكان الكفار إذا سئلوا: من ربكم وخالقكم؟ قالوا: الله، ولكنهم لا يؤمنون.
فيقول لهم: استجيبوا للرب الخالق سبحانه الذي يدعوكم إلى توحيده وعدم الشرك به: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) ونكر اليوم تعظيماً له، أي: يوم فضيع وعظيم وهو يوم القيامة لا مرد له من الله، وقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: مستحيل أن يُرّد هذا اليوم، فلا يقدر أحد أن يؤخره يوماً ولا ساعة.
وقرأ حمزة هذه الآية بمد (لا) النافية متوسطاً فيها للمبالغة في النفي، وليس هنا همزة حتى تمد، وإنما هذا النوع من المد يسمى للمبالغة في النفي، أي: أنه مستحيل أن يرد هذا اليوم، كما قرأ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] بمد مبالغة في النفي، أي: أنه مستحيل أن يشك في هذا أنه من عند الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: إلى أين تلجئون؟ قال تعالى: {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] أي: ما لكم حصن تتحصنون فيه من عذابه، والإنسان يلجأ إلى الشيء الذي يجيره ويعيذه ويعصمه، وهذا الملجأ يوم القيامة لا يكون إلا إلى الله.
ومعنى قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: لا تقدرون على الإنكار؛ لأنه تشهد عليكم جلودكم وأيديكم وأرجلكم وأنفسكم وأبدانكم فلا تقدرون على الإنكار أمام الله سبحانه، ولا تجدون من ينكر على الله ما يصنع بكم، أما في الدنيا فقد ينكر على فلان ما هو فيه من شر، كأن يضرب خادمه، فمن هذا الذي ينكر على الله أن يعذب هؤلاء في النار؟ لا أحد، فهو القائل جل شأنه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] فلا يستطيع أحد أن يجيب، فيجيب نفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].(438/7)
تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً)
قال الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:48].
قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي: أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم ظهورهم، ورفضوا أن يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه، (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً لعدم إيمان هؤلاء الكفار، وكان كلما دعاهم إلى الإسلام ازدادوا عتواً واستكباراً، ونفروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتولوا عنه وأعطوه أدبارهم، فكان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: إنك ستهلك نفسك من أجل أن يؤمنوا، فلست عليهم بوكيل، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80].
والحفيظ هو الذي يحفظ عليهم أعمالهم ويحاسبهم بها، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي سوف يحاسبهم وإنما هو الله، فهو الحفيظ الذي يحيطهم فيحفظهم ويمنعهم من الوقوع في الكفر، ولا يقدر على ذلك عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ).
فوظيفته أن يبلغ رسالة الله سبحانه فقط ولا يكرههم على هذا الدين، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256].
وقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (إن) بمعنى ما، فهنا أسلوب قصر، أي: ما عليك إلا البلاغ، فليس النبي مسيطراً على الخلق، فلا يملك قلوبهم فيحولها من شيء إلى شيء آخر، إنما الله عز وجل هو القادر على كل شيء.
وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (إنا) هنا أتى بنون العظمة فهو الخالق القادر سبحانه وعادة الإنسان كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:6 - 8].
ومعنى كنود أي: جحود.
وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ) أي: جنس الإنسان، وكل إنسان فيه من ذلك بحسبه، فالمؤمن يعصمه الله فإذا وقع في المعاصي كان له نصيب من ذلك فتأتيه رحمة الله فلا يغتر الإنسان بها.
أما إذا وقعت عليه المصيبة فإنه يقع في اليأس، قال تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) أي: إذا أتاه مال أو صحة أو عافية أو منصب أو زوجة حسناء أو أولاد أو بيت حسن فإنه يفرح بهذا الشيء.
قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) فالسيئة جاءت بما كسبت أيديهم فاستحقوا ذلك بذنوبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى الشوكة يشاكها يكتب له بها أجر)، أي: يكون ذلك بما كسبت يداه فيكون له أجر من الله عز وجل على ذلك.
قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: جحود، يقول: لماذا يا رب في كل وقت تأتي لي بمصيبة؟ ونسي أن الله أعطاه الزوجة الحسناء والأولاد والبيت الواسع والوظيفة المناسبة، فينسى كل هذا بمجرد أن جاءت له مصيبة من المصائب، فهذا ينكر النعم فيجحدها.
قال تعالى: (فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: يكفر بربه ويكفر بنعم ربه سبحانه فيسترها ولا يذكرها، ولا يحمد ربه سبحانه وتعالى عليها، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189] فإن الله سبحانه وتعالى يملك السماوات والأرض ويملك كل شيء سبحانه وتعالى.
وعنده ملائكته يحمدونه ويشكرونه سبحانه وهو الغني الملك، وهو قادر على أن يعطي وأن يمنع، فإذا شكرتم فلأنفسكم، وإذا كفرتم فإنما تضرون أنفسكم.
فشكر الله على نعمه سبب لدوامها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] والكفر بنعم الله سبحانه وجحدها كمن يقول: الله ما أعطاني شيئاً! فهذا سبب لمنع رزقه وفضله سبحانه.(438/8)
تفسير سورة الشورى [49 - 51]
في هذه المادة تجد الكلام عن ربوبية الله تعالى وتصرفه في هذه المخلوقات كيف يشاء، فيرزق من يشاء، ويهب الأولاد لمن يشاء، ويمنع من يشاء، فهو أعلم بما يصلح عباده، وتجد أيضاً الكلام على صور كلام الله لأنبيائه ورسله، فمنهم من كلمهم من وراء حجاب، ومنهم من يوحي إليه وحياً، ومنهم من يرسل إليه رسولاً فيوحي إليه بإذنه ما يشاء.(439/1)
تفسير قوله تعالى: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:49 - 51].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى بعظيم ملكه سبحانه وقوته وقدرته، قال سبحانه وتعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: يملك كل شيء؛ فالسموات خلقها الله سبحانه والأرضون من خلقه، فهو الذي خلقها وهو الذي دبر أمرها، وهو الذي أوجد الخلق فيها، فالله يملك كل شيء.
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) فهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، وقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فلله عز وجل الخلق، وهو خالق كل شيء، ولله عز وجل الأمر، يأمر بما يشاء في خلقه.
وقوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) فخلقه فيهم الصغير والكبير، وفيهم الذكور والإناث، وفيهم الجميل والدميم، فهم على ما شاء الله عز وجل، فيرينا خلقه ويرينا آياته، حتى نتعظ، وحتى نعتبر، وحتى نعلم أن الخالق هو الله وحده لا شريك له، الذي يستحق أن يعبد وحده، فكما أن له الخلق فكذلك له الأمر، وهو الذي يشرع، ولذلك قال: ((أَلا لَهُ)) وحده سبحانه، ((الْخَلْقُ)) فإذا سئل الإنسان: من الذي يخلق؟ فيقول: الله، من الذي يرزق؟ يقول: الله، من الذي يُعبد؟ يقول: الله، فالله هو الذي له الخلق وله الأمر على خلقه، قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، فأمرهم بعبادته، فكما أن له الخلق وهو المتفرد به فكذلك له الأمر؛ يتفرد بالتشريع لخلقه، ويتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له.
قال تعالى هنا: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ثم أرانا شيئاً من ذلك حتى نتعظ ونعتبر فقال: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
فالله خالق كل شيء سبحانه، مدبر كل أمر سبحانه، يخلق ما ينتظم الكون به، وما يدبر به أمر كونه سبحانه وتعالى، والله أعلم ما الذي يستحق خلقه، وما الذي ينفع خلقه، والإنسان ينظر من منظور ضعيف ضيق فيما يراه أمامه من الكون، فيحدد لنفسه أشياء، فيقول: أنا أريد ذكوراً، أو يقول: أنا أريد إناثاً، أو لا أريد شيئاً، أو أريد أن أؤخر الإنجاب، فالإنسان يريد بحسب فهمه القاصر، ولكن الله عز وجل خالق الكون ومدبر الكون يخلق ما يشاء، فيجعل ما يخلقه لمصالح العباد؛ لمصالحهم في الدنيا ومصالحهم في الآخرة، لمصالح دنياهم ومصالح دينهم حتى يتقوا ربهم سبحانه ويعبدوه، وحتى يعلموا أنه القادر على كل شيء.
قوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) أي: يجعل ذرية من يشاء من خلقه الإناث فقط، ومن أنبياء الله عز وجل من كانوا كذلك، فهذا لوط النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كانت ذريته كلها إناثاً، ولم يكن له ذكور.
(وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) ويجعل ذرية من يشاء من عباده الذكور فقط، وقد فعل ذلك في بعض أنبيائه، فجعل ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلهم ذكوراً ولا يوجد إناث لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(439/2)
تفسير قوله تعالى: (أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً)
ثم قال تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:50].
قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً) فيجعل لعبده الإناث ويجعل له الذكور، كما كان في ذرية إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه أنجب الذكور وأنجب الإناث، فكان لإسماعيل من الذكور وكان له من الإناث.
(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) سبحانه وتعالى، فجعل في الخلق وفي الأنبياء من هو كذلك، فهذا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام لم يتزوج ولم يكن له ولد، ويحيى لم يكن له ولد.
(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) في أصل خلقته لا يكون له الولد، فالله عز وجل كما جعل في أنبيائه كذلك جعله في خلقه؛ ليرينا آيات قدرته، فالله القادر سبحانه، والله هو الذي يهب، وكل ما في الخلق محض هبة من الله وعطية منه؛ إن أعطاك الولد أو البنت فذلك هبة منه سبحانه، وإن منعك ذلك فالله يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا)، (يزوج) هنا بمعنى: يقرن، أي: أنه يرزق من يشاء من عباده ذكوراً فقط، ويرزق من يشاء من عباده إناثاً فقط، أو يقرن الاثنين لمن يشاء من عباده، فينجب الذكور والإناث، كما كان لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان له من الأبناء الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم، وعبد الله كان يلقب بـ الطيب والطاهر، وكلهم ماتوا صغاراً.
وله صلوات الله وسلامه عليه من الإناث: فاطمة وبقيت بعده ستة أشهر، وباقي بنات النبي صلى الله عليه وسلم متن في حياته عليه الصلاة والسلام، وهن: رقية وزينب وأم كلثوم.
فوهب للنبي صلى الله عليه وسلم الذكور والإناث، وأخبره أنه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، هذه الآية يخبر تعالى فيها أنه لن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر يعيش حتى يصير رجلاً فيكون من ضمن الأقوام، فما كان له ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يموت أبناؤه في حياته عليه الصلاة والسلام، فمات جميع الذكور، وماتت بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا فاطمة ماتت بعده صلوات الله وسلامه عليه بستة أشهر.
فالله سبحانه وتعالى أرانا هذه الآيات في أنبيائه حتى نقتدي بهم، فهذا رزقه الله الذكور، وهذا رزقه الله الإناث، وهذا لم يرزقه الله عز وجل ذرية أصلاً، وجعله عقيماً، وهذا ليس عيباً من العيوب، فإن هذا قضاء الله وقدره، وهذه قسمة الله في خلقه، فإنه سبحانه يهب لمن يشاء ما يشاء، وهو أعلم، كما قال عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فقوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي: يقرن بين الذكور والإناث، فيكون للرجل البنات والذكور.
وبدأ سبحانه بقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فقدم ذكر الإناث، ولذلك كان بعض السلف يحب أن يرزقه الله عز وجل أول ما يرزقه الأنثى، وأول ما يكون له ذلك يفرح، ويقول: هذه بركة؛ لأن الله عز وجل قدم ذكر الإناث فقال: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فبدأ بهن، وقال: (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ).
فالله عز وجل يخلق وأنت لا تقدر أن تخلق شيئاًَ، فإذا أعطاك الله عز وجل البنت فلا تعترض، ولا تقل: لقد كنت أريد ولداً، وإذا أعطاك الولد فلا تعترض وتقول: كنت أريد بنتاً، فليس الأمر بمزاجك، فإن هذا خلق الله عز وجل، يخلق سبحانه وتعالى ما يشاء، ويحكم ما يريد.(439/3)
حكمة الله تعالى في اختلاف ما يهب للناس من أولاد وبنين
وأما لماذا جعل لهذا الذكور ولهذا الإناث؟ ولماذا أعطى لهذا عشرة وأعطى لهذا واحداً؟ ولماذا أعطى هذا كذا؟ فالله يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك لحكمة لا نعلمها نحن، فعنده الحكمة والحجة البالغة سبحانه، ختم ليقطع عن الإنسان الجدل والمماراة في ذلك، فهو العليم سبحانه، وهو أعلم حيث يجعل ما يشاء سبحانه، فهو عليم وهو قدير على كل شيء.
وقد ذكر الإناث والذكور ليرينا كمال خلقته سبحانه، وإن كان أيضاً يخلق خلقاً ناقصاً ليرينا الآيات وأنه على كل شيء قدير، فوهب الذكور لمن شاء فنزل ذكراً، ووهب الإناث لمن يشاء فنزلن إناثاً، ومنع من يشاء رحمة منه سبحانه وعلماً منه لمن يستحق ذلك ومن يستحق هذا، ومن يضره هذا الذي يأتيه.
فالله عز وجل قد يجعل الإنسان عقيماً، ولا يتفكر الإنسان لعل الله إذا أعطاه الولد فقد يكون عاقاً، ويقول: يا ليتني لم أخلف، وهناك أناس على هذه الحالة، فتجد أحدهم يقول لك: ابني يعمل المنكرات وقد أتعبني، ودائماً أذهب وراءه إلى مركز الشرطة، يا ليتني لم أخلف! فالله سبحانه أعلم بالحكم في ذلك، وقد ذكر الله لنا في القرآن في سورة الكهف قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع الخضر عليه السلام، وكيف أنه أراه الله عز وجل الآيات فلم يصبر على ما يراه، ومن ضمن ما أراه أنهما أتيا على غلام، فإذا بالخضر يقتل هذا الغلام، فأنكر موسى هذا، وقد أخذ عليه الخضر العهد ألا يعترض على شيء، وألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، فلم يطق موسى ذلك وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]، فهي نفس لم تعمل فيك شيئاً، ولا وقعت في شيء، ومازالت صغيرة في السن، فلمَ قتلته؟ {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] وهذا نبي وهذا نبي، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، ومع ذلك أراه الله عز وجل أنه لا يعرف كل شيء، فهذا نبي من الأنبياء وهو يعرف أكثر منك، فقد أعلمه الله أشياء من المغيبات ففعل ذلك.
وفي آخر القصة قال له: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، فانظر رحمة الله سبحانه على الأب والأم، فرحمة منه أن هذا الغلام يموت وهو صغير، وإذا عاش فإنه سيخرجكما عما أنتم عليه من إيمان، فخشينا أن يرهقهما وأن يتعبهما وأن يؤذيهما بكفره فيضطران لمتابعته على الكفر، فيكفران هما أيضاً مع ابنهما: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]، أراد الله سبحانه أن يبدل الأم والأب من هو أفضل من ذلك، وأقرب رحماً.
إذاً: فالله عز وجل يصنع بعبده الشيء الذي قد لا يعجب العبد، فيقول: لماذا الله حرمني؟ ولا يعلم أن الله هو العليم القدير سبحانه، فقد منعك بقدرته سبحانه وهو القادر على أن يعطيك، ولكن لا يصلح لك ذلك، فالله أعلم بالذي يصلح لك حتى تستمر على الإيمان، وحتى تستمر على الطاعة، وحتى تستمر إلى أن تدخل الجنة، فقد لا يصلح لك أن يكون عندك ولد، ولذلك منعك لحكمة عنده سبحانه.
قال تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي: عليم بعباده، وبمن يستحق ذلك ومن ينفعه ذلك، ومن لا يستحق ومن يؤذيه ويضره ذلك، (قَدِيرٌ) فأرانا آياته، فهذا إنسان ينزل وهو كامل، وهذا آخر ينزل سقطاً، فتجد المرأة تسقط في الشهر الثالث أو في الرابع أو في الخامس، فينزل غير مكتمل، فترى هذا الخلق الغير مكتمل الذي نزل الآن من بطن أمه على هيئة من هيئات النقصان، تجده لا يوجد له يدان، فخلقه الله عز وجل آية للعباد، لنحمد الله عز وجل على ما أعطانا، ولو شاء الله لجعلنا مثل هذا الإنسان، فالله عز وجل على كل شيء قدير.
وتلد المرأة الإنسان فينزل أعمى أكمه، فالله عز وجل يرينا هذا الناقص حتى تحمد الله على ما أعطاك سبحانه.
وجعل ذكوراً وجعل إناثاً، ونرى في خلق الله الخناثى، والخنثى: هو الذي له فرج وله قبل، فله ما للرجل وله ما للمرأة، فيجعل الله عز وجل ما يشاء ليرينا آياته، ويحصل الإشكال عند الناس: فهل الخنثى هذا سنعامله معاملة الذكر أو معاملة الأنثى؟ وإذا صار وارثاً فكيف سنورثه؟ فالله سبحانه تبارك وتعالى يرينا بعض الأشياء لنعرف قصور أذهاننا، وضعف عقولنا، فيجلس الإنسان يفكر ويحتار، وقد يلهمه الله عز وجل الفكرة على يد إنسان آخر.
وقد كان أهل الجاهلية لا يعرفون مسألة الخنثى وأنه يولد مولود خنثى، إلى أن جاءت قضية خنثى إلى فارض العرب عامر بن الظرب، وقد كان سيد القوم، وكان من كبرائهم ومن شيوخهم الذين يرجعون إليهم في الأحكام فيقضي بينهم، ويرجعون إليه في الفرائض قبل الإسلام، وذات مرة ولد لأناس مولود خنثى، فلما جاء وقت الميراث احتاروا كيف يورثون هذا الخنثى؟ فذهبوا إلى عامر بن الظرب، وأخبروه أن عندهم ولداً خنثى، ولا يدرون كيف يورثونه، وقد كان من عادة العرب أنهم يورثون الذكور ولا يورثون الإناث، فاستشكل عليهم: هل نعتبره ذكراً ونعطيه أم نعتبره أنثى ولا نعطيه شيئاً؟ فسألوه، فاحتار الرجل وجلس يفكر، وقد كان سيد القوم، وكان من أكرم القوم، فمن أراد طعاماً أو شراباً فإنه يذهب إلى عامر بن الظرب، وكلمة (الظرب) معناها الجبل، أي: عامر بن الجبل.
فاحتار عامر: كيف سيورث هذا؟ فذهب إلى بيته ونام، فجعل يتقلب على سريره، فجاءته جاريته وسألته، وقالت: ما لك مضطرباً من أول الليل؟ فقال: لقد سألوني عن شيء لعلي أجد عندك مخرجاً، فقالت: وما ذاك؟ قال: هناك خنثى لا ندري كيف نورثها، قالت: هذا الذي أرقك؟! قال: نعم، قالت: ورثه من حيث يبول، ففطن الرجل وأصبح وقضى بينهم، فقال: انظروا من أين يبول من فرج الأنثى أو من ذكر الرجل، فمن حيث بال فإنه يعتبر به، فصار بعد ذلك حكماً، وجاء الإسلام وأقر ذلك، واستقر الأمر على هذا الذي قالته هذه المرأة.
فالغرض: أن الله عز وجل يرينا آياته سبحانه، يرينا أنه العليم، وأن فوق كل ذي علم عليم: فلا تغتر بعلمك، فقد يظن الإنسان أنه عالم فتأتيه مسألة بسيطة جداً فلا يستطيع أن يجيب عنها ويحتار فيها، ويمكن أن يأتي شخص صغير فيجيب عنها، والكبير لعله لا يدري، كما حدث في هذه القصة التي ذكرنا.(439/4)
حكمة الله تعالى في جعل بعض الناس عقيماً
وقوله: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا)، العقيم: هو الذي لا نسل له، أي: مقطوع الذرية، لا ذرية له لا ذكوراً ولا إناثاً، وكلمة (عقيم) تطلق على الذي لا ينتج، أو الشيء الذي لا نتاج من ورائه، ويوصف بالعقم أشياء، فيقال: هذا رجل عقيم، وامرأة عقيمة، أو عقيم أيضاً، ومنه يقال: الملك عقيم، وكأن الملك يحرض الرجل على ابنه والابن على أبيه، وإذا زوج الملك ابنه فسينافسه ويقتله، فكان الملك عقيماً، يجعل الملك يقتل ابنه، ويجعل الابن يتخلص من أبيه لينفرد بالملك، فالملك يوصف بأنه عقيم؛ لأنه يجعل الأب لا يهتم بأمر ابنه، بل إذا كان ابنه سينافسه في الملك فإنه يقضي على ابنه؛ ليتفرد له ملكه في المملكة التي هو فيها.
وقالوا: بالملك تنقطع الأرحام، ويحدث فيها العقوق؛ خوفاً على الملك، وكم رأينا في التاريخ من أناس قتل بعضهم بعضاً على الملك، فترى الرجل يقتل أخاه؛ لأنه سيرث الملك عن أبيه؛ ليكون الملك له، فالله عز وجل جعل هذه الدنيا عبرة وعظة للخلق، فكان الملك عقيماً.
كذلك الريح وصفها الله عز وجل بأنها عقيم، أي: أنها ريح لا تنتج، وليس من ورائها خير، بل من ورائها الشر، فلا تلقح السحاب ولا ينزل على إثرها المطر، وإنما تكون مصائب على الخلق، فهذه هي الريح العقيم.
وكذلك يوم القيامة يوصف بأنه يوم عقيم؛ لأن يوم القيامة لا يوم بعده، ولا تنتظر بعده حياة دنيوية، فهذا اليوم ليس بعده أيام أخر، وإنما هو يوم واحد فقط، يقضى فيه بين الخلق، ثم بعد ذلك إما الجنة وإما النار، ولا يوجد يوم ثانٍ للحساب غير هذا اليوم الواحد، ولذلك يوصف بأنه يوم عقيم؛ لأنه لا يوم بعده للعمل ولا للجزاء ولا للحساب.
إذاً: يجعل الله عز وجل من يشاء من خلقه له الذكور، ومن يشاء له الإناث.(439/5)
كيف يذكر الولد وكيف يؤنث
جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تغتسل المرأة إذا احتلمت ورأت الماء؟ قال: نعم، فقالت عائشة رضي الله عنه: تربت يداك وأُلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك؟ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه)، فالشبه يأتي من ماء الرجل ومن ماء المرأة.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن يهوداً سألوه عن ذلك: كيف يذكر الإنسان؟ أي: كيف يصير ذكراً؟ والأنثى كيف تصير أنثى؟ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما قال: (أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فقالوا: يا أبا القاسم! إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك)، هؤلاء اليهود يقولون: نسألك عن خمسة أشياء إذا أجبت عنها جواباً صحيحاً فأنت نبي، ونتبعك فيما تأتينا به، قال: (فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه -يعني من العهود والمواثيق- أنهم يفعلون ما قالوا، فقال اليهود: الله على ما نقول وكيل، فقال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي) وهؤلاء من أهل الكتاب، جاءوا وقد عرفوا من التوراة أجوبة هذه الأسئلة، فتجدهم يقولون: هذا رجل لم يقرأ توراة ولا إنجيلاً، ولم يطلع على كتب أهل الكتاب، فإن أجاب إجابة صحيحة عن هذه الأشياء فإنه نبي، وإذا لم يجب جواباً صحيحاً فليس نبياً، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ أي: كيف تكون علامة النبي؟ فقال: (تنام عيناه ولا ينام قلبه)، أي: أن النبي إذا نام يكون منظره أنه نائم، ويغلق عينيه، أما قلبه فهو يقض متعلق بالملكوت، متعلق بالرب سبحانه وتعالى، فقالوا: (أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر)، يعني: الجنين في بطن أمه كيف يصير أنثى وكيف يصير ذكراً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يلتقي الماءان: ماء الرجل وماء المرأة، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر) علا بمعنى: غلب، أي: إذا كان ماء الرجل أغلب لماء المرأة فإنه يكون ذكراً بإذن الله، قال: (وإذا علا ماء المرأة آنث، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه)، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو أبو يوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قالوا: ما هو الذي حرمه يعقوب على نفسه؟ قال: (كان يشتكي عرق النسا، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان الإبل ولحومها فلذلك حرمها)، أي: أنه وجد أن الشيء الذي يلائم عرق النساء ويزيد وجعه أن يشرب ألبان الإبل، فامتنع منها، ولم يحرمها على الناس، وإنما حرمها على نفسه للعلة التي هو فيها، قال الله عز وجل: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، أي: قل لليهود: هذه الأشياء لم نحرمها نحن عليكم، وإنما حرمها إسرائيل على نفسه، وليس عليكم، فبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب حرم على نفسه ألبان الإبل لأنه كان يشتكي من عرق النسا، وهذا عرق يكون في فخذ الإنسان، يضرب الإنسان في فخذه إلى كعب رجله، وهذا العصب من الأعصاب يكون ألمه شديداً، فوجد أنه عندما يشرب ألبان الإبل يزيد عليه الألم، فامتنع من ألبان الإبل وحرمها على نفسه، فحرم اليهود على أنفسهم هذه الألبان، ولم يحرمها الله عز وجل عليهم.
والغرض هنا في هذا الحديث هو: أنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك، قالوا: صدقت، أي: كل الذي قلته صدق، (قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب، بيده مخراق من نار، يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت)، أي: الذي تقوله موافق للذي عندنا في التوراة، ومع ذلك لا يتبعونه، بل يلجئون إلى الحيل للهرب وعدم الدخول في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي شيء واحد فقط، ما هو هذا الشيء؟ فقالوا: (هو الذي يبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر)، ومعلوم أن الذي ينزل على الأنبياء هو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (فأخبرنا من صاحبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل عليه السلام، قالوا: جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا)، فهم يعادون ملكاً من ملائكة الله سبحانه، سبحان الله! أي عقول لهؤلاء القوم حين يعادون ملكاً قد عرفوا أنه مخلوق من نور، وأنهم -أي الملائكة- لا يعصون الله، وحقيقة الأمر أنهم يعادون الله سبحانه، فجبريل لا ينزل بالعذاب من عند نفسه، وإنما يأتي بالعذاب من عند رب العالمين؛ لأنكم تستحقون ذلك، قالوا: (جبريل ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة والنبات والقطر لاتبعناك).
وهذا من أعجب ما يكون! حتى نعرف كيف يجادل اليهود، وكيف يناقشون أي قضية من القضايا! فلم ينظروا إلى الرسالة التي جاءت وما فيها من رحمة للعالمين، ولا إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم من صدق وصدقوه هم، ولكن في النهاية قالوا له: لا؛ لأن جبريل هو الذي يأتيك، ولو كان آخر غير جبريل لاتبعناك، فأنزل الله سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] فهذا عداء لله تعالى؛ لأنه هو الله الذي أرسل جبريل، فهؤلاء يعادون الله سبحانه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فهؤلاء باءوا بعداوة الله، وباءوا بغضب من الله سبحانه، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]، فلعنوا بسبب معصيتهم لله سبحانه، وبسبب اعتدائهم، وبسبب إفكهم وكذبهم وافترائهم على الله وعلى ملائكة الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والغرض من هذا الحديث أن الله يذكر أنه: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكون الأنثى وكيف يكون الذكر، وهذا بيد الله سبحانه، فيخلق ما يشاء ويفعل ما يريد سبحانه، ويجعل من يشاء والداً، ويجعل من يشاء عقيماً، فهو العليم الحكيم سبحانه.(439/6)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب)
قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51].
لقد ذهب اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ألا تكلم الله وننظر إليك إن كنت نبياً، فقد كان سيدنا موسى يكلم الله، وأنت أيضاً كلم الله وأرنا كيف تكلمه من أجل أن نصدق أنك نبي.
واليهود قوم أصحاب حيل وأكاذيب وافتراءات، فقد كانوا يطلبون من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أموراً من المحالات، وقد عرفوا ربهم سبحانه، ومع ذلك يقولون: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138]، وكأنهم يقولون: دعنا من هذا الذي في السماء، واعمل لنا إلهاً هنا أمامنا حتى نراه، فقال لهم موسى: {إِِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ} [الأعراف:138 - 139] الذين يعبدون الأصنام {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139].
قال تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} [الأعراف:140]، فسكتوا عن هذا الشيء إلى أن مشى موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه، فلم يقولوا: نأتي معك لنسمع كلام رب العالمين سبحانه، وإنما جاءوا يطلبون ذلك من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولما ذهب موسى للقاء ربه سبحانه صنع لهم السامري عجلاً من ذهب، فعبدوه من دون الله وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وموسى قد نسي، فقد ذهب ليرى الله والله موجود هنا، لا حول ولا قوة إلا بالله! فهؤلاء اليهود المجرمون -لعنة الله عليهم- يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن موسى قد كلم ربه، فكلم أنت أيضاً ربك حتى نرى وحتى نصدق ونؤمن بما جئت به، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51].(439/7)
صور تكليم الله لأنبيائه
فما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بهذه الصور الثلاث: الصورة الأولى: قال تعالى: (إِلَّا وَحْيًا)، فيوحي إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، والوحي: هو الصوت الخفي الذي يأتيه فيدخل في قلبه، فيعقل ويفهم، ولا يعتريه شك في ذلك، ثم يتكلم بذلك، ولذلك جاء في الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي -والروع هو القلب والنفس- أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهذه طريقة من طرق الوحي.
ومن هذه الصورة ما يراه في المنام صلوات الله وسلامه عليه، ورؤيا الأنبياء كلها وحي.
الصورة الثانية: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: أن يتكلم الله عز وجل مع نبي من أنبيائه من رواء حجاب، كما كلم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، أي: أن موسى بعدما سمع كلام الله أراد أن ينظر إليه {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143].
فطلب موسى طلباً ليس له، وليس لأحد أن يرى الله في هذه الدنيا، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143]، خر الجبل مندكاً، وخرّ موسى أيضاً صعقاً، فلما أفاق قال: آمنت أنك لا ترى في هذه الدنيا، إذاً فالله سبحانه يخبر هنا أنه لا يرى في هذه الدنيا.
ولما صعد النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج وصل إلى سدرة المنتهى، فإذا بجبريل يقف هناك كأنه حلس بالي، ويصعد النبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك، ومع ذلك لم يرَ ربه سبحانه، ورأى نوراً، وكلمه ربه ففرض عليه الخمس الصلوات، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) فحجابه النور سبحانه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه من نوره.
فالغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نوراً، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، إذاً فقد رآه بقلبه صلوات الله وسلامه عليه، وأما بعين بصره فلم ير ربه عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ربه، فكلم الله موسى على الأرض، وكلم محمداً فوق السموات صلوات الله وسلامه عليه، فشرفه وكرمه عليه الصلاة والسلام.
وأكرم المؤمنين بأن فرض عليهم الصلوات الخمس في السموات، فقد عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ثم نزل بهذه الفريضة العظيمة التي هي نور وهي الصلاة.
فهنا وحي من الله أن يكلم عبداً من عباده، فكلم موسى عليه الصلاة والسلام، وكلم محمداً صلوات الله وسلامه عليه في السماء وليس في الأرض.
الصورة الثالثة: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا)، فيأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الأنبياء قبله، ولم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على هيئته الحقيقية إلا مرتين اثنتين فقط، فهو ملك عظيم له ستمائة جناح، وقد سد الأفق عليه السلام، قال الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، هذا وهو في السماء عليه السلام: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أي: حين نظر إلى السماء وحين رأى جبريل في ليلة المعراج على هيئته الحقيقية، فلم يزغ بصره صلوات الله وسلامه عليه في كل ما رآه، ومن ضمن ما رآه أنه رأى جبريل عليه السلام.
فالغرض أن الله يوحي لأنبيائه بصورة من هذه الصور: إما وحي ينفث في روعه، وإما أن الله عز وجل يكلمه من وراء حجاب، وإما أن يرسل جبريل أو من يشاء الله عز وجل فيكلم هذا النبي بوحي فيه، فيوحي بإذنه سبحانه ما يشاء من أحكام للعباد.
وقوله: (أو يرسلَ رسولاً) هذه قراءة الجمهور؛ لأنه قال قبلها: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا)، أي: إلا أن يوحي إليه، فصار (أو يرسل) معطوفاً على (أن يكلمه)، وهو منصوب، أو أنها مستأنفة، فكأنها جملة مبتدأة، فقراءة نافع وابن ذكوان: (أَوْ يُرْسِلُ)، أي: هو سبحانه يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إلى هذا النبي ليبلغ خلق الله بذلك.
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فله علو الشأن، وعلو الذات، وعلو القدر، فشأنه عظيم، وقدرته عظيمة سبحانه، وهو فوق سماواته العلي العظيم.
وهو حكيم فيما يصنع، فأفعاله كلها حكمة، ويحكم بما يريد.
نسأل الله من فضله ورحمته إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(439/8)
تفسير سورة الشورى [51 - 52]
لقد أكرم الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأدبه فأحسن تأديبه تأهيلاً له لحمل الرسالة والتبليغ عن ربه سبحانه، فقد حفظه الله سبحانه في الجاهلية، وعصمه من الاحتكاك برذائلها وفحش أخلاقها، وعلمه ما لم يكن يعلم، فنبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، وعلامات نبوته معروفة قبل مبعثه وبعد مبعثه صلى الله عليه وسلم.(440/1)
وحي الله تعالى وتكليمه لأنبيائه ورسله
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
هاتان الآيتان الأخيرتان من هذه السورة الكريمة سورة الشورى، يختمها الله عز وجل بذكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووحي الله عز وجل إليه، تفضلاً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين أن أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي هو نور، والذي هو روح، والذي يحيي به الله عز وجل قلوب عباده، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.(440/2)
كيفية تكليم الله سبحانه لأنبيائه ورسله
قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] هذه ثلاث صور يذكرها الله عز وجل في وحي الله إلى من يشاء من خلقه: الصورة الأولى: الوحي، وكلمة (وحي) فيها معنى الكلام الخفي وليس الظاهر الذي يطلع عليه الخلق، ولكنه وحي في خفاء عن الخلق، يوحي الله عز وجل إلى واحد من خلقه وهو النبي أو الرسول عليهما الصلاة والسلام.
وهذا الوحي إلهام إشارة، وهو الذي يقذفه الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ينزل عليه مع روح القدس جبريل عليه السلام، من وحي ومن أخبار، ومن رسالة، ومن شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى، إذاً: الوحي: ما يلقيه الله إلى نبي من أنبيائه.
فما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، عن طريق الوحي، أي: يقذف في قلبه، وفي روعه، وفي نفسه، فيقذف ما يريده من حق سبحانه وتعالى.
أو يريه رؤيا منامية، فيكون فيها معنى هذا الوحي.
إذاً: الوحي: ما يلقيه الله في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يراه في رؤيا منامية، أو إلهام من الله عز وجل لنبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
الصورة الثانية: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) كما كلم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من وراء حجاب.
ومستحيل أن يرى الله عز وجل في الدنيا، فلا يراه أحد في الدنيا، فموسى لم ير ربه سبحانه، ولما أراد أن يراه، قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: أنا أول المؤمنين أنك لا ترى في هذه الدنيا.
إذاً: الصورة الثانية: أن يكلم الله عز وجل عبداً من عباده، كما كلم موسى على الأرض، وكما كلم محمداً صلى الله عليه وسلم في السماء، فالله عز وجل كلمهم من وراء حجاب.
الصورة الثالثة: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) سبحانه وتعالى، وفيها قراءتان: قراءة نافع وابن ذكوان: ((أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا)).
والقراءة الأخرى قراءة الجمهور: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51].(440/3)
صور تكليم الله سبحانه لأنبيائه ورسله
إذاً: يرسل الله رسولاً من السماء وهو جبريل عليه السلام إلى من يشاء من أنبيائه، (فَيُوحِيَ) وأيضاً الوحي فيه الإخبار، ومنهم من يعطيه الله عز وجل ذلك وينزله عليه خاصة دون غيره، إذاً: فيه خفاء عن الغير، فيأتي جبريل فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يراه أحد، يكلمه ويسر إليه صلى الله عليه وسلم ولا أحد يطلع على ما يقوله، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حوله.
ولذلك جاء في حديث عن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو: عثمان بن مظعون، يقص أنه أسلم قديماً في أيام مكة، ولكن كان إسلامه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مر به وهو جالس بفناء بيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجلس؟ قال: بلى، فجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله عز وجل، فجلس يسمع حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشخص ببصره إلى السماء، أي: يرفع بصره عليه الصلاة والسلام إلى السماء ثم ينزل به حتى نزل إلى الأرض، ثم انحرف عني يميناً -أي: كان جالساً مع عثمان بن مظعون يحدثه صلوات الله وسلامه عليه، ثم انحرف عنه، وتركه- قال: وإذا به ينغض رأسه وكأنه يستفقه شيئاً ويسمع، فلم يزل كذلك حتى رفع بصره بعد ذلك، ولم يزل يصعد به إلى السماء، ثم التفت إلي بعد ذلك.
قال: فتعجبت، قلت: إنك صنعت شيئاً ما كنت تصنعه، قال: وفطنت لذلك؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: شخصت ببصرك إلى السماء ولم تزل تنزل به، ثم كأنك تستفقه من أحد عن يمينك، قال: ذاك جبريل أتاني آنفاً، فأخبرني بهذه الآية -وهي الآية التي أحبها عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]) فلما سمعها ابن مظعون فرح بهذا الدين، قال: وهذا أول ما استقر الإيمان في قلبي، قال: كان قبل ذلك يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن فقد استقر الإيمان في قلبه حين سمع هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] قال: فدخل حب محمد صلى الله عليه وسلم في قلبي، ثم قال: فأخبرت بها الوليد بن المغيرة، فقال الوليد: ما تقول يا ابن أخي؟ فتلاها عليه مرة ثانية، قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر! هذا قول الوليد بن المغيرة لما سمع هذه الآية.
فالغرض أن الوحي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن مظعون قاعد، ولم ير جبريل وهو يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الصحابة يعرفون مجيء الوحي بالتفات النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، يكون جالساً معهم وفجأة يلتفت عنهم، ويعتريه كالحر الشديد، فيتفصد عرقاً صلوات الله وسلامه عليه، وقد يحدث له رعدة عليه الصلاة والسلام، ويصقل بدنه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يرون من يخاطب صلى الله عليه وسلم، فهذا وحي من الله يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا يقولون: ترى ما لا نرى، وتخاطب من لا نخاطب، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الوحي الذي هو إلقاء من الله عز وجل يلقي عليه الكتاب العظيم، وينزل عليه جبريل ويخبره بأحكام شرعية عظيمة، وهذا كله في خفاء عن الناس، لا أحد يرى من الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ماذا يقوله جبريل، ثم هو يخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك.
إذاً: هذا الوحي رسول من السماء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيوحي بإذن الله ما يشاء، والعادة أن الذي ينزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي ينزل على الأنبياء قبله، ولكن قد ينزل الله عز وجل ملكاً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم، مثلما نزل ملك من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخبره جبريل أنه فتح باب من السماء، وهذا الملك أول مرة ينزل من السماء إلى الأرض، وقد نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه بشيء من السماء، فهذا يكون أحياناً.
فالأصل: أن جبريل هو الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل وبما ينزل عليه من هذا القرآن العظيم.
قال تعالى: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) أي: بإذن الله عز وجل (مَا يَشَاءُ) يوحي ويخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بإذنه ما يشاء، (إنه عليُّ حكيم) سبحانه وتعالى، وله علو الشأن وعلو القهر وله علو الذات سبحانه وتعالى، علا على كل شيء، وغلب كل شيء، وقهر كل شيء، وشأنه عظيم وأعلى من أن يحاط به سبحانه وتعالى.(440/4)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
قوله: (وَكَذَلِكَ) أي: كهذا الذي أوحينا إلى الأنبياء وبنفس الصورة التي أوحينا إلى الأنبياء نوحي إليك أيضاً، كما أوحينا إلى الذين من قبلك.
فقوله: (وَكَذَلِكَ) أي: بطريقة الوحي من السماء إلى جميع الأنبياء، كذلك يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَاٍ) وصف القرآن العظيم بأوصاف عدة منها: قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41].
وقال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22].
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1] وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
فهو الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وهو الكتاب الذي فيه التذكرة والاعتبار، وفيه أخبار من رب العالمين ننتفع بها، وفيه أحكام شرعية نعمل بها.
كذلك سماه: نوراً، ووحياً، وروحاً، فالقرآن نور من عند الله عز وجل يضيء لنا طريقنا إلى الإيمان بالله، وإلى العمل الصالح.
وروح من الله عز وجل يحيي به القلوب الميتة، فيوقظها من سباتها، ومن نومها، ومن موتها، ويحييها كما ينزل المطر من السماء فيحيي به الله عز وجل الأرض بعد موتها، كذلك هذا القرآن العظيم ينزل على القلوب الميتة فيحييها بفضل الله وبإذنه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) كان قبل ذلك صلى الله عليه وسلم لا يعرف أن هناك قرآناً سينزل، وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك، أما هو فلم يتصل بهم حتى يعلم أن هناك نبياً سيبعث، فضلاً عن أن يعرف أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) أي: ما كنت تعرف شرائع هذا الدين، وقد نزل جبريل ليعلم المؤمنين ما هو الإسلام، وما هو الإيمان، وما هو الإحسان.
فالإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً.
والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك سبحانه وتعالى.
فلم يكن يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي من السماء؛ لذلك قال له سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: وجدك ضالاً عن هذه الشريعة لا تعرفها، وإن كان هو يعرف ربه عليه الصلاة والسلام.(440/5)
تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
لقد كان صلى الله عليه وسلم يتعبد لله سبحانه وتعالى والناس في جاهلية جهلاء، وفي ظلمة ظلماء، وهو يعبد الله إله الأرض والسماء سبحانه وتعالى، كان يخرج يتحنث الليالي ذوات العدد، كما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها، تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، إذاً: قبل أن ينزل عليه القرآن كان يرى الرؤيا وتتحقق الرؤيا كما رآها، حتى نزل عليه جبريل بالوحي من السماء، فكان صادق اللسان، صادق الحديث صلى الله عليه وسلم، أمين القلب، أميناً في معاملاته مع الخلق عليه الصلاة والسلام، فلذلك قبل رسالته عصمه الله سبحانه وتعالى، مما كان يقع في كبائر مما كان يفعله أهل الجاهلية، كما كان يقتل بعضهم بعضاً، ويأخذ بعضهم أموال بعض، ويغير القوي على الضعيف، وتغير القبائل بعضها على بعض، ويظلم الظالم ويجد من يدافع عنه في ظلمه، أما هو فلم يكن كذلك، وحاشا له صلى الله عليه وسلم.
وكان الزنا في الجاهلية شيئاً سهلاً؛ لأنهم كانوا يقعون في الزنا ولا شيء عليهم في ذلك، وهو لم يقع في ذلك أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى إنه وهو صغير صلى الله عليه وسلم يقول له عمه: اخلع إزارك وضعه على كتفك، وهو يحمل حجارة مع من يحملون الحجارة، رحمة من العم بابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه، أما الكبار فكانوا يتعرون ولا شيء عندهم في ذلك، فأراد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما قال له عمه، فإذا بالملك ينزل عليه من السماء ويقول: خذ عليك إزارك، فإذا به يرتعد صلى الله عليه وسلم ويقع مغشياً عليه، قال: فما وضعه عنه أبداً، فقد عصمه ربه سبحانه من أن تنكشف عورته صلوات الله وسلامه عليه، حفظاً من السماء للنبي صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: (كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) فكان يأتي حراء فيتحنث -أي: يتعبد- وذلك كان قبل الوحي، وقبل أن ينزل عليه شيء، فكان يحب أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وكان يبغض الأصنام بغضاً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، ولا يأكل من ذبائحهم التي ذبحوها لهذه الأصنام، فانظر إليه وهو يتعبد في الغار عليه الصلاة والسلام، ويرجع إلى خديجة، وكان قد تزوج خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، ويذهب يتعبد لله سبحانه وتعالى، وتجهزه الفاضلة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، تجهز النبي صلى الله عليه وسلم بزاده لليالي ذوات العدد، يتعبد لله سبحانه، ويرجع إليها وتجهز زاداً آخر ليذهب ويتعبد لله سبحانه وتعالى، ومكث على ذلك ليالي كثيرة في غار حراء، هذا قبل أن يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه.
ومع ذلك يقول له ربه سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، ويقول سبحانه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، وصدق الله العظيم سبحانه، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم)، وذلك لما قالت امرأة لصبي صغير توفي: هنيئاً له، عصفور من عصافير الجنة، حتى أخبره الله عز وجل بعد ست سنوات من هجرته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه في الحديبية سورة الفتح بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] فعرف قبل وفاته بأربعة أعوام ما الذي يفعل به صلوات الله وسلامه عليه، وهو قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].
قال له ربه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8].
فقوله تعالى: (ضَالًّا) أي: لا تعرف الشريعة، ولا تعرف هذا الدين، ولا تعرف أصوله ولا فروعه، صحيح أنت تعبد الله، وتجتنب الفواحش، ولكن هذا بحفظنا لك، ومنة من الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يجهز نفسه ليكون رسولاً في يوم من الأيام، ولم يكن يجهز نفسه لشيء، فلم يطلب أن يكون سيداً على القوم ولا ملكاً لهم, لم يطلب شيئاً صلوات الله وسلامه عليه حتى أنزل الله عز وجل عليه الوحي.(440/6)
ذكر ما جاء من بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم
ولما نزل عليه الوحي نزلت سورة مفزعة، إذ نزل جبريل وأفزعه، ليثبته بعد ذلك، ويطمئنه صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك، فاسمع إلى هذا الخبر عن عائشة رضي الله عنها، تقول: حتى فجأه الحق وهو في غار حراء في مكة، فجاءه الملك صلوات الله وسلامه عليه فقال: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني)، تخيل وهو صلى الله عليه وسلم، وهو في غار حراء يتعبد الليالي، وداخل الغار وفجأة يظهر له الملك ويأتيه من عند ربه سبحانه وتعالى، ويقول له: اقرأ، وكان قد جاءه قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه، إذ تمثل له الملك في السماء ثم غاب عنه، ومرة أخرى، وكأن الله سبحانه وتعالى يعلمه شيئاً فشيئاً ويدخل الشجاعة على قلبه شيئاً فشيئاً، فمرة رآه في السماء، ثم ظهر له مرة أخرى في السماء، ثم بعد ذلك جاءه وهو في الغار عليه الصلاة والسلام، ليأمره ويقول له: اقرأ، قال: (قلت: ما أنا بقارئ) فالنبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يجيد قراءة ولا كتابة، أي: ما الذي أقرؤه؟ أنا لست قارئاً، لا أقرأ، والمكان مكان موحش، والأمر أمر صعب وشديد أن يأتيه ملك في هذه الحالة، فلذلك كان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته فزعاً، ويقول: غطوني غطوني، فقد خاف من الذي حدث، يا ترى ماذا سيحدث؟! هذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول له جبريل: اقرأ، ويأخذه ويحتضنه بشدة، قال: (فغطني ثم قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني الثالثة فغطني وقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]).
فأنت لست قارئاً، أنت لا تعلم، وجدك ربك ضالاً فهداك سبحانه وتعالى، وعلمك ما لم تكن تعلم، فمن عليه، قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] صلوات الله وسلامه عليه.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها ترجف بوادره، وهذا أول ما نزل عليه من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فنبئ باقرأ وأرسل بالمدثر.
وعلم أنه رسول لما قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]، فالأولى: (اقْرَأْ) والثانية: قم للناس، (قُمْ فَأَنذِرْ) ولما جاءه الوحي وأنزل عليه (اقرأ) رجع إلى خديجة رضي الله عنها، فقال: (زملوني زملوني)، رجع يرتعد من شدة الخوف صلى الله عليه وسلم، وقال: (زملوني)، أي: غطوني، وقال للسيدة خديجة رضي الله عنها: (يا خديجة! ما لي؟) ما الذي حصل لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: (قد خشيت على نفسي) خشيت أن يكون ما حصل لي تهيؤات بسبب أن الشياطين تمتثل لي، خشي على نفسه صلى الله عليه وسلم.
هذا المنظر الذي رآه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطر على باله، وكان هناك أناس في مكة متوقعين ذلك، وينتظرون أن يكون فلان رسولاً، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يكن على باله هذا الأمر، كان يعبد الله سبحانه وتعالى، ويرجو بذلك ربه سبحانه وتعالى، ترك الأصنام لأنه يبغضها ويكرهها صلى الله عليه وسلم، ويعبد الله ويتحنث في الغار الليالي، من الذي حفظه من عبادة الأصنام؟ ومن الوقوع في المنكرات والحرام؟ إنه الله سبحانه وتعالى، حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن عليه بذلك.(440/7)
قصة ذهاب خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل
قالت السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم تطمئنه: لا تخف، وهنا الاستدلال بالأسباب على النتيجة، ماذا عملت أنت حتى يبتليك الله في عقلك؟ أنت تعبد ربك سبحانه وتعالى، قالت له كلامها الحكيم الذي يدل على عقلها العظيم رضي الله تبارك وتعالى عنها، تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، هذه صفاته قبل الإسلام صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، أي: الإنسان الذي انقطع وهو مسافر إلى مكان، ثم وقع الجمل الذي يحمله، ولم يقدر أن يكمل السفر، فقد صار كالاً هذا الإنسان، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعطيه، ويزوده، ويعينه حتى يستطيع إكمال المسير، أبعد هذا كله يذهب الله عقله بسبب؟ لا يكون هذا أبداً.
وقولها: وتقري الضيف، أي: أنت كريم مع أهلك، وكريم مع ضيوفك، وتعين على نوائب الحق، والحق: هو الله سبحانه وتعالى، وما يعتري الناس من نوائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعين الخلق على نوائب الحق، فإذا كنت تفعل ذلك، فهل سيبتليك ربك؟! تستدل بفعاله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن يخزيك ربك، ولا يخذلك أبداً، وهذا الذي جاءك شيء صحيح وحقيقي.
وذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عم السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، إذ كان ورقة في الجاهلية يبحث عن الدين الحق، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل، كان الاثنان يبحثان عن الدين الحق، فلم تعجبهم الأصنام، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يبغض الأصنام، وتوجه يعبد الله عز وجل ويتحنث لربه في الغار.
وبحث ورقة بن نوفل فوجد أقرب الديانات الموجودة النصرانية، بحث عن الرهبان، وأخذ الإنجيل فكان يكتب من الإنجيل بالعربية، فتنصر في الجاهلية، إذاً: هو عرف النصرانية وعرف الرهبان، ووصل لدرجة من الحكمة العظيمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يلبس ثياباً بيضاء في رؤيا منامية، فاستدل على أن الله سبحانه وتعالى أكرم ورقة بن نوفل.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد بحث فلم تعجبه اليهودية ولا النصرانية، وكان يسجد لله عز وجل ويقول: لو أعلم كيف أعبدك لعبدتك، يبحث عن الدين الحق، ولم تعجبه النصرانية، وكأن ورقة وجد من الرهبان من دله على الحق، أما الآخر فلم يجد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل: (إنه يبعث أمة وحده)، وبارك الله سبحانه وتعالى في ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فصار أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه في الجاهلية مات على الحق، ويبعث يوم القيامة أمة وحده.
وهذا ورقة بن نوفل قلنا: إنه استدل على الحق من معرفته بالنصارى قبل الإسلام، فقد رأى أناساً صالحين منهم، ممن كانوا ينتظرون نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فممن كان ينتظره سلمان الفارسي، وقد مشى مع رهبان النصارى، وكل راهب يوصيه: اذهب لفلان واعبد الله معه حتى يظلك زمان فيه نبي سيظهر، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم.
ورقة بن نوفل قالت له السيدة خديجة: اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، أي: هذه الرسالة التي نزلت على موسى، جاءك الرسول من عند رب العالمين، يا ليتني فيها جذعاً، هذا الرجل الفاضل الذي عرف الحق، يقول له: يا ليتني حين يبعثك الله عز وجل وتبدأ تنشر هذه الدعوة، ويؤذيك قومه، يا ليتني كنت فيها شاباً قوياً فتياً، كنت سأنصرك، فقد نوى نية حسنة، والله عز وجل يأجره عليها رضي الله عنه، فقال: يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
إذاً: دل هذا على أن الرجل كان يعرف الحق، فـ ورقة بن نوفل تنصر على ما كان من الدين الصحيح من النصرانية الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واطلع وعرف أن هذا رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا نبئ صلى الله عليه وسلم بسورة اقرأ، فلما ذهب إليه قال: يا ليتني حي حين يخرجك قومك، وإلى ذلك الوقت لم تكن قد نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] لم تنزل عليه إلا سورة العلق، فقال له ورقة بن نوفل: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وفتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة، ثم نزل عليه جبريل مرة أخرى.
وكان خلال فترة الوحي كما روى الإمام البخاري ومسلم أنه تحدثه نفسه أنه فتر عنه الوحي، وأن الناس سيقولون عنه: كاذب، فيأتيه جبريل فيثبته، أن اثبت إنك على الحق صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه، وجاءه جبريل من السماء، وكان قبل ذلك يتعبد الله سبحانه، وهذا المقصد من ذكر هذا الحديث، فقد كان يعبد الله سبحانه، ولم يكن يعبد الأصنام، بل كان يبغض الأصنام، ولذلك في قصة بحيرى الراهب لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام، ولقوا بحيرى الراهب، وإذا به يرى سحابة تظلل النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب الرجل من ذلك، وهذا قبل الإسلام، قبل أن يأتيه الوحي من السماء.
فقال بحيرى: ابن من هذا؟ فقال رجل: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، فجاء أبو طالب وقال: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، قال: أنا عمه، وأبوه مات، فقال بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك عن أشياء، فإذا به يختبره ويقول: باللات والعزى أخبرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبغضت شيئاً بغضي لهما، فعرف أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، وأوصى به عمه، وحذره من اليهود، أنهم إذا عرفوا أنه بهذه الصفات فسيقتلونه، وطلب منه أن يرجع به صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: قبل الإسلام لم يكن يعبد اللات ولا العزى ولا الأصنام صلوات الله وسلامه عليه، بل أيضاً كان لو وجد فرصة في أن يكسر الأصنام لَفَعَل صلوات الله وسلامه عليه.(440/8)
كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام قبل البعثة
روى الإمام أحمد من حديث علي رضي الله عنه، قال: (انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم) وهو في مكة صلوات الله وسلامه عليه، في يوم من الأيام، وكان علي صغيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم كبير، قال: (انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، وصعد على منكبي) وعلي صغير، فكون النبي صلى الله عليه وسلم صعد على منكبه لا يستطيع أن يحمله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغير المنكر بيده هو صلى الله عليه وسلم، أي: هو الذي يكسر الأصنام بنفسه صلى الله عليه وسلم، إذ كان فوق الكعبة صنم من نحاس مثبت عليها، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إزالة هذا الصنم، فلما وجد فرصة قال لـ علي: اجلس، وصعد على كتفه صلى الله عليه وسلم وأخذ بالصنم، ولم يقدر علي أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يلاحظ أن علياً يضعف، فنزل هو صلى الله عليه وسلم وجلس وقال لـ علي: اصعد، وصعد علي على منكبي النبي صلى الله عليه وسلم، يقول علي: (فصعدت، فنهض بي) ولما حمله على كتفه صلى الله عليه وسلم قال علي: (إنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء)؛ لأنه فوق منكب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ هذا الصنم، قال علي رضي الله عنه: (فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه) فكونه يكون عمره ثمان سنين أو فوقها، والنبي صلى الله عليه وسلم يرفعه، ثم يفعل هذا، هذا إكرام من الله عز وجل لـ علي أنه على كتف النبي صلى الله عليه وسلم يمسك بصنم فوق الكعبة، وهذا عجيب جداً، إذ إن الكعبة يستحيل أن يصل أحد إلى سقفها، ولكن علياً شعر أنه علا جداً وهو فوق كتف النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله ثقات قال: (حتى إذا استمكنت منه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقذف به، قال: فقذفت به، فتكسر كما تتكسر القوارير) تخيل صنم من نحاس موجود فوق الكعبة، يقذفه على الأرض وينكسر كما ينكسر الزجاج، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس، قال: حتى استترنا بالبيوت، فلم يوضع عليها بعد) أي: لم يجرؤ أحد أن يضع صنماً مرة أخرى فوق ظهر الكعبة، بعد هذا الصنم الذي كسره النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لم يعبد الأصنام، ولم يتقرب إليها، إنما كان يعبد الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه سبحانه، ستره الله عز وجل وهو صبي صغير، وأعطاه الحكمة صلوات الله وسلامه عليه وهو شاب كبير، حتى إن المشركين اختصموا في الحجر الأسود: من الذي يضعه؟ لما بنوا الكعبة، واختصمت على وضعه أربع قبائل، فإذا بهم يقولون: نحتكم لأول من يطلع علينا، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم أول من يخرج إليهم، فيقولون: هذا الصادق الأمين، فيأتي ويخلع رداءه ويجعله على الأرض، ويأخذ الحجر بيده الكريمة ويجعله على الرداء، ويأمر مندوباً من كل قبيلة أن يمسك بطرف من أطراف الرداء، فأمسكت كل قبيلة بطرف ورفعوا الحجر، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة ووضعه مكانه، فكان موفقاً قبل أن يبعثه الله، ثم لما بعثه الله أكمل عليه النعمة، وهداه لهذا الدين العظيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(440/9)
تفسير سورة الشورى [52 - 53]
القرآن حياة القلوب، وقد جعله الله نوراً يهدي به من يشاء من عباده هداية إرشاد وهداية توفيق، وهداية الإرشاد هي بالدلالة والعلم، ويقوم بها كل داع إلى الحق، وهداية التوفيق هي بالتوفيق للعمل، وهي خاصة بالله وحده.(441/1)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذا الوحي الذي نزل عليه من السماء كالوحي الذي أنزل على الأنبياء من قبله فقال: (وَكَذَلِكَ) أي: كما أوحينا إلى السابقين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مثله تماماً نوحي إليك وحياً صادقاً من عند رب العالمين من السماء.
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) يؤكد سبحانه وتعالى أن هذا الوحي من السماء وليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ هذه السورة بذلك وختمها بذلك سبحانه، ففي أولها قال: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:1 - 4] والسورة سورة مكية، يؤكد الله عز وجل فيها أمور العقيدة العظيمة، وتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأن القرآن وحي من السماء، من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال في أول السورة: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى:3] أي: كما أوحى للسابقين كذلك يوحي إليك، وقال في آخرها: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] فوصفه بأنه روح يحيي الله عز وجل به من يشاء من خلقه، ممن ماتت قلوبهم فأحياهم هذا القرآن العظيم.
وقال الله أيضاً في أوائل السورة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى:7] فتكرر ذكر الوحي ثلاث مرات في هذه السورة، لتأكيد أنه وحي من الله سبحانه، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام رب العالمين وحي من السماء صادق نزل بالصدق وبالحق من عند الله سبحانه.
قوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) أي: لم تكن تعرف قبل ذلك الكتابة، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] والحكمة من ذلك (إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
فمن حكمة الله عز وجل أن جعل نبيه صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وليس هذا مدحاً للأمية، ولكنه مدح للنبي صلوات الله وسلامه عليه، حيث أتى بالشيء المعجز من عند رب العالمين سبحانه، فلو كان يقرأ ويكتب لدخل الشك في قلوب الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ربه سبحانه: لو كنت تقرأ وتتلو من قبله من كتاب إذاً لارتاب المبطلون المشككون في هذا الدين، ولقالوا: إنه نقله من كتب السابقين ويزعم أنه جاءه من عند رب العالمين.
قال الله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) أي: ما كنت تعرف ما هذا القرآن الذي يأتيك من عند الله، ولذلك لما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ) أي: لست قارئاً وما الذي أقرؤه؟! فهو لا يقرأ كتاباً صلى الله عليه وسلم، أي لا يجيد قراءة ولا كتابة، وإذا كان جبريل يريد منه أن يقرأ فما الذي يقرؤه؟ فجبريل في المرة الثالثة قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4] علم الناس أن يكتبوا بالقلم وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه، فالذي آتاك هذا العلم هو رب العالمين سبحانه، وهم يقرءون ويكتبون ومع ذلك لم يأتهم الوحي إلا عن طريقك أنت يا من لا تقرأ ولا تكتب صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وهنا يقول: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: وجدك ضالاً عن الشريعة لا تعرف ما هذه الشريعة، فكان يعبد ربه ويوحد ربه ويكره الأصنام صلوات الله وسلامه عليه بما جعل الله عز وجل في قلبه من عصمة، فعصمه أن يقع في محظور قبل البعثة، وبعد البعثة زادت هذه العصمة من رب العالمين سبحانه وتعالى وزاده حفظاً، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فمعنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي: عن الشريعة فهداك الله عز وجل لهذه الشريعة.
قوله: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) أي: جعلنا هذا القرآن نوراً.
(نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) النور يأتي من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا أشرقت الشمس رأى الناس طريقهم، ولكن ليس كل الناس يرون الطريق، فلو أن إنساناً أعمى فإنه لا يرى شيئاً، بل هو في ظلام سواء طلعت الشمس أو لم تطلع، فكذلك الإنسان الكافر الذي طبع على قلبه؛ لأنه لا يستحق إلا ذلك، ينزل القرآن وهو نور من عند الله سبحانه ليهديه، فلا يرى شيئاً ولا يفهم شيئاً، وغاية ما يفهمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يهدده بيوم القيامة وهو ينكر يوم القيامة، جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على رجل منهم من أول سورة فصلت إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اسكت اسكت، وقام مذعوراً إلى قومه، فسألوه: ما الذي سمعت؟ قال: سمعته يتوعدنا، وهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم لا يكذب، ومع هذا لم يهتد للدين، وقد سمع سورة فصلت من أولها: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5]، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فخاف مما يأتيه من عند الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا هدد لا يكذب صلوات الله وسلامه عليه.
ومرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت والكفار أبو جهل وغيره لعنة الله عليهم يسخرون منه ويتهكمون به، كلما طاف سخروا منه، ثم ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (ألا تسمعون، والله لقد جئتكم بالذبح) فإذا بأشدهم عليه صلوات الله وسلامه عليه يصير في غاية اللين ويقول: اذهب يا أبا القاسم! والله ما كنت جهولاً.
فرعبوا منه حين قال: (لقد جئتكم بالذبح) وهو واحد صلوات الله وسلامه عليه وهم مجموعة، والذي خوفهم أنهم يعلمون أنه صادق لا يكذب صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قال: (جئتكم بالذبح) فسيذبحون في يوم من الأيام، وقد ذبح أبو جهل حيث حز رأسه عبد الله بن مسعود رضي الله، وألقي جيفة قذرة في قليب بدر، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ووعد بشيء فما ينطق عن الهوى، وإنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) لم يقل: نهدي به كل الخلق، وإنما قال: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) فالله يهدي من يشاء، يهدي من يستحق ذلك، ومن كتب عنده سبحانه وقدر له أنه يستحق الهدى هداه الله عز وجل.
جاء في سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله الخلق في ظلمة وألقى عليهم من نوره سبحانه، فمن أصابه نوره هداه الله، ومن أخطأه ضل) والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء تفضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] وقد أنزل الكتب وأرسل الرسل فلا حجة للخلق عند ربهم سبحانه.(441/2)
هداية النبي صلى الله عليه وسلم إلى صراط الله المستقيم
قال الله: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) هنا يؤكد فيقول: (إنك) يقيناً (لتهدي) واللام للتأكيد، والفعل المضارع مسبوق باللام المؤكدة، أي: أنت تهدي فلا يزال على ذلك حتى يتوفاه الله عز وجل.
قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) فهو يهديهم، وفي آية أخرى قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ففي آية (إنك لتهدي)، وفي أخرى: (إنك لا تهدي)، ولا تناقض بينهما، فهو هادٍ يدل ويرشد صلوات الله وسلامه عليه، أرشدهم وبين لهم ودلهم، تقول للإنسان: إذا أردت أن تصل إلى المكان الفلاني فاذهب من هنا، فأنت قد أرشدته ودللته، فإن هو مشى في طريق آخر فهذا أمره هو، فقول الله: (إنك لتهدي) أي: إنك لتدعو، وترشد وتبين وتدل إلى صراط الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي: لا تحول من أحببت، فهو يملك أن يريهم صلى الله عليه وسلم طريق الحق، أما أن يحول القلوب فلا يملك ذلك؛ ولذلك كانوا يتعنتون معه صلوات الله وسلامه عليه، ويذهب أحدهم ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] يقولون: ولابد أن تأتينا بخطاب من السماء يثبت أنك رسول، ولو فعلت ذلك لن نتبعك! هذا القلب المتحجر ماذا سيعمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟! فهؤلاء الكفار يقول له ربه سبحانه عنهم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وهذه الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم هذا الرجل، فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم، ورد له النبي صلى الله عليه وسلم الجميل بأن أخذ علي بن أبي طالب فرباه بعد أن صار عمه كبيراً.
وأبو طالب دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عن الإسلام، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عنه، وما تجرأ الكفار أن يتعرضوا للنبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب.
وفي آخر حياته يأتيه الكفار لعنة الله عليهم وفيهم أبو جهل، وأبو جهل كان يخاف أن يسلم أبو طالب ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به، ويشكو أبو جهل لـ أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، ويطلب من أبي طالب أن يحول النبي صلى الله عليه وسلم عما هو فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يقضي الله أمره)، فالأمر ليس أنكم تعطونني الدنيا وأترك هذا الدين، الأمر أن أبلغ رسالة الله، فعند وفاة أبي طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال: والله يا ابن أخي، لوددت أني أقر عينك بها) يعني: أنا أحب أن أقول هذه الكلمة لأجل أن تفرح، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً عظيماً على ذلك، فإذا بالله ينزل عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فالهدى ليس بيدك أنت.
إذاً: الهدى الذي في هذه الآية هو بمعنى الدلالة، فأنت تدل، وترشد، وتدعو، وتبين، وهذه وظيفته صلى الله عليه وسلم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، والله هو الذي يهدي من الكفر إلى الإيمان، ويقلب القلوب ويصرفها؛ ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر أن يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما تقول ذلك! فقال: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فالله يقلب القلوب إن شاء بالإيمان فجعلهم مؤمنين، وإن شاء بغير ذلك فجعلهم كما ما يشاء سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) و (صراط) في جميع القرآن تقرأ بالصاد، وتقرأ بالسين، وتقرأ بالصاد المشم صوت الزاي، فقراءة قنبل عن ابن كثير، وقراءة رويس عن يعقوب: (إنك لتهدي إلى سراط) بالسين، وقراءة باقي القراء غير خلف عن حمزة: (وإنك لتهدي إلى صراط) بالصاد، ويقرؤها خلف عن حمزة بالصاد المشمة صوت الزاي: (زراط مستقيم)، هذه ثلاث قراءات في هذه الكلمة، والصراط بمعنى: الطريق، والطريق المقصود منه الطريق الأعظم شرعة الله، وطريق الشريعة دين الله سبحانه، فالمعنى: وإنك لتهدي إلى هذا الدين العظيم المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، وهو دين رب العالمين، وشريعة الله سبحانه، ومنهج الله الذي جعله لخلقه سبحانه وتعالى.(441/3)
تفسير قوله تعالى: (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)
قال الله: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53] هذا دين رب العالمين سبحانه العظيم، الذي يؤكد لنا أنه الرب، وأنه المالك الحقيقي، وأنه مالك الملك، ملك الملوك سبحانه وتعالى الذي له ملكوت السماوات والأرض، ففي أثناء السورة قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:29]، وقال في أولها سبحانه: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:4 - 5]، وختم السورة بقوله: (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فهو الذي يملك كل شيء.
قوله: (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) أي: ترجع كل أمور العباد في النهاية إلى ربها ليحكم بين العباد ويفصل بينهم، وكأنه يقول: أنتم في الدنيا يلي بعضكم أمور بعض، وقد ينسى الإنسان أن الله هو الذي يدبر ذلك سبحانه، وأن الله هو الذي ييسر له رزقه حتى يأخذه من هنا، ويأخذه من هنا، فيذكر العباد أن كل أموركم وإن زعمتم في الدنيا أنكم ترجعون إلى حكامكم وإلى سلاطينكم وإلى ولاة أموركم لكن سيأتي يوم لا تجدون من ترجعون إليه إلا الله الواحد القهار سبحانه وتعالى الذي يرجع إليه العباد، وتصير إليه مقاليد أمور العباد، فالكل بيده في الدنيا وفي الآخرة يفعل ما يشاء، ويقضي بين عباده كما يشاء، ويحكم بما يشاء ويفعل ما يريد.(441/4)
تفسير سورة الزخرف [1 - 8]
سورة الزخرف سورة مكية، أقسم الله عز وجل في مطلعها بالقرآن العظيم، وأنه كتاب عربي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كما بين الله في هذه الآيات أنه لا يهلك قوماً أو يعذبهم حتى يقيم عليهم الحجة، فكم أرسل الله من أنبياء إلى الأمم السابقة، وكم من أمم أهلكها الله عز وجل بسبب تكذيبهم، فكان في ذلك عظة وعبرة وتهديد لكفار قريش وغيرهم من المشركين.(442/1)
تفسير قوله تعالى: (حم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:1 - 8].(442/2)
إعجاز القرآن الكريم
سورة الزخرف هي الثالثة والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي سورة من سور آل حاميم، وهي من السور المكية كغيرها من سور الحواميم، وفيها خصائص السور المكية كما عرفنا قبل ذلك في خصائص هذه السورة.
وقد ذكرنا: أن سور آل حاميم، أو الحواميم التي بدأت بسورة: (غافر) وانتهت بسورة: (الأحقاف) نزلت متناسقة، أي: نسقاً، سورة وراء سورة على ترتيب وجودها في المصحف، فهذه السورة في ترتيب النزول هي الثانية والستون، فنزلت بعد سورة الشورى، وبعدها سورة الدخان.
والحواميم قلنا أنها: سورة (غافر)، وسورة (فصلت)، وسورة (الشورى)، وسورة (الزخرف)، وسورة (الدخان)، وسورة (الجاثية)، وسورة (الأحقاف)، وكلها تبدأ بالحرفين: (ح) و (م).
والله سبحانه وتعالى قد تحدى خلقه بهذا القرآن العظيم، فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وهذا بعد أن تحداهم أن يأتوا بكتاب مثل هذا القرآن العظيم، وأنه لو اجتمع له الإنس والجن ليفعلوا ذلك، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، أي: لو أن بعضهم ظاهر بعضاً، وعاون بعضهم بعضاً على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلما لم يقبلوا التحدي ولم يفعلوا، تحداهم بعشر سور كما في سورة هود، فلم يقدروا، فتحداهم بسورة واحدة كما في سورة يونس، ولم يقبلوا هذا التحدي، ولم يفعل أحد منهم شيئاً، ولم يأتوا بشيء، حتى أن من أراد منهم أن يأتي بشيء ألف أشياء يسجعها على وزن سورة من سور كتاب الله، فإذا بأصحابه يسخرون ويضحكون منه، ويعلمون أنه كاذب فيما يقول.
وهذه السورة العظيمة آياتها تسع وثمانون آية على عد بعض القراء، وعلى عد آخر ثمان وثمانون آية، وهذا عند قراء الشام، وبقية القراء على تسع وثمانين آية، والخلاف في: (حم) هل هي آية متصلة بما بعدها، أو أنها ليست آية متصلة؟ عند الكوفيين أن: (حم) آية، وما بعدها آية، وأما عند غيرهم: ((حم والكتاب المبين)) آية واحدة.
أيضاً اختلفوا في: ((مهين)) عند الوقف عليها، هل هي جزء من آية أم لا؟ وكما ذكرنا مراراً نقول: إن اختلاف العد في الآيات ليس معناه أن هناك آية زائدة، أو آية ناقصة، لا، وإنما الخلاف في أين نقف؟ فإذا قرأ: {حم} ووقف عندها فهو يقف عند رأس آية، وإذا قرأ: ((حم والكتاب المبين)) الاثنين معاً فهي آية واحدة، فعلى ذلك هي نفس الآيات، ولكن الخلاف في أين يقف القارئ؟(442/3)
الحروف المقطعة وتأويلها
سورة الزخرف بدأها سبحانه وتعالى بقوله: {حم} [الزخرف:1]، (حم) حرفان اختارهما الله عز وجل لهذه السورة، وللست السور الأخرى، وآل حاميم تبدأ بهذين الحرفين في كل سورة من هذه السور، لحكمة من الله سبحانه وتعالى، إذاً: ما معنى هذين الحرفين؟ حكمة من الله عز وجل.
وافتتح الله بعض سور القرآن بهذه الحروف إشارة إلى تحدي الخلق بأن هذا القرآن من جنس هذه الحروف التي تقرءونها، فأتوا بقرآن مثله، فالقرآن مركب من هذه الحروف، أي: حروف اللغة العربية، فألفوا منها كتاباً مثل هذا الكتاب إن استطعتم إليه سبيلاً.
وهذه الحروف إذا ذكرت في أوائل السور فالغالب أنه يذكر بعدها إشارة إلى هذا القرآن العظيم، فقال في سورة غافر: {حم} [غافر:1] ثم قال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] وقال في سورة فصلت: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1 - 2]، وفي سورة الشورى قال: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، ثم ذكر الإشارة إلى كتاب الله سبحانه وتعالى.
كذلك هنا وفيما بعدها من سور آل حاميم الغالب فيها أنه يشير، إما مباشرة إلى هذا القرآن، وإما بعدها بآيات إلى ذكر القرآن والتحدي للخلق.(442/4)
تفسير قوله تعالى: (والكتاب المبين)
قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، أقسم الله عز وجل بالكتاب المبين، والكتاب هو: القرآن العظيم الذي نعرفه، فيقسم الله عز وجل به، ويصفه بأنه كتاب مبين، سواء هنا أو في مواضع أخرى من القرآن، و (مبين) إما من: بان، وإما من: أبان، وهما معنيان صحيحان، من: (بان) بمعنى: ظهر، فهو كتاب ظاهر واضح جلي لا شك فيه، ومن: (أبان) بمعنى: أظهر وأوضح وبين، فهو يبين لكل ذي عقل، ولكل ذي لبٍ، ولكل من يفهم، الأحكام حتى يعقلوا عن ربهم سبحانه وتعالى ما يأمرهم به، وما يريده منهم سبحانه وتعالى، فهو كتاب واضح جلي لا غموض فيه، ولا إشكال فيه، بل يفهمه من يعرف العربية معرفة العلماء، ومن يعرفها معرفة العامة، فيسمع القرآن فيعقل عن الله سبحانه وتعالى ما يقول، وما يأمر به سبحانه وتعالى، وما ينذرهم به، وما يبشرهم به، وما يخبر عن الإيمان به، كآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويبين لهم القرآن ما يشكل عليهم في حياتهم، فهو البيان والشفاء والموعظة، وقد ذكر الله في موضع آخر فقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2] وهنا قال: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2].(442/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3].
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} [الزخرف:3]، هذا جواب القسم، فأقسم ربنا سبحانه وتعالى بالكتاب المبين: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، أي: جعلنا هذا القرآن العظيم بلسانكم: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، واللغة العربية أعظم اللغات، وأفصح اللغات، وأبلغ اللغات، وأجمل اللغات، فنزل القرآن بهذه اللغة العربية، نزل من السماء من عند رب العالمين، نزل بسفارة أعظم الرسل من الملائكة وهو جبريل، على أفضل رسل الله في الأرض محمد صلوات الله وسلامه عليه، في أشرف البقاع وهي مكة، وفي أفضل الزمان وهو رمضان، فكان القرآن أعظم ما نزل من السماء، في أعظم البقاع، على أعظم وأفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليه، في أفضل الشهور وهو شهر رمضان: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3].
قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، و (جعل) لها معانٍ كثيرة، فهي هنا بمعنى: سماه ووصفه وقاله وبينه سبحانه وتعالى، فالله جعله قرآناً عربياً، ولو شاء لجعله قرآنا أعجمياً، فهو سبحانه الذي خلق العباد، وخلق اللغات، وخلق ألسنة العباد، وخلق عقول العباد، فيفهمون ما يريد الله عز وجل منهم، فلو شاء لجعله قرآناً أعجمياً، ولكن أنزله بلسان عربي مبين على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومثل (جعل) بمعنى: سمى ووصف قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] أي: ما وصف ولا سمى هذه الأشياء، ولكن أنتم الذين افتريتم ذلك، وأنتم الذين سميتم ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، ليس معناه: الذين خلقوا القرآن عضين، لا، وإنما معناه: الذين اختلفوا وتشاكلوا في القرآن، فكل منهم يقول فيه بشيء، فهذا يقول: سحر.
وذاك يقول: كهانة.
وغيرها من الأكاذيب والأوصاف التي يصفون بها القرآن، فهذا من معاني جعل، وهو سبحانه الذي أراد أن يبين لنا أن هذا القرآن عربي، تكلم به ربنا سبحانه وتعالى، فأوحاه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، فنزل به بهذا اللسان العربي على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكلمة: (قرآن) من القرء، وهو الجمع، فسوره مجموعة، وهو الذي يقرأ ويتلى، فالقرآن يتلى، ويجمع في صحيفة، ويجمع في الصدور.
قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] هي قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (قراناً عربياً) يعني: يقرأ بالألف بدل الهمزة، وإذا وقف عليها حمزة قرأ كـ ابن كثير: (قراناً).
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] أي: عن ربكم سبحانه وتعالى ما يقوله لكم، وتفهمون هذا القرآن الذي هو بلسانكم، وكما ذكر الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، فكل رسول أرسله الله عز وجل إلى قوم أرسله بلسانهم، حتى يبين لهم، وهذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي، نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة حتى ينتشر إلى العالم كله بهذا اللسان العربي المبين.
قوله: فإذا عقلتم عن الله سبحانه ما أراد منكم، وما أراد بكم عملتم بما فهمتم، ولذلك السور المكية يخاطب الله عز وجل بها عقول العباد، وكأنه يقول لهم: أين عقولكم حين تعبدون هذه الأصنام من دون الله؟ فمن خصائص هذه السورة كغيرها من السور المكية، تقرير أمر العقيدة في قلوب الناس: عقيدة الإيمان بالله وحده، ونفي الشرك عن الله سبحانه، عقيدة الإيمان برسل الله وملائكة الله، والإيمان بما أنزل الله عز وجل من السماء، وإعمال العقول فيما يحدثونه من بدع، وفيما يقعون فيه من كفر وشرك، ولذلك يخاطب الله عقولهم حين يقول لهم سبحانه: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، أي: أنترككم وأنتم في إسرافكم وكفركم وشرككم، على ذلك حتى نهلككم بالعذاب من غير ما نقيم عليكم الحجة؟ لا، حاشا لله عز وجل، فهو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فأنزل الكتاب وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، ليهدي الخلق إلى دين الله، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.(442/6)
تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: أن هذا القرآن محفوظ عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ، وأم الكتاب أي: أصل الكتاب، وأصل الكتاب عند الله سبحانه وتعالى وهو اللوح المحفوظ، {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78 - 79]، أي: لا يمسه إلا ملائكة الله عز وجل، فلا يمسه إنس ولا جان، ولكن ملائكة الله الذين طهرهم واختارهم، هم الذين يمسونه، فشرف الله عز وجل هذا القرآن، وأخبر أنه في لوح محفوظ عند رب العالمين سبحانه، فمهما حاول الناس تبديله لا يقدرون ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً، فالله حفظه عنده، وحفظه في صدور عباده المؤمنين، وأخبر أنه {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78 - 79]، فهذا عند الله عز وجل، فأولى أن يكون كذلك عند المؤمنين، فلا يمس القرآن إلا الإنسان الطاهر، تشبهاً بملائكة الله المطهرين الذين يمسون اللوح المحفوظ: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، ويبقى هنا: القياس على ما عند الله عز وجل، والنص من النبي صلى الله عليه وسلم أنك لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر، أي: طاهر من الحدث الأصغر أو الأكبر.
قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} [الزخرف:4] أي: عند الله عز وجل، وقد عبر بنون العظمة وقوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: عالٍ رفيع، لا يقدر أحد أن يناله إلا من اختاره الله وشرفه الله سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد على أن يبدله، فقد قال الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فهو عليّ الشأن، مهيمن على غيره من الكتب، عليّ عن أن يناله أحد بتغيير أو تحريف أو تبديل.
قوله: {حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، أي: محكم أحكمه الله سبحانه، فهو مشتمل على الحكم، ليس فيه تناقض، وليس فيه إشكال، حفظه الله عز وجل من النقص، وحفظه من التغيير.(442/7)
تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً)
قال تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5].
ثم قال لعباده: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ} [الزخرف:5] أي: هل يعقل؟ أننا نخلقكم ثم نترككم سدى وعبثاً، ونهملكم من غير ما ننزل عليكم كتاباً نبين لكم فيه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50].
والذكر هنا: التذكير، والضرب بمعنى: الإعراض، أي: أفنعرض عنكم؟ قوله: (صفحاً) تقول: أعرض عن فلان صفحاً.
أي: أعطاه جنبه ولم يعطه وجهه.
وكأن المعنى هنا: أفنعرض عنكم ونترككم فيما أنتم فيه حتى نأخذكم ونعذبكم، فيكون لكم علينا حجة، فتقولون: لم تبعث إلينا رسولاً، لم تنزل علينا كتاباً؟ لا، وإنما لابد أن نبين لكم، وكذلك هل نخلقكم ونترككم هكذا، تعيشون وتموتون من غير حساب؟ لا، وإنما لابد من الحساب، فلن يضرب عنهم الذكر صفحاً، بل يذكرهم ويعظهم، ثم يقبضهم ويحاسبهم، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء قال: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ} [الزخرف:5]، ومعنى: (أن) بسبب، أي: بسبب أنكم قوم مسرفون، أنترككم في إسرافكم؟ لا، فرحمة الله عز وجل عظيمة وواسعة، والعباد كفروا بالله، والخالق سبحانه مقت العباد فيما هم فيه، لذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعهم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).
فإذا كان العباد على شركهم بالله سبحانه، وهو يمقتهم على ما هم فيه من كفر وإشراك به، فهل يعرض عنهم، ويتركهم حتى يعذبهم؟ لو فعل ذلك سيكون قد ظلمهم، ولكن لأن رحمته وسعت كل شيء، أبى إلا أن ينزل عليهم كتاباً يبين لهم، ويرسل لهم رسولاً يبين لهم حتى لا يكون لهم على الله حجة.
قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، فيها قراءتان: الأولى: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم ويعقوب بفتح الهمز: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، والخمسة الباقون يقرءون بكسر الهمز: ((إِن كنتم قوماً مسرفين)).
فهل إن كنتم كذلك نعرض عنكم ونترككم على ذلك؟ لا، فرحمتنا أبت إلا أن نخبركم ونعظكم ونعلمكم، فإذا أبيتم فلكم العذاب عند الله سبحانه وتعالى.(442/8)
تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين)
قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]، أي: أن هذه ليست أول مرة نرسل فيها إلى العباد رسولاً، بل قد أرسلنا كثيراً من الرسل، جاء في حديث في إسناده ضعف: أنهم تجاوزوا الثلاثمائة من رسل الله عز وجل، وأنبياء الله كثيرون تجاوزوا الأربعة والعشرين ألفاً عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، و (كم) في الآية: للتكثير.
فالله أرسل رسلاً، وأنزل كتباً، وجعل أنبياء يدعون الناس، ويسوسون الناس حتى يهدوهم إلى رب الناس سبحانه.(442/9)
تفسير قوله تعالى: (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون)
قال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزخرف:7]، أي: أن كل مجموعة، وكل قوم، وكل أمة يبعث الله عز وجل إليهم رسولاً، فالعادة فيهم أن يكذبوا، وأن يعرضوا، وأن يسخروا، وسيذكر لنا في هذه السورة، قصة فرعون مع قومه، سخر منهم، وكيف استخفهم، وكيف أطاعوه، وكيف أهلك الله عز وجل الجميع، قال: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]، أي: في الأقوام السابقين {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف:7 - 8] يعني: هؤلاء الذين استهزئوا بك، كان من قبلهم فيمن هو أشد منهم قوة، قوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون، فأهلكنا هؤلاء، فهل نترك هؤلاء هكذا بغير أن نحاسبهم؟ قال: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8]، أي: مضى مثلهم، فقد ضرب لكم الأمثال، وذكركم بما جرى لهم، فاحذروا أن تصابوا بمثل ما أصيب به السابقون.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(442/10)
تفسير سورة الزخرف [6 - 11]
أرسل الله تعالى إلى الأمم الغابرة رسلاً كثيرة، وبين أن العادة الغالبة على الكفار في سلوكهم مع رسل الله تعالى هي الاستهزاء والتكذيب والإعراض فكان مصيرهم أن أهلكهم الله تعالى، وكذلك هذا مصير من استهزأ وكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين الله تعالى كيف أن هؤلاء المشركين يعترفون لله سبحانه بالربوبية ومع ذلك لا يفردونه بالعبادة، مع أنه خلق السماوات والأرض، ومهد الأرض وجعلها صالحة للسكنى، وأنزل المطر من السماء بقدر ما يحتاج إليه فأحيا به الأرض الميتة، أفلا يستحق من هذا شأنه أن يفرد بالعبادة؟ بلى والله.(443/1)
تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:6 - 11].
في هذه الآيات من سورة الزخرف يخبر الله سبحانه وتعالى أنه قد أرسل رسلاً كثيرين وعبر عن ذلك بقوله: وكم أرسلنا، أي: ما أكثر ما أرسلنا من أنبياء إلى قومهم يدعونهم إلى توحيد الله، وإلى طاعة الله سبحانه، ويعلمونهم أمر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك كانت العادة أن يستهزئوا برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهنا في هذه السورة المكية يثبت الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، ويثبت المؤمنين بأن هؤلاء الكفار ليسوا أول من كذب الرسل.
ولكن من قبلهم كفار آخرون ضرب الله لهم الأمثال وكفروا بالله عز وجل ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين فأهلكهم.
وكل إنسان إذا لم يتعظ ويعتبر بما جاء من عند الله؛ فهو عرضة لهذا الجزاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك يضرب الله الأمثال في القرآن، ويسوق القصص؛ لنتعظ ولنعتبر بما جاء فيها.
والنبي: نبأه الله سبحانه فأخبره بأمور من أمور الغيب، وأمره أن يعلم الخلق، وأن يأمرهم بطاعة الله سبحانه، وأن يخبرهم بما يغضب الله سبحانه، فيجتنبوا ذلك.
وقد أرسل أنبياء كثيرين منهم: من كان نبياً ورسولاً، ومنهم من كان نبياً فقط.(443/2)
القراءات في قوله تعالى: (من نبي)
والنبي فيه قراءتان: قراءة الجمهور: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6].
وقراءة نافع: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِئ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6].(443/3)
الفرق بين النبي والرسول
النبي من نبأه الله سبحانه، وأنزل عليه الوحي من السماء؛ ليأمره وينهاه، ويطلعه على أشياء من الغيب، ويأمره أن يعلم قومه.
أما الرسول فهو من جاء بشرع جديد، وله كتاب من الله عز وجل، ومأمور بتبليغ وتنفيذ هذه الشريعة من عند رب العالمين.
فالله أرسل أنبياء كثيرين، وقد ذكرنا أنهم جاوزوا الأربعة والعشرين ألفاً، أما رسل الله عز وجل فهم ثلاث مائة، أو يزيدون قليلاً.
ففي كل فترة يبعث الله عز وجل نبياً أو رسولاً يهدي قومه إلى دين الله سبحانه، ولكن السابقين ما كان يأتيهم من نبي إلاَّ كان الأصل عندهم تكذيبه والاستهزاء به.
ولما يخبرنا الله عز وجل بذلك يريد أن يثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يثبت كل من يدعو إلى الله سبحانه، ويعلمه بأن طريق الدعوة إلى الله لن تكون ممهدة، ومفروشة بالورود، وإذا لم يكن ذلك للأنبياء والرسل فكيف بمن دونهم.
فهي طريق فيها الصعوبة، والشدة، وفيها المقابلة بالاستهزاء، وفيها المقابلة بالإنكار.
فقد جوبه الأنبياء بذلك حتى مكن الله عز وجل دينه، ونصر رسله كما قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] أي: ينجي الله عز وجل من يشاء من عباده المؤمنين، ويهلك من يشاء من المجرمين، فإذا أتى أمر الله لا ينفع هؤلاء شيئاً بعد ما كفروا وأعرضوا، واستهزءوا بالرسل.
فالمؤمن يثبته الله بأمره بالصبر، وأنه سيأتي نصر الله يوماً من الأيام، فلا يعجل.
والمطلوب منه الأخذ بالأسباب، والنتيجة ليست عليه إنما على الله سبحانه وتعالى.(443/4)
تفسير قوله تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا)
قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8] أي: أشد من هؤلاء الموجودين وهم أبو جهل وأتباعه، وأعوانه، فالسابقون من قوم نوح، وقوم عاد، وثمود كانوا أطول أعماراً وأعظم أجساماً، وأكثر أموالاً، وأشد قوة فأهلكناهم، وكذلك نفعل بهؤلاء.
والبطش: الإمساك بالشيء والمغالبة عليه، فهؤلاء غالبوا وأرادوا أن يبطشوا بالرسل ويقتلوهم لكن الله، عز وجل أهلكهم.
قال تعالى: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8] أي: مضى سلفاً في كتاب الله سبحانه أن ضرب لك الأمثال عن هؤلاء السابقين، وأخبرك عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط وعن أصحاب الأيكة وعن قوم إبراهيم، وعن قوم فرعون.
فقد مضت أخبار وقصص هؤلاء السابقين في كتاب الله عز وجل وقد علمت ما حاق بهم، وما نزل بهم من عند الله سبحانه وتعالى.
والمثل أيضاً: العقوبة والعذاب فالمعنى: مضى ما أخبرناك من تعذيب هؤلاء قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
والفائدة من ذكر الأولين العبرة قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات:26] أي: إن في ذلك لموعظة وذكرى للمؤمنين.
وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: اعتبروا وقيسوا أنفسكم على هؤلاء، فهؤلاء بغوا في الأرض وعلوا، وطغوا على رسل الله واستكبروا، فكانت النتيجة أن أهلكهم الله ومضى مثل الأولين.
فإذا جاء هؤلاء وصنعوا صنيعهم كانت النتيجة إهلاكهم وإدخالهم النار.
وكذلك إن كنتم من المؤمنين المصدقين؛ فنتيجة سلوك طريق الإيمان الجنة.
ثم يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين لا يعقلون، ولا يتفكرون ويهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفهمون، ويجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي: نعجب لأمره سيجعل كل الآلهة من اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغيرها إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب.(443/5)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)
يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
أي: لو سألت هؤلاء الجهلة الكفرة: من الذي خلق السماوات والأرض؟ ليقولن معترفين: إن الذي خلق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى الذي من أسمائه العليم العزيز.
وقوله تعالى: ((ليقولن)) فعل مضارع سبقه لام التوكيد وفي آخره نون التوكيد الثقيلة وهذا يدل على وقوعه جواباً للقسم، يعني: والله ليقولن ذلك، وكأن المعنى: أنهم جزماً سيقولون ذلك إذا سألتهم: سواء نطقوا بألسنتهم، أم أعرضوا عن كلامهم، ففي قلوبهم يعرفون أن الذي خلق السموات وخلق الأرض هو الله العزيز الغالب.
ولذلك كان يتهكم بهم حسان رضي الله عنه ويقول: زعمت سخينة أن تغالب ربها وليغلبن مغالب الغلاب وسخينة: المقصود بها قريش، كانوا إذا استهزئوا بهم قالوا لهم ذلك: فالذي يريد أن يغالب ربه سبحانه وتعالى فهو المغلوب.
وهم يعرفون أن الله عزيز غالب على أمره، و (العزيز) هو القوي الذي لا يغلب ولا يمانع.
و (العليم) الذي يعلم كل شيء ويعلم السر وأخفى.
وكأنه يقول سبحانه اعجب لهؤلاء الجهلة حين يقولون: إن الخالق هو الله القوي الغالب علام الغيوب سبحانه، ومع ذلك يعبدون غيره.
فإذا سئلوا: هل هذه الآلهة تنفع أو تضر؟ قالوا: لا تنفع ولا تضر، لكن نعبدها من أجل أن تقربنا إلى الله.
فإن قيل: لماذا لا تعبدون الله مباشرة بدل أن تعبدوا هذه الآلهة؟ قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
فهؤلاء الذين يتعجبون لمثل هذا الشيء ليست لهم عقول ولا أفهام.
لكنهم يريدون خداع النبي صلى الله عليه وسلم ويبررون جهالتهم وكفرهم، وشركهم بالله بهذا التهكم الذي يقولونه.(443/6)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً)
قال في وصف الله العزيز العليم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: مهد لكم خلق هذه الأرض فجعلها مهداً.
وفي قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف:10] قراءتان: قراءة الكوفيين ((مهداً)).
وقراءة باقي القراء: ((مِهَاداً)) أي: مهدها لكم وجعلها كالفراش فتقفون عليها وتجلسون وتنامون عليها.
وهذه الأرض التي خلقها الله مكورة لو صغر حجمها لا يستقر الناس عليها، ولكن ضخمها سبحانه وتعالى ثم مهدها وجعل فيها ما هو مرتفع، وما هو منخفض ومستوٍ؛ حتى تسيروا عليها، وجعلها كفاتا تجمعكم أحياءً وأمواتا.
قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [الزخرف:10] أي: جعل لكم طرقاً تسلكونها حتى تصلوا إلى أعمالكم، وإلى تجاراتكم وتسلكونها في أسفاركم وغير ذلك.
قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: تهتدون أن الذي دلكم على ذلك، وأن الذي خلق لكم ذلك هو الذي له النعمة عليكم، وله الفضل عليكم؛ فاعبدوه وحده لا شريك له.(443/7)
تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماءً بقدر)
قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] أي: الذي نزل المطر من السحاب.
وقد جعل الله عز وجل لهذا الماء دوره في الكون يصعد من الأرض إلى السماء وينزل من السماء إلى الأرض وكل ذلك بقدر الله.
فالشمس تبخر كمية معينة من هذه المياه ولو شاء الله لأدنى الشمس إلى الأرض فبخرت الماء كله فصعد إلى السماء ولكن جعل البعد بمقدار، كما قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] وهذا الماء المبخر يصعد إلى السماء بقدر.
ولو أن الله عز وجل لم يخلق الرياح لسوق السحاب لنزل المطر في نفس المكان ولم يستفد به أحد.
ولكن الله العظيم سبحانه خلق الرياح لتحرك السحاب حيث يشاء الله عز وجل ثم يأمر بنزول الماء على من يشاء من خلقه سبحانه بقدر، قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف:11].
ولو شاء الله تعالى لفتح السماء فنزل الطوفان وأغرق المكان الذي ينزل فيه.
ولو شاء الله عز وجل لصرفه فأصبح الناس لا يجدون شيئاً.
ولكن الله بفضله ورحمته جعل هذا الماء ينزل من السماء قطرات لا تؤذي خلق الله سبحانه؛ فيغيثهم به وينبت لهم الزرع وينفع به بهيمة الأنعام ومن يشاء من خلقه سبحانه.
فهذا الماء الذي نزل من السماء، وهذه الأرض الذي تزرعونها لا تعرفون عنها إلا ما علمكم الله سبحانه.
فقد خلق دواباً في الأرض لتنتفعوا ومن ذلك: دود صغير يأكل تراب الأرض لكي يفكك أجزاء التربة، فإذا نزل المطر عليه انتفع به الإنسان فينبت النبات.
فخلق الله هذه الدابة لتخدمك وأنت لا تراها.
فمن كفران هذه النعم أن يعرض عنها الإنسان ويعبد غير الرحمن سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ} [الزخرف:11] أنشر بمعنى: أحيا.(443/8)
القراءات في قوله تعالى (بلدة ميتاً كذلك تخرجون)
وفي قوله تعالى: {بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] قراءتان: قراءة الجمهور: ((بلدة ميتْاً)).
وقراءة أبي جعفر: {مَيِّتاً} [الزخرف:11].
وكذلك في قوله: ((كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)) قراءتان: قراءة الجمهور ((تُخْرجون)).
وابن ذكوان عن ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف: {كَذَلِكَ تَخْرُجُونَ} [الزخرف:11] والمقصود هنا: تخرجون من الأرض يوم القيامة إلى محشركم، فكما أخرج النبات من الأرض وأحياها بعد موتها؛ كذلك يحييكم بعد ما تكونون تراباً رميماً وعظاماً.
والله سبحانه هو الذي خلق الأزواج كلها، وخلق من كل شيء زوجين: من الإنسان ومن الأنعام وحتى من النبات، وخلق الكفر والإيمان فكل هذه الأصناف والأنواع من خلق الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} [الزخرف:12] أي: من السفن، {وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12].
قال في آية أخرى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فدلكم الله سبحانه وتعالى على فوائد هذه الأشياء، فركبتم الخيل والبغال والحمير، وخلق لكم وعلمكم كيف تصنعون السفن فركبتم عليها، وعلى السيارات، وركبتم ما خلقه الله عز وجل لكم.
فاستووا على ظهوره، واشكروا نعمة الله الذي هداكم لذلك لعلكم تشكرونه وتعبدونه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(443/9)
تفسير سورة الزخرف [9 - 14]
يذكر الله تعالى في سورة الزخرف اعتراف العباد سواء كانوا مؤمنين أو كافرين بأن الله هو الخالق والرازق، ولكن من الناس من يضله الله فيشرك مع الله إلهاً آخر، ثم يذكر الله سبحانه وتعالى بعض نعمه على عباده، ويعلمهم دعاءً يقولونه أثناء الركوب على الدابة، ليعلم الإنسان أنه إلى ربه منقلب وراجع.(444/1)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:9 - 14].
في هذه الآيات من سورة الزخرف يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قدرته العظيمة على الخلق والإيجاد، التي عرفها الخلق جميعهم المؤمنون منهم والكافرون أيضاً، فلئن سألت هؤلاء الكفار الذين يشركون بالله سبحانه: من خلق السموات والأرض؟ لاعترفوا بأنه الله سبحانه، سواء صرحوا بذلك بألسنتهم أو أنهم أخفوا وكذبوا فيما يقولون، وقد جعلوا صفات الله العظيمة لغير الله سبحانه كما يقول الملحدون: الطبيعة خلقتنا، الصدفة أوجدتنا, فإذا سئلوا عن هذه الطبيعة وهذه الصدفة التي توجد: هل فيها قوة؟ هل عندها علم؟ هل لها صفات الإيجاد؟ فأعطوا هذه الطبيعة وهذه الصدفة قوة الله وقدرة الله وصفات الله سبحانه وتعالى, فهربوا من أن يقولوا: الله، وقالوا: غيره، وأعطوا لغير الله عز وجل الذي لا يكون إلا لله سبحانه, فهم إن أظهروا وقالوا: الله الذي يفعل ذلك اعترفوا وقالوا الحق, وإن أضمروا فقد كذبوا في الظاهر، ولكن الله يشهد على ما في قلوبهم من أنهم يعرفون الله سبحانه ولكنهم يجحدون آياته سبحانه وتعالى.
وكان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون ويقرون، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، بل كان أحدهم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقسم عليه ويقول: إني سائلك ومشدد عليك -يعني في السؤال- ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك بالذي خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق البحار، آلله أرسلك؟ فهم في كفرهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق الأشجار، وخلق البحار، وخلق الأنهار، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] , فكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, وإذا سألهم صلى الله عليه وسلم: من الذي خلقهم؟ ومن الذي يرزقهم؟ ومن الذي يرجون نفعه وضره؟ أخبروا أنه الله الذي في السماء سبحانه وتعالى, فالاعتراف بأن الله هو الرب القادر لم يكن المشركون يجادلون فيه، ولم يكن هناك جدال في أن الرب قادر وخالق وواحد، وأنه على كل شيء قدير، لم يكن عندهم خلاف في ذلك, إنما كان كلامهم ومخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في أنهم من يعبدون؟ هل يعبدون هذا الرب العظيم الذي خلق وأوجد وقدر وعلم أو يعبدون غيره؟ فكانوا يعبدون غيره؛ لأنهم يقولون: هي التي تقربنا إلى الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علو كبيراً, فهنا القرآن يشهد عليهم بأنهم أقروا بذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] علموا أن الله عزيز وأن الله عليم ومع ذلك عبدوا غيره سبحانه.(444/2)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً)
قال الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10].
من آيات قدرته سبحانه وتعالى، ومن عظيم نعمته، ومما تفضل به على عباده، أن رحمهم وأراهم رحمته: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا)) أي: سواها لكم وجعلها مستوية تقدرون على أن تقفوا فوقها، وعلى أن تناموا عليها، وعلى أن تقعدوا وتسيروا وتذهبوا في فجاجها، سواها لكم ومهدها لكم وفرشها لكم، ومنعها من أن تميد بكم بما جعل فوقها من جبال رواسٍ.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [الزخرف:10] أي: طرقاً تسيرون فيها وتذهبون إلى معايشكم، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: تهتدون حين تعرفون هذا طريق كذا، وهذا طريق كذا، فلم يدع الطرق جميعها طريقاً واحدة فيضيق عليكم، ولم يجعلها كلها مشتبهة فتضلون فيها، ولكن ميز لكم بين هذا وهذا؛ لعلكم تهتدون إلى طريقكم في ذهابكم إلى معايشكم، فإذا اهتديتم في الدنيا إلى معاشكم، كذلك تهتدون أن الذي جعل ذلك كله وخلقه وأوجده هو الله الذي يستحق العبادة، فلعلكم تهتدون لعبادته مما ترون من عظيم نعمه وآلائه وآياته سبحانه، ولعلكم تهتدون إلى ربكم سبحانه وتعالى فتعبدونه وحده.(444/3)
تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر)
قال الله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] فأرانا من آياته العظيمة سبحانه أنه نزل من السماء ماء بقدر، قال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] فهو ينزل الماء من السماء أطناناً، تنزل على العباد في كل لحظة أطنان من الماء، لو أنه كثفها فجعلها في مكان واحد ونزلت على العباد لكانت طوفاناً على العباد وأغرقتهم، ولكن الله بفضله الكريم سبحانه جعلها موزعة على شكل قطرات على العباد حتى لا يهلكهم بذلك, ولو شاء لأنزلها جليداً من السماء فدمر العباد وكسر رءوسهم به، ولكن الله برحمته سبحانه ينزل من السماء ماء مباركاً على العباد غيثاً لهم, وينزله لهم رحمة منه سبحانه وتعالى بقدر ما يحتاجون، وعلى القدر الذي لا يهلكهم به سبحانه وتعالى، إلا أن يشاء له شيئاً، والله على كل شيءٍ قدير.
وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا} [الزخرف:11] أي: فأحيينا.
قال تعالى: {بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] كما ترون الأرض الميتة يحييها الله سبحانه، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33] هذه الأرض الميتة أحياها الله سبحانه وتعالى، وأخرج منها الثمار، وأخرج منها الحبوب، ورأيتم كيف كانت مقفرة فصارت زاهرة مثمرة، تخرج ما فيها من ثمار، كذلك يخرج لله عز وجل أجسادكم وأبدانكم من الأرض بعد أن تموتوا وتذهب هذه الأجساد، وتذهبون إلى ربكم سبحانه، كذلك يحييكم مرة ثانية، قال: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] من قبوركم بعد أن صرتم رميماً وعظاماً.(444/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون)
وقال الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] أي: جميع الأصناف وجميع الأجناس، وجميع الأنعام، وجميع النعم، التي أخرجها الله سبحانه أنواعاً وأصنافاً وأجناساً، جعل لكم آية فيه، وجعل لكم نعمة فيه.
وقال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] أي: أوجد لكم وخلق لكم سبحانه وتعالى وهداكم في تفكيركم إلى أن تصنعوا هذه الأشياء، فجعل لكم الفلك تصنعونها، وعلم نوحاً كيف يصنع الفلك، فإذا بالعباد يصنعون كما صنع عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام, وهداهم الله إلى أن صنعوا السيارات والطائرات والصواريخ، وجعل لهم ما يركبونه سبحانه وتعالى، وسخر لهم ذلك حتى يذكروا نعمة الله، فسخر لنا الخيل والبغال والحمير، وجعلها لنا للركوب وجعلها لنا زينة، قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] سبحانه وتعالى, {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} [الزخرف:12] أي: السفن، {وَالأَنْعَامِ} [الزخرف:12] أي: بهيمة الأنعام، والأنعام تطلق على ثلاثة أشياء: على الإبل، وعلى البقر، وعلى الأغنام، فكأن هذا من العموم الذي يراد به الخصوص، فهنا الأنعام ليست كلها تركب، ولكن الذي يركب منها الإبل، وقد يركب الإنسان شيئاً آخر على وجه الندرة، ولكن لم يخلق لذلك ولذلك جاء في حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحراثة) بقرة تتكلم في الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ركب على بقرة، وبينما هو يمشي بها، إذا بالبقرة تلتفت إليه وتقول له: لم أخلق لهذا، إنما خلقت للحراثة، وليس للركوب، فتعجب الناس وقالوا: بقرة تتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت به أنا وأبو بكر وعمر) وما في القوم أبو بكر ولا عمر، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يري الصحابة قوة إيمان أبي بكر وعمر؛ لأن ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق، وما ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فإن تعجبتم أنتم فإن أبا بكر وعمر لا يتعجبان، وإنما يصدقان ذلك, قال: (آمنت به أنا وأبو بكر وعمر، وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي فقال له الذئب: من لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري) , وتعجب الناس ذئب يتكلم! قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت به أنا وأبو بكر وعمر وما في القوم أبو بكر ولا عمر)، هذا من الأشياء العجيبة والله عز وجل يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد جعل الحيوان أعجم لا ينطق ولا يتكلم، ولكن يرينا آية من الآيات سبحانه وتعالى أن ينطق هذا الأعجم، قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] فهاتان آيتان: بقرة تكلمت وقالت: لم أخلق للركوب، وهذا الشاهد في هذا الحديث مع هذه الآية أن الله عز وجل جعل لكم من الفلك والأنعام، وليس الأنعام جميعها بل جعل لكم (منها) أي: بعضها خاصة الإبل تركبونها دون غيرها، وهناك حديث رواه أبو نعيم في الدلائل عن أهبان بن أوس وهو صحابي وكان يلقب بمكلم الذئب, يعني: الذي كلمه الذئب ورد عليه، وحدثت قصة عجيبة لهذا الصحابي الفاضل يقول: (كنت في غنم لي، فشد الذئب على شاة منها) هذا الرجل سبب إسلامه أنه كان مع أغنام له، والذئب شد على شاة منها، أي: أنه أخذها وخطفها، قال: (فصحت عليه فأقعى الذئب على ذنبه يخاطبني) عجيب هذا الشيء! الذئب قعد على ذنبه مثلما يقعد الإنسان على مقعدته يكلمه ويقول له: (من لها يوم تشتغل عنها؟ تمنعني رزقاً رزقنيه الله تعالى؟ قال: فصفقت يدي) يعني: متعجب، ذئب يتكلم! هذا شيء عجيب وكان كافراً قبل ذلك وقال: (قلت: والله ما رأيت شيئاً أعجب من هذا، فقال: أعجب من هذا, رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات يدعو إلى الله قال: فأتى أهبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأسلم) , فهذه آية من آيات الله عز وجل، وليس كل الصحابة رأوا هذا الشيء، فآيات الله عز وجل لو أنها آية عامة وكذب بها الناس لأهلك الله عز وجل الناس وهذه عادة الله في عباده؛ أنه إذا أرسل آية للجميع فرأوها وعرفوها ثم لم يؤمنوا بها أتاهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، ولكن يُري هذا الآيات البعض من الناس، لتكون حجة على هذا الذي رآها.
ويخبر البعض أنه رأى الحصى يسبح بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) صلوات الله وسلامه عليه، ورأى بعضهم السحابة تظل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير، وعرفوا أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، ورأى بعضهم انشقاق القمر لما طلبوا آية من النبي صلى الله عليه وسلم يرونها، فأشار إلى القمر وانشق القمر فلقتين، فلقة أمام الجبل وفلقة وراء الجبل، ولكن كانت آيات للبعض وليست للجميع رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
فقوله سبحانه: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف:12] أي: الأجناس والأنواع والأصناف كلها، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] أي: ما تركبون عليه.(444/5)
تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره)
قال الله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: لتركبوا على ظهور الإبل، وعلى ظهور السفن، والسيارات وغيرها: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [الزخرف:13] إذاً: الإنسان لا يأخذ النعمة وينسى ربه سبحانه وتعالى، بل لابد أن تأخذ النعمة وتؤدي حق هذه النعمة عليك، بأن تشكر ربك سبحانه وتعالى.
يقول الله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا} [الزخرف:13] هاهو الله عز وجل علمكم ما الذي تقولونه حين تركبون الدواب وحين تركبون ما خلقه الله عز وجل لكم، قال تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] إذاً: هذه سنة الله سبحانه التي ذكرها في كتابه، وحين تركبون دابة من الدواب وحين تركبون على ظهور ما خلقه الله عز وجل لكم تقولون: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] يعلمنا ربنا سبحانه ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم الأذكار، وذكر الله عز وجل يقول الله عنه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فتذكر ربك سبحانه ليل نهار، وتذكر ربك وأنت في بيتك، وحين تأوي إلى فراشك، وحين تأتي إلى أهلك، وحين تدخل بيتك، وحين تخرج منه، وحين تذهب إلى المسجد، وإلى عملك، وحين تركب الدابة.
هذا الذكر الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية يذكرنا بأن سفر الإنسان سفران: سفر في الدنيا من بلد إلى بلد, وسفر آخر طويل إلى الله عز وجل حتى تصل إلى الجنة في النهاية، فيقول سبحانه: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، فحين تخرج من بيتك مسافراً وتريد أن ترجع إلى بيتك لا تنس بيتك الأصلي الجنة، التي أهبط منها آدم فترجع إليها مرة أخرى، وكما أنك في سفرك تتزود بطعام وشراب ونفقة، فتزود للسفر الأكبر حتى ترجع إلى الجنة بتقوى الله سبحانه، فيذكرنا الله عز وجل في كتابه دائماً بسفر الآخرة, فلما ذكر الله الحج قال: {وتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] ثم ذكرنا أننا مسافرون إليه، قال تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] , وعندما يذكرنا الله أنه أنعم على العباد وأنزل عليهم لباساً وريشاً قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] وعندما تذكر وأنت تلبس الثياب أن الله خلقها لك لتتزين بها وتتجمل بها، فتذكر لباساً هو أعظم من ذلك؛ لباس التقوى، قال الله عز وجل: ((ذَلِكَ خَيْرٌ))، فدائماً تستدل بما أوجده الله عز وجل لك على ما أخبرك عنه وغاب عنك من أمر الآخرة.
فقوله تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذا} [الزخرف:13] سبحان: مصدر ومعناها أسبح الله تسبيحاً؛ لأن هذه الكلمة تغني عن جملة؛ لأن أصلها تسبيحاً لله: وهو مصدر أغنى عن جملة أصلها أسبح الله تسبيحاً عظيماً، وبدل هذه الجملة كلها كلمة سبحان الله أي: أنزه الله وأقدسه، فهو الذي ينزه عن كل عيب ونقص وشين سبحانه وتعالى، وما أعجب خلقه سبحانه وتعالى! فهو خلق عظيم وعجيب، فالإنسان يركب هذه الدواب ليس بقدرته، ولكن الله عز وجل هو الذي سخرها له ليركب عليها، وهي أقوى منه بكثير, فالحمار يحمل ما لا يقدر الإنسان أن يحمله، فهو أقوى من الإنسان بكثير، فلو أنه غضب على صاحبه لعضه ورفسه وأهلكه، ولكن الله عز وجل يذلِله ويسخره، فلا يتسلط الإنسان ويتكبر فيسلط الله الحيوان عليه.
فلذلك الإنسان حين يركب الدابة عليه أن يذكر نعمة الله، وحين يركب على الحصان فلا يركب زهواً وفخراً وكبراً وخيلاء، أو يركب على الجمل فيرى نفسه أعلى من الناس وفوق الناس، فإن الله قد يكبه على وجهه، وكم من راكب ركب على جمل وعلا فوق الناس فإذا بهذا الجمل يعثر في الطريق في حفرة لفأر، وهذا من أشق الأشياء على الجمل، فلو أن حفرة فأر في الأرض وطئها الجمل لو قع الجمل، ويذكر العلماء قصصاً كثيرة في هذا المعنى، فيقول بعض أهل العلم في ذلك: يقول سليمان بن يسار: أن قوماً كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، وفيهم رجل على ناقة له رازم، أي: أنها بطيئة وضعيفة وهزيلة فكان يقول: إنها ناقة رازم، وليست محتاجة لهذا الذكر، أي: كل الذين يركبون الجمال يقولون: سبحان الذي سخر لنا هذا، لأن جمالهم عظيمة وقوية وجمله ضعيف، وهو الذي يمسكه، فهو ليس محتاجاً أن يقول: هذا الذكر، قال: أما أنا فإني بهذا لمقرن، قال: فقنصت به فدقت عنقه.
فالإنسان حين يغتر ويرى أنه قادر يسلط الله عليه ما يهلكه، وانظر إلى مروضي الثعابين والأسود والنمور في السيرك ترى العجب من هؤلاء، عندما يغتر ويحس أن الأسد تحت يده يتسلط عليه الأسد ويمزقه, وكم من مرة يركب على هذا الأسد ويضربه بالكرباج ويعمل فيه، فإذا به يفعل بصاحبه ما فعله به ويمزقه.
ورجل آخر يمسك التمساح ويلعب به، ويصل به غروره إلى أن يضع رأسه داخل فم التمساح، فإذا بالتمساح يطبق على رأسه.
فالإنسان حين يغتر ويرى نفسه أقوى ما في الكون، يسلط عليه هذا الذي يتقوى عليه، فلا تغتر وقل: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وقس على ذلك حين تركب السيارة، ولا تقل: هذه سيارة اشتريتها الآن وتنسى الله سبحانه وتعالى، فقد تسرع شمالاً ويميناً فإذا بها تدمر وتنقلب بصاحبها ويهلك ويهلك معه من خلق الله ما يعلمه الله سبحانه وتعالى، إياك والغرور, فالسيارة تسير برحمة الله سبحانه وتعالى فلا تغتر، وقل ذكر الله سبحانه وتعالى: فإن الذي خلق لها هذه القوانين التي تسير بها هو ربها سبحانه، والقادر على أن يسيرها بغير قوانينها هو الله سبحانه وتعالى, فلابد للسائق أن يقول: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(444/6)
تفسير سورة الزخرف [12 - 18]
امتن الله تعالى على عباده بخلق جميع الأصناف والأنواع، وجعل من تلك الأصناف الفلك التي تحمل الإنسان للسفر والتجارة، والأنعام التي يركب عليها ليبلغ حاجته، ومن تمام شكر نعمة الله تعالى أنه إذا استوى الإنسان على ظهر مركوبه تذكر تلك النعمة ونزه الله تعالى عن النقص والاحتياج إلى خلقه، لكونه هو الذي سخر تلك الدواب ولو لم يسخرها لما ستطاع الإنسان إمساكها وتذليلها.(445/1)
تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وما كنا له مقرنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:12 - 18].
يخبر الله تعالى أن من آياته الدالة على قدرته أنه خلق للعباد الأصناف التي يحتاجون إليها وسخر لهم الفلك، وسخر لهم الأنعام: منها ما يأكلون، ومنها ما يركبون، ومنها ما يستفيدون من أصوافها وأوبارها، وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، ويخلق لهم ما يعلمون وما لا يعلمون.
ويذكرهم أن إذا ركبتم هذه الأنعام التي خلقها الله سبحانه، وعلمتم أنكم وحدكم لا تقدرون عليها إنما يقدركم الله عز وجل على ذلك.
وقد أراكم كيف ذلل لكم الخيل والحمير، وكيف ذلل لكم الأنعام من الإبل والبقر والأغنام، وكيف صعب عليكم سياسة الأسود، والنمور وغير ذلك مما خلق الله عز وجل، وأراكم آياته في ذلك، ولو شاء الله لجعل المسخرة المذللة نافرة وحشية كما جعل غيرها كذلك، ولكن الله شاء بفضله ورحمته أن يسهل عليكم حتى تذكروا نعمة الله سبحانه، وتشكروه ولا تكفروه، ولا تغفلوا عنه سبحانه وتعالى وتقولوا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] أي: سبحان الله الذي جعل لنا هذه الأشياء تحت أيدينا مع قوتها العظيمة فنسوقها ونسوسها، ونركب عليها.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: نتبرأ من الحول والقوة، فنحن لا نقدر عليها ولا نطيق هذه الأشياء إلا أن يقدرنا الله عز وجل.
{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14] فيتذكر العبد أنه راجع إلى الله، وأن الله سائله عن هذه النعم ما الذي صنع فيها؟ فمن شكر الله سبحانه زاده قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذكر الذي يقولونه حين يركبون الدواب وهو: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون الحمد لله الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر).
وكذلك علمنا دعاء السفر وهو: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد).
وإذا رجع من السفر قال: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون).
كذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في سفره: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ويخبر أن الذي ينزل منزلاً ويقول ذلك: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله هذا) وهذا الذكر العظيم يقوله المؤمن بالليل وبالنهار، ويقوله إذا نزل منزلاً، ويقوله إذا خاف من إنسان أو من أي شيء.
فإذا قال ذلك لا يضره شيء بإذن رب العالمين سبحانه.
وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان في سفر وجاء وقت السحر قال: (سمع سامع بحمد ربنا وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار) فتذكر الله عز وجل حين تركب الدابة، وحين تنزل عنها، وحين تسير أو تقف، وحين تنام فيكون المؤمن في كل أحواله ذاكراً ولا يغفل عن ربه سبحانه وتعالى.
تذكر الله تعالى؛ لأنه الذي أعطاك القوة والقدرة والصحة، والعافية.
فإذا نمت فتذكر أن الله عز وجل هو الذي قدرك على أن تضع رأسك على الوسادة وتنام، وغيرك يضع رأسه عليها ولا ينام، فهذه نعمة من الله أنعمها عليك، وإذا أردت أن تعرف نعمة الله عز وجل عليك، فانظر إلى أهل الابتلاء.
وانظر لإنسان أصيب بالشلل في رجله كيف يمشي وقد أمسك العكاز في يده ويعد الخطوات، ونحن نذهب إلى المسجد وإلى السوق، لكن غيرنا ممن سلب الله عز وجل منه شيئاً، وجعله آية لغيره يفكر مائة مرة أين سيضع رجله فوق الرصيف ومن أين سينزل؟! فهذه من نعم الله سبحانه التي أمرنا أن نحمده عز وجل ونشكره عليها، فإذا سرت ذكرت أن الله هو الذي أقدرك على المسير.
وإذا أنفذت أمراً تفكر أن الله هو الذي قدرك على التنفيذ.
وإذ قمت من النوم ووجدت أعضاءك سليمة وغيرك محتاج إلى من يقيمه عرفت نعمة الله تعالى عليك.
ومعنى الذكر الذي كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وقت السحر اسمعوا كلكم نحن نثني على ربنا ونحمد ربنا ولا نكفره سبحانه وتعالى، وهو قد ابتلانا وأحسن فيما ابتلانا به.
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] فأعطاك النعم، وابتلاك بها لينظر أتشكره أم لا؟ وابتلاك بالمصائب لتصبر أم لا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحسن بلاءه علينا، واختبرنا فأحسن الاختبار، وأعطانا وأفضل علينا سبحانه.
ثم دعا ربه: (ربنا صاحبنا) أي: كن معنا دائماً.
والله مع جميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى، ولكن فرق بين معية ومعية، فالله يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فهو معهم برحمته وبتأييده، ومعهم بنصره، وفضله وتوفيقه.
والله مع الكافر رقيب عليه وشهيد ويحفظ أعماله.
فلذلك هنا يقول: ربنا صاحبنا أي: كن معنا بتوفيقك وفضلك ورحمتك وأعطنا من فضلك وبركاتك وبرك ورزقك ونعوذ بك من النار.
كذلك جاء في القرآن أن يقولوا عند ركوبهم: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] وسواء كان الركوب للدابة أو السفينة أو ما كان مثلها.
وكذلك تقول: {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29] وإذا تحركت قل: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41].
فاذكر الله تعالى في كل الأحوال: إذا صعد بك المركب أو السفينة أو الطائرة أو السيارة، وإذا كنت على مكان مرتفع واستشعرت فوقيتك فتذكر أن الله أكبر منك، وأكبر من كل شيء.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم (أنه إذا صعد ثنية أو شرفاً قال: الله أكبر، وإذا كان في نزول قال: سبحان الله)، وهذا ذكر عظيم ومناسب للحال التي هو فيها.
فالله سبحانه وتعالى لا ينقصه ولا يعيبه شيء فتنزهه بقول: سبحان الله أما الإنسان فيعيبه أشياء كثيرة فيصعد، ويأبى الله أن يرفع أحداً إلا ووضعه بعد ذلك، فلا يزال في الصعود والنزول في الدنيا إلى أن يدفن في التراب.
فإذا قال حين ينزل: سبحان الله أي: سبحان الذي شأنه كله عال وعظيم، ولا يحط من قدره شيء فلذلك ناسب في النزول أن تقول: سبحانه الله، ولذلك كان ذكر الركوع والسجود سبحان الله لكونهما هيئتي تواضع وذل.
أما أشرف الذكر في القيام فهو قراءة القرآن.(445/2)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً)
ثم قال الله سبحانه: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] جعل: لها معاني كثيرة في اللغة: منهم من ذكر عشرة معاني.
ومنهم من جعلها ثمانية عشر معنى.
فمن تلك المعاني: خلق، وصير، وحول، وسمى ووصف، وهذا معناها في هذه الآية.
فيكون معنى: (وجعلوا له) سموا لله تعالى من عباده جزءاً، فقالوا: الملائكة بنات الله.
قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:15] ويعنون بـ (جزءاً) أن الإنسان حين يملك الولد أو البنت يقول: هذا جزئي، هذا بعضي؛ لأنه من مني الرجل ومن بويضة المرأة.
فالابن جزء من أبيه وأمه وكسب لهما كذلك.
ولكي يبقى جنس الإنسان في هذه الدنيا جعل الله عز وجل له التناسل؛ لأن الإنسان ضعيف، ويأتي عليه الموت.
لكن الله القوي العظيم العزيز الدائم الحي القيوم سبحانه لا يحتاج إلى ذلك.
فإذا بالمشركين يدعون أن لله جزءاً أي: ولداً فيفترون عليه الكذب.
ومع ذلك ينسبون إليه ما تأنف مثله أنفسهم، وهن البنات.
فقال سبحانه وتعالى يكذبهم: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] لما قالوا: الملائكة بنات الله، كيف عرفوا ذلك؟ ولماذا اختاروا لهم صفة الأنوثة دون صفة الذكورة؟! ولماذا زعموا أن البنات لله عز وجل واختاروا لأنفسهم البنين؟! قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الزخرف:15] أي: عظيم الكفر والجحود، وكأن ذلك طبع جنس الإنسان إلا من رحم الله، ففي طبيعة كل إنسان شيء من الكفر، والكفر قد يكون كفر النعمة بأن ينسى المنعم العظيم سبحانه وتعالى، وينسب الفضل إلى غير الله.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15].
وقال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] فكل إنسان فيه شيء من كفر النعمة وجحودها، فإذا زاد وصل إلى الكفر بالله عز وجل.(445/3)
القراءات في قوله تعالى (وجعلوا له من عباده جزءاً)
في قوله تعالى: (وجعلوا له من عبادة جُزْءاً) أربع قراءات: هذه قراءة الجمهور.
ويقرؤها شعبة عن عاصم: (وجعلوا له من عباده جُزُءاً).
ويقرؤها أبو جعفر: (وجعلوا له من عباده جُزَّا) بحذف الهمزة.
وإذا وقف عليها حمزة قرأ: (وجعلوا له من عباده جُزَا) قال تعالى: ((إِنَّ الإِنسَانَ)) أي: جنس الإنسان فيه جحود بنعم الله عز وجل إلا من رحم الله سبحانه، ومن عصم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن عباده الصالحين.
قال سبحانه: {لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] يعني: وهذا كفر واضح بين في كل إنسان، ففي وقت المصيبة ينقم على القضاء والقدر، وفي وقت النعمة يغفل عن حمد الله وشكره سبحانه.(445/4)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] أم هنا الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة والتقدير: بل أاتخذ، أي: هل فعل ذلك الله سبحانه وتعالى؟! ومن أين عرفتم؟! هل شهدتموه أم أخبركم من تثقون به؟! وهذا الذي يقول ذلك على الله إذا جاءته أنثى وأدها ودفنها حية ثم يقول: هي من بنات الله.
ثم يزعم أن له البنين، فيشرف نفسه ويجعل لله ما يأنفه.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] يعني: هل اختار لكم البنين؟ وإذا كان لكم البنون فمن أين يأتي النسل بعد ذلك إذا رفضتم الإناث؟!(445/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً)
قال تعالى واصفاً حالهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [الزخرف:17] ففي الآية الأولى التصريح بالأنثى.
أي: إذا أخبر أحدهم أنه قد ولد له بنت اسود وجهه وتجهم وغضب، ثم يسكت ويكظم الغيظ وينوي الشر بقتلها.(445/6)
تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)
قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] كأن الإنسان إذا كان فيه نقص يحتاج إلى إن يكمله بشيء، فالرجل لا يحتاج إلى الحلية فيخرج للكسب والجهاد والعمل؛ لكونه كاملاً.
أما المرأة ففيها نقصان، ويعوض ذلك بالحلية والزينة والجلوس في البيت لتتزوج بعد ذلك.
قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] في وقت الاحتجاج ووقت الجدل ووقت الاحتياج إلى الرأي قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: (ناقصات عقل ودين) فذكر من نقصان الدين: (أن تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي) يعني: في وقت حيضها ونفاسها وهي في هذا الوقت المطلوب منها شرعاً ترك الصلاة.
أما نقصان عقلها ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فجعل شهادة الرجل بشهادة امرأتين).
فهنا يقول: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] يعني: أن نشأتها نشأة ترفه لا نشأة خشونة ودفاع وقتال، فهي مخلوقة لبيتها؛ ولتربية أولادها.
إذاً: هنا جعل الله عز وجل لها وظيفة، وجعل للرجل وظيفة أخرى، والعرب يريدون من يقاتل معهم، ومن ينهب الأموال، ومن يدافع عنهم؛ لذلك لا يريدون الإناث.(445/7)
القراءات في قوله تعالى (أومن ينشأ)
وفي قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] قراءتان: قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18].
وقراءة باقي القراء: (أَوَمَنْ يَنْشأ فِي الْحِلْيَةِ)) ومعنى القراءة الأولى: ينشئها غيرها، والثانية تنشأ هي أي: تتزين.
وفي هذه الآية دليل على أن الرجل ليس له التحلي والتزين، إنما الذي يفعل ذلك المرأة فلها أن تتزين بالذهب وبالفضة، وتلبس الحرير ووتتجمل.
أما الرجل ليس له ذلك إلا بالمقدار الشرعي الذي حدد له، فيلبس خاتم الفضة، أما أن يلبس أسورة أو أقراطاً في أذنه ونحو ذلك فهذا يحرم عليه.
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، وإذا فعل ذلك صار مخنثاً ملعوناً شؤماً على نفسه، وعلى من حوله، وعلى بلده.
فالرجل خلقه عز وجل قوياً وجعل فيه عقلاً كاملاً، والمرأة خلقت ضعيفة، وفيها نقص جبر بالزينة.
وللرجل أن يمتشط وأن يظهر أثر النعمة عليه إن كان له نعمة، أما أنه يتحلى ويتشبه بالنساء فهذا ملعون.
والعكس كذلك فالمرأة التي تتشبه بالرجال في خشونتهم وكلامهم ومشيتهم ولباسهم فهذه ملعونة (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(445/8)
تفسير سورة الزخرف [15 - 23]
ادعى الكفار أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! وليس لهم أثارة من علم، فقد كانوا يأنفون إذا رزق الواحد منهم أنثى ووصلت بهم الجاهلية إلى أن يدفنوها حية! وما ذاك إلا لنقص عقولهم وبعدهم عن خالقهم ومولاهم سبحانه.(446/1)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين على آثارهم مهتدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:16 - 22].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها أمر الكفار، وكيف أنهم جعلوا وسموا لله عز وجل من عباده جزءا، فقالوا: لنا البنون، وله البنات.
وادعوا أن الملائكة بنات الله، وافتروا عليه الكذب، وليس معهم أثارة من علم، على ما يدعونه، فوبخهم جل في علاه وحاشا له أن يتخذ الصاحبة أو الولد.
قال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] أي: جحود لنعم الله عز وجل عليه، فإذا تكلم عن ربه، تكلم بالكذب والافتراء مثل الذي يخرج من هؤلاء الكفار.(446/2)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] أي: هل فعل الله عز وجل ذلك؟ ومن أين لكم هذا العلم؟ وهل رأيتم الله سبحانه حين خلق الذكر والأنثى اصطفى لنفسه البنات وجعل لكم البنين؟(446/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً)
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17] أي: هذا حالهم، فقد كانوا لا يحبون أن ينجبوا البنات، فإذا جاءت البنت لأحدهم، أمر الداية التي ولدتها أن تذهب فتئدها وهي حية، وهذا الفعل يصوره الله عز وجل هنا، وقد صوره في سورة النحل، وذكر كيف يصنعون، فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل:58] أي: اربد وجهه، وعبس، وتغير.
{وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17] أي: كاظم للغيظ، ساكت عليه، وعلى نية سوء بهذه الفتاة.
{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59] أي: ساء حكماً هذا الحكم الذي يحكمون به، أن يأخذوا البنين ويفرحوا بهم، ويكون مصير البنات القتل، والوأد، ويدعون على ذلك أشياء هم فيها كاذبون، فقد يكون حدث من امرأة شيء مكروه لكن لا تعمم جناية امرأة على جميع النساء.(446/4)
أول من وأد البنات من العرب وسبب ذلك
أول رجل عربي وأد البنات هو قيس بن عاصم التميمي والسبب: أن ناساً أغاروا عليه وأخذوا حريمه، وماله، ثم إن الذي أغار عليه، أخذ بنته لنفسه، فلما تصالحوا أراد قيس أن يأخذ ابنته، فخيرها الذي أخذها، بين أن ترجع إلى أبيها أو تكون زوجة له، فاختارت أن تكون زوجة له، فأقسم أبوها أنه لن ينجب بنتاً بعد ذلك إلا ووأدها، بسبب هذا الذي حدث، وليس من حقه أن يصنع ذلك، ولا ينبغي أن نجعل جريمة امرأة جريمة جميع النساء.
ولذلك الكفار أخذوا هذه الحجة وتلقفوها منه، وصاروا يقولون ويزعمون أن البنات مصدر شر لهم، فهن لا عمل لهن، ولا يدافعن عن القبيلة، وإنما يكن عاراً على القبيلة، إذاً: فلا داعي للبنات.
{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:59] أي: يختفي من الناس؛ كأنما صنع عملاً منكراً حتى لا يسألوه ماذا أنجبت {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:59] بزعمه، {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:59] أي: على هوان عظيم وذل جسيم، أم يدسها إما هو بنفسه، وإما أن يأمر غيره أن يصنع ذلك.
يصور الله عز وجل في هذه الآيات حالة الجاهلية الجهلاء، كيف يصنعون ببناتهم، هذه البنت التي كانت لا قيمة لها عند أهل الجاهلية، وعند أهل الأديان الأخرى، فقد كانوا لا ينظرون إليها إلا أردأ النظرات، ثم جاء الإسلام فعززها، وكرمها، وجعل لها وظيفة كبيرة، هي تربية أبنائها، بحيث يخرج وهو يعرف كيف يتعامل مع الناس، ومع العمل، ومع الآلات، وكما قيل: الأم مدرسة إذا أعددتها أعدد شعباً طيب الأعراق فالأم مدرسة تعلم أبناءها، في بيتها الرجولة والأدب، فإذا بالناس يتركون ما جعل الإسلام للمرأة من مكانة عظيمة في بيتها، ويخرجونها إلى الطريق سافرة، حاسرة عن حجابها، متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، بل أشد من تبرج الجاهلية الأولى، فتنسى ربها سبحانه، وتنسى ما أمرها به في كتابه، وما أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، لقد نسيت نفسها، فتركها الله عز وجل منسية لا قيمة لها، مهما علت في الدنيا؛ لأنها في النهاية سترجع إلى ربها سبحانه فيسألها، لما فرطت؟ لما ضيعت؟ كنت راعية على أهلك، وعلى مال زوجك، وعلى بيتك، ثم ضيعت هذا كله لتخرجي للناس في الطرقات متبرجة، سافرة، تتركين الدين وتفعلين المعصية.
لقد عاب الله سبحانه على أهل الجاهلية، ووبخهم على ما كانوا فيه من وأد بناتهم، وهم في أنفسهم كانوا يعرفون أن هذا الفعل لا يجوز لهم أن يفعلوه، ولكنه الطمع في الدنيا فقد فضحهم الله عز وجل فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] أي: لئن كانوا يقتلون بناتهم خشية العار كما زعموا، فإن أكثرهم يقتلونهن خشية الفقر، ففضحهم الله عز وجل بهذه الآية.
فكان الإنسان يقتل ابنته إما لأنه فقير، أو لأنه يخاف من الفقر، فالله عز وجل يقول لهم: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] أي: ثقوا فإن الرزق من عند الله، وليس من عندكم أنتم.
وقد روي أن رجلاً من هؤلاء كانت امرأته تلد الإناث، فولدت أنثى فهجر البيت، وكانت أحكم منه وأعلم فقالت في أبيات شعر لزوجها الذي اعتزل البيت غضباناً منها؛ لأنها ولدت أنثى: ما لأبي حمزة لا يأتينا يبيت في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنين وهل سنأخذ غير ما أعطينا أي: أن الله سبحانه هو الذي يعطي ابنا أو بنتاً وسنأخذ ما أعطينا، فلماذا تصنع هذا الشيء؟ والأمر بيد الله سبحانه، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49 - 50] فالله عز وجل جعل لإنسان الذكور، وجعل لآخر الإناث، وجعل لثالث الذكور والإناث، وجعل الرابع عقيماً لا يلد والله عليم حكيم سبحانه وتعالى، وهذه هبة من الله، فإذا أعطاك الله شيئاً فاحمده سبحانه وتعالى، وافرح بقضائه وقدره.(446/5)
تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)
يقول سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
{يُنَشَّأُ} [الزخرف:18] أي: يربى في الحلية، فهم يقولون: لا نريد البنت؛ لأننا سنعطيها ونحليها، فإذا أتى وقت الجد لن تقف تخاصم وتجادل عنا، إذاً: لا تصلح هذه.(446/6)
قول الكفار أن الملائكة إناث قول بلا علم
قال سبحانه: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] ت أي: هم يأنفون أن تكون لهم بنات، لكنهم لا يأنفون أن ينسبوا لله البنات سبحانه وتعالى عما يصفون.
فقد قسموا بينهم وبين ربهم في الأموال وفي الأولاد، قال الله عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136].
أي: عندما يريدون أن يتصدقوا، يقولون: هذا لله أي: صدقة لله، وهذه لآلهتهم أي: لأصنامهم، ثم يأخذون التي جعلوها لله خالصة ويجعلونها لأصنامهم، ويقولون: الله غني عن ذلك، فهو لا يحتاج، لكن الأصنام محتاجة إليها، فهم يعرفون أن الأصنام فقيرة، لا تأكل ولا تشرب، لا تنفع ولا تضر، والله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك.
وفي الأولاد.
نظروا إلى البنات نظرة نقص فقالوا: البنات لله، ولنا الذكور، الذي يأنفون منه يجعلونه لربهم سبحانه فالملائكة الذين هم عباد، ولم يقل عابدات، فذكرهم بصيغة الذكور، هؤلاء يؤنثونهم ويقولون: الملائكة إناث، فالذي خلقهم هو أعلم بهم وليس هؤلاء الجهال الضلال.
قال: {وَجَعَلُوا} [الزخرف:19] أي: ادعوا، وزعموا، ووصفوا، وسموا، ((الملائكة الذين هم عباد الرحمن)) هذه قراءة الجمهور، أبو عمرو والكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقراءة الباقين: ((الذين هم عند الرحمن)) فالملائكة عند الرحمن، وليسوا عندكم أنتم، ولا ترونهم، إنما الذي يراهم هو الله سبحانه وتعالى، وشرفهم بالعندية، وأخبر أن هذا غيب، {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:19] يفعلون ما يأمرهم الله سبحانه وتعالى، ويجتنبون ما ينهى عنه، ولا يعصون الله أبداً.
{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] أي: يقول مبكتاً لهم هل حضروا خلق الملائكة حتى يقولوا ذلك؟! أم أنهم يفترون على الله الكذب؟ وهذه قراءة الجمهور.
وقرأها المدنيان: نافع وأبو جعفر، ((أأشهدوا خلقهم)) أي: هل أشهدهم الله عز وجل خلق الملائكة؟ فإذا قالوا: شهدنا، كتب عليهم ذلك، ويسألهم يوم القيامة، والسؤال هنا للتبكيت، وللتعذيب؛ لأنهم لم يشهدوا شيئاً، ولم يشاهدوا شيئاً، فإذا افتروا وقالوا: نعم رأينا الملائكة، إذاً سنكتب هذه الشهادة، ونعذبكم عليها يوم القيامة.(446/7)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)
وقالوا أي: هؤلاء الكفار: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] يحتجون بالقضاء والقدر، على وجه التهكم، والسخرية، يقول هؤلاء الكفار: نحن عبدنا الأصنام، وربنا يريد ذلك، من أجل ذلك تركنا، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] فأرجعوا الأمر لمشيئة الله عز وجل، وهذا كلام حق، أريد به باطل، فالإنسان قد يتكلم بالباطل، وهو يعرف أنه باطل، وقد يتكلم بالحق في غير موطنه وغير موضعه.
مثل الإنسان الذي يسرق، ثم يقول: لو شاء الله ما سرقت، نعم لو شاء الله لمنعك من ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى قدر أشياء في الغيب عنده سبحانه وتعالى، ومما قدره أن تكون لك مشيئة، واختيار، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فأنت في الوقت الذي تمد يدك على مال الغير، أنت مريد لذلك، وأنت الذي اكتسبت ذلك، والله يحاسبك على كسبك، وعلى اختيارك، فلا تحتج بالقدر، ولا تقل: قدر الله على ذلك، لكن أعد السرقة لصاحبها، وانظر هل سيمنعك الله من ردها أو لن يمنعك؟ فأنت حين تمد يدك على كوب الماء لترفعه، تعرف أنك أنت الذي تفعل ذلك، وتعلم أن الله قدرك عليه، وحين تضعه تعلم أنك أنت الذي تفعل، وأن الله قدرك عليه، لماذا احتججت عندما وضعته على فمك أن الله هو الذي فعل وعندما تركته أنك أنت الذي فعلت، لماذا احتججت في واحد احتجاجين.
والله شاء أن تكون لك مشيئة، فبمشيئتك واختيارك تكسب الخير، والشر، وهذا الذي يجزيك الله عز وجل عليه، فالكفار عندما يقولون: لو شاء الله ما عبدناهم، هذا كلام صحيح فالله عز وجل: {خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ولكن حين تعبد الأصنام، ألست مختاراً لذلك، وحين تترك ذلك، ألست مختاراً لذلك، هذا الاختيار الذي عندك هو من مشيئة الله عز وجل، وأن تكون مختاراً، شاء أن تكون مريداً، فالله عز وجل هو الذي مكنك من أن تفكر، وأن تعقل، وأن تمشي شمالاً أو يميناً، فعلى ذلك لا تحتج بالقضاء والقدر على المصيبة وعلى الذنب الذي تفعله.
فالإنسان متى يحتج بالقضاء والقدر؟ حين يتوب إلى الله عز وجل، يقول: قدر الله وما شاء فعل، ولكن وهو يفعل المعصية، يمد يده إلى الشر، ويقول الله يريد هذا الشيء، اترك الشر وابتعد عنه، وانظر هل تمنع أو لا تمنع؟ فأنت الذي اخترت، وأنت الذي فعلت، وأنت الذي تجزى على فعلك وكسبك.
فكأنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم عبادة الأصنام صحيحة، ولو لم تكن صحيحة لما تركنا الله، ولأنزل علينا عذاباً من السماء، قال الله عز وجل: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف:20] أي: هؤلاء جهلة، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] أي: هم يكذبون على الله سبحانه وتعالى، فإذا فعلوا الشر قالوا: ربنا الذي أمرنا بهذا، وإذا فعلوا الخير، قالوا: نحن الذي فعلنا هذا الشيء.
فالله سبحانه وتعالى يقدر الأقدار، ويدل العباد على الخير، والشر، وأنت باختيارك تختار وتكسب فيجزيك الله عز وجل على اختيارك، وعلى ما اكتسبته لنفسك.(446/8)
تفسير قوله تعالى: (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)
قال الله سبحانه: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف:21] بل، أي: هل أتيناهم كتاباً من قبله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21] أي: هل عندهم أثارة من علم، فليخرجوا هذا الكتاب الذي عندهم، الذي يدعون أنهم يشرعون لأنفسهم بناء عليه، إنهم، ليس لديهم كتاب، ولا متمسكين بشيء، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:22 - 23] أي: قالوا: سنتبع الآباء ونسير على هديهم؛ لأنهم أفضل منا.
والدين الإسلامي العظيم يقول للإنسان، اعمل عقلك الذي خلقه الله عز وجل فيك، وانظر فيما ينفعك وما يضرك، فهل هذا الصنم الذي عبدته وإن كان كل آبائك قد عبدوه، هل ينفعك أو يضرك، فإذا قال: لا ينفعني ولا يضرني، قيل له: إذاً لماذا تعبده؟ فيقول: من أجل أنه يقربني إلى الله عز وجل، فقيل له: إن الله سبحانه يقول لك: لا تعبده، لا تشرك بي، فلماذا تصنع ذلك؟ فيقول: لأن أبي كان كذلك.
ولذلك ذكر الله عز وجل قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] لماذا ذكر هذه القصة؟ لهذا السبب؛ لأنهم يقولون وجدنا آباءنا إذاً: أعظم آبائهم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإسماعيل الذي يفتخرون به، ويحجون البيت كل عام، ويقولون: ملة أبينا إبراهيم، فلماذا اتبعتم آباءكم الأقربين، وتركتم من تتشرفون به الذي وحد الله سبحانه، ولم يشرك به شيئاً.
فأبوكم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، تبرأ من هذه الآلهة والأنداد إلا الله سبحانه وتعالى.(446/9)
تفسير سورة الزخرف [20 - 25]
في هذه الآيات الكريمات من سورة الزخرف يذكر الله عز وجل أموراً فيها: شبهة احتجاج الكفار بالقدر، وذم التقليد للآباء والأجداد الذي يدعو إلى إلغاء العقل والنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أيضاً: يذكر الله عز وجل لنا هلاك الأمم السابقة المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم.(447/1)
شبهة الاحتجاج بالقدر والرد عليها
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:20 - 25].
يخبر سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الزخرف عن احتجاج الكفار بالأقدار.
قال تعالى على لسانهم: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) أي: لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة الأحجار والملائكة والأصنام، وهذا كلام حق أريد به باطل، فالله عز وجل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والله عز وجل خلق العباد فمنهم كافر ومنهم مؤمن، فالإنسان لا يحتج بالقضاء والقدر على ما هو فيه من المعصية، ولكن يقال له: ما يدريك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار؟! ما يدريك أنه يختم لك بالسعادة أو بالشقاوة؟! أنت الآن تقدر أن تفعل وأن تترك؛ فما يمنعك أن تترك هذا الباطل الذي أنت فيه وتفعل الخير؟! وما الذي يأمرك أن تحتج بالقدر على المعصية، وهلا تركت هذه المعصية وفعلت الخير واحتججت بالقدر على الخير الذي تفعله؟! لكن الإنسان يقول كلاماً يهرب به من حقيقة الأمر، فإذا وقع في المعصية يقول: الله أمرنا بها! والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، فهل أمركم الله عز وجل أن تعبدوا غيره؟! وهل أمركم الله سبحانه أن تقعوا في المعاصي؟! افعلوا الخير وقولوا: الله أمرنا به، أما أن تفعل الشر وتقع في المعاصي ثم تحتج بالقدر فليس لك ذلك؛ لأن لك اختياراً، والله سيحاسبك على اختيارك للخير أو اختيارك للشر.
قال الله تعالى: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به.
ثم قال تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي: يكذبون ويتقولون ويفترون على الله سبحانه وتعالى.(447/2)
إنكار الله على المشركين في عبادتهم غيره بلا برهان ولا حجة ولا دليل
قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21]، أي: هل آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ مثلما يقول النصارى: عندنا كتاب، ويقول اليهود: عندنا كتاب، فهل هؤلاء المشركون عندهم كتاب من عند الله عز وجل؛ حتى يقولوا: وأمرنا بعبادة الملائكة، أو بعبادة الأوثان.(447/3)
ذم التقليد الأعمى
قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، أي: ليس لهم فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا، وهذا هو التقليد الأعمى.
قال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: أنهم رأوا أن فعل الآباء هو الهدى، فهم يسيرون وراءهم قد أعموا أبصارهم وعيونهم، فلا ينظرون إلا إلى ما نظر إليه الآباء، فألغوا عقولهم، وما استخدموا دليلاً ولا نظراً ولا فكراً، وإنما قلدوا الآباء والأجداد، هذا التقليد هو الذي نهينا عنه، من أن الإنسان يمشي وراء غيره من غير أن يتفكر ويتدبر.
وقد أنكر الله على المشركين رفضهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم عقول يتفكرون ويتدبرون في هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، من هو؟! وهل كان يطلب ملكاً قبل أن يقول: إنني رسول الله إليكم؟! وهل كان هذا في يوم من الأيام أحد آبائه ملكاً من الملوك، فهو الآن يطلب ملك أبيه هذا؟! وهل كان يكذب قبل ذلك، أم كنتم تلقبونه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه؟! تنظرون في حاله صلوات الله وسلامه عليه أنه نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأتي بهذا القرآن العظيم، المعجز من عند رب العالمين سبحانه، فجاءكم وقال: أنا رسول من رب العالمين، فقلتم: إعطنا الآية التي تدل على أنك رسول؟! فأتاكم بهذا القرآن العظيم الذي تحداكم به، جاءكم بمعجزة من عند رب العالمين، وتحداكم بها، فهاتوا مثل هذا إن كنتم تقدرون؟! هلا أعملتم عقولكم في هذا الرجل الذي عاش بينكم، أربعين سنة لم يكذب قط صلوات الله وسلامه عليه، والجميع سواء الموافق والمخالف يشهدون له بذلك عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، فهنا مجال إعمال الفكر، وإعمال العقل بأن هذا الرجل لم يكذب قط، ولم يطلب ملكاً، وإنما هو رسول من عند الله عز وجل، أيده بالقرآن العظيم، ولم يقل هذا كلامي، وإنما قال: هذا كلام الله، وقد أمرني أن آمركم بالصلاة، وبالزكاة، وآمركم بعبادة الله وحده لا شريك له، فهو لا يقول ذلك من عند نفسه، وإنما يأمره ربه سبحانه تبارك وتعالى.
جاءكم بآيات بينات، وبشريعة عظيمة، وأخبركم بأشياء فكانت على ما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فلم لم تجدوا في كلامه كذباً قط، فإذا وعد صدق الوعد الذي يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الأمور التي أخبر بها صلوات الله وسلامه عليه فكانت على ما أخبر صلى الله عليه وسلم: هزيمة الفرس في بضع سنين، قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4]، فتحقق هذا الذي قاله ربنا سبحانه تبارك وتعالى على لسان نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فما أخبر بشيء أنه سيحدث إلا وكان كما يقول صلى الله عليه وسلم.
أتاهم بالآيات البينات والمعجزات التي تؤيده على ما يقول، فصدقه وآمن به من آمن، ودخل معه في دينه صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، أي: اتبعوا النبي صلوات الله وسلامه عليه مع النور الذي جاءه من عند رب العالمين، فأمرنا بالاتباع ولم نؤمر بالتقليد، والتقليد: هو أن تلغي عقلك وتسير وراء من تسير بدون دليل ولا حجة.
أما الاتباع فأنت تنظر في الذي جاء به، وتعمل عقلك في هذا الشيء، هل هذا فعلاً من عند الله، أم ليس من عند الله؟! فإذا عرفت أن هذا من عند الله، وأن هذا رسول الله لزمك أن تصدقه، وأن تتبعه صلوات الله وسلامه عليه فيما يأمرك به، فإذا قال: اعبد الله سبحانه ولا تشرك به؛ لزمك أن تنفذ ذلك، وإذا قال: انتهي عن المعاصي طاعة لله.
لزمك أن تنفذ ذلك.
أما هؤلاء المشركون فقد قالوا: إنا مقلدون، وسنسير على ما سار عليه آباؤنا، فهل كان مع آبائهم دليل وحجة على ما يقولون؟! وهل كانوا بشراً غير البشر، أو من نور، مخلوقين من غير ما خلقتم أنتم منه؟! لا، فآباؤهم مثلهم، فقد كانوا أهل ظلم وأهل عدوان وباطل، وكذلك هؤلاء وراء آبائهم فيما يفعلون.
إن كل إنسان يقول كما يقول هؤلاء ففيه جاهلية من جاهلية هؤلاء، وكذلك من يقول: أنتم أتيتم لنا بدين جديد؟! نحن نعمل هذا الشيء منذ زمن طويل، لذا فإن الكثيرين من الناس يقعون في البدع، ويقعون في أشياء ينسبونها للدين، والدين بريء منها، وحجتهم: (وجدنا آباءنا على أمة) أي: أن أهلنا كانوا يعملون هذا الشيء، فنحن نعمل مثلما يعمل الآباء والأجداد.
فالإنسان المؤمن لا يقلد الآباء إلا فيما كان معهم دليل من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاتباع اسمه: (اتباع) وليس تقليداً، وإنما التقليد الذي يكون بغير دليل، فلا أفكر، وإنما أمشي وراء هذا الشيء، لكن الاتباع معرفة الدليل الذي نسير وراءه؛ وأنه على الحق.(447/4)
موقف المترفين من دعوة الرسل
قال تعالى: {وكذلك مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، أي: أن التقليد ليس شيئاً جديداً، ولكنها عادة السابقين، وعادة أهل الباطل، فهو لا يريد أن يترك الباطل؛ لأنه مترف ومنعم وكبير بين قومه، فكيف يترك هذا الشيء لكي يكون وراءك؟ وبعد أن كان هو متبوعاً يصير متبعاً! قوله: (فِي قَرْيَةٍ) المراد بالقرية: البلد، والقرية من القري، والقري الجمع، وكأنه المكان الذي يجتمع فيه الناس، وكلمة (قرية) وإن كنا نطلقها على الريف، لكنها لغة تطلق على المدينة، وعلى البلد العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أهل القرى أي: مكة.
والمقصود: أن الله يخبر عن الرسل، وأنه ما من رسول يرسله الله عز وجل إلا ويكون من أهل القرى، يعني: من أهل البلدان، ومن أهل المدن، ليس من الريف أو البادية، وطباع أهل المدينة غالباً مع كثرة الناس والاحتكاك، تكون فيهم ذوقيات، وفيهم رجوع لرأي الأغلب، أما أهل البادية ففيهم الغلظة، وفيهم الشدة، وبعدهم عن المدينة، وبعدهم عن الناس يجعل كل إنسان يحس أنه لوحده ملك، وأنه لا شأن ولا أمر لأحد عليه، وهذا بعكس الاجتماع مع الغير، فإنه يهذب الأفكار، وينقي الآراء، وعندما تكون في مجموعة من الناس تتكلم، والثاني يرد عليك، والثالث يصوب الرأي، وهذا هو الحاصل في المدينة، أما في الريف: فيعيش الإنسان وحده في مزرعته، وفي حقله، بين غنمه وإبله، فيكون أغلب وقته مع هذه البهائم، فيحتاج لمن ينقي له عقله وتفكيره، ويتناقش معه ويصوب له آراءه؛ لأن المنفرد دائماً يظن أن رأيه الصواب؛ فلذلك قال تعالى: {(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، وأهل القرى يكون الناس كلهم يعرفونه ويرونه، أما إذا أتى لهم من البادية فسيقولون: لا أحد يعرفك، فمن أنت؟ من الذي كان معك؟ من يشهد لك؟ ولذلك من ضمن الأحكام التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها لا تقبل شهادة بدوي على حضري)، لأن البدوي مقيم في البدو، وفجأة جاء يشهد ويقول: أنا رأيت فلاناً يقتل فلاناً.
أين رأيته؟ فأنت الآن أتيت من البادية، فالكلام الذي يقوله محل نظر، أما إذا ثبت أنه عاش بيننا فترة، فنقول: شاهد، لكن أتى من هناك وجاء ليشهد، فهنا الشهادة لا تكون إلا من إنسان قد شاهد فعلاً، وإنسان موجود وسط الناس، بحيث نصدق ما يقول هذا الإنسان ونجد من يزكيه، فهذا الرسول الذي يكون من أهل القرى يجد من يزكيه من الناس، ويقولون: هو طول عمره مقيماً بيننا، فنرى منه الصواب، ونجد منه الرأي السديد، والنصح لنا، هو أمين بيننا، فهنا أهل القرى باجتماعهم يعرفون هذا الإنسان، ويمحصون ما يقول، فيشهدون له بصواب ما يقول، أو يخطئون ما يقول.
فقال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) ينذرهم بعقوبة الله عز وجل، إذا أصروا على معصيته، وعلى الشرك به سبحانه وتعالى.
قوله: (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) الغالب في الذين يصدون عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والدعاة إلى الله: هم المترفون، أي: الرؤساء والوزراء والكبراء من القوم؛ لأنهم وصلوا إلى ما هم فيه من الملك والسيادة، فلا يريدون أن يتزحزحوا عنه، ولا يريدون أن يتركوه، وإنما يريدون أن يبقوا فيه دائماً، فإذا جاءهم نبي أو رسول يدعوهم إلى الله، فإن أحدهم ينظر إلى نفسه ويقول: بعدما كنت أنا الرئيس وأنا الوزير وأنا الكبير، تأتي أنت فتقول لي: اعمل واعمل، وأكون تابعاً لك! فيرفضون الانقياد لدعوة الإسلام، وكأن تنعم الإنسان في النعم يدفعه إلى الغرور، وإلى الكبر، وإلى البعد عن طاعة غيره، فهو لا يريد أن يسمع لغيره، فقد صار كبيراً في نظر نفسه، وقد عرف ذلك هرقل عندما سأل أبا سفيان عندما كان عنده: أضعفاء الناس يتبعونه أم أغنياؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم وأبو سفيان فرح بهذه الإجابة، وكأنه يقول لـ هرقل: إنه لا يتبعه إلا حثالة الناس، والضعفاء منهم.
فقال هرقل: وكذلك أتباع الرسل.
وهو صادق فيما يقول، فقد كان رجلاً واعياً عاقلاً، وإن كان مات كافراً لأنه ضن برئاسته وبملكه من أن يدخل في الإسلام، ويترك هذا الذي هو فيه، لكن العشرة الأسئلة التي سألها لـ أبي سفيان تدل على ذكاء خارق وفهم واع لهذا الرجل، فهو قد أعمل عقله ونظره، فكان يسأل وأبو سفيان يجيب ويريد أن يشوه سمعة وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم في أي إجابة يقولها، ولذلك قال: ما وجدت شيئاً أقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا كلمة واحدة، ولكن الرجل لم يلتفت إلى كلامه.
ثم سأله هرقل فقال: هل وجدتم وعهدتم منه كذباً قبل ذلك؟ قال: لا، فهو لم يكذب قبل ذلك.
ثم سأله فقال: هل كان من آبائه ملكاً؟ قال: لا.
وسأله فقال: هل يغدر؟ قال: لا، ونحن معه في مدة لا ندري ما يصنع فيها -وكان ذلك في الحديبية- أي: أن بيننا وبينه الآن عهد، ويمكن أن يغدر في يوم من الأيام، فلم يأبه له هرقل، ولم يلتفت إلى كلامه، وإنما كان سؤاله عن الماضي، عن أربعين سنة عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا يحكم بما سيأتي، لأن هذا مستقبل لا يعلمه إلا الله عز وجل.
قال أبو سفيان: ما وسعني أن أدخل شيئاً إلا هذه الكلمة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أخبر عن هذا الذي جرى بينه وبين هرقل.
فالغرض: أن الله تبارك وتعالى جعل للإنسان عقلاً يفكر به في هذا الذي يكلمه، هل هذا الإنسان يتكلم بصدق، وبأمانة، وبإخلاص؟ أم أن هذا الإنسان يريد منصباً، ومكانة، ومالاً؟ والله عز وجل يرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون الخلق إلى عبادته، فيتبع الرسل الضعفاء، ويبتدئ الدين بقلة، ثم يزيد قليلاً قليلاً كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) بدأ الإسلام غريباً برجل واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد الإسلام فدخل فيه أبو بكر، ودخل علي، ودخلت خديجة، وزاد وزاد حتى ملأ نوره الآفاق، وسيرجع مرة أخرى قبل قيام الساعة إلى الغربة، فيصير المسلم غريباً في قومه، فإذا جاءهم بسنة قالوا: أنت مبتدع، وإذا جاءهم بدين الله سبحانه تبارك وتعالى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على غير ذلك، فيرجعون للجاهلية مرة ثانية، وانظر في عادات وتقاليد بعض الناس، فإنك إذا قلت: هذا خطأ.
فإنه يقول لك: نحن نعمل هكذا منذ زمن طويل، فهل ستأتي لنا بدين جديد؟! لأنهم لم ينظروا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإنما قلدوا كما قلد أهل الجاهلية، قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} [الزخرف:22]، وكأنهم يقولون: الهدى والحق مع الآباء والأجداد، وليس لنا دخل بغيرهم.(447/5)
إتيان الرسل بما هو أهدى مما عليه الآباء والأجداد
ثم قال الله عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24].
قوله: (قال) فيها قراءتان: الأولى: (قال) وهي قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم.
الثانية: (قل) وهي قراءة باقي القراء.
قوله: (أولو جئتكم) فيها قراءات: الأولى: قرأ الجمهور: (أولو جئتكم).
الثانية: قرأ أبو عمرو: (أولو جيتكم) الثالثة: قرأ أبو جعفر: (أولو جئناكم)، بالنون.
قال تعالى: (بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) أي: أولو جئتكم بالهدى من عند الله عز وجل بدلاً من هذه الضلالات التي وجدتم عليها آبائكم، ولكن دائماً الرؤساء والكبراء وليست عندهم حجة أصلاً حتى يردوا ذلك، فهم لا يريدون أن يتعبوا عقولهم في هذا الشيء، ولا يريدون أن يظهروا أمام الناس أنهم قليلوا الحيلة وضعفاء التفكير، فلذلك يقولون: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، أي: لا نريد أن نسمع هذا الذي تقوله لنا، فنحن كافرون بما تدعو إليه.(447/6)
إهلاك الله للأمم المكذبة
وعندما وصل الأمر إلى ذلك قال الله عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:25]، أي: استحقوا الانتقام والعذاب من الله عز وجل، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، ومنهم من أرسل الله عز وجل عليهم {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، ومنهم من أهلكهم الله عز وجل بالقتل والسبي والقحط ونقصان المطر والماء، يفعل الله عز وجل ما يشاء.
قال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25]، أي: انظر كيف كانت النهاية والعاقبة لهؤلاء المكذبين، وكيف أن الله أهلكهم وآباءهم، وكيف نجى المؤمنين، فلا تفرح حين تنظر إلى إنسان ظالم قد أعطاه الله عز وجل الدنيا، وإنما انظر إلى العاقبة والنهاية لهذا الإنسان الظالم، وكيف يصنع الله عز وجل به، وكيف يهلكه سبحانه تبارك وتعالى.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(447/7)
تفسير سورة الزخرف [23 - 32]
ذكر المولى سبحانه قصة إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام حين تبرأ من عبادة غير الله تعالى، وأعلن براءته أمام أبيه وقومه دون خوف أو خجل، وذكر لهم أنه لن يعبد إلا من فطر خلقه وابتدأه على غير مثال سابق، فهو الذي سيهديه ويرشده، ومن تمام نعمة الله تعالى عليه أن جعل هذه الكلمة والبراءة في عقبه وأهل بيته فكثر منهم الأنبياء والصالحون، أما مشركو قريش فقد متعهم الله وأنعم عليهم، فبدلاً من أن يصدقوا رسوله تعنتوا وتكبروا واقترحوا أن يكون غيره هو الرسول، وذلك هو الجحود والطغيان.(448/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:26 - 32].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآيات السابقة عن حال الكفار وأنهم مقلدون لآبائهم الذين ضلوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
قال الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
أي: أن عادة الكفار في كل زمان إذا أرسل الله عز وجل إليهم من يدعوهم إلى توحيد الله، ويأمرهم بأن يطيعوا الله وينهاهم عن الشرك بالله كانت المقالة التي قالها الأولون، وتبعهم عليها الآخرون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
ثم يقول: كل نبي وكل رسول لقومه: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24].
أو قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24].
فسيجيبون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24].
كأنهم يقولون: مثلما أنت على دين نحن كذلك على دين.
فإن سئلوا من أين هذا الدين الذي عندكم؟ يقولون: وجدنا آباءنا على أمة.
فإن قيل: ما الدليل على أن آباءكم كانوا على هدى وكانوا على أمة؟ هل عندكم كتاب من عند الله؟ هل عندكم أثارة من علم بما تقولون؟ فيبهتون ولا يستطيعون الرد ويكون جوابهم التقليد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
ويقولون لرسولهم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24].
قال الله عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الأعراف:136] إذاً استحق هؤلاء أن ينتقم الله عز وجل منهم وأن ينتصر لدينه ولرسله عليهم الصلاة والسلام فانظر كيف كان عاقبة المكذبين؟ إن عاقبتهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة النار.
ولكن من هؤلاء الآباء الذين قلدوهم؟ الكفار من قريش كانوا يفتخرون بأن أباهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنهم من ذرية إسماعيل عليه السلام.
فيقال: ما الذي كان يفعله إبراهيم؟ وكيف كان يعبد الله سبحانه؟ وهل أشرك بالله سبحانه أم أنه جاء بالتوحيد الخالص؟ فإذا أردتم التقليد فليكن اتباعكم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلذلك ذكره سبحانه وتعالى بعدما ذكر قولهم السابق، وكأنه يقول: هذا إبراهيم عليه السلام من آبائكم لم تركتم اتباعه واتبعتم غيره؟! قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] وإذ هنا ظرفية زمانية بمعنى: حين، فكأنه قال: واذكر حين قال إبراهيم ذلك وتبرأ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قومه بقوله: إنني براء، أي: أنا بريء، وبراء مصدر، والمصدر إذا وصف به لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ولكن يكون على صيغة المصدر.
فالواحد يقول: براء وكذلك الإثنان، والجمع وإنما يتغير الضمير فيقول الواحد: أنا والجمع: إننا.
وبراء بمعنى: أتبرأ أعظم البراءة إلى الله سبحانه وتعالى مما تقعون فيه من الشرك بالله سبحانه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام البراءة لأبيه ولم يجامله ولقومه ولم يخش أحداً إلا الله.
ثم قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] وهذا استثناء قد يكون متصلاً وقد يكون منقطعاً، وعلى كلتا الحالتين فالمعنى صحيح.
فإذا جعلنا الاستثناء متصلاً صار المعنى: أنتم تعبدون الله وتشركون به فأنا بريء من كل هذه الآلهة إلا الله.
وإذا جعلناه منقطعاً فيكون المعنى أو التقدير: أنا بريء من كل ما تعبدونه، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، فتضمن (إلا) معنى (لكن).
وعلى كلا الحالين فإبراهيم عليه السلام يقول: أنا أعبد الله فقط، سواء عبدتم الله وغيره، أو عبدتم غير الله فأنا متبرئ مما تفعلون، فالله لا يقبل أن يعبد مع غيره وإنما يعبد وحده ويقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وحده لا شريك له.(448/2)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] أي: أنشأني وخلقني وابتدعني، ويقال: فطر الشيء إذا أنشأه لأول مرة، فالله عز وجل خلق الإنسان ليس على مثال سابق، ولكن أوجد الله سبحانه آدم عليه السلام على هذه الخلقة التي كانت من تراب ثم سواه بعد ذلك، وقد خلق السماوات، والأرض، وفطر ذلك كله وخلقه على نحوٍ بديع ولم يكن قبل ذلك إلا عدماً.
قال: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] أي: أن الذي يهديه هو الله وحده لا شريك له.(448/3)
تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] اختلف هنا في الجاعل هل هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ فيكون المعنى: أنه سنها لذريته من بعده.
أم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها ماضية في ذرية إبراهيم عليه السلام.
والصواب أن يقال: إنما قالها إبراهيم عليه السلام مرة ثم جعلها الله عز وجل في عقبه ومن خلفه بعد ذلك إكراماً لإبراهيم عليه السلام، فأدام الله بذلك دينه.
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} [الزخرف:28] هذه الكلمة هي كلمة التوحيد، والبراءة من الشرك بالله سبحانه.
فكل إنسان مؤمن يوحد الله سبحانه، لا بد أن يتبرأ من الشرك والكفر؛ ولذلك يقول الله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256].
ولا يصح أن يكون الإنسان مؤمناً بالله وبغير الله بل لا بد أن يكفر بالطاغوت وكل ما عبد من دون الله سبحانه، ويكفر بالأصنام، وبعبادة البشر، والملائكة، والجن، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له.
وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] هو معنى قول لا إله إلا الله، ومعنى قوله سبحانه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] العقب: النسل والذرية.
قال سبحانه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] أي: لعل الناس يرجعون إلى ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو لا إله إلا الله، ويرجعون إلى الله تائبين إليه، ويرجعون إلى دين الإسلام فيعبدون الله ولا يشركون به شيئاً.(448/4)
تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم)
قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] الله سبحانه وتعالى متع هؤلاء، فأعطاهم المال، والبنين، وأعطاهم من الدنيا ومن قبلهم متع آباءهم.
فالله عز وجل يعطي العبد المؤمن إكراماً منه، ويعطي الكافر إمهالاً له، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
فليس العطاء من الله عز وجل للإنسان دليلاً على أنه يحبه، ولكن يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من أحب سبحانه وتعالى.
قال: {مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ} [الزخرف:29] أي: أعطيتهم ما يستمتعون به، ويعيشون، ويتنعمون به، وكذلك أعطيت آباءهم من قبل.
قال تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] أي: إلى أن جاءهم من عند الله سبحانه وتعالى الحق وهو هذا القرآن العظيم، مع رسول مبين صلوات الله وسلامه عليه.
فوصف القرآن بأنه الحق، ووصف الرسول بأنه مبين عليه الصلاة والسلام، ورسول يعني: صاحب رسالة فقد آتاه الله عز وجل هذا القرآن رسالة منه؛ ليبلغها إلى الخلق جميعهم.
وقوله تعالى: {مُبِينٌ} [الزخرف:29] إما أن يكون، من بان، أو من أبان.
فبان بمعنى: ظهر، فهو رسول ظاهر جلي من نظر إليه عرف أنه الرسول؛ لأنه لم يكذب قبل ذلك قط، فمن المستحيل أن يترك الكذب على البشر ثم يكذب على رب البشر.
وكذلك قد جاء بمعجزات وبينات تدل على رسالته.
وإذا قلنا: من أبان، فالمعنى: أنه أفصح وبين، فهو مبين لنا هذه الشريعة وقد آتاه الله عز وجل جوامع الكلم، فينطق بالحق، وينطق بالكلام الذي يفهم والذي لا إشكال فيه، فهو مبين عن الله سبحانه، وموضح لكلام رب العالمين، ولذلك جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفصل القرآن العظيم وتبينه، فنحتاج إلى القرآن ومعه سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقيد ما يطلق فيه، وتبين ما أجمل، وتخصص ما عمم فيه.(448/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون)
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30] قال كفار قريش ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم مستيقنون أنه لم يتعلم سحراً أبداً، وأن هذا القرآن مستحيل أن يكون سحراً، ولكن لما لم يجدوا رداً على النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا وتشاوروا هل يقولون عنه كاهن؟ لكن الكاهن يعرف فلن يصدقوا.
أم يقولون: عراف؟ والعراف كذلك معلوم.
أم يقولون: كذاب؟ وقد علم الناس صدقه.
أم يقولون: مجنون؟ ولكنه أعقل الخلق.
فلما لم يجدوا شيئاً قالوا: إنه ساحر؛ لأنه يفرق بين الرجل وابنه، والمرأة وزوجها، فالمرأة تدخل في الإسلام وزوجها كافر ويفرق بينهما، ويعادي الابن أباه، لأن أحدهما مسلم والآخر كافر.
فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ساحر، كما قال قبل ذلك الكفار عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجعلوا ما جاء به من القرآن سحراً فكفروا به.
وقال الذين كفروا بعضهم لبعض: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31].
وقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فلو كان معهم حجة تقال لقالوها ولما أخذوا في هذا الكلام الباطل الذي لا يكون دليلاً ولا حجة على عدم أيمانهم فليس لهم حجة إلا العناد وتقليد آبائهم قال تعالى عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فرفضوا ما أتى به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأعرضوا عنهم وكذبوهم ورموهم بالسحر والكذب.(448/6)
علة كفار قريش في عدم إيمانهم
لقد تعللوا بكلام بارد، وسخيف وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] لماذا أنت نزل عليك القرآن؟ أما وجد غيرك حتى يرسله؟! فهم نظروا للرجل الذي نزل عليه القرآن ولم ينظروا لهذا القرآن نفسه، كمن يأتيه ساعي البريد برسالة فبدلاً من أن يفتحها ليطلع على مضمونها يقول: أما وجد غيرك حتى يرسلها معه؟ فهذا الكلام في غاية السفاهة وصاحبه خفيف العقل.
ثم على فرض أنه نزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، يعني: ذا مال وذا جاه وبنين فغناه لنفسه، وليس لك أنت، وماذا تعمل بغنى غيرك؟! إنما الذي يغنيك هو الله سبحانه وتعالى، إذا أخذت رسالته أنزل عليك البركات من السماء، وأخرج لك البركات من الأرض، ولكن لجهلهم وحماقتهم وتفاهة تفكيرهم قالوا ذلك.
ويقصدون بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة صاحب المال وعم أبي جهل الذي كان من أكفر خلق الله.
والذي من الطائف، عروة بن مسعود الثقفي.
و
السؤال
هل إذا نزل القرآن على أحد هذين الرجلين كانوا سيؤمنون؟
و
الجواب
لا، وإنما سيتعللون بأشياء تافهة لا معنى لها.(448/7)
تفسير قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك)
قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] يعني هل هم يتحكمون فيها؟ فانظر لجهلهم وتعجب من حماقتهم وغبائهم.
قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فالمعيشة نحن الذين قسمناها بينهم، وقسمنا الأرزاق.
وانظر لإنسان تجده يتكلم كلاماً جميلاً وفيه قوة وصحة وهو فقير بينما تجد آخر بطيء الكلام قليل الحيلة قد فتح الله له في التجارة وفي الرزق شيئاً كبيراً، فالله الذي قسم هذه المعيشة في الدنيا.
فإذا كان اللبق في الدنيا لا يقدر أن يغني نفسه فكذلك في الآخرة لا يستطيع أن ينفع نفسه إلا أن تداركه رحمة من ربه تعالى.
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32] أي: ليسخر بعضهم بعضاً فيعمل من لا مال له عند صاحب المال؛ ليعطيه منه.
فالله تعالى هو الذي جعل فلاناً يعمل عند فلان، وجعل الناس يحتاج بعضهم لبعض، ولا يوجد أحد يقدر أن يعمل كل شيء، بل كل في تخصصه؛ ليحتاج الجميع بعضهم لبعض.
فكأن الله تعالى يقول: فإذا كنا نحن الذي فعلنا بكم ذلك وقسمنا بينكم معيشتكم في الحياة الدنيا فهل ستقسمون أنتم رحمتنا؟! قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] يعني: في الدنيا، جعل هذا وزيراً، وهذا رئيساً وهكذا.
قال تعالى: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فالرحمة التي عند الله سبحانه من إنزال الكتب، وإرسال الرسل والجنة خير من حطام الدنيا الذي يزول، فاسألوها من الله تعالى؛ فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(448/8)
تفسير سورة الزخرف [29 - 38]
مما يدل على هوان الدنيا على الله أنه يعطيها من كفر به، فإن الدنيا مهما بلغت من العظم في عيون الخلق حقيرة دنيئة، ويكفي في حقارتها أنها زائلة، أما الآخرة الباقية فهي منحة الله لعباده المتقين، والمتقين فحسب، أما الغافلون فليس لهم في الدنيا إلا قرناء السوء، وفي الآخرة إلا العذاب المهين.(449/1)
تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة بعد المشرقين فبئس القرين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:33 - 38].(449/2)
النبوة رحمة الله يمنحها من يشاء
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها كيف أنه سبحانه متع الكفار في الحياة الدنيا، وأعطاهم فيها المال، والبنين، وإن كان لم يعط جميعهم، بل فتح على البعض وضيق على الآخرين، ولله سبحانه وتعالى الحكمة العظيمة في أن يعطي هذا ويمنع هذا سبحانه وتعالى.
فالكافر يريد الحياة الدنيا للدنيا، ولا ينظر إلى حساب ولا عذاب ولا آخرة، ولا ينظر إلا إلى ما يشتهيه فيها، والله عز وجل يقول: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29]، أي: جاءهم القرآن من عند الله، وجاءهم الرسول المبين الذي يبين لهم ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف:30]، من عند الله {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30].
لقد غرتهم الدنيا، وما هم فيه من نعيم، وغرهم الأمل، وغرتهم المناصب التي كانوا فيها فأنفوا أن يكونوا أتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولغرورهم وزعمهم بأنهم أصحاب رئاسة، فكيف يكونون أتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فكفروا برفض فكرة مجيء رسالة من السماء، وأخذوا يتشككون كيف جاءت على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم تأت على أحد آخر؟ فاعترضوا بغبائهم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم لغبائهم يريدون أن يختاروا من ينزل عليه القرآن! ويتساءلون لم لم ينزل على الوليد بن المغيرة؟ أو على ابن أخيه أبي جهل أو على رجل من الطائف كـ عروة بن مسعود أو غيره؟ لماذا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فاعترضوا على ربهم سبحانه وتعالى، وكذبوا نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، قال الله موبخاً لهؤلاء: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، أي: ليسوا هم الذين يوزعون النبوة على من يشاءون، بل النبوة رحمة من الله عز وجل، وكذا الدين رحمة من الله سبحانه، وكذا الجنة رحمة الله سبحانه، أفبعد ذلك يعترضون؟ فليس لهم أن يقسموا الدين والنبوة والجنة على من يشاءون، بل الله هو الذي يقدر معيشتهم قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، فإذا كانوا لا يملكون أن يقسموا حياتهم، ومعيشتهم، وأرزاقهم، أفيملكون أن يقسموا رحمة الله سبحانه وتعالى؟ بل نحن نتصرف في كل شئونهم {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، أي: جعلنا بعضهم رئيساً، وجعلنا بعضهم مرءوساً، ورفع بعضهم على بعض درجات؛ ليسخر بعضهم لبعض في الخدمة والعمل والصناعة وغير ذلك.
وهذا كله في الحياة الدنيا، لكن رحمة الله سبحانه خير مما يجمع الإنسان، ومن رحمة الله التمسك بدين الله، وهدى الله، وجنة الله، وكل ذلك خير من حطام الدنيا وما يجمع لها، إن الدنيا حقيرة كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافراً منها شربة ماء)، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى العظيم فقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33].(449/3)
تقدير الأرزاق على العباد رحمة بهم
قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:33]، أي: على الكفر، والمعنى: لولا أن يصير الناس كلهم كفاراً لأعطى الله الكافر كل شيء في هذه الدنيا، وهذا لبيان حقارة الدنيا، فإنه إذا أعطاها لمن لا وزن له ولا قيمة له عنده، فهي لا وزن لها أيضاً فمن رحمة الله سبحانه وتعالى، أنه لم يفتن عباده بذلك فيعذبهم، إذ أن الله إذا أراد أن يعذب الجميع؛ فتح عليهم الدنيا، حتى إذا أخذوها وظن أهلها أنهم قادرون عليها، {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، ولكن رحمة الله عظيمة واسعة، فقد أراد أن يكون من العباد مؤمنون فيدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، وأراد أن يكون فيهم الكفار الذين يستحقون عدل الله وعذاب الله سبحانه وتعالى.
قوله: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، أي: لأعطيناهم غنىً عظيماً، حتى يجعلون سقوف بيوتهم من فضة وفي قوله تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف:33]، قراءتان: فتقرأ البيوت بالضمة وبالكسر فيقرؤها أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب بالضم: {لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف:33]، وباقي القراء كـ ابن كثير، وشعبة عن عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف يقرءونها بالكسر {لِبيوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33].
وكذا قوله تعالى: {سُقُفًا} [الزخرف:33] فيه قراءتان: الأولى: قراءة نافع، وابن عامر، والكوفيين، على الجمع: {سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، والثانية: لباقي القراء {سَقفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، على الإفراد، والمعنى: سقفاً واحداً على جميع البيوت، وعلى قراءة الجمع سُقُفاً أي: لكل بيت سقفاً من فضة.
قوله: {وَمَعَارِجَ} [الزخرف:33]، المعارج الدرجات والمعنى: درجات يرقون ويصعدون عليها، ويشمل المعنى كذلك أن نجعلهم أصحاب مبانٍ عالية ومنابر مرتفعة.
قوله: {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، أي: يرتفعون إلى سطوحها مستمتعين بما يملكون من ذهب وفضة.
قوله: {وَلِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف:34]، أي: ولجعلنا أيضاً: {لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34]، أي: أبواباً من هذه الزخارف من الفضة ومن الذهب، ولجعلنا الأسرة التي يتكئون عليها من ذهب ومن فضة أيضاً.
ويدل إعطاء الله الكافر هذه المتع على أن هذه المتع حقيرة، ولولا أنها حقيرة لما أعطاها للكافر وحرم المؤمن، أما جزاء المؤمن فقد وصفه الله فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15]، وزد على ذلك أن لهم المغفرة والفضل والرضوان من الله، قال تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15] فهم ليسوا كمن متعه الله عز وجل متاع الحياة الدنيا ثم يكون يوم القيامة من المحضرين إلى عذاب الجحيم، فلا يستوي الإيمان مع الكفر.
قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34]، أي: يجلسون متكئين على الأسرة، وسرير الإنسان ما يجلس عليه، أو ما ينام عليه، وكأن هؤلاء غاية في الترفيه، فالله يرفعهم ويعطيهم أسرة عليها يجلسون ويتكئون، ويفتخرون وهم جالسون عليها.
وفي قوله تعالى: {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34]، قراءتان: الأولى قراءة الجمهور ((يَتَّكِئُونَ))، والثانية: قراءة أبي جعفر (يتكون).
قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:35]، الزخرف: الذهب، والمعنى يعطيهم الله ذهباً وزينة وزخارف ونقوشاً يستمتعون بها في الدنيا.
قوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ} [الزخرف:35]، أي: كل هذا الذي نعطيه {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، والحياة الدنيا لا قيمة لها، إذ هي أشياء حقيرة زائلة وهم كذلك زائلون، فلولا أن يفتن المؤمنون، ويقتدوا بهؤلاء الكافرين لجعلنا ذلك لهؤلاء.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، هذه قراءة عاصم، وقراءة هشام عن ابن عامر، وقراءة حمزة أيضاً، وقراءة ابن وردان عن أبي جعفر، وقراءة باقي القراء: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، والمعنى: ما هذا إلا متاع في الحياة الدنيا، أسلوب قصر معناه: مهما استمتعوا فهو في الدنيا فقط، ثم يصيرون إلى العذاب بعد ذلك.
قوله تعالى: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ} [الزخرف:35]، العندية هنا ليست عند الناس، بل عند الله، فالعاقبة للمتقين، أي: لأهل التقوى، ولأهل الإيمان، والإحسان، والآخرة يحتفظ بها سبحانه ويعدها لهم سبحانه وتعالى، {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]، أي: أن الجزاء الحسن والعاقبة الجميلة لمن اتقوا ربهم سبحانه وتعالى وخافوا من عذابه.
ولأن الدنيا ليس لها قيمة، فقد وبخ الله عز وجل من يحرص عليها، ومن يطمع فيها، وبمعنى ما ذكره الله سبحانه وتعالى في ذم الدنيا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).(449/4)
الغفلة سبب لتسلط أقران السوء على المرء
قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، قوله: العشى: ضعف البصر، والمعنى: أنه لا يستطيع الرؤية بالليل، فينظر في النهار ولا يرى بالليل، والذي يعشوا عن ذكر الرحمن، كأنه يتعامى ويتغافل عن ذكر الله تعالى ويغمض عينيه عن نور رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يريد أن ينظر في كتاب الله عز وجل، ولا أن يسمع لما يذكره به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يريد أن يستجيب، فغشى تغافل وتعامى عن ربه سبحانه وتعالى.
ومن يفعل ذلك يسلط الله عز وجل عليه الشياطين قال سبحانه: {نُقَيِّضْ} [الزخرف:36]، أي: نسلط عليه وهذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة بخلفه، وقرءها أيضاً يعقوب يقيض بالياء، أي: الله عز وجل يقيض له، {نُقَيِّضْ لَهُ} [الزخرف:36]، بنون الجمع التي تدل على العظمة والمعنى: الله عز وجل يفعل به ذلك، قال: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، أي: يسلط عليه، ويجمع عليه الشياطين، ويجعلهم مسلطين على هذا الإنسان الذي يريد الحياة الدنيا ويتعامى ويتغافل عن ذكر الله سبحانه، قوله تعالى: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، أي: صاحب له مقترن به لا يفارقه أبداً، فكل من يتغافل عن الله، ويترك ربه سبحانه وتعالى، يتركه الله عز وجل ويسلط عليه هواه، ويسلط عليه الشياطين لأنه غافل عن الله عز وجل.
وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} [الزخرف:37] أي: يصدون أولياءهم من المشركين والكفار والفجار، قوله: {عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:37]، أي: عن سبيل الحق، وعن طريق الله رب العالمين، قوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]، إن أعظم عقوبة من الله للإنسان في الدنيا، أن يسلط عليه نفسه وشيطانه، فيجعلانه يحسب أنه على الحق.
لأن الإنسان إذا فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، قد يتوب منها لشعوره بالذنب والإثم، أما الذي يفعل المعصية، وقد يقع في الكفر بالله، وهو يظن أنه على خير، وعلى الحق والصواب، فإنه قد عوقب بأعظم العقوبة ويبعد أن ينتهي عما هو فيه، ولذلك كان المشركون أيام النبي صلى الله عليه وسلم يقولون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وعن هذا الذي نزل عليه من السماء ما قاله تعالى مخبراً عنهم أنهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، أي: أنهم كانوا في غاية الغفلة عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم يظنون أنهم على الصواب، بل لشدة اعتقادهم بذلك يدعون على أنفسهم: يا رب أسقط علينا حجارة من السماء، إذا كنا نحن الكاذبين، مع أنهم لو تدبروا وتفكروا وأعملوا عقولهم؛ لعرفوا أنهم هم الكاذبون، وأنهم هم الكافرون، وأنهم مستكبرون عن دين الله رب العالمين، ومثل ذلك قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خيرا لأعطينا نحن إياه، قال تعالى مخبراً بقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: طالما أننا لم نسبق إليه غيرنا، فهو ليس بخير، وهذا منطق مغلوط!؛ لأن صاحبه لا ينظر فيما جاء من عند رب العالمين، ولا ما هو عليه من باطل؛ ولو تأمل في ذلك لما وجد غضاضة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]، قرئت يحسبون: بفتح السين، وهي قراءة عاصم وابن عامر، وحمزة، وأبي جعفر، وباقي القراء يقرءونها بكسر السين، {وَيَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37].
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:38]، أي: هذا الذي عشى عن ذكر الرحمن، والعاشي هو الغافل المتعامي عن ذكر الله سبحانه، التارك لكتاب الله ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:38]، قرأتان: الأولى قراءة الجمهور وقراءة المدنيين نافع، وأبي جعفر، وابن كثير حيث يقرؤنها بالإفراد {جَاءَنَا} [الزخرف:38]، والثانية قراءة ابن عامر، وشعبة عن عاصم، بالتثنية: {حَتَّى إِذَا جَاءَانَا} [الزخرف:38]، والمعنى: العاشي والشيطان القرين، قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ} [الزخرف:38]، القائل هو العاشي الذي غفل عن ذكر الله: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38]، بعد أن جيء به موثقاً مغلاً مع شيطانه، ووضعا على النار، يظهر الحسرة والندامة ويتساءل: ما الذي قربني منك في الدنيا؟ ليتني بعدت عنك، قال تعالى: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38]، أي: كما بين المشرق والمغرب، وهذا من باب التغليب، فإنهما إذا انفردا قيل: هنا المشرق وهنا المغرب، فإذا جمع الاثنين قيل: المشرقان، وقيل: المغربان أيضاً، على جهة التغليب كما يقال: العمران، على أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، قوله: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، أي: بئس من يقترن بالإنسان الشيطان في الدنيا؛ لأنه يغويه وفي النار يرديه يوم القيامة، لذلك المؤمن يحرص على ذكر الله عز وجل، ويحرص على أن ينتقي أصدقاء الخير، وإخوة الطاعة، وأن يجتنب رفقاء السوء، ويجتنب ما يدفعه إليه الشيطان من عمل.(449/5)
تفسير سورة الزخرف [36 - 42]
من يعرض عن ذكر الله وعن هدايته يقيظ له الله شيطاناً فيكون ملازماً له لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره، ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه، وهؤلاء الشياطين يحولون بين هؤلاء الذين أعرضوا عن ذكر الله وبين سبل الحق، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى، لكنهم يوم القيامة يتمنون أن بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب، ويندمون على اتباعهم الشياطين، لكن لا ينفعهم الندم ذلك اليوم.(450/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36 - 39].
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى عمن يتعامى عما جاءه من الذكر من الله عز وجل، ومن يعرض ويتغافل عن كتاب الله وهدي نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: ((وَمَنْ يَعْشُ))، والعشى: هو ما يصيب البصر من ضعف، فيضعف بصر الإنسان بحيث لا يرى في الليل ويرى في النهار، فالإنسان الأعشى من به ضعف في بصره، فالذي يعشو عن ذكر الرحمن ويتغافل ويغمض عينيه، فلا يريد أن ينظر إلى كتاب الله ولا إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، يسلط الله عز وجل عليه الشياطين، فيتلاعبون به، حتى يوصلوه في الجحيم.
قوله: ((نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)) أي: يقيض له الله عز وجل شيطاناً، ((فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)) أي: مقترن به في الدنيا، وفي الآخرة موثق معه؛ ليدخل النار مع قرينه والعياذ بالله.(450/2)
تفسير قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل)
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37] أي: الشياطين، {لَيَصُدُّونَهُمْ} [الزخرف:37] أي: يصدون أولياءهم، {عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37] أي: الإنسان الذي يعصي ويظن نفسه محسناً فهذه مصيبة، أما الذي يعرف أنه عاص فلعله يتوب.
فالشياطين يزينون لهم الشرك الذي هم فيه، ويزينون لهم سوء أعمالهم؛ ولذلك يفعلون الأفعال القبيحة وهم يعتقدون أنهم يتقربون بها إلى الله، فكانوا في ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يلبي الملبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
فجاء المشركون وغيروا في هذه الصيغة، فقالوا: لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
هذا الشرك والكفر يقوله من يقوله ولا يتفكر فيه.
فقولهم: لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، أي: إلا هذا الذي يكون شريكاً للرب سبحانه وتعالى عما يقولونه علواً كبيراً، وهم يعترفون بقولهم: تملكه وما ملك، أي: لك شريك واحد وهذا الشريك الذي هو لك أنت تملكه، وما يملك هو ملك لك أيضاً، وهذا الشريك لا يملك شيئاً، نقول: إذا كان هذا الشريك لا يملك شيئاً وهو ملك لله عز وجل فكيف يكون شركاً؟! وكيف يأنف الإنسان من أن يكون عبده شريكاً له فيما يملكه؟! قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28] أي: أنت لا ترضى لنفسك أن يكون من تملكه من العبيد شريكاً لك؛ لأنك ستقول: أنا اشتريتك بمالي فكيف تكون شريكاً لي فيه؟! هذا لا يعقل، فكيف لا ترضاه لنفسك وترضاه لله سبحانه وتعالى؟! فهذا المثل الذي ضربه الله لكم من أنفسكم، ومع ذلك الكفار يتغاضون عن ذلك، ويقولون: لك شريك تملكه وما ملك، ويذهبون ليطوفوا حول الكعبة عراة رجالاً ونساء، فهذا دليل على أن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم، وإلا فإنه يقبح في النظر أن يكون الإنسان متجرداً عارياً، فما الذي جعله قبيحاً في غير الكعبة وصار حسناً عند الكعبة؟ إلا أن الشيطان زين لهم ذلك، فإذا بهم يقولون: لا نطوف بالبيت في ثياب عصينا الله فيها، وما ذنب الثياب؟ أنت الذي عصيت وليست الثياب التي عصت الله سبحانه وتعالى، أي عقل يفكر بهذه الطريقة وبهذا الغباء! هؤلاء الكفار يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يسيء الواحد منهم ويفعل الفعل القبيح الرديء وهو يزعم أنه على خير وأنه يحسن صنعاً، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37] أي: يظن المشرك أنه على هدى في هذا الذي يفعله بشركه لله وبمعصيته له.(450/3)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين)
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38] هنا قراءتان في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:38] وهذه قراءة الجمهور، أما نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وشعبة عن عاصم فقرءوا: (حتى إذا جاءانا) الاثنان: الشيطان والمعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى سيأتيان يوم القيامة قد وثق أحدهما في الآخر للحساب والجزاء، فيقول هذا الإنسان لهذا الشيطان: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38] أي: يا ليتني ما عرفتك، يا ليتك كنت في المشرق وأنا في المغرب أو العكس من ذلك، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38] أي: أنت بئس القرين، وبئس من كان معي في الدنيا في الآخرة؛ لأنك أغويتني في الدنيا، والآن أنا محشور معك في النار.(450/4)
تفسير قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم)
قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
قوله: ((وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ)) أي: حين ظلمتم في الدنيا فسنجزيكم اليوم عذاب الجحيم؛ بسبب ظلمكم وشرككم وكفركم، وبسبب معاصيكم.
(ولن ينفعكم اليوم) أي: يوم القيامة وهم في النار لن ينفعهم أنهم في العذاب مشتركون.
فالإنسان الذي تنزل به المصيبة يواسيه ويسليه ويخفف عنه الألم الذي هو فيه أن يرى غيره مشتركاً معه في ذلك، ولذلك قالوا: إن الحزين يسعد الحزين، أي: يواسي بعضهم بعضاً، وبذلك يخفف عنهم ألم المصيبة التي هم فيها، لكن يوم القيامة لا يسلي بعضهم بعضاً، ولا ينفع بعضهم بعضاً، ولا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة.
قوله: ((أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)) أي: العذاب على الجميع، ولا يواسي بعضهم بعضاً، بل يتبرأ بعضهم من بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ولا ينتفعون لا بتوبة إلى الله عز وجل، ولا برجوع إلى الدنيا، ولكن يقال لأهل النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].(450/5)
تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي)
قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40].
هنا تقرير مسألة القضاء والقدر ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون بين فضله وعدله، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده سبحانه وتعالى.
عقيدة المؤمن في الإيمان بالقضاء والقدر، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، فالله كتب عنده في اللوح المحفوظ: من عبادي من هو كافر، ومن عبادي من هو مؤمن، يقدر ما يشاء سبحانه، ويحكم بما يشاء، ويفعل ما يريد، وليس لأحد أن يعترض على مشيئة رب العالمين.
فالمؤمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره حلوه ومره، هذه عقيدة المؤمن أن يؤمن بقضاء الله، قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
والنبي صلوات الله وسلامه عليه يهدي، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
إذاً: هو يدل صلوات الله وسلامه عليه ويبين، ولكن لا يقدر أن يغير القلوب؛ لأن تغيير القلوب بيد رب العالمين سبحانه؛ ولذلك قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أنت تهدي بمعنى: تدل وتبين، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]، أما أن تغير القلوب، فلا تملك ذلك؛ إنما القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه سبحانه: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا إلى دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، فسأله أصحابه: ما أكثر ما تقول ذلك يا رسول الله؟ قال: إن القلوب بيد الله بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويقرر لنا هذه العقيدة أن كل شيء بيده سبحانه، فإذا هداك الله فاحمد الله، وإذا أضلك الله فاسأل الله عز وجل أن يهديك؛ لأن بيده الخير سبحانه وتعالى.
قال: ((أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)) أي: لو كان الإنسان قد طبع الله عز وجل على قلبه، وأعمى بصره، وجعل وقراً على أذنيه، هل أنت تسمعه بعدما أضله الله؟ فالله يعلم ما في قلب هذا الإنسان من شر وما يستحق هذا الإنسان من جزاء، فيختم على قلب هذا الإنسان، فإذا ختم الله على قلبه بسبب ما يستحق من كفر ومن عناد ومن استكبار فهل تقدر أنت أن تهدي هذا؟ ((أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ))؟ أي: هل تسمع إنساناً أصم لا يريد أن يسمع؟ لا تقدر أن تفعل ذلك، أو تهدي إنساناً أعمى قد أغمض عينيه فهو لا يرى؟ لا تقدر على ذلك، إنما الذي يقدر على ذلك الله سبحانه.
ثم قال: {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40] أي: في ضلال بين، في ضلال مفصح عن حال هذا الإنسان، فأفعاله تبين كفر قلب هذا الإنسان، فهو في ضلال مبين واضح جلي.(450/6)
تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون فإنا عليهم مقتدرون)
قال الله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف:41].
قوله: (فإما نذهبن بك) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45] قال المفسرون: نزلت هذه الآية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء والمعراج، فقيل له: اسأل الأنبياء: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]؟ قال: لا أسأل أحداً؛ لأنه واثق في كلام رب العالمين، لا يحتاج أن يسأل الأنبياء لا آدم ولا غيره صلوات الله وسلامه عليه وعلى الجميع.
فهذه السورة الكريمة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وقد عانى من الآلام وعانى من مشاغبات قريش له صلوات الله وسلامه عليه، ومن تعذيبهم لأصحابه، ومن تنفيرهم الناس عن دينه عليه الصلاة والسلام؛ لذلك يقول ربنا سبحانه له: الأمر واحد من اثنين: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف:41] ولن نتركهم {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف:41] أو نتركك تعيش {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:42] والله على كل شيء قدير.
فيقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ((فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ)) وهذه لها معنيان: الذهاب إلى الموت، أو الذهاب من مكة إلى المدينة؛ لأنه بعد مدة قليلة من نزول هذه الآيات هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، وعلى هذين المعنيين فيكون الانتقام إما بالعذاب في الدنيا بالقتل والأسر ونحو ذلك، وإما بالعقوبة في قبورهم ويوم القيامة.
قال تعالى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} [الزخرف:42] أو نريك الآن وأنت بينهم عذابنا لهم، أو بعد أن تهاجر إلى المدينة نريك ما نصنع بهؤلاء، فكان من رحمة رب العالمين سبحانه أن هدى من شاء من خلقه فدخلوا في دين الله، ولم ينزل على مكة عذاباً من عنده سبحانه وتعالى، إلا ما كان من قتل الكفار الكبراء منهم في يوم بدر وغيرها من الأيام.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لهم فرطاً وسلفاً) أي: إذا أراد رحمة أمة قبض نبيها قبلها، وتعيش الأمة بعده فيكون هو الفرط ويكون هو السابق قبلهم، ويكون هو الشفيع لهذه الأمة، قال: (وإذا أراد هلاك أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بذلك؛ لأنهم كذبوه وعصوا أمره).
فبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن هذه الأمة أمة مرحومة، أراد الله عز وجل رحمتها، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه بأنه ميت، كما أخبره ربه سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] صلوات الله وسلامه عليه، فكان من رحمة ربنا سبحانه أن قبض النبي صلوات الله وسلامه عليه، وانتشر دين الله سبحانه، ورحم الله عز وجل هذه الأمة ببقاء هذا الدين.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.(450/7)
تفسير سورة الزخرف [40 - 44]
لقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بالشريعة، والأمة مأمورة مثله بالتبع، وأخبره أنه على الصراط المستقيم والدين القويم، وأن هذا الدين فخر له ولقومه.(451/1)
تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:40 - 44].
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]، أي: هل أنت تقدر على ذلك؟ إذا كان قد طبع الله عز وجل على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فهم لا يريدون أن يسمعوا فإن أسماعهم وقلوبهم مختوم عليهما، فلا يسمعون إلا ما يريدون ويأبون أن يسمعوا ما تدعوهم إليه من كتاب الله عز وجل، وإذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم ولم يريدوا أن يسمعوا ولا أن ينتبهوا لما يقول صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وكان هذا حال هؤلاء أنهم لا يسمعون ولا يريدون أن يسمعوا وإذا كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم وغطوا على أعينهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم وحلفوا ألا يسمعوا منه صلوات الله وسلامه عليه.
وهؤلاء رفضوا أن يسمعوا فختم الله عز وجل عليهم فهم لا يفهمون، وعلم الله من قلوبهم الشر الذي فيها فطبع وختم عليها فهم لا يفهمون ولا يعقلون، قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: ستهلك نفسك على آثار هؤلاء فهم لا يستحقون لأنهم مجرمون، ولأنهم عرفوا الحق الذي جاء من عند الله، وعرفوا الآيات البينات وعرفوا الإعجاز الذي في هذا القرآن ومع ذلك لا يريدون أن يسمعوا القرآن ولا أن يتبعوه غروراً وكبراً وعصبية وجاهلية وكل منهم يريد أن يكون هو الذي نزل عليه القرآن، فيحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فطبع الله على قلوبهم، والجزاء من جنس العمل فهم يغطون على أعينهم حتى لا ينظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله يختم على قلوبهم فلا يفهمون ولا يعقلون فيستحقون أن يموتوا على الكفر وعلى الضلال حتى يكونوا من أهل النار.
فقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]، أي: أفأنت تفعل ذلك؟ وهل تقدر على ذلك؟ وإذا كانوا قد ضلوا الضلال المبين وابتعدوا كل البعد عن كتاب ربهم وعن هداه المستبين، فأنت لا تقدر أن تهديهم وقد أضلهم الله سبحانه، فالأمر بيد الله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].(451/2)
تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإذا منهم منتقمون فإنا عليهم مقتدرون)
قال الله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف:41]، أي: إذا قبضناك أو أخرجناك من مكة إلى المدينة فسننتقم من هؤلاء الكفار الذين يرفضون أن يدخلوا في دين الله سبحانه.
وقد توعدناهم بالعذاب، وقد أنذرناهم بطشنا الشديد، فواحد من اثنين: إما أن نذهب بك ونخرجك من عند هؤلاء فننتقم منهم انتقاماً عظيماً، {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} [الزخرف:42]، وأنت موجود فيهم فإنا عليهم مقتدرون، ولذلك لما شدوا على النبي صلى الله عليه وسلم مرة من المرات وآذوه الأذى الشديد وآذوا أصحابه دعا ربه سبحانه عليهم فقال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسنين يوسف)، فأعانه الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم، وضيق عليهم أشد الضيق ومنع عنهم المطر فلا يوجد ماء ولا زروع لهم ولمواشيهم، حتى نفقت المواشي التي عندهم فذهبوا يستجيرون ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يكشف عنهم ما هم فيه وهم سيؤمنون بالله ويتبعونه، وناشدوه بالله وبالرحم التي بينه وبينهم، وهو الذي يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: لا أريد منكم أجراً ولا مالاً، ولكن أطلب منكم أن تراعوا ما بيني وبينكم من القرابة والرحم.
ولما دعا عليهم إذا بالله يضيق عليهم وعانوا من القحط والضيق حتى أكلوا الجلود والميتة وأوراق الأشجار وأكلوا ما وجدوه في الأرض، وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يستنجدون {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، أن يكشف عنا هذا، فإذا به بحنانه وطيبة قلبه صلوات الله وسلامه عليه يدعو لهم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليهم بسنين كسني يوسف وهي سبع سنين، فعانوا أياماً قلائل وإذا به يدعو لهم أن يفرج الله عز وجل عنهم ففرج الله عز وجل عنهم، فإذا بهؤلاء يرجعون إلى ما كانوا ولم يؤمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلهم هذا كفعل فرعون وقومه مع موسى النبي صلوات الله وسلامه عليه، والحال من الحال والنتيجة هي النتيجة فلذلك ربنا سبحانه عقب ذلك بذكر فرعون مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(451/3)
تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم)
قال سبحانه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بالوحي، وقد تمسك صلوات الله وسلامه عليه، وهنا الخطاب له وللأمة بالاتباع والتمسك وخذوا ما أتيناكم بقوة {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، أي: أنت على هدى وعلى طريق قويم معتدل وعلى دين عظيم دين رب العالمين دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لخلقه.(451/4)
القراءات في قوله (صراط)
قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، (صراط) فيها ثلاث قراءات: (سراط) لـ قنبل ولـ رويس، و (صراط) لجمهور القراء، و (زراط) لـ خلف عن حمزة.
والصراط على الثلاث القراءات: بمعنى الطريق.
ومعنى قوله تعالى: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، أي: طريق قويم معتدل، فأنت على دين وهم على باطل، فليسوا على شيء وإن جادلوا بكل شيء.(451/5)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك)
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، هذا القرآن وهذا الدين العظيم الذي جاءك من رب العالمين ذكر من الله سبحانه تبارك وتعالى جاء إليك، وذكر لكم بمعنى: تذكرة من الله وبمعنى: شرف لك ولقومك أن ينزل هذا القرآن باللغة العربية وبلسان قريش، والأعاجم يدخلون في هذا الدين فيتعلمون لغتكم ويحتاجون إليكم ليفهموا ما جاء من كلام رب العالمين، أليس هذا الفخر وهذا الشرف لهؤلاء الجهلة المجرمين الذين يكذبون ويعرضون، قال تعالى: {جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:63].
وشرف لكم أن تعبدوا ربكم وحده لا شريك له وأن يذكركم الله عز وجل بهذا القرآن وأن يجعله بلسان عربي مبين ونزل على أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه في أشرف البقاع بهذه اللغة الكريمة اللغة العربية.(451/6)
شرف قريش
قال سبحانه في سورة الأنبياء: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، أي: فيه شرفكم وفخركم، فتفتخرون ليس بالأنساب ولا بالقبائل التي أنتم فيها، وليس بأعمالكم، ولكن فخركم بأن نزل الله عز وجل عليكم كتاباً ليهديكم بلغتكم العربية.
فهذا القرآن فخر وشرف لك ولقومك وتذكرة لكم وللناس، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قال: (الناس تبع لقريش مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم).
والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الناس تبع لقريش، فلو أن قريشاً أسلموا أسلم الناس معهم ودخلوا في دين الله وكانت القبائل من حولهم ينظرون ماذا استعمل قريش فهم أهل النبي صلى الله عليه وسلم وقومه فإن يسلموا أسلمت القبائل معهم فيتحينون ويتربصون ماذا يصنع قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش)، فلو أسلم هؤلاء أسلم الناس فيكون لهؤلاء الفضل والشرف؛ لأن الناس تابعون لهم (مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، أي: الناس مثل المعادن أصناف وأنواع فيهم خيار وفيهم شرار، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، فمن كان خيّراً في الجاهلية يصل الرحم ويفعل الخير ويعطي الفقراء ويراعي الأرامل والأيتام ولا يئد الصغيرة، فله شرف وفضل وقدر وله أعمال صالحة وهو في الجاهلية، فإذا أسلم كانت له أعمال خير ويجزى على ما فعله في الجاهلية من أعمال الخير.(451/7)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا فقهوا)
إذا فقهوا)، أي: تعلموا دين رب العالمين سبحانه الذي يهذب الأخلاق ويعلم الإنسان كيف يكون عمله لله سبحانه تبارك وتعالى؟ وكيف يحسن ويفعل معالي الأمور وخيارها ويترك سفاسف الأمور وشرارها؟(451/8)
فضائل عمر بن الخطاب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون من خير الناس أشد الناس كراهية في هذا الشأن حتى يقع فيه)، وكان المؤمنون يتغيظون من الكفار أنهم يفعلون بهم كذا وكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلهم يسلمون وستجدون من خير الناس من كان أشدهم كراهية لهذا الدين، وهذا إخبار الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فإنه لا يقنط، فإن ربنا يهدي من يشاء من هؤلاء، وكان يدعو لـ أبي جهل ولـ عمر بن الخطاب، ولما قتل أبو جهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا فرعون هذه الأمة)، ومع ذلك كان يدعو له أن يهديه الله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين)، وهما: أبو جهل أو عمر بن الخطاب رضي الله تبارك عنه، وكان الاثنان أشد الناس كراهية لهذا الدين وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين حتى هدى الله عز وجل عمر بن الخطاب، فصار الذي يضرب به المثل في العدالة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو رآه الشيطان سالكاً فجاً لسلك فجاً آخر).
فهذا كان رضي الله عنه من أشد الناس كراهية لهذا الدين فصار أحب الناس لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك هند بنت عتبة التي قتل أبوها وعمها وأخوها فتغيضت من حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وطلبت من وحشي أن يقتله فقتله وذهبت لتأخذ كبده لتلوكه بأسنانها من غيضها منه، لأنه قتل أباها وأخاها، فكانت من أشد الناس حنقاً وتغيظاً على الإسلام، ومن أشد الناس كفراً وتمرداً إلى أن فتح الله عز وجل مكة للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكان أبو سفيان قبيل هذا الحين كافراً إلى أن أسلم في فتح مكة، ودخل أبو سفيان بيته ورأته امرأته وهي كافرة فأمسكت به وقالت للكفار: اقتلوا هذا الشيخ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
فآمن أبو سفيان وحسن إسلامه وإيمانه، وأسلمت زوجته هند بعد ذلك وذهبت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما كان على وجه الأرض بيت أبغض إلي من بيتكم، والآن ما على وجه الأرض بيت أحب إلي من بيتكم، قال: وأيضاً)، يعني: أنك ستزدادين حباً فوق حب؛ بما عرفت من دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
هذه المرأة الذي كان الحقد يملأ قلبها سنين طويلة على الإسلام والمسلمين ويشاء الله عز وجل أن يهديها قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فأسلمت وحسن إسلامها، وغيرها كثير كانوا من أشد الناس في الجاهلية كفراً وحنقاً على الإسلام والمسلمين، ولما دخلوا في دين الله ندموا على ما فعلوا قبل ذلك فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين ولم يجعلنا في يوم من الأيام نكره هذا الدين ثم هدانا إليه، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين.
والإنسان الذي يرى نفسه على هدى وعلى طريق الله عز وجل يفرح بذلك، ولا ييئس غيره ولا نفسه من رحمة رب العالمين سبحانه، ولعل الله أن يهدي غيره من الناس الذين هم من أشد الناس كراهية للدين، كما هدى أولئك السابقين.(451/9)
معنى قوله تعالى (وسوف تسألون)
وقوله تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، أي: يسأل الله النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ويسأل الخلق عن الإيمان والعمل الصالح.
وشرف المؤمن بدين الله عز وجل وبتمسكه به وبقيامه الليل بين يدي الله عز وجل وبعبوديته لله وبتواضعه لله، فهذا الشرف الحقيقي.
ولذلك كان بعض الزهاد والعباد يقولون: إنا في متعة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها، وهي: متعة العبادة ومتعة الانفراد مع الله سبحانه تبارك وتعالى والتضرع إليه والشوق إليه والحب له سبحانه تبارك وتعالى، وهذه المتعة يعرفها المؤمن الصادق.
أما الكفار فافتخارهم بالأنساب والأحساب وبالقوة وبالناس، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (لينتهين أقوام يفتخرون بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو يكونون أهون عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)، أي: لينتهين أقوام عن فخرهم بالآباء، وآباؤهم فحم من فحم جهنم، فآباؤهم كفار وعصاة فهم في النار، ويفتخر الأبناء بهؤلاء الآباء فإما أن يترك هؤلاء الأبناء أن يفتخروا بآبائهم وإما تكون نهايتهم نهاية آبائهم وأجدادهم في النار، ويجعلهم الله عز وجل أنتن وأحقر من الجعلان ومن الصراصير.
والناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء)، وعبية الجاهلية: نخوتها وعصبيتها وكبرها، فقد أذهبها الله بالإسلام الذي جعل المسلمين كأسنان المشط، لا فضل لأبيض على أحمر، ولا لأبيض على أسود إلا بتقوى الله، والإنسان إما مؤمن على إيمان وعلى تقوى، أو إما فاجر على شقاء وعلى كفر وعصيان فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(451/10)
تفسير سورة الزخرف [45 - 50]
دعوة الأنبياء والمرسلين هي إفراد الله سبحانه بالعبادة، ومن هؤلاء الأنبياء والمرسلين موسى عليه السلام؛ فإنه دعا فرعون وملأه إلى ذلك، فسخر منه فرعون واستهزأ به وبما يدعو إليه، واستهزأ بالمعجزات التي جاء بها ومنها معجزة اليد والعصا، فأنزل الله عليهم العذاب لعلهم يرجعون إلى الله، وفعلاً طلبوا من موسى أن يدعو الله تعالى أن يكشف عنهم ما أنزل الله عليهم من العذاب، فلما كشف الله عنهم ذلك استكبروا وعتوا عتواً كبيراً.(452/1)
تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:45 - 52].
أمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن يستمسك بوحي الله سبحانه الذي أوحاه إليه، وأخبره أنه صلوات الله وسلامه عليه على هذا الدين العظيم وعلى صراط مستقيم، وأن هذا الدين فخر وشرف له ولقومه، وتذكرة وموعظة من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، ويوم القيامة يسأل الله نبيه عن هذا الدين العظيم، هل بلغه؟ وهل استجاب الناس له وأطاعوا الله سبحانه؟(452/2)
تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا قبل من رسلنا)
قال تعالى بعد ذلك: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، قال البعض من المفسرين: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الزخرف:45]، أي: اسأل أتباع الرسل الذين دخلوا في دينك، والذين عرفوا أنك على الحق صلوات الله وسلامه عليه، هذا قول.
وقيل: بل اسأل حقيقة الرسل وقد أسري به صلوات الله وسلامه عليه إلى بيت المقدس، قال الله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1].
ولما وصل بيت المقدس صلى بالأنبياء فأمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقيل له: اسأل هؤلاء الأنبياء والرسل هل جعلنا قبلك من إله يعبد غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن ذلك، فقد علم أن الله سبحانه وحده الذي يعبد لا شريك له، وعلم من القرآن أن كل الأنبياء كانت دعوتهم واحدة أن يعبدوا الله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فلذلك قيل له ذلك على وجه المبالغة في تأكيد توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين، والجواب في كتاب الله عز وجل أن كل الرسل دعوا إلى توحيد الله سبحانه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].(452/3)
دعوة إبراهيم قومه أن يعبدوا الله وحده وموقف قومه منه
فالقرآن مليء بالآيات التي فيها أن الأنبياء يدعون أقوامهم إلى توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى، ويحذرونهم من كفرهم وشركهم بالله، وسورة الأنبياء مليئة بذكر أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين دعوا قومهم إلى توحيد الله.
فنبي الله إبراهيم عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام، دعا قومه إلى توحيد الله سبحانه فقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:66 - 67].
وجاهد في الله حق جهاده، حتى أرادوا إحراقه، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 69].
وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، ودين التوحيد هو: دين آدم ونوح وإبراهيم ودين ذريته بما فيهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فكل الأنبياء دعوا إلى توحيد الله سبحانه، وما دعا أحد منهم إلى الشرك بالله سبحانه، وحاشا لهم أن يدعوا إلى ذلك.(452/4)
القراءات في قوله تعالى (واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا)
وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ} [الزخرف:45]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير والكسائي وخلف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45]، وإذا وقف عليها حمزة يقرأ ((وسل)) ثم يقرأ: {مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الزخرف:45]، وهم الرسل الذين من قبلك، بعثناهم إلى قومهم، واخترناهم وأعطيناهم رسالة وأمرناهم بتبليغها.
وقوله تعالى: {مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45]، بضم السين قراءة الجمهور، و ((مِنْ رُسْلِنَا))، بتسكينها قراءة أبي عمرو.
وقوله تعالى: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] هل أمرنا أحداً أن يشرك بالله أو يدعو إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟
و
الجواب
لم يحدث ذلك.(452/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46].
ذكر الله عز وجل عناد المشركين من قريش، فقد جاءهم القرآن ذكراً لهم، فهو تذكرة وموعظة، وشرف، وفخر لهم، ونزل بلغتهم ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسودوا الخلق بهذا الدين العظيم، وأن يجعلهم الله عز وجل الحكام المتبوعين وغيرهم يكونون أتباعاً لهم، لو أنهم اتبعوا دين رب العالمين سبحانه، فرفضوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
فنظروا للنبي صلى الله عليه وسلم نظرة ازدراء واستهزاء واحتقار بسبب نزول القرآن عليه ولم ينزل على رجل أعظم منه مالاً أو جاهاً، والعظمة التي يعنونها ليست في الشرف والنسب، فهو صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، وأعدلهم عليه الصلاة والسلام، وأصدقهم وأعظمهم أمانة.
والله له الحكمة العظيمة، فهو يجعل نبيه صلى الله عليه وسلم واحداً من الناس، ولم يكن ملكاً، ولم يكن من آبائه من ملك عليه الصلاة والسلام، حتى لا يساء فيه الظن فيقال: يريد ملك آبائه.
فلذلك الكفار قالوا: إن القرآن نزل على رجل من الناس ولم ينزل على رجل من عظمائهم، فاحتقروا النبي صلوات الله وسلامه عليه وازدروه في الظاهر، أما الحقيقة في الباطن فالغيرة والحسد مما أتى به صلوات الله وسلامه عليه.
فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس أول من قيل له ذلك، فنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام قيل له أشد من ذلك، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأسى به فيصبر إذا أوذي، ويقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر).
فيتسلى صلوات الله وسلامه عليه بذلك، فإن في موسى أسوة حسنة، فموسى أوذي فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي فيصبر كما صبر موسى، فربنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقصة موسى القصة العظيمة التي هي من إعجاز القرآن العظيم، فقد تكررت القصة في القرآن عشرات المرات، وفي كل مرة فيها تفنن وتنوع بذكر شيء غير موجود في المرة الأخرى وبسياق يلائم الآيات التي هي فيها.(452/6)
قصة موسى عليه السلام مع قومه
فهنا يذكر له أن هؤلاء إن كانوا قد احتقروك بأنك لست عظيماً، أو بأنك مجنون، فائتس بموسى من قبلك، وهذه قصة مختصرة لموسى عليه الصلاة والسلام: فقد أرسله الله بتسع آيات بينات مبصرة من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، والتسع الآيات التي جاء بها موسى أخبرنا الله عز وجل عنها في كتابه، فقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وأرسله الله بآيتي اليد والعصا والمجموع تسع آيات أرسل الله عز وجل موسى بها إلى قومه.
ونزلت عليه التوراة من عند رب العالمين سبحانه فيها هدى ونور وبينات لهؤلاء الخلق، وجاءهم بالرسالة فرفضوا أن يتبعوا دين موسى عليه الصلاة والسلام، فجاءهم بالآيات البينات التي أجبرتهم أن يعترفوا بها وقت ما تأتيهم الآية ثم بعد ذلك يرجعون عن ذلك.
والتسع الآيات هي: أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، فأصابهم الله بالقحط، فكانوا في شدة فلا يجدون ما يطعمون به البهائم وضيق الله عليهم في الثمرات، ثم أرسل عليهم الطوفان، ففاض نهر النيل وأغرق بيوتهم، فيجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف:134]، فيدعو ربه فيكشف عنهم ذلك، ويكفرون أشد من كفرهم السابق، فتنمو الثمار وهم على كفرهم فيرسل الله عليهم الجراد فتأكل كل الثمار، فيطلبون من موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف:134]، فيدعو ربه سبحانه فيكشف عنهم، فيصرون على ما هم فيه، ويجمعون ثمارهم وحبوبهم في أماكنها فيرسل الله عز وجل عليها ما يأكلها، فيجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف:134].
وفي كل آية من الآيات يطلبون من موسى أن يدعو ربه، فربنا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أنه من ختم الله على قلبه لن يؤمن وإن رأى الآيات.
ولا تحزن على أبي جهل وأمثاله، وليس كل أمر يطلبه الكفار تطلبه لهم، وإذا كان الله عز وجل أراد لهم الإيمان سيؤمنون، وإذا لم يرد ذلك فلن تقدر على أن تحولهم من كفرهم إلى الإيمان.
وموسى وحده ذهب إلى فرعون الذي نصب نفسه إلهاً: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، واستخف قومه، فقال له موسى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46]، أي: رسول رب الخلق ورب العالم العلوي والعالم السفلي، وكل ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء ومليكه سبحانه.(452/7)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47]، والقصة مطولة، كما في سورة الأعراف، وفي سورة طه، وفي سورة القصص، واختصرها في مواضع من القرآن.
ولما جاءهم موسى بآيات الله، سأل فرعون موسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:26 - 27]، {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24].
فموسى يجيب فرعون بالعقل، بأنه إنسان مخلوق لا يقدر على شيء، وربنا هو الذي خلقه وأوجده، فسيتهزئ فرعون بموسى أمام الناس، ويظهر لهم أنه كذاب في دعواه أن الله رب العالمين، فينتقل من المناقشة بالعقل إلى أسلوب القهر والقوة والسلطان، فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].
وكل الفراعنة على هذا الشيء، ومن اقتدى بهم، أو تشبه بهم، فإنهم يستخدمون أسلوب القهر، وهذه عادة في هؤلاء الفراعنة من الماضي، أما المناقشة بالعقل فلا يوجد عندهم عقل أصلاً، ولا يعرفون دين الله سبحانه، ولا يأبهون لذلك، ولا يتركون ما هم فيه من الكفر، ويضحكون على الآيات التي أبكتهم، والتي جعلتهم يسألون موسى أن يدعو الله أن يكشفها عنهم.
والإنسان الظالم أو المتكبر المتجبر عندما تأتي إليه آية ولا يعرف ردها فإنه يضحك منها ويستهزئ بها.
وحين أراهم موسى آية اليد فأدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء كالشمس، إذا بفرعون يسخر من موسى ويضحك ويقول: هذا ساحر.
ولما ألقى أمامه العصا فتحولت إلى ثعبان فزع فرعون ثم تمالك نفسه وضحك وسخر من موسى وأحضر له السحرة من أقصى الأرض ومن أدناها.(452/8)
تفسير قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها)
قال الله عز وجل: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] كل آية أشد من الآية التي قبلها، فأرسل الله عليهم {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133]، وهذه الآيات التي أرسلها الله عليهم كانوا لا يسخرون منها ولا يضحكون، فعندما أرسل الله عليهم الدم، فكانوا يشربون الماء فيتحول إلى دم وكذلك الأكل وأرسل عليهم الجراد وغيرها من الآيات كانوا لا يضحكون وإنما يبكون ويطلبون من موسى أن يدعو الله أن يكشف عنهم ذلك.
قال الله سبحانه: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48]، أي: بهذه الآيات التي سبق ذكرها، ومن العذاب إرسال الضفادع تخيفهم، والدم يبتليهم به ويخيفهم ويفزعهم، والقمل والطوفان.(452/9)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك)
وكل آية من هذه الآيات يدعون موسى ويقولون: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49]، كانوا يزعمون أنه ساحر، وكأنهم ينادونه على وجه التعظيم، لأن معنى الساحر في زمانهم الرجل العالم العظيم.
فيقولون له: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، الذي علمك ذلك أن يكشف عنا ما نحن فيه.(452/10)
القراءات في قوله تعالى (يا أيها الساحر)
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف:49]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: ((يَا أَيُّهُ السَّاحِرُ))، إذا وصلها، فإذا وقف: (يا أيهْ) والجمهور إذا وقفوا عليها يقفون بالهاء الساكنة: (يا أيه) وإذا وقف عليها أبو عمرو والكسائي ويعقوب يقرءون: {يَا أَيُّهَا} [الزخرف:49]، بالألف في آخرها.
فموسى بلغهم رسالة رب العالمين، أن من آمن هداه الله وأمنه، فقالوا لموسى: ادع الله بما عهد عندك أن يكشف عنا ما نحن فيه ونحن سنؤمن بالله تعالى ونتبعك ونكون من المهتدين.(452/11)
تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [الزخرف:50]، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف: {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} [الأعراف:135] يعني: أن إنزال العذاب عليهم ليس مباشرة، ولكن إلى أجل أي إلى أن يقيم عليهم الحجة.
وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:50]، إذا هم يغدرون ويرجعون، وينقضون، ولا يوفون بما عاهدوا عليه موسى عليه الصلاة والسلام.
بل تمادى فرعون فنادى قومه فقال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
كأنه يناقشهم بالعقل مثلما موسى يناقشهم ويكلمهم بالعقل، كيف يكون فرعون رباً؟ وكيف يكون كذا وكذا؟ وفرعون أيضاً يريد أن يقنع من حوله بما يقوله من كلام فارغ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(452/12)
تفسير سورة الزخرف [46 - 56]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات أنه أرسل موسى بالآيات والمعجزات الدالة على صدق رسالته، فلما رأى فرعون ذلك إذا به وقومه يضحكون من هذه البينات، ويتهمون موسى بأنه ساحر، وقد تكبر فرعون وادعى أنه الذي أجرى الماء من تحتهم فأجراه الله من فوقه، وأنه خير من موسى عليه السلام فانتقم الله منه وأغرقه وجنوده في البحر، وجعلهم الله تعالى عبرة ومثلاً لمن أتى بعدهم.(453/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:51 - 56].
يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه قد أرسل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالآيات إلى فرعون وملئه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الزخرف:46]، وذكر في آية غيرها {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:96 - 97] فأرسله الله عز وجل إليهم ليدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده وأن يتركوا ما هم فيه، وقد طلب موسى من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً ليعينه على ذلك، وكان موسى في لسانه لكنة من إصابة أصابته وهو صغير في بيت فرعون لما أراد أن يقتله ودافعت عنه امرأة فرعون وقالت له إنه صغير لا يفهم ولا يعقل، فقرب إليه جمرة من نار فلمسها بلسانه لأمر يريده الله سبحانه فأصابته لكنة من ذلك الوقت، ولذلك كان فرعون يعيره بأنه لا يكاد يبين، أي: ما يستطيع أن يتكلم وهذا كان قبل أن يوحى إليه بالرسالة، فلما جعله الله عز وجل نبياً قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] فدعا ربه، فاستجاب له ربه سبحانه تبارك وتعالى فيما سأله، {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] أي: دعوة موسى وهارون، فدعا موسى ربه سبحانه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:25 - 36].
فكل ما سأل موسى ربه قد أجابه الله، فكشف عنه ما كان فيه من كرب بسبب خوفه من فرعون ومن معه وبسبب اللكنة أو الثقل الذي كان في لسانه فالله رفع عنه هذا فصار قوياً بإيمانه بعصمة الله عز وجل له وأيضاً جعل له أخاه معه وزيراً يعينه على دعوته إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وأرسله ربه بتسع آيات بينات إلى فرعون وملئه.(453/2)
ألقاب بعض ملوك الأرض
وفرعون لقب لكل من يملك مصر ويسمى بأي اسم من الأسماء، كما يقال لمن يملك الروم الـ قيصر، ومن يملك الفرس فهو كسرى، ومن يملك الحبشة فهو النجاشي.(453/3)
تعريف الملأ
وأرسل الله عز وجل موسى ومعه هارون إلى فرعون وملئه، والملأ: الكبراء والسادة من القوم، فذهب موسى ليدعو هؤلاء إلى دين الله عز وجل، فكان الجواب من فرعون لموسى {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي: أنا خير أم هذا الرجل الذي لا يبين الكلام؟ فلم ينظر إلى الآيات وإلى ما آتاه الله عز وجل من حجة قوية بالغة تثبت أنه رسول رب العالمين، وفرعون قال لقومه أنه ربهم الأعلى، فلما قال له موسى: أنا رسول رب العالمين، طلب منه فرعون الآيات، فلما رأى اليد والعصا بهت، فجادل بالباطل واتهم موسى بأنه ساحر، فقال: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58] فرد عليه موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59].
والذي يريد أن يهرب حقيقة هو فرعون وليس موسى، وفرعون يقول لموسى: لا تخلف هذا الموعد، واحضر من أجل أن نهزمك في هذا الشيء الذي لا تقدر على صنعه وهو السحر.
فاغتر فرعون بهؤلاء السحرة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ليظهر كذب فرعون ويؤمن من شاء الله عز وجل له أن يؤمن من هؤلاء السحرة الذين جاؤوا لنصرة فرعون من كل مكان، فاعتزوا عليه، {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42] لو أنكم انتصرتم على موسى.(453/4)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون)
يقول الله عز وجل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47] أي: ضحك فرعون وملؤه من الآيات التي جاء بها موسى، وقالوا إنها سحر.(453/5)
تفسير قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها)
قال تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] فأخذهم الله عز وجل بالسنين ونقص من الثمرات، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133].(453/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الساحر ادع لنا ربك)
وذكر اليد والعصا أنهما من التسعة الآيات البينات، ثم قالوا لموسى {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49] ولما رأوا آيتين من آيات العذاب وهما: اليد والعصا أحضروا لذلك السحرة، لكن لما أخذهم الله عز وجل بشيء من العذاب وهو إرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم قالوا: ((يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)) أي: إذا كشفت عنا العذاب سندخل في الإيمان ونتابعك كعادة كل إنسان جبار أصابه الله عز وجل بعذاب في الدنيا فإنه يقول سأتبعك بشرط أن ترفع عني هذا العذاب فيقوله بلسانه، ويريد الله عز وجل أن يقيم عليه الحجة فهم الذين قالوا إننا لمهتدون، والمعنى سنهتدي وندخل في دينك بشرط أن تكشف عنا العذاب.(453/7)
تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون)
قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:50] أي: يغدرون وينقضون ولا يوفون بما وعدوا فيه.(453/8)
تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه أفلا تبصرون)
قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] هذا منطق فرعون فهو يتكلم بالعجرفة وبالقوة وبالاستكبار وبالتحقير لغيره فهو يحقر كل من حوله من الوزراء والكبراء والأمراء، وينظر إليهم أنهم جهلة أغبياء.
وقوله تعالى: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ)) هذه الحجة التي يزعمها أنه يملك مصر وهو الملك عليها، وأن نهر النيل يجري في أرضه، فهذا الملعون يزعم أنه هو الذي أجرى هذا النهر وهو الذي خلق هذه البلاد وهو صاحب كل شيء كعادة المتكبرين والمجرمين حين ينسبون الفضل إلى أنفسهم، ويمنون على شعوبهم بأنهم هم الذين عملوا لهم كذا ورقوهم وحرروهم فهم يزعمون ذلك، وهذا فرعون يتكبر كعادة هؤلاء المتكبرين فيقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] وكأنه الذي خلقها وقد قال لقومه قبل ذلك {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ولما قال لهم ذلك قال أفلا تبصرون أي: من أجل أن تعرفوا من الذي يستحق أن يعبد أنا أو إله موسى.(453/9)
تفسير قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)
قال الله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فحقر قومه فقال: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ)) أي: ألستم تعرفون أني أستحق هذا كله؟ لأن ((لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)).
وحقر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال مخبراً: بل أنا خير من هذا، أو كأنه استفهام أم أنا خير من هذا الحقير الذي ربيته في قصري ولا يكاد يبين؟ أي: يتكلم وهو يتعتع، كأنه يزعم أنه ما زال على ذلك وقد شفاه ربه سبحانه تبارك وتعالى وما أرسله إلى فرعون إلا وكان ينطق فلا ثلغ ولا ثقل في لسانه فنطق وتكلم ومع ذلك فرعون ما زال يعيره بالماضي بأنه لا يستطيع أن يتكلم ويزعم أنه رسول.(453/10)
تفسير قوله تعالى: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب)
قال الله تعالى: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53] كان عادة هؤلاء الملاعين أن الملك يلبس سوارين من ذهب في يديه، ويضع قلادة من ذهب في عنقه، فلجهله نظر إلى أن موسى يدعي أنه رسول من الرب وليس عنده دليل على ذلك كأن الدليل عنده ليس كل الآيات التي جاء بها موسى وإنما بأن يلبس أسورة من ذهب في يديه ليدل على أنه ملك من الملوك أو جاء من عند الملك.(453/11)
القراءات في قوله تعالى (أسورة من ذهب)
وقوله تعالى: ((فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)) هذه قراءة حفص ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها أساورة من ذهب على الجمع فيها، وكأن أسورة جمع سوار وأساورة جمع جمعه، أي: جمع أسورة.
وقوله تعالى: ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)) أي: من أجل أن نعرف أنه رسول من رب العالمين يأتي بالملائكة مربوطين بعضهم ببعض أو نصافح الملائكة أو يكونون معه ذهاباً وأياباً.(453/12)
تفسير قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين)
ولما قال ذلك قال الله سبحانه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] استخفهم يعني: حملهم على الخفة كأنه هز المشاعر الباطلة التي فيهم فضيع أحلامهم وضيع صبرهم على الأمر.
واستخف فلان فلانا: جعله طائشاً وأخرج الخفة التي فيه، والإنسان عنده صبر وحلم، ولما يأتي إنسان ينفذه أو يغيره أو يحمسه فإنه يخرج عن دائرة الصبر والحلم، فيخف عقله فتراه يهرج ويستخف بمن حوله فصاروا خفاف العقول بهذه الحالة وليس عندهم عقول يفكرون بها، فصدقوا فرعون فيما قاله لهم وأطاعوه فيما طلبه.(453/13)
معنى الفسق
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] الفسق: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، والفسق الأصغر: معصية رب العالمين، فهم خارجون عن طاعة رب العالمين سبحانه، والفسق الأكبر: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، فلما آسفونا أخذناهم بالعذاب ونصرنا موسى على فرعون ومن معه من السحرة {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:44 - 46] فالسحرة الذين جاءوا لينصروا فرعون سجدوا لله وقالوا: آمنا برب العالمين، وفرعون لم يتعظ من هؤلاء الذين يعرفون السحر ويفرقون بين السحر وبين الحقيقة، فيلقون حبالهم وعصيهم وهم يعرفون أن الذي يصنعونه يخيل لأعين الناس أنه يسعى، لكن العصا التي ألقاها موسى تحولت حقيقة إلى ثعبان مبين فأكل ولقف كل ما ألقاه هؤلاء فعرفوا أنه رسول من رب العالمين فآمن السحرة وسجدوا لله رب العالمين، فكانوا في الصباح كفاراً فأمسوا مؤمنين أبراراً رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وتمسكوا بدين رب العالمين حتى وإن قتلهم فرعون أو هددهم فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:71 - 72] فرعون هو الذي جمع السحرة من أقصى الأرض ثم بعد ذلك يقول: إن موسى هو الذي علمهم السحر، ومن حوله يعرفون كذب فرعون، فإن موسى لم يذهب إلى السحرة ويتعلم منهم السحر، ولكن فرعون لا يستحيي أن يكذب على هؤلاء الناس وهو ملك، وإن من أشد الناس عذاباً عند رب العالمين الملك الكذاب، ففرعون يكذب ويقول للسحرة: إن موسى هو كبيركم الذي علمكم السحر {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء:49] {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:71 - 72].(453/14)
تفسير قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين)
فلما وصل فرعون إلى قمة الطغيان والفساد قال الله عز وجل {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55] فجاءهم العذاب من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وذلك لما خرج فرعون وقومه إلى بني إسرائيل ليستحييهم ويعذبهم ويبقيهم في الخدمة، وكان هذا الغرور من فرعون سبب لهلاكه وهلاك جنوده، فلما وصل بهم إلى شاطئ البحر الأحمر وإذا بموسى هنالك عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإذا بقومه لا يعرفون إلى أين يذهبون؟ فلما وقفوا مع موسى أمره الله عز وجل {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:63 - 64] وإذا برب العالمين سبحانه يفلق لموسى البحر بهذه العصا التي كانت ثعبان فيستجيب البحر ويصير فيه ممر لموسى ومن معه، فلما توسط موسى ومن معه البحر إذا بفرعون ومن معه ينظرون أمامهم آية عظيمة من آيات رب العالمين وهي انفلاق البحر، فلا يصدق فرعون أن هذا رسول بعد ما رأى ذلك، فيدخل فرعون ومن معه البحر ويخرج موسى من الناحية الأخرى، وينطبق البحر على فرعون ومن معه، فلما غرق وانتقم الله منه قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] أي: أنا مسلم ومؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل، قال له ربه {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92] أي: نخرجك ببدنك عارياً من هذا البحر حتى يراك الناس مرمياً على شاطئ البحر مثل البهائم النافقة، قال جبريل للنبي صلوات الله وسلامه عليه فلو رأيتني وأنا أضع في فيه من وحل البحر خشية أن يتوب الله عز وجل عليه، لأنه قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فإن رحمة الله عظيمة واسعة.
والله تعالى إذا أنزل العذاب على قوم ما كان لينجيهم منه، إلا ما كان من قوم موسى فقط فإنه كل ما أنجاهم من عذاب أتاهم بعذاب آخر في الدنيا ويكون نهايتهم إلى النار والعياذ بالله.(453/15)
تفسير قوله تعالى: (فجلعناهم سلفاً ومثلاً للآخرين)
قال سبحانه وتعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56] فجعلناهم سلفاً بقراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي فجعلناهم سلفاً.
والسلف القدوة المتقدمون، فصار فرعون متقدماً لقومه ويتبعونه في الباطل فهو يقودهم إلى طريق النار، وكل من يحب فرعون أو يفتخر به فإنه قدوته وإمامه إلى نار جهنم وبئس المصير، لعنة الله على فرعون وعلى أتباعه وعلى من افتخر به وعلى من تشبه به قال تعالى: ((فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ)) أي: تضرب بهم الأمثال، فمن تكبر مثل فرعون حصل له ما حصل لفرعون، فصاروا مثلاً وسلفاً لهؤلاء الظلمة المجرمين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(453/16)
تفسير سورة الزخرف [55 - 60]
من عادات أهل الكفر السيئة التي جبلوا عليها أنهم يسعون نحو الجدل العقيم الذي لا فائدة من ورائه، وقد سلك هذا الطريق كثير من المشركين فجادلوا رسول الهدى بأمور لا يصح أن يجادل فيها إنسان.(454/1)
تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:57 - 62].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى قبل هذه الآيات قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أن فرعون استخف قومه فأطاعوه فيما كان يقوله لهم وأراد أن يهلك موسى ومن معه فإذا بالله عز وجل يغضب عليه وينتقم منه وممن معه قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55] أي: فرعون وجيشه وجنوده فأغرقناهم أجمعين، {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56]، أي: مقدمة يتقدمون القوم الآخرين، فجعلناهم مقدمة لمن أتوا من بعدهم واتبعوا طريقهم الباطل وضلالهم، فهم شر سلف لشر خلف من بعدهم فيكون الخلف مثلهم أشراراً يقتدون بهم فيستحقون النار.
فلا تتكبر مثلما تكبر فرعون وإلا نالك ما نال فرعون، فيضرب به المثل في الشر وفي الكبر وفي الغرور وفي عبادة غير الله سبحانه وفي زعمه أنه أكبر من غيره، وأنه لا يوجد شيء أكبر منه وفي كذبه حين يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحين يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وحين يكذب فيصدقه قومه، فالله عز وجل جعله مثال شر لمن يأتي بعده.
ثم ذكر {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57] إذاً: ذلك مثل شر وهو فرعون، وهذا مثل خير وهو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، الكفار ذكروا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأرادوا أن يضربوه مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا المسيح الذي تزعم أنه نبي وقد عبدته النصارى فأنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فالمسيح عُبد من دون الله سبحانه إذاً: فهو في النار.
أرادوا أن يقولوا ذلك وأن يضربوا للنبي صلى الله عليه وسلم الأمثال، وتجاهلوا لغتهم العربية التي يتكلمون بها، وأعجبهم ما يقولون.
فقريش قالت: إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد المسيح ابن مريم، وهذا من ضمن إفكهم وكذبهم عليه فهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يزعمون أنه يريد أن يعبدوه مثلما النصارى عبدوا المسيح ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وبعض هؤلاء الكفار لما تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن آلهتنا فيها خير نزل القرآن يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] وما يعبدونه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى من أصنام.
و (ما) يراد بها غير العاقل وإذا أراد العاقل قال: ومن تعبدون فهذه هي لغتهم، فقال لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فسكتوا وما قدروا أن يردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا إلى قومهم فإذا برجل منهم اسمه ابن الزبعرى وكان شاعراً من شعرائهم وجاهلاً من جهلائهم فسمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما إني لو كنت معه لخاصمته، أي: جادلته وكنت سأقول: إنك تقول: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) فالنصارى عبدوا المسيح ابن مريم وحسب قولك: فالمسيح ابن مريم خالد في جهنم؛ لأنه معبود من دون الله، وكأنه تجاهل وتغافل عن قوله: (وما تعبدون) وخلطها بـ (من تعبدون) ولو فرض أن وما تعبدون كانت تعم الجميع العاقل وغيره، فيقال وما تعبدونه إن رضي بعبادتكم وأما المسيح ابن مريم فتبرأ من عبادتهم له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأمرهم أن يعبدوا الله، وأخبر الله عز وجل أنه عبد من عباد الله سبحانه تبارك وتعالى، فلما أعجبهم ذلك وأرادوا أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ذكر الله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] وقوله: (يصدون) قرئت بكسر الصاد وبضمها، فـ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وكذلك يعقوب يقرءون: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] وباقي القراء يقرءونها: (إذا قومك منه يصُدون).
يصدون: بمعنى يضجون، ويفرحون؛ بأنهم وجدوا شيئاً يخاصمون فيه النبي صلى الله عليه وسلم ففرحوا بهذا الشيء الذي يقولونه، ورفعوا أصواتهم مستحسنين بجهلهم ما قاله، (إذا قومك منه يصدون) وهذا معنى القراءة الأخرى.
أما القراءة الأولى التي هي بكسر الصاد يعني: يعرضون عن سبيل الله وأعرض أي: منع غيره أن يدخل فيه فكأنهم يصدون عن دين رب العالمين بكلامهم الذي يقولونه ويعرضون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.(454/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أألهتنا خير أم هو)
{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58] أي: أآلهتنا خير أم عيسى بن مريم؟ فأنت تقول: أن المسيح عيسى بن مريم خير ولا شك في ذلك، فإذا كان هو خير فهو في النار على حسب قولك، قال الله عز وجل: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58]، أي: يجادلون بالباطل ويتعامون عما يفهمونه ويعرفونه والمسيح لم يرض بأن يعبد من دون الله، وكذلك اليهود فقد زعموا أن عزيراً ابن الله وهو لم يرض بذلك قالت اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] فاليهود كذبوا على عزير والنصارى كذبوا على عيسى، قال سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58] أي: للجدل فقط، وهم يعرفون الفرق بين: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:98] (وإنكم ومن تعبدون) يعرفون ذلك ولكن يجادلون بالباطل، ويعرفون الفرق بين من رضي بأن يكون إله وطلب ذلك مثل فرعون، وبين من لم يرض بذلك وقال أنا عبد لله كالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهم ما ضربوه لك إلا جدلاً.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، والإنسان الخصم: هو المخاصم الشديد الخصومة المجادل الكثير الجدل بالباطل، وهذا بغيض إلى الله عز وجل، والله عز وجل يبغض من الرجال الألد الخصم، الألد هو اللدود شديد العداوة والخصومة، والذي يحب أن يجادل كثيراً، ويحب أن يظهر أنه يجيد الكلام، وأنه على ثقافة عالية، وأنه يجيد القول، فهذا بغيض إلى الله بغيض إلى الناس، فكان الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال ولذلك قال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثم تلا هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] فالإنسان وهو على الهدى يعبد ربه سبحانه تبارك وتعالى ويريد أن يرضي ربه فلا يوجد لديه وقت فهو يريد أن يرضي ربه سبحانه بحسن خلقه وبحسن عبادته، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه كلما وجد نفسه فارغاً فالذي لا يعبد ربه يعبد الشيطان ويتقرب إلى الشيطان بما يرضيه فإذا به يجادل بالحق أو بالباطل والمهم أن يظهر أمام الناس أنه يجيد الكلام، (فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، فإذا وجدت إنساناً كثير الجدل يريد أن يناقش، ويريد أن يجادل ويتكلم ويرفع صوته اعرف أن هذا الإنسان بعيد عن الهدى، فلم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الجدل ولا كثرة الكلام صلوات الله وسلامه عليه، وقد أوتي جوامع الكلم فكان يتكلم بالكلام البسيط الذي يحفظ عنه صلوات الله وسلامه عليه، وما كان يجلس ليناقش ويجادل مع القوم بل كان العرب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وفوداً ومع كل وفد يأتي شعراء القبيلة وخطباؤها ويقفون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويتكلم الخطيب بخطبة طويلة ويقول الشاعر شعره فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يرد على مثل ذلك وكان يأمر من أصحابه من يرد، فمن طبعه عليه الصلاة والسلام أنه معرض عن الجدل، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يدخل في ذلك من باب المباهاة التي كانت عند العرب فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر ثابت بن قيس بن شماس أن يجيب خطيبهم فكان يجيبه ويفحمه رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان يأمر حسان بن ثابت أو غيره من الشعراء أن يرد على شاعرهم فكان يرد فيغلبهم بذلك أما هو صلى الله عليه وسلم ما كان يدخل في ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) قيل وقال: أي: كثرة الكلام فالإنسان الذي يتكلم كثيراً ليظهر نفسه أنه يجيد الكلام كرهه الله، فلو أن الإنسان وزن ما يقوله هل بكلامه هذا يرضي ربه؟ أم أنه يرضي نفسه بذلك؟ فالمجادل يرضي نفسه؛ لأن عنده حب شهوة الكلام فيرضي نفسه ويطمئن قلبه بذلك، أما الإنسان المؤمن فيرضي ربه بكلامه ويرضي ربه بسكوته فإذا تكلم تكلم بذكر الله سبحانه تبارك وتعالى وإذا سكت كان ذاكراً لله في لسانه وفي قلبه، ويعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله عز وجل يخبر عن عبده: (إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، فالمؤمن هذه حاله.
قال الله سبحانه تبارك وتعالى عن هؤلاء المشركين: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] أي: مجادلون بالباطل محبون لهذا الجدل.(454/3)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه)
أما المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقد قال الله عز وجل عنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59] ما هو إلا عبد عليه الصلاة والسلام، {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]، فذكر الله عز وجل المثل ثلاث مرات: في المرة الأولى عن فرعون ومن معه: ((فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين)) وهذا مثل شر وموعظة لمن يتق الله عز وجل ولمن يتعظ بمثل هذه القصة، والمثل الآخر الذي ضربه الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يكذبون ويفترون ويتغافلون عما يقولونه فذكر الله عز وجل هذا المثل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] المثل الثالث: يقول نحن جعلناه مثلاً أي: جعلنا المسيح آية فالمثل في هذه الآية معناه المعجزة وجعلناه آية من آياتنا.
{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59]، عبد خلقه الله عز وجل وليس بأعجب من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي أوجده الله عز وجل من لا شيء فكان من ماء ثم من تراب ثم جسداً حياً بعد ذلك وليس عجباً أن يخلق الله عز وجل آدم من تراب، وليس عجباً من العجب أن يخلق المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أم فقط من غير أب وهذه آية من آيات الله عز وجل، وكل خلق الله عز وجل عظيم فإذا قيل خلق المسيح من أم فقط قلنا: ليس هذا بأعجب من حواء التي خلقت من ضلع من آدم فهل عبدتم المسيح؛ لأنه خلق من أنثى؟ فاعبدوا حواء لأنها خلقت من ذكر فهي أولى، وحاشا لبشر أن يعبد من دون الله عز وجل، وهذا آدم خلقه أعجب من خلق الجميع فقد خُلق من لا شيء، فجعل الله المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام آية قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ليروا آية من آيات الله عز وجل أمامهم فيصدقون أنه نبي الله عليه الصلاة والسلام، ولم يؤمن به الكثيرون من بني إسرائيل وإنما آمن به البعض وأما الكافرون فقد أرادوا قتله ووشوا به إلى ملكهم ملك الكفار ليقتله وقد جعل الله له آيات يحيي الموتى بإذن الله سبحانه، ويبرئ الأكمه والأبرص ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وهذه كلها آيات من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى لم ينسبها لنفسه وإنما نسبها لله سبحانه تبارك وتعالى وأنه يفعل ذلك بإذن الله فقال الله سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] حتى يؤمنوا ويصدقوا ويتبعوا أنه نبي ورسول أرسله الله عز وجل إليهم.(454/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة)
قال عز وجل: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] لو شئنا لأنزلنا ملائكة من عندنا وجعلناهم يمشون في الأرض، ولكن لو نزلنا ملكاً من السماء فإن الناس لن يؤمنوا طوعاً حين يرون هذا الملك وإنما سيؤمنون قهراً، والله لا يريد ذلك، فلو أنه نزل ملكاً فمن سيجرؤ أن يقول: للملك: لا لن نؤمن فإذا كان ملك من ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى أخذ قرية ورفعها وقلبها على أهلها من الناس فلو نزلنا ملكاً من السماء لجعلنا هذا الملك بشراً أي: في صورة بشر {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] أي: لخلطنا عليهم فلا يعرفون أهذا ملك أم بشر يدعي أنه ملك على صورة بشر؟ كما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول من رب العالمين ولم يصدقوه فما الذي يجعلهم يصدقوا أنه ملك، فإما أن نجعله على صورة الملك فلا يطيقون أن ينظروا إليه ولا أن يسمعوا منه وسيخافون منه، أو نجعله على هيئة البشر فلبسنا عليهم ما يلبسون ويختلط عليهم الأمر ويقولون لن نصدقك فلا ينفع مع هؤلاء إلا بشر من البشر.
قال الله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] لجعلناهم يخلف بعضهم بعضاً فهذا ملك رسول وبعده ملك آخر رسول وبعده ملك آخر رسول، ولكن مشيئة الله عز وجل أبت إلا أن يكون الرسول من البشر وأن يدعو الخلق فيكون منهم المؤمن ومنهم الكافر لحكمة من الله سبحانه.
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(454/5)
تفسير سورة الزخرف [57 - 61]
يخبر سبحانه عن حال كفار قريش حين ضرب ابن مريم مثلاً، وكيف أنهم فرحوا وظنوا أنهم قد وجدوا التناقض من رسول الله حيث إنهم قد سمعوا منه أن الكفار ومعبوداتهم سيدخلهم الله نار جهنم، فقالوا: هذا عيسى رسول الله عبد من دون الله فهل سيدخل النار؟ وما فعلوا ذلك إلا ليصدوا عن سبيل الله وليجادلوا بالباطل؛ لأنهم يعلمون أن عيسى آية لبني إسرائيل، وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما يدل على أنه رسول من عند الله، ولو شاء الله لأرسل إلى الناس ملائكة لكن حكمته اقتضت أن يرسل إليهم رسلاً من أنفسهم.(455/1)
تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:57 - 61].(455/2)
تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن المشركين من قريش لما ضرب ابن مريم مثلاً وقد كانوا سمعوا قول الله سبحانه وتعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99] رفعوا أصواتهم وضجوا وقالوا: ابن مريم عبد من دون الله سبحانه وتعالى، فأخذوا يعرضون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ويصدون الناس عن دينه بهذا الهراء الذي يقولونه، ويصدون بمعنى يردون، ويرفعون أصواتهم فرحين بما قادهم إليه بعضهم من قوله إن عيسى النبي عليه الصلاة والسلام قد عبد من دون الله ونحن نعبد هذه الآلهة من دون الله، فإذا كان كل ما يعبد من دون الله في النار فقد رضينا أن تكون آلهتنا مع المسيح في النار، فلما قالوا ذلك ظنوا أنهم قد غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد تناقض في قوله، فهو يقول: كل ما يعبد من دون الله فهو في النار، والمسيح عيسى ابن مريم رسول الله وقد عبد من دون الله فسيكون في النار، وقد رضينا أن تكون آلهتنا معه في النار.
وقد قالوا ذلك ليصدوا عن سبيل الله عز جل ويصدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، فأنزل الله سبحانه ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) وأنزل في سورة الأنبياء على النبي عليه الصلاة والسلام {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103].
فالله عز وجل جعل للمسيح عليه الصلاة والسلام سابقة حسنى عنده، فهو عبده ونبيه ورسوله وأحد أولي العزم من الرسل وهؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى، وهو لم يرض عما فعله هؤلاء وقد رفعه الله سبحانه إليه وسينزله مرة ثانية ليتوفى على الأرض كما توفي غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(455/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)
قال سبحانه: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] أي: هل الآلهة التي نعبدها خير أم هو؟ أي: أنت تقول أن كل من عبد من دون الله سيدخل النار والمسيح على ذلك سيدخل النار، وقد رضينا أن تكون آلهتنا مع المسيح، وغرضهم من هذا التكذيب، وهم يفهمون أن ما يقولونه باطل، ولكن يصدون عن سبيل الله بهذا الكلام ويفرحون في أنفسهم بأنهم قالوا شيئاً وردوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه قراءة بعض القراء والبعض الآخر يقرؤها بالتسهيل وممن قرأها بالتسهيل المدني نافع وابن جعفر والمكي ابن كثير وكذلك أبو عمرو ورويس عن يعقوب، وابن عامر يقرءونها بتسهيل الهمزة الثانية، ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) أي: يعني هم يجادلونك فقط بهذا الجدال الباطل وهم يعرفون كذب أنفسهم ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) أي: شديدوا المخاصمة والجدال والتمحل بالباطل.(455/4)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه)
{إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] أي: فهو عبد من عباد الله سبحانه وتعالى، ورسول أرسله الله عز وجل إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وليس إلى عبادة نفسه، ولذلك يقول في المشهد يوم القيامة ما يخبر الله عز وجل عنه في سورة المائدة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة:116 - 117] فالأمر الذي أمر به المسيح عليه الصلاة والسلام قومه هو أن اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولم يقل لهم اعبدوني من دون الله سبحانه.
وهو شهيد كغيره من الرسل على قومه قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117] أي: لما قبضتني كنت أنت الذي تشاهدهم، وتحكم عليهم وتحفظ عليهم ما يقولون وما يفعلون، فالمسيح ما هو إلا عبد من عباد الله سبحانه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن المسيح عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، فالذي يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك يشهد أن المسيح عليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه ويشهد أن الجنة حق وأن النار حق يدخله الله عز وجل الجنة على ما كان من عمله.
وهو أي المسيح معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى، فقد جعله الله يحيي الموتى، ويبرئ الأكمة والأبرص والأكمة هو الأعمى خلقة ولعل الإنسان إذا عمي بسبب مرض من الأمراض يعالج، أما الذي ولد أعمى فلا سبيل إلى علاجه، فالمسيح عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخبر أن ذلك بإذن الله وليس من عند نفسه هو، {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] وهذا من أعماله العظيمة التي جعلها الله عز وجل آيات لقومه ليؤمنوا به عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].(455/5)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة)
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: لو شاء الله عز وجل لجعل الرسول ملكاً من ملائكته، والرسول الذي بين السماء والأرض هو ملك من الملائكة، ولكن لا يراه إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، أما غيره من الخلق فلا يطيقون ذلك، وقد عود النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى طاق ذلك فقد قال له ربه {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فكان القرآن ينزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي تغشاه ما شاء الله أن يتغشاه حتى إنه يفيض عرقاً في الليلة الشديدة البرد من شدة ما ينزل عليه من السماء، ثم يفيق صلوات الله وسلامه عليه وقد حفظ ما قاله له جبريل فيبلغ عليه الصلاة والسلام ما جاءه من ربه.
ولقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء يتعبد لله سبحانه وتعالى، ليالي كثيرة العدد يتحنث فيها ولمثلها يتزود صلوات الله وسلامه عليه حتى فجأه جبريل فرآه بين السماء والأرض، ففزع النبي صلوات الله وسلامه عليه وهرب من هذا المكان، ثم مرة أخرى يراه يعوده ربه سبحانه حتى يطيق ذلك، ثم يأتيه جبريل وهو في الغار فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ويحتضنه ويضمه ضماً شديداً حتى أصاب النبي صلوات الله وسلامه عليه الجهد والمشقة، ثم يترك النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ) عليه الصلاة والسلام، فيأخذه الثانية والثالثة ثم نبئ صلى الله عليه وسلم بسورة اقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
وحين أوحي إليه بذلك كان في رعب شديد صلوات الله وسلامه عليه، فأخذ ما قيل له ورجع إلى بيته يقول: (زملوني زملوني دثروني دثروني) أما لو نزل هذا الملك وقال أنا رسول من عند رب العالمين هل يستطيع أحد أن يكذبه كما كذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه؟ لن يستطيعوا ولن يطيقوا بل سيؤمنون قهراً وقسراً، ولذلك لم ينزل الله سبحانه ملكاً من الملائكة يمشي بين الناس كهيئته؛ لأن الناس لا تطيق ذلك بل لن يستطيعوا أن ينظروا إليه.
فالنبي ما طاق ذلك حتى طوقه الله سبحانه، فإما أن ينزل الملك على ذلك فيؤمن الناس قهراً وإما أن يكون الملك على هيئة بشرية فإذا كذبوه كذبوا بشراً فاختار الله الطريقة العظيمة الحكيمة وهي أن يكون الرسول إلى الخلق بشراً من البشر فيكون من جنسهم ومثلهم مشفق عليهم، ومهتم لأمرهم فيدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ليطيعوه ويوحدوه.
وعدم جعل الرسل ملائكة ليس بسبب العجز ولكن رحمة بكم، ومعنى: يخلفون أي: يخلف بعضهم بعضاً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(455/6)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها)
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61] رجع في الكلام إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقد أنعم الله عز وجل عليه وسيذكره بنعمته عليه، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:110] فهذه نعم من الله عز وجل أنعم بها على المسيح عليه الصلاة والسلام وعلى والدته، فقد جعله يكلم الناس وهو صبي صغير، لماذا؟ ليدعوهم إلى الله عز وجل ويمنعهم من أن يسيئوا الظن بأمه؛ لأنها ولدت طفلاً من غير أن تتزوج؟ فإما أن يقولوا عنها أنها بغي، وإما أن يجعل الله عز وجل لها آية من الآيات تصدقها، فكانت الآية أن يتكلم وهو في المهد صبيا، فهذه نعم من الله عز وجل على المسيح وعلى أمه عليهما السلام.
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: علم من الله عز وجل لكم يعلمكم به أن خروجه دلالة وإشارة وعلامة على قرب القيامة، فمن أشراط الساعة نزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقد رفعه الله عز وجل {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] أي قابضك وافياً، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] فمن يتبع المسيح عليه الصلاة والسلام على توحيد الله عز وجل فوق الذين كفروا فإذا نزل المسيح يوم القيامة كان أتباعه هم المؤمنون أهل دين النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء هم الذين يتبعونه فيكونون فوق الكفار إلى أن تقوم الساعة.
إذاً: نزول المسيح من السماء من أشراط الساعة ومن علامات الساعة الكبرى.
{فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] أي: فلا تشكن في هذه الأشراط فإذا جاء أشراط الساعة انفرطت هذه الأشراط كعقد انفرطت جواهره يتوالى ظهورها علامة وراء علامة.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا المعنى منها ما رواه ابن ماجة ورواه الإمام أحمد أيضاً بإسناد رجاله ثقات وفيه رجل وهو جبلة بن سحيم يروي عن مؤثر بن عفازة ومؤثر بن عفازة وثقه ابن حبان وقال الذهبي: وثق، في الحديث عن ابن مسعود (لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس فلقي الأنبياء وذكرنا في هذه السورة أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].
فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي الأنبياء في بيت المقدس، وصلى بهم صلوات الله وسلامه عليه وتكلم معهم هنالك ثم لقيهم بعد ذلك في السماوات في السماء الأولى وفي الثانية والثالثة على ما ذكرنا قبل ذلك في الحديث.
والغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة (فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علماً، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علماً، فرد الحديث إلى عيسى ابن مريم فقال: قد عهد إلي فيما دون وقتها، فأما وقتها فلا يعلمه إلا الله) أي: الوقت الذي تقوم فيه الساعة وقت النفخ في الصور الذي سيهلك الله عز وجل به جميع من في الأرض هذا الوقت لا يعلمه إلا الله، لكن أشراطها قد أعلم الله عز وجل المسيح لأنه أحد أشراط هذه الساعة.
قال عليه الصلاة والسلام: (وذكر خروج الدجال قال: فأنزل فأقتله) فسيخرج المسيح الدجال ويزعم للناس أنه إله، ويطلب منهم أن يعبدوه، فمن تبعه وأكثر أتباعه هم اليهود والمنافقون، أعطاهم من الأموال وسيفتح الله عز وجل عليه من كنوز الأرض فتنة لهم، ومن كفر به وكذبه سيضيق عليه هذا في الظاهر حتى ينزل المسيح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، (قال: فأنزل فأقتله، فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون).
والدجال وعيسى كل واحد منهم اسمه المسيح والفرق بين الاثنين، أن المسيح عيسى ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام طهره الله سبحانه وتعالى وذاك المسيح الدجال الذي جعل الله عز وجل عينه كالعنبة الطافئة فهو أعور العين، وقد جعله الله عز وجل آية من الآيات، وجعل قبحه علامة على ما يفعله وما يقوله وعلامة للناس ليحذروه، وكتب على جبينه ثلاثة أحرف كفر، هذه الأحرف الثلاثة يقرأها كل إنسان مؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى حتى وإن كان لا يقرأ ولا يكتب.
وبعد أن يقتل المسيح ابن مريم المسيح الدجال قال: (يرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فلا يمرون بماء إلا شربوه) ويأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان، من أسوأ خلق الله عز وجل، يخرجون على الناس قد حبسهم الله سبحانه وتعالى لما طلب من ذي القرنين أن يبعدهم عن الناس فأعانه الله عز وجل فجعل بين الناس وبينهم سداً وسيخرجون عند قيام الساعة.
قال: (فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا بشيء إلا أفسدوه فيجأرون) أي: يصيح الناس بالدعاء إلى الله، قال المسيح عليه الصلاة والسلام (فادعو الله أن يميتهم قال: فتنتن الأرض من ريحهم)، ومعناه أن عددهم ضخم جداً مما سيجعل رائحة الأرض كلها منتنة، قال: (فيجأرون) يعني الناس إلى الله قال المسيح: (فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم فعهد إلي، متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها)، أي: أنه بعدما يزيل الله عز وجل آثار يأجوج ومأجوج، ينزل من السماء مطراً فيذهب بهؤلاء، ويلقي بهم في البحر، وتصير الأرض نظيفة طاهرة، وإذا بالله عز وجل يأمر فتفتت الجبال وبعد أن كانت الأرض منها الأمت ومنها العوج تصير الأرض قطعة واحدة، وتمد الأرض مد الأديم، أي: أنها تصير كالسجادة مستوية جميعها، قال (فعهد إلي) يعني المسيح عليه الصلاة والسلام (متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها).
أي: فإذا جاء هذا الأمر انتظر الناس قيام الساعة كأهل الحامل الذين ينتظرون متى تولد وفي رواية الإمام أحمد قال: (لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً).
وفي حديث آخر رواه أبو داود بإسناد صحيح ورواه الإمام أحمد أيضاً وهذا لفظ أحمد عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى)، إخوة علات أي: ضرائر فالأنبياء إخوة لأب وليس هذا هو المقصود ولكن المقصود أن الدين واحد، أي: أن دين الأنبياء كلهم وإن اختلفت أحكام شرائعهم في تحليل أشياء، والتشديد على الناس بأشياء، ولكن الدين في النهاية الذي يدعون إليه هو توحيد الله سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لإنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل) فهيئة المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أنه رجل ربعه من الرجال، أي: وسط من الرجال، لا طويل بائن، ولا قصير شائن، إلى الحمرة والبياض: يعني منظره أبيض مشرب بحمرة، سبط: يعني شعره ناعم وهو غزير العرق كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، قال (بين ممصرتين)، وذكر في حديث آخر (بين ممشقتين وبين مهروجتين) معناه: أنه لابس ثوبين مصبوغين أقرب إلى الحمرة، قال: (فيكسر الصليب) هذا فعل المسيح عليه الصلاة والسلام.
(فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية)، أي: أنه لا يقبل الجزية من أحد بل لا يقبل إلا الإسلام، قال: (ويعطل الملل حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها)، فلا يكون هناك نصرانية ولا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا يبقى إلا الإسلام فقط؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، قال: (غير الإسلام) ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب.
وتقع الأمنة في الأرض، أي: الأمان في الأرض (حتى ترتع الإبل مع الأسد) أي: أن الجمال ترتعي مع الأسود، قال: (جميعاً والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى)، أي: يموت الموتة التي كتبها الله عز وجل عليه، قال: (فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه).
إذاً: سينزل المسيح؛ لأنه رفع ولم يمت عليه الصلاة والسلام، فينزل ليموت على الأرض ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، هذه بعض الآثار الواردة في هذا المعنى.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.(455/7)
تفسير سورة الزخرف [57 - 67]
يخبر الله تعالى عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل، فقد جادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن المسيح وأن النصارى عبدته، وبذلك يكون معهم في النار، فرد الله عليهم بأن المسيح ومن كان مثله ممن عبد من دون الله دون رضاه مبعدون عن النار؛ لأنهم لم يرضوا بتلك العبادة ولم يأمروا بها، بل كان عيسى عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وكان يؤكد لهم أنه عبد الله لا غيره.(456/1)
تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:57 - 59].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن شأن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأنه عبد من عباد الله جعله الله نبياً ورسولاً، وأرسله إلى بني إسرائيل وجعل معه معجزات، فجعله مثلاً لهؤلاء، ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) أي: أن قريشاً جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض: ما يريده محمد إلا أن نجعله كالمسيح بن مريم، يريد منا أن نعبده، فافتروا عليه صلوات الله وسلامه عليه حسداً له؛ لما آتاه الله عز وجل من نبوة وحكمة وآتاه هذا القرآن العظيم.
وحسدوه ونفسوا عليه ما هو فيه، وقال بعضهم لبعض: زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال ابن الزبعري: لو كنت عنده لناظرته ولخصمته في ذلك، قالوا: ما كنت تقول؟ قال: كنت أقول: إننا نعبد هذه الآلهة والنصارى تعبد المسيح عليه الصلاة والسلام، فإذا كنا نحن وما نعبد من دون الله حصب جهنم فالمسيح في نار جهنم فلما قال لهم ذلك فرحوا وهللوا وظنوا أنهم قد غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الباطل الذي يقولونه، فإذا بالله سبحانه وتعالى يجيب هؤلاء ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] أي: ليس المسيح عليه الصلاة والسلام ممن ارتضى أن يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولا ذنب له في ذلك، بل الذين عبدوه هم الذين يستحقون هذا العذاب، أما هو فهو بريء من ذلك.
فأخبر الله سبحانه وتعالى هنا عن المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] يعني: شهد الله عز وجل له بهذا المقام العظيم، مقام العبودية لرب العالمين، أي: ما هو إلا عبد، كما قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] وقال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] فالنبي صلى الله عليه وسلم عبد ورسول لرب العالمين سبحانه وتعالى، والمسيح كذلك عبد ورسول لرب العالمين سبحانه.
قال هنا: ((إِنْ هُوَ)) أي: ما المسيح ((إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) أي: أنعم الله عز وجل عليه بهذا المقام أنه عبد آتاه الله الكتاب وآتاه الله الحكمة، وجعله رسولاً من أولي العزم من الرسل، ((وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: جعله الله عز وجل لهم آية من الآيات، فقد كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وببعض الغيوب التي لا يعرفونها، فالله عز وجل جعله عبداً وجعله آية وعبرة لبني إسرائيل، هذا معنى المثل في هذه الآية.(456/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة إنه لكم عدو مبين)
قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] لما قال مشركوا قريش عن النبي صلوات الله وسلامه عليه: هذا رجل من البشر مثلنا فلم بعثه الله رسولاً؟ قال الله عز وجل: لو نشاء لجعلنا ملكاً رسولاً، ولكن شئنا أن يكون بشراً من البشر، وليس لأحد أن يعترض على مشيئة الله.
ثم قال تعالى: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [الزخرف:61] قوله: (وإنه) أي: المسيح عليه الصلاة والسلام، ((لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) يعني: أن به تُعْلَمُ الساعة وقرب قيامها، وذكرنا قبل ذلك: أن من العلامات الكبرى للساعة أن يخرج المسيح الدجال وينزل المسيح عيسى بن مريم فيقتل الدجال، ثم تتابع علامات الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، وتقوم القيامة بإذن رب العالمين.
قال سبحانه: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ)) أي: لا تشكن في قيام الساعة، ((وَاتَّبِعُونِ)) أي: واتبعوا كلام رب العالمين، واتبعوا صراط الله المستقيم، واتبعوا دين الله سبحانه، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الدين الذي جاء من عند رب العالمين هو صراط قويم مستقيم من عند رب العالمين، يدل الناس على طريق الله، التي بها يصل العبد إلى جنة الله سبحانه.
ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:62] أي: أن ربنا سبحانه يحذرنا من الضلال عن طريق الله، الذي دعا إليه المسيح ومن قبله من الرسل، ودعا إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو الصراط المستقيم والدين القويم.
فقوله: ((وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)) أي: احذروا من الشيطان أن يصدكم عن اتباع الحق، ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) أي: هو مفصح ومظهر للعداوة لكم، وقد سمعتم ما في كتاب الله عز وجل من آيات يخبركم الله كيف تسبب الشيطان في إخراج أبيكم آدم من الجنة، فهو عدو عداوته ظاهرة، وهو قد أبان لكم وأظهر ووضحت عداوته لكم حين أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، فلا تغتر بوساوس الشيطان وبشبهاته، وبجدال المجادلين في كلام رب العالمين.(456/3)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات)
قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63] أعاد سبحانه ذكر المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر أن المسيح عبد، وأنه من أشراط الساعة، وهنا ذكر أن المسيح جاء إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، فالمسيح من ضمن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين لم يرسلوا إلى جميع الخلق، لكن نبينا صلى الله عليه وسلم ميز على جميع الرسل بأن دعوته للعالمين للإنس وللجن، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2] وذكر الله سبحانه وتعالى الجن حين سمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى قومهم منذرين: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف:31] فأخذوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجعوا إلى قومهم ليدعوهم إلى أن يستجيبوا لرب العالمين سبحانه.
أما باقي الأنبياء فكانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، فالمسيح أرسل إلى بني إسرائيل، فقد قال: أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة، فهنا قال تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ)) أي: جئتكم بالنبوة وجئتكم بالشريعة وبالكلام الفصل ليس بالهزل، ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) جاء المسيح عليه الصلاة والسلام وبنو إسرائيل مختلفون في أمور دينهم مختلفون في التوراة، ومختلفون في أمور دنياهم أيضاً، فقال: ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) أي: لم آت لأبين كل ما تختلفون فيه، فأمر دنياكم لا دخل لي به، ولكن جئت لأبين لكم أمر دينكم، هذا بعض الذي تختلفون فيه، فكان اختلافهم في أمر الدنيا واختلافهم في أمر الدين، فقال: أنا أبين لكم أمر الدين هذا الذي أرسلت به، فقال: (بعض) ولم يقل: كل الذي تختلفون فيه، ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) أي: اتقوا الله ولا تغضبوه سبحانه وتعالى، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية من طاعته سبحانه وحسن عبادته والإخلاص له.
وكذا كل الخلق يلزمهم أن يتقوا الله سبحانه، وأن يطيعوا المرسلين، قال: (وأطيعون) لم يقل المسيح: واتقوني أنا، لا؛ لأنه ليس إلهاً ولكنه عبد من عباد الله أنعم الله عز وجل عليه بالنبوة، فقال: اتقوا الله واعبدوه ووحده واحذروا غضبه بشرككم وأطيعوني فيما جئتكم به من عند رب العالمين.(456/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:64] أكد هنا أن الله هو وحده لا شريك له، وأنا عبد مثلي مثلكم، جئتكم أدعوكم إلى الله سبحانه، فالله هو وحده الرب الذي يخلق والذي يرزق، ويؤكد لهم هذا المعنى؛ لأن المسيح جاء بآيات نظر إليها من أتاهم بها فقال بعضهم: إنه ساحر، وقال بعضهم: إنه عبد نبي، وبعد ذلك بعضهم اختلفوا وقالوا: إنه إله؛ لأنه أحيا الموتى وفعل كذا، فجاء ليبين لهم دين رب العالمين، وأنه الصراط المستقيم، قال: إن الله وحده لا شريك له هو ربي وربكم، وهو الذي خلقني وخلقكم، (فاعبدوه) أي: اعبدوه وحده لا شريك له، إذا عرفت أنه ربك خالقك ورازقك فهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذا الذي جئتكم به صراط مستقيم، ((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: طريق قويم وطريق معتدل إلى رب العالمين وإلى جنته وإلى طاعته.
وكلمة (صراط) فيها ثلاث قراءات، تقرأ بالصاد وتقرأ بالسين وتقرأ بإشمام الصاد مشوبة بالزاي، فقراءة الجمهور ((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [الزخرف:64] وقراءة قنبل عن ابن كثير وقراءة رويس عن يعقوب.
((هَذَا سِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) بالسين، ويشمها صاداً مشوبة بالزاي خلف عن حمزة ((هَذَا زراط مُسْتَقِيمٌ)).(456/5)
تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم)
قال الله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65] أي: الذين تحزبوا وصاروا فرقاً منهم من يردون ما جاء به المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم اليهود، ومنهم من دخل في دينه فأسلموا ثم بعد ذلك حدث بينهم خلاف بعد أن دخل الشيطان فوسوس لهم وقال لبعضهم: إن المسيح عليه الصلاة والسلام ما جاء بهذه الآيات إلا لكونه إلهاً فعبدوه من دون الله وهم النصارى، فاختلفت النصارى على فرق، فمنهم من عرفوا أنه عبد ورسول، ومنهم من أنكروا ذلك وزعموا أنه إله، فاختلفوا إلى نسطورية وملكية ويعقوبية وغير ذلك من فرق كثيرة جداً، وكل هذه الفرق يدعون في المسيح الألوهية، ويدعون فيه أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.
قال سبحانه: ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) ويل عذاب شديد، وهو واد في قعر جهنم للذين ظلموا أنفسهم؛ لأنهم عبدوا غير الله سبحانه، وظلموا نبيهم حيث أعطوه ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى، فبدلاً من أن يتابعوه فيفرح بهم يوم القيامة ويفتخر بهم؛ لأنهم آمنوا بالله، إذا بهم يسودون وجوههم بما صنعوا حيث عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) أي: من عذاب يوم القيامة العذاب الموجع عذاب النار.
وقوله: (فويل للذين ظلموا) عام لكل من ظلم نفسه وظلم غيره، ظلم نفسه بالكفر بالله عز وجل والشرك به، ومن هؤلاء الذين ألهوا المسيح عليه الصلاة والسلام، ومن هؤلاء أهل مكة الذين عبدوا الأصنام من دون الله، فكأنه يقول: قل للظلمة: ويل لهم من عذاب يوم القيامة.(456/6)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم)
قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف:66] أي: إذا جاءت الساعة فإنها لا تأتي إلا بغتة وفجأة ليس لها وقت يعلمه الإنسان، فالساعة ستقوم والناس يكونون في آمالهم وفي أحلامهم، في بيوعهم وشرائهم، الرجل يمد الثوب للآخر وهذا يقيس بالمتر، وهذا يدفع المال، ويأتي عليهم النفخ في الصور فإذا بهم يسقطون موتى، هذا يموت وذاك يموت قبل أن يطوي البائع أو المشتري الثوب، والرجل يلوط حوض إبله لأجل أن يسقي الإبل منه، فتأتيه الساعة قبل أن يصلح الحوض ويخر ميتاً.
والإنسان يستمع صوتاً يأتي من بعيد يصيخ ليتاً ويرفع ليتاً، يميل بجانب ويرفع جانب لكي يسمع ما الذي سيأتي، وهو لا يدري أنها النفخة في البوق، فإذا بهذا الإنسان يخر ميتاً.
تأتي الساعة فجأة على الجميع فلا يتمكن أحدهم أن يذكر الشهادة أو أن يتوب إلى الله عز وجل، وحين تأتي الساعة يموت الخلق.
قال: ((هَلْ يَنظُرُونَ)) أي: هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون إلا وقد فجأتهم، فمات الجميع وبعثوا للعذاب والحساب يوم القيامة.(456/7)
تفسير قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أي: إذا قامت القيامة صار الناس بعضهم لبعض أعداءً، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فالإنسان الذي كان حبيباً للآخر في الدنيا فإنه في الآخرة يفر من خليله الذي كان في الدنيا، ولا ينتفع إلا المتقون حين يؤذن لهم في أن يشفع بعضهم لبعض.
فالأخلاء الذين كانوا متحابين على أمر الدنيا لا تنفعهم هذه المحبة يوم القيامة، بل يصيرون أعداء؛ لأنهم كانوا في الدنيا أخلاء وأصدقاء وأصحاباً على السوء وعلى الفتن وعلى الشرك بالله، فإذا قامت القيامة عادى بعضهم بعضاً، وكل إنسان يتبرأ من الآخر ويقول: أنت السبب أنت السبب، إلا أهل التقوى فهم في نعيم وهم في نعمه عظيمة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(456/8)
تفسير سورة الزخرف [65 - 71]
يوم القيامة هو يوم الفصل بين أهل الجنة والنار، إذ يتبرأ كل إنسان من قريبه وصديقه، وكل منهم يقول: نفسي نفسي، إلا المتحابين في الله فيشفع بعضهم لبعض، ويكرمهم الله عز وجل بالارتقاء مع إخوانهم إلى أعلى الدرجات في الجنة.(457/1)
تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم وأنتم فيها خالدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:65 - 71].
لما ذكر الله عز وجل مناقشة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وجدالهم بالباطل معه في شأن المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم أخبر الله عز وجل أن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].
ثم ذكر الله عز وجل أنه دعا قومه إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وقال: قد جئتكم بالبينات وجئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فأمرهم بطاعة الله قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران:50] أي: اتقوا الله وأطيعون فيما جئتكم به من عبادة الله سبحانه، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً.(457/2)
تفسير قوله تعالى (فاختلف الأحزاب من بينهم)
قال الله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [الزخرف:65] أي: اختلفوا على فرق، منهم من يصدقه ومنهم من يكذبه، والذين يصدقونه اختلفوا فيما بينهم، منهم من قال: هو بشر، ومنهم من قال: هو الإله، ومنهم من قال: هو ابن الله، وغير ذلك من افتراءاتهم وأكاذيبهم فقال الله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزخرف:65] أي: أشركوا بالله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف:66] هؤلاء الظلمة، هؤلاء المشركون، هؤلاء الكافرون ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون إلا الساعة؟ الساعة أدهى وأمر، الساعة إذا جاءت جاءت بغتة، ولا إنذار قبلها، ستأتي الساعة بغتة وهم لا يشعرون إلا والموت قد انقض عليهم فسقطوا موتى.(457/3)
تفسير قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
وقال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أي: إذا جاء الموت وقامت القيامة وحشروا للحساب والجزاء فإذا بالأخلاء يهرب بعضهم من بعض، بل من أقرب الأقربين، الابن يهرب من أبيه، والزوج يهرب من زوجته، والأم تهرب من ابنها وابنتها وهكذا، وكل إنسان مشغول بنفسه، وكلٌ يهرب لا يريد إلا نفسه، يقول: نفسي نفسي.
قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فإذا أذن لهم، فشفع بعضهم في بعض، فالله عز وجل استثنى من هؤلاء من ينتفع بعضهم ببعض، فالمؤمن يحب أخاه فيجمع الله عز وجل بينهما يوم القيامة في جنته وفي رحمته.
فقوله: {الأَخِلَّاءُ} [الزخرف:67] أي: المتحابون في هذه الحياة الدنيا، إما تحابوا للدنيا وإما تحابوا للآخرة.
فإذا كانت محبتهم من أجل الدنيا يهرب بعضهم من بعض يوم القيامة، وإذا كانت في الله عز وجل أذن الله بالشفاعة فانتفع بعضهم ببعض يوم القيامة.(457/4)
سبب نزول قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
ذكروا أن هذه الآية نزلت في أمر رجلين من الكفار وإن كان العبرة بعموم اللفظ ولكن من ضمن هؤلاء كان رجلان من المشركين أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط خليلين، وكانا متصادقين متصاحبين متحابين على كفرهما، وكان عقبة بن أبي معيط يذهب ويستمع إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، يسمع منه وهو يتلو القرآن ويأمر وينهى صلوات الله وسلامه عليه ويأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن الشرك بالله.
فلما ذهب الرجل مرة واثنتين وثلاثة يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إذا بصديقه أمية بن خلف لعنة الله عليهما يقول: وجهي من وجهك حرام إن لم تقطع مجلسك.
يعني: إذا كنت أنت تحبني اقطع مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتفل في وجهه عليه الصلاة والسلام.
فإذا بالآخر يفعل ما أمره به صديقه، ونذر النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبة بن أبي معيط، ولما فتح مكة أمر بقتله حتى وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة فقتل قبل ذلك، وأما أمية بن خلف قتله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأما الآخر هو عقبة بن أبي معيط قتله المسلمون، ونزلت فيهما هذه الآية: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
إذاً: هذا كان خليلاً لهذا وأمره بهذا المنكر فإذا بالله عز وجل يقتل الاثنين في الدنيا ويجعلهما أعداءً يوم القيامة، قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
إذاً: الخليل مع خليله إذا كانا مؤمنين، إنسان يحب الآخر في الله ينتفع به يوم القيامة، وكل من الاثنين يجعل الله عز وجل له درجة في الجنة ويجمعهما، ولعل أحدهما يكون أقل من الآخر في العمل، ولكن بالتحاب في الله يجعل الله عز وجل من هو أدنى مع من هو أعلى.
أما من كانت التواد والمودة بينهم في الدنيا لأمر الدنيا فهؤلاء يتعادون يوم القيامة، وبعضهم لبعض عدو إلا من اتقى الله سبحانه وتعالى.(457/5)
تفسير قوله تعالى (يا عباد لا خوف عليكم اليوم وكانوا مسلمين)
قال الله تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] هذا نداء من رب العالمين يوم القيامة هذا المشهد سيكون أمامك.
فيوم القيامة الأخلاء بعضهم لبعض عدو، وترى الناس يهرب بعضهم من بعض ويقول: نفسي نفسي، وكل منهم يتهم الآخر بأنه السبب في هذا الشيء، والآخر يقول: أنت، ولو أن لي كرة فأراجع أمر ربي مرة ثانية، لكن المؤمنين يوم القيامة يناديهم الله عز وجل: يا عبادي، والجميع ينصتون، يقولون: كنا عباد الله، فينصت الجميع، فيقول الله عز وجل: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69].
إذاً: هنا عباد الله هم الذين اختصهم الله عز وجل بفضله وبرحمته، والجميع يشرئب لذلك يوم القيامة ونحن نعلم أن كل الخلق عباد الله، ولكن الله يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] فلا يرفع رأسه إلا من كان مؤمناً مسلماً لرب العالمين سبحانه.
إن هذه الآية: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] قرأها بكسر الدال ابن كثير وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وكذلك روح عن يعقوب قرأها: (يا عبادِ لا خوف) بكسر الدال عند الوصل، وعند الوقف يقرأ: (يا عبادْ) بسكون الدال.
وقرأها باقي القراء بالياء في آخرها: (يا عبادي) عند الوقف، وقرأها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر وكذلك رويس عن يعقوب: (يا عبادي لا خوف) عند الوصل.
ويقرأها شعبة ورويس عن خلف: (يا عباديَ لا خوف) عند الوصل، وكل القراء يقرءون: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف:68] ما عدا يعقوب يقرأ: (لا خوفَ عليكم).
فقوله تعالى: {لا خَوْفٌ} [الزخرف:68] يعني: لا تخافون، ولا أحد من المؤمنين يخاف عليكم.
فقوله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] معلوم أن الإنسان يخاف دائماً، إذاً: الخوف دائماً من المستقبل، حتى لو كان بجريرة ماضية يخاف من جزاء هذه الجريرة بعد ذلك، والحزن دائماً على الماضي، والإنسان يتذكر مأساة حصلت يحزن عليها، وأهل الجنة لا يحزنون على ماض ولا يخافون من مستقبل، فالله عز وجل قد أمنهم، وهذا أعظم ما يكون من الجزاء أن الإنسان يقال له: أنت في الجنة، وهو خالد فيها لا يموت فيفرح بذلك، فلا حزن ولا شيء يكدر عليه ما هو فيه، ولا خوف من مستقبل يؤذيه، هذه جنة الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
إن الله عز وجل ينادي المؤمنين: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف:68] فعلى قراءة: (لا خوفَ) لا: نافية للجنس، فإن للتبرئة، أي: إن مستحيل أن تخافون وأنتم في الجنة أو تحزنون وأنتم فيها.
وقوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف:68] أي: من ساعة ما يدخلون الجنة يؤمنهم الله عز وجل، دخلتم الجنة، فلن تخرجوا أبداً من هذه الجنة ولن تموتوا أبداً، ولن تشقوا أبداً، ولا يكدر عليكم صفوكم شيء أبداً، ولا أنتم تحزنون.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] تأكيد أمر الإيمان والإسلام.
فقوله: {آمَنُوا بِآيَاتِنَا} [الزخرف:69] وإن كان المؤمن هو المسلم والمسلم هو المؤمن، ولكن بينهما عموم وخصوص، فالإسلام يعم والإيمان يخص، من ضمن هؤلاء أنهما ي أعلى درجة واحدة إذا كان متحابين في الله.
والمعنى اللغوي لهذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا} [الزخرف:69] آمنوا صدقوا بآيات الله عز وجل، فاتبعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
{وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] على المعنى اللغوي فيها: مستسلمين، منقادين، مطيعين، خاشعين لله عز وجل، مخلصين له.
إذاً: هنا: {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] أي: أسلموا قلوبهم، وأسلموا وجوههم، ووجهوا وجوههم لله رب العالمين سبحانه وتعالى.
فإذا جمعوا هذه الصفات كانوا مصدقين بما جاء من عند الله، وكانوا متابعين عاملين منقادين لأمر الله سبحانه، ومجتنبين ما نهى الله عز وجل عنه، وهؤلاء هم عباد الله الذين يناديهم الله يوم القيامة.(457/6)
تفسير قوله تعالى (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون)
قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] فهؤلاء آمنوا بالآيات أنها من عند الله، وأنها في كتاب الله، وآمنوا بمعجزات الله أنها من عند الله ولم ينسبوها إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام كما نسبت النصارى معجزات المسيح إليه، وهو الذي يقول أنها من عند الله سبحانه وتعالى، وأن الذي يحيي الموتى هو الله سبحانه وتعالى، فيبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم أيضاً بعلم من الله سبحانه وتعالى وليس من عند نفسه.
فهؤلاء المؤمنون المسلمون يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] أي: يدخل الرجل الجنة وأيضاً زوجه معه إذا كانت مؤمنة تقية، ولعلها لا تكون قد وصلت إلى درجته التي يصل إليها، ولكن كانت زوجته في الدنيا فلا يحرمها الله عز وجل الفضل يوم القيامة.
فيكون هو في أعلى ما يكون وتكون هي من أهل الجنة وأدنى من ذلك، ولكن لكونها كانت معه في الدنيا، كانت مطيعة لله سبحانه، فالله عز وجل يقول: ادخل وزوجتك معك، ولعل العكس أن المرأة تكون أفضل من الرجل وتدخل الجنة في مرتبة عالية في الجنة، والرجل زوجها يكون من أهل الجنة ولكن لم يصل إلى منزلتها، فالله عز وجل يلحقه بها ويقول: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} [الزخرف:70] فلن يجعل هذا في مكان وهذه في مكان، ولكن: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] أي: تنعمون وتكرمون وتسرون، فالله عز وجل يفرحكم بهذه الجنة، فهم مسرورون فرحون بما هم فيه، منعمون يتلذذون بما آتاهم الله عز وجل من فضله.(457/7)
تفسير قوله تعالى (يطاف عليهم بصحاف من ذهب)
ويذكر الله عز وجل شيئاً من ذلك، يقول سبحانه: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71] أي: يدخلون الجنة ويطاف عليهم بصحاف، والصحاف: جمع صحفة، والصحفة: القصعة الكبيرة الواسعة، أو الإناء الكبير، ومن الصحاف في الدنيا ما يكفي عشرة يأكلون فيها، ومنها ما يكفي دون ذلك وأكثر من ذلك.
فهنا يطاف على أهل الجنة بصحاف كبيرة.
فقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف:71] يمتعون في الجنة بذلك، والصحاف هذه من ذهب، ولذلك حرم علينا الذهب في الدنيا، فإذا أكلت أو شربت في ذهب حرمت من الذهب يوم القيامة.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها).
أي: لا تشرب في كوب من ذهب ولا من فضة، (ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا) أي: للكفار يستمتعون بها في الدنيا.
(ولكم الآخرة) فلا تشبهوا دنياكم بآخرتكم، فالإنسان المؤمن يزهد في الدنيا لينال ما عند الله عز وجل في الآخرة.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من شرب في صحاف أو أكل أو شرب في صحاف الذهب في الدنيا فهو محروم منها يوم القيامة، كأنه لا يدخل هذه الجنة.
كذلك الذي يلبس الحرير في الدنيا يحرم منه يوم القيامة، كأنه لا يدخل الجنة.
وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] مفرد الأكواب: كوب وفرق بين الكوب والإبريق، فالإبريق الذي له يد يمسك بها، لكن الكوب مستدير، تشرب من كل نواحيه.
وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] أيضاً من ذهب ولكن لا يكرر فالمعنى مفهوم منها، وهي كقوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15 - 16] إذاً: الكوب مقدر على قدر ما يحتاج إليه صاحبه، إذاً: يشرب من الكوب الذي يهواه.
فقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:16] أي: مقدر لك ما تريده وما يعجبك، واشرب ما يروق لك.
وقوله: {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان:15] أي: من الزجاج، وفي الجنة ذهب، وبيوت من ذهب ترى ما في داخلها.
وذهب الدنيا كثيف غليظ مستحيل أ، تخترقه ببصرك، ولكن ذهب الجنة تخترقه ببصرك، وهذا شيء عظيم جداً.
فقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15 - 16] وهنا يذكر لنا الذهب، فلهم هذا ولهم ذاك، قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71] أي: في الجنة ما تشتهيه الأنفس، قرأها بالهاء في آخرها نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم: {مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71].
وباقي القراء يقرءون: (وفيها ما تشتهي الأنفس) بغير هاء في آخرها.
فقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71] أي: كلما تشتهيه نفسك تجده في الجنة.
وقوله: {وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71] وفي الدنيا قد تجد الطعام الذي تشتهي أن تأكله ولا تحب النظر إليه، ولكن أهل الجنة في الجنة إذا رأوا بأعينهم الشيء تلذ الأعين بذلك، وتشتهي الأنفس ذلك، فالمنظر طيب وجميل، والمطعم جميل وحلو.
وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] أي: وأنتم في هذه الجنة خالدون لا تخرجوا منها أبداً.
وجاء في الحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمختطون، قالوا: فما بال الطعام؟ جشاء ورشح كرشح المسك).
وهذا نعمة من الله عز وجل، إذ يطوف عليهم خدم الجنة يأتونهم بما يشاءون من طعام وشراب ويخرج منهم رشح له رائحة طيبة جميلة كالمسك.
قال: (يلهمون التسبيح) وهم في الجنة والتحميد والتكبير.
وقال: (كما يلهمون النفس) والإنسان في الدنيا يستمتع بذكر الله سبحانه وتعالى، وفي الجنة أشد من ذلك كما تستمتع بنفسك في الدنيا، فأهل الجنة يلهمون التسبيح والتكبير والتحميد كما يلهم الإنسان في الدنيا النفس.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وأن يجعلنا من أهل جنته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(457/8)
تفسير سورة الزخرف [68 - 77]
ذكر الله عز وجل حال أهل الجنة وما هم فيها من نعيم وحبور وسرور جزاء صبرهم في الدنيا على العمل الصالح والإيمان والتقوى، ثم أتبع ذلك بذكر أهل الشقاوة والتعاسة، أهل النار الذين يعذبون وينالون سوء العذاب والمهانة، فيتمنون الموت والعدم، ولكن لا ينالون ذلك فلا محيص ولا مهرب من عذاب الله والعياذ بالله!(458/1)
تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:72 - 77].
يخبر الله عز وجل في هذه الآيات وما قبلها عن مصير المؤمنين يوم القيامة، ومصير الكافرين الجاحدين.
أما المؤمنون فيقول الله سبحانه: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، ويوم القيامة يوم الجزاء، ويوم الحكم بالعدل، والحكم: هو الله سبحانه تبارك وتعالى، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فينادي يوم القيامة على المؤمنين: يا عبادي! أي: عباد الله الصالحين، الذين آمنوا بآيات الله عز وجل وكانوا مسلمين، وصدقوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، واتبعوا دين الله، وكانوا مسلمين أنفسهم وموجهين وجوههم وقلوبهم لرب العالمين سبحانه.(458/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين)
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69]، فهؤلاء هم الذين يعدهم الله عز وجل بالجنة؛ وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيدخلون الجنة ينعمون فيها، ويأخذون ما يشاءون من فضل الله ورحمته سبحانه تبارك وتعالى، فلا يخاف أحدهم من مستقبل يضايقه، ولا يحزن على ماضِ فات، ولكن الجنة دار النعيم المقيم للذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين.
فهم جمعوا بين التصديق القلبي، وبين الأفعال الظاهرة بالجوارح، والإيمان: هو تصديق بالقلب، وقول باللسان؛ وعمل بالجوارح والأركان، (آمنوا وكانوا مسلمين) صدقوا بالقلوب، وصدقوا بالألسنة، وصدقوا بالفعال، فجمعوا بين الأمرين، وهنا الإيمان: بمعنى التصديق.
والإسلام: هو الاستسلام لله سبحانه، والإذعان والخضوع له، والطاعة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(458/3)
تفسير قوله تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون)
يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70]، فهنا يطمئنهم ربنا سبحانه تبارك وتعالى ويقول: ادخلوا الجنة ومعكم نساؤكم المؤمنات، كذلك يقال للمرأة: ادخلي الجنة ومعك زوجك المؤمن {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] أي: تفرحون في الجنة، وتنعمون فيها وتسرون، وتكرمون فيها، فهذا هو معنى (تحبرون) فيكرمكم الله سبحانه تبارك وتعالى بكل ما تتلذذون به، وبكل ما يسركم من طعام وشراب، وسماع غناء، ولعب، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.(458/4)
تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب)
من ذلك ما يذكر الله عز وجل هنا حيث قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، (يطاف عليهم) وفي سورة (يطوف عليهم) من الذين يطوفون عليهم؟ قال: {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17]، أي: غلمان مخلدون.
ويخلق الله عز وجل أطفالاً لأهل الجنة خدماً يطوفون عليهم، قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71]، وكذلك الملائكة تأتيهم بأنواع من الأطعمة والأشربة، (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]، تأتيهم الملائكة بثمار الجنة، فيقول أهل الجنة! هذا الذي أكلناه من قبل، فيقولون: لا، هذا شيء جديد، هذا شيء آخر، فهو ((مشتبهاً وغير متشابه)) يشبه بعضه بعضاً في الجمال والكمال والحسن، وقد يشبهه في اللون ولكن الطعوم مختلفة، فأهل الجنة يأتيهم الملك أو الملائكة أو الغلمان بهذا الطعام فيقولون: هذا أكلنا مثله من قبل، فيقولون لهم: الذي أكلتموه من قبل، شيء آخر فيأكلون ويجعل الله عز وجل لهم مقدرة على أن يأكلوا من كل ما يشتهون.
والإنسان في الدنيا إذا وضع له طعام مهما كان الطعام فاخراً فإنه يأكل منه ما يكفيه، وقد يملأ معدته بما يتخمه ولكن لا يقدر على أكثر من ذلك، فإذا أوتي بشيء أفضل منه لا يقدر على أن يأكل منه لأنه امتلأت معدته.
أما أهل الجنة فإن الله عز وجل يجعلهم يأكلون مما يشاءون، ومما تشتهيه أنفسهم ولا يتخمون أبداً، وإنما يخرج منهم هذا الذي دخل فيهم عرقاً على هيئة رائحة طيبة أفضل وأحسن من المسك.
قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71]، وذكرنا أن الصحاف: جمع صحف، والصحفة: الطبق الكبير الواسع الذي يكفي العدد من الناس، وقد يكفي عشرة فما فوقهم وما دونهم أيضاً، قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] والأكواب: الكيزان التي قدرت تقديراً، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، أهل الجنة يخلدون في الجنة، والإنسان حين يرى شيئاً جميلاً طيباً يحب أن يطيل المكث فيه خوفاً من أن يضيع منه، ولكن أهل الجنة يقال لهم: هذا الشيء لن يضيع منكم ولن تخرجوا منه، فتنعموا في الجنة بما شئتم من طعام وشراب ولهو وذكر لله سبحانه تبارك وتعالى.(458/5)
تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} [الزخرف:72]، إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم: تلك الجنة، و (تلك) اسم إشارة للبعيد، والجنة عظيمة يشار إليها باسم الإشارة البعيد للدلالة على عظمتها، وإن كانت هي قريبة وأهلها فيها.
قال تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون) ورثهم الله عز وجل الجنة، وكانوا في الدنيا يعملون لها، فلما عملوا استحقوا الجزاء، فورثوا هذه الجنة فكأنهم هم الذين يرثون غيرهم ممن ضاعت منهم هذه الجنة بكفرهم وجحودهم لربهم سبحانه تبارك وتعالى.
وكل إنسان كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له موضعان: موضع في الجنة، وموضع في النار، فإذا أنعم الله عز وجل عليه بالجنة، يقال له: انظر هذا موضعك من النار لو كنت عصيت الله، ادخل موضعك في الجنة، فيدخل الجنة ويفرح أشد الفرح حين يرى مكان العذاب وأنه أفلت منه! وأهل النار يقال لهم: هذا موضعكم في الجنة لو كنتم أطعتم الله سبحانه، ادخلوا النار، فيدخلون النار.
وأماكن أهل الجنة التي كانت في النار يأخذها الكفار الذين دخلوا النار والعياذ بالله، والعكس، أماكن هؤلاء لو كانوا أطاعوا ودخلوا الجنة حرموا منها بكفرهم، فيأخذها ويرثها المؤمنون، فيقال لهم: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها بالإدغام أبو عمرو وابن عامر وخلف وابن ذكوان ((أورثتّموها)) وكذلك حمزة والكسائي يقرءونها بإدغام الثاء في التاء ((أورثتّموها بما كنتم تعملون)).(458/6)
تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)
يقول تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:73] (لَكُمْ) أي: يا أهل الجنة! {فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}، الإنسان في الدنيا عندما يأكل ويعرف أن هناك فاكهة بعد الطعام يفرح، فالفاكهة تفكه الإنسان وتفرحه، والإنسان الفكه: هو الذي يفرح ويضحك، فكأن الفاكهة تدخل السرور على قلب الإنسان، وقوت الإنسان ضروري لحياته، وأهل الجنة يعيشون في الجنة فيعطيهم الله عز وجل ما يشاءون، وتأكل في الدنيا حتى لا تمرض، وحتى تقدر على العمل، أما أهل الجنة فقد أعطاهم الله عز وجل الصحة والعافية والخلود، فلا يحتاجون إلى قوت، وإنما هم يريدون الفرح والسرور، فيقال لهم: هذه الجنة التي أورثتموها، وهذه الفاكهة التي تتفكهون بها في الجنة وتأكلون وتشربون، فإذا أعطوا الفاكهة فلا شك أنهم يعطون ما هو غير ذلك من طعام ولحم ونحوه.
{لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} [الزخرف:73] فلا تعد أصناف الفاكهة وأجناسها وأنواعها، وقوله: (منها تأكلون)، فهي لكثرتها لا تستطيعون أن تنفدوها، فهي لا تنتهي، فمن بعضها (تأكلون) تأكل ما تشتهي ولا تنفد هذه الفاكهة التي في الجنة.
فهذا حال أهل الجنة يأكلون وينعمون ويفرحون ويكرمون.(458/7)
تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون)
والقسم الآخر: أهل النار والعياذ بالله نسأل الله العفو والعافية، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، وهذه عادة القرآن العظيم، إذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار، حتى يكون الإنسان بين الرغبة والرهبة، بين الخوف مما عند الله وبين الأمل والرجاء فيما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وهكذا المؤمن دائماً يسير بين الخوف والرجاء، وبين الرغبة والرهبة، وبين الطمع وبين الخوف والخشية.
أما المجرمون الذين أجرموا وأساءوا إلى أنفسهم وإلى دينهم وإلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام فيقول الله عنهم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، وهي نار الآخرة والعياذ بالله، نار مستعرة، أسماؤها في القرآن أسماء شديدة تدل على قبح ما فيها، وعلى شدتها وسعيرها، وجنهم بمعنى: البعيدة الغور، والبعيدة القاع، فيقال: بئر جِهنّام، بمعنى: بئر عظيمة القعر، ونار جهنم التي يلقى فيها صخرة من فوقها فلا تصل إلى قاعها إلا بعد سبعين عاماً، هذه هي النار الفظيعة العظيمة قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، أي: لا يخرجون منها، فهؤلاء هم الكفار والعياذ بالله الذين أجرموا.(458/8)
تفسير قوله تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون)
يقول تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] (لا يُفَتَّرُ) أي: لا يخفف عنهم، والفتور: شيء يستشعره الإنسان من الخذلان والتعب وفتر بمعنى: سكن قليلاً، كأن العذاب هنا مستعر عليهم فيتمنون لو أنه خفف قليلاً، (لا يفتر عنهم) أي: هو عذاب مستعر عليهم والعياذ بالله، {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]، أبلس بمعنى: قنط وأيس، أي: انقطع طمعه ورجاؤه، فهم فيها منقطع رجاؤهم وطمعهم، وقد كانوا يطمعون في الجنة فضاعت الجنة عليهم، ويقال لهم: هذه النار التي كنتم توعدون أنتم فيها خالدون، ويذبح الموت بين الجنة والنار فييأسون من الخروج منها، ((لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ)) أي: في هذا العذاب {مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75].(458/9)
تفسير قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)
يقول تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، أي: هم الذين ظلموا أنفسهم، قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وحاشا لله سبحانه تبارك وتعالى، وقوله: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، يؤكد الله عز وجل بذلك أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله، وبإيذائهم رسل الله، وتكذيبهم وبابتعادهم عن دين الله سبحانه.(458/10)
تفسير قوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون)
قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أخبر الله عز وجل أنهم في العذاب مبلسون يائسون من الخروج، وكأنهم قبل أن ييئسوا من الخروج من النار (نادوا يا مالك)، ومالك خازن جهنم والعياذ بالله، خلقه الله عز وجل لها يوقدها ويزجرها، فإذا زجرها اشتعلت والتهبت وأكل بعضها بعضاً، فيزجر النار لتزداد قسوة على ما فيها، فينادي هؤلاء مالكاً، وليس مالك هو وحده الذي في النار، ولكن معه خزنة جهنم، فهم ملائكة كثيرون على جسور جهنم، وفيها أبواب مؤصدة على أهلها، والملائكة موكلون بتعذيب أهل النار والعياذ بالله.
قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ورئيس خزنة جهنم هو مالك، فيجأر أهل النار إلى مالك يقولون: (يا مالك ليقض علينا ربك) طالما أنه لا يوجد خروج من هذه النار فليجعلنا تراباً وليقض علينا ربك، أي: ليمتنا ربك، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فهذه آية قصيرة وفيها كلمات يسيرة، ولكن الفرق بين النداء وبين الجواب أعوام كثيرة جداً، ينادون مالكاً، قيل مدة أربعين سنة، ومالك ساكت عنهم، فينادونه وهم يجأرون ويصرخون ويستغيثون: (يا مالك ليقض علينا ربك) ليمتنا ربنا، لما رأوا البهائم صارت تراباً قال: {الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] فنادوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فسكت عنهم مالك ما شاء الله عز وجل أن يسكت، وفي النهاية جاءهم
الجواب
{ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47] فيسكت عنهم مالك أربعين سنة وهم يصرخون، وحين يلتفت إليهم يظنون أنه أتاهم بشيء فيقول: أنتم ماكثون.
وجاء عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، فقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49].
واليوم كثير على أهل النار، فهو بألف سنة مما نعد، فقالوا: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) سألوا أن يخفف الله عنهم يوماً واحداً، فأجابت الملائكة: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} [غافر:50] اعترفوا، {قَالُوا فَادْعُوا} [غافر:50]، أي: قالت لهم الملائكة: ادعوا ما شئتم، {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، فدعاؤهم في تيه لا يُسمع ولا يستجاب لهؤلاء، فلما يئسوا من الخزنة نادوا مالكاً وهو رئيس الخزنة، وله مجلس في وسط النار فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] سألوا الموت وطلبوه، قيل: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال محمد بن كعب: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوماً، يعني: يريد أن يقول: واليوم بألف سنة مما تعدون، فإذا مكث هؤلاء ثمانين سنة ستكون كم من سنين هذه الدنيا؟ قال: واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم مالك -خازن النار- بشيء من الضيق مما يفعلونه، ومعنى أن يلحظ الإنسان الآخر: أي: أن يبصره بطرف عينه، فلا ينظر نظرة المقبل عليه المحب له، وهكذا يضع خزنة النار مع أهل النار، والعياذ بالله.
قال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، بعدما طال سكوته عنهم، فلم ييئسوا وسألوا الله عز وجل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] أي: نحن نعتذر إنما هو القضاء والقدر {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، وسكت عنهم ربهم ثم أجابهم فقال: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، و (اخسئوا) كلمة تقال للكلب حين يزجر، فقيل لأهل النار ذلك والعياذ بالله {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108 - 110]، نسيتم في الدنيا عندما كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والأولياء والدعاة إلى الله يدعونكم إلى الله فكنتم تسخرون منهم، وتضحكون، وتستهزئون، وهم يدعون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]، قال الله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111].
فيقال لأهل النار: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، لما رأوا يوم القيامة ومدته وهوله، وأيام النار التي هم فيها اليوم يعد بألف سنة قالوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، أي: اسأل الذين يعدون ويعرفون العدد فنحن عشنا في الدنيا يوماً أو بعض يوم.
فالإنسان المؤمن يتفكر في أن عمره كله إذا قارنه بيوم القيامة، لا يأتي إلا بعض يوم، فلو عشت مائة سنة، وأيام القيامة اليوم بألف سنة، فتكون عشت عُشر يوم من أيام القيامة ألا تصبر في هذه السنين التي أنت فيها في الدنيا حتى تنعم النعيم الأبدي يوم القيامة، أم أنك تشقي نفسك وترديها بعمل المعاصي والكفر بالله حتى تقع في النار أبد الآبدين؟! نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(458/11)
تفسير سورة الزخرف [72 - 80]
أكثر الكفار يكرهون الحق عناداً واستكباراً وحسداً، ومنهم من لا يكره الحق، لكن يتابع الأقوياء والأغنياء ليرضيهم بذلك، أو ليصيب من عرض الحياة الدنيا، فهؤلاء كلهم في النار، والله يسمع ما يسرون في أنفسهم، وما يتناجون به فيما بينهم، وإن كادوا للإسلام والمسلمين فإن الله يكيد بهم.(459/1)
ظلم الكافرين لأنفسهم وندامتهم في الآخرة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:78 - 80].
في هذه الآيات وما قبلها يخبر الله سبحانه وتعالى عن حال أهل الجنة، وعن حال أهل النار، فذكر أهل الجنة فقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:72 - 73]، وذكر أهل النار فقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:75 - 76].
فأهل الجنة ينعمون في الجنة بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويقال لهم: أنتم فيها خالدون، وأهل النار المجرمون الفجار في عذاب جهنم خالدون، لا يخفف عنهم وهم فيه مبلسون، آيسون منقطع أملهم عن الخروج من هذه النار، قال الله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، فالإنسان يظلم نفسه فيستحق ما جنت عليه يداه، ولذلك في الحديث أن الله عز وجل يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالإنسان الذي يجد في صحيفة عمله خيراً، فليحمد الله أن وفقه لذلك، ومن وجد غير ذلك من آثام فلا يلومن إلا نفسه، فهو الذي ظلم نفسه في الدنيا، بأن كفر بالله وجحد نعم الله، وعمل السيئات فاستحق العقوبات، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
وأهل النار لما يئسوا من رحمة رب العالمين، ومن الخروج من النار، دعوا على أنفسهم بالهلاك، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] يعني خازن النار، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فكان جوابه بعد أن سكت عنهم: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] أي: ماكثون في العذاب لا تخرجون منه ولا يخفف عنكم.(459/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)
{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، جاء الحق من عند رب العالمين، وجاءت رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وجاء النبي بالنور المبين من عند رب العالمين، قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] فأكثر هؤلاء الكفار كرهوا هذا الحق الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه.
قال بعض المفسرين: أكثر هنا بمعنى كل، يعني كلكم للحق كارهون، وقيل: الأكثرية هم كبراء القوم، فهم كرهوا ذلك، والصغار تابعوا الكبار فيما كرهوا وما قالوا، فالكبار أعرضوا عن الدين غيظاً من النبي صلى الله عليه وسلم وحسداً له على ما آتاه الله عز وجل من نعمة ومن نور ومن رسالة، واستضعفوا صغارهم فأخذوهم معهم، والصغار منهم من كره ومنهم من لم يكره، ولكن تابعوا الكفار الكبار فيما هم فيه، فالأكثرية من هؤلاء المشركين كرهوا ما آتى الله النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنه سيكون معه الأمر والنهي من رب العالمين، وقد اعتاد هؤلاء الكبراء أنهم هم الذين يأمرون، وهم الذين ينهون، ولا أحد يأمرهم، ويظن كل منهم أنه يصلح أن يكون ملكاً، فكيف يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى، فكرهوا منه ذلك.
فالأكثر من الكفار يكرهون الحق، والأقل منهم لا يكرهون الحق، ومع عدم كراهتهم لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحقوا النار، مثل أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل ربى النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب ما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، وقال وهو يموت: والله يا ابن أخي! لوددت أن أقر بها عينك، أي: أنا أحب ذلك، فهو لم يكره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن خاف أن يقول الكفار عنه بعد أن يموت: إنه جبن من الموت وخاف من الموت فقال: لا إله إلا الله، وماذا يضيره لو قالوا عنه ما قالوا؟ وما الذي سيحصل له بعد أن يموت؟ وكما قالت أسماء لابنها رضي الله تبارك وتعالى عنهما: وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فابنها ابن الزبير لما حاربه الحجاج وبنو أمية قال لأمه: إنهم يتوعدوني لو قتلت أن يمثلوا بي، وكان هو من الشجعان رضي الله عنه، فقالت له: هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فهذا لم يستحضر هذا المعنى أو تغافل عنه، وعادة أهل الجاهلية حب الذكر في الحياة وبعد الموت، ولذلك كانوا يحبون الشعراء، ويقربونهم؛ لأنهم بزعمهم سيخلدون أسماءهم بعد وفاتهم؛ لذلك كانوا يغدون على الشعراء، فإذا قال الشاعر أبياتاً من الشعر يمدحه فيها أعطاه مالاً كثيراً على هذا الذي يقول، لأنه سيبقى خالداً بعدما يموت بهذه الأشعار، فهذا ظن أهل الجاهلية، وكان الكثيرون منهم يكرهون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حسداً له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أتى بالحق من ربه، وسيكون له الأمر عليهم، وقليل منهم لم يكرهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل منهم من كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يستحيون من قومهم أن يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع لم يدخلوا الإسلام، فاستحقوا جميعاً النار، ويقال لهم وهم في النار: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، كرهوا الحق فوقفوا مدافعين عما هم فيه من باطل.
ولذلك إذا غزا جيش من الكفار المسلمين يقاتل الجميع، حتى ولو قال بعضهم: أنا لم أخرج لقتال، فالمعاملة بالظاهر، ولذلك لما أسر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وكان مع الكفار، والعباس كان مسلماً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا مسلم، فإذا كنت مسلماً فما الذي جعلك تأتي مع الكفار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن ظاهرك كان علينا)، أي: أنت أسرت وأنت مع هؤلاء، فالظاهر أنك كنت علينا، فنعاملك بالظاهر، وسريرتك إلى الله عز وجل.
فهؤلاء الذين كرهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تابعهم الضعفاء؛ أملاً في أن ينالوا من هؤلاء الأقوياء والجبارين أموالاً أو مناصب في الدنيا أو يكونوا أتباعاً لهم، فالله عز وجل أدخل الجميع النار، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].(459/3)
تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون)
قال الله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] (أم) الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أأبرموا كيداً؟ أيدبرون تدبيراً ويكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن أفحش ومن أشنع ما صنع هؤلاء أنهم اتبعوا أبا جهل لعنة الله عليه وعلى أمثاله، ووقفوا يتشاورن ما الذي يصنعونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نصيحة هذا الملعون لعنة الله عليه أن قال: لنأخذ من كل قبيلة رجلاً، حتى نوزع دم النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعين قبيلة، فنأخذ من كل قبيلة رجلاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتوزع دمه في القبائل، فبنو هاشم لن يستطيعوا قتال أربعين قبيلة، فسيرضون بالدية، ويضيع دمه صلى الله عليه وسلم.
وجمعوا فعلاً أربعين رجلاً قوياً من أربعين قبيلة، واجتمعوا ليلة هجرته صلوات الله وسلامه عليه عند بابه يريدون قتله، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤيده ربه، فأمره أن يهاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، يقول سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} [الزخرف:79]، فهم فعلاً أبرموا وكادوا، واجتمعوا حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا} [الزخرف:79] بنون العظمة، أي: مبرمون {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته أمامهم، ويأخذ حفنة من التراب، ويضع على رأس كل منهم شيئاً من التراب، ويعمي الله عز وجل أبصارهم فلا يشعرون، وناموا وهم ينتظرونه صلى الله عليه وسلم، ويخرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، والله عز وجل يدبر لنبيه صلوات الله وسلامه عليه حتى لا يستطيعوا إدراكه، فيخرج إلى الغار صلوات الله وسلامه عليه ويختبئ في الغار ثلاثة أيام، وهم يبحثون في كل مكان عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهبوا إلى الغار الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه يبحثون عنه، وأبو بكر الصديق يخاف من ذلك، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو نظر أحدهم أسفل منه لرآنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه.
ويأتي الكفار ويقف أحدهم فوق الغار، ولا ينظر داخل الغار، ويعمي الله عز وجل أبصارهم، ويرجعون، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث ليال من هذا الغار متوجهاً إلى المدينة، وإذا برجل من الكفار يسمع قومه يقولون: أنهم رأوا سواداً في المكان الفلاني، فيقول القائل: أظنه محمداً وصحبه، صلوات الله وسلامه عليه، فيقول سراقة بن مالك بن جعشم: لا، أنا أرسلت فلاناً إلى المكان الفلاني، وهو لم يرسل أحداً، ولكن أحب أن يفوز بالدية التي جعلها الكفار لمن سيأتي بمحمد أو يقتله، وهي مائة جمل، فهو يريد أن يفوز بذلك، ويذهب إلى بيته، ويأمر جاريته أن تجهز له فرسه من خلف داره حتى لا يراه الكفار، ويركب فرسه، ويسرع في الطريق الذي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إليه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام من عادته أنه لا يلتفت أبداً وراءه ولا يخاف؛ لأن الله معه سبحانه وتعالى، فقال أبو بكر وقد رأى ما وراءه: يا رسول الله! هناك من يتبعنا! فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئن أبا بكر، وأبو بكر يلتفت ويخاف أن يأتي هذا الكافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقدمي الفرس تغوص في رمال الأرض، فتساءل سراقة: لماذا تغوص أقدام الفرس؟! فأخرج خريطة من جيبه، واستقسم بالأزلام، قال: فخرج الذي أكره ثلاث مرات، قال: فعصيت، فغاصت قدما الفرس، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي ولا أؤذيك، فدعا له، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه طعام وشراب، وقال: خذ هذا وتزود به، فلم يأخذ منه شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فقال: سأرجع وأعمي عنكم، ولن أقول لأحد أنكم في هذا الطريق، وبعدما كان هذا الرجل حرباً على النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار إذا به يعمي على الكفار في آخر النهار، فيرجع ويقول: كفيتكم هذا المكان، لا يوجد أحد في هذا المكان! والله تبارك وتعالى يسخر لنبيه ما يشاء حتى يصل إلى المدينة آمناً صلوات الله وسلامه عليه.
وأول من رآه بالمدينة عليه الصلاة والسلام رجل يهودي، فصاح فإذا بالناس يجتمعون ويخرجون يستقبلون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالله يسخر لنبيه من يشاء من جماد كالغار، فيحميه الله سبحانه وتعالى به من الكفار، ومن رجل من الكفار يلحقه فإذا بالله عز وجل يجعله سلماً له ودفاعاً عنه، ويصل إلى المدينة فإذا بيهودي ينادي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة! قال سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] أبو جهل كان يريد أن يقتلك قبل هجرتك، وفي السنة الثانية من الهجرة يقتل أبو جهل ومن معه من الذين كادوا للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة في السنة الأولى من الهجرة في شهر ربيع أول، وفي السنة التي تليها كانت غزوة بدر في رمضان، وإذا بهذا الكافر أبي جهل يقتل ومن معه، ويساق ملعوناً إلى نار الجحيم، {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79]، أنت كنت تكيد قبل سنة ونصف في مكة، وتجمع أربعين رجلاً ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والآن يقتلك أصغر الشباب الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم، شابان صغيران، يقتلان هذا الرجل المعلون أبا جهل، ويلقى جيفة نتنة في قليب بدر! قال الله: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] فإذا دبر الله وقضى أمراً فلا بد أن يكون.(459/4)
تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)
قال الله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، بل أيظنون ذلك: ((يَحْسَبُونَ)) بفتح السين قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر، وباقي القراء: (أم يحسِبون) بكسر السين فيها.
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80] أي حديث سرهم، والسر ما أخفاه الإنسان في نفسه، والنجوى سر ولكن يظهره لزميله، فيسر الإنسان شيئاً في نفسه، ولا يطلع عليه غيره، والنجوى حديث السر بين اثنين أو عشرة أو عشرين، فيسرون هذه المناجاة والمكالمة والمحادثة مع بعضهم بعضاً، فهل يظنون إذا أسر أحدهم في نفسه شيئاً أننا لا نطلع عليه؟ هل يظنون إذا كلم أحدهم الآخر وهمس له أننا لا نطلع على ذلك؟ بل نحن نعلم ذلك، وملائكتنا يكتبون ويحصون عليهم ذلك.
وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه كان مختبئاً خلف الكعبة، فإذا بثلاثة نفر يأتون إلى الكعبة، ثقفيان وقرشي، أو ثقفي وقرشيان، قال: كثيرة شحوم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، أي عندهم غباء لا يفهمون، جاءوا إلى الكعبة وابن مسعود مستخف، بعد أن أسلم رضي الله عنه، كانوا يريدون تعذيبه فتخفى وراء الكعبة، فقال أحدهم للآخرين: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: أحسب أنه يسمع ما نجهر به، أما ما أخفيناه فلا يعلمه! فقال الثالث: إذا علم جهرنا سيعلم تهامسنا، فكان أعقلهم هذا الثالث وهو الأخنس بن شريق أو صفوان بن أمية فسمع ابن مسعود هذا الذي قالوه، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، فهل يظنون أننا لا نعلم نجواهم ولا سرهم؟ بلى نعلم هذا كله، ونكتب عليهم ونحصي عليهم ذلك، (ورسلنا لديهم يكتبون)، وإذا كتبت رسل الله ذلك، فمعناه أنهم سيحاسبون على هذا يوم القيامة، وتأتي الصحيفة شاهداً على ما يقولون، كما قال الله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(459/5)
تفسير سورة الزخرف [78 - 84]
أخبر سبحانه أنه جاء للناس بالحق من عنده، وبينه ووضحه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر، والمشركون كرهوا هذا الحق، وكرهوا من نزل عليه الحق، وسبب كراهتهم لهذا الحق أنه يخالف أهواءهم وشهواتهم، أما سبب كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فهم حسدهم له، وقد تمنوا أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، مع أنهم يعلمون صدقه وأمانته وأخلاقه.(460/1)
تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الزخرف: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:78 - 84] في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه جاءنا بالحق من عنده، وأن أكثر هؤلاء الكفار المشركين لا يؤمنون، بل يكرهون هذا الذي جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه من عند ربه، وسبب كراهتهم لذلك أنهم نفسوا على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وحسدوه، وتغيظوا عليه كيف يكون رجلاً منهم وليس هو بأكبرهم سناً، وليس بأغناهم وليس هو الزعيم فيهم، ومع ذلك ينزل عليه هذا القرآن دون غيره؟! قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
يقول الله عز وجل: ((لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ)) يعني: الذي أنزل عليه هو هذا القرآن وهو الحق الذي جاء من عند رب العالمين، فاعمل به وانظر فيه، وانظر إلى المعجزة التي جاءت من عند رب العالمين، ولا تنظر على من نزلت هذه المعجزة، ولو نظروا نظرة صحيحة لعرفوا أن هذا هو أحق من ينزل عليه القرآن؛ فهو الأمين وهو الصادق صلى الله عليه وسلم بقولهم وبشهادتهم، فهم الذين استأمنوه، وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وعلموا أنه أفضلهم وأكرمهم وأشرفهم حسباً ونسباً عليه الصلاة والسلام، فكونهم يبغضون ما جاء من عند رب العالمين فالله علم منهم ذلك، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد كذبوه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: لا تحزن، إذا كانوا يقولون: أنت كاذب، فإنهم في الحقيقة لا يكذبونك أنت، فهم يقولون: إنك أنت الصادق الأمين، ولكنهم يجحدون، يعني: يتكلمون بما يعرفون في أنفسهم أنهم كاذبون فيه، فالذي يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنت كاذب هذا جاحد؛ لأنه يكذب الحق الذي علم أنه حق، وفرق بين الإنكار والجحود، فإنكار الشيء: أن تنكر ما لا علم لك به، فتنكر ما لا تعلمه، أما الجحود فأنت تعلم هذا الشيء ومع ذلك تنفيه وتنكره، فلذلك ربنا سبحانه يصف هؤلاء بأنهم جاحدون، يجحدون ما جاء من عند الله، فهم مقرون في أنفسهم أن هذا لا يمكن أن يكون كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين؛ ولكن لحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم يجحدون ما جاء به، فيظهرون الإنكار مع وجود الإقرار في قلوبهم والاعتراف بأن هذا حق وأن هذا من عند رب العالمين سبحانه، فقال لهم سبحانه: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، فكرهوه؛ لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحرم عليهم أشياء كانوا يستحلونها من خبائث وخمر وأكل ميتة وغير ذلك، فحرم عليهم أشياء كانت في أموالهم، فلذلك كرهوا هذا الحق، والإنسان في الغالب حين تقول له: لا تفعل كذا لشيء يشتهيه ويريد فعله فإنه يتغيظ ويقول لك: ولماذا لا أعمل هذا الشيء؟ وكيف تأمرني وتنهاني وأنا أفعل هذا الأمر طيلة حياتي الماضية؟ هو لا ينظر إلى المصلحة التي تتعلق به في أمر الدين، وإنما ينظر إلى أنه اعتاد هذا الأمر وأنه يهواه، ولذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] أي: مثل ما عمل آباؤنا نعمل نحن، فكرهوا الحق ليس لكونه حقاً أو لأنهم أنكروه في قلوبهم لا، ولكنهم خشوا أن تضيع منهم رئاستهم، وخشوا أن يتحكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر وينهى، فرفضوا ذلك وردوه وكرهوه لهذا المعنى.(460/2)
تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون)
قال الله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79].
أي: بل أيكيدون لك كيداً؟ نحن نكيد لهؤلاء، فكاد لهم حتى أهلك أشقياء هؤلاء في يوم بدر وفي غيره.(460/3)
تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)
قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، أي: هؤلاء يتكلمون ويسر بعضهم إلى بعض حديث السر ويناجي بعضهم بعضاً، هل يحسبون أنا لم نطلع على ذلك، ولم نحص عليهم ذلك؟ {بَلَى} [الزخرف:80] قد علمنا ذلك وأحصيناه، {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] أي: الحفظة الكرام الكاتبون يكتبون عليهم ما يقولونه وما يفعلونه مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وما يكذبونه به.(460/4)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81].
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: قل لهؤلاء: ((إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) والولد اسم جنس بمعنى الواحد وبمعنى المجموعة، ولذلك قول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] بمعنى واحد أو جمع، والمعنى إن كان للرحمن ولد أو كان للرحمن أولاد {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
وقراءة الجمهور: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، وقرأها حمزة والكسائي: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وُلْدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، والولد بمعنى: جمع الأولاد يعني، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أنا قرأها الجمهور بالفتحة في حال الوصل: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، وفي حال الوصل يقرؤها نافع وأبو جعفر: ((فَأَنَآ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، ونافع يمد على تفصيل، وورش وقالون وأبو جعفر يقرؤها بالقصر ولكن على أنها ألف ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)).(460/5)
أقوال العلماء في توجيه قوله تعالى (قل إن كان للرحمن ولد)
قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] للمفسرين فيها معنيان: المعنى الأول وهو الذي عليه الأكثر: أن هذا في مقام المناظرة، وفي مقام المناظرة يتنزل الخصم مع خصمه في المناظرة، فإذا ناظرك إنسان في شيء تقول: فرضنا ما تقوله صواباً فينبني عليه كذا وكذا، ويكون فيه كذا وكذا، فهذا هو الفرض الجدلي وليس الحقيقي، أي: ليس معنى أن هذا شيء صحيح، لا، بل هذا شيء لا يكون أبداً، ولكن سنفترض المستحيل، مثل ما يقول بعضهم: قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما فهو هنا في مقام التنزل في المناظرة، فيقول: الملحدون والمنكرون لوجود الإله: الأجساد تموت وتفنى ولا تبعث، وهذا يقول: إن صح قولكم فلست بخاسر؛ لأني عبدت الله، ولكن إن صح قولي بأن كان هناك بعث يوم القيامة فالخسارة عليكم أنتم.
إذاً: هنا في مقام التنزل في المناظرة يجوز أن تفترض المستحيل، وهذا المعنى عليه أكثر المفسرين، يعني: لو كان للرحمن ولد وحاشا لله أن يكون له ولد فأنا أول من يعبده، ولكن لم أفعل؛ لأنه لا يوجد للرحمن ولد وحاشا له أن يتخذ صاحبة أو ولداً.
والمعنى الآخر أو التفسير الآخر لقوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) قالوا: (إن) هنا بمعنى (ما) أي: ما كان للرحمن ولد، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ للرحمن، وهذه الآية على هذا المعنى لها معنيان: الأول: أن (إن) هنا نافية بمعنى (ما).
قل ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) [الزخرف:81] للرحمن هذا معنى.
المعنى الثاني: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) أي: أنا أول المنكرين بأن يكون للرحمن ولد.
إذاً: في قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) [الزخرف:81] ثلاث معان: الأول: على وجه التنزل في المناظرة وعليه أكثر المفسرين: سأكون أول من يعبد هذا الولد، ولكن هذا لا يكون، لذلك لا أعبد إلا الله وحده لا شريك له.
الثاني: أن معنى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) أي: قل: ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) للرحمن، المثبتين لربوبيته وألوهيته سبحانه، فأعبده وحده لا شريك له.
المعنى الثالث: (قل إن كان للرحمن ولد) فأنا أول من يأنف أن يعبد غير الله، أو يزعم أن لله الولد سبحانه وتعالى.(460/6)
تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون)
قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82].
قوله: ((سُبْحَانَ)) هذه الكلمة تقوم مقام جملة، وهي مصدر كأنك تقول: أسبح الله تسبيحاً، والمعنى هنا: أسبح ربي وأنزه ربي تنزيهاً عظيماً سبحانه، فهو يتعالى عن أن يدعى عليه مثل ذلك.
وقوله: ((سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: خالق السماوات والأرض ومدبر أمرهما سبحانه.
وقوله: ((رَبِّ الْعَرْشِ))، السماوات عظيمة في نظر الناس، والأرض كبيرة وضخمة في نظر الناس، لكن العرش أفضل وأعظم وأضخم وأكبر من ذلك بكثير، فالسماوات كلها والأرضون لو جمعت وقورنت بكرسي الله عز وجل لكانت النسبة كنسبة حلقة في صحراء عظيمة في فلاة، ولو أن الكرسي قورن بعرش الرحمن سبحانه وتعالى لكانت النسبة كنسبة حلقة في فلاة، فكيف بالعرش الذي هو أعظم من السماوات وأعظم من الأرض وأعظم من الكرسي؟! هذا العرش يصفه ربنا سبحانه وتعالى ويذكره لنا في كتابه ويقول: إنه رب العرش، هذا العرش الضخم العظيم الذي فيه مظاهر العظمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيه، فهذا العرش مع عظمته هو مخلوق من مخلوقات الله، والله ربه والله فوقه، وهو لا يحتاج إليه سبحانه وتعالى، وهو مستوٍ على العرش محيط بكل شيء، مستغن عن كل شيء.
قوله: ((عَمَّا يَصِفُونَ)) أي: أنزه الله عما يصفه به هؤلاء المشركون من أنه اتخذ صاحبة أو اتخذ ولداً.(460/7)
تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا)
قال الله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83].
قوله: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)) أي: دع هؤلاء في خوضهم ولعبهم، وليس المعنى أنه ينهاه أن يدعوهم لا، ولكن ادع هؤلاء فإذا أبوا إلا ما هم فيه فاتركهم، وهو تهديد لهؤلاء، كقوله: (اعملوا ما شئتم) وهذا ليس أمراً بالمنكر أو الإذن بفعله، بل هو للتهديد، أي: اعمل الذي تقدر عليه، ستنظر النتيجة ماذا تكون، فكذلك هنا: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا)) أي: حتى يأتي يوم القيامة الذي يلاقون فيه ما كانوا ينكرونه من عذاب الله سبحانه.
وقرأ ابن القعقاع: (حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون).
إن وعد الله حق، وقد وعدهم الله عز وجل أن يوم القيامة يوم حساب ويوم جزاء، يوم يرى كل إنسان فيه صحيفته، يوم يرى ما عمل محضراً، عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا ويحاسب عليه، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، فذر هؤلاء في خوضهم وفي كلامهم الباطل الذي يقولونه، وفي أفعالهم القبيحة، فإذا جاءوا يوم القيامة عرفوا أنهم ضيعوا أوقاتهم وأعمارهم، في لعب ولهو وغفلة، فابتعدوا عن الله وكادوا لدين الله، فسيلقون يومهم الذي يوعدون.(460/8)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84].
يخبر الله العظيم سبحانه وتعالى عن نفسه أنه في السماء إله، وفي الأرض إله، فهو المعبود يعبده أهل السماوات وأهل الأرض، فهو إله معبود في السماء ومعبود في الأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18].
أي: أن كثيراً من المخلوقات يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان لو قورن بمخلوقات الله عز وجل التي تعبده فإن عدده قليل جداً، ولذلك قال الله سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ)) أي: يسبح له ويعبده ويذعن ويطيع لله سبحانه وتعالى، ((مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ)) أي: طوعاً وكرهاً، فكل من يعقل في السماوات وفي الأرض يسجدون لله ويطيعون ويخضعون، حتى الكافر يسجد لله كرهاً، يعني: يذعن ويخشع ويفعل ما أمر به كوناً وقدراً، إذا قيل له: امرض يمرض، وإذا قيل له: مت يمت، احيا يحيا، افعل كذا من الأفعال الكونية القدرية التي تأتي للإنسان ولا حيلة له فيها، كالرزق والمرض والتعب والنصب والمشقة، فلا يقدر الإنسان أن يعصي في ذلك، وإنما يعصي الإنسان في الشيء الذي ترك له فيه الاختيار.
((وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)) أي: هؤلاء الذين حق عليهم العذاب أطاعوا لما أمر الله عز وجل أمراً كونياً قدرياً، ولم يقدروا على الامتناع فيه، لكن لما أمر أمراً شرعياً وجعل لهم الخيرة، فإذا بهم يأبون ويعصون، فقال الله: ((وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)) أي: من يطيعون طوعاً لله سبحانه ومحبة لدين الله سبحانه وتعالى.
فقوله: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ)) أي: معبود يعبده أهل السماوات، ((وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)).
فهنا نقول: الله فوق السماوات، كما في حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أين الله؟ قالت: في السماء) وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17].
فالله سبحانه وتعالى في السماء فوق السماوات، مستو على عرشه سبحانه، بائن من خلقه، محيط بكل شيء، وفوق كل شيء سبحانه، ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: هو معكم بسمعه وبصره وعلمه وإرادته سبحانه وأفعاله وحكمته، ولكن أين الله عز وجل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً للمرأة: إنه في السماء سبحانه وتعالى، فقال هنا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، فمقولة: الله في كل مكان هذه فيها حق وفيها باطل، الحق الذي فيها أن الله في كل مكان بسمعه وبصره وعلمه سبحانه، ولكن الله قال لنا في القرآن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وكررها في سبعة مواضع في كتابه سبحانه وتعالى، وأخبرنا عن العلو في آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل، وأنه سبحانه فوق العباد، وأنه سبحانه وتعالى ينزل الملائكة وينزل الكتاب سبحانه، وينزل الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه في السماء {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فالله عز وجل فوق سماواته وهو مع الخلق بعلمه.
إذاً: نقول: الله معنا بعلمه وسمعه وبصره، وبتأييده وقدرته وقوته سبحانه تبارك وتعالى، ونقول: الله بذاته فوق السماء سبحانه تبارك وتعالى.
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: هو الذي في السماء معبود، وفي الأرض معبود، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] سبحانه له الحكمة العظيمة البالغة، فهو الحكيم والحكم والحاكم والمحكم وذو الحكمة سبحانه وتعالى، وهو الذي يحكم بين عباده فهو الحاكم، وهو الذي يشرع لعباده سبحانه وتعالى فهو الحكم، وهو المحكم لخلقه ولصنعته، أحكم كل شيء وأتقن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى، وهو ذو الحكمة العظيمة البالغة، ما من شيء في كون الله إلا وله حكمة من الله عز وجل يعلمها، وإن لم يعلمها خلقه، وهو المحكم لكل أمر كونه، فلا تجد فيه زللاً، ولا تجد فيه خللاً، ولا تجد فيه شيء ينتقد.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(460/9)
تفسير سورة الزخرف [84 - 89]
الله سبحانه هو الإله الحق، له ملك السماوات والأرض وما بينهما، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل ما يعبد من دونه فهو باطل، وقد كان كفار قريش يقرون بأن آلهتهم لم تخلقهم، ومع ذلك لا يؤمنون بربهم، وقد أمر الله رسوله أن يصفح عنهم وهددهم بما سيلاقونه جزاء كفرهم في الدنيا والآخرة.(461/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الزخرف: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:84 - 89].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه وحده لا شريك له، الإله الحق الذي يعبد في السماوات في الأرض، فهو الإله المعبود في السماوات وهو المعبود في الأرض، وإن كره المشركون، وإن كفر الجاحدون، فهو الإله الحق وما دونه فباطل.
والإله هو المعبود، وقد اتخذوا من دون الله آلهة كلها باطلة، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74]، أي: لعلهم يتعززون بهذه الآلهة، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن هذا الذي يقولونه باطل، فذرهم يخوضوا ويلعبوا، أي: يخوضون في باطلهم، ويلعبون في دنياهم، حتى يلاقوا الذي يوعدون، وذرهم في خوضهم، مثل إنسان يخوض ويمشي في الماء، والذي يمشي في الماء لا يدري ما الذي يكون تحته من حفرة أو شيء يؤذيه، وكأنها استعيرت هذه الكلمة للباطل الذي لا يدري صاحبه ما يوصله إليه أمر لبسه وإبطاله، وكيف تكون نهاية خوضه، يقال: خاض فلان في الكلام إذا تكلم كثيراً في أشياء يلبس بها.
ويأتي الخوض بمعنى: المفاوضة والمقاولة، هذا يقول، وهذا يرد عليه، وكأنهم يريدون الإبطال بقولهم لدين رب العالمين سبحانه، فـ {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} [الأنعام:91] أي: في مخاضتهم، وفي لعبهم الذي يقولونه ويصنعونه، حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون.
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهو إله الحق، وإن كفر هؤلاء واتخذوا من دونه آلهة، فهو وحده الذي يستحق العبادة في السماوات وفي الأرض {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84].(461/2)
تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85].
(تبارك) تفاعل من البركة، فبركته كثيرة، وتبارك بمعنى: تمجد وتعالى، فهو يستحق التسبيح وحده لا شريك له، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وهنا قال: {َتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزخرف:85] أي: تعالى وتمجد سبحانه، وكثر خيره، وكثرت بركته سبحانه وتعالى، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزخرف:85]، فهو الإله وهو الرب سبحانه، والرب هو الذي يملك، ويخلق ويرزق ويربي، فذكر ربوبيته بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزخرف:85]، وذكر ألوهيته بأنه إله في السماوات وفي الأرض سبحانه وتعالى.
والملك الملكوت، فهو ملك له، هو ملكه سبحانه والمالك له، وهو الملك سبحانه وتعالى.
قوله سبحانه: {وما بينهما} [الزخرف:85]، أي: ما بين الأرض والسماوات، والمعنى: الذي يملك كل شيء سبحانه وتعالى.
قوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف:85]، هو كما قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فعنده وحده علم الساعة، ومتى تقوم، وإن كان أعطى لأنبيائه شيئاً من علم هذه الساعة كعرفة علاماتها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون في يوم جمعة، لكن في أي جمعة؟ لا يدري أحد، ولكن قبلها أمارات، مثل طلوع الشمس من مغربها، والدخان، وخروج المسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف في المشرق وخسف في المغرب وخسف بجزيرة العرب، فهذه أمارات وعلامات، أما متى تقوم الساعة، فهذا علمه عند الله وحده لا شريك له، فمن ادعى أنه يعلم متى تقوم الساعة فهو كاذب؛ لأن الله لم يجعل علمها لأحد من خلقه دونه.
قوله سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85] أي: إليه المرجع، وهذه قراءة الجمهور: أي: بالبناء للمجهول، وقرأها بالبناء للفاعل يعقوب على وجهين: (وإليه يَرجِعون) من رواية رويس ومن رواية روح: (وإليه تَرجِعون) والمعنى: تَرجعون أنتم أيها الناس إلى الله عز وجل، وتُرجعون أي: يعيدكم إليه سبحانه وتعالى، كما بدأكم أول مرة يعيدكم مرة ثانية لترجعوا إليه وتلاقوا جزاءكم وحسابكم.(461/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة)
قال سبحانه وتعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].
الله في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الرب الذي يملك ويحكم في السموات وفي الأرض، أما ما يدعون من دونه فليسوا بشيء، لا يملكون شيئاً، والكفار يشهدون أن هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يملكون شيئاً، وهم يعلمون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا تملك شيئاً، لكن يزعمون أنها تملك الشفاعة، فيعبدون الأحجار ويقال لأحدهم: هل هذا الحجر ينفعك؟ يقول: لا، لا ينفع ولا يضر، فيقال: لماذا تعبده؟! قال: من أجل أن يقربني إلى الله زلفى، فهذا هو الذي أثبته الكافر، فهو يعرف أن الصنم لا يملك شيئاً، فلا ينفع ولا يضر، ولكن يزعم أنه ينفعه عند الله يوم القيامة، ويشفع له فالله عز وجل ينفي هذا الذي زعموه فيقول: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف:86]، فهم لا يملكون شيئاً، ولا يملكون هذه الشفاعة المزعومة، فالشياطين تدلس على الإنسان، تجعله يفتري على الله سبحانه وتعالى، فهذا الكافر الذي عبد الأحجار يزعم في نفسه أنه متواضع، وأنه لذلك لا يتقرب إلى لله عز وجل مباشرة، فهو أحقر من ذلك، لكن يعبد هذا الصنم، وهذا الوثن، وهذا الحجر، مع أنه يعرف أن الحجر حقير، فهو يدوس عليه، وهو الذي صنعه بيده، فيعبده ويزعم أنه متواضع، وأنه يعبد الحجر لأنه أذل من هذا الحجر، فيعبد الحجر حتى ينفعه الحجر عند الله! فالشيطان يزين له هذا الباطل والكذب، مثلما زين لهؤلاء المشركين أن يطوفوا بالبيت عراة نساءً ورجالاً، والمرأة كانت تطوف بالبيت عارية، تنتظر الليل من أجل أن تطوف بالكعبة، وتقول: كيف أطوف بالبيت في ثياب عصيت الله فيها؟! والرجل يقول: لا أطوف بالبيت في ثوب عصيت الله فيه، وما ذنب الثياب؟! فالشيطان كان يضحك عليهم، ويلبس عليهم بذلك.
فالإنسان أحياناً يتظاهر بأنه متواضع وأنه خاشع ومخبت، وهو كاذب في هذه الدعاوى كلها، مثلما يجيء جاهل إلى إنسان ويقول: يا سيدي فلان اعمل لي كذا، وأعطني كذا، واجعل ربي ييسر لي كذا، وأنت لماذا لا تدعو الله مباشرة؟ لماذا تدعو سيدك فلان؟ وماذا يملك هو لنفسه حتى يملك لك أنت؟! وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، يدعو الله عز وجل أن يحفظ التوحيد في حياته وبعد مماته صلوات الله وسلامه عليه، ويبرأ إلى الله عز وجل من قوم يدعونه في قبره صلى الله عليه وسلم، فالذي يدعى هو الله سبحانه وتعالى وحده، فلا يدعى أحد معه سبحانه، فالشيطان يوسوس للإنسان ويزين له الباطل الذي هو فيه، ويقول له: أنت حقير، وعاص، وأنت كذا وكذا، فكيف تعبد ربنا؟! لا، اذهب اعبد الصنم وهو يوصلك إلى الله عز وجل، ادع سيدك فلان وسيدك فلان فهو الذي يوصلك إلى الله، اجعل واسطة بينك وبينه! والله عز وجل يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، فأجاب الله عن نفسه سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: أنا قريب من عبادي، فلا تدعوا شيئاً مع الله سبحانه، ولا تتخذوا وسيلة بينكم وبين الله إلا ما شرعه سبحانه، فاتخذوا إليه الوسيلة بأن تعبدوه وحده سبحانه، فوسيلتكم إليه توحيدكم ربكم سبحانه، وحبكم وطاعتكم له، وتنفيذكم أوامره، وحفظكم لكتابه، ومحافظتكم عليه، وحفظكم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعكم له، فهذه هي الوسيلة، أي: أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وتدعو ربك سبحانه متوسلاً إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهذا هو التوسل إلى الله عز وجل الذي ينفعك، وهذا التوسل مبني على عمل منك أنت، وليس من غيرك، فتتوسل إليه لأنك حفظت أسماءه الحسنى وعرفت صفاته، وهذا عمل منك أنت تعمله، فحفظك لذلك ودعاؤك له سبحانه وتعالى، وتوسلك إليه باتباعك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ هذا عمل أنت تتوسل به إلى أن يعفو الله عز وجل عنك، وأن يستجيب لك، وأن يغفر لك سبحانه وتعالى.
أما هؤلاء المشركون فقد زعموا التواضع المكذوب فقالوا: نحن أحقر من أن نعبد الله، فنعبد هذه الأصنام من أجل أن تقربنا إلى الله سبحانه؛ لأنها تملك الشفاعة، فقال الله عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، وإلا هنا استثناء، إما أن يكون استثناءً متصلاً بما قبله، أي أثبت شيئاً وأخرج منه آخر، وهذا استثناء متصل، أو أنه نفى شيئاً ولم يخرج منه شيئاً فهذا استثناء منقطع بمعنى: لكن.
وهؤلاء الذين يعبدون من دون الله هم: الملائكة، والجن، والأصنام، وعزير، والمسيح، وكل هؤلاء لا يملكون الشفاعة إلا من استثنى الله سبحانه وتعالى أن يأذن لهم، فيأذن لمن أطاع، ويأذن للمسيح أن يشفع للمؤمنين الموحدين الذين لم يعبدوه من دون الله سبحانه، فالمعنى: إلا من شهد بالحق، أي: شهد شهادة التوحيد أن لا إله إلا الله، ولا يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، وشهد بالحق لله سبحانه وتعالى، وهم يعلمون.
فقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] أي: بتوحيد الله سبحانه، موقنون أنهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأنهم عبيده سبحانه، فالله يأذن لهم في الشفاعة بإذنه سبحانه وتعالى.
فالذين يشهدون بالحق من هؤلاء كرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهم يعلمون أن الله يأذن لهم يوم القيامة في الشفاعة بالحق، فهؤلاء فقط هم الذين يشفعون بعد إذن الله عز وجل لهم في ذلك.(461/4)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)
قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً: من خلقكم أيها المشركون؟ ومن خلق هذه الآلهة التي تزعمون؟ {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، واللام لام القسم، يعني: والله ليقولون ذلك، واللام المؤكدة قبل الفعل المضارع والنون المثقلة في آخره دليل أن هذا واقع في جواب قسم، أي: والله ليقولون ذلك، تأكيداً أنهم يوم القيامة سيعترفون، والآن هم مقرون أن الخالق الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] أي: كيف يصرفون عن توحيده، فالمشرك انصرف عن توحيد الله، يقال: انصرف عن الشيء، والمعنى: فكيف ينصرفون عن توحيد الله إلى عبادة غير سبحانه!!(461/5)
تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون)
قال الله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88] يذكر الله سبحانه وتعالى هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه سبحانه، {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، وهذه قراءة الجمهور، وكأن هذا معطوف على شيء سبق قبل ذلك وهو قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، أي: هل يحسبون أنا لا نسمع ما يسرون مع بعضهم بعضاً، وما يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم في السر والخفاء؟ وهل يحسبون أنا لا نسمع ذلك، وأنا لا نسمع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم متضرعاً لربه؟ {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، والقيل بمعنى القول، القيل والقال كله بمعنى القول، فهل يحسبون أنا لا نسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم متضرعاً إلى ربه: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88].
وقيل: {وَقِيلِهِ} [الزخرف:88]، معطوف على قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف:85]، أي: وعنده علم {قِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، فالله عز وجل عنده علم الساعة، وعند الله علم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، فهو يشكو إلى ربه سبحانه أن هؤلاء لا يؤمنون ولا يتابعونه صلى الله عليه وسلم.(461/6)
تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)
قال الله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، معنى: اصفح عنهم، أي: أعرض عنهم، أعرض عن المشركين الآن لغاية ما ربنا سبحانه يحكم بعد ذلك في أمرهم، قال كثير من المفسرين: هذه الآية منسوخة بآية السيف، يعني: الآن وأنت في مكة أعرض عن هؤلاء الذين يؤذونك، حتى يقضي الله أمراً، فقضى بعد ذلك فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، وقيل: هي باقية على معنى من المعاني، أي: اصفح عن هؤلاء لتدعوهم، فأعرض عما يقولون، وداوم على دعائهم إلى الله سبحانه وتعالى، لعل منهم من يؤمن بعد ذلك.
وقوله: (وقل سلام) (سلام) هنا بمعنى: المتاركة، وليس المعنى سلم على المشركين وقل لهم: السلام عليكم، لا، بل كما قال ربنا سبحانه في عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: قالوا قولاً فيه مسالمة ومتاركة، يعني: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، ابتعدوا عنا لا نريد منكم شيئاً إلا أن تستجيبوا لدعوة الله عز وجل، فمعنى قل سلام، أي: المتاركة بيننا وبينكم، تسلمون منا ونسلم منكم إن لم تستجيبوا، فدعونا ندعو إلى الله سبحانه وتعالى، وكان هذا في مكة، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر، وأن يجاهدهم بهذا القرآن العظيم، ويجاهدهم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كان في المدينة أمر بالجهاد بالقول وأمر بالجهاد صلوات الله وسلامه عليه، وهذه سورة مكية، ولم يكن قد أمر بجهاد السيف، وإنما أمر بأن يعرض عن هؤلاء وأن يصفح عنهم حتى يأمره الله عز وجل فيه بما يشاء.
قال الله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89] هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبو جعفر وابن عامر: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، بالخطاب لهؤلاء الكفار، أي: سوف تعلمون حين يأتيكم العذاب في الدنيا، وحين يأتي نصر الله عز وجل فينصر المؤمنين عليكم، وحين تأتيكم ساعتكم، وحين تأتيكم القيامة؛ سوف تعلمون من الذي معه الحق ومن الذي يملك أن يعذب هؤلاء، ومن الذي يقضي بينهم، كنتم في الدنيا تنكرون العودة إلى الله، وتزعمون أنكم حتى ولو رجعتم فالأصنام تنفعكم، فسوف تعلمون أنه لا ينفع {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي وهذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(461/7)
تفسير سورة الدخان [1 - 8]
إن أشرف كتاب في الدنيا هو القرآن الكريم، وقد أنزله الله في أفضل ليلة، وجعله معجزاً بآياته وحروفه ومعانيه، وتحدى الكفار أن يأتوا ولو بآية من مثله، فلم يقدروا على ذلك، ونزول القرآن في ليلة القدر فيه تشريف لهذا الليلة المباركة، ودليل على فضيلتها على جميع الليالي والأيام.(462/1)
مقدمة بين يدي سورة الدخان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:1 - 8].
هذه هي السورة الرابعة والأربعون من كتاب الله عز وجل وهي سورة الدخان، وهي من السور المكية، وإحدى الحواميم السبع التي تبدأ بغافر وتنتهي بسورة الأحقاف، وترتيب نزول هذه السور على ترتيب وجودها في القرآن العظيم: سورة غافر، ثم سورة فصلت، ثم سورة الشورى، ثم سورة الزخرف، ثم سورة الجاثية، ثم سورة الدخان، ثم سورة الأحقاف.
وهذه السور مكية تميزت بأن الله عز وجل افتتح جميعها بهذين الحرفين: الحاء والميم، وهذه السورة فيها خصائص السور المكية، والعهد المكي كان عهد إقرار العقيدة في قلوب الناس، وتعليمهم توحيد الله سبحانه، وتذكيرهم بالجنة والنار، وإخبارهم بما حل بالأمم السابقة وما صنع الله عز وجل بهم، كما عرف الله سبحانه الناس في هذا العهد بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
هذه السورة آياتها تسع وخمسون آية على خلاف بين العلماء، فالبعض عدها ستاً وخمسين آية، وهم الحجازيون والشاميون، والبعض عدها سبعاً وخمسين آية وهم البصريون، والبعض عدها تسعة وخمسين آية وهم الكوفيون، والخلاف كما ذكرنا قبل ذلك ليس في كلمات كتاب الله عز وجل، وإنما في موضع الوقف الذي بعد رأس الآية، فمن وقف على {حم} [الدخان:1] عدها آية، ومن لم يقف عليها عدها وما بعدها آية، وعلى ذلك فالخلاف في كلمة {حم} [الدخان:1]، فالبعض يعدونها آية ويقفون عندها ثم الآية التي تليها {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2]، وهؤلاء هم الكوفيون والبعض وهم باقي القراء يعدون {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2] آية واحدة.
وكذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، فالبعض وقف عند {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان:43] وعدها آية، و {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:44] عدها آية أخرى، والبعض وصل {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] وعدها آية واحدة.
والبعض وقف عند آية {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] وعدها آية، {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] وعدها آية أخرى، والبعض وصل {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45 - 46].(462/2)
تفسير قوله تعالى: (حم والكتاب المبين)
هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله: {حم} [الدخان:1]، وهذان الحرفان كما قدمنا قبل ذلك في السور الماضية: سورة غافر وفصلت والشورى والزخرف، كذلك في هذه السورة {حم} [الدخان:1] أن فيهما إشارة إلى إعجاز هذا القرآن العظيم، ولذلك عند ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور يعقبها ما يشير إلى هذا القرآن، وكأنه سبحانه وتعالى يتحداهم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وتحداهم بالقرآن كله أن يأتوا بمثله ولن يقدروا، وهذا التحدي بلغ ذروته حينما أخبر سبحانه أن الإنس والجن لا يقدرون على ذلك فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
فلم يقبلوا هذا التحدي من ربهم سبحانه كما ذكر ذلك في سورة الإسراء، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات كما في سورة هود فلم يقدروا، ثم تحداهم بسورة من مثله كما في سورة يونس، وأخبرهم أن ((َادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ))، وفي البقرة {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] فلم يقدروا على ذلك، والذين أرادوا أن يقبلوا التحدي قالوا كلاماً فارغاً سخر منهم الناس بسببه، فقال أحد الذين أسلموا بعد ذلك لأحد هؤلاء الكذابين: والله إنك لتعلم إني لأعلم أنك كاذب، أي: أنت تعرف أني مكذبك فيما تقول، ولكنهم كانوا يتبعونه كنوع من العصبية على ما اعتادوه في الجاهلية.
{حم} [الدخان:1] هما حرفان: الحاء والميم، وقراءة أبي جعفر توضح أن هذين الحرفين ليسا كلمة، فيقرأ {حم} [الدخان:1] ويقف: حا، ميم، وكذلك في كل فواتح السور حين يقرأها يبين أنها حروف، كقوله تعالى: {الم} [البقرة:1] يقرؤها: ألف، لام، ميم، {طه} [طه:1]، طا، ها {يس} [يس:1]، يا، سين، فهذه حروف مقطعة يفتتح الله عز وجل بها هذه السور، ويتحدى الكفار بمثلها أن يجمعوا منها كلمات ويصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن إن استطاعوا هم وشركاؤهم من الجن والإنس، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقوله تعالى: {حم} [الدخان:1] فيها ثلاث قراءات: (حم) بالفتح، وهي قراءة قالون وأبي جعفر وابن كثير وحفص عن عاصم وهشام عن ابن عامر، والأزرق عن ورش يقرأ بالتقليل، ويقرأ أبو عمرو أيضاً بالفتح والتقليل للحاء أي: لا يفتحها ولا يكسرها، وباقي القراء وهم: ابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرؤونها بالإمالة، والكل يمد الميم مداً طويلاً ست حركات، وأما الحاء فتمد مداً طبيعياً بحركتين فقط.
قال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2]، وكأنه يقول: هذا القرآن من جنس هذين الحرفين وغيرها من الحروف، فأتوا بمثل هذا القرآن، والغالب أنه إذا ذكرت الحروف المقطعة فإنه يأتي بعدها إشارة إلى القرآن، كقوله تعالى هنا بعد أن افتتح السورة بهذين الحرفين: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2]، والكتاب: هو القرآن، وهو الكتاب المعهود الذي عرفتموه وجاء من عند رب العالمين، المبين: من أبان بمعنى أظهر ووضح وجلى، فكأن المعنى: إن هذا الكتاب يوضح ويبين لكم ما كان غائباً عنكم وما لم تعرفوه، كما وضح لكم ربكم فيه ما أشكل وما اشتبه عليكم وما وقعتكم في شك فيه، وبين لكم ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم وأخراكم.(462/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركة إنه هو السميع العليم)
عبر هنا بنون العظمة عن عظمته سبحانه في إنزال القرآن، وأنه نزل من السماء إلى الأرض بأحكام عظيمة، فقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [الدخان:3] أي: أنزله الله عز وجل مع جبريل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] الليلة المباركة هي ليلة القدر، ومعلوم أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة، ولم ينزل مرة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى هنا كما جاء عن ابن عباس بإسناد صحيح: أن القرآن نزل من السماء من عند الله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مع جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة، فأول ما نزل إلى السماء الدنيا من عند رب العالمين سبحانه في هذه الليلة وهي ليلة القدر، ثم أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه: فكان أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم ونبئ به هو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وأول ما أرسل به صلوات الله وسلامه عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فنبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر صلوات الله وسلامه عليه.
والليلة المباركة هي الليلة العظيمة البركة، وهي ليلة القدر كما بين الله سبحانه في سورة القدر بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وبهذا يتبين أن القول بأن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان ليس صحيحاً وإن ذكره كثير من المفسرين، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كذلك، فالليلة المذكورة هنا هي الليلة المذكورة في سورة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وهي ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان.
ومن بركتها أنه أنزل فيها القرآن ليكون لها شرف عظيم بذلك، وفيها يقضي الله ما يكون خلال هذه السنة، فيفعل ما يشاء ويحكم بما يشاء ويعلم الملائكة ما يشاء من أقداره سبحانه.
ثم إن عظمته سبحانه وحكمته تأبى إلا أن ينذر قبل أن يحاسب ويعاقب ويعذب، فقال: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، فقد أنذر الله سبحانه وتعالى وبشر في كتابه، فإذا أنذر فقد بين لهذا الإنسان ما يبعده عن النار ويهديه إلى الجنة، ففي القرآن العظيم نذارة من الله عز وجل لعباده، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فأنذرهم الله سبحانه وقال: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، وبهذا يكون قد أعذرهم حتى لا يكون لهم على الله حجة يوم القيامة، وأصل النذارة: الإخبار بالشيء الذي سيكون فيه إخافة للناس، كأن يقول: إن تفعل كذا أو إذا لم تفعل كذا تدخل النار فهذا هو الإنذار من الله سبحانه.
وهذه الليلة المباركة قال الله عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، يفرق ويفرق بمعنى يفصل، فالقرآن هو الفرقان الذي فرق بين الحق والباطل، والذي فصل الله عز وجل فيه الأحكام.
فالله عز وجل يحكم بما يريد سبحانه، ويخبر أنه سيقع كذا وسيكون كذا، فيخبر الملائكة بما يقع في خلال هذه السنة من أمور، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، والأمر الحكيم أمر الله وقضاؤه وقدره المحكم المبرم الذي لا بد وأن يكون على وفق ما قضاه الله سبحانه، وهو كل أمر يكون فيه حكمه.
فيقضي الله في هذه الليلة ما يكون خلال العام من الأحداث، ومن يموت فيها ومن سيولد وغير ذلك مما يشاءه الله، فيفصل من عند الله عز وجل إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، فيعلمون ما يكون خلال هذا العام من الوظائف والأعمال التي كلفهم الله بها.
ولذلك فإن المؤمن يقوم هذه الليلة لشرفها وفضلها، ولما يحدثه الله عز وجل فيها من أمور ينزلها على الملائكة وعلى عباده.
جاء عن الحسن البصري أن رجلاً سأله فقال: يا أبا سعيد! أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثل هذا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج يقال: يحج فلان ويحج فلان.
أي: يفصل من اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي كتب فيه مقادير الخلائق، وقدر فيه مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، وعلم الله لا يغير ولا يبدل، ولكن ما يكون في أيدي الملائكة من صحف فيها: فلان يفعل كذا، فإذا فعل كذا افعلوا به كذا، أو فلان يموت في اليوم الفلاني، وإذا وصل رحمه مد في عمره ويكون كذا، أو فلان يحدث له كذا ويولد له كذا فإذا كان منه كذا يكون كذا، وعلم الله أن هذا لن يحسن ولن يبر والديه ولن يصل رحمه فسيموت في الوقت الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فيطلع الملائكة بما يفصله له من اللوح المحفوظ إلى كتبهم التي في أيديهم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4].
يقول ابن عباس في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق واسمه في الموتى.
أي: يمشي في السوق ويضحك ويعمل وقد كتب في هذه الليلة في صحف الملائكة أنه سيقبض في هذا الوقت.
وقوله سبحانه: {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي: كل أمر فيه حكمة من الله سبحانه.
قال سبحانه: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] أي: أن الأمر الذي يفرق ويفصل أمر عظيم يليق بعظمته سبحانه، وإنما قال: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5] لإنه إذا كان من عند الله فلا تغيير له ولا تبديل، فالله عز وجل فرق وفصل وأمر وأحكم وأبرم سبحانه، ولا بد أن يكون ما أبرمه وما قضاه سبحانه، ولذلك عظم هذا الأمر بنسبته إليه فقال: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5] أي: أمراً عظيماً من عندنا.
{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6]، فأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ملائكة من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله رحمة من عنده بعباده، ولذلك فإن البعض ينصبون رحمة؛ لأن اسم الفاعل في قوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] ينصب ما بعده على أنه مفعول به، أي: نرسل رحمتنا لعبادنا، فأنزلنا هذا القرآن، وأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزلنا الملائكة كل ذلك رحمة من عندنا، وأرسلنا الرياح لواقح رحمة من عندنا، أو أن المعنى: قضينا بأن نرسل ما نشاء من رسل الله سبحانه وتعالى، وهذا الإرسال رحمة، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: رحمناكم رحمة.
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] فرحمة الله عظيمة واسعة تليق به سبحانه، إنه هو السميع: يسمع ما يقوله خلقه، العليم: يعلم ما في قلوبهم وما يفعلونه.(462/4)
تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)
قال الله تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7].
قراءة الكوفيين {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان:7] بالكسر على أنه بدل مما قبله، أي: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6] وربك هذا {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان:7] فيكون بدلاً من {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6]، وقراءة الجمهور: المدنيين والحجازيين والبصريين: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الدخان:7]، برفع رب، أي: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7].
والرب هو الخالق سبحانه، وهذا لم يشك فيه الكفار فهم مقرون أن الله هو خالق السماوات والأرض، وإنما كان شكهم وإعراضهم عن توحيده في العبادة والألوهية، ولذلك قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فما اختلفوا فيه؛ لأنه هو الرب وهذه صفته سبحانه، وهو الفعال لما يريد، وأما الألوهية والعبادة فقد عبدوا من دونه آلهة كثيرة.
وقوله: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الدخان:7] أي أنه الخالق والمالك لما في السماوات والأرض وما بينهما.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7] في الحال أو في الاستقبال، والمعنى: إن كنتم تريدون أن توقنوا فتعلموا من كتاب الله عز وجل ما يدفعكم إلى اليقين وما يمنع عنكم الشك، أو إن كنتم موقنين أنه الرب فاعبدوه، وإن علمتم أن الله هو الذي يملك ويخلق ويرزق فكيف تعبدون ما لا ينفعكم ولا يضركم؟ وهذا مثل أن يقول الإنسان لآخر: يا فلان! أعطني، وهو يعلم أنه لا يعطي، فإذا كان الإنسان موقناً أن الله هو الرب فليعبده وليسأله وحده.(462/5)
تفسير قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين)
قال الله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان:8]، بعد أن ذكر الربوبية عقب بذكر الإلهية كعادته في كتابه سبحانه، فتوحيد الربوبية: هو الإقرار بأنه الرب الخالق، وتوحيد الألوهية: هو التوجه إليه بالعبادة وحده وعدم الإشراك به، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان:8]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]، فإذا كان يخلق ويحيي ويميت فلم تؤلهون وتعبدون غيره؟ و (لا) في الآية نافية لجنس الألوهية عن أحد غير الله، ولا بد من تقدير شيء هنا؛ لأنهم قد عبدوا آلهة من دون الله سبحانه، فيكون التقدير: لا إله حق إلا هو، ولا نقول كما يقول النحويون في لا النافية للجنس: إن تقدير الخبر موجود، فيقولون: لا إله موجود، وهذا غير صحيح؛ لأن هناك آلهة موجودة غير الله عز وجل، كما قال الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] فاتخذ إلهً من دون الله وهو الهوى، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81] أي: أنهم اتخذوا آلهة غير الله سبحانه وعبدوها من دون الله، فالإله كل ما عبد من دون الله سبحانه، والله هو الذي يستحق وحده العبادة.
إذاً: فتقدير خبر (لا) النافية للجنس هو: حق، وإذا قيل: موجود فلا بد أن يوصف بأنه موجود حق، فيكون المعنى: لا إله حق إلا الله وحده وما سواه آلهة باطلة، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:8].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(462/6)
تفسير سورة الدخان [9 - 16]
لقد جاءت آية الدخان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وهي غير الآية التي تكون قبل قيام الساعة على الراجح من أقوال أهل العلم، بدليل أن الله ذكر أنه سيكشف عنهم العذاب بعد هذا الدخان، ثم يعودون للكفر كما هو عادة الكافرين، ثم ينتقم الله منهم ويبطش بهم البطشة الكبرى يوم القيامة.(463/1)
تفسير قوله تعالى: (بل هو في شك يلعبون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:9 - 16].
قبل هذه الآيات من سورة الدخان قال الله سبحانه: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:5 - 8]، فكأن قوله هنا (بل هم) استدراك على ما قبل ذلك، فهم يقولون: إن الرب هو الذي خلقهم، ويعرفون ذلك، ولكنهم {فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9]، فهم يعرفون أن الله خلقهم، ولكن هذه المعرفة لم تدفعهم لعبادته سبحانه، ولم تمنعهم من الشرك بالله سبحانه، فهم في شك هل الآلهة متعددة أم الإله الذي يستحق العبادة واحد؟ فهم في شك من ذلك، فمهما قالوا من كلام يقنعون أنفسهم به أنهم على الحق، ومهما تعجبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم أن يعبد إلهاً واحداً لا إله إلا هو، فهم يخوضون في لهو وفي لعب، وإن زعموا أنهم على يقين مما يقولون، فالله عز وجل أعلم بما في قلوبهم، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} [الدخان:9]، فهم يعرفون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا تنفع ولا تضر، لكن يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وهل هم مستيقنون أنها تقربهم إلى الله زلفاً؟ هم لا يعرفون، ومن أين لهم أن يعرفوا أن هذه الآلهة تقربهم إلى الله؟! هل معهم أثاره من علم؟ هل معهم كتاب؟ هل قال لهم رسول ذلك؟ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} [الدخان:9]، من هذا كله، {يَلْعَبُونَ} [الدخان:9]، فيما يقولون وإن أظهروا الجد في كلامهم، وإن قاتلوا على هذا الذي يقولونه، ولكن الحقيقة أنهم يلعبون، وكلامهم فارغ ليسوا على يقين منه، ولا فيما يظهرونه من الإيمان بربوبية الرب سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يعبدوه سبحانه.(463/2)
تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين)
قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]، هذا تحذير لهؤلاء الكفار، وهذه سورة مكية، فيهدد الله عز وجل هؤلاء الكفار ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ارتقب واصبر على هذا الذي يقولونه، وانتظر حتى ترى كيف نجازي هؤلاء بما يقولون، فسيأتيهم العذاب من عند الله عز وجل، وهو الدخان، فيظهر لهم ما كانوا يفعلونه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويبين لهم شيئاً من عذابه.
وقد جاء حديث عن ابن مسعود رضي الله عنهما يبين أن هذا الدخان في الدنيا، وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أن هذا الدخان يوم القيامة، وكلاهما صحيح، ولكن المقصود منهما في هذه الآية أحدهما، فالحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] وأن فلاناً يقول: يكون دخان يوم القيامة، فغضب ابن مسعود رضي الله عنهم وقال: لم يتكلم أحدكم بما ليس له به علم؟ من علم فليقل بعلمه، ومن كان لا يعلم فليقل: الله أعلم، ثم قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10 - 11].
وهذا الحديث في البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم لما شددوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، فكان هذا الدخان من شدة الجوع ومن قلة المياه، فلم يجدوا ما يأكلونه فأكلوا لحوم الكلاب، وأكلوا عظام الميتة وكل شيء وجدوه أمامهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا واستجاب له ربه، فكانوا من شدة جوعهم يرون ما بينهم وبين السماء كالدخان، والجائع يغشى على بصره، فشدة الحر والعطش وقلة الطعام جعلتهم ينظرون إلى ما بينهم وبين السماء كالدخان من شدة ما هم فيه من قحط ومحل وجدب.
فذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال للنبي صلوات الله وسلامه عليه: إنك جئت تدعو إلى صلة الرحم فكيف تدعو علينا؟! فقد عرف أن الله قد استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه ليدعو لهم كما فعل فرعون مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ابتلاهم الله عز وجل، قال الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:130 - 131]، وبعد ذلك يذهبون إلى موسى ويقولون: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، وكلما يأتيهم عذاب من عند الله يقولون: سنؤمن لك، فيكشف الله عز وجل عنهم العذاب فيرجعون، فهذه سنة الكفار السابقين، فالله عز وجل إذا أخذهم جأروا إليه بالدعاء ورجعوا إليه ليكشف عنهم البلاء، فإذا كشف عنهم البلاء رجعوا إلى كفرهم مرة ثانية، وكذلك هؤلاء المشركون قال رجل منهم: يا رسول الله استسق لمضر، وهذه القبيلة أبوهم الأكبر مضر، فيقول له: استسق الله لمضر، أي: لقريش التي عدوت عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لجرئ) يعني: إنك لجريء في هذا الذي تطلبه، فبدلاً ما تقول لهم: آمنوا بسبب ما أنزل الله عز وجل عليكم من عذاب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: استسق! ولكن حنان النبي صلى الله عليه وسلم جعله يستسقي لهم، ودعا لهم أن يكشف الله عز وجل عنهم ما هم فيه، وقد وعدوه أنهم يؤمنون فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، فقال الله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: ستعودون إلى كفركم مرة ثانية.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فاستسقى -يعني: طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يسقي هؤلاء- فسقوا فنزلت الآية الأخرى: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]، قال ابن مسعود: هي يوم بدر، أي: إن رجعتم إلى الكفر فسنبطش بكم بطشة كبرى، وكان ذلك في يوم بدر، حيث أهلك الله عز وجل شيوخ المشركين كـ أبي جهل، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة وغيرهم.
وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري كما في صحيح مسلم قال: (طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة) يعني: يوم القيامة وما يكون فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات) يعني: العلامات الكبرى لهذه الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم).
فهذه هي العلامات الكبرى للساعة، وهي عشر علامات إذا خرجت كانت متوالية بعضها وراء بعض كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (كعقد انفرط) أي: مثل السبحة إذا انقطع منها الحبل تذهب منها الخرزات واحدة تل الأخرى.
وآخر العلامات نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر، وهي نار عظيمة تجعل الناس كلهم يهربون ويذهبون إلى الشام، وهي أرض المحشر.
قال: (تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم إذا أصبحوا، وتمسي معهم إذا أمسوا، قلت: يا نبي الله! وما الدخان؟ فذكر هذه الآية).
وابن مسعود رضي الله عنه لا ينكر هذا الحديث، ولكن يقول: إن الدخان المقصود في هذه الآية قد حصل وانتهى؛ لأن ربنا يقول: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} [الدخان:15]، وعندما تقوم الساعة لن يكشف الله العذاب.
ولذلك فالراجح قول ابن مسعود رضي الله عنه، والصحيح أن الدخان أيضاً من علامات الساعة، ولكنه ليس متعلقاً بهذه الآية، والله أعلم.
قال سبحانه: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] أي: بدخان واضح جلي أو مبين.(463/3)