تفسير سورة الصافات [99 - 113]
امتحن الله نبيه إبراهيم بأمره بذبح ابنه إسماعيل، فكان التسليم منهما جميعاً، ففدى الله إسماعيل بكبش من السماء جزاء إحسانهما، وصارت الأضاحي سنة من بعده، والإنسان قد يكون صالحاً ولكن لا يمنع ذلك أن يكون من ذريته الصالحون المحسنون والظالمون المسيئون.(329/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:99 - 111].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكسر أصنامهم وسفه معبوداتهم، واجتمعوا أن يكيدوا له كيداً عظيماً وأن يلقوه في النار ليحرقوه، فأنجاه الله سبحانه وتعالى من النار فأرادوا به كيدا فجعلهم الله عز وجل الأسفلين والأخسرين.
قال إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99].
فخرج مهاجراً إلى الله، وإبراهيم كان مولده في جنوب العراق في بلدة اسمها أور، وهاجر من هذا المكان إلى شمال العراق إلى حران وهي في تركيا الآن، ووجد قومها يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، وناظرهم وأبهتهم وغلبهم بالحجة، وتركهم وهاجر إلى الله سبحانه إلى بلاد الشام، ودعا ربه سبحانه {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:100 - 101].
فبشره الله سبحانه وتعالى بغلام حليم، يولد له، ووصفه بهذه الصفة أنه حليم، وكأنه يستعد هذا الغلام لأمر من الأمور التي يبتلى بها كما ابتلي أبوه عليه الصلاة والسلام، هذا الغلام هو إسماعيل الذي ولد لإبراهيم بعد هجرته من حران في شمال العراق أو في تركيا، ونزل اتجاه البحر المتوسط إلى بلاد الشام، وهنالك أقام إبراهيم فترة وبشره الله سبحانه وتعالى بالغلام الذي ولد له، وحدثت مجاعة في بلاد الشام، فجاء إبراهيم إلى مصر، وأخذ فرعون مصر منه زوجته في قصة ذكرناها قبل ذلك، وأهدى لها هاجر، فهي أمة لـ سارة وسارة أهدتها لإبراهيم، وسارة كانت عقيمة، فوهبت هذه الجارية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لعله يكون له منها الولد، فكان الولد الذي بشر الله عز وجل به الغلام الحليم، جاء على كبر سن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأمره الله عز وجل أن يأخذ هذا الولد ويذهب به إلى مكة ويتركه هناك كما ذكرنا في الحديث السابق، ولما بلغ معه السعي، أي: أنه أدرك السعي مع والده في شئونه، وبلغ الحلم ثلاث عشرة سنة أو فوقها، إذا بأبيه يأتي إليه ويقول: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].
قال: (يَا بُنَيَّ) هذه قراءة حفص عن عاصم وباقي القراء يقرءونها: ((يَا بُنَيِّ إِنِّي أَرَى)).
أيضاً قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، يقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: ((إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)).
وهذا من إبراهيم نوع من تطييب الخاطر وتطييب القلب لابنه، وإلا فهو سينفذ أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (تُرى) بالبناء للمجهول والإمالة.
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، وكان الجواب من هذا الغلام الذي وصفه الله عز وجل بالحلم أنه عاقل ويتروى في أمره ويصبر، فهو غلام حليم، كما قال الله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
ستجدني إن شاء الله من الصابرين، والبلاء بلاء عظيم، إذ إنه سيذبح؛ ولذلك استثنى وقدم مشيئة الله سبحانه وتعالى، وكان من المتوقع أنه سيفزع، ولكن قال: إن شاء الله، قال الله تعالى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وقراءة الجمهور: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102]، وقراءة نافع وأبي جعفر: ((سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)).(329/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: أسلما أمرهما لله سبحانه، استسلم الغلام لأمر الله سبحانه وسلم نفسه لأبيه، وأوثقه أبوه، قال تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، وتل الشيء بمعنى: وضعه، وهنا كأنه ألقاه للجبين، وهذه من رحمة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذكر أنها بمشورة إسماعيل، إذ خشي أن أباه لا يقدر أن يذبحه، فطلب من أبيه أن يذبحه من قفاه؛ لأنه لعله ينظر إلى وجهه فيصعب عليه تنفيذ أمر الله، فألقاه على جبينه، وجعل وجهه إلى الأرض حتى لا يرى وجهه.(329/3)
تفسير قوله تعالى: (وناديناه أن يا إبراهيم)
قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104].
الواو تفيد مطلق العطف، ولم يقل: فناديناه للترتيب والتعقيب؛ لأن الأمر جاء سريعاً من الله سبحانه، فكانت الواو أسرع من الفاء ومن ثم، فقال: {وَنَادَيْنَاهُ}.
فالأمر لإبراهيم امتحان، ونجح إبراهيم في الامتحان، قال تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:105].
أي: أنت صدقت واستيقنت بأمر الله سبحانه، وأظهرت أن حبك لله فوق حبك لولدك، وفوق حبك لكل شيء ونجحت في الامتحان، فلا تفعل شيئاً، قال تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105].(329/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين وفديناه بذبح عظيم)
قال الله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] أي: كهذا الجزاء العظيم الذي جازينا به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كذلك نجزي كل إنسان يحسن في عبادته لله سبحانه، وننجيه من الكرب والغم كما نجينا إبراهيم، ونجينا ابنه كذلك.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ} [الصافات:106] أي: الاختبار والامتحان الصعب، الشديد المبين، فهو بين تماماً صعوبة هذا الامتحان الذي اجتازه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ونجح فيه، فهو البلاء البين الواضح الجلي.
وقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، فدى الله عز وجل إسماعيل بكبش عظيم، وصفه الله عز وجل بذلك بأنه عظيم، أي: في هيئته وفي منظره، ومن هنا جاء استحباب التضحية بالكبش العظيم.
فآتاه الله عز وجل مع جبريل كبشاً أقرن، وكانت قرون هذا الكبش معلقة في الكعبة حتى فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وأمر عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا تشغل من يصلي، وهذا من الأدلة على أن الذبيح كان إسماعيل وليس إسحاق، فإن إسحاق لم يذهب إلى هنالك، إنما الذي ذهب إلى هنالك هو إسماعيل، فقد عاش وتربى هنالك، وفداه الله عز وجل بالذبح العظيم.(329/5)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين)
قال الله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:108] أي: تركنا على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الثناء الحسن في الآخرين، في الأمم التي تخلف وتأتي بعده إلى يوم الدين، فكل من يذكر إبراهيم من أهل كل ملة يصلون ويسلمون عليه، ويقولون: عليه الصلاة والسلام.
قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ} [الصافات:110]، أي: كهذا الجزاء العظيم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110].
وكرر ذلك مرتين: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105].
الأولى نجزي المحسنين بأن ننجيهم من الغم ومن الكرب ومن الهم، فالإنسان الذي يريد من الله عز وجل أن يستجيب له في الضراء فليكن محسناً، وليكن مؤمناً، وليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى في وقت الرخاء، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجاب له في الضراء فليكثر من الدعاء في الرخاء) فالذي يعود نفسه على كثرة الدعاء في وقت الرخاء والسعة والغنى، فهذا جدير أن يستجاب له إذا نزلت به مصيبة؛ لأنه متعود في وقت النعمة على أن يدعو ربه، والعادة في الإنسان أن طبيعته عجيبة، كما يقول الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].
فالإنسان إذا وجد نفسه مستغنياً يترك العبادة ولا يدعو ربه سبحانه وتعالى! فالإنسان يجاوز حده ويترك عبادة ربه سبحانه وتعالى إذا رأى نفسه قد استغنى في زعمه، لذلك فإن الذي يستجيب لله عز وجل في وقت البلاء هو ذلك الإنسان الذي اعتاد على حسن العبادة لربه سبحانه في كل أحواله.
فكأنه في الأولى قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] أي: ننجيه من الغم، وفي الثانية قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110] يعني: يثني عليهم ويأتي بعدهم من يذكرهم بخير، فالله عز وجل يجعل الذكر الجميل والثناء الحسن للإنسان الذي يحسن في عبادة ربه سبحانه.(329/6)
تفسير قوله تعالى: (إنه من عبادنا المؤمنين)
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:111].
(إنَّ) هنا تعليلية، أي: لأنه من عبادنا المؤمنين، أو توكيد وتحقيق، أي: إن إبراهيم كان حقيقاً بذلك، فهو مؤمن عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لم يشك في ربه أبداً، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) والمعنى: لو كان إبراهيم يشك، لكنا نحن أولى بالشك منه، ومعلوم أننا نحن لا نشك، ومستحيل أن يشك إبراهيم في قدرة ربه سبحانه وقد وصفه الله عز وجل بأنه من المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:111].(329/7)
تفسير قوله تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين)
قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] هذه البشارة الثانية، إذ كانت البشارة الأولى بالغلام الحليم وهو إسماعيل، وجاء الغلام الثاني، وبين الاثنين ثلاث عشرة سنة، فإسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فكافأ الله عز وجل إبراهيم بأن يكون له ولد من سارة، من زوجته العجوز العقيم التي صارت كبيرة في السن ومثلها لا يلد، فكانت هذه معجزة من الله سبحانه، أن يصير لها الولد، فبشر بإسحاق وأنه سيكون نبياً، ومعلوم أن الأنبياء لا يكونون في سن صغير وهم أطفال، ولكن يكون نبياً عندما يدرك ويبلغ ويكون كبيراً، والعادة في الأنبياء أنهم ينبئون بعد سن الأربعين، إلا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبئ وهو صغير، فكون ربنا سبحانه وتعالى يبشر إبراهيم بإسحاق، وأن إسحاق سيكون نبياً فهذه بشارة بعد بشارة، وهذا ينافي أن الله عز وجل يأمره بذبحه، وهنا في هذه الآيات لما أمر الله عز وجل إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده، جاء في التوراة وغيرها أنه يذبح بكره، وبكره كان إسماعيل، إذ هو أكبر من إسحاق، فهنا البشارة بأن إسحاق سيكبر وسيصير نبياً وسيكون له العقب بعد ذلك.
قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات:113] أي: جعلنا البركة في إبراهيم، وجعلناها أيضاً في إسحاق، يعني: في الذرية الكثيرة؛ لأن ذرية إسحاق منها كل الأنبياء ما عدا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، هو وحده من ذرية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات:113] أي: إبراهيم وإسحاق: {مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113].
والمعنى: أن الأب قد يكون صالحاً، والأولاد قد يكون فيهم الصالحون وقد لا يكون فيهم ذلك، فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسحاق من ذريتهما الأنبياء، ولكن لا يمنع إذا كانت الذرية فيها الأنبياء وهم أفضل خلق الله عليهم الصلاة والسلام أن يكون فيهم غير ذلك ممن يعصون الله سبحانه وتعالى، فمن ذرية إسحاق جاء يعقوب بعد ذلك وجاء الأسباط، وجاء منهم بنو إسرائيل، وعرفنا كيف صنع بنو إسرائيل مع ربهم سبحانه وتعالى، في كثرة تكذيبهم وإعراضهم ومناوشاتهم لأنبيائهم عليهم الصلاة السلام، فهنا يخبرنا ربنا أن من هذه الذرية الصالحون المحسنون، ومنهم المسيئون الظالمون ظلماً بيناً واضحاً، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكل إنسان يحمل إثمه معه يوم القيامة؛ ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم فنادى الناس وعم وخص، دعا القبائل ودعا بني هاشم، وخص من هؤلاء أقرب الناس إليه فاطمة رضي الله عنها، وقال للجميع: (لا أغني عنكم من الله شيئاً، لا أغني عنكم من الله شيئا) فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لابنته فاطمة التي هي بضعة منه عليه الصلاة والسلام: (لا أغني عنك من الله شيئاً) فكيف بغيرها؟ فعلى ذلك الإنسان لا ينظر إلى صلاح أبيه، فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فلا هو الذي سيحمل اسمك، ولا أنت الذي ستأخذ فضله، ولكن: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(329/8)
تفسير سورة الصافات [114 - 127]
يمن الله سبحانه على بعض خلقه بالنبوة والرسالة وبالثناء الجميل بين الناس، وقد ذكر سبحانه في سورة الصافات قصص بعض الأنبياء مع أنبيائهم ذكراً سريعاً، وهذا أيضاً من حسن سياق كتاب الله وقوة بلاغته.(330/1)
تفسير قوله قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:114 - 132].
ذكر الله سبحانه وتعالى قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكيف دعا قومه إلى عباده الله سبحانه وكسر أصنامهم، ثم هاجر من بين أظهرهم وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] فبشره الله سبحانه بغلام حليم وكان من أمره ما كان، وأمر الله بذبحه، فنفذ أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ففداه الله بذبح عظيم، وهذا الغلام الذي فداه الله هو ولد هاجر، واسمه إسماعيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وبينه وبين إسحاق ثلاث عشرة سنة، وإسحاق هو ابن سارة، فبشره الله سبحانه أنه سيولد له ولد من زوجته العجوز الكبيرة، ويكون نبياً من بعده، وسيكون له عقب من ذريته، قال تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] أي: إسحاق سيكون نبياً وسيكون له الولد وهو يعقوب.
قال الله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات:113] أي: من ذرية إبراهيم وإسحاق المحسن ومنهم الظالم لنفسه ظلماً بيناً، قال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، فالمحسن من ذريتهما هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرسل، كذلك المؤمنون الأتقياء والأولياء وغير ذلك من عباد الله سبحانه، ومنهم الذين يظلمون أنفسهم ظلماً بيناً، فيعبدون غير الله سبحانه، فمن ذرية هؤلاء جاء من عبد غير الله سبحانه وادعى الشرك لله سبحانه، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] فهؤلاء يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فيزعمون أنهم لله عز وجل بمنزلة الولد وأنه يحبهم ويرحمهم، فقال لهم سبحانه موبخاً لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] أي: عبيد من عبيد الله سبحانه كغيركم من العبيد يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ثم يزعمون أن الله لا يعذبهم، فهؤلاء الذين عبدوا غير الله سبحانه وزعموا الصاحبة والولد لله هم الذين ظلموا أنفسهم ظلم بيناً عظيماً بدعائهم الولد لله والشريك له حاشى له سبحانه وتعالى.
ثم قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114] هذان من ذرية إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إبراهيم ابنه إسحاق، وإسحاق ابنه يعقوب وهو إسرائيل، ويعقوب ذريته الأسباط، ومن أبناء يعقوب لاوي، ومن أحفاد هذا الابن كان موسى بن عمران وأخوه هارون بن عمران عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فموسى وهارون من أحفاد يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومن نفس هذه الذرية إلياس، فهو من أبناء هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويرجعون في النهاية إلى يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114] من الله عز وجل عليهما، وذكر قصة موسى في القرآن في مواضع كثيرة، يذكر موسى ويذكر رسالته، ويذكر دعوته لبني إسرائيل، فهو من أكثر الأنبياء عليه الصلاة والسلام ذكراً في القرآن، فهو من أولي العزم من الرسل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر في قصته وأن يعتبر بذلك، وقد كان إذا أوذي صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي أكثر من هذا فصبر) فهو صاحب الشريعة التي كانت قبل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسيح عمل بشرع موسى عليه الصلاة والسلام بتوراته، فموسى صاحب كتاب وصاحب شريعة، إذ حكم بين الناس بالتوراة، فقد نزلت التوراة فيها هدى ونور، وجاء القرآن شريعة بعد التوراة، أما الإنجيل فكان كتاباً فيه موعظة يعظ الله عز وجل بها بني إسرائيل، وأما الحكم فكان بالتوراة؛ فلذلك الشريعة التي سبقت شرع محمد صلوات الله وسلامه عليه هي التوراة التي نزلت على موسى، ويوضح ذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} [هود:17] أي: من قبل هذا القرآن وقبل محمد صلى الله عليه وسلم كتاب موسى، إذ كان عيسى يحكم بهذه التوراة، فلم يكن له شريعة مستقلة، وهو أحد أولي العزم من الرسل، وهو ممن ابتلاهم الله سبحانه، فحكم بالتوراة، ثم رفعه الله عز وجل إليه، فإذا نزل في آخر الزمان حكم بالقرآن العظيم، فصاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو موسى عليه الصلاة والسلام، وقد من الله سبحانه وتعالى وتفضل وأعطى النعم لموسى وهارون وأعظم نعمة الله سبحانه عليهما أن جعل موسى رسولاً وجعل هارون نبياً ووزيراً لموسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114].(330/2)
تفسير قوله تعالى: (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم)
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:115] نجى الله عز وجل موسى ونجا هارون من الكرب العظيم، والكرب العظيم هو الذي ابتلي به بنو إسرائيل في مصر فكانوا أرقاء لفرعون وقومه وجنوده، فالله عز وجل نجى موسى وهارون ولم يتعرضا لذلك، فموسى تربى في بيت فرعون، وكان موسى يأمر وينهى، وأعطاه الله سبحانه وتعالى ما شاء من فضل وكرم عليه، وكذلك نجاه من الغرق سبحانه، فأغرق فرعون وجنوده، ونجاه هو وبني إسرائيل من الغرق، ونجاهم من ظلم فرعون بفضله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات:116] أي: نصرنا موسى وهارون ومن اتبعهما من المؤمنين فكانوا المغالبين، فأهلك الله عز وجل فرعون وجنوده، وأظهر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكانوا هم الغالبين ومن اتبعهما من المؤمنين.
إذاً: (نَصَرْنَاهُمْ) أي: نصرنا المؤمنين موسى وهارون ومن معهم من المؤمنين.
وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا} [الصافات:117] هذا كان لموسى وهارون على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، آتاهما الكتاب المستبين، والذي نزل عليه الكتاب هو موسى عليه الصلاة والسلام، وهارون تابع لموسى وهو نبي، فموسى رسول ونبي، والمطلوب منه أن يبلغ رسالة وأن يبلغ شريعة، فهو صاحب كتاب، أما هارون فهو نبي يوحى إليه، ولكن ليس صاحب رسالة، فهو يبلغ ما يأمره به موسى عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات:117] المستبين: الذي استبانه الناس وتبينوا صدقه وتبينوا نوره وظهر الحق الذي فيه، يقال: هذا كتاب بين، أي: جلي واضح لا لبس فيه ولا غموض فيه، بل هو نور من الله سبحانه.
قال الله: {وَهَدَيْنَاهُمَا} [الصافات:118] أي: موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:118] أي: الطريق القويم، وهو دين الله الإسلام العظيم الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، قال نوح عليه الصلاة والسلام: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، فهي دعوة الله سبحانه لكل خلقه أن يكونوا على هذا الإسلام العظيم، أن يسلموا أنفسهم وقلوبهم ويوجهوا وجوههم إلى الله الواحد لا شريك له، ويعبدونه لا يشركون به شيئاً.
وقوله تعالى: {الصِّرَاطَ} تقرأ بثلاث قراءات: الصراط بالصاد، والسراط بالسين، والزراط بالزاي إشماماً، تشم السين حرف الزاي، يقرؤها بالسين: قنبل عن ابن كثير ورويس، وباقي القراء يقرءون هذه الكلمة بالصاد، ويقرؤها خلف عن حمزة: (الزراط المستقيم)، ويقرؤها خلاد بخلفه، والمعنى واحد في الجميع، {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:118] أي: الطريق القويم إلى الله عز وجل، هذه الشريعة العظيمة شريعة الإسلام.(330/3)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ} [الصافات:119] أي: تركنا على موسى وهارون، {فِي الآخِرِينَ} أي: أثنينا عليهما، ووضعنا لهما الثناء الحسن على ألسنة الخلق الذين يأتون بعد ذلك، فيذكرون موسى وهارون بالتسليم وبالثناء وبالمدح لما فعلاه وبلغاه من رسالة الله سبحانه، وتركنا عليهما في الآخرين الثناء الجميل، ومن هذا الثناء الجميل: {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:120] أي: كل من يذكر موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام يسلم عليهما كما ذكر الله سبحانه.(330/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)
قال الله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:121] أي: إنا كهذا الجزاء العظيم نجزي المحسنين، قال: (كَذَلِكَ) ذلك: اسم إشارة للبعيد، واسم إشارة للشيء المعظم، أي: كذلك الذي تركناه عليهما من فضلنا العظيم وأثنينا عليهما وجعلنا الثناء الحسن على ألسنة الخلق، نفعل بكل إنسان محسن، نترك له ذكراً جميلاً وثناءً حسناً على ألسنة من يأتون بعده، فيذكرون الإنسان المحسن، يقولون: رحمه الله كان رجلاً محسناً، ويذكرون من فضله فيدعون له، فالله عز وجل يجعل ذلك على ألسنة من يشاء من خلقه؛ ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإنسان الذي يتوفى إذا تكلم الناس عنه بخير: (أنتم شهداء الله في الأرض، وقال: وجبت وجبت وجبت) أي: وجبت له الجنة بثناء الناس عليه، وآخر أثنى الناس عليه شراً فقال: (وجبت وجبت وجبت) أي: وجبت له النار؛ لأنهم شهداء الله في الأرض.
فالله يجعل ملائكة تنطق على لسان أحدكم، فالنطق يكون شيئاً عفوياً، فقد يكون إنسان لا يقصد شيئاً فيتذكر فلاناً فيقول: الله يرحمه، لقد كان رجلاً طيباً، وكان رجلاً صالحاً، فالملائكة تجعله ينطق بذلك، فيكون الثناء الحسن من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان.(330/5)
تفسير قوله تعالى: (إنهما من عبادنا المؤمنين)
قال تعالى: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:122] أي: لأنهما من عبادنا المؤمنين، أو تحقيق ذلك وتوكيد ذلك: إنهما حقاً من عبادنا الذين آمنوا وصدقوا، أي: موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام.(330/6)
تكرار قصة موسى في القرآن بسياق مختلف وبتعبير لا يمل القارئ من إعادة قراءته
ذكر الله عز وجل قصة موسى في سور متعددة، ففي سورة البقرة ذكر شيئاً منها، وذكر القصة في سورة الأعراف فأطال فيها، وذكر القصة في سورة طه فأطال فيها، وذكرها في سورة القصص، وكذلك في سورة النمل، وفي سورة الشعراء، فالله عز وجل فصل هذه القصة في مواضع من القرآن، وفيها تفنن عظيم، وفيها إعجاز من هذا القرآن العظيم، وهو أن القصة قصة واحدة وفي مواضع كثيرة لا تمل أن تقرأها في أي موضع كان، وفي كل موضع تجد فوائد، وفي كل موضع تجد سياق القصة متوافقاً مع الفواصل التي في السورة، ففي هذه السورة يقول تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:114 - 115] آيات قصيرة ومختومة بشيء معين، هي فواصل السورة، وتجد القصة مسوقة على نفس هذا السياق، فإذا ذكر القصة في سورة طه ذكرها بطريقة معينة، {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:9 - 12] فترى فواصل الآيات كلها مشابهة بعضها لبعض، وتجد السياق والوزن وتسمع الصوت الموسيقي في الآية موافقة لهذه السورة، وللقصة التي في هذه السورة وهذا تفنن عظيم جداً، فلو قلت لإنسان: اذكر لنا قصة كاتب عظيم بارع واكتب لي قصته ثلاث مرات بسياقات مختلفة، فإذا كتبها مرة ثانية تمل من قراءة ذلك، ولا يقدر هو على أن يأتي بمثل ما جاء به كتاب الله عز وجل، وهذا شيء من إعجاز القرآن العظيم وهو: أن القصة تساق في مواضع كثيرة، ويذكر هنا أشياء لا يذكرها هنا، ويذكر هنا أشياء هي موجودة هنا، ولكن يزيد فيها شيئاً يكون حسناً في هذا الموضع، مع الموافقة للتلاوة، إذ السورة نفسها تمشي مع الوزن كله، وأذنك تسمع ولا تمل من السماع، كذلك الحس لهذه الآيات، وموسيقى كل آية وأنت تسمعها هي نغمة واحدة، ولا تنافر بين قصة وقصة في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي السورة نفسها، ففي سورة الصافات الفواصل كلها قصيرة والآيات قصيرة والختم فيها الغالب بالنون، أو بالوزن على: هارون، الغالبين، المستبين، المستقيم، فالوزن على ذلك، فتسمع السورة وفيها جمال عظيم عند سماعها، وهناك جمال في فهمها وفي معانيها ومبانيها وفصاحتها وبلاغتها وفي سرد القصة نفسها والتشويق الذي فيها، هذا كلام الله عز وجل لا يمل منه سامع ولا يمل منه جليس.(330/7)
تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين فإنهم لمحضرون)
قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] نبي الله إلياس من أحفاد هارون، فهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون، فهو الابن الرابع لهارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهارون هو الجد الرابع له، فإلياس من أنبياء الله عز وجل لبني إسرائيل، ذكره الله عز وجل وأشار إلى شيء من قصته فقال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] إلياس: هو إلياسين وألياس، وهي كلمة أعجمية وعربتها العرب، فدخلت في لغتهم، فلذلك تنطق بوجوه، فقراءة الجمهور: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وقراءة ابن عامر: (وإن ألياس)، فالكلمة ليست عربية أصلاً وعربتها العرب فنطقت بها بطريقتهم.
قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: كان نبياً ورسولاً من رسل الله سبحانه إلى قومه، قال تعالى: {إِذْ قَالَ} [الصافات:124] أي: اذكر كيف دعا قومه وقال لهم: ألا تتقون؟ {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] إذاً: هو نبي لبني إسرائيل عليه الصلاة والسلام وكان بعد سليمان، وكان سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ملكاً على بني إسرائيل، وأعطاه الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة، وجمع له ما شاء من نعم لم تكن لأحد من بعده، فقد سخر له الإنس والجن والرياح في مملكته، يذهب كيفما شاء، والله عز وجل يسر له ذلك، ولما مات سليمان عليه الصلاة والسلام تنازعت بنو إسرائيل فتفكك ملك سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يقدر أحد أن يجمع هذا الملك من بعده، وكان في بني إسرائيل ملوك، فكان إلياس يدعو أحد ملوك بني إسرائيل، إذ كانت امرأته تعبد صنماً من الأصنام، ورأى الملك أن غيره من الناس من بني إسرائيل في البلدان الأخرى يعبدون غير الله سبحانه، فأخذ يقلدهم ويترك امرأته تعبد العجل وتدعو إلى عبادة الصنم الذي صنعته، واسم الصنم بعل، وسميت البلده باسمه (بعلبك)، وهي مدينة من المدن الموجودة في لبنان، وأنكر إلياس عليهم عبادة هذا الصنم من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى الله فرفضوا أن يأتوا إلى ربهم خاشعين، فأنكر وقال: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:125 - 127] أي: للعذاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(330/8)
تفسير سورة الصافات [123 - 132]
لقد توالى إرسال الرسل إلى بني إسرائيل، فكلما مات رسول بعث الله غيره، ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه أخبار بعض هؤلاء الرسل، وبعضهم لم يقص الله علينا قصصهم، ومن الرسل من ذكر الله عز وجل قصصهم في القرآن كثيراً كموسى عليه السلام، ومنهم من لم يذكر قصته إلا مرة واحدة كإلياس عليه السلام.(331/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين إنه من عبادنا المؤمنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:123 - 132].
أشار الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الصافات إلى بعض أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام إشارات، بين فيها كيف أنه سبحانه أرسلهم بالتوحيد إلى قومهم، ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبهم القوم؛ فجاءت عقوبة الله سبحانه تبارك وتعالى على هؤلاء.
فالغرض من ذكر هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام توطين النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته ومن معه من المؤمنين على ما هم عليه من ابتلاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد أعطاهم سبحانه هذا الدين العظيم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه، وكان يثبته الله عز وجل بما يذكر له من قصص المرسلين السابقين عليهم الصلاة والسلام، وكيف ابتلاهم الله ونصرهم وجازاهم خير الجزاء، وعقب وراء ذكر كل قصة بقوله: ((إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))، فالمقصد بيان نصر الله عز وجل للمرسلين وللمؤمنين، وكيف نصرهم حتى يطمئن المؤمنون أنه مهما طال بهم العذاب وطال عليهم الأذى فإن نصر الله آت، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، فعباد الله المرسلون ينصرهم الله، ويجعلهم الله عز وجل هم الغالبين، وهذه الآيات تدل على ما ذكر الله سبحانه.
قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
هذه الآية فيها قراءتان؛ بهمزة القطع وبهمزة الوصل، فقرأ بهمزة الوصل ابن عامر بخلف هشام وقرأ باقي القراء بهمزة القطع ((وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) أي: إنه كان نبياً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام مرسلاً إلى بني إسرائيل، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] أي: ممن أرسلناهم وجعلناهم أنبياء لبني إسرائيل، وقد كان بعد موسى بزمن ليس بالطويل، فقد كان جده الرابع هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو (إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإلياس من ذرية هارون، وقد أرسل إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.(331/2)
حال بني إسرائيل قبل إلياس عليه السلام
كان إلياس بعد زمن سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد وحد الله عز وجل بني إسرائيل في عهد سليمان، فلما مات سليمان عليه الصلاة والسلام تفرقوا وتقسمت ممالك بني إسرائيل، وأصبحوا في كل ما هم فيه من باطل ومن تفرق فرحون، فإذا بهم يعبدون غير الله، وكان ملوكهم يعبدون غير الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقد كان أحد الذين أرسل إليهم إلياس ليدعوهم إلى الله سبحانه قد اتخذ صنماً يعبده من دون الله، وقد ذكر المفسرون: أن امرأته كانت من عباد الأصنام، وصنعت صنماً اسمه (بعل) وعبدته من دون الله، فتركها على ذلك حتى فتنت الناس بذلك، وجعلت لهذا الصنم سدنة يخدمونه، ودخل الناس في عبادة هذا الصنم من دون الله، وكانت في بلدة من بلدان لبنان في الشام، وسميت هذه البلدة باسم هذا الصنم بعلبك، فعبد من دون الله، وقد كان هذا الملك الذي صنع ذلك من بني إسرائيل، وكان المفترض فيه أن يكون على التوحيد، فأرسل الله عز وجل إليه إلياس يدعوه إلى الله سبحانه، وينكر عليه ما هو فيه من عبادة غير الله سبحانه.(331/3)
بيان دعوة إلياس لقومه
قال الله عز وجل: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} [الصافات:123 - 124] (ألا تتقون) أي: ألا تخافون الله سبحانه تبارك وتعالى فتجعلون وقاية بينكم وبين عذاب الله بتوحيدكم الله سبحانه وبعملكم الصالح، وتعتصمون من عذاب الله بتقواه وبالعمل له.
{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} [الصافات:125] أي: أتعبدون هذا الصنم من دون الله سبحانه؟ والبعل يأتي بمعنى: الرب.
فكأنه يقول: أجعلتم هذا الصنم رباً من دون الله سبحانه تبارك وتعالى تدعونه وتلجئون إليه من دون الله؟ {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] سبحانه تبارك وتعالى أي: أفتتركون الرب العظيم الذي هو خالق كل شيء وهو أحسن الخالقين سبحانه ولا خالق سواه سبحانه.
وقال هنا: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] وكأنه في المعنى: أن هناك خالقاً آخر مع الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن الخلق يأتي بمعنى: التقدير، وبمعنى: الإنشاء من العدم، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه تبارك وتعالى.
والإنسان قد يقدر فيسمى خالقاً من هذا المعنى، فإن الله عز وجل هو الخالق الباري المصور، فالخالق هو الذي يقدر الشيء أن يكون كذا وكذا، والباري الذي ينفذ ويوجد هذا الشيء الذي قدره سبحانه تبارك وتعالى، وهو المصور الذي يعطي لهذا الشيء الذي أوجده الصورة التي يتميز بها عن غيره.
إذاً: فمن معاني الخلق: التقدير للشيء، وقد يكون الإنسان مقدراً، مثل الإنسان الذي يبني عمارة فيقدر أن القواعد ستكون كذا، والأساس كذا، والأعمدة كذا.
وأما التنفيذ فإنها مرحلة أخرى بعد ذلك.
فعندما قال: {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] أي: أحسن المقدرين سبحانه تبارك وتعالى، فلا يقدر شيئاً ولا يدبر أمراً إلا ويكون على ما قاله الله سبحانه، كما قال تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) أي: على ما أراده الله سبحانه، ومستحيل أن يتخلف عما قدره الله عز وجل عليه.
إذاً فقوله تعالى: {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ليس معناها: أنه يوجد غير الله يوجد الشيء من العدم إلى الوجود، كلا، وإنما جاءت على أحد معاني الخلق وهو التقدير، فجعل الله عز وجل في خلقه من يفكرون في إنشاء أشياء، ويقدرون هذه الأشياء في تفكيرهم، فإذا قدروا ذلك فقد تأتي على ما قدروه وقد لا تأتي على ما قدروه.
والله عز وجل إذا قدر شيئاً لابد أن يكون على ما قدره سبحانه، تبارك الله أحسن الخالقين.
قال هنا: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] فكلمة الخالق فيها معنى: التقدير، وفيها معنى: الإحياء، وفيها معنى: الإيجاد.
فإذا أتت وحدها فإن كل هذه المعاني تدخل تحتها، فإن الله هو الخالق الذي أوجد كل شيء سبحانه وقدره وأخرجه من العدم وجاء به إلى الوجود سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا أتت هذه الكلمة مع غيرها من أسمائه الحسنى سبحانه، فإن كل اسم يأخذ معنى واحداً من المعاني.
فعندما يقول: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، فيكون الخلق بمعنى: التقدير.
والباري بمعنى: أنه أوجد هؤلاء إلى البر، أي: أوجد من عدم.
والمصور بمعنى: أنه أعطاهم الصورة التي يتميزون بها عن غيرهم.(331/4)
تفسير قوله تعالى: (أتدعون بعلاً آبائكم الأولين)
قال إلياس لقومه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:125 - 126] أي: أتذرون أحسن الخالقين الذي هو الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه فيها قراءتان في لفظ الجلالة (الله) فقرئ بالنصب وهذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالرفع على الابتداء، فعلى قراءة النصب كأنه تذرون أحسن الخالقين الله بدل مما قبلها، فكأنه قال: تذرون الله سبحانه تبارك وتعالى.
ومعنى قراءة الرفع اللهُ الذي هو ربكم ورب آبائكم الأولين.
والله هو الرب سبحانه تبارك وتعالى، ولكن الفرق بين الكلمتين في المعنى: أن الله يدل على ألوهية الله سبحانه، والرب يدل على ربوبية لله سبحانه، ومقتضى الألوهية أن يُعبد الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله هو المعبود، يعني: أن الخلق يتوجهون إليه بالعبادة، فهو المألوه وحده، وهو المستحق وحده أن يعبد لا شريك له.
ويأتي الرب بمعنى الخالق، وبمعنى: المربي، وبمعنى: الواجد، وبمعنى: المعطي سبحانه تبارك وتعالى.
فالله المعبود هو الرب الخالق سبحانه تبارك وتعالى.
وقد كان الكفار لا يختلفون في ربوبية الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنه رب؛ لذلك كانوا إذا سئلوا: من خلقكم؟ يقولون: الله.
وإذا سئلوا: من الذي يعطيكم الرزق، ومن الذي يطعمكم ويسقيكم؟ قالوا: الرب سبحانه تبارك وتعالى.
فهو لكونه رباً فهو يقدر على ذلك سبحانه.
فإذا سئلوا: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد أصناماً وأوثاناً من دون الله سبحانه، فيشركون في ألوهيته، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم لا يختلفون في أن الذي يخلق هو الله سبحانه، فمن ادعى أن غير الله يخلق، وأن هذا الوصف لغير الله كان كاذباً، وهو أول من يكذب نفسه.
ولذلك لم يدع ذلك سوى اثنين النمرود الذي كان في عهد إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفرعون الذي كان في عهد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فأما النمرود فقال: أنا أحيي وأميت، فأخزاه الله حالاً بمناظرة إبراهيم له، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فأبهته الله سبحانه وأخزاه عندما {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أي: إن كنت تقدر على ذلك، وتقول: إنك رب فهات الشمس من المغرب، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
فأخزاه الله سبحانه تبارك وتعالى حالاً.
وأما فرعون الذي كان في عهد موسى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وهم يعلمون أنه لا يصلح لذلك، ولا يقدر على ذلك، وهو كذاب، وهو يعلم أنه كذاب، ولذلك أخزاه الله سبحانه، فإنه لما غرق في اليم قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فإذا به يكذب نفسه، فأهلكه الله عز وجل بعد ما صرخ بهذه الكمة وبين أنه كذاب فيما يقول.
فدعوى الربوبية لم يكن أحد يدعيها، وإنما كانوا يدعون الألوهية، فيطلبون من غيرهم أن يعبدوهم من دون الله، ويفعلون ما لا يجوز إلا لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا إشراكهم بالله سبحانه، أنهم كانوا يعبدون معه غيره.
إذاً: الذي جمع بين الربوبية والألوهية هو الله الرب سبحانه وحده لا شريك له، وهو الذي يستحق العبادة، فهو الذي يقدر على أن يخلق، وعلى أن يرزق، وعلى أن يحيي، وعلى أن يميت، وعلى أن يعطي، وعلى أن يمنع، وعلى أن يعز، وعلى أن يذل، فهو واحد لا شريك له، وهو الذي يستحق أن يعبد.
قال تعالى: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:126] يعني: الذي خلقكم ورزقكم، وقبل ذلك خلق آبائكم الأولين.(331/5)
تكذيب قوم إلياس لإلياس عليه السلام
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127] يعني: أنه ناقشهم وخاطب عقولهم وقال لهم: هذا البعل أنتم صنعتموه، فمن كان قبل بعل هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ الله هو الذي خلق آبائكم وخلق أجدادكم، وهو الحي الذي لا يموت، وأما هذا فإنه صنم صنعتموه بأيديكم، فاعبدوا {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ} [الصافات:126 - 127]، أي: أعرضوا عن هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وقد كان هذا الملك الذي عبد هذا الصنم من دون الله عز وجل يسمع لـ إلياس ويستجيب له قبل ذلك، ولكن فتنته الدنيا، وفتنته امرأته، فعبد البعل الذي صنعته من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، وفتن في ذلك.
قال الله عز وجل: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127] أي: محضرون لعذاب الله سبحانه، فذكروا أن الله سبحانه تبارك وتعالى لما بعث إليه إلياس عليه الصلاة والسلام ودعاهم إلى الله كذبوه وأعرضوا عنه، فدعا على قومه فابتلاهم الله سبحانه، وخرج وترك هؤلاء القوم، فلم يذكر الله عز وجل لنا ما حدث بعد ذلك، إلا أنهم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة.
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127]، أما في الدنيا فابتلاهم الله عز وجل بأن ضيق عليهم أرزاقهم، وسلط بعضهم على بعض، وأما في الآخرة {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127]، أي: إلى عذاب الله، وكلمة: (محضر) غالباً لا تأتي إلا في الشر، فمحضرون يعني: يساقون ويدعَّوْن إلى نار جهنم دعاً.
((فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)) أي: إلى عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى.(331/6)
تفسير قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين)
قال الله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:128] فاستثنى الله سبحانه ممن يحضرون إلى عذابه المخلصين، فهؤلاء يأتون يوم القيامة ويدخلهم ربنا جنته، وهم المخلصون.
والمخلصون فيها قراءتان في كل المصحف، فتقرأ: المخلَصين والمخِلصين، وهذه الآية التي هنا يقرؤها نافع وأبو جعفر، وعاصم وحمزة والكسائي وخلف.
(المخلَصين) ويقرؤها باقي القراء (المخلِصِين)، وعندما تأتي في الكلمة قراءتان فكأنهما حكمان في هذه الكلمة.
فالقراءة الأولى: المخلَص.
الذي اصطفاه الله سبحانه.
أي: أن هذه هبة من الله عز وجل لهذا الإنسان، ومنحة من الله لهذا الإنسان، أن الله اصطفاه واستخلصه وهداه سبحانه تبارك وتعالى، والقراءة الثانية: المخلِص أي أخلص العبد بتوفيق الله سبحانه، فهو قد أخلص قلبه لله سبحانه، وأخلص في العبادة ولم يشرك بالله، فهذا المخلِص فعل منه، والمخلَص اصطفاء من الله عز وجل له.
فهؤلاء مُخْلِصُون وكذلك مُخْلَصُون.(331/7)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:129] أي: تركنا على إلياس في الآخرين.
{سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130] أي: تركنا عليه في الأمم التي تأتي من بعده أن يدعون له ويسلمون عليه، ويذكرونه بالثناء الحسن، ويقولون: سلام عليه وعلى آله، وإل ياسين فيها قراءتان: قراءة الجمهور: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130]، وقراءة نافع وابن عامر ويعقوب (سلام على آل ياسين)، كأنه هو وأبوه (آل ياسين)، فأهله آل ياسين، فعلى القراءة الأولى السلام عليه، وعلى القراءة الأخرى السلام عليه وعلى آله، وكأن آل ياسين أهله، وأهل كل نبي أتباعه من المؤمنين، فيكون المعنى: سلام عليه وعلى من اتبعه من المؤمنين، فدخل فيها هو ومن معه على هذه القراءة الثانية.
{إِنَّا كَذَلِكَ} [الصافات:131] أي: كهذا الجزاء الجميل وكهذا الثناء الحسن وكهذا النصر الذي نصرناه {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:131]، أي: بمثل ذلك.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:132] أي: نصرناه ونجيناه من قومه وتركنا عليه الثناء الحسن لأنه من عبادنا المؤمنين، وكذلك كل إنسان محسن ومؤمن نترك له الذكر الجميل والثناء الحسن.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلِصين المخلَصين المحسنين المؤمنين.
أقول قولي هذا، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(331/8)
تفسير سورة الصافات [133 - 138]
يخبر الله سبحانه أن لوطاً عليه السلام من الرسل الذين أرسلهم إلى الناس فدعا قومه إلى توحيد الله وترك الفاحشة التي كانوا يرتكبونها، فأبوا وهموا بقتله، فأنجاه الله والمؤمنين معه إلا امرأته فإنها كانت كافرة فأبقاها الله مع قومها في العذاب، ودمرهم ودمر معهم قريتهم وجعل مكانها بحيرة ليعتبر الناس، وقد كان كفار قريش يمرون على تلك القرية في الصباح وفي الليل حين يذهبون إلى الشام للتجارة فحذرهم الله أن يصيبهم ما أصاب قوم لوط.(332/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن لوطاً لمن المرسلين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:133 - 144].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة قصصاً للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام مختصرة، والمقصد من هذه القصص التي ساقها أن يثبت الله عز وجل قلوب المؤمنين، ويعلموا أنه ناصرهم وأنه معهم، وأنهم إذا ابتلاهم الله عز وجل في هذه الدنيا فليس المعنى أنه يدوم عليهم البلاء حتى يلقوا الله سبحانه وتعالى، ولكن يبتليهم ويرفع عنهم البلاء سبحانه وتعالى، ثم يبتليهم ثم يرفع عنهم البلاء، وهكذا حتى يميز الخبيث من الطيب: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
والإنسان حين يسمع قصص الصالحين، وأحوالهم ونصر الله عز وجل للمؤمنين، ولأنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ يصبر ويتصبر، فقد ذكر الله عز وجل قصة إبراهيم وما صنعه سبحانه بإبراهيم الخليل، إذ ابتلاه الله سبحانه ابتلاءات كثيرة فصبر عليها، فمدحه في كتابه وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] عليه الصلاة والسلام، فقد كان وحده أمة من الأمم.
وذكر الله عز وجل في هذه السورة، قصة أخرى لإسماعيل أشار فيها عز وجل أنه وهب لإبراهيم عليه الصلاة والسلام غلاماً حليماً ثم ابتلاه فأمره أن يذبحه برؤيا منامية رآها، فلما كاد يفعل ذلك رفع الله عنه ذلك البلاء، وفداه بذبح عظيم.
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى وهارون باختصار، وكيف أنه سبحانه وتعالى آتاهما الكتاب المستبين: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:118]، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات:116].
فكان من فضل الله عز وجل عليهما أن ابتلاهما ثم رفع عنهما البلاء ونصرهم بفضله سبحانه وتعالى.
وذكر قصة إلياس على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه أرسله إلى قومه، فكذبوه، فذكر الله عز وجل أنهم من المحضرين إلى عذابه، والمقصد هو بيان أنه ما من نبي يبعثه الله، إلا ويبتليه الله ويبتلي قومه، ثم ينصر المؤمنين، ويهلك الظالمين، وهذه قصة لوط ساقها الله هنا باختصار، وإن كان قد فصلها في غير هذا الموضع من كتابه.(332/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ نجيناه وأهله أجمعين)
قال سبحانه: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:133].
هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام هو لوط بن فاران، وهو ابن أخي إبراهيم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وإبراهيم هو عم لوط عليه الصلاة السلام، وإبراهيم نبي من أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولوط نبي من أنبياء الله عز وجل، هاجر مع إبراهيم وكان موطنه بالعراق، فهاجر معه إلى بلاد الشام، وهنالك ذهب لوط بأمر الله عز وجل إلى قرى سدوم وعمورية يدعوهم إلى الله سبحانه، فوجد القوم يعبدون غير الله ويأتون الفاحشة، يأتي الرجال الرجال، ويتركون النساء! قال الله عز وجل: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:133 - 138].
آيات يذكرها الله عز وجل هنا، وهي آيات قصيرة فيها بيان كيف أرسل الله عز وجل لوطاً إلى قومه، فالله عز وجل أثبت له الرسالة في كتابه سبحانه، فلوط نبي أرسله الله عز وجل إلى قومه، يدعوهم إلى توحيد الله، فهو من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، ومن جملة رسل الله عليهم الصلاة والسلام، {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الصافات:133 - 134].
فقد كان في كرب قبل ذلك وهذا من تفنن القرآن العظيم، فإنه في كل موضع من المواضع يذكر ما يليق به، فهذه السورة آياتها قصيرة، فيناسب ذكر القصص باختصار، فهو يذكر أموراً من كل قصة، والغرض هو بيان أن الله عز وجل أوحى إلى المرسلين: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173].
فيبين الله عز وجل كيف نصرهم، وجعلهم الغالبين.
فقد نجاه الله وأهلك غيره، فإن القرى التي كان فيها، كانت تعبد غير الله، فدعاهم إلى عبادة الله فلم يستجيبوا له، وكانوا يأتون الفاحشة فيأتي الرجال الرجال، فمنعهم وحذرهم من عقوبة الله سبحانه فأبوا إلا أن يقتلوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأتى إليه قومه، وقد ابتلاهم الله ببلاء عظيم، حيث أرسل إلى هذه القرية ثلاثة من الملائكة على هيئة الشباب الحسان الملوك، فإذا بامرأة لوط تخبر قومها، وكانت كافرة، وقد ضرب الله عز وجل بها المثل في القرآن للكفر الذي يضر أصحابه، وإن كانوا مع الصالحين، ولكن الله سبحانه وتعالى فرق بينها وبين هذا الرجل الصالح {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} [التحريم:10].
فامرأة نوح كانت كافرة، والعدل أن تكون مع قومها في العقوبة، ولا تكون مع نوح النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأهلكها الله عز وجل وأغرقها مع من أغرق، وامرأة لوط كانت كافرة، فقد دلت قومها على ضيوف لوط عليه الصلاة والسلام، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى وجعل في قلوبهم القسوة، وأعمى أعينهم فلا يبصرون، وأخذهم إلى دار لوط، ويصرون على إخراج الضيوف وأخذ هؤلاء الضيوف، فإذا بلوط النبي عليه الصلاة السلام يقول: {هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:68 - 70].
أي: ألم نأمرك أن لا تدخل أحداً بيتك؟! يقول الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72].
يقسم الله للنبي صلى الله عليه وسلم بحياته وعمره عليه الصلاة والسلام إنهم لفي سكرة وغفلة وغباوة حيث إنهم يريدون أضياف لوط عليه الصلاة والسلام، فقالت الملائكة للوط: لا تخف ولا تحزن، وبشره الله عز وجل بعد ما ضاقت به نفسه، وضاق به بيته، وضاق به الأمر حتى قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، أي: لو أني أقدر عليكم، فهو ينظر إلى القوة التي حوله من الناس وما معه إلا ابنتان في البيت، فقد كان لا يجد من الناس أحداً يدافعهم معه فكأنه يقول: لو كان معي جيش لحاربتكم به.
يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (رحم الله أخي لوطاً حيث قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]).
كأنه نسي في هذه اللحظات الصعبة الشديدة -حيث كان قومه يدفعون عليه الباب، يريدون الدخول، وهو يدفع الباب من الداخل يمنعهم من الدخول، وهم يهددونه بالقتل- أن الله عز وجل ناصره سبحانه وتعالى، فقال: هذه الكلمة {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80].
فإذا بالضيوف يظهرون حقيقة الأمر: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود:81].
أي: لا تخف نحن معك والله عز وجل هو الذي أرسلنا ويبشره الله عز وجل: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
ويخرج الضيوف فيلقون على وجوههم التراب فتعمى أبصارهم، فيرجعون عن لوط وهم يتوعدونه ويقولون: في الصباح سترى ما نفعل بك، ويأمر الله سبحانه لوطاً ان أخرج أنت وأهلك ولا تلتفت ولا تنظر إلى خلفك أنت ومن معك، قال: {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
ويخرج لوط ومعه ابنتاه وتخرج معه امرأته، والله عز وجل لا ينجي إلا المؤمنين، وهذه امرأة كافرة، تتبع لوطاً النبي عليه الصلاة والسلام، وتريد أن تنجو، فكان لوط يحذر من معه ألا أحد يلتفت وراءه، فإن الله سيهلك هذه القرية، ولا ينظر أحد إلى خلفه، ويتبعون لوطاً عليه الصلاة والسلام ويأتي عذاب الله عز وجل على القرية قال سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55].
أي: بأي نعم ربك تجادل أو تشك؟! فهؤلاء جاءهم العذاب، فقد نزل عليهم ملك من ملائكة الله قلب عليهم قريتهم، وأمطر الله عز وجل عليهم حجارة من سجيل، فإذا بلوط وابنتاه يخرجون كما أمر الله سبحانه وتعالى، وامرأته تنظر خلفها، وتندب حظها، وتبكي قومها، فيأتيها حجر من السماء فيهلكها مع قومها.(332/3)
تفسير قوله تعالى: (إلا عجوزاً في الغابرين)
قال الله سبحانه: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الصافات:135].
هذه المرأة العجوز المشئومة، أهلكها الله سبحانه مع من أهلك، وغبر الشيء بمعنى بقي، فقد أبقاها الله مع قومها للعذاب.
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:172] أي: سحقناهم حيث جاء العذاب المفزع من رب العالمين سبحانه، فأهلك جميع من في هذه القرية.
وانظروا إلى صيغة التدمير فقد دمرهم ودمر ديارهم وما هم فيه تدميراً عظيماً.(332/4)
تفسير قوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين)
قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات:137].
أي: أنتم تسافرون إلى بلاد الشام ذاهبين آيبين، فترون البحيرات وتقولون عن البحر الميت: هذا المكان كان فيه قوم لوط، وجعل الله ماء هذه البحيرة شديد الملوحة والمرارة، حتى يعتبر الناس.
وقوله: ((مُصْبِحِينَ)) يعني: في أسفاركم، وبالليل أيضاً تمرون فتقولون: هنا أهلك الله عز وجل قوم لوط: {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:138] أفلا تعقلون كيف نزل العذاب بهؤلاء؟! {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
فهم لم يتفكروا فتفكروا أنتم في مصيرهم، واحذروا أن تقلدوهم فيأتيكم عذاب الله كما أتى هؤلاء الأقوام.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدين والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.(332/5)
تفسير سورة الصافات [139 - 148]
الصبر وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، والنبي إذا كلفه الله بأمرٍ فإنه لا ينبغي له أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله أولاً؛ ولذلك كانت الدعوة على النبي تكليفاً حتى يأذن الله له في ترك قومه، ولكن لو أن الداعي ترك من كان يدعوهم وغاضبهم فلا شيء عليه في ذلك، وقصة يونس مثال على ذلك، وفيها فوائد عظيمة يستفيد منها المؤمن في حياته.(333/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:139 - 144].
هذه قصة أخرى من قصص القرآن العظيم يذكرها الله عز وجل في هذه السورة باختصار، وي قصة يونس النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140]، القصة وذكرت في هذه السورة مختصرة، وذكرت أيضاً في سورة الأنبياء، وذكرت في سورة يونس، وذكرت في سورة القلم.
وفي كل موضع يذكر الله عز وجل شيئاً وفائدة من الفوائد في هذه القصة العجيبة العظيمة.
يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كان نبياً أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه، وكانوا في بلدة تسمى نينوى، بلدة بالموصل في العراق بحذاء بلدة كربلاء.
أرسل الله يونس إلى هؤلاء القوم، وكانوا كفاراً يعصون الله سبحانه وتعالى، فدعاهم إلى ربه سبحانه فترة طويلة، فلم يستجيبوا لدعوته، فلما لم يستجيبوا وأبوا إلا العناد والتكذيب، حذرهم من غضب الله سبحانه وتعالى، وأنه ستأتيهم عقوبة الله وعذابه، وخرج مغاضباً لقومه وتركهم، وأخبرهم أن الله سبحانه سينزل عليهم العذاب خلال ثلاثة أيام، فلما سمعوا ذلك، ووجدوا نبيهم قد تركهم إذا بهم يرجعون إلى الله سبحانه، ويخافون من عقوبته سبحانه.
وهذه الأمة الوحيدة التي حدث لها ذلك، قال الله عز وجل في سورة يونس {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، لولا بمعنى: هلا {كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98]، هل آمنت قرية من القرى حين يأتيها عذاب الله عز وجل وينفعها هذا الإيمان؟ ما حدث هذا أبداً إلا {قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].
إذاً: هذه القرية الوحيدة التي آمنت بالله ونفعها الإيمان، والعادة أن العذاب إذا نزل لا يرفع، فإذا جاء عذاب الله ورآه الناس استحقوا هذا العذاب، ولكن هؤلاء رأوا أن نبيهم غادرهم وتركهم، فاستيقنوا بمجيء العذاب، فلجئوا إلى ربهم سبحانه، فتابوا فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم قبل أن ينزل العذاب عليهم.(333/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا ابق إلى الفلك المشحون)
قال الله سبحانه: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] وأبق بمعنى: ترك المكان، وذهب بإرادته وهو مستطيع لذلك، يقال: عبد آبق يعني: هارب من مولاه، ترك مولاه على قدرة في ذلك، فترك سيده وانصرف عنه، فهذا ترك قومه وخرج بغير إذن ربه سبحانه وتعالى، هذا نبي من الأنبياء، وكل نبي يكلفه الله عز وجل بشيء لا بد أن يفعل هذا الشيء الذي كلفه الله عز وجل به.
ويونس فعل ما أمره الله عز وجل به، ولكن لم يستأذن ربه سبحانه أن يترك هذه القرية، وكأنه لما أنذرهم بعقوبة الله وانتظر هذه العقوبة أن تنزل خلال ثلاثة أيام، مرت ثلاثة أيام ولم ينزل شيء، فهو أمام قومه سيظهر أنه كاذب، ولذلك غادرهم ولم يرجع إلى هؤلاء القوم لما وجد أن العذاب لم ينزل، فغادر القوم وركب السفينة وخرج من عند هؤلاء.
وهنا في خروجه مغاضباً لقومه وخروجه بغير إذن ربه استحق أن يلومه الله سبحانه وتعالى، ولكن يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبي من المسبحين لله سبحانه وتعالى، وممن لم يزل يصعد إلى السماء منه دعوة صالحة لربه سبحانه وتعالى، فقد كان يكثر من الدعاء في كل وقت فنفعه ذلك، قال الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات:143 - 144] أي: في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، فكان من المسبحين، والمسبح بمعنى: المصلي، والمسبح: المنزه والمقدس لله سبحانه، والمكثر من التسبيح.
قال الله تعالى عنه هنا: {وَإِنَّ يُونُسَ} [الصافات:139]، وفي سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87]، وفي سورة نون {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فالنون: الحوت، وصاحبه هو يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال هنا: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:139 - 141]، وفي سورة الأنبياء قال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
وفي سورة القلم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48 - 50]، لولا نعمة الله عز وجل عليه لذمه الله سبحانه، لأنه لم يستأذن ربه سبحانه، فغاضب قومه وخرج وتركهم، وهذا لو فعله إنسان داعٍ يدعو إلى الله في مكان، وغضب من القوم ولم يستجيبوا وتركهم، لم يكن عليه شيء، ولكن هذا نبي من أنبياء الله لا يتحرك ولا ينطق إلا بأمر الله سبحانه، ولذلك لم يجعل الله له هذه كالخطيئة التي تكون لغيره، إذاً: حسنات الأبرار كما يقولون سيئات المقربين.
والإنسان يزداد قربه من الله عز وجل، ولا يكون حسناً لغيره قد يكون سيئة لهذا، وقد رأينا كيف عاتب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم حين عبس من إنسان أعمى في شيء لو فعله غيره ما عوتب على ذلك، ولكن مقام النبي صلى الله عليه وسلم مقام عالٍ جداً عند الله عز وجل، إذ جاءه ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشغول يدعو الكفار إلى دين الله، ويرجو أن يستجيبوا لدعوته عليه الصلاة والسلام، فلم يزل يقول: علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعبس وما زاد على ذلك، وعبس يعني: قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، فقد كره أن يقطع عليه حديثه صلى الله عليه وسلم مع الناس، فعاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقامه مقام عالٍ جداً عند ربه سبحانه، ولذلك يعاتبه على الشيء الذي لو فعله غيره لا يلام على هذا الشيء، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4].
والله سبحانه عاتب يونس النبي، بل عاقبه سبحانه وتعالى، وقال: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، ذو النون يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا قومه إلى الله سبحانه، فلما لم يستجيبوا حذرهم من عقوبة الله، وأعلن بأنهم يستحقون العقوبة، وأنها تنزل عليهم بعد ثلاثة أيام، فإذا بهم يتوبون إلى الله، ويقبل الله عز وجل منهم ذلك، فيرفع عنهم هذا العذاب، فلما وجد يونس أن القوم مكذبون وأن العذاب لم ينزل، فإنهم سيقولون عنه: إنه كاذب، فتركهم وركب السفينة وخرج من عندهم، قال تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] يعني: فظن أن الله لن يضيق عليه، وفي القراءة الأخرى: (فظَنَّ أَنْ لَنْ يُقدر عَلَيْهِ) يعني: لن يضيق عليه.
والأمر واسع ويذهب أينما يريد يدعو إلى الله، ولكن ليس بغير إذن من الله، فلذلك لما ركب السفينة مع قومه وهم يعلمون أنه من أنبياء الله فإذا بالسفينة تهبُّ عليها ريح شديدة وتثقل السفينة وتكاد تغرق بأصحابها، فإذا بهم يتعجبون ما حالها؟ السفن حولهم كثير إلا سفينتهم تكاد تغرق! فيقول لهم يونس عليه الصلاة والسلام: إن فيها عبداً آبقاً، يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام.
فيقول بعضهم لبعض: لا بد أن نلقي واحداً منا في الماء من أجل أن تخف هذه السفينة، فقال: ألقوني أنا، إن فيها عبداً آبقاً لمولاه، فيقترعون ثلاث مرات، وتطلع القرعة على يونس عليه الصلاة والسلام، وإذا به يتهيأ ليلقي نفسه في البحر، وإذا بحوت يأتي إليه بجوار السفينة بجوار المكان الذي يلقي نفسه منه، ويذهب إلى المكان الآخر فيأتي الحوت فيه، فعاد إلى المكان الأول فيلقي نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فيلتقمه الحوت، وأوحى الله عز وجل إلى الحوت أن لا يلتقمه وأنه لم يجعله له رزقاً، فكان في بطن الحوت، في ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة بطن الحوت، قال: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].(333/3)
تفسير قوله تعالى: (فساهم فكان من المدحضين)
يقول الله سبحانه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: فقارع يعني: أجريت القرعة، ودخل من ضمن من يقترعون، قال تعالى: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، أي: من المشئومين، أو من المقروعين، أو من المغلوبين، يعني: هو الذي أصبحت عليه القرعة أنه يلقي بنفسه في البحر.
قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] الحوت: السمكة العظيمة وكان يطلق على كل سمكة حوت، قوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] أي: آت بما يلام عليه، وفرق بين ملوم ومليم، تقول: فلان ملوم هناك من يلومه، ومن الممكن أنه يستحق، ومن الممكن أنه لا يستحق اللوم، إذاً: هذا نعاتبه، ويمكن أن يستحق ذلك أو لا يستحق، لكن {مُلِيمٌ} [الصافات:142] قد استحق ذلك، وقد أتى بما يستحق عليه أن يلومه وأن يعاتبه الله سبحانه.(333/4)
تفسير قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين)
قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143]، كانت له فضيلة أنه كان كثير التسبيح، وكثير الصلاة عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات:144] أي: في بطن الحوت، قال تعالى: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:144]، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.(333/5)
تفسير قوله تعالى: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم)
قال الله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] أي: ألقيناه وأمرنا الحوت بعدما طاف به في البحار أن يلقيه على جزيرة من الجزر، على أرض من الأراضي، قال تعالى: {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] يعني: خرج من داخل بطن الحوت وهو مريض من الفترة التي مكثها بداخل بطن الحوت.
في هذه الفترة الذي كان فيها مريضاً داخل بطن الحوت كان يصلي لله سبحانه وتعالى، فسمع تسبيح الحصى، وتسبيح الأسماك، وتسبيح الكائنات في البحر، فسبح ربه سبحانه وألهمه الله سبحانه أن يقول هذه الكلمة العظيمة: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
جاء في حديث رواه الترمذي عن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)، فالله رحمته عظيمة وواسعة، كما استجاب ليونس عليه الصلاة والسلام يستجيب لغيره، قال الله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]، إذاً: ليس هو وحده، بل كل مؤمن ننجيه إذا دعانا واستجار بنا، وكان من المسبحين لربه سبحانه تبارك وتعالى.
قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات:145] أي: في مكان لا شجر فيه ولا شيء يستفيد منه ليريه نعمته عليه، فالله أنعم عليه فلا يفعل شيئاً بغير إذنه.
قال الله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146] الله عز وجل خلق له وأنبت له شجرة من يقطين، واليقطين: القرع، ولليقطين فوائد كثيرة، ففي هذا المكان الذي ليس فيه شجر يستظل بورق اليقطين؛ لأن ورقه كبير له ظل، ونباته يؤكل سواء كان رطباً أو مطبوخاً، ومن ميزاته أن الذباب لا يقرب شجر اليقطين، فكان من الله عز وجل فضلٌ ونعمة على يونس في هذا المكان، قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146]، فكان يشرب من الماء ويأكل من هذا الشجر حتى صح بدنه ورجع إلى عافيته.(333/6)
تفسير قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)
قال الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، أرسله الله عز وجل إلى قومه أو إلى غيرهم، رجع إلى قومه يدعوهم وكانوا مائة ألف، أو أرسله إلى غيرهم سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ} [الصافات:148] يعني: في هذه الدنيا، متعناهم بإيمانهم فيها إلى حين، فقد استجابوا لدعوته، والله سبحانه وتعالى لم يحرمه من خير، وهذا فضل الله عز وجل، ولو شاء لقبضه على ذلك فكان مليماً وآتياً بما يلام عليه عند الله، ولكن الله تكرم عليه سبحانه وأرسله مرة أخرى؛ ليدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله عز وجل ذلك في سورة الأنبياء، إذ ذكر أنه ينجي المؤمنين، فالإنسان المؤمن يتعلم من هذه القصة أنه لا يترك أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يدري ما يكون وراء ذلك، ولا يترك دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه سبحانه، بل يقتدي بأنبياء الله الذين دعوا وصبروا في دعوتهم إلى الله سبحانه، والله قادر على التغيير، والإنسان الذي تراه يستحق العذاب قد يرى الله عز وجل أنه لا يستحق ذلك، فيرفع عنه العذاب الذي تتوهم أنه من أهله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلعل هذا الإنسان الذي أدعوه خير مني، ولعلي أراه الآن عاصياً ويكون مؤمناً تقياً بعد ذلك، ولعل الإنسان ينظر إليه أنه يستحق النار، وهو عند الله عز وجل يستحق أن يكون من أهل الجنة بما قدر الله عز وجل أن يفعله بعد ذلك.
وفي سورة القلم يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48] بمعنى: كظم الغيظ، وكظم الغضب ونادى ربه سبحانه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، قال تعالى: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:49]، ولكن الله لم يذمه سبحانه وتعالى، إذ قال: {فَاجْتَبَاهُ} [القلم:50]، أي: اصطفاه الله عز وجل، فجعله من الصالحين.
فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، تحذيراً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في سورة الحاقة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه افترى علينا وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:45 - 46]، فالله سبحانه يقول هذا على نبيه وحبيبه وخليله صلوات الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟! لذلك لا يجوز لأحد أن يأمن عذاب الله سبحانه، أو يأمن عقوبة الله سبحانه، أو يحسن الظن بنفسه، أو يسيء الظن بغيره، بل يجب على الإنسان أن يحسن الظن في الله سبحانه وتعالى.
وفي قصة يونس يقول النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى)، لا يقولن أحدكم ذلك، لعل إنساناً يسمع هذه القصة فيقول: سيدنا يونس هرب، والنبي صلى الله عليه وسلم صبر، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أحسن، فإن هذه المقارنة تكون على وجه النقيصة للنبي يونس عليه الصلاة والسلام، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونحن نعلم ونستيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول هذا من جهة الافتخار، ولكن أقول بالتحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى عليَّ، فكذلك إذا ذكرنا أنه خير الأنبياء لا يكون ذلك على وجه تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم والانتقاص للغير، أما أن يذكر على وجه المقارنة، كأن تقول: يونس عمل كذا، والنبي صلى الله عليه وسلم عمل كذا، إذاً: النبي أحسن من يونس فإن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى).
وقد أنبت الله عز وجل على يونس عليه الصلاة والسلام شجرة اليقطين، فأحبها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهي شجرة قرع يجعلها الله عز وجل في هذا الموضع نعمة على هذا العبد، ففيها فضل وفيها خير، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطعام، وجاءت أحاديث عنه صحيحة في سنن ابن ماجة وفي مسند الإمام أحمد منها: حديث لـ أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرع)، وهو الدباء، وفي حديث آخر قال: (بعثت معي أم سليم بمكتل فيه رطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، وخرج قريباً إلى مولىًً له دعاه، فصنع له طعاماً، فأتيته وهو يأكل، قال: فدعاني لآكل معه، قال: وصنع ثريدة بلحم وقرع)، فالرجل صنع ثريدة الطعام كأنه الفتيت وفيه اللحم ومعه قرع، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه القرع، قال أنس: (فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه فأدنيه منه صلى الله عليه وسلم)، وهذا من أدب أنس رضي الله عنه، حيث وجد النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يأكل الدباء، فكان يجمعه قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليأكل منه عليه الصلاة والسلام، قال: (فلما طعمنا منه رجع إلى منزله عليه الصلاة والسلام، ووضعت المكتل بين يديه -هدية أرسلتها أم سليم له برطب- فجعل يأكل) يعني: فاكهة أكلها صلى الله عليه وسلم وقسَّم منه حتى فرغ من آخره، يعني: لم يأكل وحده، وإنما أعطى لمن معه من هذه الهدية التي جاءته.
وفي حديث آخر رواه ابن ماجة أيضاً وهو حديث صحيح عن جابر بن طارق بن عوف قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء، فقلت: أي شيء هذا؟ قال: هذا القرع -وهو الدباء- نكثر به طعامنا).
فالإنسان المؤمن يحب ما أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا ننبه على شيء، وهو أن بعض أعداء هذا الدين لما عرفوا هذه الأحاديث أخذوا يستهزئون من ذلك، والمسلمون بجهلهم لا يعرفون هذا الشيء، فمنهم من يقول لك: أتحب القرع؟! فيجعل الشيء الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً للتهكم فيتهكمون به، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، فلا يحل لمسلم أن يستهين أو يتهكم أو يسخر مما كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئاً على وجه التعريض، فيقصد معنى آخر، كأن يقصد السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(333/7)
تفسير سورة الصافات [149 - 160]
ينكر الله سبحانه على المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون من الذكور، فينسبون إلى الله عز وجل القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم، وقد جعل المشركون بين الله سبحانه وبين الجنة نسباً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(334/1)
تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:149]، يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كيف أن هؤلاء الكفار كذبوا على الله سبحانه وافتروا أعظم الكذب بأن ادعوا أن الله اصطفى البنات لنفسه سبحانه، وأنه اتخذ الصاحبة، فكأنهم زعموا وشبهوا أن الله سبحانه وتعالى كالبشر، فالبشر لهم أبناء ويتناسلون، فقالوا: إن الله عز وجل كذلك! واصطفى لنفسه البنات من الجن أو من الملائكة! وكان له نسل حاشا لله وتعالى علواً كبيراً عما يقولون! فقالوا: الملائكة بنات له، فقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: اسألهم.
وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات:149] هذه قراءة الجمهور وقراءة رويس (فاستفتهُم)، على أصل الضمير في الضم.
((أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ)) هذا السؤال ليس سؤال استفهام؛ لأن
الجواب
حاشا لله عز وجل أن يتخذ صاحبة وولداً، وهم كذابون فيما يقولون، وإنما الاستفهام للتقريع والتوبيخ فيما يقولون، على سبيل الإنكار عليهم.(334/2)
الحكمة من سرد قصص الأنبياء
هذا السؤال كان بعد أن قص الله سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم قصص مجموعة من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذى من قومه، وأصحابه يفتنون ويبتلون ويعذبون من الكفار، فالله يثبت نبيه صلى الله عليه وسلم ويثبت المؤمنين بذلك، فهذا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال الله عنه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، وذكر باختصار قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، وذكر باختصار قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الأصنام، وكيف كسر أصنامهم، وكيف ذهب مهاجراً إلى ربه سبحانه وتعالى، وكيف بشره الله سبحانه بالغلام العليم، وجاءه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رأى في المنام أنه يذبح ولده، وأن الله أمره بذلك، فلما علم الله سبحانه وتعالى صدقه فداه بذبح عظيم, وكانت آية من آيات الله سبحانه، ثم بشره بإسحاق، وكل من جاء من الأنبياء بعد إبراهيم هم من ذرية إسحاق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فهو الوحيد من الأنبياء من ذرية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم ذكر الله عز وجل بعد ذلك ذكر موسى وهارون وكيف ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وآتاهما الكتاب المستبين، ونصرهم الله سبحانه وتعالى بعد ما ابتلي موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وساقها باختصار.
وذكر بعد ذلك قصة إلياس عليه السلام وكان من المرسلين، وكيف كان قومه يعبدون صنماً اسمه بعل عبدوه من دون الله، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى.
ولوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله، وكانوا يأتون الفاحشة ويشركون بالله ويأتون الذكران من العالمين، فلما أبوا إلا الإعراض والتكذيب، وأرادوا قتل نبيهم أهلكهم الله سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138].
وذكر قصة يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام كيف أنه أبق إلى الفلك المشحون، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:141 - 142]، ثم نجاه الله سبحانه وبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148].
إذاً: قصص الأنبياء التي يسوقها الله سبحانه وتعالى المقصد منها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن يأخذوا منها العظة والعبرة، وأن الله يترك عباده هؤلاء فترة لعلهم يؤمنون، ولا يتركهم إهمالاً لهم ولكن إمهالاً منه سبحانه وتعالى، يمهلهم، ويحلم بهم سبحانه ويصبر عليهم لعلهم يؤمنون، وهو أعلم سبحانه وتعالى من الذي يستجيب ومن الذي لا يستجيب، ففي قصص الأنبياء العبرة للنبي صلى الله عليه وسلم: اصبر ولا تعجل، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:48 - 49]، فمنها يتعلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم المؤمنون عدم العجلة، أي: لا تكن كيونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام حين تعجل وغضب من قومه وتركهم؛ لأنهم لم يؤمنوا، وإذا بالله عز وجل يتوب عليه، وقومه تابوا إلى الله.
فهذه القصص فيها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن الله قد يبادر ويعاجل بالعقوبة، وقد يمهل القوم لحكمة منه سبحانه، فلا تعجل، أي: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، فإن الفرج يأتي بعد الضيق، وكما قصصنا عليك قصص هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فتوجه الآن إلى هؤلاء الكفار، وأمرهم بالمعروف وانههم عن المنكر، واسأل هؤلاء: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:149].
أي: آلله اصطفى لنفسه البنات، وتقولون: هن لله سبحانه وتعالى، ولكم أنتم البنون وتفتخرون بهم؟!(334/3)
الحكمة من سرد قصص الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
هذا السؤال كان بعد أن قص الله سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم قصص مجموعة من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذى من قومه، وأصحابه يفتنون ويبتلون ويعذبون من الكفار، فالله يثبت نبيه صلى الله عليه وسلم ويثبت المؤمنين بذلك، فهذا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال الله عنه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، وذكر باختصار قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، وذكر باختصار قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الأصنام، وكيف كسر أصنامهم، وكيف ذهب مهاجراً إلى ربه سبحانه وتعالى، وكيف بشره الله سبحانه بالغلام العليم، وجاءه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رأى في المنام أنه يذبح ولده، وأن الله أمره بذلك، فلما علم الله سبحانه وتعالى صدقه فداه بذبح عظيم, وكانت آية من آيات الله سبحانه، ثم بشره بإسحاق، وكل من جاء من الأنبياء بعد إبراهيم هم من ذرية إسحاق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فهو الوحيد من الأنبياء من ذرية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم ذكر الله عز وجل بعد ذلك ذكر موسى وهارون وكيف ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وآتاهما الكتاب المستبين، ونصرهم الله سبحانه وتعالى بعد ما ابتلي موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وساقها باختصار.
وذكر بعد ذلك قصة إلياس عليه السلام وكان من المرسلين، وكيف كان قومه يعبدون صنماً اسمه بعل عبدوه من دون الله، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى.
ولوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله، وكانوا يأتون الفاحشة ويشركون بالله ويأتون الذكران من العالمين، فلما أبوا إلا الإعراض والتكذيب، وأرادوا قتل نبيهم أهلكهم الله سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138].
وذكر قصة يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام كيف أنه أبق إلى الفلك المشحون، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:141 - 142]، ثم نجاه الله سبحانه وبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148].
إذاً: قصص الأنبياء التي يسوقها الله سبحانه وتعالى المقصد منها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن يأخذوا منها العظة والعبرة، وأن الله يترك عباده هؤلاء فترة لعلهم يؤمنون، ولا يتركهم إهمالاً لهم ولكن إمهالاً منه سبحانه وتعالى، يمهلهم، ويحلم بهم سبحانه ويصبر عليهم لعلهم يؤمنون، وهو أعلم سبحانه وتعالى من الذي يستجيب ومن الذي لا يستجيب، ففي قصص الأنبياء العبرة للنبي صلى الله عليه وسلم: اصبر ولا تعجل، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:48 - 49]، فمنها يتعلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم المؤمنون عدم العجلة، أي: لا تكن كيونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام حين تعجل وغضب من قومه وتركهم؛ لأنهم لم يؤمنوا، وإذا بالله عز وجل يتوب عليه، وقومه تابوا إلى الله.
فهذه القصص فيها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن الله قد يبادر ويعاجل بالعقوبة، وقد يمهل القوم لحكمة منه سبحانه، فلا تعجل، أي: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، فإن الفرج يأتي بعد الضيق، وكما قصصنا عليك قصص هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فتوجه الآن إلى هؤلاء الكفار، وأمرهم بالمعروف وانههم عن المنكر، واسأل هؤلاء: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:149].
أي: آلله اصطفى لنفسه البنات، وتقولون: هن لله سبحانه وتعالى، ولكم أنتم البنون وتفتخرون بهم؟!(334/4)
تفسير قوله تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون)
قال الله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:150] قوله: ((أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ)) هنا ذكر الملائكة، وسيذكر بعد قليل الجن، وكأن المشركين زعموا أن الله سبحانه اصطفى من الجن من اصطفاه لنفسه صاحبة له، وكان له منها البنات وهم الملائكة، فكأنه يقول: من أخبركم أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى؟! فقال: ((أَمْ خَلَقْنَا)) أي: أتقولون ذلك وتزعمون أننا خلقنا إناثاً وأنتم شاهدون، ورأيتمونا ونحن نخلق الملائكة، ورأيتم أننا اصطفينا لأنفسنا منهم بنات؟!(334/5)
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم من إفكهم ليقولون)
قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:151 - 152] أي: أنهم من شدة كذبهم يزعمون أن الله سبحانه صار له الولد حاشا لله عز وجل! {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:43] وهم يقيناً كاذبون فيما يقولون.
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:153] من قال لكم: إنه اختار واجتبى البنات له وميزهم على البنين، والبنون لكم، ولذلك كانوا في الجاهلية يقتلون البنات ويقولون: هن لله، ويأخذون البنين، فكان الرجل من العرب إذا بشر بالأنثى كما قال الله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]، هذا حالهم عندما يبشر أحدهم ويخبر بالبنت، فإذا كنت تستبشع هذا لنفسك، فكيف تزعمه لله الذي خلقك سبحانه وتعالى؟! وكيف تقولون: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154] أي: قياس هذا الذي تقولونه؟ ترضون لأنفسكم بالشيء الأعلى وتزعمون أن الأدنى لله سبحانه وتعالى، كيف تحكمون بذلك؟ قرأ الجمهور: ((أَصْطَفَى)) بهمزة قطع، وقرأ ورش بخلفه بهمزة وصل فيها إذا وصل، وكذلك قرأها أبو جعفر: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * اَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:152 - 153]، هذه قراءة ورش بخلفه، فإذا بدأ بها قال: {اصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}، والجمهور ومنهم ورش أيضاً يقرءون: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:152 - 153]، فإذا بدءوا قالوا: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}.(334/6)
تفسير قوله تعالى: (أفلا تذكرون)
قال الله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الصافات:155] أي: هلا تذكرتم ولم تنسوا، واعتبرتم ونظرتم فيما تقولون وتفكرتم في ذلك؟ وقوله: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) هذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) وباقي القراء يقرءونها: ((أَفَلا تذكرون)) أي: تتذكرون كيف بدأ الله الخلق وكيف خلقكم من عدم سبحانه وتعالى؟ وأن الفقير هو الذي يحتاج إلى من يخلفه، أما الله تعالى فهو الغني لا يحتاج إلى شيء سبحانه.
وقال تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات:156] أي: ألكم حجة من الله سبحانه بينة قاطعة تشهد لكم بما تقولون؟ {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:157] أي: إذا كان عندكم مثل هذا القرآن، أو عندكم كتاب من كتب الله يقول لكم فيه الله عز وجل هذا الذي تزعمون فأتوا به، {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:157]، في دعواكم.(334/7)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً)
قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]، قوله: ((وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ)) أكثر المفسرين على أن الجنة هنا بمعنى الملائكة، والجنة أصلها من جنة الشيء بمعنى خفي واستخفى، فالملائكة سموا جناً لعدم ظهورهم أو أنها مأخوذة من الجنة، والجنة بمعنى الجنان وأنهم خزانها، فكأن المعنى: كيف أن هذه الملائكة الخفية تزعمون أنهم بنات الله سبحانه وتعالى؟! {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158] وكأن النسب هنا بمعنى المصاهرة أو بمعنى الأولاد، فهم جعلوا الملائكة بنات له، تقول: أنا أنسب لأبي، وأنسب لجدي وهكذا، فكأنهم نسبوا الملائكة إلى الله، فقالوا: الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً؛ فهؤلاء العرب زعموا ذلك، منهم: جهينة، وخزاعة، وبنو مليح، وبنو سلمة، وبنو عبد الدار، فهؤلاء مجموعة كانوا يزعمون أن الملائكة بنات له، وأن الله اصطفى من الملائكة من ناسبهم وتزوج منهم وكان له منهم البنات، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، قال مجاهد: ذكروا ذلك لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهم؟ أي: إذا كان الملائكة بنات الله فمن أمهاتهم؟ فقالوا: مخدرات الجن، والمرأة المخدرة هي المختبئة في البيت، فكان عند العرب المرأة المخدرة هي المرأة الشريفة التي تكون في بيتها مصونة، فزعموا أن الجن منهم مخدرات يعني: أن من الجن شريفات عفيفات محبوسات في البيوت فتزوج الله عز وجل منهم، حاشا له سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]، سواء كان الجنة الملائكة أو الجن فهم محضرون لحساب يوم القيامة، فإذا كان الله عز وجل يجمع الرسل ويأتي بالمسيح عيسى بن مريم فيسأله الله سبحانه وتعالى وهو أعلم أنهم كذبوا عليه {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، ومع ذلك سيسأله الله أمام الخلق: هل أنت قلت ذلك؟ فإذا كان هذا المسيح والله عز وجل يعلم أنه صادق فكيف بغيره؟ فالله يأتي بالجميع الملائكة والجن والإنس وكل خلقه ويسأل: هل أنتم بنات الله كما قيل عنكم؟! إذاً: علمت الجنة أنهم محضرون بين يدي الله سبحانه، وعلمت الشياطين أنهم محضرون للعذاب يوم القيامة.(334/8)
تفسير قوله تعالى: (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين)
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159].
أي: تعالى الله سبحانه وتنزه وتقدس عما يصفونه من كذب وضلال {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:160] أي: هؤلاء لم يصفوا الله سبحانه إلا بما قاله عن نفسه سبحانه، ولذلك الإنسان المؤمن لا يصف ربه سبحانه بما عني له في خاطره أو في عقله فيصف ربه بما شاء، لا؛ لأن صفات الله توقيفية، فالإنسان لا يسمي ربه إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يصفه سبحانه إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (إلا عباد الله المخلِصين) مخلَص ومخلِص في كل القرآن يقرؤها نافع وأبو جعفر والكوفيون كـ عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((الْمُخْلَصِينَ)) وباقي القراء يقرءونها: (المخلِصين)، ولها معنيان: المخلَص وهو الذي اصطفاه الله عز وجل واختاره، والمخلِص وهو الذي عبد الله سبحانه ولم يشرك به شيئاً، فهؤلاء المخلَصون والمخلِصون يذكر الله عز وجل أنهم لم يكذبوا على الله سبحانه، ولم يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء ذكرهم الله قبل ذلك أن لهم جنات النعيم، وأن لهم الحور العين، ومما يشربون من أنهار الجنة ومن النعيم الشيء العظيم، وهنا ذكر الله سبحانه أنهم لا يصفون الله إلا بالحق الذي جاء في الكتاب والسنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(334/9)
تفسير سورة الصافات [161 - 173]
يأمر الله عباده بالإيمان بالقضاء والقدر، ومنهج أهل السنة والجماعة في ذلك: أن الله خالق العباد وأفعالهم، وقد جعل الله للعبد اختياراً وإرادة ورغبة فيما يعمل، وعلم الله وأحاط بما يفعله عباده من قبل، والهداية بيده سبحانه وكذلك الإضلال، فمن كتب الله له الهداية اهتدى، ومن كتب عليه الضلال أضله الله، ولله ملائكة يعبدونه ويسبحونه وينزهونه، وكل منهم له مقامه المعلوم لا يتجاوزه، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر ولو بعد حين.(335/1)
تفسير قوله تعالى: (فإنكم وما تعبدون إلا من هو صال الجحيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ * وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ * وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:161 - 173].
في هذه الآيات من آخر سورة الصافات يخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الذين يعبدون غير الله سبحانه، ويضلون الخلق ويدعونهم إلى عبادة غيره سبحانه، أنهم لا يقدرون أن يضلوا أحداً إذا أراد الله عز وجل له الهداية، والأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو القادر على كل شيء، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي من يشاء، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً، فبيده كل شيء سبحانه، والمؤمنون مأمورون بأن يؤمنوا بقضاء الله سبحانه وقدره، فقد عجز الخلق أن يتفكروا فيه، والله سبحانه لم يأمرهم أن يتفكروا فيما وراءه، ولكن أمرهم أن يؤمنوا به، وقضاء الله مبني على علم الله وعلى حكمته وقدرته، فلا شيء يجري في الكون إلا بعلمه وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فما شاء كان، ولابد أن يوجد هذا الذي شاءه الله سبحانه، وما لم يشأ مستحيل أن يوجد هذا الذي لم يشأه الله سبحانه، فخلق العباد فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، ولم يخبر العباد من هؤلاء الذين هم في الجنة ومن هؤلاء الذين هم في النار، ولكن أمرهم أن يؤمنوا بقضاء الله وقدره، فهذا أحد أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر.
وظهرت الفرق بين الناس، فهذه فرقة تزعم أن الله عز وجل خلق العباد وهو الذي يلزمهم ويجبرهم على ما يفعلون، فيعترضون على الله سبحانه إذا كان هو الذي خلقهم فلماذا يحاسبهم؟ وفريق آخر يقولون: الله سبحانه لم يقدر شيئاً، بل العباد يفعلون أفعالهم، ويختارون ما يشاءون، ثم الله يحاسبهم بعد ذلك، وهذه الفرقة تسمى الجبرية، أي: أن الله أجبرهم على ذلك، وكلا الفريقين في ضلال مبين، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: القدر سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، كما أن الغيب كله من أسرار الله سبحانه لم يطلعنا على شيء، فنحن نقول: آمنا بالله سبحانه ولم نر الله سبحانه، وآمنا بالجنة والنار ولم نر الجنة ولا النار، وآمنا بملائكة الله سبحانه ولم نر الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، كذلك القضاء والقدر من غيب الله سبحانه ومن سره أمرنا أن نؤمن به، ونؤمن أن كل شيء بيد الله سبحانه، وأن الله إذا شاء شيئاً لابد أن يكون، وإذا لم يشأ فمستحيل أن يكون هذا الشيء الذي لم يشأه سبحانه وتعالى.
والله خلق عباده فمنهم كافر ومنهم مؤمن، فهو يحاسب عباده على أعمالهم، وهو الذي خلق العباد وما يفعلون، والعبد يكتسب فعله الذي يفعله، فهو مختار مريد، والعبد يختار ما يريده والله من وراء ذلك محيط، له قضاؤه وقدره سبحانه وتعالى، فالله قدر الأقدار، وعلم كل شيء، وجعل فريقاً في الجنة، وفريقاً في النار، وجعل للعبد اختياراً يختار به الشيء، فهو يستشعر حين يعصي أنه مريد لذلك، وأنه يفعل ذلك برغبته، وأنه يعصيه، إذاً: لا يحتج أحد على الله عز وجل بالقضاء والقدر، ولا يقول: يا ربي أنت خلقتني للنار، وما أدراه أنه خلقه للنار؟ أو يقول: يا ربي أنت قدرت المعصية، وهو يستشعر أنه يفعل المعصية ويستشعر أنه مريد ومختار وراغب في هذا الذي يفعله! فالله يحاسبه على هذا الذي هو فيه.
إذاً: نؤمن أن الله قدر كل شيء، وعلم كل شيء سبحانه وتعالى، وشاء سبحانه وتعالى ما كان موجوداً في خلقه.
قال سبحانه: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:161] يقول للكفرة المشركين أنتم أيها الكفار وما تعبدونه من دون الله.
قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] لستم مظلين أحداً من خلق الله.
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163] إلا من قدر الله عز وجل له ذلك.
فالله يثبت في هذه الآية كما أثبت في آيات أخرى كثيرة أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى، ولا يقدر إنسان غاوٍ أن يغوي أحداً أو يضله أو يخرجه عن طريق الله، إلا والله قد شاء ذلك، وأراده وقدره سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) إلا من خلقه الله سبحانه وتعالى، وعلم أن هذا من أهل الجحيم ومن أهل النار.
ذكروا أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذكر عنده أقوام القدر، وأنكروا أن هناك قضاء وقدراً، وقالوا: أفعال العباد خلقها العباد، وبعد ذلك ربنا يحاسبنا على هذه الأفعال، وكأنهم ينكرون أن الله يعلم الأفعال قبل حدوثها، وينكرون أن الله يقدر هذه الأشياء، فقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، فالله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فالله خلق العباد، وأراد الله أن يوجد في هذا الكون الخير والشر، وأن يكون هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فخلق الجنة وخلق لها أهلاً لحكمة منه سبحانه، وخلق النار وخلق لها أهلاً لحكمة منه سبحانه وتعالى، وخلق إبليس ليضل به من يشاء من خلقه سبحانه.
ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز يرد على المكذبين بالقدر: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس، والمكذبون بالقدر يقولون: إن الله لا يريد المعصية وكأنهم يقرون أنه غُلِبَ في ذلك، وحاشا له سبحانه وتعالى، فإنه لا يكون في كونه إلا ما يريده سبحانه، فله الإرادة الكونية القدرية وله الإرادة الشرعية.(335/2)
الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية
الإرادة الكونية القدرية: أن يوجد في هذا الكون ما أراده الله سبحانه من خير وشر وإيمان، أو طاعة أو معصية، وما أراده الله لا بد أن يكون.
والإرادة الشرعية: هي التي ينبني عليها ما يحبه الله سبحانه وتعالى، والعباد لا يتجاوزون أبداً ما أراد الله سبحانه من كون وقدر، ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك، كأن يأمر الله فيقول: كن فيكون، ويحيي إنساناً، يقول: كن حياً، يكون حياً، كن إنساناً يكون إنساناً، كن جماداً يكون جماداً، كن نباتاً يكون نباتاً، مت فيموت الإنسان، امرض فيمرض الإنسان، فهذه إرادة كونية قدرية.
أما الإرادة الشرعية كأن يقول: صل، صُم، مر بالمعروف وانهَ عن المنكر، أطع الله، فهذه إرادة شرعية جعل الله العباد ملزمين بها شرعاً، ويحاسبهم على هذه الأفعال، وجعل لهم اختياراً في ذلك، وهو أعلم ما الذي يختارونه، وهو أعلم بخلقه أنهم يستحقون الجنة أو يستحقون النار، وقد خلقهم الله عز وجل لما شاء سبحانه.
إذاً: الإرادة الكونية القدرية لا يخرج عنها أحد أبداً، أما الإرادة الشرعية فقد يفعل الإنسان ما يريده الله سبحانه وما يحبه وقد لا يفعل ذلك، فإذا فعل ما أحبه الله، أثابه الله، وإذا ترك ذلك عاقبه الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن هؤلاء خلطوا بين الاثنين وقالوا: إن الله أراد أن لا يعصى فعصي سبحانه! فنقول: هذه إرادة شرعية وليست إرادة كونية قدرية، فالإرادة الكونية القدرية أنه خلق العباد، وعلم أن منهم كافراً ومنهم مؤمناً، وأراد ذلك سبحانه، أما الإرادة الشرعية: هي ما يحبه الله فأحب من عباده الطاعة وكره منهم المعصية، وترك لهم الاختيار يختارون ولا يخرجون عما شاءه الله سبحانه.
يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلماً في كتاب الله عز وجل عرفه من عرفه وجهله من جهله ثم قرأ هذه الآيات: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ)) * ((مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ)) * ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) قال: إلا من كتب الله عز وجل عليه أن يصلى الجحيم أن يدخلها، قال: وفصلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى أحدٍ من خلق الله سبحانه كتب له أن لا يهتدي، فالشيطان لا يصل إلى إضلال من كتب الله عز وجل له الهدى، ولا يصل أحد إلى هداية إنسان قد قدر الله عز وجل عليه الشقاوة، فلا يتغير ما في علم الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ)) * ((مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ)) والفتنة الإضلال والإخراج عن دين الله سبحانه وعن أمره، أي: ما أنتم عليه بمضلين أحداً إلا من قدر الله عز وجل له ذلك، قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ)) (يصلى) معناها: يقاسي حرها، و ((الْجَحِيمِ)): النار المستعرة.
فقوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) أي: يدخل الجحيم فيعاني من حرها وقسوتها.(335/3)
تفسير قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم)
قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] وهذا على لسان ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى يقولون ذلك، والآية بدأها الله عز وجل بذكر الملائكة، قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1] وهنا يتكلم بلسان الملائكة، يقول: كل منهم له مقام معلوم عند الله سبحانه وتعالى، لا يقدر ملك أن يتجاوز هذا المقام المعلوم، قيل: هذه الآية نزلت لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج به إلى السماء، فوصل إلى سدرة المنتهى فتأخر جبريل ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتركه جبريل فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم! فنزلت هذه الآية بعد ذلك تبين، قال تعالى: ((وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)) يعني: موضع للعبادة لا يتجاوز هذا المكان إلى أعلى منه، وكل ملك من الملائكة له موضع لا يتجاوزه، فقوله تعالى: ((وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ)) أي: مكان وموضع في عبادة الله سبحانه معلوم.
وجاء في حديث رواه الترمذي عن أبي ذر -وهو حديث حسن- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قاعد) وذكر حديث بطوله وفيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط) يئط المبنى أو يئط السقف أو تئط الدابة يعني: يحدث لها صوت من الأثقال التي فوقها، كذلك السماء أثقلها ما فوقها من خلق الله سبحانه، من ملائكته الذين يعبدونه، وقال هنا في حديث أبي ذر: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله)، فكل مواضع السماء فيها ملائكة خاشعون لله سبحانه ساجدون له، قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، ويقسم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو تعلمون ما أعلم) يعني: مما سيكون من حساب وعقاب وموقف بين يدي الله سبحانه يوم القيامة، (ولخرجتم إلى الصعدات) الصعدات: الأفنية والطرقات لخرجتم إليها تجأرون، أي: تضجون إلى الله بالدعاء والبكاء، قال أبو ذر لما روى هذا الحديث: لوددت أني كنت شجرة تعضد، يعني: يا ليتني كنت نباتاً يأكلني من شاء الله من خلقه، ولا أكون من الخلق فأبعث يوم القيامة وأقف بين يدي الله سبحانه وتعالى.(335/4)
تفسير قوله تعالى: (وإنا لنحن الصافون)
ذكر الله عن الملائكة قولهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] الصافون صفاً أي: الواقفون صفاً، فكأن الملائكة يذكرون أنهم يصفون بين يدي الله عز وجل في العبادة قائمين مصلين مسبحين له سبحانه وتعالى في صفوف، ولذلك أمرنا أن نقف في صفوفنا في الصلاة كما تقف الملائكة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف)، فالملائكة إذا وقفوا بين يدي الله سبحانه يتمون الصفوف، وهذا شيء ننبه إليه كثيراً، فمن المصلين من يملئون نصف المسجد ويتركون أطراف المسجد وهذا خطأ! وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فالأولى أن تتشبه بملائكة الله سبحانه وتعالى في إكمال الصف الأول ثم البدء بالصف الثاني حتى يكتمل، ويبدأ بالصف الثالث حتى لا يكون هناك فراغات في الصفوف، فقد قال الله تعالى عن الملائكة: ((وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)) هذا معنى، ومن معاني (الصافون): أي: تصف أجنحتها تأدباً وخشوعاً بين يدي الله عز وجل وانتظاراً لأمر الله ولتنفيذه يعني: على رغبة واستعداد، فالله يأمرهم وهم يصفون أجنحتهم قائمين بين يدي الله عز وجل ينتظرون متى يأتي أمر الله فينفذون أمره سبحانه.(335/5)
تفسير قوله تعالى: (وإنا لنحن المسبحون)
قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:166] هذا رد على الكفار الذين عبدوا الملائكة من دون الله سبحانه، الملائكة تقول: نحن عباد الله سبحانه، ولسنا نستحق أن نعبد، بل نحن عبيد لله سبحانه نسبحه ونصطف صفوفاً بين يديه خاشعين عابدين له سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: ((وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)) بمعنى: المصلون، وبمعنى أيضاً: المنزهون لله سبحانه وتعالى أي: نحن المصلون ونحن المنزهون لله سبحانه.(335/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا ليقولون)
قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} [الصافات:167] أي: وإن كان الكفار ليقولون: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ} [الصافات:168] هذا قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ كان الكفار صرعى في جهلهم وجهالاتهم، فكان أهل الكتاب يقولون لهم: أنتم مشركون تعبدون الأصنام، وهذا من كفركم، وجهلكم، فكانوا إذا قيل لهم ذلك يردون على هؤلاء بقولهم: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:168 - 169] أي: لو أن الله نزل علينا كتاباً لكنا سبقنا غيرنا في عبادة الله، وكنا نحن العباد المخلصين الذين اجتباهم الله سبحانه وتعالى.
وهذه فيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وقراءة الكوفيين (المخلِصين) بمعنى: المجتبين اجتبانا الله واختارنا، والقراءة الأخرى: (المخِلصين) قراءة باقي القراء بمعنى: لأخلصنا العبادة وما أشركنا بالله سبحانه.
قال سبحانه: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات:170] أي: كفروا بالقرآن وكفروا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فيهددهم الله سبحانه، فسوف يعلمون نتيجة تكذيب هؤلاء لربهم سبحانه.(335/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)
قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171] أي: سبق من الله عز وجل الوعد لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، قال: ((إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ)) هذا وعد من الله أنه ينصر رسله سبحانه وتعال.
((وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) فمن كان من جند الله سبحانه، فله وعد من الله بأن ينصره، وأن يجعله الغالب وليس المغلوب، وهذا الوعد من الله لابد أن يكون وإن تأخر، ولا يشترط أن يكون في أول الأمر.
وهذه الآيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، في الوقت الذي كان يؤذى فيه هو والمؤمنون، فيطمئنهم الله بأنكم منصورون وغالبون، وتمر السنون فيهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم يجاهد في سبيل الله ويأتي نصر الله وتفتح مكة بعد ذلك، وصدق الله العظيم: ((إِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) فأخبر عن عباده المرسلين أنه ينصرهم، وأنهم يغلِبون، فكان ما أخبر الله عز وجل به.
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(335/8)
تفسير سورة الصافات [171 - 182]
من سنن الله عز وجل الكونية أنه يبتلي رسله وأنبياءه وأولياءه، لكنه سبحانه يجعل العاقبة لهم، فعلى المسلم أن يسلك سبيل الصلاح والخير وإن ابتلي، فإن الله عز وجل سيجعل له العاقبة إن كان متمسكاً بشرعه سبحانه وبهديه.(336/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الصافات: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:171 - 182].
ختم الله سبحانه تبارك وتعالى سورة الصافات بوعده سبحانه تبارك وتعالى لعباده المرسلين بأن ينصرهم سبحانه وأن يجعلهم هم الغالبين.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171] أي: سبق وعدنا لعبادنا المرسلين، وقضينا بذلك وقدرناه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وعداً من الله، ووعد الله حق: أنه ينصر عباده ورسله، وأن من اعتصم بالله سبحانه وقاه سبحانه وكان معه، ومن استنصر بالله فتح عز وجل له، وكان سبحانه معه، حتى وإن تأخر النصر، فإنه سبحانه لم يقل: إن النصر يأتي سريعاً، بل في آخر سورة يوسف قال الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فالله سبحانه تبارك وتعالى يقدر ما يشاء، والعادة منه سبحانه أنه ينصر عباده، إذا استنصروا به وإذا اعتصموا به، وإذا لجئوا إليه، وإذا أقاموا دينه، وإذا توكلوا عليه، فالنصر له أسباب، فيأخذ المؤمن بأسباب النصر: من توكل على الله سبحانه، ومن دعوة إلى الله، ومن توحيد لله سبحانه، ومن عقيدة سليمة في قلبه، ومن إعداد القوة لأعداء الله سبحانه، امتثالاً لقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
فمن اعتصم بالله سبحانه فالله يعصمه والله ينصره، ولكن هل معنى ذلك أن عباد الله المؤمنين لا يُقتلون؟ وأنهم لا يفتنون؟ وأنهم لا يهزمون أحياناً؟
الجواب
لا، ولكن النتيجة في النهاية أن ينصر الله عز وجل دينه، ولكن لا بد من البلاء، كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
فلا بد من المحن، ولا بد من البلاء، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذه السورة المكية للنبي صلى الله عليه وسلم لتثبيته، وليطمئن المؤمنين فيما هم فيه من بلاء ومحن، فقد نزلت هذه السورة في وقت بلاء على النبي صلى الله عليه وسلم، ووقت محن على المؤمنين، فأنزل الله هذه السورة ليثبتهم ويطمئنهم؛ لأنهم سينصرون يوماً من الأيام، وهذا النصر جاء بعد نزول هذه السورة بسنين، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو خائف من المشركين، والمشركون يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم ويبحثون عنه، ويجعلون دية لمن يأتي به صلوات الله وسلامه عليه، ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهنالك يدعو إلى ربه سبحانه، حتى نصره الله سبحانه في يوم بدر، ثم هُزم المؤمنون في يوم أحد، ثم بعد ذلك يأتي يوم الخندق، وينصر الله عز وجل المؤمنين، وفر المشركون، وأتى جند من جند الله عز وجل من رياح بعثها الله عز وجل على المشركين من غير أن يقاتل المؤمنون، ولكنهم خندقوا حول المدينة، وانتظروا الفرج من الله، فجاء نصر الله سبحانه وتعالى، فينتصرون أحياناً وقد ينتصر الكفار عليهم حيناً، حتى يأتي وعد الله سبحانه، ويأتي نصر الله، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] أي: فتح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:2 - 3].
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم نصره الله سبحانه وفتح له مكة التي كانت دار كفر، فصارت معقل الإيمان بعد ذلك، فتحها الله عز وجل بعد نزول هذه السورة بسنين، فنصر الله عز وجل لم يقل الله: إنه يأتي سريعاً، ولم يقل: إنه مجرد ما يدعوه إنسان يأتيه النصر حالاً، وإنما قال لنا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] وقال لنا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] أي: أصابهم اليأس من إيمان قومهم، فلم يؤمنوا، وتعبوا من قومهم الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] أي: ظنوا أن قومهم لن يدخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن الله عز وجل سينصرهم يوماً من الأيام، ولكن تأخر وعد الله سبحانه، وتأخر نصر الله سبحانه، وظن المؤمنون أن وعد الله سبحانه لن يأتي: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، فظن الرسل واستيقنوا أو ظنوا ظناً غالباً أن قومهم لن يدخلوا في الإيمان، وأتباع الرسل من المؤمنين ظنوا أن الله لن يفعل هذا برسله ولن ينصرهم، فإذا بنصر الله يأتي في هذا الحين، ولذا قال: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
فينجي الله سبحانه تبارك وتعالى من يشاء، وليس شرطاً لنصر الله عز وجل أنه لا يكون هناك قتلى، بل لابد وأن يوجد قتلى، بل قد قتل أعداء الله في حين من الأحيان أنبياء الله على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فقتلوا زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقتلوا يحيى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فرفعه الله سبحانه، وأرادوا قتل موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالله عز وجل يخبرنا عن قصص هؤلاء: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] أي: ليس حديثاً كذباً، ولكن الله عز وجل يخبرنا بالحق، حتى نطمئن بوعد الله سبحانه، وننتظر نصر الله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171].
وعد من الله لكل الرسل أن الله ينصرهم، حتى وإن قتل أناس من المؤمنين، فمصيرهم إلى الجنة، وهم من أعظم الشهداء.
وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:172] أي: رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: {وَإِنَّ جُندَنَا} [الصافات:173] أي: جند الله، فإذا كان الإنسان يستحق أن يكون من جند الله استحق نصر الله سبحانه، فإن جند الله هم الذين في قلوبهم العقيدة السليمة، وفي قلوبهم الإيمان بالله سبحانه، وتوحيد الله سبحانه، وطاعة الله سبحانه، والتوكل على الله سبحانه، ويعدون العدة لأعداء الله، فهؤلاء يغلبون الكفار.(336/2)
تفسير قوله تعالى: (وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون)
قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ} [الصافات:174].
أي: أعرض عن هؤلاء، حتى يأتيك أمرنا، وهنا الأمر بالإعراض عنهم نسخ بما جاء من أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الكفار في قوله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
يبقى هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر وبالصفح وبالتولي والإعراض عن هؤلاء إلى حين، فقد أرجأه ربه سبحانه إلى أن ينزل من القرآن ما فيه الأمر بقتال هؤلاء، فجاءت هذه الآية التي في سورة براءة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال هؤلاء.
فالله سبحانه قال له هنا: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:174 - 175]، أي: اصبر عليهم، وأبصر ما الذي يحدث لهم وما الذي يحدثونه، فسوف يجدون عاقبة ذلك وعقوبته من ربهم سبحانه.
((وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)) سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار، يبصرون فيرون ملائكة الله وهم ينزلون عليهم فيقتلونهم، وقد رأوا في يوم بدر كيف نزلت الملائكة تقاتل هؤلاء الكفار، وتقطع رءوسهم، وتدفعهم وتضربهم، ورأى المؤمنون كيف نصرهم الله عز وجل على هؤلاء الكفار، والمعنى: وأبصر هؤلاء الكفار، فسوف يبصرون عذاب الله سبحانه.(336/3)
تفسير قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون.)
قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:176]، ماذا يستعجل هؤلاء الجهلة المغفلون؟! يستعجلون عذابنا فما الذي يكون في عذاب الله سبحانه؟! وكم يستعجلون ويدعون ويقول قائلهم الجاهل كما حكى الله عنه: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]! ويقول جاهلهم الآخر كما حكى الله عنه: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16].
فيدعون ربهم بالعذاب على أنفسهم: وعدت بعذابنا فعجل لنا وهات العذاب الذي ذكرته الآن، فيقول الله عز وجل لهؤلاء المغفلين: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:176].
ثم قال: {فَإِذَا نَزَلَ} [الصافات:177] هذا العذاب: {بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات:177]، بفنائهم وبدورهم، إذا نزل هذا العذاب عليهم: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177].
وكانت عادة الله سبحانه أن ينزل العذاب وقت الإشراق ووقت الصباح، ولذا قال: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177] أي: حين يأتي عليهم العذاب من رب العالمين، وأكد الله عز وجل لهم ذلك وكرر فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [الصافات:178]، أي: استمر على ما أمرك الله إلى أن يأتي الأمر من عندنا لتقاتلهم.
ثم قال: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:179]، وكل هذا حتى يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم بنصر الله وبإنجاز الله وعده، فسوف يبصرون ما يأتيهم من عذابه سبحانه.(336/4)
تفسير قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون)
قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، نزه الله سبحانه نفسه عما قاله المشركون من أن الله اتخذ صاحبة، ومن أن الله اتخذ الولد، ومن أن الملائكة بنات الله، ومن أن الله تزوج من الجن، فنزه سبحانه تبارك وتعالى نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180].
ووصف نفسه سبحانه بأنه الرب سبحانه، وأنه رب العزة سبحانه، فهو العزيز الغالب الذي لا يقهر، والعزة لله سبحانه، فهو العزيز، ويجعل العزة للمؤمنين، فيعزهم ويجعلهم يعتزون على أعداء الله سبحانه وتعالى، فالله صاحب العزة، فهو رب العزة، والعزة لله، والعزة للمؤمنين، وعزة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وعزة المؤمنين فعل من الله عز وجل بالمؤمنين فيخلق للمؤمنين ما يتعززون به، وجعل في أنفسهم العزة والأنفة من أن يشركوا بالله سبحانه وتعالى، فهو العزيز ولله العزة سبحانه، وهذه العزة تليق به سبحانه، وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين العزة التي تليق بهم كمخلوقين.
ثم قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181].
يسلم الله عز وجل على المرسلين، والسلام: الأمن والطمأنينة والحياة العظيمة الجميلة السالمة عند الله سبحانه، والذكر الحسن لهؤلاء والثناء الحسن عليهم.
فيعلمنا الله عز وجل أن نسلم على رسل الله، فإذا ذكروا قلنا: النبي عليه الصلاة السلام، أو النبي عليه السلام، أو صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
فهذه السورة ختمها الله عز وجل بآية العز فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
فيستحب أن الإنسان إذا ختم الشيء أن يذكر الله سبحانه مسبحاً إياه سبحانه مسلماً على الأنبياء والمرسلين، حامداً رب العالمين سبحانه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(336/5)
تفسير سورة الزمر من الآية [1 - 2]
سورة الزمر من أعظم السور المكية، وفيها نفي الشرك وإثبات التوحيد، وذكر الدلائل على بطلان الشرك وذكر أدلة التوحيد، فهي سورة كافية شافية في أمر التوحيد والإيمان.(337/1)
بين يدي تفسير سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: بسم الله الرحمن الرحيم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:1 - 6].
هذه السورة التاسعة والثلاثون من كتاب ربنا سبحانه وتعالى وهي سورة الزمر، وسورة الزمر من السور المكية، قيل: إلا بعض الآيات منها نزلت في المدينة، والراجح: أن جميع آيات هذه السورة آيات مكية.
وعدد آياتها: خمس وسبعون آية، واختلف علماء العد في هذه الآيات، فذهب من عد من الحجازيين والبصريين إلى أن عدد الآيات فيها: اثنان وسبعون آية، وفي العد الشامي: ثلاث وسبعون آية، وعد الكوفيين: خمس وسبعون آية، وكما ذكرنا قبل مراراً: أن علماء القرآن في عدهم الآيات ينظرون أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على الفاصلة وهي رأس الآية، وقد يقف النبي صلى الله عليه وسلم على موضع من المواضع فيكون رأس آية عند بعض علماء القرآن، ولا يكون رأس آية عند البعض الآخر، فهذا سبب الخلاف.
ففي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، فقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) غير الكوفيين يعتبرون هذه رأس آية، وعند الكوفيين ليست رأس آية، وإنما ما بعدها ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)).
وعد الكوفيين قوله سبحانه: {دِينِي} [الزمر:14] هذه رأس آية.
وقوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] رأس آية، وقالوا: قوله تعالى: ((فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) جاءت مرتين: والمرة الثانية عدوها رأس آية.
وكذلك قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الزمر:39]، {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] عدها الكوفيون والدمشقيون ولم يعدها غيرهم.
وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِي} [الزمر:17] تركها المكي والمدني الأول في هذه السورة، وعد مكانها: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الزمر:20] إذاً: هنا لا نقول: عدوا اثنين وسبعين آية، أو عدوا ثلاثاً وسبعين آية، أو عدوا خمساً وسبعين آية، بل هي موضع الوقف، أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالبعض يقول: وقف في هذا الموضع، إذاً: هذا رأس آية، والبعض الآخر يقول: لا، وقف هنا لانقطاع النفس وليس رأس الآية، وإنما رأس الآية التي بعدها، والآيات هي نفسها آيات هذه السورة، ولكن الخلاف أين وقف؟ فالاختلاف في ذلك.(337/2)
خصائص سورة الزمر
سورة الزمر من السور المكية، وتتميز هذه السورة العظيمة بالخصائص المكية، وهذه السورة نزلت بعد سورة سبأ وقبل سورة غافر، هذا في ترتيب النزول، وحسب ترتيب نزول السور على النبي صلى الله عليه وسلم تعد هذه السورة هي التاسعة والخمسون، يعني: في ترتيب عد نزول السورة على النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: حين نقول: ترتيب النزول هذا شيء، وترتيب المصحف شيء آخر، فترتيب المصحف ليس على ترتيب نزول السور، ولا على ترتيب نزول الآيات، فقد تنزل السورة قبل السورة، إذْ السورة موضعها في كتاب الله عز وجل ليست على ترتيب نزولها، إذاً: ترتيب السور في القرآن توقيفي على ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل في آخر عرضة عرضها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الترتيب الذي عندنا في كتاب الله سبحانه وتعالى، فكانت تنزل سورة، وتنزل آيات، فيقال له: ضعها في موضع كذا من سورة كذا، وتنزل آيات، فيقول: ضعها في موضع كذا من سورة كذا، فلما أتم الله عز وجل هذا القرآن العظيم عرضه جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في آخر عرضة عرضها عليه، وكان ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، في آخر رمضان صامه النبي صلى الله عليه وسلم وقامه فكان على هذا الترتيب الذي بين أيدينا.
سورة الزمر سميت بسورة الزمر؛ لأن (كلمة (زمراً) ذكرت فيها.
وذكر الإمام القرطبي وتبعه غيره ممن بعده من المفسرين أنها تسمى بسورة الغرف أيضاً لكون هذه الكلمة ذكرت فيها فسميت بذلك، وهذا من قول وهب بن منبه.
والتسمية بالزمر كانت من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة قبل نومه، فجاء في سنن الترمذي من حديث أبي لبابة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام على فراشه حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر) حتى يقرأ بني إسرائيل، أي: سورة الإسراء، فهي تسمى بسورة بني إسرائيل، وبسورة سبحان؛ لأنها بدأت بذلك، فكان إذا أراد أن ينام صلى الله عليه وسلم وهو على فراشه قرأ سورة سبحان، أي: سورة الإسراء، وقرأ أيضاً سورة الزمر صلوات الله وسلامه عليه، وليس دائماً ولكن أحياناً كان يقرأ هذا، وأحياناً كان لا ينام حتى يقرأ سورة: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، ويقرأ سورة: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1 - 2] إذاً: كان أحياناً يقرأ هذه، وأحياناً يقرأ هذه، وجاء عنه أنه كان يقرأ سوراً قبل أن ينام منها: المسبحات يعني: كل السور التي بدأت بسبحان، سبح، ويسبح.
إذاً: سبع سور كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينام ويخبر أن فيها آية من أعظم الآيات.
هذه السورة مكية، وفيها خصائص السور المكية، وهي: أمر ترسيخ العقيدة في القلوب؛ لأن القرآن المكي ليس فيه أحكام كثيرة، فالأحكام كانت في المدينة، ففي المدينة نزلت الأحكام الشرعية والفقهية على النبي صلى الله عليه وسلم، في العبادات والمعاملات وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل، هذه كلها في المدينة، لكن في مكة كان الاهتمام بالتربية، بأن ينشأ المسلمون على العقيدة، ويمتلئ القلب بنور الدين وبنور الإيمان، فهنا ترسيخ أمر العقيدة، ونفي الشرك عن القلوب.
إذاً: هنا كانوا قريب عهد بشرك وهم في مكة، فكان القرآن ينزل عليهم ليعلمهم توحيد الله سبحانه، ويرسخ ذلك في قلوب المؤمنين، فأغراض هذه السورة هي أغراض السور المكية، وترتيب أمر التربية الأهم ثم ما هو مهم بعد ذلك، فأهم الأشياء نفي الشرك من قلوبهم، وإثبات وتقرير التوحيد في القلوب، فبدأت هذه السورة بالإشارة تنويهاً إلى شأن هذا القرآن العظيم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم.
إذاً: القرآن العظيم نزل من عند الله، وأشار في مواضع من هذه السورة العظيمة إلى هذا القرآن، سواء قال: القرآن، أو قال: الكتاب، أو أشار إليه بالضمير في مواضع، يشير إلى هذا القرآن كيف يتعامل معه المؤمنون حين يسمعون هذا القرآن، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] فقد بدأ الله هذه السورة بالإشارة والتنويه إلى عظمة هذا القرآن الذي نزل من عند الله سبحانه، وفي هذه السورة إثبات تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، وأنه وحده الذي يستحق ذلك، وإبطال ما كان عليه المشركون من شرك بالله سبحانه وعبادة غيره، وإبطال ما يتعللون به من كلام فارغ باطل حين يسألون: لم تعبدون هذه الأصنام من دون الله؟ فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فيكذبهم الله عز وجل فيما يقولون في هذه السورة وفي غيرها.
كذلك فيها نفي ما كانوا عليه من ادعاء أن الله عز وجل اتخذ الولد، تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، ففيها نفي هذا الشرك بالله سبحانه وأن يكون يتخذ ولداً، قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4] حاشا له أن يكون له الولد سبحانه! ولكنه الله الذي خلق كل شيء، ولو أراد أن يكون له ولد سبحانه وتعالى لاصطفى من خلقه ما يشاء ووصفه بذلك، أما أنه يتناسل كالبشر حاشا له سبحانه وتعالى، فالبشر بعجزهم يحتاجون لبقاء نوعهم في هذا الكون، فيحتاجون لذلك، فالرجل يحتاج للمرأة، والاثنان يحتاجان للولد، لأن هذا يصير شيخاً، وهذه تصير عجوزاً، فتقل القوة والقدرة، وهذا يموت وتموت هذه، فيبقى النسل امتداداً للوالد وللوالدة، ولكن الله سبحانه هو الحي الذي لا يموت، والباقي أبداً سبحانه وتعالى، من الأزل وإلى الأبد سبحانه وتعالى، لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فلذلك الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولو كان له ولد سبحانه وتعالى لكان فيه صفات الربوبية وصفات الإلهية، ولكان محتاجاً أن يكون له ولد، ويعجز هذا الأب طالما أنه احتاج إلى أن يكون له ولد في يوم من الأيام، فالله لا يحتاج إلى شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، والذي يحتاج إلى الولد هو المخلوق، أما الخالق فهو متعال عن ذلك سبحانه.
في هذه السورة الاستدلال على وحدانية الله سبحانه، وأنه الواحد سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، ويذكر لنا الدلائل على ذلك، بأنه خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى، وخلق الإنسان من هذه النطفة، وأنزل لنا سبحانه وتعالى ثمانية أزواج من هذه الأنعام.
كذلك يذكر لنا التطور العجيب في خلق الإنسان من نطفة أمشاج سبحانه وتعالى، وطوره إلى أن كان جنيناً في بطن أمه ونزل طفلاً، ثم صار بالغاً، ثم صار شيخاً، فأطوار خلق هذا الإنسان ينبهنا على أن هذا الإنسان كان ضعيفاً ويصير في النهاية إلى الموت بعدما يكون شيخاً كبيراً.
أيضاً: فيها الاستدلال من فعل هؤلاء المشركين على حاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، طالما أنت محتاج إلى الله تقول: يا رب يا رب، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، فالإنسان محتاج إلى الله سبحانه، يجأر إليه في وقت الضر فيقول: يا رب يا رب، فطالما أنك محتاج إلى الله فلماذا لا تعبده في كل وقت؟ وما الداعي لأن تشرك به سبحانه وتعالى؟ كذلك فيها الدعوة إلى التدبر في هذا القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] هذه دعوة للتدبر في هذا القرآن، والله نزل أحسن الحديث؛ إذ كانوا يسمعون الأحاديث من العرب، كانوا يسمعون أخبار الفرس وغيرهم والنوادر والحكايات، وكانوا يقولون الأشعار، فيخبرهم الله أن أحسن حديث عندكم هو كتاب الله سبحانه وتعالى، نزله الله يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإتقان والإحكام، ليس فيه أننا نقول: هذه الآية محكمة ومتقنة وهذه الآية ليست كذلك، بل كل القرآن على هذا المستوى الراقي العالي المعجز للخلق جميعهم، فيتحدى الله خلقه بالقرآن كله، أو ببعض هذا القرآن أن يأتوا بسورة من مثله فلا يستطيعون، فهو متشابه في الحسن وفي الجمال وفي الإتقان، وفي الإحكام وفي الإعجاز كله يشبه بعضه بعضاً في ذلك.
وهو مثانٍ يكرر الله عز وجل فيه التثنية، ويكرر فيه الحكم والمواعظ والقصص على نحو عجيب فريد، فتسمع القصة في سورة فتعجب لجمالها، فتسمعها في سورة أخرى فتتعجب كيف يتنوع الأمر والسورة والقصة واحدة مذكورة هنا ومذكورة هنا، ومذكورة هنا! وفي كل موضع توافق السورة ولا تخالفها في هيئتها وتجد فيها من الحكم الشيء العظيم.
كذلك في هذه السورة تنبيه الناس إلى كفرهم بالله سبحانه، وعدم شكرهم نعمته، يعطيهم الله النعم فلا يشكرونه سبحانه وتعالى، فينبههم إلى أن يشكروا الله؛ لأن الإنسان الذي يشكر الله يشكر نفسه، والنفع يعود إليه، والضر ليس على الله وإنما ضره عليه.
كذلك فيها المقابلة بين حال أهل التوحيد، وبين حال أهل الشرك، كيف أن أهل التوحيد استحقوا دخول الجنة، قال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [إبراهيم:23]، وأدخل الذين كفروا نار جهنم والعياذ بالله، هذا مآل المؤمنين، وهذا مصير الكافرين.
كذلك فيها التحذير مما حل بالأمم السابقة، وهذه من خصائص السور المكية، فالله سبحانه يحذر الناس أن يحل بهم من العقوبات ومن المثلات ما حل بالذين(337/3)
أدلة وحدانية الله في سورة الزمر وبعض ما ذكر فيها
في هذه السورة الاستدلال على وحدانية الله سبحانه، وأنه الواحد سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، ويذكر لنا الدلائل على ذلك، بأنه خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى، وخلق الإنسان من هذه النطفة، وأنزل لنا سبحانه وتعالى ثمانية أزواج من هذه الأنعام.
كذلك يذكر لنا التطور العجيب في خلق الإنسان من نطفة أمشاج سبحانه وتعالى، وطوره إلى أن كان جنيناً في بطن أمه ونزل طفلاً، ثم صار بالغاً، ثم صار شيخاً، فأطوار خلق هذا الإنسان ينبهنا على أن هذا الإنسان كان ضعيفاً ويصير في النهاية إلى الموت بعدما يكون شيخاً كبيراً.
أيضاً: فيها الاستدلال من فعل هؤلاء المشركين على حاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، طالما أنت محتاج إلى الله تقول: يا رب يا رب، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، فالإنسان محتاج إلى الله سبحانه، يجأر إليه في وقت الضر فيقول: يا رب يا رب، فطالما أنك محتاج إلى الله فلماذا لا تعبده في كل وقت؟ وما الداعي لأن تشرك به سبحانه وتعالى؟ كذلك فيها الدعوة إلى التدبر في هذا القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] هذه دعوة للتدبر في هذا القرآن، والله نزل أحسن الحديث؛ إذ كانوا يسمعون الأحاديث من العرب، كانوا يسمعون أخبار الفرس وغيرهم والنوادر والحكايات، وكانوا يقولون الأشعار، فيخبرهم الله أن أحسن حديث عندكم هو كتاب الله سبحانه وتعالى، نزله الله يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإتقان والإحكام، ليس فيه أننا نقول: هذه الآية محكمة ومتقنة وهذه الآية ليست كذلك، بل كل القرآن على هذا المستوى الراقي العالي المعجز للخلق جميعهم، فيتحدى الله خلقه بالقرآن كله، أو ببعض هذا القرآن أن يأتوا بسورة من مثله فلا يستطيعون، فهو متشابه في الحسن وفي الجمال وفي الإتقان، وفي الإحكام وفي الإعجاز كله يشبه بعضه بعضاً في ذلك.
وهو مثانٍ يكرر الله عز وجل فيه التثنية، ويكرر فيه الحكم والمواعظ والقصص على نحو عجيب فريد، فتسمع القصة في سورة فتعجب لجمالها، فتسمعها في سورة أخرى فتتعجب كيف يتنوع الأمر والسورة والقصة واحدة مذكورة هنا ومذكورة هنا، ومذكورة هنا! وفي كل موضع توافق السورة ولا تخالفها في هيئتها وتجد فيها من الحكم الشيء العظيم.
كذلك في هذه السورة تنبيه الناس إلى كفرهم بالله سبحانه، وعدم شكرهم نعمته، يعطيهم الله النعم فلا يشكرونه سبحانه وتعالى، فينبههم إلى أن يشكروا الله؛ لأن الإنسان الذي يشكر الله يشكر نفسه، والنفع يعود إليه، والضر ليس على الله وإنما ضره عليه.
كذلك فيها المقابلة بين حال أهل التوحيد، وبين حال أهل الشرك، كيف أن أهل التوحيد استحقوا دخول الجنة، قال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [إبراهيم:23]، وأدخل الذين كفروا نار جهنم والعياذ بالله، هذا مآل المؤمنين، وهذا مصير الكافرين.
كذلك فيها التحذير مما حل بالأمم السابقة، وهذه من خصائص السور المكية، فالله سبحانه يحذر الناس أن يحل بهم من العقوبات ومن المثلات ما حل بالذين من قبلهم.
كذلك يعلم الله عز وجل المشركين في هذه السورة أنه لا يعبأ بهم سبحانه وتعالى، فليس لهم عند الله سبحانه وتعالى منزلة إلا أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ فإذا كانوا هم وأصنامهم وشركاؤهم لا قيمة لهم إلا بأن يوحدوا الله وأن يدخلوا في دين الله، ففيها أنه يتحدى هؤلاء فيدخلهم يوم القيامة النار، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71].
إذاً: أدخل الذين كفروا إلى النار زمراً وأفواجاً، فإذا دخلوا النار بكتوا بهذا الذي يقوله لهم ربهم، وتقوله لهم ملائكة الله سبحانه، وجوزوا يوم القيامة بما أنكروه في الدنيا، فقد أنكروا البعث، وأنكروا الحساب والجزاء، فجوزوا بذلك يوم القيامة، وهذا كله في سياق هذه السورة وغيره كثير مما نراه في هذه السورة المكية العظيمة.(337/4)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] أي: هذا تنزيل الكتاب، أو تنزيل هذا القرآن من عند الله سبحانه العزيز الحكيم، وكلمة تنزيل مصدر نزل تنزيلاً، فنزل القرآن من عند الله، والنزول: الهبوط من أعلى إلى أسفل، فالقرآن نزل وجاء من فوق، فالله عز وجل نزل أحسن الحديث، وهذا دليل من الأدلة الكثيرة على علو الله سبحانه وتعالى وأنه فوق سمواته.
نزل هذا القرآن كله في ليلة القدر كما قال الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله وتعالى عنهما ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من وقت أن نزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى أن نزل آخر هذا القرآن العظيم، فنزل نجوماً على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: مقطعاً؛ يعني: سوراً سوراً أو آيات تنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا القرآن نزل من السماء من عند الله، (تنزيل الكتاب)، هذه اللام هنا: للعهد، يعني: هذا الكتاب المعهود الذي تعرفونه من الله الإله الذي يستحق أن يعبد، نزل عليكم هذا القرآن، وفيه إشارة إلى أن القرآن نزل لتعبدوا الله سبحانه وتعالى العزيز الحكيم.
(الله): لفظ الجلالة ومعناه: المعبود سبحانه، العزيز بمعنى: الغالب القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، الذي إذا قضى شيئاً لابد أن يكون كما أراد سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في أقواله.
والحكيم في أفعاله، والحكيم لها معان كما ذكرنا قبل ذلك، فالحكيم: الذي له الحكمة، والحكيم: الذي له الحكم، والحكيم: الذي يحكم الأشياء ويتقنها في صنعتها سبحانه وتعالى، فهنا الله الحكيم سبحانه وتعالى الذي لا يخرج شيء عن علمه وعن حكمته، كل شيء يدور في هذا الكون ويوجد فيه بحكمة من الله علمها من علمها وجهلها من جهلها، وليس بالضرورة أن يعلم كل إنسان الحكمة في كل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، ولكن يستيقن المؤمن أن كل شيء يجري بحكمته سبحانه وتعالى.
إذاً: الله عز وجل الحكيم الذي له الحكمة سبحانه وتعالى، وكل شيء له عند الله عز وجل حكم معينة يعلمها سبحانه، وخلق هذا الشيء من أجلهم.
والحكيم مأخوذ أيضاً: من الحكم يعني: الذي له الحكم والذي له الأمر، يأمر فلا بد أن يطاع سبحانه وتعالى، إذاً: الحكيم بمعنى: الحاكم أيضاً: الذي له الحكم يحكم بما يريد.
والحكيم أيضاً: يأتي بمعنى: المحكم، ومحكم بمعنى: متقن، يعني: الذي أتقن كل شيء خلقه سبحانه، وكل خلق من خلق الله عز وجل ينظر إليه الإنسان فيرى من الله سبحانه وتعالى إتقاناً في صنعه لهذا الشيء، في الإنسان في الحيوان في السماء في الجماد في النبات، في كل شيء فيه بديع خلق الله سبحانه، وفيه إتقان هذا الصنع منه سبحانه، فهو المحكم سبحانه وتعالى.
والمحكم أيضاً: المدبر للأمر فيكون على ما أراده سبحانه وتعالى، ولا يخرج شيء عن إرادته الكونية القدرية سبحانه وتعالى.
إذاً: يحكم الشيء فلا يدخل في إحكامه فساد ولا خلل ولا زلل في خلقه سبحانه وتعالى، فعبر بهذه اللفظة الواحدة الحكيم عن كل هذه المعاني التي ذكرناها، إذاً: نزل القرآن من عند الله الذي هو إله يستحق وحده العبادة الذي هو العزيز الغالب، وإذا علمت أنه العزيز سبحانه فما الذي يدفعك إذا كان ربك سبحانه أنزل القرآن ألا تهتم لأمره، ولا تستجيب له؟ هو الحكيم سبحانه الذي له الحكمة البالغة، ويكرر: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] إنا: هنا عبر بنون العظمة، فالقرآن العظيم نزل من عند رب العالمين، والله تكلم بهذا القرآن، والله أنزل هذا القرآن، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [الزمر:2] إلى النبي ليس على غيره وإنما عليه صلوات الله وسلامه عليه جاء هذا القرآن العظيم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] إذاً: النزول من السماء حقاً، لا يأتي من مكان آخر غير السماء، ونزل متلبساً بالحق، وفي هذا القرآن الحق، فيه الشريعة العظيمة التي يحق الله عز وجل بها الحق ويبطل بها الباطل، وإذا نزل القرآن بالحق فاتبع هذا القرآن، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] اعبد ربك ولا تشرك به أحداً، وجه وجهك وأخلص قلبك، وامش على صراط الله سبحانه، وأخلص له دينك.
نسأل الله سبحانه أن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(337/5)
تفسير سورة الزمر [1 - 4]
أمر الله عز وجل نبيه بالإخلاص في العمل والعبادة لله سبحانه، وهو أمر لجميع المؤمنين، فالمشركون لم يخلصوا عبادتهم لله، بل أشركوا مع الله آلهة أخرى، وحجتهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وقد بين الله ضلالهم وبعدهم عن الحق والهدى.(338/1)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: بسم الله الرحمن الرحيم، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:1 - 4].
هذه السورة الكريمة هي السورة التاسعة والثلاثون من كتاب الله عز وجل سورة الزمر، وهي من السور المكية، ونعرف من خصائص السور المكية ترسيخ أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، أمر التوحيد، وضرب الأمثلة في ذلك، وبيان أن الله سبحانه وتعالى الذي تفرد بالخلق هو الوحيد سبحانه، وهو وحده الذي يتفرد بالأمر بالتشريع، وهو الذي يتفرد بالعبادة وحده لا شريك له فيعبد دون من سواه.
فبدأ بذكر هذا الكتاب العظيم وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، يعني: أن هذا القرآن العظيم نزل من عند الله، نزله الله سبحانه إنزالاً وتنزيلاً من عنده، نزل من السماء إلى الأرض عن طريق جبريل، جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم في خلال ثلاث وعشرين سنة، وقد نزل هذا القرآن وفيه أحكام الشريعة والهداية لهذه الأمة، وفيه النور من الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ((مِنَ)) أي: بدأ الإنزال من عند الله والانتهاء إلى هذه الدنيا إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ليتعلم الناس منه صلوات الله وسلامه عليه أحكام الله.
وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1] أي: هذا الكتاب المعهود، فاللام: للعهد يعني: هذا القرآن العظيم، هو الكتاب الذي تعرفونه وتعهدونه.
وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1]، الله الذي تفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، فهو الله المألوه المعبود سبحانه، العزيز الذي لا يحتاج إلى أحد، الغالب على أمره سبحانه، القاهر فوق عباده، الذي إذا قضى أمراً مستحيل أن يغالب وأن يمانع فيه، الحكيم الذي له الحكمة العظيمة البالغة في إنزال هذا الكتاب على هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، إذ نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً لا ينزل في وقت واحد، ولكن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة.(338/2)
تفسير قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين)
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، فعبر بنون العظمة هنا، فالكتاب عظيم، والله عظيم سبحانه، وهو الذي أنزل هذا القرآن وتكلم به سبحانه وتعالى، وأمر عباده أن يحفظوه، وأن يعملوا بمقتضاه، وأن يعملوا بما شرعه الله عز وجل فيه.
قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [الزمر:2] أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس إلى غيره.
وقوله تعالى: {الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2]، هذه قراءة الجمهور، وقرئت بالإدغام: ((الْكِتَاب بِّالْحَقِّ))، قرأها أبو عمرو بخلفه، ويعقوب أيضاً بخلفه.
فقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] أي: نزل فيه الحق، متلبساً بالحق، نزل حقاً من السماء على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وذكرنا قبل ذلك أن الله عز وجل أنزله في ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، قال ابن عباس: نزل من عند الله عز وجل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في خلال دعوته صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يخلص له الدين، وإخلاص الشيء بمعنى: تنقية الشيء، تقول: خلصت الماء من الشوائب، وأخلصت العسل من الشوائب.
إذاً: أخلص الدين لله معناه: خلص الدين ونقاه فجعله له وحده، فلا يكون في هذا الدين شائبة شرك، ولا يكون فيه كدرات الكفر والبعد عن الله سبحانه، والله أغنى الأغنياء عن الشرك سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه)، والذي يعمل عملاً لله ولغير الله يتوجب العمل للاثنين، يقول: هذا لله ولفلان، فالله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، لا يريد هذا العمل ويرده على صاحبه، فيذهب به صاحبه إلى هذا الشريك فيأخذ منه الثواب إن كان يقدر على ذلك! فالعمل لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله غيره سبحانه في الدعاء وفي جميع عباداته.
إذاً: العبد يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى وحده، فلا يصح أن يقول: هذه لله ولسيدي فلان، لا يكون النذر إلا عبادة، ولا تكون العبادة إلا لله وحده لا شريك له.
ففي هذه الآية أمر من الله لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه بأن يخلص لله، وهو الذي لا يشرك بالله صلوات الله وسلامه عليه، فكأن الأمر له وللمسلمين جميعاً، فأنت يا محمد عليه الصلاة والسلام مأمور أن تعبد الله ومنهي أن تشرك بالله سبحانه، وهو لا يفعل ذلك ولا يقع في الشرك.
فكأن الخطاب لغيره عليه الصلاة والسلام، أن اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما أمرناه وفيما اجتنبه صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] أي: بكل أنواع العبادات، تقرب إلى الله عز وجل وأنت مخلص لله لا تشرك به أحداً سبحانه وتعالى.(338/3)
تفسير قوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص)
قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، تأكيد على هذا المعنى العقدي أن الدين لله سبحانه وتعالى، والدين: التشريع من عند الله سبحانه، والتقرب بتطبيق هذه الشريعة يكون لله سبحانه وتعالى.
إذاً: الدين من عند الله، والتقرب بتنفيذ هذا الدين لله سبحانه وتعالى، وكل عمل من العبادات يحتاج إلى الإخلاص، والإخلاص لا يكون إلا بنية، حتى تفرق بين عمل وبين عمل آخر.
ولذلك كانت كل عبادة من العبادات لا بد فيها من النية حتى يثاب عليها العبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فالعمل الصالح لا تؤجر عليه إلا بنية خالصة لله سبحانه، وكم من عمل يعمله الإنسان ويكون ظاهره الصلاح ولا يثاب عليه، فيكون هذا العمل في ظاهره أنه يعمل عملاً صحيحاً ولكن في الباطن يريد به السمعة ويريد به الرياء، ولا يستقيم العمل الصالح على طريق الله سبحانه إلا بالنية الخالصة من العبد.
لذلك احتاج كل عمل إلى نية، وأي عمل فيه قربى أو ثواب لا بد من نية صحيحة من العبد حين يعمله، ولذلك قال العلماء: هذه الآية فيها دليل على وجوب النية في كل عمل يعمله الإنسان، ومن أعظم الأعمال التي يعملها الإنسان الصلاة والوضوء الذي لا تصح الصلاة إلا به.
إذاً: الصلاة لا بد فيها من نية، والوضوء أيضاً لا بد فيه من نية، وبعض أهل العلم خالف في ذلك، فذهب الأحناف إلى أنه لا يشترط للوضوء النية، وكأنهم حكموا على أمر الوضوء بأنه رفع الحدث حكمه حكم إزالة النجس عن الإنسان، ولا يحتاج فيه إلى نية، قالوا: فكذلك رفع الحدث منه، فلو أن على ثوب الإنسان نجاسة أو على بدنه نجاسة لم تصح صلاته بهذه النجاسة، ويلزمه أن يغسلها، فلو أنه غسل ثوبه أو غسل يده أو غسل عضواً من أعضائه وهو لا يستحضر النية إلا أنه غسل هذا الموضع بالماء حتى أزال منه النجاسة؛ صار طاهراً مع أنه لم ينو، ولو أن عليه نجاسة ونزل عليه ماء من السماء فأزال هذه النجاسة صار طاهراً من النجاسة ولكن ليس متوضئاً، فلا يكون الوضوء ولا يكون الاغتسال لرفع الحدث إلا بنية، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، كذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الوضوء شطر الإيمان)، هذا لفظ الترمذي، ولفظ الإمام مسلم: (الطهور شطر الإيمان).
إذاً: التطهر جزء من الإيمان، و (الوضوء شطر)، ولا يكون شطراً من الإيمان إلا وهو عبادة، إذاً: الوضوء شرط لصحة الصلاة وهو عبادة، ولذلك قال: (الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)، إلى آخر الحديث.
فبدأ بالطهور أو بالوضوء، فلا يكون هذا الوضوء وضوءاً تؤجر عليه إلا بنية، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتوضأ: (تخرج خطاياه وذنوبه مع آخر قطرة من ماء)، إذاً: كل ما مر الماء على عضو من أعضاء الوضوء خرجت معه الذنوب فكيف يكون الوضوء بهذا القدر العظيم يكفر الله عز وجل به الذنوب ولا يكون عبادة؟! فإذا أردت أن ينقي الله عز وجل عنك الذنوب وتصح صلاتك فتوضأ، والوضوء لا يكون إلا بنيته، إذاً: لا بد أن تنوي هذا الوضوء عند البداية؛ لتستحضر النية أنك تتوضأ، فتفرق بينه وبين غسل الوجه مثلاً بغرض التنظيف أو بغرض التبرد.(338/4)
معنى قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر:3] يعني: الذين عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، والأولياء جمع ولي، والولي: القريب فتقول: هذا وليي، أي: هذا قريبي، فيتخذ ولياً قريباً له أو شيئاً قريباً منه، يتخذه مدافعاً له وحامياً ومناصراً وناصراً له، فالأولياء اتخذوا هذه الأشياء من دون الله سبحانه وتعالى يتقربون إليها ويطلبون أو يرجون نفعها، وأن تمنع عنهم ضراً من الأضرار، أو أنها تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
فهؤلاء اتخذوا أولياء من دون الله يوالونهم ويعادون فيهم، فهذه الولاية يقول الله سبحانه فيها: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر:3]؛ لأنهم يقولون ذلك، يدافعون عن أنفسهم حين يقال لهم: هذه الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم وتضركم؟ هل تملك لنفسها ذلك فضلاً عن أن تملك لغيرها؟ فيقولون: لا، هم يعرفون أنهم صنعوا الصنم بأيديهم، وهذا الوثن الذي يعبدونه هم الذي نقوه من الحجارة ومن غيرها، فالشيطان يلقي في قلوبهم هذه الحجة الباطلة، وهو قولهم: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله سبحانه وتعالى.
يعني: كأنهم يريدون أن يقولوا: إن عبادتنا أصلاً لله، ولكن هذه الأصنام واسطة بيننا وبين الله سبحانه، من الذي جعل هذه الأصنام واسطة بينكم وبين الله سبحانه، فتعبدونها من دون الله وهي لا تملك لنفسها ولا لكم نفعاً ولا ضراً؟! فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: ازدلافاً إلى الله وتقرباً إليه سبحانه وتعالى بذلك.
والإنسان حين يتقرب إلى الله لا يتقرب إليه إلا بما شرعه سبحانه وتعالى، ولا يصح للإنسان أن ينقي لنفسه عبادة من العبادات، ويقول: سأتقرب إلى الله بالشيء الفلاني، وإذا كان الإنسان يأنف أن يعطي له آخر شيئاً على وجه الهدية إلا أن يكون يحب هذا الشيء الذي يهدى إليه، ويأنف أن يأخذ شيئاً هو يبغضه من إنسان يريد أن يهديه هذا الشيء الذي يبغضه، فكيف يتقرب إلى الله عز وجل بما يكره الله سبحانه وتعالى ولا يرضاه هو لنفسه؟ فالله سبحانه يخبر عنهم أنهم يجادلون بالباطل ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3] أي: يوم الفصل يوم القيامة، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3]، فيحكم بين أهل الأديان فيما اختلفوا فيه، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ} [التوبة:30]، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، عبد هؤلاء المسيح، وعبد هؤلاء عزيراً، وعبد هؤلاء الملائكة، وعبد هؤلاء الأوثان والأصنام، فالله يحكم بين هؤلاء الجميع فيما اختلفوا وزعم كل منهم أنه على الحق، فيجازي كل إنسان بما يستحق.
وجاء في الحديث أن الله سبحانه وتعالى يقول لعباده يوم القيامة: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً في الدنيا أن يتبعه؟ فيقولون: بلى) أي: نريد، فمن كان يعبد الشمس يرى الشمس أمامه ويتبع هذه الشمس، فيجري وراءها حتى تهوي به في النار، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر، ومن كان يعبد الجان يتبع الجان إلى النار والعياذ بالله، ومن كان يعبد المسيح يمثل له شيطان في هيئته فيتبعه إلى النار، ومن كان يعبد العزير يمثل له شيطان في هيئته فيتبعه إلى النار وهكذا، كل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى آلهة اتبع هذه الآلهة إلى النار والعياذ بالله.(338/5)
معنى قوله تعالى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3] الذي كذب على الله وافترى على الله سبحانه وقال: الله يحب كذا والله يريد كذا، فأمر العباد بمعصية الله سبحانه وزعم أن الله يريد ذلك، وأمر العباد بالكفر وبالشرك بالله؛ استحق من الله أن يضله، والله يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه وتعالى، ولا يسأل عما يفعل، والإنسان لا يقول: لماذا فلان هذا ضال؟ ولماذا فلان هذا كان مهتدياً؟ الله يفعل ما يشاء سبحانه.
وليس الأمر بيد الإنسان ولا بيد المخلوق وإنما الهدى هدى الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه سبحانه لعمه أبي طالب أن يهديه الله، وأن يدخل في هذا الدين، وكان يدعو عمه لذلك حتى آخر حياته ومع ذلك قضى الله أن يموت أبو طالب على الكفر، وآخر كلمة قالها وهو يموت: هو على ملة عبد المطلب، والله يحكم ما يشاء سبحانه، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم وكان في غاية التألم والتوجع لعمه، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: كلهم كانوا في ضلالة فهدينا من أردنا، ومن استحق ذلك هديناه، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، سبحانه وتعالى.
هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي رباه والذي دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يدخل في دينه، وقد تمنى أن يدخل في الدين، ولكن خشي أن يقولوا: خاف من الموت فدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم! وهذا عجيب جداً، أن يموت على ملة عبد المطلب، أي: على الشرك بالله سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، من علم الله سبحانه وتعالى في قلبه الكفر، وفي لسانه التكذيب بهذا الدين، فالله أعلم به أنه لا يستحق ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يعز الله عز وجل هذا الإسلام بأحد العمرين إما أبي جهل أو بـ عمر بن الخطاب، وكان الاثنان من أشد الناس عداوة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، كلاً منهما يريد الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فمن الله سبحانه على عمر رضي الله عنه فدخل في هذا الدين، وخذل أبا جهل، وأصر على ما هو فيه حتى قتل وألقي في قليب بدر في يوم بدر، فالله يهدي من يشاء، وهو أعلم من يستحق الهدى فيهديه سبحانه، خلقه وعلم أن هذا للجنة سبحانه وتعالى، وخلق هذا للنار، والله يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال لنا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].
والهدى من الله عز وجل على أمرين: يهدي بمعنى: يدل، وهذا للجميع، يدل المؤمن ويدل الكافر، ينزل الكتاب ويرسل الرسول عليه الصلاة والسلام، ويهدي بمعنى: يعين على التحويل، أي: يحول القلب من قلب منكوس إلى قلب معتدل مستقيم، فهذا لا يكون إلا للمؤمنين.
إذاً: يهدي الله عز وجل جميع خلقه بأن يدلهم على الصواب، قال تعالى: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، والمؤمن له العون من الله يعينه الله سبحانه وتعالى، والذي يعلم الله عز وجل من قلبه أنه كاذب وأنه كفار، لا يعينه على أن يسلك الطريق السوي؛ لأنه لا يستحق ذلك، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].(338/6)
تفسير قوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء)
قال الله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]، هؤلاء الذين يزعمون أن الله اتخذ الملائكة بناتاً، واتخذ المسيح ولداً، ينزل الله آيات رداً عليهم، فقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ} [الزمر:4] أي: أن يجعل لنفسه ولداً، ومستحيل أن يتناسل كما يتناسل البشر، فالبشر لعجزهم ولضعفهم يحتاجون لبقاء نوعهم فكان البقاء بهذا التناسل.
أما الله سبحانه القوي العزيز لا يحتاج إلى أحد، فالإنسان يكون صغيراً ويصير شاباً قوياً مغروراً، ثم يصير شيخاً فانياً كبيراً، فيحتاج إلى من يكون بعده ويعينه، فإذا مات خلفه الذي بعده، ولكن الله الحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، فهو الأزلي الأبدي سبحانه وتعالى.
فالإنسان لا يقيس الخالق على نفسه؛ لأن الإنسان مخلوق ضعيف، والله الخالق القوي لا يحتاج إلى شيء، ولو أراد الله أن يتخذ ولداً فمستحيل أن يكون هذا عن طريق التناسل أو عن طريق اتخاذ صاحبة، فإنه سبحانه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، لم يخلف ولداً سبحانه وتعالى، ولم يكن له أب أتى به، حاشا له سبحانه وتعالى، ولم يتخذ: {صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، أي: لا يكافئه أحد لا مخلوق إنسي ولا جني ولا ملكي ولا شيء يكافئه سبحانه وتعالى.
فلو أراد الله أن يصطفي ويقول: هذا ولد، ولا يكون ولداً على الحقيقة: (لاصْطَفَى) من خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: (لاصْطَفَى)، أي: فلاناً منه بمنزلة الولاء، ولكن حاشا له سبحانه، لا يتخذ ولداً وليس له صاحبة سبحانه.
فالإنسان حين يسمع ذلك يقول: سبحان الله، لا يحتاج ربنا إلى شيء سبحانه، لا صاحبة ولا والد ولا ولد.
قال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]، سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، المستحق للعبادة وحده لا شريك له، القهار الذي قهر كل شيء وغلب كل شيء، وعلا على كل شيء، فله القهر وله العلو على كل شيء سبحانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(338/7)
تفسير سورة الزمر [5 - 6]
آيات الله الكونية كثيرة، ومن أعظمها خلق السماوات والأرض، وتكوير الليل على النهار، وتسخير الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، فهذه آيات كبرى تدل على وجود الله وعلى إثبات صفاته العلى، وتدعو الإنسان إلى توحيده وإفراده بالعبادة دون ما سواه.(339/1)
تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:5 - 6].
يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات قوته وقدرته على الخلق سبحانه تبارك وتعالى، وينبهنا أن ننظر في هذا الكون في خلق السماوات وخلق الأرض، وجاء في القرآن تكرار ذكر خلق السماوات وخلق الأرض، وفي ذلك آيات لأولي الألباب، وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون، فقال الله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
فهؤلاء هم أولو الألباب الذين يتفكرون في هذا الخلق العظيم فيتعظون ويعتبرون، ويعرفون قدرة الخالق سبحانه، فيعبدونه وحده لا شريك له، ولذلك لما نزلت هذه الآيات من آخر سورة آل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لقد أنزلت علي هذه الليلة آيات ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها!)، فكأن المؤمن مأمور بالتفكر، إذا قام من نومه تفكر في خلق السماوات والأرض، وفي الليل والنهار، وفي العبرة في الإماتة والإحياء، فالنوم أخو الموت، فهو الموتة الصغرى، فإذا استيقظ يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، فإليه البعث وإليه المصير، والعود والمرجع إليه سبحانه تبارك وتعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل قرأ العشر الآيات الأخيرة من سورة آل عمران وهذه أولها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190].(339/2)
عظم خلق السماوات والأرض
خلق الله السماوات والأرض بالحق، خلقها الله عز وجل حقاً، وخلقها خلقاً متلبساً بالحق، وخلقها ليحق الحق سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك أنزل ووضع الميزان بين العباد حتى يقيموا القسط بينهم، ويقيموا العدل بينهم، فأخبرهم أنه خلق السماوات والأرض بالحق، وكل شيء مخلوق بالحق من الله سبحانه، خلقه حقاً، وخلقه ليحق الحق، ويظهر آيات عظمته وعظيم قدرته سبحانه تبارك وتعالى.
والسماوات لا يحيط بها الإنسان، ولا يعرف كنه حقيقة كل ما فيها، إنما يعرف الإنسان جزءاً من السماء وهو الذي يواجه الإنسان على هذه الأرض، أما ما خفي عنه من السماوات فهو أعظم بكثير مما يراه الإنسان ويطلع عليه، فالإنسان يرى الشمس ويرى القمر ويرى النجوم، ونحن في هذا الكون نعيش في مجرة من مليارات المجرات التي حولنا، هذه المجرة التي تدخل فيها الشمس ويدخل فيها القمر، وتدخل فيها هذه الأرض، وتدخل فيها كل هذه النجوم التي تعد بمليارات المليارات في المجرة الواحدة، والمجرات عددها مليارات المليارات، وقد اكتشفوا منها مائتين مليون مجرة!! وكم من المجرات لم يكتشفوها إلى الآن؟! قبل عشر سنوات قالوا: اكتشفوا حوالى خمسين مليون مجرة من المجرات، ثم بعد ذلك وصل العدد إلى مائتين مليون مجرة، وكل مجرة فيها العدد الضخم من الكواكب والنجوم، فهذا الكون هائل جداً، وعظيم جداً، وربنا يذكر عن نفسه سبحانه أنه هو الذي خلق ذلك، وهو الكبير المتعال، حين تدخل في الصلاة تكبر ربك فتبدأ الصلاة بقول: الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، الله الكبير الأكبر المتعالي سبحانه.
والله يخاطب العرب الذين لا يعرفون شيئاً عن علم الأفلاك وعلم النجوم وعلم الكون الذي حولهم، العربي كان ينظر إلى الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، ولا يدري أن الأرض مكورة مثل الكرة، كان يرى نفسه يمشي على الأرض وهي مسطحة، فكان الاعتقاد السائد أن الأرض سطح مسطح، لأن الناظر إليها يراها كذلك، ولكن الله يشير في القرآن إلى التكوير، فيقول: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، وقال عن الأرض: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:30 - 31] وقال سبحانه: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6]، فقد بسطها الله سبحانه ومهدها ووطأها ووسعها ودحاها بمعنى بسطها سبحانه، وجعلها قابلة لأن يسير عليها الإنسان، وجعلها واسعة فسيحة أمام الإنسان، والذي على الأرض لا يراها كرة لعظيم سعتها، فالله سبحانه تبارك وتعالى جعلها واسعة، فمساحة هذه الأرض التي يسير عليها الإنسان حوالى خمسمائة وواحد وثمانين مليون كيلو متر مربع! فالأرض واسعة دحاها الله ووسعها سبحانه تبارك وتعالى، وطحاها بأن جعلها كالكرة، فلوسعها يراها الإنسان منبسطة أمامه، ولكن هذه الآية تشير إلى أنها كرة كغيرها من النجوم والأفلاك التي خلق الله سبحانه تبارك وتعالى.(339/3)
تكوير الليل على النهار
قال الله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5] هذا إشارة إلى التكوير بمعنى اللف، والعربي يفهم من هذا أن الليل يجيء فوق النهار كما تكور الشيء، قال الله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] فكأنه غشاء هذا فوق هذا، مثل تكوير العمامة، فكأن الليل يأتي فوق النهار ويتكور عليه ويلفه فيخرج النهار، والنهار كذلك يلف عليه فيخرجه {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] ينسلخ هذا من هذا عن طريق هذا الغشاء.
والنهار الذي يجلي الشمس يقولون: هو ذرات من الأتربة ونحوها في الغلاف الجوي تجعل أشعة الشمس التي تسقط عليها تنعكس وتظهر ضوء النهار، وإلا في خارج هذا الغلاف لا يرون شمساً ولا قمراً، بل يرون الكون مظلماً خارج هذه الكرة الأرضية وخارج الغلاف الجوي.
فالله عز وجل يجعل الأرض تقابل الشمس فيكون السطح المقابل للشمس نهاراً، قالوا: والأرض تدور حول نفسها فيكون السطح الآخر الذي كان مظلماً مواجهاً للشمس، ويكون هو الذي ينير، والأرض تدور حول نفسها خلال اليوم فيأتي الصباح ثم يأتي العشي ولا تزال هكذا، فالأرض تدور، والسطح المواجه للشمس يكون على هيئة نصف كرة منيراً، والسطح الغير مقابل للشمس في الناحية الأخرى يكون على هيئة نصف كرة مظلماً، فكأنه يتكور هذا فوق هذا، وهذا فوق هذا، كأنه غشاء فوقها، فإذا دارت الأرض جاء غشاء الظلمة في الناحية الأخرى وهكذا.
فالأرض الآن تتكور وتدور، والشمس والقمر كل منهما يجري إلى أجل مسمى، وكل شيء في هذا الكون يدور ويلف حول نفسه وحول غيره، ويدور الفلك كله دوران عجيب جداً! دوران عكس عقرب الساعة، كالمسلمين حين يطوفون حول الكعبة من الشمال إلى اليمين، فالكون كله يدور في هذا الاتجاه، وكأن كل شيء يتحرك في مكانه ساجداً لله سبحانه، ومطيعاً لله سبحانه، ومسبحاً بحمده سبحانه.(339/4)
تسخير الشمس والقمر
قال الله عز وجل: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الزمر:5] الله عز وجل سخر الشمس والقمر، فكأنه يقول لهؤلاء الذين يعبدون الشمس: الشمس مسخرة قهرها الله سبحانه الذي خلقها وسيرها كما يريد سبحانه تبارك وتعالى، وكذلك يقول لمن عبدوا القمر من دون الله سبحانه: الله الذي خلقه والله الذي يسيره والله الذي يسخره.
فمن عبد الشمس ومن عبد القمر ومن عبد مخلوقاً مثله استحق أن يعذب يوم القيامة؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)، فهذه الشمس بلهبها العظيم وبدرجة حرارتها المستعرة تكون في النار يوم القيامة، وليس دخول الشمس في النار عذاباً لها، ولكن تعذيباً للكفار، فهي كتلة ملتهبة يعذب بها من عبدها في هذه الدنيا، والقمر يكون ملتهباً كما كان قبل أن يطمسه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيكون في النار ملتهباً مشتعلاً يعذب به من عبدوه من دون الله.
وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول: ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه؟ فيقولون: بلى، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس) أو كما قال، فتأخذهم إلى النار يتعذبون بلهيبها في النار فضلاً عن عذابهم في نار جهنم والعياذ بالله، كذلك القمر، وكذلك كل من عبد من دون الله سبحانه.(339/5)
معنى قوله تعالى (كل يجري لأجل مسمى)
قال الله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [الزمر:5] أي كل من الشمس والقمر {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:5]، وتكرر هذا في القرآن في سورة الزمر هنا وفي سورة الرعد وفي سورة فاطر، وجاء مرة واحدة في القرآن بإلى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29] في سورة لقمان، فكل يجري لأجل سماه الله سبحانه تبارك وتعالى، يجري للأجل المحدود الذي حدده الله وقدره، وإلى الأجل أي إلى هذه الغاية التي وضعها الله سبحانه تبارك وتعالى، فكل يجري للأجل ساعياً نحو هذا الأجل حتى إذا وصل إلى الأجل قامت عليه الساعة، فكل يجري إلى أجل وكل يجري لأجل مسمى.
والأجل قدره الله سبحانه تبارك وتعالى، فالشمس تجري لأجل مسمى، وتشرق الشمس من مشرقها في الوقت الفلاني على المكان الفلاني، وتشرق على البلد الأخرى في الوقت الفلاني، والآن عرفوا هذا الشيء، فهنا في مصر وقت الشروق في الوقت الفلاني، وفي العراق وقت الشروق في الوقت الفلاني، وفي الحجاز وقت الشروق في الوقت الفلاني، حتى في البلد الواحدة في المحافظة الفلانية تشرق الشمس في الوقت الفلاني، وفي المحافظة الثانية تشرق بعدها بدقيقة أو بدقيقتين أو بست دقائق، كل يجري لأجل مسمى يحدده الله سبحانه تبارك وتعالى.
والشمس تجري في هذا الفلك تحت عرش الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، فهي ساجدة لله سبحانه تبارك وتعالى، وفي كل وقت شروق تسجد الشمس لله وتستأذن ربها سبحانه تبارك وتعالى في الشروق، حتى يأتي وعد الله سبحانه، فتأتي القيامة وتأتي العلامات الكبرى، ثم يأمر الله سبحانه بتكوير الشمس: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] أي: التفت بعضها على بعض، وانطمس ضوءها، وانطفأ لهيبها، وأسقطها الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:2 - 4] إلى آخر ما ذكر الله عز وجل مما يحدث حين تقوم الساعة، نسأل الله العفو والعافية.
{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:5] فالشمس تجري لأجل مسمى، والقمر يجري ويدور حول هذه الأرض لأجل مسمى، فيكون الليل والنهار ويكون اليوم ويكون الشهر وتكون السنة لأجل مسمى لا يتغير حتى يأتي أمر الله سبحانه، فالسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، واليوم مقداره أربعة وعشرون ساعة، لا يوجد جزء من ثانية يزيد أو ينقص فيها، فهو أجل مسمى يحدده الله سبحانه تبارك وتعالى!(339/6)
قدرة الله عز وجل
قال الله: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5] ختم سبحانه تبارك وتعالى الآية ببيان قدرته سبحانه، فهو عزيز قادر قاهر غالب لا يمانع، إذا أمر الشمس تسير الشمس حيث أمر الله سبحانه، والقمر يدور كما أمر الله سبحانه، والأرض كذلك، وعلى الإنسان حين يقول له ربه: افعل كذا ألا يمانع ربه سبحانه، بل عليه أن يطيع ربه حين أراه الله آياته، ولا يخرج عن طاعته.
والله سبحانه قادر على أن يسخر هذا الإنسان كما سخر الشمس والقمر، ولكن الله جعل في هذا الإنسان إرادتين، جعل إرادة منه سبحانه في هذا الإنسان كونية قدرية يستحيل أن يتعداها الإنسان، كن فيكون، فالله سبحانه أراد أن يوجد في الوقت الفلاني فخلق هذا الإنسان في هذا الوقت، أراد الله له أن يموت في الوقت الفلاني فمستحيل أن يتأخر أو يتقدم عن وقت وفاته {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وإذا أراد الله عز وجل لهذا الإنسان أن يمرض في الوقت الفلاني فلابد أن يكون.
وجعل الله لهذا الإنسان مشيئة يختار في أشياء، والله أعلم ما الذي يختاره هذا الإنسان، والله أعلم هل هذا الإنسان يستحق الجنة أو يستحق النار.
والمشيئة الشرعية تدخل تحت ما يحبه الله سبحانه، فالله يحب منكم كذا فافعلوه، يحب منكم أن تحسنوا فأحسنوا، يحب منكم أن تطيعوا فأطيعوا، يحب منكم أن تصلوا فصلوا، فهذه مشيئة شرعية من الله سبحانه.
وجعل للعبد الاختيار هنا: اختر أن تصلي أو لا تصلي، والإنسان يجد في نفسه القدرة على أن يصلي، فيقوم بهذا العمل فيعمله أو يتركه فلا يعمله، وعلى هذه المشيئة يحاسب الله عز وجل العبد، فلو شاء الله لجعلها مشيئة كونية قدرية فيصلي العبد رغماً عنه، ولكن الله جعل لك اختياراً، فأنت حين تقوم تجد أنك ممكن أن تقوم وممكن أن تقعد، فجعل الله لك اختياراً وكسباً، وهو يحاسبك على هذا الاختيار وعلى هذا الكسب، وأنت لن تخرج عما قدره الله وعما علمه الله عز وجل منك.
وقد أخبرنا الله أنه سخر الشمس والقمر إشارة لنا إلى الأشياء التي هي أعظم منا {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27]، فإذا علمت أن خلقك ضعيف، ولست قدر هذه السماء في خلقها، ولا قدر هذه الأرض في قوتها، ولا قدر هذه الجبال في شموخها وارتفاعها، بل أنت إنسان ضعيف؛ فاعبد ربك كما عبدته هذه المخلوقات.
ولما ذكر الله ما يدل على القوة والبطش والشدة ذكر ما يدل على الرحمة منه سبحانه فقال: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5]، فالله الغفار والغفور وغافر الذنب سبحانه تبارك وتعالى، وهذه من أسمائه الحسنى سبحانه، وأصل الغفر التغطية والستر والمحو، فالله يغفر أي يستر ذنبك، والله يكفر السيئات، ويمحو هذه السيئات، فالله عز وجل {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] أي يستر على العبد ذنبه، فإن تاب محاه الله سبحانه.(339/7)
تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها)
قال الله سبحانه: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر:6] أي آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام {ُثمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، هذا أصل خلق الإنسان، خلق آدم من تراب، ولما وجد آدم في الجنة آنسه الله بأن خلق من داخله حواء، والله يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد سبحانه تبارك وتعالى.
قال: {ُثمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، وقال في الأعراف: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فالله خلق المرأة للرجل ليسكن إليها، فهي مخلوقة من ضلع من أضلاع هذا الرجل حتى يستشعر أنها منه، فيستشعر الألفة والمحبة والمودة والرحمة بين الرجل وبين أهله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(339/8)
تفسير سورة الزمر [6 - 7]
الله عز وجل هذه الجموع من البشر المتتابعة إلى يوم القيامة من نفس واحدة خلقها من طين، وخلق منها زوجها ليأنس بها ويسكن إليها، وقد خلق الإنسان في ظلمات ثلاث وهو في بطن أمه يوصل إليه ما ينفعه، ويمنع عنه ما يؤذيه، وكل ذلك دليل على أن الله هو الرب المالك المستحق للعبادة وحده، فمن العجب أن يصرف الناس عن هذا الحق الواضح فيعبدوا غيره!(340/1)
تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6].
في الآية السابقة أخبرنا الله تبارك وتعالى عن عظيم قدرته في خلقه للسماوات، وخلقه للأرض، وفي تكوير الليل على النهار، وكيف أنه جعل الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، كما قال سبحانه: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] أي: بحساب من الله سبحانه وتعالى، فقدر مواقيت الأشياء حتى يأتي الأجل المسمى والأجل المعلوم وتقوم الساعة، فيكون ذهاب هذه الأشياء كما يريد الله سبحانه.
وذكر هنا خلق الإنسان فقال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6].
فمن قدرة الله العظيم سبحانه تبارك وتعالى خلق الإنسان من نفس واحدة هي آدم عليه السلام، خلقه من تراب، خلقه من ماء، خلقه من طين، خلقه من صلصال من حمأ مسنون، خلقه من صلصال كالفخار، هذه مراحل خلق آدم، فبعد أن كان عدماً أوجده الله سبحانه من تراب بأن قبض قبضة من جميع أنواع هذه الأرض وألوانها، إذ منها الأبيض، والأحمر، ومنها الأسود، ومنها الصعب الوعر، فجاء خلق آدم عليه السلام وبنيه على ما يكون من هذه الأرض جميعها، فمنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم اللين الطيب ومنهم الرديء الخبيث، ومنهم الصعب الوعر، ومنهم السهل، كما صح في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فخلق آدم عليه السلام من تراب هذه الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، ثم قدر ما يشاء، ونزل آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، ثم أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل؛ لهداية بني آدم حتى يرجعوا إلى الجنة مرة أخرى.
وفي قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر:6] قراءتان: قراءة الجمهور: (خَلَقَكم) وقراءة أبي عمرو ويعقوب: بالإدغام فيها.
قوله تعالى: (من نفس واحدة) يعني: من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي ذرأ الله عز وجل من ذريته النسل.
وقوله تعالى: (ثم جعل منها زوجها) أي: جعل من هذه النفس الواحدة وهي آدم زوجها، وهي حواء وخلقها من ضلع آدم حتى يأنس إليها وتأنس إليه، فكأن آدم عليه السلام كان في الجنة واستشعر أنه وحده من جنس الآدمي واحتاج لأحد يكون معه من جنسه، فالله عز وجل آنسه بـ حواء في جنته.(340/2)
معنى قوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج)
قال سبحانه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] (وأنزل لكم) قراءة الجمهور، وأدغمها أبو عمرو ويعقوب.
وقوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] بينها في سورة الأنعام فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام:144].
فالأنواع أربعة، ومن كل نوع: ذكر وأنثى، فهم ثمانية أزواج: من الضأن ومن المعز ومن الإبل ومن البقر.
فخلق الله الأنعام وأسكنها في هذه الأرض، وجعلها ثمانية أزواج نزل أصلها من عند الله سبحانه، ثم توالدت هي فنزلت من بطونها أبناؤها، وهذه بهيمة الأنعام لا تطلق إلا على هذه الثلاثة الأنواع: الإبل والبقر والغنم، والغنم يدخل فيه المعز.
فامتن الله سبحانه وتعالى على العباد بأن خلق لهم هذه الثمانية الأزواج، وجعلها من أفضل أموال الناس وجعل الزكاة فيها.
فمن كان يملك شيئاً من بهيمة الأنعام بلغ النصاب، وحال عليه الحول يلزمه أن يخرج زكاة بهيمة الأنعام.(340/3)
معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق)
قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] أي: أن الله سبحانه وتعالى يخلق العباد في بطون أمهاتهم أطواراً.
ففي البداية تلتقي النطفة بالبويضة، فتلقح هذه البويضة ثم تصير جنيناً ينقسم عدة انقسامات حتى يصبح إنساناً.
فكان ابتداء الخلق من تراب، ثم من نطفة، ثم من مضغة، وهذه مضغة مخلقة وغير مخلقة ليبين لكم ويقر في الأرحام ما يشاء، ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً.
فهذه مراحل الخلق، مرحلة وراء مرحلة، ومن الناس من يبلغ ذلك، ومنهم من يموت قبل ذلك في أي مرحلة من هذه المراحل.
وخلق الإنسان عجيب جداً، فإذا تأمل أصل خلقته وهو هذه النطفة فتخيل هذا الشيء الضعيف جداً الذي لا يرى بالعين أبداً، بل لابد من مجهر كبير يرى به هذا الحيوان المنوي الذي يخرج منه في الدفقة الواحدة ملايين، وواحد فقط هو الذي يلقح هذه البويضة ليكون منها هذا الإنسان! فكان نطفة يستقذرها صاحبها، فصار منها هذا الإنسان الذي عاش على هذه الأرض، وعمل صالحاً أو طالحاً ثم رجع إلى ربه؛ ليجازيه ويحاسبه بعد ذلك.
هذا خلق الإنسان الذي ينبغي على كل مؤمن أن يتأمله ولا يستكبر؛ فإنه يعرف من أين أتى.
ولذلك مر رجل على أحد الصالحين وكأن الصالح لم يهتم به وكان من أبناء الملوك فقال: أما تعرفني؟ كأنه يقول: مررت بي من غير أن تقوم لي؟! قال: أعرفك، كنت نطفة مذرة، وتصير إلى جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة.
فالله تعالى حين يسوق لنا بديع قدرته أن خلقنا من نفس واحدة يذكرنا أنه هو الذي كرمنا كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70].
ولذلك لما نظر إبليس لأصل خلقة آدم عليه السلام تعالى عليه واستكبر وأبى أن يسجد له، وقال: أأسجد له، وخلقتني من نار وخلقته من طين.
فكرم الإنسان ليس بأصل خلقته ولكن بتكريم الله عز وجل له، فالإنسان لا يتعالى، ولينظر إلى أصله من تراب يداس عليه، وسيتحلل جسده ويصير تراباً مرة أخرى، فلم التعالي؟! ولم البعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى؟! ولم يقول الإنسان مغتراً بنفسه أنا أنا أنا؟! من تكون أنت؟! قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6] الجعل له عدة معان منها: الخلق.
ولها في كتاب الله تعالى عشرة أو أحد عشر معنى، منها هذا المعنى الذي هو الخلق.(340/4)
معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم)
قال سبحانه: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] فكلمة (أمهاتكم) في الوصل بما قبلها فيها ثلاث قراءات: قراءة الجمهور (في بطون أمهاتكم).
وقراءة حمزة (في بطون إمِّهاتكم).
وقراءة الكسائي (في بطون إمَّهاتكم)، هذه الثلاث القراءات في الوصل، والكل إذا بدأ من عندها قال: (أمهاتكم).
وكذلك كلمة (يخلقكم) فيها إدغام أبي عمرو ويعقوب يقول: (يخلكُّم).
ثم قال تعالى: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] من المعلوم أن داخل الإنسان مظلم، ولا يكون منيراً إلا ما ينير الله عز وجل من قلوب وبصائر بفضله وبرحمته سبحانه وتعالى.
فالله عز وجل يخبر بأشياء عجيبة جداً لم يتبينها الإنسان قبل ذلك فقال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] وهذا الخلق الذي يليه خلق يكون بداخل الجسد في ظلمات ثلاث ولكن ما هي الظلمات الثلاث؟ قالوا: خلق الإنسان يكون من البويضة ومن الحيوان المنوي، وهذه البويضة خرجت من المبيض في ظلمة بداخل المرأة وانتقلت من المبيض إلى قناة فالوب ظلمة أخرى وفي هذه القناة لعلها يأتي إليها الحيوان المنوي فيلقحها، وهي في هذه الظلمة بالداخل، وتنتقل بعد ذلك إلى داخل الرحم وقد لقحت أو لم تلقح، فانتقلت من ظلمة إلى ظلمة فخلق الإنسان في هذه الظلمات الثلاث التي لا يذكر منها الإنسان شيئاً.
كان عدماً فصار هذا الخلق الذي في ظلمات، من الذي رعاه في هذه الظلمات وحفظه أن يضيع؟ هو الله سبحانه تبارك وتعالى.
فحين نقول: إنه في الدفقة الواحدة التي هي نحو اثنين أو ثلاثة سنتيمتراً من مني الإنسان يكون فيها ملايين الحيوانات المنوية، والذي يلقح البويضة واحد فقط من كل هؤلاء؛ ليكون هذا الإنسان، فمن الذي اختار الواحد من هذه الحيوانات دون الملايين غيره؟! إن الله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي قدر أن تلقح هذه البويضة فيأتي منها الإنسان، أو لا تلقح فلا يكون شيئاً، أو تنزل وهي على هذه الحال، أو يكون منها الإنسان إلى أن يصل إلى مرحلة معينة وبعد ذلك يموت.
فالله عز وجل على كل شيء قدير خلقكم في ظلمات ثلاث ليريكم أنه الذي حفظكم في هذه الظلمات.
ويونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما خرج مغاضباً لقومه، وظن أن الله لن يقدر عليه، وركب في السفينة؛ فإذا بالسفينة تهيج عليها الرياح، وتعلوا عليها الأمواج، وتكاد أن تغرق بمن فوقها.
فقيل فيها: عبد آبق، فيقترعون؛ لينظر من الذي يلقى في البحر حتى تنقذ السفينة، فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات، فألقى بنفسه في البحر، فجاء الحوت فالتقمه.
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] في ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، فمن الذي حفظه في هذه الظلمات حتى لا يموت ويهلك داخل بطن الحوت؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
فلما تذكُر ذلك تذكَّر أنك أيضاً كنت في مثل هذه الحال في بطن أمك في ظلمات، والذي كان معك يرعاك ويهيئك ويقدر لك الخلق بعد الخلق هو الله الحنان المنان سبحانه وتعالى، فتتذكر نعمة الله عليك ورحمته بك وبوالديك فتشكر ربك سبحانه وتحمده.(340/5)
معنى قوله تعالى: (فأنى تصرفون)
قال سبحانه: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] أي: الله الرب الذي له الملك الذي لا إله إلا هو، تأكيد على معاني العقيدة.
يبين الله تعالى الخلق ويبين القدرة ثم يذكر الذي فعل ذلك وهو الرب سبحانه وتعالى، الذي لا معبود حق سواه، فكيف تنصرفون عن توحيده؟ وكيف تشركون به؟ وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} يقال: يصرف الإنسان بمعنى: ينصرف، و (أنى) بمعنى: كيف.
أي: عجباً لكم أين ذهبت عقولكم حتى ذهبتم وانصرفتم عن عبادته، وعن توحيده إلى أن تشركوا به سبحانه تبارك وتعالى!! قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [الزمر:6] (الله) المألوه المعبود الذي يستحق العبادة وحده، أي: ذلكم الخالق العظيم هو الله سبحانه له الملك.
وقوله: (ربكم) الرب: الذي خلق وأوجد وأنعم وربى، الذي أعطى للإنسان ما جعله إنساناً.
وقد كان أهل الجاهلية لا يشركون في الربوبية، ولم يزعموا أن أحداً غير الله يخلق، أو أن أحداً غير الله يرزق، ويعتقدون أن من يفعل كل ذلك هو الرب جل وعلا.
لكن لو قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد الأصنام؛ لتقربنا إلى هذا الرب.
إذاً: أهل الجاهلية لم يكونوا يشركون في الربوبية، لكن حين يتوجهون بالعبادة يعبدون غير الله زاعمين أن هذه العبادة أفضل.
فالشيطان خدعهم وزين لهم أن يعبدوا غير الله بدعوى أنكم أحقر من أن تعبدوا الله مباشرة، لن اجعلوا واسطة بينكم وبين الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [الزمر:6] فالرب هو الذي خلق كل شيء، والذي يملك كل شيء، له الملك وله ملكوت كل شيء، فهو المالك، ويحكم فهو الملك سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الزمر:6] (لا إله): أي: لا معبود حق (إلا هو) إلا الله، فهذه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء من قبله أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65].
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
فالأنبياء كلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك لما أدرك فرعون الغرق {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
يقول الله سبحانه: ((فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) [الزمر:6] أي: كيف تنصرفون عن عبادته وعن طاعته سبحانه وتعالى إلى عبادة غير الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(340/6)
تفسير سورة الزمر [7 - 8]
الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائع ولا تضره معصية العاصي، ونتيجة العمل تعود على العبد نفسه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، لكن المولى سبحانه يحب الطاعة ويكره الكفر والمعصية، وهو عدل لا يجازي نفساً إلا على كسبها لكمال علمه وخبرته.(341/1)
تفسير قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم)
الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7].
في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى لعباده غناه عنهم، وعن عبادتهم، فالله هو الغني الحميد، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20].
خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعل له الاختيار: إما أن يعمل العمل الصالح، وإما أن يعمل غير ذلك.
فالله خلق الإنسان وعلمه البيان، وجعل له في هذه الدنيا سبيلين كما قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فمن اتبع سبيل أهل السعادة كان من أهلها في الآخرة، ومن التزم طريق أهل الشقاوة كان من أهلها في الآخرة، ولا ينفع ربه بطاعته، ولا يضر ربه سبحانه تبارك وتعالى بمعصيته.
فقال لعباده: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فلو كفر العباد فلن يضروا الله سبحانه وتعالى شيئاً، وقد قال لهم في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فلو كان جميع العباد على الطاعة لن ينفعوا ربهم بشيء، ولو كانوا كلهم على المعصية وعلى الكفر لم يضروا ربهم شيئاً، إنما ذلك راجع إلى العبد فهو الذي ينتفع بعمله، ولا يضر إلا نفسه.
ولذلك في تتمة هذا الحديث القدسي يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله) أي: فالله الذي دله على الخير، والله الذي وفقه له.
(ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالإنسان حين يجد يوم القيامة سيئاته قد غلبت حسناته، وأنه صار من أهل النار؛ فلا يلومن إلا نفسه، فقد دله الله عز وجل على الحق فأبى إلا اتباع الباطل.
قال الله تعالى لنا هنا: {إِنْ تَكْفُرُوا} [الزمر:7] أي: إن تعرضوا عن عبادة الله تبارك وتعالى، وتشركوا بالله سبحانه، ولا تشكرون ربكم، والكفر عكس الإيمان، وأصل كلمة الكفر: الستر والتغطية، فكأن الإنسان غطى على نعمة الله ولم ينسبها إليه، وجحد هذه النعمة ولم يشكرها.
يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو غير محتاج لعبادتكم ولا تنفعه طاعتكم.(341/2)
معنى قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)
الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7].
في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى لعباده غناه عنهم، وعن عبادتهم، فالله هو الغني الحميد، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20].
خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعل له الاختيار: إما أن يعمل العمل الصالح، وإما أن يعمل غير ذلك.
فالله خلق الإنسان وعلمه البيان، وجعل له في هذه الدنيا سبيلين كما قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فمن اتبع سبيل أهل السعادة كان من أهلها في الآخرة، ومن التزم طريق أهل الشقاوة كان من أهلها في الآخرة، ولا ينفع ربه بطاعته، ولا يضر ربه سبحانه تبارك وتعالى بمعصيته.
فقال لعباده: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فلو كفر العباد فلن يضروا الله سبحانه وتعالى شيئاً، وقد قال لهم في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فلو كان جميع العباد على الطاعة لن ينفعوا ربهم بشيء، ولو كانوا كلهم على المعصية وعلى الكفر لم يضروا ربهم شيئاً، إنما ذلك راجع إلى العبد فهو الذي ينتفع بعمله، ولا يضر إلا نفسه.
ولذلك في تتمة هذا الحديث القدسي يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله) أي: فالله الذي دله على الخير، والله الذي وفقه له.
(ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالإنسان حين يجد يوم القيامة سيئاته قد غلبت حسناته، وأنه صار من أهل النار؛ فلا يلومن إلا نفسه، فقد دله الله عز وجل على الحق فأبى إلا اتباع الباطل.
قال الله تعالى لنا هنا: {إِنْ تَكْفُرُوا} [الزمر:7] أي: إن تعرضوا عن عبادة الله تبارك وتعالى، وتشركوا بالله سبحانه، ولا تشكرون ربكم، والكفر عكس الإيمان، وأصل كلمة الكفر: الستر والتغطية، فكأن الإنسان غطى على نعمة الله ولم ينسبها إليه، وجحد هذه النعمة ولم يشكرها.
يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو غير محتاج لعبادتكم ولا تنفعه طاعتكم.
قال سبحانه: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: لا يحب سبحانه وتعالى الكفر، ولا يرضى من عباده أن يكفروا به.
فإذا كان لا يرضى منهم ذلك؛ فإنه يحاسبهم ويعاقبهم عليه.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده ذلك فلم أوجد الكفر في هذه الدنيا؟ يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2].
فالله خبير بعباده وبصير بهم، لحكمة يعلمها سبحانه أوجد العباد في هذا الكون؛ ليكون منهم المؤمنون وليكون منهم الكافرون، وليس من حق العبد أن يعترض على ربه ويقول: لم خلقت الكفر؟ فالله أعلم وأحكم.
لكن بالإمكان أن نلتمس الحكم بعد التسليم، فمن ضمن الحكم: إظهار مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأنه الرحمن العلي الحكيم القادر سبحانه وتعالى، وأنه المقدر لأمور عباده.
فالإنسان يعلم من صفات الله سبحانه أنه على كل شيء قدير، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، وأنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وأنه يحب منهم الإيمان، ويكره منهم الكفر والفسوق والعصيان.
فهو سبحانه يحب الإيمان ومع ذلك أوجد الكفر حتى يبتلى أهل الإيمان، ويظهر إيمانهم، هل هو إيمان بالله يدفعهم للعمل الصالح، والأمر المعروف والنهي عن المنكر أم هو إيمان باللسان فقط؟ فابتلى الله المؤمن بالكافر، وابتلى المطيع بالعاصي، وابتلى أهل السعادة بأهل الشقاوة.(341/3)
الفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية
قال سبحانه: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: لا يحب سبحانه وتعالى الكفر، ولا يرضى من عباده أن يكفروا به.
فإذا كان لا يرضى منهم ذلك؛ فإنه يحاسبهم ويعاقبهم عليه.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده ذلك فلم أوجد الكفر في هذه الدنيا؟ يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2].
فالله خبير بعباده وبصير بهم، لحكمة يعلمها سبحانه أوجد العباد في هذا الكون؛ ليكون منهم المؤمنون وليكون منهم الكافرون، وليس من حق العبد أن يعترض على ربه ويقول: لم خلقت الكفر؟ فالله أعلم وأحكم.
لكن بالإمكان أن نتلمس الحكم بعد التسليم، فمن ضمن الحكم: إظهار مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأنه الرحمن العلي الحكيم القادر سبحانه وتعالى، وأنه المقدر لأمور عباده.
فالإنسان يعلم من صفات الله سبحانه أنه على كل شيء قدير، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، وأنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وأنه يحب منهم الإيمان، ويكره منهم الكفر والفسوق والعصيان.
فهو سبحانه يحب الإيمان ومع ذلك أوجد الكفر حتى يبتلى أهل الإيمان، ويظهر إيمانهم، هل هو إيمان بالله يدفعهم للعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم هو إيمان باللسان فقط؟ فابتلى الله المؤمن بالكافر، وابتلى المطيع بالعاصي، وابتلى أهل السعادة بأهل الشقاوة.(341/4)
معنى قوله تعالى: (وإن تشكروا يرضه لكم)
قال الله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] أي: يرضى ويحب من عباده أن يشكروه.
فالعبد إذا شكر الله زاده، قال الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والشكر يكون باللسان وبالقلب وبالعمل.
فإذا شكر الإنسان ربه بقلبه اطلع على ذلك، وعلم أن هذا القلب قلب شاكر.
والشكر باللسان، كأن يقول: الحمد لله والشكر لله، ويثني على الله عز وجل الثناء الحسن على ما أنعم به وأعطاه.
والشكر بالفعل كأن يعطيه الله المال فيتصدق، يريد بذلك وجه الله سبحانه، ويعطيه القوة والقدرة فيعين غيره من أهل الحاجات ابتغاء وجه الله سبحانه.
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ثلاث قراءات، وأصل (يرضه) يرضاه لكم، ولكن جزمت هنا لوقوعها في جواب الشرط، فتقرأ بالاختلاس، (يرضهُ لكم)، وتقرأ بالإشباع (يَرْضَهُ لكم)، وتقرأ بالتسكين (يرضهْ لكم).
والقراء على ستة أقسام في هذه القراءات الثلاث: فمنهم من يقرؤها بالاختلاس فقط، (وإن تشكروا يرضه لكم) وهذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة نافع، وأيضاً قراءة حمزة وكذلك قراءة يعقوب.
ومعنى الاختلاس أنه لا يجعل الضمة التي على الهاء في قوله (يرضهُ) كأنها واو فلا يقول: (يرضهو لكم).
ومنهم من يقرأ بالإشباع فيها وهم ابن كثير والكسائي وخلف فيقرءون (وإن تشكروا يرضهو لكم).
ومنهم من يقرأ بالإسكان فقط وهذه قراءة السوسي عن أبي عمرو (يرضهْ لكم).
وباقي القراء لكل منهم وجهان: إما أن يقرأ بالإسكان أو الإشباع كما هي قراءة الدوري عن أبي عمرو وقراءة ابن وردان عن أبي جعفر وابن جماز عن أبي جعفر.
ومنهم من يقرأ بالإسكان وبالاختلاس وهم: هشام وشعبة عن عاصم وابن ذكوان وابن وردان عن أبي جعفر.(341/5)
معنى قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] الوازرة بمعنى: الحاملة للوزر، وهذا وصف للنفس.
والمعنى: أن النفس التي تحمل الإثم لا تحمل إثم نفس أخرى، فلا يأتي يوم القيامة إنسان ويقول: أنا داخل النار فهاتوا ذنوبكم وأنا أحملها عنكم.
فالإنسان يحمل وزره فوق ظهره، ويسأل عن عمله: فإن كان وزره على نفسه حمل إثمه، وإن كان سن للناس السنن السيئة ففعلوا مثلما يفعل حمل إثمه وآثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء.
وهذا ابن آدم الذي سن للناس القتل يوم أن قتل أخاه، فتأتي كل نفس قاتلة يوم القيامة وتسأل عما فعلت وتحاسب وتعاقب على ذلك، وهو يعاقب عن عمله وفوقه مثل آثام هؤلاء الذين سن لهم ذلك.
وكذلك كل من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
والعكس في الحسنات، فمن سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من حسناتهم شيء.
وقول الله عز وجل هنا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] كأنه يرد على الكفار الذين قال بعضهم لبعض: اتبعونا وسنحمل آثامكم كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12] وهذا كذب، إذ إنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلمون بما لا يفهمون، فمن أمر بالمنكر فعليه إثمه وإثم فعله له.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7] فالمرجع إلى الله سبحانه، فينبئكم أي: يخبركم سبحانه وتعالى، والإنباء الإخبار بالغيب.
فكل ما يفعله هذا الإنسان مكتوب عند الله في كتاب، ونحن نفعل الذنوب وننساها والله لا ينسى شيئاً أبداً.
فإذا جاء العبد يوم القيامة أراه الله صحيفة عمله وما فيها من الحسنات والسيئات، فيخبرنا بما غاب عنا وبما فعلناه في الدنيا ونسيناه.
ثم قال سبحانه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7] أي: هو العليم سبحانه بما خفي وما ظهر، والعليم بما دق وما عظم وما جل، والعليم بالقريب والبعيد.
وقد قلنا: خلق الإنسان ويحاسبه؛ ليظهر مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأنه العليم والقدير وأنه الكبير سبحانه وتعالى.
يجمع الخلق جميعهم من لدن آدم إلى قيام الساعة يوم القيامة ويحاسب الجميع ولا يخفى عليه شيء.
فكم من أبناء آدم يحاسبون يوم القيامة! كم من الجن ومن الشياطين من أبناء إبليس يحاسبون يومئذ! بل إنه عليم بما يختلج في صدر الإنسان مما لا يتكلم به، عليم بالنوايا، عليم بأفعال القلوب فكيف بالأفعال الظاهرة التي يفعلها الإنسان؟!(341/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه)
قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] طبيعة عجيبة في الإنسان وهي طبيعة نسيان المنعم سبحانه وتعالى، فالعبد يعطيه الله عز وجل فيحمد الله، ثم يعطيه ثانية فيحمده، فإذا أعطاه ثالثة نسي أن يقول: الحمد لله، ولعله يكتم ذلك ولا يزال يكتم حتى يقول أمام الناس: لم يعطني ربي شيئاً، وأعطى فلاناً ولم يعطني! فتجده ينظر إلى غيره، وينسى أنه يتكلم بلسان ويمشي برجل، ينسى هذه النعم، وينظر لشيء من حطام الدنيا، فإذا أصابه ألم جأر إلى ربه بالدعاء والشكوى، وتذكر ذنوبه؛ فيرجع إلى ربه منيباً إليه.
قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر:8] أي: ملكه وأعطاه سبحانه وتعالى، {نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] أي: نسي دعاءه السابق بعد كشف الغمة والكرب، ونسي أنه كان يوحد الله سبحانه.
وكان أهل الجاهلية عندهم من ذلك العجب، إذ كانوا في وقت النعمة يشركون، ويعبدون غير الله سبحانه، ويقولون: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله؛ فإذا نزل بهم الضر رجعوا إلى ربهم سبحانه.
ومن أمثلة ذلك: قصة عكرمة رضي الله عنه لما أن فر من النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكان أبغض شيء إليه الإسلام، إذ ورث ذلك عن أبيه أبي جهل، واتجه صوب البحر، فلما ركب السفينة هاجت الأمواج، واضطرب البحر، فناداهم ربان السفينة قائلاً: يا أيها الناس! ادعوا ربكم فإنه لا ينقذكم مما أنتم فيه أحد سواه.
فصكت العبارة أذن عكرمة رضي الله عنه، وبدأ يفكر فيما يعبده من الأصنام وأنها لا تنفعه في هذه المصيبة، فقال: والله لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده فلأجدنه رءوفاً رحيماً.
وفعلاً نجاهم الله سبحانه وتعالى من الكرب، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه بعد ذلك.
كان ذلك سلوك أهل الجاهلية السابقة، أما جاهلية اليوم فقد صارت أشد من الجاهلية في الماضي، ففي الماضي كانوا يدعون ربهم وقت الضر، أما الآن ففي وقت الضر يقولون: يا بدوي! يا أبا العباس! فينسى الله تبارك وتعالى، لا في وقت الرخاء يدعوه، ولا في وقت البلاء يوحده، ينسى ربه ويصرف العبادة لغير الله.
وتجد كثيراً من الناس بدلاً من أن يناجي ربه يقول: يا بدوي، مدد يا فلان.
ماذا يملك له فلان هذا؟! والله سبحانه الذي بيده النفع والضر يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولم يقل: ادعوا فلاناً، ولا ادعوا فلانة.
في هذه الآية ربنا تبارك وتعالى ينعى على الإنسان ما هو فيه من جحود ونكران لنعم الله سبحانه، وأنه في وقت ضره يذكر، ووقت النعمة ينسى.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للعباد بأن يكثروا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وألا ينسوا ربهم سبحانه فقال: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في وقت الرخاء).
فالإنسان إذا كان في وقت رخائه يكثر من الدعاء، ويكون صوته مسموعاً في السماء، فإذا جاءه بلاء فالله سبحانه وتعالى يكشفه عنه لكثرة ما كان يدعو قبل ذلك، فهو يدعوه في الضراء وفي السراء.
أما الذي لا يذكر ربه إلا في وقت النقمة ووقت البلاء فهذا لا يستحق كشف بلائه إلا أن يتغمده الله عز وجل برحمته.
فإذا أردت أن يستجيب الله لك ويكشف ما ينزل بك من الشدة فأكثر من الدعاء في وقت رخائك يستجب لك في وقت بلائك.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(341/7)
تفسير سورة الزمر [8 - 9]
أخبر الله جل وعلا أن الإنسان بفطرته البشرية إذا مسه ضر لجأ إلى ربه بالدعاء، وجأر إليه بأصناف شتى من الأدعية، ومجرد ما أن يحصل على مبتغاه إذا به ينسى ما كان يدعو إليه من قبل، وليس هذا حال المؤمنين، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.(342/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:8 - 9].
يذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة الزمر طبيعة موجودة في كل إنسان إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وهو أنه إذا كان في وقت البلاء وفي وقت الضر يجأر إلى الله سبحانه، ويرفع يديه، ويعبد ربه سبحانه تبارك وتعالى، ويطلب منه أن يبعد عنه البلاء ويقول: يا رب يا رب! فإذا كشف الله عز وجل عنه الضر وأعطاه من نعمه سرعان ما ينسى ربه سبحانه، وينسى شكر هذه النعمة، ويستقل نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، وينظر إليها أنها قليلة، وينظر إلى غيره ويطمع فيما أعطى الله عز وجل غيره.
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر:8] أي: شيء من الضر، {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا} [الزمر:8] أي: راجعاً إليه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر:8] أي: ملكه وأعطاه نعمة منه {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8] أي: نسي دعاءه لربه من قبل، فنسي التوحيد ونسي دعاءه ربه سبحانه أن يكشف عنه البلاء وأشرك بالله {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8]، والند هو النظير والشريك، فجعل لله شركاء يدعوهم من دون الله سبحانه تبارك وتعالى.
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وقراءة رويس عن يعقوب: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}، فهي من الرباعي من (أضل) أي: أنه أضل غيره، ومن الثلاثي من (ضل) أي: ضل هو بنفسه، فهنا معنيان: ضل عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى بأن دعا غير الله فصار في ضلالة، ودعا غيره إلى أن يعبدوا غير الله فأضل غيره عن عبادة الله سبحانه، فهو يضل لا يهتدي، يضل: يزيغ عن طريق الحق، ويتبع الباطل، ويضل غيره: يتسبب في إضلال الغير.
قال سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] أي: لهذا الإنسان الجاحد نعم الله عز وجل عليه، الكافر بربه سبحانه، الذي ينسى ربه في وقت رخائه، ويدعو إلى ربه في وقت بلائه: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8]، مهما تمتعت بهذا الكفر، وبهذا الذي تصنعه، وبهذا الضلال فهو قليل مهما عشت في هذه الدنيا، فتمتع قليلاً بهذا الذي أنت فيه: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، هذا الجزاء وهذه نهاية هذا الإنسان أن يكون في النار والعياذ بالله، جزاءً وفاقاً.(342/2)
تفسير قوله تعالى: (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً)
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، (أمن هو) هذه الكلمة فيها قراءتان: قراءة نافع وابن كثير وحمزة: {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}، وقراءة الجمهور: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}، وفيها معنيان: الهمزة هنا إما بمعنى الدعاء فتكون بمعنى: يا من هو قانت آناء الليل! ساجداً وقائماً يدعو ربه، ويرجو رحمة الله عز وجل، تمتع بعبادتك الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، واستمتع بالجزاء الحسن يوم القيامة، فكأنه يقول: إن الكافر عبد غير الله وضل وأضل فقيل له: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8]، والذي هو قانت لله سبحانه، وداعٍ ربه، وساجد ومصلٍ، وعابد لله، تمتع بعبادتك فإنك من أصحاب الجنة.
فهذا معنى من المعاني على قراءة (أَمَن هو)، والمعنى الآخر: (أمّن) فهي همزة الاستفهام، وكأنه يقول: هذا الكافر خير أم المؤمن؟ فكأن المعنى في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هل هذا خير أم الإنسان الذي كفر بالله سبحانه؟ فهذا على قراءة (أمَّن).
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:9]، والقانت هو المطيع الخاشع والمذعن لله سبحانه تبارك وتعالى، الذي يطيع ربه سبحانه وهو قانت قائم في صلاته.
{آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] أي: ساعات الليل.
{سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] أي: يراوح بين القيام وبين السجود، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه سئل عن أحب الصلاة وأفضل الصلاة فقال: (طول القنوت)، وهذا الحديث في مسند أحمد أي: طول القيام.
وروى الإمام مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت).
وهذه الهيئة من أفضل الهيئات في الصلاة، وأفضل منها السجود، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في السجود: (إنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فحري أن يستجاب له)، والسجود أفضل وأخشع هيئة يكون عليها العبد، ولكن القيام فيه فضل بسبب الأذكار، فالسجود لا يجوز فيه قراءة القرآن فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة في الركوع وفي السجود، ولكن في القيام يجب عليك أن تقرأ فيه القرآن فصار أشرف ما يكون في القيام هو قراءة القرآن، وأفضل هيئة يكون عليها العبد السجود فذكر الله الهيئتين {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فقيل له: لمَ تفعل ذلك؟ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان يقوم من الليل وقتاً طويلاً كما أمره الله سبحانه في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2 - 4]، فكان فرضاً عليه فقام قياماً طويلاً، ثم نسخت الفرضية فلم يترك القيام صلوات الله وسلامه عليه بل جعلت قرت عينه في الصلاة والتقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
وكأن من أفضل ما يكون أن تقرأ قراءة طويلة في الصلاة، وهذا إذا كنت وحدك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم أحياناً بسورة البقرة، وسورة النساء، وسورة آل عمران، وذات مرة قام صلى الله عليه وسلم فقرأ في ركعة واحدة بسبع سور طوال من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، قرأ بها صلوات الله وسلامه عليه في ليلة واحدة وهذه الهيئة ليس كل إنسان يطيقها؛ ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة في قيام الليل، لكن في صلاته بأصحابه كان يطيل إطالة لا يشق عليهم بها صلوات الله وسلامه عليه، فيقرأ في صلاة الفجر من الستين إلى السبعين آية أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويقرأ بما لا يشق على الناس.
وجاء في الحديث نفسه أن رجلاً بعد أن سأله عن أفضل الصلاة قال: (أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده، وأريق دمه) أي: جاهد في سبيل الله بنفسه، وأفضل شخص من فقد جواده وقتل في سبيل الله فهذا أفضل ما يكون، (قيل: يا رسول الله! أي الهجرة أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من هجر ما كره الله عز وجل)، وهي الهجرة الدائمة، أما الهجرة من مكة إلى المدينة ففرضت في وقت معين، وبعد ما فتحت مكة انتهى الفرض؛ لأنه قبل الفتح كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة وفريضة على كل مسلم.
فالهجرة المقصودة في الحديث هي هجرة الذنوب والمعاصي، فتهجر ما يكره الله سبحانه تبارك وتعالى.
(قال الرجل: يا رسول الله! فأي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وهذا أفضل المسلمين، الإنسان الذي يأتمنه الناس على دمائهم وعلى أعراضهم، والذي لا يخاف منه الناس، ولا يخافون بطشه وبأسه، ولا يخافون غدره وخيانته، الذي يأتمنونه فهم يسلمون من لسانه فلا يتكلم فيهم بما يسوءه ويسلمون من يده فلا يؤذيهم.
(قال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)، فالذي يموت على التوحيد وجب له أن يدخل الجنة، هذه موجبة، والموجبة الأخرى من أشرك بالله وهذه التي تلزمه أن يكون من أهل النار والعياذ بالله.(342/3)
معنى قوله تعالى: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)
يقول الله سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، هذه فيها زيادة على الصلاة، فالإنسان يصلي الصلوات التي كتبها الله عز وجل عليه ويزيد على ذلك النافلة وخاصة قيام الليل، فهل يستوي هذا الذي يقوم بالليل مع الذي يترك قيام الليل؟ لا يستويان أبداً.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، هل يستوي أهل العلم مع أهل الجهل؟ هل يستوي من هو عالم بالله بمن هو جاهل بربه سبحانه تبارك وتعالى؟
الجواب
لا، لا يستوي من علم الله سبحانه تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى علماً يحدث في قلبه خشية من الله عز وجل، والعلم المقصود هو الذي يجعل في قلب الإنسان الخوف من الله والذي يورث الخشية، لا العلم الذي يدفع الإنسان للغرور فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهله، وكلما ازداد علماً ازداد تواضعاً وخوفاً وخشية من الله كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
أما بعض الناس فقد يتعلم يباهي بعلمه ويجادل به السفهاء، فيضيع هذا الدين مع أهل الباطل، فهذا ليس العلم الذي يريد الله عز وجل، ولا هؤلاء الذين شرفهم وفضلهم، وإنما يفضل الله ويشرف من استفاد بهذا العلم خشية وتقوى لله سبحانه، فقيد هنا بقوله: {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9] أي: يخاف من الآخرة، ويخاف من حساب الله سبحانه، {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وهنا يؤكد لنا الله في كتابه ما يربي عليه أهل الإيمان من الخوف من الله، والرجاء فيما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: كانوا لنا عابدين بالخشوع لله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يعبد ربه راجياً جنته ومع رجائه يخاف من الله سبحانه، فيكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله، ويخاف من ذنوبه، ولو أنه عبد الله بالرجاء فإنه سيقول: إن ربنا غفور رحيم، فلا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من طاعة الله، بحجة إن ربنا غفور رحيم، والكثير من الناس عندما يقال له: لماذا لا تصلي؟ يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وأنا لا أعمل فحشاء ولا منكراً.
وأي منكر أشد من تركه للصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، فالذي يقول مثل هذا الكلام إنسان جهل عبادة الله سبحانه، ومنّى نفسه بالأماني، وهو مرتكب للكبائر ومع ذلك يحسن الظن بنفسه ويقول: أنا أرجو رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أجل الله لآت، ربنا يخبرنا بذلك، والذي أخبرنا بالأجل أخبرنا بالجنة والنار، والذي يطيع يدخل الجنة، والذي يعصي يدخل النار، وأخبرنا عن عباده الصالحين أنهم يتقربون إلى الله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
فالعبادة تكون بالرغبة فيما عند الله فيطمع الإنسان في رحمة الله، مع الرهبة مما عند الله، فالله جعل للعبادة ركنين: ركن الخوف وركن الرجاء، تعبد ربك بهما، فمهما وقعت في الذنوب فارج رحمة الله، وعليك أن تتوب إلى الله عز وجل، أما أن يصر العبد على الذنب ويقول: أنا أرجو الرحمة، فأين الخوف من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى؟! قال الله عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165].
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يجود بنفسه في مرض الوفاة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تجدك؟) قال: أجدني أرجو رحمة الله، وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو)، فإذا اجتمعت الرهبة والخوف في قلب العبد فإن الله يؤمنه مما يخاف، ويعطيه ما يرجو.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] أي: هل يستوي من يعلم عن ربه سبحانه تبارك وتعالى أنه القوي العزيز سبحانه، وأنه الغفور الرحيم مع من لا يعلم ذلك؟ وهل يستوي الذي يعلم شرع الله سبحانه وهذا الدين المحكم العظيم مع من يجهل دين الله سبحانه؟ فالإنسان الذي يتكلم في الدين لا يجوز له أن يتكلم إلا بعلم من كتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو آية، ولو حديثاً، ولو حكماً شرعياً، واحذر أن تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول عنه ما لم يقل صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: (ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] أي: يتذكر أصحاب القلوب السليمة، وأصحاب الفطر المستقيمة، والبصائر النيرة من أهل الإيمان الذين تنفعهم الموعظة من الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(342/4)
تفسير سورة الزمر الآية [10]
يأمر الله عباده المؤمنين بالتقوى، فلا يخافون لومة لائم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الدين، والالتزام بشريعة الله، وإن وجد العبد نفسه غريباً بين المجتمع فإن له أجراً مضاعفاً عند الله سبحانه، وله مبشرات من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهكذا عاقبة من صبر على الأذى والاستهزاء من قبل العصاة والخارجين عن دين الله سبحانه وتعالى.(343/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
في هذه الآية من سورة الزمر يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بتقوى الله سبحانه تبارك وتعالى فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10] فالمؤمنون هنا يخاطبهم الله عز وجل بذلك، وهم أهل لذلك، والخلق كذلك كلهم مأمورون بأن يتقوا الله سبحانه، وأن يدخلوا في دينه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1]، وهنا يخص المؤمنين ليبين فضلهم وفضيلتهم، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِ} [الزمر:10] ونسبهم لنفسه سبحانه تبارك وتعالى وأضافهم إليه تشريفاً لهم، أي: يا عبادي أنا، فهم عباد الله سبحانه، وكأن غيرهم ليسوا عباده سبحانه تبارك وتعالى، والمعنى عباده الذين وحدوه، في حين أن غيرهم عبدوا الهوى والشيطان، وعبدوا الطواغيت من دون الله سبحانه.
فعباد الله هم الذين آمنوا وصدقوا بما جاء من عند الله سبحانه، عرفوا ربهم فعبدوه وأخلصوا له الدين، فأمرهم أن يستقيموا على ذلك، وأن يحذروا أن يغضبوه سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} أي: اتقوا غضب الله وعقوبته، واتقوا معاصي الله، واتقوا أن تقعوا في الفحشاء وكبائر الذنوب أو صغائرها، كل ذلك يدخل تحت قوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}.
ثم وعدهم بفضله وبكرمه سبحانه فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10] يجازيهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، فيعطي المحسنين في هذه الدنيا حسنة منه سبحانه، والحسنى عظيمة من الله، فيعطيهم الله عز وجل صحة وعافية، ويعطيهم أموالاً، ويعطيهم من نعمه سبحانه ما شاء.
أعطاهم الإيمان وأعطاهم من فضله حسنة في الدنيا، فإذا أعطاهم في الدنيا فهي بشارة في الآخرة من أن لهم فوق ذلك بشرط الإيمان، أما الكافر فيعطيه الله عز وجل في الدنيا حتى لا يكون له عند الله عز وجل شيء، ويوم القيامة يوفيه جزاءه وعقابه وحسابه بما قدمت يداه، فكأن العطاء في الدنيا يكون حسنة لهذا المؤمن.
أما الإنسان الكافر فيعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا استدراجاً له، ويعطيه حتى لا يكون له عند الله شيء، قد يفعل الكافر الشيء الذي فيه إحسان كأن يحسن إلى إنسان فيتصدق عليه، وينفع إنساناً آخر، فيفعل شيئاً من الخير، فإذا فعل جازاه الله في الدنيا، وأعطاه صحة وعافية ومالاً وولداً، وأعطاه من الدنيا حتى لا يكون له عند الله شيء.
فإذا جاء يوم القيامة وجد هذا الذي قدمه في الدنيا هباءً منثوراً، فقد جوزي عليه في الدنيا فليس له عند الله شيء، فيوم القيامة يعذبه الله سبحانه على كفره وجحوده وإشراكه بالله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يأخذ الحسنة في الدنيا من فضل الله، وله يوم القيامة الجزاء الحسن.(343/2)
الأمر بالهجرة عند اشتداد الأذى
قال سبحانه: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10] هذه إشارة إلى الهجرة؛ لأن السورة كما ذكرنا سورة مكية، وجاءت والمؤمنون في شدة وصعوبة من العيش، وفي أذى شديد من الكفار، فالله عز وجل يشير للمؤمن إشارة إلى أن يهاجر، فأرض الله واسعة، اخرجوا من هذه الأرض إلى أرض أخرى تعبدون الله فيها، فخرجوا وهاجروا إلى الحبشة بعد خمس سنوات من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فهاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم هاجروا مرة ثانية إلى الحبشة، ثم بعد ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه إشارة لكل المؤمنين في كل زمان، فأرض الله واسعة، فما الذي يجعلكم تمكثون في أرض تفتنون فيها؟! فإذا كان المؤمن في أرض يجبر فيها على أن يكفر بالله سبحانه، وعلى أن يواقع الفواحش وما يغضب الله، فإن الله يأمره أن يهاجر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]، فليس للإنسان عذر أن يقول: كنت مستضعفاً طالما أنه لا يتمكن من إقامة دينه، ولا يتمكن من عبادة الله وتوحيده في المكان الذي هو فيه، فيجبر على الكفر بالله وعلى ارتكاب الفواحش، فليس له عذر أن يقول: أنا مستضعف فيها، هاجر من هذا المكان واذهب إلى مكان آخر، خذ بالأسباب حتى ينجيك الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة.
الذي يمكث في أرض فيها الفتنة فيترك الصلاة والصوم وعبادة الله، ويقول: أنا مستضعف، ليس له عذر عند الله عز وجل، ليس لك عذر في ترك الصلاة ولا ممارسة الفواحش، قال صلى الله عليه وسلم: (من وجد منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، إذا وجد منكراً هل ينكر بأن يفعل هو هذا المنكر ويقع فيه ثم يدعي أنه مستضعف في الأرض؟ لا، ليس له عذر في أن يترك صلاته وعبادته ويقول: أنا مثلي مثل الناس، وهذا مثل بعض الناس الذين يذهبون إلى بلاد الكفر فيؤذيهم أهل الكفر، وتجد المرأة في هذه البلاد كانت محجبة ومنقبة فتخلع حجابها ونقابها وتمشي بين الناس كاشفة الرأس وتقول: أنا مستضعفة! من الذي ألزمك أن تكوني بين الكفار وفي ديارهم ثم تقولين: إنني مستضعفة؟! وكذلك الرجل يقول: لو رأوني أصلي طردوني من العمل، لا ما أصلي في هذا المكان، هل عذرك أنك تترك صلاة لله سبحانه تبارك وتعالى بدعوى أنك تعمل في بلاد الكفار؟! ويقول: أنا مضطر في طبخ الخنزير وتجهيز الخمر! فما هو عذره في هذه الأشياء؟! ليس له عذر فيها، ولا يجوز له أن يمكث في ديار يفتن فيها في دينه، لم يعذره الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97] يعني: ما الذي جعلكم ترتكبون المعاصي وتمكثون في هذه الأماكن التي فيها الفواحش؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
واستثنى الله سبحانه فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]، فهنا عذر الله سبحانه تبارك وتعالى الإنسان الضعيف الذي حاول وأراد أن يخرج من بلاد الكفر، فأسروه وحبسوه وأجبروه، فهذا الذي استضعف لا يستطيع حيلة ولا يجد وسيلة للهرب، فهذا هو المضطر اضطراراً حقيقياً، أما الإنسان الذي يزعم أنه ليس قادراً على السفر، فنقول: جرب واعزم على السفر، فإذا لم تستطع كان لك العذر عند الله سبحانه.(343/3)
عظم الصبر على البلاء
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] الصابرون يوفون الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، وأتى بأداة الحصر هنا كأن هؤلاء اختصهم الله سبحانه تبارك وتعالى بأن قربهم منه وأعطاهم الفضل العظيم، وابتلاهم في الدنيا فكان البلاء عليهم شديداً جداً، وعندما نقرأ في سير الصحابة والتابعين وغيرهم من الصالحين نرى كيف ابتلى الله عز وجل هؤلاء الصحابة الابتلاء العظيم، أوذوا وعذبوا في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، فتمسكوا بدينهم وصبروا عليه حتى تكون لهم الآخرة، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
فصبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عيشهم في مكة عيشاً شديداً، فصبروا على الجوع حتى إنهم ليأكلون الأشياء الشديدة، وكانوا لا يجدون ما يأكلونه فيربطون الحجارة على بطونهم، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في مكة، وفي المدينة فعل صلوات الله وسلامه عليه.
حوصروا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يأتيهم أحد من خارجهم بطعام، ولا يمكن أن يتزوج منهم إنسان من مكة من غير المؤمنين، فضيقوا عليهم أشد التضييق، وصبر المؤمنون مع النبي صلوات الله وسلامه عليه على دين الله رب العالمين عندما ابتلاهم الله سبحانه بالأذى من هؤلاء الكفار.
فكانوا يأخذون بلالاً فيسحلونه على الأرض ويجرجرونه على ظهره على الأرض في حر الظهيرة، في درجة حرارة تجاوزت ستين درجة مئوية في صيف مكة المتقد الصعب الشديد، يجرجرونه على الأرض ويضعون فوق صدره الصخرة العظيمة وهو يقول: أحد أحد، لا يفتن عن دينه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويصبر على ذلك أعظم الصبر.
وآل ياسر يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، يعذبون ويعلقون، وتقتل سمية أم عمار، يطعنها أبو جهل بحربة في قبلها فيقتلها لعنة الله عليه، فتكون شهيدة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ولا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلصهم من هؤلاء فيمر بهم ويصبرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه خباب رضي الله تبارك وتعالى عنه، كانوا يلقونه على جمر على ظهره، فلا يطفأ هذا الجمر إلا ودك ظهره رضي الله تبارك وتعالى عنه، يفعلون به هذا الفعل البشع حتى إنه يكاد أن تزهق روحه في ذلك ويصبر على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.
صبروا لأمر الله فنجاهم الله سبحانه تبارك وتعالى مما كانوا فيه من الأذى حتى فتح الله عز وجل للمؤمنين الفتح العظيم، وجاء نصر الله، وبشر الله سبحانه تبارك وتعالى هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيل الله بالأجر العظيم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، الصابرون لا يوفون إلا هذا الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يعطون إلا ما يليق بالله عز وجل أن يعطيه لهم، فيوفون أجرهم بغير حساب، فيعطى الإنسان الحسنة بعشر أمثالها، والآخر الحسنة بسبعمائة، وهذا يدخل الجنة بدون حساب، خذ ما شئت، فيعطي الله عز وجل لهذا الصابر الأجر بغير حساب.
والصابرون ذكرهم الله عز وجل في كتابه سبحانه، ومدحهم جل وعلا، ومن أعظم ما يعطيهم أن يعطيهم الأجر بغير حساب ولا نهاية، وكذلك يكون موقفهم بين يدي الله عز وجل يسيراً، فصبروا على الجوع والأذى، وصبروا على هذه الدنيا، فإذا أتوا يوم القيامة وقيل لهم: نحاسبكم، قالوا: علام نحاسب؟ لم تعطنا مالاً فتحاسبنا عليه، وقد ابتلينا في كذا وكذا فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فلا يقفون مع الناس موقفاً طويلاً، ولكن حساباً يسيراً، ويدخلون إلى جنة الله سبحانه تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
روى الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر)، إن الله سبحانه تبارك وتعالى يعطي العبد العطاء منه سبحانه، فمن أعظم ما يعطاه العبد الصبر، فيصبر، والصبر أنواع، يصبر على طاعة الله فلا يزال مستقيماً على صلاته وصيامه، وعلى كل عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك يصبر على ترك المعاصي، لا تفعل كذا لا تفعل كذا فيبتلى، وتأتيه الأشياء من الدنيا أمام عينيه لينظر إليها فيغض طرفه ولا ينظر إليها، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يمد يده ولا لسانه ولا شيئاً إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا من فضل الله عز وجل عليه.
كذلك يصبر على قضاء الله وقدره إذا نزل به البلاء، فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
هؤلاء هم الذين مدحهم الله بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فهؤلاء الصابرون لهم هذا الأجر والفضل من الله عز وجل أولاً وآخراً، فهو الذي مدحهم سبحانه تبارك وتعالى بإيمانهم، وهو الذي وفقهم لهذا الإيمان.
فيكون الإيمان فضلاً من الله وهبة منه سبحانه، أن هدى الشخص إلى الهدى والإيمان، ثم رزقه الصبر سبحانه، ثم ابتلاه فصبر بما رزقه الله، ثم أعطاه الجنة فضلاً من الله ونعمة منه، (ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر).
كذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم)، انظر! يقول لأصحابه: سيأتي بعدكم أيام الصبر، وكأنه قال هذا الشيء بعدما فتح الله عز وجل لأصحابه شيئاً من الدنيا، فأخبرهم أنه ستأتي أيام أخر أشد فتناً مما أنتم فيه، وهذه الأيام يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن المتمسك فيها بدينه له أجر كبير، فقال: (المتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه) الصحابة متمسكون بالكتاب والسنة، متمسكون بأمر الله وبعبادة الله سبحانه، كذلك من يتابعهم في ذلك ويتمسك بأمر الله عز وجل له أجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث.
وفي حديث آخر عند الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (له أجر خمسين شهيداً)، بشارة من الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن يتمسك بدين الله سبحانه تبارك وتعالى في وقت غربة هذا الدين، وفي وقت كل الناس على غير دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
حتى من يقول: أنا مسلم ينكر على الإنسان المتمسك بدينه، ويستهزئ به، يقول: أنا مسلم وأنا أصلي وأنا كذا، ويسخر منك لأنك لك لحية، ويسخر منك لأنك تلبس ما كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم من قميص وثياب، فيسخر من المؤمن، فلا يجد من يعينه على طاعة الله، بل يجد من يصده ويمنعه عن طاعة الله.
فهذا المؤمن كالقابض على الجمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فله أجر خمسين شهيداً)، وهذا مما يطمئن المؤمن أن يجد نفسه غريباً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء) تجد المرأة المؤمنة من حولها يسخرون منها ويقولون: ما هذا النقاب الذي تلبسينه؟ تلبسين خيمة؟ تسوي مثل العفريت؟! فيسخرون منها، فتجد نفسها في غربة بين الناس، فتطمئن بذلك، وتطمئن بذكر الله، وتطمئن بوعد الله، وتثق فيما قال الله سبحانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فيفرح الإنسان المؤمن أن يكون له من الأجور كأجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكأجر خمسين شهيداً، وتكون له الجنة بغير حساب، فاصبروا على أمر دينكم وتمسكوا به، وإياكم والفتن والبدع! واحذروا من الأهواء، والمؤمن يلزم طريق الهدى ولا يضره قلة السالكين، ويحذر من طرق الضلالة ولا يغتر بكثرة الهالكين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(343/4)
تفسير سورة الزمر [10 - 13]
أعظم ما أمر الله به التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والخلوص من الشرك وأهله، والانقياد لله بالطاعة، وقد أمر الله بهذه الأمور في سورة الزمر.(344/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:10 - 13].
أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمؤمنين الذين آمنوا وصدقوا بما جاء من عند ربهم أن يتمسكوا بتقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]، فالله عز وجل ينادي عباده المؤمنين، وهو في القرآن قد يخاطب المؤمنين وقد يخاطب المؤمنين والكفار، وإذا خاطب الجميع قال: يا أيها الناس! وإذا خاطب المؤمنين قال: يا أيها الذين آمنوا! والسور المكية غالباً ما ينادي فيها الجميع ليدخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكنه يخص المؤمنين الذين صدقوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآمنوا بما جاء من عند الله سبحانه، فيقول: يا عبادي! فيشرفهم بإضافتهم إليه سبحانه كقوله في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
فيناديهم: أن اتقوا ربكم، فقد آمنوا وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلوا ما أمر الله عز وجل به، فيقول لهم: تمسكوا بذلك، ولا يزالون على ذلك حتى يلقوا ربهم سبحانه.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر:10] وهذه بشارة من الله سبحانه للمحسنين، والمحسن هو الذي يعبد الله كأنه يراه، وهو الذي يعلم أن الله يجازيه ويحاسبه، فللذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، فالله عز وجل يعطيهم الحسنة في هذه الدنيا فضلاً عما يعطيهم يوم القيامة من الحسنى وزيادة قال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فيكون لهم في الدنيا حسنة وهي ما ينعم الله عز وجل عليهم ويتفضل بأن يرزقهم وأن يعافيهم وأن ينصرهم وأن يكون معهم سبحانه تبارك وتعالى، فيعطيهم المال ويعطيهم الأولاد ويوفقهم للعمل الصالح، وهذه حسنة الدنيا، وأما حسنة الآخرة فهي الإحسان العظيم من الله سبحانه.
قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10]، وهذه إشارة إلى الهجرة، فإن هذه السورة مكية، فقد نزلت والمؤمنون يؤذون وينالون من الشدة والضنك والعذاب من الكفار ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، فيخبرهم أن أرض الله واسعة ويقول لهم: هاجروا من هذا المكان.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فالذين صبروا على الأذى والذين صبروا على الطاعة، والذين صبروا عن معاصي الله سبحانه يوفون أجورهم من الله، ويعطيهم أجوراً عظيمة لا نهاية لها، فالإنسان يعطى على الحسنة بعشر أمثالها، والصابرون يوفون بغير حساب وبغير نهاية فيعطيهم عطاءً غير مجذوذ وغير منقطع فضلاً منه سبحانه.
وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الصابرين الذين يتمسكون بدينهم وما يكون لهم من الأجر، وأنه قد يبلغ أجر أحدهم أجر خمسين من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس معنى ذلك أنه أفضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضل القرون هم قرن النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني) فلا أحد خير من هؤلاء الأفاضل رضي الله عنهم، ولكن هؤلاء الذين جاءوا بعد ذلك ولم يجدوا على الخير معيناً فالله سيعطيهم أجوراً عظيمة حتى يدركوا السابقين برحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، قال الله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 14] أي: جماعات كثيرة من الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، وقلة من الآخرين الذين صبروا على طاعة الله سبحانه فضاعف لهم الأجور ليلحقوا بالسابقين، وأعطى للواحد منهم على صبره أجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ الدرجات ولا يحرمه الله عز وجل من رفقة هؤلاء عند الله سبحانه.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فلو أن إنساناً منا أنفق كقدر جبل أحد ذهباً وأنفق صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مداً أي ملء الكفين أو نصيفه أي ملء كف واحدة فقط كان ما ينفقه الصحابي أعظم مما ينفقه من بعده، فقد وصلوا لدرجات عالية عند الله، ولولا ما لهم من فضيلة لما اختصهم الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في قرنه ويكونوا معه، فالذين من بعدهم يرحمهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويضاعف لهم الأجور؛ لأنه بعمل أحدهم مستحيل أن يصل إلى ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فيضاعف الله له فيعطي أجر الخمسين منهم وأجر الخمسين شهيداً حتى يبلغ منازل هؤلاء فيكرمه الله عز وجل بأن يلحقه بهم.
ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان: الصبر والسماحة) وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، جاء عند ابن أبي شيبة من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم خصال الإيمان الصبر والسماحة، فالإنسان المؤمن الذي صدق بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابع دين الله سبحانه، من خصائصه أنه صابرٌ لأمر الله سبحانه، فهو مطيع يفعل ما يؤمر ولو ناله من المشقة ما ناله، فإنه يفعل ما أمر الله سبحانه وما أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو وقاف عند كتاب الله وعند حدود الله، تنزل به البلايا والمصائب فيصبر على ذلك، فمن أهم خصال المؤمن المصدق بما جاء من عند الله سبحانه أنه صابر على أمر الله سبحانه، والأمر الثاني: السماحة والبذل، فيبذل ويعطي من إحسانه ومن خلقه ومن طيبة نفسه فيعين غيره بما يقدر عليه ولو ببشاشة الوجه وبتبسمه في وجه أخيه المؤمن، فمن خصال الإيمان بل من أعظم خصاله الصبر والسماحة.
كذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث محمود بن لبيد قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع) وهنا علامة إيمان الإنسان أنه يصبر على أمر الله سبحانه، ومن علامة حب الله عز وجل للعبد أن يبتليه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيبتلى الرجل على قدر دينه، وأشد الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة وقوة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه قلة ورقة خفف الله عز وجل له من البلاء.
فابتلى أنبياءه وابتلى الرسل عليهم الصلاة والسلام وابتلى المؤمنين لينظر أيهم أحسن عملاً، (فمن صبر فله الصبر) يعني له جزاء صبره، (ومن جزع) أي: من البلاء بالنفور والاعتراض على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى فله الجزع، ولم يحصل في دنياه سوى الخوف من البلاء والمصائب فكان أن يبتلى يوم القيامة بالعذاب والعياذ بالله.
فالإنسان المؤمن إذا نزلت به البلية تصبر لأمر الله كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فيصبر لأمر الله سبحانه، ولعله لا يقدر فيصابر نفسه ويجاهدها على أن تصبر ويرضى بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى: (وإنما الصبر عند الصدمة الأولى)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يصبر تنزل عليه المعونة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فربنا كريم يبتلي عباده فإن صبروا جاء العون منه سبحانه تبارك وتعالى، وما على العبد إلا الأخذ بالأسباب، والعون من الله.
وصح الحديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: (إن الله تعالى ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء) ولعل الإنسان حين يتخيل أنه لو حصلت مصيبة كذا ما أحد سيصبر على ذلك، فتحدث ويصبّر الله عز وجل من يشاء، فيتعجب الإنسان بصبر إنسان ما على ذلك، فالله عز وجل بفضله وبكرمه هو الذي يعين على هذا الأمر فيتجلد المؤمن ويصبر لأمر الله، فإن الصبر ينزل من عند الله على قلب المؤمن فيتسلى بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، ويتصبر على أمره، والله ينزل الصبر على قدر البلاء.
فالمطلوب من الإنسان أنه إذا نزل به أمر الله سبحانه: أن يتجلد وأن يتصبر وأن يقول كما علمه الله سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، فإذا صبر المؤمن على قضاء الله إذا بالمعونة تأتيه من عند الله والتجلد والصبر ينزل عليه ويعطيه الله عز وجل المغفرة والرحمة ويعطيه الهداية فيهديه في الدنيا وفي الآخرة.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكر(344/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين)
يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11].
هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر: ((قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ))، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يعبد الله سبحانه، وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ومأمورون أيضاً بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومأمورين كذلك بالإخلاص لله، وتوجيه العبادة لله وحده، وألا يشركوا بالله شيئاً، وألا يراءوا وألا يسمعوا، وألا يظهروا للناس شيئاً يبتغون من الناس مدحاً على هذا الذي يظهرونه من عبادة الله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وجه إلى الله العبادة وحده لا شريك له، وأخلص لله فتوجه بقلبه ووجهه وبدنه ونفسه لله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] هو أول المؤمنين وأول المسلمين في هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم تابع من قبله من أنبياء الله ورسله عليه الصلاة والسلام، فهو أول من أسلم نفسه ووجهه لله سبحانه وأخلص قلبه وآمن بربه سبحانه في هذه الأمة.(344/3)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13] أيضاً هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو: ((قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) وحاشا له أن يقع في معصية الله صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه سورة من السور المكية التي يهتم ربنا سبحانه تبارك وتعالى في الآيات التي فيها بتربية المؤمنين على طاعة الله سبحانه وعلى العمل الصالح وعلى الإخلاص لله سبحانه تبارك وتعالى، فهنا ينبهنا إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] أي: يخاف من عذاب يوم القيامة، وظل هذا الأمر إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن أنزل الله عز وجل عليه في سورة الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، وهذه كانت في الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو لا يدري ما الذي يكون معه ومع غيره إلى أن أنزل الله عز وجل عليه في يوم الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]، فجاء الفتح من عند الله سبحانه، مع أن المؤمنين كانوا خارجين من الحديبية على أنهم مهزومون وعلى أنهم مأخوذ عليهم الشروط الثقيلة، وعمر وغيره يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: أو فتح هو؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم إنه فتح.
وكان من أعظم الفتح على النبي صلى الله عليه وسلم، فما فتح على الإسلام من خير إلا بفضل الله عز وجل ثم بما حدث في هذا اليوم فرجع المؤمنون وحدث التواصل بين أهل المدينة وبين أهل مكة، فدخل في دين الله في خلال سنتين أكثر مما دخل فيه قبل ذلك بكثير، فتعرف المشركون على دين الله سبحانه، ولم يزل يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي إليه حتى إنه في يوم الحديبية كان عدد المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم ألفاً وخمسمائة، وفي فتح مكة كانوا عشرة آلاف فكان الفتح بعد ذلك، وبشره الله بأن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يتم عليه النعمة، فأتم عليه النعمة وأكمل له هذا الدين العظيم، فلما كمل الدين توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(344/4)
تفسير سورة الزمر [11 - 16]
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته أن يخلصوا العبادة لله تعالى، والمؤمن لابد أن يحب الله ويخافه، ويحب الجنة ويسأل الله إياها، ويخاف من النار ويتعوذ بالله منها، فالخاسر من دخل النار فخسر ما كان معه في الدنيا وخسر الآخرة، وقد ذكّر الله الناس بالنار وحال أهلها تخويفاً لعباده لعلهم يتقونه سبحانه ويتقون النار.(345/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:11 - 16].
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآية أن يخبر الخلق بأنه مأمور صلوات الله وسلامه عليه بعبادة الله وحده لا شريك، وبذلك بعث صلوات الله وسلامه عليه، بعث ليعبد الله وليأمر الخلق بعبادة الله سبحانه، وهي دعوة كل رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، يدعون إلى عبادة الله، وإلى الإخلاص في العبادة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقال تعالى في سورة الزمر: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11].
وأمر الله عز وجل الأنبياء والرسل أن يقولوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فالله الإله الواحد الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، ولا إله حق سواه سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11] أي: أعبد الله موجهاً له عبادتي وحده لا شريك له، والإخلاص: التنقية، أي: تنقية الشيء من الشوائب وتصفيته، والأخلص: هو العسل الذي نقيته وصفيته مما به من شوائب وكدرات، فكذلك العبادة توجهها لله سبحانه وحده لا شريك له، ولا يكون فيها شوائب شرك بالله سبحانه، وليس فيها رياء ولا سمعة، وليس فيها عمل يبتغى به الأجر من غير الله، أو عمل يقصد به الله وغير الله، ولكن العمل لا يقصد به إلا الله وحده لا شريك له، هذا هو الإخلاص الذي لا تقبل عبادة بدونه.(345/2)
أركان العبادة
العبادة لها ركنان ترتكز عليهما: الركن الأول: الإخلاص في عبادتك، فالعبادة تخرج من قلبك، وتوجهها إلى ربك سبحانه وتعالى، والركن الثاني في العبادة: المتابعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
والإخلاص بغير متابعة لا يصح، والمتابعة بغير إخلاص لا تصح، فالعمل يحتاج إلى ركنين: إخلاص ومتابعة، فتخلص لله سبحانه، ولا تعبد إلا الله سبحانه، ولا تعمل العمل إلا له سبحانه، ولا تبتغي الأجر إلا منه سبحانه وتعالى، وهذا العمل لا بد أن يكون موافقاً لهذه الشريعة حتى تؤجر عليه، فالإخلاص بغير متابعة يوقع العبد في الاختراع في الدين والابتداع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، ويقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
فلو أن الإنسان قال: أنا مخلص، وأنا أحب الله، وأعبده، لكن سأعبد الله بما أريده أنا، وأصلي بالطريقة التي تعجبني، وأصوم بالطريقة التي تعجبني، وكأنه يشرع لنفسه، فإن الله يأبى إلا أن يكون له سبحانه الأمر كما أن له الخلق سبحانه، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهو الذي يخلق سبحانه وتعالى، وهو الذي يأمر سبحانه، وهو الذي يشرع، ولا يجوز لعبد أن يشرع لنفسه ولا لغيره، ولكن الشريعة لله سبحانه، هو الذي يشرع لعباده وهو أعلم بخلقه، وأعلم بما تستقيم به أمور الخلق، فيشرع لهم ما ينفعهم سبحانه وتعالى.
إذاً: العبادة لا بد فيها من أن تتابع هذا الدين، وأن تخلص لله سبحانه وتعالى فيه، حتى تقبل هذه العبادة، فبدأ بنبيه صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهؤلاء جميعهم: {إِنِّي أُمِرْتُ} [الزمر:11]، وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة نافع وأبي جعفر: (قل إنيَ أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين).
والدين لها معان، الدين بمعنى: الشريعة، وبمعنى: العبادة، وبمعنى: الجزاء والحساب، فالدين هنا بمعنى: شريعة الله سبحانه فيما شرع من عبادة، فأعبد ربي مخلصاً له عبادتي، وقال الله تعالى: (وَأُمِرْتُ)، فهو ليس من عند نفسه، بل أمره الله عز وجل بذلك، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، صلوات الله وسلامه عليه، فالله الذي هداه، والله الذي اصطفاه واجتباه، والله الذي علمه ورباه سبحانه وتعالى.(345/3)
تفسير قوله تعالى: (وأمرت لأن أكون أول المسلمين)
قال الله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] أي: من هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الأنبياء والرسل من قبله قد أمروا أن يكونوا من المسلمين فكانوا، وكان آدم على دين رب العالمين، وأسلم نفسه لرب العالمين سبحانه.
وكان نوح مسلماً كما قال تعالى عنه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، وكذلك المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام والحواريون، قال تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].
فدين الله هو دين الإسلام، ودين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والشريعة التي جاءت من عند الله سبحانه أن اعبدوا الله حتى وإن كان الاختلاف بينهم عليهم الصلاة والسلام في أمور تشريع الله عز وجل لهم، وفي الفقه وفي الدين، فالله عز وجل يفعل ما يشاء.
ولكن الدين الذي يتعبدون به لله الإخلاص والتوحيد، فهما شرع كل الرسل، فالخضوع لله والقنوت لله، والإذعان لله، والمتابعة لما يأمر الله عز وجل به، واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، كل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مأمورون بذلك، وهو الإسلام: أن يسلم العبد نفسه لله، فيحكم الله عز وجل فيه بما يشاء سبحانه وتعالى، وأن يوجه العبد عبادته لله وحده لا شريك له.
قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] صلوات الله وسلامه عليه، فأول المسلمين في هذا العصر هو محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أول من أسلم لرب العالمين سبحانه وتعالى، وقبله أنبياء ومرسلون في العصور السابقة مسلمون، ولكن هو أول هذه الأمة إسلاماً صلوات الله وسلامه عليه.(345/4)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: (قل إنيَ أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)، فهو صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول ذلك، وأن يعبر عما أحدث الله عز وجل في قلبه من خوف من الله سبحانه، ومن رهبة منه سبحانه، والعبادة على هذين الأمرين: أمر الرغبة والرهبة.
إذاً: للعبادة ركنان: الإخلاص والمتابعة، وللعبادة وصفان: أن يكون الإنسان يرغب فيما عند الله، ويرهب مما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك وصف أنبياءه ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام بقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
فمن يزعم أن أفضل الدين أن يعبد الله بالرهبة فقط، أي: بالخوف من الله فقد كذب، ومن زعم أن أفضل الذين أن يعبد ربه بالرغبة فقط فقد كذب، إنما دين الله يكون بين الأمرين، وهذا خير العبادة، لا كما يزعم فلان أو فلانة وتقول القائلة من هؤلاء: يا رب! إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها.
فلماذا تعبد الله سبحانه وتعالى وهي لا تريد جنة ولا هي خائفة من النار؟! هذا لا يكون، وكأن هذه تزعم أنها أرقى وأعلى من مراتب الأنبياء والرسل الذين قال الله عز وجل فيهم عليهم الصلاة والسلام: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال عن نبيه سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13]، فهو يخاف من عذاب يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه.
فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه خائفاً من الله، وكم تعوذ بالله من النار، وكم سأل ربه الجنة، فجاء الرجل الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدعو في الصلاة أسأل الله الجنة، وأتعوذ بالله من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ) يعني: أنت تقول كلاماً كثيراً في الدعاء لا أعرف أن أقوله، ومعاذ كذلك يقول كلاماً كثيراً وأنا لا أعرف هذا الكلام، ولكن أقول: يا رب! أسألك الجنة وأخاف من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن)، فلابد أن نخاف من النار فنتعوذ بالله من النار، ونحب الجنة، فنسأل الله عز وجل جنته.
فالإنسان لا يبالغ في دعوى المحبة لله عز وجل حتى يكون في النهاية زنديقاً والعياذ بالله، خارجاً عن دين الله، فلا يصح أن يقول الإنسان لربه: أنا لا أخاف من نارك، أنا لا أريد جنتك، أنا أحبك فقط، هذا لا يكون أبداً؛ لأن العبادة التي تكون لله لا بد أن يكون فيها كمال الحب لله، مع كمال الذل لله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، وقد يكون في الدنيا الإنسان يحب إنساناً فيبالغ في محبته، يحب زوجته ويحب إنساناً أو إنسانة فيبالغ في ذلك، ولكن هو لا يخاف منها، فهذه ليست عبادة، هذه محبة.
وقد يخاف إنسان من حاكم ظالم، يرعب من ذكر اسمه، ولكنه لا يحبه، أما مع الرب سبحانه وتعالى لا بد من الاثنين: كمال الحب لله عز وجل، مع كمال الذل بين يديه، والخوف منه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13] أي: يوم القيامة نسأل الله العفو والعافية.(345/5)
تفسير قوله تعالى: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني)
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، انظر التوجيه ليبث العقيدة ويثبتها في القلوب، بدأ بنبيه صلى الله عليه وسلم، هذا حاله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو؟! فكيف بغيره؟! فكل إنسان يحتاج إلى أن ينقي قلبه من الشرك بالله سبحانه، وأن يوجه عبادته لله سبحانه، وأن يحب الله سبحانه، وأن يخاف منه سبحانه وتعالى، وأن يتابع دينه سبحانه كتاباً وسنة، وأن يخلص له سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14] الأصل: قل: أعبد الله، ويتقدم الفعل على الفاعل والمفعول، أي: أعبد أنا الله، ولكن حين يقدم المفعول على الفعل، فهذا لمزيد التأكيد والاختصاص، والمعنى: الله وحده لا شريك له، فلو قال: أعبد الله، فقد يحتمل الكلام أنه يعبده ويعبد غيره، فلمزيد من التأكيد يقول: إياك نعبد وحدك يا رب، لا أعبد أحداً غيرك، فقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} قدم لفظ الجلالة وموقعه هنا المفعول، فقدمه على الفعل وعلى الفاعل للاختصاص والتأكيد على أمر التوكيد، أي: أنا أعبد الله وحده لا شريك له، وكلامه لا يحتمل غير ذلك، فلا يحتمل شركاً بالله سبحانه، أو أن يعبد الله ويعبد غيره سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا} [الزمر:14] أي: موجهاً عبادتي له وحده سبحانه، وقوله: {مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أي: عبادتي، وطاعتي، وتقربي، أتقرب إليه وحده لا شريك له.(345/6)
تفسير قوله تعالى: (فاعبدوا ما شئتم من دونه)
قال الله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15]، وليس الأمر هنا أمر إباحة ولا طلب، ولكن أمر تهديد ووعيد، كقوله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] أي: إنه بما تعملون عليم سبحانه وتعالى وخبير، فالله بصير بالعباد، وعليم وبصير بهم، فهو يقول لهم: اعملوا ما شئتم، سنجازيكم أشد الجزاء، وأشد العقوبة، فكذلك قوله هنا: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ} [الزمر:15]، ليس معناه: إباحة، والذي يريد أن يعبد شيئاً يعبده، ليس معناه كذلك، وكذلك قوله سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، ليس معناه: كونوا مثلما أنتم على هذا الدين الباطل، فدينكم لكم وأنتم تجازون عليه، ولكم أجر من الله عليه، ليس معناه ذلك، ولكن المعنى: ديني يختص بي، فلي الجزاء عند الله سبحانه، والتوحيد أنتفع أنا به، وأنتم في شرككم، لا تنتفعون بما أنتم عليه طالما أصررتم على ذلكم، فجزاؤكم عليكم بسبب كفركم، وبسبب اتخاذكم غير الله أنداداً وشركاء، فدينكم وشؤم ما أنتم عليه من عبادة غير الله يختص بكم، فالجزاء عليكم يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: الدين القيم الذي أُثاب عليه، وعليكم وبال شؤمكم فيما اتبعتم من باطل وشرك بالله سبحانه وتعالى.
فقال تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ} فالأمر هنا للتهديد والتوبيخ لهؤلاء فيما يعبدون من دون الله.
قوله تعالى: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقرأها: (ما شيتم) الأصبهاني عن ورش، وأبو جعفر وأبو عمرو أيضاً بخلفه ويقف عليها حمزة هكذا: (فاعبدوا ما شيتم).(345/7)
معنى قوله تعالى: (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]، فقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الهالكين، وقوله تعالى: (الَّذِينَ خَسِرُوا) أي: الخسران الحقيقي، فالتاجر في الدنيا يقول: أنا خسرت في تجارتي ألف جنيه، هذا خسران، والثاني يقول: أنا خسرت ألفين، أنا أشد منك، والثالث كذا، والرابع يقول: أنا خسرت كل شيء، فإذا كان هذا في الدنيا، فكيف بالذي خسر الآخرة كلها، وليس له أي ثواب على ما فعل في الدنيا؟! هؤلاء هم الخاسرون الخسران العظيم، هلكوا يوم القيامة فكانوا من أهل النار، هذا هو الخسران الحقيقي؛ إذ خسر نفسه، وخسر ماله، وخسر أهله، فقد كان هذا الرجل الكافر في الدنيا له أهل وبنون وزوجة ومال، له في الدنيا ما له من أعمال ومن أنصار، فلما جاء يوم القيامة لم يضع منه هؤلاء فقط، بل ضاعت منه نفسه وخسرها، والإنسان في الدنيا يحتاج للمال ويحتاج للأولاد ويحتاج للأفراد الذين معه من أجل أن يتقوى بهم ويتعزز بهم، فيفتخر ويقول: عندي مال، وعندي أهل، وعندي كذا، فيخسر ويفقد ذلك من لحظة موته، فيضيع الذي يموت وينتهي أمره، إذ إن الأهل والأولاد تركوه فصار في القبر وحده، فإذا به يوم القيامة يؤمر أن يدخل النار، قال تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، فخسر نفسه التي كان يفديها بأي شيء، فكان من أهل النار.
فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:15] أي: خسراناً حقيقاً، خسراناً لا نجاح بعده.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] أي: في الدنيا كان له الأهل والولد، فيستمتع بذلك، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فلما دخلوا النار خسروا هؤلاء، فليس له زوجة يستمتع بها في النار، وإذا كانت زوجته كافرة مثله فهي في النار وهو في النار، لا ينتفع أحدهما بالآخر.
كذلك ما من مخلوق يخلقه الله عز وجل من هؤلاء البشر إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، مؤمناً كان أو كافراً، فيخلق الله عز وجل هذا المنزل هذا وهذا المنزل، فإذا حرم هذا الإنسان من الجنة يزاد له في عذابه فيقال له: انظر أين كنت ستكون! هذا منزلك في الجنة لو أنك عبدت الله سبحانه وتعالى، فهذا أشد ما يكون على نفسه، إذ ينظر إلى القصر وإلى الحور العين، كل ذلك خسره، وهذا الخسران المبين، قال تعالى: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]، فخسر ما كان سيكون له من أهل لو أنه عبد الله سبحانه وتعالى، خسر نفسه وخسر هذه الجنة وخسر الأهل فيها، فكان في النار وحيداً لا أهل له يستمتع بهم فيها، ولا شيء يرفع عنه العذاب ولا يخفف عنه.
وقوله تعالى: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} [الزمر:15] هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (وأهليهُمْ).
{أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] أي: الخسران المبين المفصح عن نفسه، المبين لحال صاحبه، تقول: بان الأمر، يبين الأمر، بين الأمر، فهو بين هذا الأمر، بين يعني: واضح جلي.
إذاً: هو الخسران الجلي الذي لا يستطيع أحد أن يقول: هذه ليست خسارة، ففي الدنيا خسران في مكان، ونجاح في مكان آخر، لكن هذا خسران لا نجاح فيه ولا ربح بعده، قال تعالى: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]، خسرانهم يبينه ربهم سبحانه أنهم دخلوا النار.(345/8)
تفسير قوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظل)
قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، لهم من جهنم مهاد، ومن فوقهم غواش، فالمهاد نار والعياذ بالله، ولحافه الذي يغشى به ويتغطى به نار والعياذ بالله.
والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهذه نار لهم من فوقهم كالظلل، أي: طبقات من نار، ومن تحتهم النار كذلك طبقات، بعضها فوق بعض، فهم في دركاتها، هذا أسفل، وهذا أسفل منه، وهذا أسفل منه.
قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16] أي: أغشية وطبقات من النار، ومن تحتهم ظلل، وذلك العذاب الرهيب الأليم يخوف الله به عباده، قال تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16]، فالله يريد من عباده أن يخافوا منه سبحانه، وحتى يخافوا من الله ويحدث لهم الرهبة في قلوبهم قال: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]، ينادي الله عز وجل على عباده: اتقون، خافوني، ارهبوني، اخشوا يوم القيامة، احذروا الوقوع في الشرك، ومعاصي الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (يَا عِبَادِ) قرأها رويس في حالة الوقف والوصل: (يا عبادي فاتقون).
وقوله: (فَاتَّقُونِ) يقرؤها يعقوب: (فاتقوني) إذا وقف عليها، وإذا وصلها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(345/9)
تفسير سورة الزمر [17 - 18]
مدح الله المؤمنين الأبرار الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وكفروا به، ووصفهم سبحانه بأنهم يستمعون الكلام فيتبعون أحسنه، وهو الموافق لكتاب الله سبحانه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان جزاء هؤلاء المؤمنين أن هداهم الله إلى الحق، وذكر أنهم أولو الألباب وأصحاب العقول السليمة.(346/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17].
أخبر الله سبحانه وتعالى عن حال الكفار وعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، فاستحقوا الخسران المبين يوم القيامة، فخسروا أنفسهم وأهليهم، ودخلوا النار فكانوا وحدهم فيها، لا أهل لهم، لا مال لهم، لا ولد لهم، فقد خسروا كل شيء، خسروا حتى أنفسهم، فذلك هو الخسران المبين.
والنار كما ذكرنا دركات بعضها أسفل بعض، قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، فوقهم أطباق من النار، وتحتهم أطباق من النار، ووصف الله عز وجل هذه النار بأنها الحطمة التي يحطم بعضها بعضاً، وأنها نار السعير الملتهبة المشتعلة، {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:7 - 8]، فهذه نار جهنم موصدة عليهم، ولو كانت مفتوحة ما قدروا أن يهربوا منها، ولكن زيادة في التنكيد والتنكيل والعذاب قال: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:8 - 9] أي: هناك عمد ممددة على أبوابها فلا تفتح لهم أبوابها أبداً والعياذ بالله.
ثم بعد ذلك أخبر الله عن المؤمنين وحالهم في الدنيا فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} القرآن يرهب ويرغب، ويخوف ويطمئن، وينذر ويبشر، فلما أخبر عن حال الكفار أهل النار أخبر عن حال المؤمنين الأبرار الذين اجتنبوا عبادة غير الله سبحانه، اجتنبوا عبادة الطاغوت، وكفروا بالطاغوت كما أمرهم الله سبحانه، قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].(346/2)
حقيقة الطاغوت ومعانيه
الطاغوت في الأصل من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، والطاغوت المخلوق هو الذي يجاوز حده فيدعي لنفسه ما ليس له، فيدعي أنه يستحق أن يعبد من دون الله، أو أن يعبد مع الله سبحانه، أو أنه يعلم ما لا يعلمه إلا من علم الغيب ونحو ذلك، فعلى ذلك يدخل في الطاغوت كل إنسان تمرد على طاعة الله سبحانه، وطغى وجاوز حده، وزعم أنه يستحق أن يعبد من دون الله كفرعون وغيره ممن زعم أنه للناس رب، فقال فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فكان طاغوتاً لعنة الله عليه.
كذلك النمرود زعم للناس أنه الرب وأنه يحيي ويميت فكان طاغوتاً.
إذاً: الطاغوت هو كل من عبد من دون الله، أو ادعى لنفسه أنه يستحق أن يعبد وأنه إله أو أنه رب، كذلك الطاغوت كل من كان رأساً في الضلالة، فهذا هو الطاغوت، ولذلك أخبر الله سبحانه عن المنافقين الذين يزعمون الإيمان ومع ذلك يتحاكمون إلى الطاغوت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] أي: هؤلاء أناس من المنافقين زعموا أنهم آمنوا بالله وباليوم الآخر، فلما اختلف بعضهم مع بعض اليهود في أمر من أمور الدنيا وفي حطام من حطام الدنيا، إذا باليهودي كان على حق فيريد أن يتحاكم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه لا يقبل رشوة صلوات الله وسلامه عليه، ولا يحكم إلا بالحق عليه الصلاة والسلام، لكن هذا المنافق الذي يزعم أنه مسلم يأبى ويطلب من اليهودي أن يذهب معه إلى الضليل كعب بن الأشرف وهو رجل من كبار اليهود، يأكل السحت ويأكل الرشوة، فطلب المنافق من اليهودي أن يتحاكما إلى هذا الطاغوت، ولما يسأل المنافقون عن ذلك تجدهم يتعللون فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن خشينا أن نرهقك بأسئلتنا، وأن نشق عليك، ففضحهم الله سبحانه بأنهم كذبوا، وأنهم ما أرادوا ذلك إلا لكون هذا الكافر الضليل كعب بن الأشرف يحكم بالباطل، ويأكل الرشوة على الحكم، فمن أكل الرشوة على الحكم كان داخلاً تحت هذا المسمى الطاغوت.
إذاً: من كان كبيراً في قومه يدعوهم إلى الضلالة والبعد عن الله فهو طاغوت.
والطاغوت يطلق أيضاً على الأصنام التي صنعوها وعبدوها من دون الله.
والطاغوت يطلق على الشيطان؛ لأنهم عبدوا الشيطان من دون الله سبحانه.
كذلك الطاغوت يطلق على الكهنة والعرافين؛ لأنهم يزعمون أنهم يعلمون الغيب من دون الله سبحانه وتعالى، أو أن الله أطلعهم على أشياء من الغيب، فيخبرون أنهم علموا كذا وسيحدث كذا، والشيء المسروق في المكان الفلاني، فهؤلاء من الطواغيت.
والطاغوت يطلق على مردة أهل الكتاب الكبار منهم الذين يدعون إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
وعموماً يطلق هذا اللفظ على كل مجاوز لحدَّه في معصية الله سبحانه وتعالى، وفي الطغيان، وفي الكفر.(346/3)
حال المؤمنين مع الطاغوت بكل أنواعه
قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} أي: المؤمنون ابتعدوا عن هؤلاء ولم يعبدوا إلا الله سبحانه؛ لأنهم لم يغرهم الشيطان فلم يتبعوه، ولم يعبدوا وثناً من دون الله، ولم يتابعوا الكفار في الأرض وإنما اتبعوا دين الله سبحانه، ولم يشرعوا للخلق خلاف ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وأيضاً كل من شرع عبادة أو حكماً بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى فهو طاغوت.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر:17] رجعوا إلى ربهم سبحانه، {لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر:17] أي: يبشرهم الله سبحانه وتعالى وهم في الدنيا بأن لهم عند الله المنزلة العظيمة والمنزلة الحسنة، وأن لهم الحسنى وزيادة، لهم جنة الله سبحانه التي أخبر عنها في كتابه، والتي بشر بها المؤمنين فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ}.
قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} يقف عليها يعقوب: ((فبشر عبادي)) بالياء، وكذلك إذا وصلها يقول: ((فبشر عبادي))، وكذلك السوسي عن أبي عمرو له أربعة وجوه في هذه الكلمة، فهو إما أنه يقف عليها بالياء ((فبشر عبادي)) فإذا وصل فيصلها بالكسرة فقط فيقول: (فبشر عبادِ)، وإما أنه في الحالين كـ يعقوب هذا وجه آخر له، وإما أنه في الحالين على عدم الياء فيقول: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} في حال الوقف والوصل، ولكن على قراءة السوسي تكون الياء مفتوحة فيها (فَبَشِّرْ عِبَادِيَ).(346/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، القول هو الكتاب والسنة، وهذا هو أحسن القول، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، فالمؤمنون يستمعون أحسن القول وهو ما جاء في القرآن وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما عدا ذلك من الكلام فلا يتبعونه، فهم يتبعون أحسن القول، وأحسن الحديث.
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتبع الحسن ويترك القبيح، أو يتحدث بالحسن ويترك القبيح، هؤلاء سمعوا كلام الله وكلام رسول الله صلى فاتبعوه, وسمعوا من دعاهم إلى الضلال فلم يتبعوه.(346/5)
علاقة هداية الناس وإضلالهم بالقضاء والقدر
قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: هداهم الله للإيمان، وهذا أمر الله سبحانه وتعالى الذي يؤكده في قلوب المؤمنين أن الهدى هدى الله سبحانه، وأنه منة من الله أن يمن على المؤمنين بالهدى، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله.
والله له التقدير سبحانه فهو يقدر ما يشاء، خلق عباده وأمرهم أن يؤمنوا بالقضاء والقدر، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويؤكد على هذا المعنى في السور المكية، وأيضاً في السورة المدنية، ولكن أكثر ما يكون في السور المكية، وأصول الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.
فقضاء الله وقدره يؤكد على المؤمن أن يؤمن به، ولا شيء يكون في ملك الله لا يريده الله سبحانه، ولكن يوجد في ملك الله ما لا يحبه الله، فإذا ذكر أنه لا يريد كذا ولا يحبه وكان هذا الشيء موجوداً في ملكه فهو من الإرادة الكونية، فهذا الكافر يوجد في ملك الله، والله لا يحب الكافر ولكن أوجده الله لحكمة منه سبحانه وتعالى، بخلاف المشيئة فإنه لا يكون إلا ما شاءه سبحانه.
إذاً: يؤكد الله على المؤمن الإيمان بالقضاء والقدر، فيؤمن أن كل شيء يجري في كون الله بقضاء الله سبحانه، ولذلك لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال: هل نحن نعمل في شيء قد فرغ منه أو في شيء نستقبله؟ فأخبر أنه قد جرى في قضاء الله وقدره أن فلاناً في الجنة وفلاناً في النار، وفلاناً شقياً وفلاناً سعيداً، فقالوا: لم العمل طالما أنه مكتوب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
كأنه منعهم من الجدل في أمر القضاء والقدر؛ لأنه امتحان من الله سبحانه، هل تؤمن أو لا تؤمن؟ الله عز وجل يخبرك عن الجنة ويخبرك على النار، ولم يخاطب عقلك بأن تبحث عن الجنة ولا أن تبحث عن النار، وإنما أمرك أن تؤمن بذلك، وأخبر عن السماوات السبع، وعن كرسيه سبحانه، وعن عرش الرحمن سبحانه، وأنه الرحمن على العرش استوى، وأمرنا أن نؤمن بذلك ولم نر الله سبحانه، قال عن المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، فالمؤمن يؤمن بالله، والله غيب سبحانه، وهذا الإيمان أن تؤمن بالغيب الذي أخبرك الله عز وجل به، تؤمن بملائكة الله، والملائكة غيب لم تر الملائكة، تؤمن باليوم الآخر، تؤمن برسل الله السابقين على النبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق النبي صلى الله عليه وسلم وتتابعه عليه الصلاة والسلام، وأنت لم تر هؤلاء الأنبياء السابقين، ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم إنما رآه من كانوا معه، وإنما أنت عرفت معجزاته، وأعظم المعجزات التي أتى بها صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم الذي أعجز الخلق ولا يزال يعجزهم إلى يوم القيامة، فالله نزل الكتاب فرأيت الإعجاز في هذا الكتاب، ورأيت الصدق من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأنت مأمور أن تتفكر في ذلك، وأن تنظر في ذلك، هل هو نبي أو ليس نبياً؟ كل نبي لا بد أن يدعو إلى دين ومعه معجزة تؤيده، ومعجزته صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم القرآن، فإذا عرفت أنه صادق وأنه حق انقطع الأمر عند ذلك، أما أن كل شيء من الغيب يريد العبد أنه يتفكر فيه بعقله فلا؛ لأنا لم نؤمر بهذا الشيء، ولذا كان غيباً، ولو شاء الله لجعله شهادة، ولو جعله شهادة لآمن كل الخلق، ولم يكن منهم المؤمن ولا الكافر، ولو أن الله سبحانه أطلعنا على الجنة لما تركها أحد أبداً، ولو أن الله أطلعنا على النار لما أراد أحد أن يدخلها أبداً، ولكن الله أخفى ذلك، وأمر العباد بأن يعبدوه، وجعل الجنة محفوفة بالمكاره، والنار بالشهوات، وابتلى العباد، فهل يؤمنون أم يكفرون؟ وقد علم الله سبحانه من منهم سيؤمن ومن منهم سيكفر، وقضى وكتب عنده كل شيء، وأمرنا أن نؤمن بأنه قدر الأشياء فأحكمها سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
قال لنا سبحانه: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: هدى الله المؤمنين منه سبحانه، فعلى المؤمن أن يستشعر ذلك، فأنت حين تقوم من نومك في وقت الفجر تتوضأ للصلاة وتذهب إلى بيت الله وتصلي، وغيرك من الناس نائم لا يبالي بالصلاة، أليس من كرم الله سبحانه وتعالى عليك أن أيقظك دون غيرك، ومن فضل الله عليك أن من عليك فهداك فجئت إلى بيت الله فصليت، فأخذت أجر الجماعة، فكان لك من الله الأجر العظيم؟ هذا توفيق من الله وهدى من الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن حين يسمع كلام الله عز وجل وحين يستمع إلى آيات قضاء الله وقدره، وحين يرى نفسه قد وفقه الله للطاعة؛ يحمد ربه سبحانه وتعالى على ذلك، ولا يجادل، وكونك صليت وغيرك لم يصل هذا قضاء الله سبحانه وتعالى، أنت وهو أمرتما أن تأخذا بالأسباب، فأنت أخذت بالأسباب فقمت، وهو لم يأخذ بالأسباب، وعلم الله ما في قلبه فلم يوفقه لذلك، والله يحكم ما يشاء سبحانه وتعالى.
إذاً: علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر الذي يؤكده الله عز وجل في كل كتابه، فكل شيء عنده بمقدار، ويقول لنا هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: من عليهم بالهدى سبحانه، ((وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) أي: أصحاب العقول السليمة المستقيمة، أصحاب البصائر.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(346/6)
تفسير سورة الزمر [15 - 20]
وعد الله من اجتنب عبادة الطاغوت وأناب إلى الله فعبده وحده واتقاه بالجنة، وقد أعد الله فيها لعباده المتقين ما لم يخطر على بال أحد، وقد وصفها الله في كتابه بما يرغب العباد فيها، ويجعلهم يشمرون إليها.(347/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:17 - 20].
أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن حال المشركين الذين اتبعوا الباطل وعبدوا غير الله سبحانه، وأخبر عن المؤمنين الذين اجتنبوا الطاغوت وعبدوا ربهم وحده لا شريك له، فأما من عبد غير الله سبحانه وأشرك بالله سبحانه فقد قال لهم ربنا سبحانه: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
فالذين عبدوا غير الله سبحانه، فأشركوا بالله واتبعوا الهوى، واتبعوا الشيطان، واتبعوا الطواغيت من دون الله سبحانه؛ فربنا سبحانه يخبر عن حالهم يوم القيامة فيقول: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]، فهي نار مؤصدة مشتعلة يحطم بعضها بعضاً، وأهلها فيها ومن فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، من تحتهم مهاد من النار ومن فوقهم غواش تغشيهم من ألحفة النار والعياذ بالله.
وهم في النار لا يخرجون منها فقد سبقت فيهم كلمة الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96]، فكفروا بربهم وأشركوا به فاستحقوا العذاب، وأما المؤمنون الذين اجتنبوا الطاغوت، واجتنبوا أن يتبعوا الشيطان، واجتنبوا أن يتبعوا كل مارد عاتٍ عن أمر الله سبحانه، وكل غاو مضل؛ فهؤلاء لهم من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى البشرى، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17].
والطاغوت هو من طغى وجاوز حده، فكل ظالم جاوز حده فهو الطاغوت، إذا كان يدعو إلى نفسه فيزعم أنه رب البشر كما زعم فرعون والنمرود، أو زعم أن من حقه أن يشرع للخلق ما لم ينزل الله عز وجل به سلطاناً، أو زعم أنه يعلم الغيب من دون الله سبحانه أو مع الله سبحانه أو أن الله أطلعه على الغيب ولم يكن نبياً ولا رسولاً؛ فهؤلاء الطواغيت الذين كذبوا على الله وافتروا فاستحقوا العذاب.
فالذين اجتنبوا الطواغيت أن يعبدوها وأنابوا إلى ربهم، فرجعوا منيبين إليه طائعين مخبتين؛ لهم البشرى، يبشرهم الله بجنته سبحانه تبارك وتعالى.
قال {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18] وقد ذكرنا أن يعقوب يقرؤها وقفاً ووصلاً (فبشر عبادي)، والسوسي يقرؤها في الحالين بالياء أو بدون الياء.(347/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)
قال الله عز وجل في المؤمنين: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18] يستمعون الكلام فينتقون أطايب الكلام، وأطيب الكلام كلام رب العالمين، وكلام النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه، فهم يستمعون القول فيأخذون أحسن الحديث وهو كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعونه ويعملون به.
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18] هداهم: من عليهم بالهدى سبحانه، والهدى هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، فالله يهدي جميع عباده بمعنى يدلهم على الطريق كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فدل على طريق الخير وبين طريق الشر، اتبعوا هذا واجتنبوا هذا.
والمؤمن يزيده الله سبحانه هدى من عنده وتوفيقاً للعمل الصالح، فالله يؤيد المؤمن فيأخذ بما أمره الله عز وجل، وأما الكافر وأما المنافق وأما الفاجر فيخذله الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد دله ولكنه اتبع هواه فحق عليه كلمة الله فكان من الخاسرين، قال الله في المؤمنين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18] دلهم ووفقهم سبحانه وحولهم من ضلال إلى خير.(347/3)
تفسير قوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار)
قال الله سبحانه عن أهل الباطل: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] استحقوا العذاب، فالله عز وجل أعلم بخلقه، خلق هؤلاء إلى الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء إلى النار وبعمل أهل النار يعملون، فالله أعلم بمن يستحق الجنة من عباده فيوفقه إلى طريقها، وأعلم بمن يستحق النار من عباده فيخذله عن طريق الجنة، ولا يوفقه لطريقها.
قال سبحانه: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أفمن حق عليه كلمة العذاب فاستحق أن يدخل النار هل تنقذه أنت؟ لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقذ أحداً، قال له الله عز وجل في القرآن مبيناً وظيفته: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، صلوات الله وسلامه عليه {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144].
إذاً النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا رسول من عند رب العالمين، هو بشر يدعو إلى ربه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر:23 - 24]، فهو بشير يبشر من يعمل الصالحات بالجنة، ونذير ينذر ويرهب ويخوف من عمل غير الصالحات، ومن أشرك بالله؛ فيخوفه بالنار، فهو رسول من رب العالمين عليه الصلاة والسلام، وهو بشير ونذير صلوات الله وسلامه عليه.
أمره ربه سبحانه أن يدل الناس على الخير وأخبر أنه يهدي عليه الصلاة والسلام فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وأخبره أنه لا يقدر أن يحول أحداً من شيء إلى شيء إلا بإذن الله فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، إذاً فهو يهدي عليه الصلاة والسلام بمعنى يدل، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: تدل فتقول للناس: هذا طريق الجنة اعملوا كذا ولا تعملوا كذا، وأنت لا تهدي بمعنى لا تقدر أن تهدي إنساناً قد أشقاه الله سبحانه، فالذي يحول القلوب هو الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يملك النبي صلى الله عليه وسلم أن يغير قلب إنسان؛ ولذلك قال للأقرع بن حابس لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فقال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟)، فهو لا يملك أن يدخل رحمة في قلب إنسان أو أن يخرجها من قلب إنسان، إنما الذي يملك ذلك الله سبحانه، لكن هو يقدر على أن يدله ويرشده صلوات الله وسلامه عليه كما نقول: هذا رجل يهدي في الطريق، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي بمعنى يدل عليه الصلاة والسلام، أما الذي يهدي بمعنى يحول ويغير فهو الله سبحانه، ولا يملك ذلك أحد إلا الله، وهذا معنى قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، ومعناها لا حيلة لأحد ولا قوة لأحد ولا قدرة لأحد أن يغير شيئاً إلى شيء إلا أن يعينه الله سبحانه تبارك وتعالى، ففيها التبري من الحول والقوة، فكأن الإنسان يقول: أنا يا رب لا أملك شيئاً، أنت تملك كل شيء، أنت الذي توفق إلى الخير وأنت الذي تعين عليه.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19]
و
الجواب
لا يقدر النبي صلوات الله وسلامه عليه أن ينقذ من في النار، إنما الذي يدخل العباد الجنة أو النار الله سبحانه تبارك وتعالى، بالتوفيق للإيمان أو بالخذلان عن ذلك إلى المعاصي والكفر والطغيان.(347/4)
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)
قال الله سبحانه: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] كلام الله عظيم، والقرآن الكريم يجعل العبد بين أمرين بين الترغيب والترهيب، بين الحب لله سبحانه والخوف من الله سبحانه تبارك وتعالى، بين الطمع فيما عند الله سبحانه وبين الخوف مما عند الله، ذكر الله أهل النار وأخبر أن من فوقهم ظللاً من النار ومن تحتهم ظلل، وأنهم في دركات من النار تغطيهم نار وأسفلهم نار والعياذ بالله، ثم ذكر أهل الجنة حتى لا ييئس الإنسان من رحمة رب العالمين سبحانه، فأهل الجنة في نعيم مقيم قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20] و (لكن) هنا ليست استدراكاً، فالاستدراك لابد أن يكون قبله نفي نحو: ما جاءني زيد لكن جاءني عمر، فتنفي شيئاً وتثبت شيئاً آخر، أما (لكن) لكن هنا فللتغيير من قصة إلى قصة، من ذكر شيء إلى ذكر شيء آخر، فلذلك لم يسبقها نفي.
وقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر:20] الغرفة بمعنى المكان العالي المرتفع، والغرفة في بيت الإنسان أعلى البيت وأشرف المكان، هذا أصل كلمة الغرفة، فهي المكان المرتفع الذي يأوي إليه الإنسان ويحبه ويكون أشرف الأماكن عنده.
فالمؤمنون في غرف في علالي، بعضها أعلى من بعض كما أن الكفار في دركات بعضها أسفل من بعض، قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ} [الزمر:20] وهي أعالي الجنات {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] فذكر الغرف وهي العالية وفي أعلى منها أيضاً في الجنة للمؤمنين {غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] بناها ربنا سبحانه تبارك وتعالى، جعلها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل فيها الأنهار، وجعل حصباءها المسك الأذفر، وجعل فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فهي غرف مبنية، يقول ابن عباس: من زبرجد وياقوت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في الجنة طولها خمسون ميلاً من درة مجوفة، وهذه للمؤمن من ضمن خيماته ومن ضمن قصوره، سميت خيمة ولكن حقيقتها أنها جوهرة مجوفة طويله، فهذه خيمة لمؤمن في الجنة! نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
قال الله سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} [الزمر:20] أي من تحت أشجارها، ففي الجنة أشجار عالية، وتجري من تحتها الأنهار، كأنه يريد صورة التنزه في الدنيا، ففي الجنة سترى ما تشتهيه، وتتنزه في الجنة، وتنظر إلى ما يذكره الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنهار الجنة ذكرها الله سبحانه فقال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15].
جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، فأهل الجنة درجة فوقها درجة، درجة فوقها درجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن) أي: الذي يحفظ القرآن (اقرأ وارتق فإن لك بكل آية درجة في الجنة) فكل آية يصعد بها درجة في الجنة، منازل بعضها فوق بعض حتى يصل إلى أعلى المنازل، وهي منازل من يحفظ القرآن كله، ويعمل بما أمر الله عز وجل فيه ويجتنب ما نهى الله عز وجل عنه.
فأهل الجنة الذين تحت ينظرون إلى أهل الغرف، كما تنظر أنت إلى الكوكب الغابر في السماء، كما تنظر إلى نجم بعيد في السماء، تنظر إليه وتتشوق إليه، وترفع بصرك، كذلك أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرفات كما ينظر أحدكم إلى كوكب عال في السماء.
(قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، فقال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، فكل مؤمن صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعمل بذلك يستحق أن يكون من أهلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(347/5)
تفسير سورة الزمر الآية [20]
وصف الله ما أعد لعباده المؤمنين في الجنة ليرغبهم فيها، ويزهدهم في هذه الدنيا الفانية، فذكر أن لهم غرفاً من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، والله لا يخلف الميعاد.(348/1)
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:20 - 21].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن حال المؤمنين يوم القيامة وعن نعيمهم في الجنة، وعن حال الكفار وما يعذبون به في النار، فأما الكفار فهم في طبقات جهنم ودركاتها، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] لهم عذاب أليم عند الله سبحانه وتعالى جزاءً بما كانوا يعملون.
أما المؤمنون فهم الذين اتقوا ربهم فخافوا من الله في الدنيا، وخافوا أن يغضبوا ربهم سبحانه، واتقوا عذاب الله وعقوبته، فأطاعوا ربهم بكل وجه من وجوه الخير والإحسان، وعبدوا الله وهم مستيقنون أنه ربهم سبحانه، وأنه يجازيهم على الإحسان في عبادتهم بالحسنى وزيادة، فكان لهم من الله الغرف التي جعلها في جنته، والغرف أعالي الجنات، قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20]، ولابد وأن تكون الغرفة مبنية ولكن لتمييزها عن غيرها فهي مبنية لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ومن زبرجد ومن ياقوت وأشياء لم يعهدها الإنسان ولم يرها، حيث يكون له قصر مبني من ذهب، أو مبني من لؤلؤ أو خيمة من لؤلؤة مجوفة، فهذا من نعيم الجنة.
فيذكر الله أنها مبنية، والذي بناها لهم ربهم سبحانه وتعالى، وجهزها لهم وجعلها جنات عاليات، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.(348/2)
معنى قوله تعالى: (تجري من تحتها الأنهار)
قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} [الزمر:20] أي في أرضها ومن تحت أشجارها، فتجري أنهار الماء الذي لا يأسن أبداً، والذي لا ينتن، فماء الدنيا ينتن لو وقف، لذلك يحتاج أن يجري ويصب في البحر ثم يتبخر ثم يرجع إلى أصله وينزل من السماء على أعالي الأرض ويجري، فبجريان الماء لا يتعفن، أما ماء الجنة فلا يحتاج إلى ذلك فهو غير آسن، لا يأسن أبداً ولا يتكدر ولا يعتليه ما يعتلي ماء الدنيا من قذر ونحوه، يجري في أرض الجنة ومع ذلك لا يحدث له شيء من الكدورة ولا يتعفن لا يأسن.
قال تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15]، فلبن الدنيا يتغير، والأبحاث تقول: إنه في كل ساعة يتغير اللبن من حال إلى حال، يعتليه من آفات، ويعتليه من حرارة ومن برودة، فلبن الدنيا من الأشياء التي لا يستقيم بقاؤها على حال واحد إلى أن ينتن مع مضي الساعات عليه، لكن لبن الجنة لبن عظيم لا يتغير أبداً، مهما بقي، وهو في أنهار يجري أمام أهل الجنة يشربون منه ما يشاءون ولا يتغير عليهم أبداً.
قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، لا يعتريهم ما يعتري الناس الذين يشربون الخمور من صداع ومن نزيف للعقول في الدنيا، فأهل الجنة لا تذهب عقولهم أبداً ولا يصدعون، ولا تغتالهم خمر الجنة، فهي لا تشبه خمر الدنيا إلا في الاسم فقط، ولكنها أعظم وأحلى وأجمل، ولا غول فيها ولا تعب من ورائها ولا صداع فيها ولا ألم فيها، فهي نعيم لأهل الجنة.
قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] عسل الدنيا مهما بلغ أعلى الحلاوة وأجمل الطعم فالإنسان لو أكل منه كثيراً يجزع منه، أما عسل الجنة لا جزع فيه أبداً، عسل صاف لا كدورة فيه، ولا شوائب فيه، فأنهار من لبن وأنهار من ماء وأنهار من عسل وأنهار من خمر تجري من تحت أشجار الجنة فيتمتع الإنسان المؤمن في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وهذا وعد الله، قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} [الزمر:20] أي: وعدكم الله وعداً فهو مصدر لفعل محذوف تأكيداً من الله عز وجل أن هذا وعد أكيد من رب العالمين.
قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20] وعد للفريقين لأهل الجنة ولأهل النار، فأهل النار في الجحيم وفي العذاب المقيم، وأهل الجنة في النعيم وفي هذه الأنهار والعيون وفي الطعام والشراب الذي يمتعون به في الجنة، فوعد هؤلاء ووعد هؤلاء ولا يخلف الله الميعاد.(348/3)
من أسباب دخول الجنة
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد من حديث علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها) والغرف بمعنى القصور العالية لأهل الجنة، وذكرنا أن الغرفة للإنسان في الدنيا بمعنى المكان العالي الذي يستريح فيه، والمكان الذي هو لأهل الشرف، فالإنسان أشرف الأماكن عنده وأعلى الأماكن عنده الذي يسمى بالغرفة.
فالجنة فيها غرف في أعالي الجنات، ولهم قصور في أعالي الجنات، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة غرفاً) هذه الغرف التي لأصحابها تكون مبنية من ذهب ومن فضة، ومع ذلك فإن صاحبها إن كان بداخلها يرى خارجها من خلالها وإذا كان خارجها ينظر إلى داخلها فيرى ما يريده من داخلها.
قال: (يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها)، كالزجاج فأنت ترى داخل الزجاج من الخارج، أما في الجنة لم يقل لنا من زجاج، فالزجاج شيء رخيص في الدنيا، ولكن الجنة مبنية القصور من ذهب، ومع ذلك بلغ من شفافيته وبلغ أن يكون صاحبه بداخل هذا القصر المبني من طوبة من ذهب وطوبة من فضة أن يرى ما خارجه وهو في داخل هذا القصر، فإذا كان في الخارج وأراد أن ينظر في داخل قصره نظر واستمتع بما فيه من حور عين وغيرها! ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قام أعرابي تعجب وانبهر مما سمع فقال: (لمن هي يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام).
الذي يفعل ذلك له هذه المنزلة العظيمة وهذه القصور الراقية الغالية عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (لمن أطاب الكلام)، أطاب الكلام بمعنى: حسن خلق الإنسان، فلا يخرج من فيه غير الكلام الطيب، فليس كلامه بذيئاً ولا مؤذياً، وليس كلامه في أمر الدنيا وإنما كلامه في الأمر الذي يقربه من الله عز وجل، وكلامه طيب؛ لأنه يراقب الله سبحانه، ولأنه لا يريد أن يؤذي أحداً من خلق الله تبارك وتعالى، فأطاب كلامه فكان إنساناً هيناً ليناً حسن الخلق، يتكلم بالكلام الطيب والكلام الذي يخرج من فم الإنسان يعبر عن الوعاء الذي في الداخل، وهو قلب الإنسان، فإذا كان كلاماً طيباً دل على طيبة القلب، وإذا كان كلاماً خبيثاً دل على خبث القلب.
قال عليه الصلاة والسلام: (وأطعم الطعام) أي: أعطى الطعام وبذل مما عنده من طعام، فأعطى الفقراء وأعطى المساكين وأعطى على وجه الهدية، وأنفق النفقات الواجبة والمستحبة عليه، وبذل لله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك قال: (وأدام الصيام) أي: واظب على الصيام، فلم يصم أياماً وترك الصيام بعدها، ولكنه واظب على الصيام، فيصوم الفريضة ويصوم النافلة، ويداوم الصيام، ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالصوم عبادة باطنة وعبادة سرية بين العبد وبين الرب، والإنسان يقول: أنا صائم، وأنت لا تدري هل هو فعلاً صائم أم لا، فالله وحده يعلم ما في قلب هذا الإنسان هل هو صائم صوماً صحيحاً وإلا صام عن الطعام وعن الشراب ووقع في أعراض الناس ووقع في الحرام، فالله أعلم بمدى صحة صوم هذا الإنسان، فكان الصوم لله سبحانه تبارك وتعالى.
فالصوم عباده قاصرة على الإنسان، وإطعام الطعام عبادة متعدية، فالإنسان المؤمن عباداته متعدية فينتفع الغير بها، وعباداته في السر بينه وبين الله فينتفع بها، ومن العبادة المتعدية تطييب الكلام فتعبد لله سبحانه بأن حسن خلقه، فرأى الناس منه ذلك، فاستحسنوا كلامه ولم يقبح منه شيء ليتكلموا به، فتعدى نفعه لغيره.
وذكر في الحديث عبادة قاصرة ينتفع بها وهي قوله: (وصلى لله بالليل والناس نيام)، فاستحق الجنة، فالجنة يستحقها صاحبها لعمل السر وعمل العلن، والعمل القاصر الذي ينتفع به نفسه والعمل الذي يتعدى النفع فيه للغير، فإذا جمع هذا كله استحق الجنة.
وروى النسائي من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا زعيم) أي: أنا ضامن (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى الجنة).
فالمهاجر الذي آمن بالله وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم نفسه لله سبحانه فعمل بما أمر الله سبحانه، يقول عليه الصلاة والسلام: أنا زعيم وضامن له ببيتين بيت في ربض الجنة، وكلمة ربض تطلق على أقل الأشياء، كأنه يقول: في أدنى الجنة، والجنة ليس فيها شيء دنيء، ولكن الجنة بعضها أعلى من بعض، وببيت في وسط الجنة، فالجنة فيها منزلة أدنى المنازل وهي أعلى ما يكون وأفضل ما يكون، وأعلى منها درجة أخرى وهي وسط الجنة، وأعلى منها الغرف، فضمن النبي صلى الله عليه وسلم للإنسان الذي آمن وأسلم وهاجر في سبيل الله وترك الكفر إلى الإيمان، وترك بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وترك بلد المعاصي إلى مكان الطاعات، ببيتين في الجنة، بيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله) والمجاهد هو الذي يجاهد بنفسه ويجاهد بماله ويجاهد بكلمته وبلسانه ويجاهد بقلبه، ويجاهد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى: فيأمر المعروف وينهى عن المنكر، ويجاهد الكفار والمنافقين وأهل المعاصي، فحياة المؤمن جهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى حتى يلقى الله، فالمؤمن المجاهد يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك أيها المؤمن المسلم المجاهد في سبيل الله بثلاثة بيوت: ببيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى غرف الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: (من فعل ذلك) أي: أسلم وآمن وكانت حياته جهاداً في سبيل الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً) فكانت حياته كلها جهاداً في سبيل الله، في كل مكان أنت فيه تجاهد في سبيل الله، في بيتك تجاهد مع أهلك مع أولادك، في عملك تجاهد في عملك فتتقن وتحسن عملك، وتجاهد الكفار، والمنافقين، والعصاة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ فحياة المؤمن كلها لله (لم يدع للخير مطلباً)، كأن كل وجوه الخير أتى بها وكل وجوه الشر فر منها، قال: (لم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت) ففي أي مكان يموت فيه هذا الإنسان فإن كل عمله خير، فهو مجاهد في سبيل الله.
وورد حديث آخر رواه أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) أي: للإنسان الذي يترك المراء، وهو الجدل فمن حسن الخلق المؤمن أنه لا يجادل، وإذا جادل جادل بالتي أحسن، ولا يجادل إلا إذا كان محتاجاً لذلك؛ لينصر دين الله سبحانه، فليس الجدل للجدل ولا لضياع الوقت، فقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً).
فالإنسان قد يجادل وهو يقول: أنا على الحق فلابد أن أجادل! فلا تعود نفسك على ذلك إلا إن احتاج الناس إلى ذلك فجادل بالتي هي أحسن.
قال عليه الصلاة والسلام: (وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فالمؤمن يترك الكذب رأساً، فلا يكذب أبداً إلا في المواطن التي أباحتها الشريعة كالحرب فالحرب خدعة، فإن احتاج إلى ذلك فعل بالإصلاح بين الناس، كذلك مع امرأته أن يذكر لها أنها أجمل النساء ونحو ذلك جاز له ذلك، وفي غير ذلك لا يجوز للإنسان أن يكذب، وفي هذه المواطن له أن يعرض في الكلام ولا يصرح بالكذب، فهذا البيت الذي في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، فدع الكذب ودع المراء.
قال عليه الصلاة والسلام: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) فكان حسن الخلق أعلى ما يكون، وجزاؤه أفضل ما يكون عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجيرنا من ناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(348/4)
تفسير سورة الزمر [20 - 21]
يخبر الله عز وجل في كتابه عن ثواب المتقين الذي أعده لهم سبحانه، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام المؤمنين ببعض صفات الجنة وأهلها، وأخبر الله في كتابه عن قدرته وأنه وحده الذي ينزل من السماء ماءً فيسلكه في آبار الأرض وعيونها ثم يخرج به زرعاً ألوانه مختلفة، وأنواعه متنوعة، وهذا من كمال قدرته وعظمته سبحانه، ثم يجعل ذلك الزرع حطاماً يابساً، وهذا هو مثل الحياة الدنيا، فطوبى لمن ترك زينة الحياة الدنيا ونافس الصالحين للحياة الأخرى.(349/1)
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:20 - 23] في هذه الآية من سورة الزمر يخبرنا الله سبحانه وتعالى عما أعده للمؤمنين الصادقين المحسنين من غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، والقرآن مليء بهذا الأمر العظيم وبوعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وبذكر الجنة العظيمة العالية والغرف التي فيها التي أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين وللمحسنين الذين يحبون الله ويحبهم الله سبحانه وتعالى، والغرفة: هي الجنة العالية، فلهم جنات عاليات، فأهل الجنة يتراءون أهل الغرف أي: أهل الجنات العالية كما ينظر أحدكم إلى الكوكب الدري الغابر في السماء، فمنازل أهل الغرف في أعالي الجنات، (مبنية) أي: أن الذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بأمره سبحانه، والذي جعل فيها غرسها هو الله سبحانه، والذي أجرى فيها أنهارها هو الله سبحانه؛ إكراماً للمؤمنين فهي دار الكرامة، وهي دار السلام مبنية بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، جنتان كل ما فيهما من فضل الله سبحانه مباح للمؤمنين، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذه الجنات العظيمة، فعن أبي سعيد الخدري فيما رواه البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟) أي: بما عطاهم من فضله سبحانه فقد أدخلهم الجنة وأعطاهم ما شاءوا وزادهم سبحانه (فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين؟!) وكل إنسان في الجنة يرى نفسه من أفضل الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى، وأهل الجنة لا حسد بينهم، فلا يحسد بعضهم بعضاً، بل إن أهل المنزلة الدنيا في الجنة يرون أنفسهم أعطوا ما لم يعط أحد من العالمين، بل إن آخر أهل النار خروجاً من النار وآخرهم دخولاً الجنة، يرى أن الله فضله على غيره من العالمين فيقول: الحمد لله الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين! فالله بكرمه وفضله يجعل كل إنسان من أهل الجنة يستشعر أنه أعطي ما لم يعط أحداً من الناس، وإن كان بعضهم فوق بعض في المنازل، فيقول لهم سبحانه: سأعطيكم أفضل من ذلك يعني أعطيتكم الجنة وأعطيتكم الغرف وأعطيتكم الأنهار وأعطيتكم ما شئتم في الجنة (ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وهذا أفضل نعيم يعطاه أهل الجنة، فكل إنسان حين يرى النعيم أمامه يخاف أن يزول عنه، وأن يأتي يوم من الأيام فلا يجده، فالله سبحانه وتعالى يدخلهم الجنة ويقول لهم {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49] أي: لا تخافون من المستقبل وأنه ربما يذهب عنكم هذا النعيم الذي أنتم فيه، بل أنتم خالدون في الجنة، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً، وهم قد وجدوا في الدنيا كيف سخط الله على أقوام فخسف بهم ومسخهم وعاقبهم، كما قال الله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، أما إذا دخل أهل الجنة الجنة فلا يرون شيئاً من ذلك أبداً، بل إن الله ينعم عليهم بالرضوان الأبدي فلا يسخط عليهم أبداً نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معهم ومنهم.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي منادي) يعني لأهل الجنة (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] أي: يقال لأهل الجنة: ورثتم هذه الجنة فصارت لكم وآلت إليكم، ولكم فيها كلما ذكر في هذا الحديث وما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
وقوله: (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً) أي: أنه لا مرض في الجنة، في الدنيا يعاني الإنسان من المرض حتى إذا دخل الجنة عرف فضل الله سبحانه وعرف النعمة العظيمة التي هو فيها، والدنيا دار الأمراض ودار الهموم وما ينغص حياة الإنسان، هذه هي الدنيا وهي دنيا لذلك، لكن الجنة فيها النعيم المقيم.
(وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً) أي: لا موت في الجنة، الموت كان في الدنيا أما في الجنة فالنعيم المقيم والخلود العظيم.
(وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا) الإنسان في الدنيا يفرح بشبابه ويخاف أن يأتي عليه الهرم، فيأتيه حتى يعجز عن المشي وعن القيام، وأهل الجنة يطمئنهم الله: أنتم شباب في الجنة، ولن تزيد أعماركم بل تسبقون أنتم على العمر الذي دخلتم فيه الجنة عمر ثلاث وثلاثين سنة، وهو أفضل ما يكون في العمر، فيظل أهل الجنة شباباً أبد الآبدين.
(وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) أي: لكم النعيم السرمدي من الله، فلا بأس في الجنة ولا حزن ولا مرض ولا تعب {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] أي: بسب ما كنتم تعملون، فعمل الإنسان سبب لدخوله الجنة وليس ثمناً لها، فالباء باء السببية وليست الثمنية، فمهما عملت من عمل لن يكون أبداً ثمناً للجنة، فإن الجنة عالية وغالية، وعمل الإنسان لا يبلغ ثمنها ولكن يدخل الجنة بفضل الله ورحمته سبحانه وتعالى، والعمل سبب لدخولك الجنة.
وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه) أي: يريد أن يوفيكم إياه (فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟!) أي: لقد أعطانا كل هذا النعيم ثم يريد أن يعطينا؟! (قال: فيكشف الحجاب) وحجاب الله عز وجل النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، وهذا في الدنيا لو كشف الحجاب لأحرق كل شيء، فنوره لا يطيقه أحد في الدنيا؛ لأن الإنسان غير مهيأ لذلك، ولذلك قال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، والجبل مع قوته العظيمة لم يطق أن يرى شيئاً من نور الله سبحانه وتعالى، فكيف بالإنسان الضعيف؟! لكن يوم القيامة يجعل الله عز وجل للمؤمنين قوة أخرى وجسداً آخر غير الذي كان في الدنيا يطيق المؤمن به أن يرى نور الله سبحانه وتعالى، ويستمتع بالنظر إلى وجهه سبحانه، وهذا أعظم ما يستمتع به أهل الجنة، وكلما ازدادت منزلتهم كان نظرهم إلى الله أكثر وأكثر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثرهم نظراً إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه -أي: ينظرون إلى الله سبحانه وتعالى- فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر) يعني إليه (ولا أقر لأعينهم) فهذا أعظم ما في الجنة، وهو أعظم من كل نعيم، وهو أنعم النعيم وأعظم النعيم، وهو أن ينظروا إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وذكر حديثاً طويلاً وفيه (وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال) هؤلاء من أكثر أهل الجنة: ذو سلطان كالحاكم والأمير ومن له سلطة، وفقه الله سبحانه أن يحكم بين الناس بالعدل والقسط، (متصدق) يعطي ولا يحبس المال عن الناس ولا يبخل عليهم، (موفق) أي: يوفقه الله سبحانه وتعالى لطاعته وللحكم بما أنزل من عنده سبحانه وتعالى.
قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) هذا الإنسان ليس قاسي القلب؛ ولذلك مدح الله عز وجل الم(349/2)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض)
يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21] هذا مثال مما يراه الناس أمامهم ليعرفوا به ضآلة هذه الدنيا، وقصر عمرها، فالمطر الذي ينزل من السماء ينمو به الزرع، وسرعان ما يصفر هذا الزرع ثم يصير حطاماً وينتهي أمره، وأنت في كل يوم ترى النبات يحيه الله سبحانه ثم يمر عليه الوقت فإذا به يموت بعد ذلك، فهذه الدنيا مهما ازداد أمرها فمصيرها في النهاية إلى النقصان والزوال، والزينة التي عليها التي تعجبك الآن هي التي تكرهها أنت بعد ذلك، فإن النبات حين ينمو فيراه الإنسان أمامه أخضر وأحمر وأصفر يفرح ببهجة هذا النبات ومنظره، فإذا يبس وصار هشيماً فإن الإنسان يتضايق منه ويجمعه ويرميه في الحضرة! وهذا هو حال الدنيا، الذي تسر به الآن وتفرح به هو الذي تتأذى منه بعد ذلك، وإذا كانت الدنيا على هذا الحال فعلى الإنسان أن يحب ربه سبحانه وتعالى، وأن يطمح فيما عند الله من النعيم المقيم وليس في هذه الأشياء الفانية.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والكل يرى ذلك {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ} [الزمر:21] يبين لنا قدرته سبحانه وتعالى في هذه الآية، فإن المطر الذي نزل من السماء لو اجتمعتم أنتم ومن في الأرض جميعاً على تخزين هذا الماء ما استطعتم ذلك، لكن الذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولو احتبس في مكان واحد لأنتن وتعفن، ولكن الله الكريم سبحانه يجريه أنهاراً ويجعله عيوناً ويجعل منه مياهاً جوفية في باطن الأرض، وهذا شي عجيب جداً! فالماء يحتفظ بما هو عليه من خصال وهو أنه طاهر ومطهر وأنه نقي وطيب حتى يتدخل الإنسان لإفساده، لكن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل المطر من السماء حفظ هذا المطر، فإنه حين ينزل من السماء يجري أنهاراً وبتغيره من مكان لآخر يحتفظ بخصائصه ويحتفظ بصفاته، ولو أنه وقف في مكان لأنتن وتعفن وأصابه ما على الأرض من قاذروات، لكن الله سبحانه يحفظه ويسلكه ينابيع في الأرض، فمنه ما ينزل إلى باطن الأرض حيث لا جراثيم ولا عفونة ولا شيء في المياه الجوفية فيكون نقياً إلى أن يتدخل الإنسان بسفاهته فيعمل الآبار ويصرف الصرف الصحي على المياه الجوفية فيلوث المياه الجوفية التي جعلها الله عز وجل في مكان لا تصل إليه المكروبات، فيفسده الإنسان بسوء تصرفه وسوء صنيعه، ويجريه أنهاراً جميلة فيها الماء الطيب الرقراق الصافي حتى يفسده الإنسان بالمصانع والصرف الصحي على الأنهار، ويجعله بحاراً تتبخر منها المياه التي تنزل بعد ذلك صافية حتى يفسدها الإنسان فيصرف عليها مجاريه وصرفه الصحي، فيتأذى الإنسان من سوء صنيعه وعدم تفكيره وعدم إحسانه في ذلك، وإلا فإن الله سبحانه أنزل الماء صافياً طيباً طاهراً مطهراً فهو الطهور الذي نزل من عند الله ليطهر به عباده.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} سلكه أي: أدخله، وكأن المرور الرقيق السريع يسمى سلك، تقول: سلكت الخرزة في السلك إذا أدخلت السلك داخل خرم الخرز، كذلك الماء يسلكه الله سبحانه وتعالى في الأرض وينزل حتى يدخل في العيون وفي الآبار وأنت لا تشعر بذلك، وهو ينزل ويسلكه الله سبحانه وتعالى في داخلها ثم تنبع الينابيع والعيون من الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، هذا أحمر وهذا أخضر وهذا أصفر وهذا كذا، ويكون مختلف الأصناف، ثم الزرع يهيج فتراه مصفراً، هذا الزرع الذي خرج ونما وأعجبك يهيجه أي ينميه أقصى النمو ثم بعد ذلك يصير حطاماً يابساً، فبعد أن كان أخضر يانعاً صار هشيماً! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21] أي لأصحاب القلوب وأصحاب الفطر أصحاب العقول ليتفكروا أنه مهما ازدهرت الدنيا وتزينت فإنها ترجع بعد ذلك إلى ما كانت عليه كهذا النبات، فلا تغتر بهذه مهما جاءتك الدنيا.
فالإنسان يكون في الدنيا في عدة مراحل منها مرحلة الشباب والحيوية والقوة فإذا وصل فيها إلى نهايتها بدأ في النزول حتى يصل إلى الصفر ويرجع إلى الأرض التي خلق منها مرة أخرى، فالإنسان مهما علا سينزل ولابد، فليكن هذا النزول والعودة إلى الله سبحانه نزولاً حميداً وعوداً حميداً إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بشبابك فإنها تأتي الكهولة والشيخوخة بعد ذلك، ولا تغتر بمالك فإنك ترجع إلى ربك بغير مال ويأخذه غيرك من أولادك أو من الناس، ولا تغتر بصحتك فإنه يأتي عليك المرض الذي يمنعك مما كنت تقدر عليه، ولا تغتر بالدنيا فإنها تزول من أصحابها، فليكن اعتماد الإنسان وثقته على فضل الله، وعلى كرم الله، فيعبد ربه ويعلم أنه لن يدوم في هذه الدنيا، فينمو ثم يصير حطاماً، فترجع إلى ربك سبحانه ليجازيك على إحسانك بهذه الغرف العظيمة التي عنده، وعلى إساءتك إما بالعفو وإما بالمؤاخذة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(349/3)
تفسير سورة الزمر [21 - 23]
لقد أنزل الله الله سبحانه وتعالى من السماء ماءً فأخرج به زرعاً يكون سبباً لحياة الخلق، وكذلك أنزل من السماء قرآناً بواسطة الروح الأمين إلى قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للعالمين ليكون سبباً لحياة القلوب، والمؤمن على نور من ربه، ولا يستوي مع قاسي القلب الغافل عن ذكر الله.(350/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:21 - 23].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، حيث بدأ بذكر إنزال المطر من السماء، وسلكه ينابيع في الأرض {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} [الزمر:21]، هذه الدورة التي يراها الإنسان أمامه في الطبيعة التي خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، يجد فيها إحياء هذا النبات الذي يستفيد منه الإنسان ثم موت هذا النبات، ثم الإحياء ثم الموت وهكذا، دورة يتذكر بها الإنسان أنه مثل هذا النبات أحياه الله سبحانه ثم يميته، وهو يرى الأمثلة على ذلك في الكون وفي الإنسان وفي الحيوان كيف يخلقها الله سبحانه؟ وكيف أنزل الله المطر من السماء سبحانه تبارك وتعالى فجعل منه كل شيء حي؟ فاستفاد منه الإنسان والحيوان والنبات والأرض، ليرينا كيف يخلقه وكيف ينزله رحمة منه سبحانه تبارك وتعالى بخلقه، وكيف يحيي به الأرض بعد موتها.
وكما أنزل الله هذا المطر من السماء ليحيي به الأرض، أنزل القرآن ليحيي به القلوب، فأشار إلى هذا القرآن وذكر القرآن العظيم أحسن الحديث كتاباً متشابهاً، والمطر فيه الحياة وفيه الغوث للخلق كذلك هذا القرآن فيه حياة القلوب، وفيه الإغاثة للخلق والإجارة من أن يعذبوا في النار لو أنهم آمنوا بهذا القرآن، فإن هذا القرآن حافظهم عند الله سبحانه تبارك وتعالى، واستحقوا به أن ينالوا رحمة الله.(350/2)
تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام)
ذكر الله أنه لا يستوي من شرح الله صدره للإسلام بهذا القرآن العظيم مع إنسان ترك القرآن وراءه ظهرياً ولم يؤمن به فقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]، وهل يستوي الذي علم من القرآن وتعلم وعمل واهتدى بهذا القرآن العظيم مع من لم يستفد منه شيئاً؟ وقس على ذلك إنزال المطر من السماء على أرض خصبة فينبت ما فيها من زرع، وعلى أرض أخرى قاحلة يتسرب من خلالها ويذهب إلى مكان بعيد فلا يستفيد أصحاب الأرض بهذا المطر الذي جاء من السماء.
كذلك القرآن ينزل على قلوب العباد فتختلف في تقبله كما تختلف الأرض في تقبل الماء، فهذه أرض زراعية جيدة وهذه أرض أقل جودة، وهذه أرض سبخة، وهذه أرض زرعها مر، فينزل المطر على الأرض كلها، فتنبت بما فيها أو لا تنبت أصلاً.
كذلك القرآن فهذا إنسان صالح قلبه فيه النور فيهديه الله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا إنسان طالح يعرض عن الله سبحانه تبارك وتعالى قلبه المظلم فلا يستفيد بشيء من القرآن، فالقرآن العظيم يهدي به الله من يشاء، ما قال: يهدي به كل الخلق، ولكن رجع الأمر إلى قضاء الله وقدرته سبحانه يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه.
فهل من شرح الله صدره للإسلام كمن لم يشرح الله صدره للإسلام؟ وشرح بمعنى: بسط ووسع وفسح في صدره، فانفسح صدر الإنسان ليستوعب هذه المعاني التي جاءت في هذا القرآن العظيم.
وهل يستوي هذا الصدر الرحب الفسيح الذي يفرح بكتاب الله سبحانه ويتأمل فيه ويتدبر معانيه ويعمل بما فيه، مع إنسان ضاق صدره وتحرج حتى صار شديد الضيق بهذا القرآن، فلا يفهم ولا يعقل وكل همه أن يرد عليه وأن يرفضه؟ فالإنسان الذي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ صار عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، فاستجاب لنور القرآن فأصبح نوراً على نور.
والإنسان الذي لا يستفيد بهذا القرآن فهو من القاسية قلوبهم من ذكر الله، الذين قال فيهم: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ} [الزمر:22]، وويل: وعيد من الله سبحانه تبارك وتعالى للإنسان القاسي القلب، وقسا قلب الإنسان بمعنى صلب حتى صار صلباً جامداً كالحجارة بل هو أشد قسوة من الحجارة، وهذا لا تنفع معه الموعظة إنما الذي يلينه نار جهنم والعياذ بالله.
والويل الهلاك والإبعاد، وهو واد في قعر جهنم جعله الله لهذا الإنسان الذي قلبه قاس ولا ينتفع بهذا القرآن ولا يستشفي به يتركه وراءه ظهرياً.
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] يعني: قلوبهم خالية من ذكر الله فلا يذكرون الله سبحانه تبارك وتعالى، وتقسو قلوبهم إذا ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى.
والمؤمن عندما يذكر ربه يستجيب ويخضع لله سبحانه، ويدعو ربه أن يكون من أهل التقوى.
وإنسان آخر تنصحه بأن يتقي الله فإذا به يعاند ويقول لك: اذهب اتق الله أنت، همه أن يجيبك بمثل ما تقول، فلا ينتفع قلبه بسماع الموعظة ولا يريدها؛ لأن قلبه قاس.
والمؤمن إذا سمع القرآن انفسح قلبه وانشرح وتذكر الدار الآخرة فعمل لهذه الدار الآخرة.(350/3)
حديث في تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام)
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: (إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله).
والحديث إسناده ضعيف، ولكن المعنى صحيح، فالقرآن إذا دخل قلب الإنسان تذكر الآخرة فإذا بضيق الدنيا كله يزول عنه، وتنفسح له هذه الدنيا بنظره إلى الآخرة.
ويؤيد هذا المعنى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه في قوله: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) أي: الموت يهذم لذات الإنسان فأكثروا من ذكره، فإنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقها.
والإنسان إذا ضاقت به كروب الدنيا وما ينزل عليه من مصائب ويبتلى فيها من أحداث وتذكر هذه الأشياء تضايق، فإذا نظر أن هناك موتاً بعد ذلك استراح؛ لأنه يخرج من هذه الدنيا وما فيها من كروب واستراح عند الله لو أنه صبر على ذلك.
وذكر الموت يوسع عليه حاله فإن الدنيا ومصائبها لا تدومان لأحد، ونهاية ذلك موت، فإذا صبرنا في الدنيا وجدنا الفرج والفسحة عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
فذكر الموت يطمئن الإنسان وحين يقرأ كتاب الله سبحانه فيذكر الدار الآخرة ينشرح وينفسح الصدر وينيب إلى دار الآخرة وهي دار الخلود، ويتجافى عن دار الدنيا وهي دار الغرور، ويستعد للموت قبل نزوله.
وما ذكر الموت في سعة إلا ضيقها، والإنسان يفرح بنفسه لأنه في صحة وعافية وعنده مال كثير وهو في سعة وغبطة، فعندما يتذكر الموت وأنه سوف يترك كل هذه الأشياء، لا يتوسع زيادة عن اللزوم في هذه الأشياء لأنه سيتركها، فلمن يجمع هذا المال ويثمره؟ والإنسان لم ينه عن جمع المال فما نهانا ربنا عن ذلك، ولكن المنهي عنه هو الانشغال عن الدار الآخرة، فهو يجمع من الدنيا المليون وراء الثاني والثالث فماذا يعمل به؟ ويترك المال للورثة ويجازى عليه، فيجب عليه أن يقف مع نفسه وقفة ليحاسبها، فالموت يضيق عليه أمره، ويجب عليه أن يلوم نفسه في هذه الدنيا حتى لا يفرط فيها فتضيع يوم القيامة.(350/4)
تفسير قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً)
يقول الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
كما أنزل الله المطر من السماء ليبين قدرته سبحانه تبارك وتعالى، فالمطر ينتفع به الخلق فتحيا به أرضهم ونباتهم والقرآن أعظم من ذلك، وهو أنزل من السماء نزل به الروح الأمين على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ليكون من المنذرين، فانتفع المؤمنون فآمنوا وصدقوا وعملوا بما فيه.
والقرآن أحسن الحديث، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، وفيه أحسن الأحكام وأجملها، جاء عن سعد بن أبي وقاص أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول صلى الله عليه وسلم: (لو حدثتنا)، وأحياناً الإنسان قد يحدث له شيء من الملل فيحتاج من يذكره، فالصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو حدثتنا -أي: سليتنا قليلاً بحديث- فأنزل الله سبحانه تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]) أي: لستم محتاجين أن تتسلوا بقصص وحكايات، فالقرآن فيه أحسن الحديث.
وفرق بين سماع الآيات القرآنية وسماع الأحكام الفقهية، فعندما تقرأ كتاب فقه أو أصول فقه فإنك تمل، والقرآن لا يمل جليسه أبداً، والقرآن العظيم ليس مجرد كتاب قصص أو تاريخ أو فقه، بل هو كتاب قائم بذاته ونسج فريد لغيره من الكتب.
والقرآن تقرأ فيه الموعظة وبعد قليل يذكرك بالجنة ويحذرك من النار ويعطيك حكماً من الأحكام ويذكرك بالأمم السابقة وبنبي من الأنبياء وبحادثة من الحوادث التي كانت موجودة، فما يزال يدخلك في شيء ويخرجك منه من غير ما تشعر بالخلاف، ولو تقرأ كتاب فقه ثم كتاب حديث ثم كتاب أصول فقه ثم كتب قصص، فقرأت في هذا قليلاً زهقت منه وتركته وأتيت بالثاني، فتحس أنك خرجت من شيء إلى شيء آخر، أما القرآن فلا تستشعر بذلك فتجد السورة تتناول أشياء كثيرة وتخرجك من شيء إلى شيء آخر، وحسن السياق الذي في القرآن هو حسن الخروج من الشيء والدخول في الشيء الثاني من غير أن تشعر أنك خرجت من شيء ودخلت في شيء آخر، فهناك فرق بين هذا وذاك.
فلا يمل قارئ القرآن أبداً، وكلما قرأه ازداد إقبالاً على القرآن، وهذا القرآن عجيب فأول ما تقرأ الآيات في البداية تشعر أنك ما زلت لم تدخل ثم تجد نفسك داخله في شيء حتى تستشعر بشيء عجيب جداً فيشدك القرآن فلا تريد أن تتركه.
انظر وأنت تصلي التراويح وراء الإمام وتتأمل في معاني القرآن، دعك ممن يصلي ودماغه ليس في القراءة، فليس هذا الذي نتكلم عنه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24]، فعند تدبرك للقرآن فإنك لا تمل منه، فإذا ركع الإمام تريد أن تسمع أكثر، فلا تمل أبداً من القرآن.
فالقرآن العظيم أحسن الحديث، وأعظم الكلام، ولا أدل على ذلك من العرب الذين استمعوا إليه، ولم يرفضوا القرآن لأنه لا يعجبهم، إنما رفضهم للقرآن كان لحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الكلام العظيم الجميل ينزل عليه وحده دون غيره، ولذلك يقول زعيمهم الوليد بن المغيرة عن هذا القرآن: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فلما قال ذلك قال له الكفار: ستجعله يتمسك بالذي هو فيه، فقد سحرك يا ابن المغيرة وفعل بك كذا، فما زالوا وراءه إلى أن فكر بماذا سيرد على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25].
وذلك لأن الكفار أحرجوه أشد الإحراج، إذ قال أحدهم: إني تركت قومك وهم يجمعون لك مالاً، قال: ولم يجمعون لي ذلك وقد علموا أني أغناهم؟ قال: لأنك تريد أن تتابع محمداً صلى الله عليه وسلم حتى يعطيك المال! فهذا الذي جعله يأنف ويستكبر فرجع عن كلامه وما زال يفكر حتى قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24 - 25].
أي: هذا كلام سحر وكلام قول البشر، ولكن لا يضرنا ما قاله هذا الكافر فقد ذهب للقاء ربه سبحانه ولجزائه الذي يستحقه، ولكن ما قاله في البداية كان هو الحق.
وكان أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من الكفار يذهبان ليستمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذا القرآن، لذلك فالمؤمن يكفيه هذا الحديث العظيم كتاب رب العالمين.(350/5)
معنى قوله تعالى: (كتاباً متشابهاً مثاني)
وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] يعني: لا يوجد في القرآن تفاضل بين الآيات والسور، وأن هذه السورة أجمل من الأخرى، فالقرآن يشبه بعضه بعضاً في بلاغته وفصاحته ودقته وإحكامه وصدقه، فهو كله كلام عظيم يشبه بعضه بعضاً.
وقوله تعالى: {مَثَانِيَ} [الزمر:23] أي: من التثنية وهي التكرار، فقد كرر الله سبحانه تبارك وتعالى فيه المواعظ، فيذكر موعظة في سورة ثم يذكرها في سورة أخرى، ويذكر قصة موسى في سورة ثم يذكرها في سورة أخرى ولا تمل من سماع ذلك ومن قراءته، وكله فيه تكرار فلا يمل من سماعه، بل يستفاد من كل موضع فيه مما أراد الله سبحانه تبارك وتعالى أن يبينه فهو كتاب متشابه وهو كتاب مثاني.
وذكر الله القرآن ووصفه بأنه محكم، قال تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، فالقرآن كله محكم أي: متقن، وكله متشابه أي: يشبه بعضه بعضاً في الروعة وفي الجمال وفي الإتقان، وذكر بأنه محكم ومتشابه، قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، إذاً القرآن كله محكم أي: متقن ومتشابه أي: يشبه بعضه بعضاً في الإحكام وفي الفصاحة وفي البلاغة، ولا يختلف اثنان في فهم الآيات ومنه ما أراد الله سبحانه أن يجعل فيه شيئاً يشتبه على من لا يفهم هذا القرآن حتى يعلم الإنسان أن فوق كل ذي علم عليم، قال تعالى: {قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فهل يستوي العالم مع الجاهل؟ فالجاهل يرجع لأهل العلم فيقول: ماذا أراد الله بالآية الفلانية؟ وما معنى ذلك؟ إذاً: الآيات المتشابهات معناها قد يشكل على الإنسان أن يفهم هذا الشيء فيقول الذين لا يفهمون لأهل العلم: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ فأهل العلم يبينون لهم معنى ذلك فيرتفع الإشكال عن الذي لا يفهمون، فهي حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى أن يظهر فضل أهل العلم، وأنه لا يستوي الجميع.
والقرآن كتاب عظيم، وكل من يقرأ القرآن يفهمه، ولكن فهم هذا غير فهم هذا غير فهم هذا، فيفهم الفقيه أحكاماً معينة لدقة فهمه، ويستوعب مسائل لا يفهمها غيره، والعالم الأصولي يفهم أصوليات وكليات لا يفهمها غيره من الناس، والإنسان الذي يقرأ في التاريخ ينظر في تاريخ وقصص الأنبياء ويعرف منها ويجمع فيها ما لم يعرفه غيره، ففوق كل ذي علم عليم، فالله فوق الجميع سبحانه تبارك وتعالى، فيريهم بهذه المنازل أن هذا القرآن نزل من عند العليم الخبير سبحانه تبارك وتعالى.(350/6)
معنى قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)
قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] المؤمن حين يقرأ هذا القرآن وحين يستمع للمواعظ ويتأمل فيها ويتدبر وتصفو نفسه يقشعر جسده وجلده وتبكي عيناه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، ووعد من الله سبحانه ألا تمس النار هاتين العينين (عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).
فهنا ذكر: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر:23]، فالمؤمن وهو يقرأ القرآن إذا تذكر النار يقشعر جلده ويخاف من الله سبحانه، واقشعرار الجلد ليس معناه أنه يظهر أمام الناس وهو يرتعش من ذلك، ولكن المعنى أن تأخذه قشعريرة، فيجد في جلده شيئاً من الاضطراب.
قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ} [الزمر:23] حين يذكر الجنة وحين يذكر رحمة رب العالمين وفضل الله سبحانه تبارك وتعالى وأن الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء وأن السيئة سيئة واحدة فإنه يلين ويخبت ويعرف رحمة الله فيركن إلى رحمته سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، فالمؤمن حين يذكر الله سبحانه يطمئن بالله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} [الأنعام:88]، وفي هذا القرآن الهدى من الله، والذي يحدث في هذا الإنسان من قشعريرة ومن اضطراب وخوف ثم لين إلى ما جاء من ذكر الله سبحانه، هذا من فضل الله على هذا الإنسان أن يجعله يخاف من الله ويبكي من خوف الله سبحانه تبارك وتعالى، ويفرح بنعمة الله، وهذا من هدايته لهذا الإنسان، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]، فالذي يضله الله سبحانه لن يجد له من يهديه.
وهذه الآية يقف عليها ابن كثير بالياء، فإذا وصل أثبت الياء ((وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادي))، أما غيره فلا يقفون عليها إلا بالسكون، فـ ابن كثير يقرؤها بالياء في الوقف فقط والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(350/7)
تفسير سورة الزمر [23 - 31]
كل إنسان سيحاسب وحده يوم القيامة، فيسأل عن أعماله وما اقترفته يداه، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم عن هذه الحقيقة، وبينها في كتابه أعظم بيان، وأخبر سبحانه أن عاقبة الأعمال السيئة الخزي في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يحذر المعاصي، ويعلم أنه ملاق ربه، ومؤاخذ على جميع أعماله.(351/1)
تفسير قوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:24 - 31].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه نزل أحسن الحديث وهو هذا القرآن العظيم كتاباً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن والجمال والبلاغة والفصاحة والصدق، أخبر أن المؤمنين يستمعون إلى هذا القرآن فتقشعر جلودهم من خوفهم من ربهم سبحانه تبارك وتعالى، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، ذلك الذي يحدث لهم.
وذلك القرآن العظيم الذي جاء من عند ربهم هدى من الله، يهدي به سبحانه عباده إلى تقواه سبحانه تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: ((ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ))، فالهدى بيد الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
((وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) أي: الذي يضلله الله سبحانه فلن يجد من يهديه إلى صراط الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هذا قسم منه سبحانه وتعالى، والقرآن كلام الله رب العالمين سبحانه، وقد نزل بلغة العرب، وكان العرب يحذفون بعض المعاني من كلامهم إذا فهمت من الكلام، فكأن الله يقول هنا: أهذا الذي يتقي بوجهه سوء العذاب كمن ينجو من عذاب الله سبحانه؟ وهل يستوي هذا مع هذا؟ وترك لنا أن نفهم باقي هذه الجملة.
وهذا من فصاحة القرآن العظيم، أن يعبر بالشيء على أشياء.
فقال: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ}، وتخيل هذا الإنسان الذي يتقي في الدنيا العذاب، ويتقي في الدنيا السوء بيده، فلو أن هذا الإنسان وجد أمامه ناراً لدفعها بيده، فإنه يدفع بيده الشيء ليصرفه عن نفسه، ويتقيه بوجهه، وأشرف ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهينا شرعاً عن ضرب الوجه، سواء كان المضروب مسلماً أو كافراً؛ لأن الله عز وجل كرم وجه ابن آدم.
ولكن هذا الإنسان الذي كفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، وأعرض عن ذكر الله، وأهان أولياء الله يستحق أن يهان يوم القيامة، فإنه يدفع بوجهه -وهو أشرف ما فيه- عن نفسه العذاب، فيداه مغلولتان إلى عنقه، فلا يقدر أن يدفع عن نفسه العذاب بكفه، وقد سميت الكف كفاً؛ لأن الإنسان يكف عن نفسه الشر بها، ويدفع بها عن نفسه.
ويوم القيامة لا يقدر الإنسان أن يدفع عن نفسه بيديه؛ لأنهما قد كتفتا ووثقتا، فلا يقدر أن يدفع إلا بوجهه.
فيلقى هذا الإنسان في النار، وقد غلت يداه إلى عنقه، فلا يقدر أن يدفع النار إلا بأشرف ما فيه وهو وجهه، فهل هذا الذي يتقي سوء العذاب ويتقي النار بوجهه يستوي مع المؤمن الصالح الذي يدخل الجنة؟ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كهذا الإنسان المؤمن الذي دخل الجنة؟
الجواب
لا، لا يستوي أبداً الكافر مع المؤمن، ولا يستوي العاصي مع المطيع، ولا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار.
قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، وأيضاً يقال للكافر: ((ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ))، فقد كنت في الدنيا تظن نفسك عزيزاً، وتتعزز على أهل الإيمان، وتظن بنفسك أنك كريم على قومك، وأنهم ينصرونك، ولا يسلمونك إلى العذاب، فأين ذهب ذلك وأنت الآن في النار؟! يقال هذا لـ أبي جهل ومن كان معه، فإن أبا جهل زعم في الدنيا أنه أكرم على قومه من أن يتركوه، وأنهم يدافعون عنه، وقال: إذا دخل النار فإن قومه يدافعون عنه.
ويأتي أبو الأشدين ويقول: أنا أصرف عنكم النار، وسأقف على باب النار وأضع يدي الاثنتين عليها، فلا أحد يستطيع أن يدخل النار، وسأمنعكم منها! فيقال لهم يوم القيامة: ((ذوقوا ما كنتم تكسبون)) أي: ما كسبتم في الدنيا من شر ومن كفر ومن أعمال سيئة، فذوقوا ما كنتم تكسبون، وما كذبتم في الدنيا وقلتم: لا ينفعكم الآن.(351/2)
تفسير قوله تعالى: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون)
قال تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [الزمر:25]، أي: ليس هذا التكذيب شيئاً جديداً عند هؤلاء القوم، فقد كذب الذين من قبلهم، وقد أذاقهم الله عز وجل سوء صنيعهم وسوء تكذيبهم بعذاب في الدنيا قبل الآخرة.
قال تعالى: ((فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)) وكم أُخذ آمن من مأمنه! فهم ظنوا أنهم آمنون، وظنوا أنهم في مأمن من مكر الله سبحانه، فجاءهم العذاب في مأمنهم الذي كانوا فيه، كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] وقال هنا: ((كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)).
((فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ)) أي: الذل والهوان والفضيحة في الدنيا، فقد أخزاهم الله سبحانه تبارك وتعالى، وأذلهم وعاقبهم بهذا الخزي في الدنيا.
قال تعالى: ((فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ)) أي: هذا الذي ذاقوه في الدنيا شيء يسير من عذاب الله سبحانه، وأما عذاب يوم القيامة فهو أشد وأقوى، ولا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم عذاب الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
((وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))، كأن فيها معنى تحسر العباد على أنفسهم.
أي: لو كان يعلمون علماً ينفعهم ما وقعوا في الكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، ولكن كان علمهم علماً لا يتجاوز آذانهم ولا يدخل إلى قلوبهم، ولو كانوا يعلمون حقيقة هذا الأمر لما كفروا بالله، ولما عصوا ربهم سبحانه تبارك وتعالى، ولاتقوا هذا العذاب الذي عند الله سبحانه، ولكن سوء صنيعهم أورثهم النار يوم القيامة، وأورثهم الذل والهوان والخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.(351/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27]، فالله الكريم سبحانه تبارك وتعالى نزل هذا الكتاب قرآناً عربياً غير ذي عوج ((بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)) أي: واضح يبين عن نفسه، ويفصح عن معانيه، ويوضح مبانيه.
و (مبين) اسم فاعل، فتقول: هذا مبين، أي: مفصح، يبين ما فيه.
فالقرآن واضح، والكلام الذي فيه أيضاً واضح، فإذا قال: (احذروا النار)، فلا أحد يشكل عليه هذا المعنى.
وإذا قال: (اعملوا للجنة)، فلا أحد يشكل عليه هذا المعنى.
فالقرآن بين وواضح وجليّ، وكل إنسان يفهم من كتاب الله سبحانه ما يريده الله سبحانه منه أن يفهمه من الأحكام.
فقد ضرب الله في هذا القرآن أمثالاً بأشياء صغيرة وبأشياء كبيرة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فالبعوضة الصغيرة يضرب بها المثل، ويتأمل الإنسان ويتعجب مما ذكر الله عز وجل في القرآن من أمثال! فإذا كان الإيمان في قلبه انتفع بهذه الأمثلة، وعمل بمقتضى ما يذكر الله سبحانه.
وإن كان لا يفهم، ولا إيمان في قلبه فيقول: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فلماذا يذكر الله البعوضة؟ ولماذا يذكر الذبابة؟ ولماذا يذكر العنكبوت؟ قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25] أي: لعلهم يتفكرون في هذه الأمثال، ويعرفون قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعرفون ما يريده الله وما يراد بهم.
قال تعالى: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)) أي: كل مثل من الأمثال التي تنفعهم ذكرناها لهم في كتابنا، لعلهم يتذكرون لِمَ خلقهم الله سبحانه؟ فيتفكرون في ذلك فيعملون، ويتذكرون فلا ينسون ما يراد منهم وما يراد بهم، ويذكرون الله سبحانه تبارك وتعالى فيعتبرون ويتبصرون.(351/4)
تفسير قوله تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)
قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] قد شرف الله العرب بأن أنزل القرآن بلغتهم، قرآناً عربياً، كما قال تعالى: ((بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)).
وقال هنا: ((غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) أي: لا يوجد فيه إشكال ولا اختلاف، فلا يشكل على من يقرؤه، وإنما يفهم ما يريده الله سبحانه تبارك وتعالى فيه، فلا تضاد فيه، ولا خلاف، وإنما قرآن عربي بلسان عربي مبين كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا} [الزمر:28].
والقرآن فيه قراءتان في كل القرآن، قراءة ابن كثير (القران، قران، قراناً)، وقراءة باقي القراء بالهمزة (القرآن، قرآن، قرآناً).
فيقول الله سبحانه بأن هذا القرآن ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) أي: لا اختلاف فيه ولا تضاد، وليس فيه حكم يناقض حكماً آخر، وإنما الله سبحانه يشرع لعباده ما ينتفعون به في هذا القرآن، فإذا قرأ العبد المؤمن هذا القرآن انتفع بما فيه، وإذا أشكل عليه شيء رده إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفهم منه ما يريد، ورده أيضاً إلى أهل العلم فيفهمونه ما يشكل عليه.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] أي: غضب الله سبحانه، فيعملون بطاعته، فينجون من النار.(351/5)
تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون)
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].
وقد قال قبل ذلك: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ))، فكأن هذا توطئة لما يذكره هنا، وتقدمة لما يذكره هنا، فهذا مثل من الأمثال.
فقوله: ((رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)).
الرجل هنا عبد يملكه مجموعة من الناس، فالعبد الذي يملكه رجل واحد هل يستوي مع عبد يملكه مجموعة من الناس؟ فتفكروا في ذلك، فإن الله عز وجل يقول: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ))، والمشاكسة: صعوبة الخلق، واختلاف التضاد، والإنسان الذي يريد الخلاف يسمى مشاكساً، وإنسان شكس أي: يحب الخلاف.
فلو أن مجموعة أخلاقهم صعبة ومختلفة، وبعضهم ينقض بعضاً، ويكيد لبعض ملكوا عبداً واحداً فإن هذا يقول له: اعمل كذا، والثاني يقول له: لا لا تعمل هذا الشيء، وإنما اعمل كذا، ويقول الثالث: لا اذهب إلى المكان الفلاني الآن.
فيبقى هذا العبد متحيراً متخبطاً، أيسمع كلام هذا أو يسمع كلام هذا؟ فكلهم يملكونه! فهو محتار ينفذ كلام مَنْ مِن هؤلاء المتشاكسين؟! ((وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)) أي: يملكه رجل واحد، والقراءة الأخرى: ((سالماً لرجل))، يعني: عند واحد يسلم به هذا الواحد ويسلم نفسه إليه، وخالص لهذا الواحد.
والمعنى على القراءتين: ((رجلاً سالماً لرجل))، ((ورجلاً سلماً لرجل)) أنه خالص لواحد يملكه، فهذا الواحد إذا رآه متعباً أراحه، ثم استعمله بعد ذلك.
وأما الشركاء المتشاكسون فلا يهمهم تعبه، وإنما يهمهم أن ينفذ الذي يريدونه؛ لأن لكل أحد حصة فيه، فهل يستوي هذا مع هذا؟ لا، فالذي يملكه رجل واحد مستريح؛ لأنه لا تضاد في الكلام، ولا توجد صعوبة في الأخلاق، فهو واحد يملكه واحد، وأما من يملكه مجموعة فإنه يكون متحيراً مضطرباً لا يعرف كيف يتصرف مع هؤلاء.
ولله عز وجل المثل الأعلى، فهل هذا الإنسان الذي يعبد الله وحده لا شريك له يستوي مع من يجري به هواه فيعبد الشياطين والأصنام، ويعبد آلهة من دون الله؟ لا، وإنما هذا مضطرب متحير، لا يعرف ما الذي يريده، فيذهب إلى سدنة الأصنام، فهذا يقول له: اعمل كذا، وهذا يقول له: اعمل كذا، وهذه الأصنام هم الذين خلقوها بأيديهم وصنعوها.
فهل يستوي من يعبد الله مع من يعبد هذه الأصنام، ويعبد خلق الله سبحانه تبارك وتعالى؟ لا يستوون.
فالذي يعبد الله قد استراح، وعرف ربه سبحانه، وعرف ما الذي يريده الله عز وجل منه، فمشى في طريق الله سبحانه.
وأما الذي يعبد أصناماً وأنداداً من دون الله سبحانه فهو متحير متخبط، فهو يعبد هذا الصنم الآن، ثم يعبد غيره، عندما يجده لا ينفعه؛ لأن الشياطين والسدنة تتلاعب بهذا الإنسان، فهذا يأمره بشيء، وهذا يأمره بشيء، وهذا يأمره بشيء، فهو مضطرب متحير، فلا يدري أهذا الإله أفضل أم هذا أفضل؟ فإذا كان في الحضر عبد صنماً، وإذا كان مسافراً صنع صنماً آخر يعبده في سفره، فإذا رجع إلى الحضر رمى الصنم الذي كان يعبده في السفر وعبد الآخر! فهو متحير مضطرب لا يدري أين الحق، فهل يستوي هذا مع هذا الذي عبد الله وحده لا شريك له؟ يقول الله سبحانه وتعالى: ((هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ)) أي: احمدوا ربكم على توفيقه لكم، وعلى أن أرشدكم وهداكم أن تعبدوه وحده لا شريك له كما قال تعالى: ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))، فيطمئن قلب المؤمن لأنه عبد الله وحده لا شريك له، فالله الذي خلق كل شيء هو الذي يستحق العبادة وحده، والمؤمن يستشعر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فيستشعر الله الكبير، الله العظيم، الله الجليل، الله الرحيم، فيعبد ربه؛ لأنه يستحق العبادة وحده.
وأما الكافر فقلبه متحير مضطرب، لا يعرف أين الحق والصواب؟ وهو يعرف أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك يعبدها! فإذا سئل: لماذا تعبدها وهي لا تنفع ولا تضر؟! لم يكن له حجة إلا أن يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، ومستحيل أن يكون آباؤنا يعملون شيئاً خطئاً! فهو يمشي على ما كانوا يمشون عليه، وهو مضطرب متحير لا يعرف أين الحق والصواب! قد أضله الله سبحانه تبارك وتعالى.
فيا أيها المؤمن! احمد الله، واثن على ربك الثناء الحسن الذي يستحقه سبحانه، على أن هداك ودلك على طريقه سبحانه وعلى طريق جنته.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ} [الزمر:29] أي: أكثر الخلق {لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]؛ ولأنهم لا يعلمون فهم يتبعون الهوى، ويتبعون الشياطين ولا يعرفون طريق الحق، حتى وإن بصروا به لم يدخل في قلوبهم نور الإيمان.(351/6)
تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)
ثم يقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
فربنا هدى المؤمنين وسيموتون بعد ذلك ويدخلون الجنة، فهم لن يعمروا في هذه الدنيا، كما قال تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ))، فالإنسان المؤمن يعيش في هذه الدنيا، وهو يعرف أنه سيموت يوماً من الأيام، كما قال تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ))، وميت معناه: الشيء الذي هو حي الآن فإنه متوقع له ذلك.
بخلاف: (ميْت) بالتخفيف، فإن معناه: أنه قد مات، وبخلاف مائت الذي هو وصف للإنسان الذي يموت، فهو مائت.
وميت صفة مشبهة باسم الفاعل، بمعنى: أنه الآن حي وسيأتي عليه الموت بعد ذلك.
ولذلك يقول هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ)) أي: حي الآن لكن توقع الموت، ولابد أن يأتي عليك هذا الموت.
((إِنَّكَ مَيِّتٌ)) وهم أيضاً سيموتون: ((وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)).
وسورة الزمر سورة مكية، وقد قال الله عز وجل فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ))، وهو في مكة.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم كأن المسلمين نسوا هذه الآية وما عرفوها، فلم يستحضروها، حتى عمر رضي الله عنه بدأ يخلط في الكلام من شدة وقع هذا الأمر على نفسه، وكان يقول: ما مات! وإنما هي أربعون يوماً، وسيرجع لكم مرة أخرى، فجاء بشيء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد قبل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قال هذا مع شدة الاندهاش والتحير من وقع المصيبة عليهم، فبدءوا يتكلمون بكلام لا يفهم، حتى ثبتهم الله الكريم سبحانه بـ أبي بكر رضي الله عنه، فتلا عليهم هذه الآية، والآية الأخرى، فقال للناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144].
فذكر لهم هذه الآية، وهي في سورة آل عمران، وهي سورة مدنية، وهذه السورة سورة مكية.
فقد ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن المكي: أنك ميت، وفي القرآن المدني كذلك، ومع ذلك نسي المسلمون المدني والمكي من شدة الدهشة التي نزلت عليهم بموته صلى الله عليه وسلم، وعظيم المصيبة التي أصابتهم، فنسوا حتى ذكرهم أبو بكر، فكأنها لم تنزل إلا في هذا الحين.
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ)) وهم أيضاً جميعاً مسلمون وكفار سيموتون، ((وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)).(351/7)
تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] أي: ثم إن المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، والخصومة بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فيجثون للخصومة، فهذا يقول: هذا ظلمني، وهذا أكل مالي، وهذا سفك دمي، وهذا فعل كذا وكذا، فيختصم المؤمنون مع الكفار، ويختصم الظالم مع المظلوم، ويختصم البر مع الفاجر يوم القيامة.
وجاء عند الترمذي: أن الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: (يا رسول الله! أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا يوم القيامة؟) يعني: في الدنيا تعاركنا مع بعض، وتشاجرنا مع بعض، وشتم بعضنا بعضاً، وانتهى هذا الشيء، وتصالحنا بعد هذا، فهل سيكرر مرة ثانية يوم القيامة، ويسألنا ربنا يوم القيامة عن هذا الشيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه.
فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد، إن الأمر لشديد) يعني: نحن ظننا أنه في الدنيا تخاصمنا وانتهى الأمر، وقد يصطلح الناس في الدنيا على شيء من الظلم؛ لأن المظلوم لم يستطبع أن يأخذ حقه، فرضي بهذا الشيء؛ لأنه لم يعرف أن يعمل شيئاً غيره، والله الحكم العدل سبحانه تبارك وتعالى، أعلم بما في نفوس الخلق، فيعلم أن هذا قد رضي أو لم يرض، فيكرر الأمر يوم القيامة، فيختصمان بين يدي الله العزيز الحكيم الحكم العدل سبحانه تبارك وتعالى، فيفصل بين عباده.
قال تعالى: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ))، كان الصحابة يتعجبون من هذه الآية، ويقولون: في ماذا؟ ونحن إخوة متحابون يحب بعضنا بعضاً، فظنوا أنها مقيدة بأنهم يختصمون مع الكفار، ولكن الآية قالت: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ)) يعني: كلكم، فالكل يختصم يوم القيامة عند الله.
فيختصم المسلمون مع الكفار، ويختصم المسلمون بعضهم مع بعض.
قال بعض الصحابة: تعجبنا حين أنزل الله عز وجل ذلك، فقلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد؟ حتى رأيتُ بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف! رأوا ذلك لما اختصموا في يومي صفين والجمل، ولما حدث بينهم شيء من الخلاف، وقاتل بعضهم بعضاً.
فقالوا: عرفنا أن هذا الشيء فينا، ويوم القيامة الله عز وجل يفصل بيننا فيما كان بيننا من خصومات.
قال أبو سعيد رضي الله عنه: فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم، هو هذا، قلنا: نعم، هو هذا، فإن الآية عامة: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)).
وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار) يعني: الإنسان المفلس هو: الذي ليس له شيء، لا درهم ولا دينار.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
فهذا مفلس يوم القيامة، والإفلاس في الدنيا سهل؛ لأن الإنسان لن يعيش في الدنيا إلا عمره، فسواء عاش مفلساً، أو عاش فقيراً فهو في النهاية إلى الموت.
أما يوم القيامة فإنه يوم الجزاء، يأتي فيه الإنسان المفلس ومعه صلاة وصوم وزكاة، وقد عمل أعمالاً كثيرة، فلما وقف للحساب قيل له: أنت صليت وصمت وعملت كذا، ولكنك ضربت فلاناً، فأنت ظالم، أعطه جزاء ما ضربته، فيدفع من حسناته؛ لأنه لا توجد أموال يوم القيامة، ولكن يعطيه من حسناته.
ويأتي الآخر ويقول: جرحني، فيؤمر بإعطائه ثمن هذه الجراح، فيدفع له من حسناته.
والثالث يقول: قذفني، والرابع يقول: سبني وشتمني، والخامس يقول: عمل فيّ كذا، وعمل كذا، فيعطى لهؤلاء من حسنات هذا الإنسان، حتى يصير مفلساً لا شيء عنده، وقد بقي أناس آخرون يشتكون منه أنه عمل فيهم كذا وكذا، فيقال له: أنت ظالم لهم، فيؤخذ من سيئاتهم فتوضع عليه، فيحملها عنهم، ثم يدفع في النار والعياذ بالله! فقد صار مفلساً، وأي حسرة على نفس الإنسان أشد من هذه الحسرة، حين يرى الحسنات تؤخذ منه، والسيئات توضع عليه بسبب ما قدم!! ولذلك المؤمن كيس فطن، لا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يدفع بالحسنة السيئة؛ لأنه يخاف من الناس أن يأخذوا من حسناته، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يشتم الناس، ولا يسخر من الناس؛ لأنه لا يريد أن يكون مفلساً، فالمؤمن عاقل وحكيم، فلا يفرط في حسناته في الدنيا، حتى لا تضيع منه يوم القيامة.
فهنا المؤمن حين يتذكر الآخرة يمسك لسانه، ويكف يده، ويحفظ فرجه، ويخاف على عينه، ويخاف على بدنه، فلا يكون مفلساً يوم القيامة.
قال الله سبحانه: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(351/8)
تفسير سورة الزمر [30 - 38]
ذكَّر الله تعالى عباده بحقيقة لابد أن يصل إليها كل مخلوق وهي الموت، وبعد الموت الوقوف بين يدي الله سبحانه، وذكر الله تعالى أنه لا أظلم ولا أكذب من الذي يفتري على الله تعالى ويكذب بالقرآن والسنة، أما الذي يصدقهما فهو مع المتقين في جنات النعيم، وذكر الله تعالى أن الله تعالى كافٍ عبيده وناصرهم على أعدائهم؛ ولذا فإن عباد الله تعالى لا يخافون إلا منه جل شأنه.(352/1)
تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد: يقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] المعنى: إنك ستموت، ففي الآية الإخبار بما سيكون، ولا أحد يفر من الموت، وأيضاً منها التحذير من تضييع العمل الصالح في هذه الدنيا، فإذا كنت ستموت فاعمل ليوم تبعث فيه ويجازيك الله سبحانه على ما قدمت فيه، فهو خبر للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الخلق حتى يعملوا لهذا اليوم الذي يرجعون فيه إلى ربهم يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، ويوم يجزيهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويختصم أهل الخصومات بعضهم مع بعض، فالمؤمنون مع الكفار، والمطيعون مع العصاة، والظالم والمظلوم، وكل إنسان له خصومة مع الآخر، فالله سبحانه الحكم العدل الذي يحكم بين عباده بالحق.(352/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] فيجادل بعضكم بعضاً، ويتكلم بعضكم مدافعاً عن نفسه، والإنسان يدلي بالحجة في الدنيا وقد تكون صدقاً أو كذباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضه).
وقد يخدع الإنسان القاضي بما يقوله من زور ومن شهود زور، أما يوم القيامة فلا أحد يكذب على الله، وإن كذب فضحه الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالمنافق قد يكذب يوم القيامة ويظن أنه يهرب من الله سبحانه وأنه يخدعه في الآخرة، ولكن الله يفضحه ويختم على فيه فينطق جسد الإنسان بما كان يعمل في الدنيا، ويظهر في يوم القيامة من هذا الإنسان الكلام الذي كان يخفيه في الدنيا فيبديه الله عز وجل على جوارحه.(352/3)
تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه)
يقول لنا ربنا سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32].
و
الجواب
لا أحد أظلم من الذي كذب فافترى على الله فزعم أن لله الولد والصاحبة، وزعم أن الله لم يرسل رسوله ولم ينزل كتابه.
ويكذب بالصدق، أي: بالقرآن وبالحديث اللذين جاءا من عند الله.
ويقول تعالى: ((أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)) أي: أليس هو في هذه النار الموقدة البعيدة القعر؟! وكلمة جهنم: مأخوذة من قولهم: البئر الجهنام والمعنى: البعيد القعر السحيق جداً، فنار جهنم مستعرة وقعرها بعيد وسحيق.
ومثوى: مكان إقامة يثوي فيه أصحاب النار، أي: يخلدون فيها.
والمعنى: أليس فيها مكان يقيم فيه الكافرون الذين جحدوا ربهم سبحانه، وجحدوا ما جاء من عند الله وافتروا عليه الكذب؟
و
الجواب
بلى، فيها مثوى ومحل إقامة لمن كفر بالله سبحانه.
أما الذي جاء بالصدق من عند الله سبحانه وصدق به فله جزاؤه وأجره عند الله.(352/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)
يقول سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] أي: جبريل جاء بالحق وهو القرآن، فقد نزل به من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه من جبريل وبلغه للخلق، وأخذه المؤمنون من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوارثوا ميراث النبوة وهو الدعوة إلى الله فبلغوا الآخرين، فكل من بلغ كتاب الله سبحانه فقد جاء بالصدق وبالحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
ومن عمل بمقتضى هذا الذي بلغه من عند الله سبحانه فإنه من المتقين.
والمتقون هم الذين اتقوا غضب الله سبحانه، والذين ينجيهم الله من عقوبته يوم القيامة.(352/5)
تفسير قوله تعالى: (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين)
يقول الله سبحانه: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:34] الأتقياء الذين صدقوا بكتاب ربهم سبحانه وعملوا به وبلغوا الآخرين، لهم ما يشاءون في جنات الخلود، وهذا الأجر الحسن والعظيم جزاء لهؤلاء المحسنين، الذين آمنوا واتقوا ربهم وأحسنوا، قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
فالله سبحانه يعطيهم جناته ويكفر عنهم سيئاتهم.(352/6)
تفسير قوله تعالى: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا)
يقول تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ليكفر: اللام للعاقبة، أي: تكون عاقبة هؤلاء أن يكفر الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم أسوأ ما عملوا، وأسوأ ما وقعوا فيه هو الشرك بالله سبحانه، فكانوا مشركين قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا مكذبين جاحدين، فلما جاءهم القرآن العظيم آمنوا وصدقوا، فالإسلام يَجبُّ ما قبله، فالله يكفر عنهم أسوأ ما وقعوا فيه من الشرك بعدما أسلموا.
ومعنى: ((لِيُكَفِّرَ)) أي: ليمحو ((عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)) فأسوأ ما يكون من أشياء وقعوا فيها من الشرك بالله فقد كفرها الله سبحانه، وباقي الذنوب يكفرها الله عنهم من باب أولى، بل من فضله ورحمته يبدل هذه الذنوب إلى حسنات، فالله عز وجل رءوف بعباده ولطيف بهم سبحانه، يكفر عنهم أسوأ الذنوب وهو الشرك بالله سبحانه، ثم يبدل سيئاتهم حسنات من فضله ورحمته سبحانه ويدخلهم الجنة.
قال سبحانه وتعالى: ((وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)) فالإنسان يعمل الحسنة ويتمنى لو أنه زاد عليها، فانظر إلى فضل الله سبحانه، فمثلاً: إنسان يريد أن يتصدق بعشرة جنيه فلم يجد إلا جنيهاً واحد فتصدق به، فإذا بالله يعطيه على نيته أجر العشرة الجنيه، فهذا أحسن الذي كانوا يعملون.
ولذلك فالمؤمن يتمنى من ربه ما يشاء، ويحب الصالحين، ويحب أن يكون معهم، فالله يعطيه أحسن ما يتمناه هذا العبد، لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمع المؤمنين في ربهم فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة، فإنه أعلى الجنة وأوسطها وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)، فإذا سألت ربك فلا تطلب أدنى الأشياء، ولكن اطلب أعلى ما يكون، واستعذ بالله من عذابه ومن ناره واسأل الله الجنة، فإذا سألت ربك الجنة فإنه يمن عليك بها.
ولذلك جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة) فإذا سألت ربك: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أسألك الجنة، فإن الجنة تقول لله سبحانه تبارك وتعالى: رب أدخله الجنة (ثلاثاً).
وإذا تعوذت بالله من النار ثلاث مرات: اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، فإذا بالنار تطلب من الله سبحانه أن ينجيك منها، فتقول: اللهم نجه مني، اللهم أعذه مني، اللهم أجره مني.
وفي حديث آخر: (من سأل الله الجنة في يوم سبعة مرات) فمن سأل الله سبع مرات أن يدخله الجنة، فإن الجنة تدعو الله سبحانه أن يدخله فيها، فإذا كنت أنت تدعو والجنة تدعو لك والملائكة يستغفرون لك فهذا فضل الله عظيم وكبير، ولا يهلك على الله إلا هالك بأن يدخل النار ويستحقها، وذلك إذا كانت الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بسيئة واحدة فالذي يدخل النار فإنه قد خالف الله سبحانه وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فأفرط على نفسه وأسرف وضيع عمره هباء فيستحق ما وقع فيه، نسأل الله العفو والعافية.(352/7)
تفسير قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده)
قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍُ} [الزمر:36] أليس الله يكفي عبده وينصره ويمنعه من أعدائه ويدفع عنه الشرور؟ أليس الله بقادر على ذلك؟ و (عبده) يدخل فيه كل عبد لله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم والمؤمنون الذين يتبعونهم بإحسان كلهم عبيد لله.
فيقول الله سبحانه: أليس الله كافي هؤلاء وحسبهم سبحانه تبارك وتعالى فيكفيهم شرور الخلق؟
و
الجواب
بلى.
وهذه فيها قراءتان: قراءة حمزة والكسائي وخلف وأبي جعفر (أليس الله بكاف عباده) على الجميع.
وقراءة الإفراد لباقي القراء ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)) والمعنى واحد، فعبد جنس، والجنس يدخل فيه الواحد والاثنين والجماعة، فالقراءة الأولى ترجع للقراءة الثانية في المعنى، وهو أن الله يكفي جميع عباده سبحانه، فكل من اتقي الله يقيه الله سبحانه تبارك وتعالى الشرور ويدافع عنه، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
قال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] الكفار يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالشركاء الذين عبدوهم من دون الله، ويحذرون النبي صلى الله عليه وسلم من أنه إذا شتم الأصنام فإنها ستعذبه وستخذله وستفعل به كذا، فهؤلاء الذين من دون الله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.
وقد جاء في الأثر أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتسب آلهتنا؟! لئن لم تكف عن ذكرها لتخذلنك، أيْ: ستتسلط عليك وستخليك، أو لتصيبنك بسوء، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالداً ليكسر العزى وهو تمثال للكفار، قال الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20].
فهذه آلهة عبدوها من دون الله سبحانه، فاللات: اسم محرف للفظ الجلالة الله، وسموا اللات آلهة وأنثوها وعبدوها من دون الله.
والعزى: كانت شجرة يعبدونها من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالداً ليقطعها، فلما ذهب إليها وأمسك بالفأس ليقطعها قال له السادن: أحذرك منها يا خالد من أن تعمل فيك فإن لها شدة ولا يقوم لها شيء، وأراد أن يخوف خالداً من الشجرة التي يعبدونها من دون الله ويحذره منها وهذا ما يقوله الكفار في كل زمان، حين يعبد الناس غير الله سبحانه يظنون في أنفسهم أن هذا الذي يعبدونه ينفع ويضر، فيحذرون من ينكر عليهم كمن ينكر عليهم عبادة القبور، فيزعمون أن السيد فلاناً سيعمل كذا وكذا، ويزعمون أشياء فيكذبون على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويخوفون أنفسهم بأشياء باطلة.
فهؤلاء أقوام قد ماتوا لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف يملكون لغيره؟ ولكن القلب إذا خرب إذا بصاحبه يهرف بما لا يعرف، فيتكلم بالأشياء الكاذبة فيقول: هذا سيدي فلان سيعمل فيك كذا، وإذا قلت لأحد هؤلاء المشركين: احلف إنك ما عملت كذا، يقول: والله ما عملت كذا وهو كاذب، وحين يقال له: احلف بسيدي فلان، فيقول: لا أحلف، فهو لا يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيحلف كذباً بالله، فإذا حلف بسيدي فلان يخاف منه، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره، كذلك كان هؤلاء المشركون يعبدون أصناماً صنعوها ومع ذلك يخافون منها ويخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بها.
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] أين ذهبت عقول هؤلاء حين عبدوا هذه الحجارة التي كسروها وصنعوا منها هذه التماثيل؟! فأضلهم الله فهم لا يهتدون، فأهل الشرك ذهبت عقولهم فلا يدركون ولا يفهمون فيعبدون مالا ينفعهم ولا يضرهم! فالله هو الذي يهدي وهو الذي يضل سبحانه تبارك وتعالى، فتجد الإنسان عقله كبيراً وقوياً في أمور الدنيا فهو عالم في الذرة أو عالم في كذا وكذا، وفي أمور الآخرة متحير لا يعرف من يعبد هل يعبد الطبيعة أو كذا؟ وترى الناس في اليابان عقولهم عقول جبارة، وربنا جعل فيهم آيات عجيبة جداً، ومع ذلك تلاقي أحد الأطباء يذهب إلى المعبد من أجل أن يعبد من دون الله مالا ينفعه ولا يضره، فيأخذ جرساً ويذهب به إلى المعبد من أجل أن يوقظ الإله، فهذا الإله الذي هو محتاج إلى من يوقظه محتاج إلى غيره! قال الله تعالى: ((مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) أي: من أضله الله من الكفار طمس النور الذي في العقول فإذا بهم لا يفكرون ولا يفهمون، ومن يهديه ويدله على الصواب إذا أضله الله سبحانه.(352/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن يهدي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] إذا هدى الله عز وجل عبداً من عباده لا يقدر أحد أن يضله وإن اجتمع عليه الثقلان.
وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر:37] فالله عزيز سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فإذا قال له: كن فلابد أن يكون ما أراده الله، فهو العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يمانع أبداً، ويأمر بالشيء ولازم أن يكون هذا الشيء على ما أراده الله سبحانه تبارك وتعالى.
((أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ))
و
الجواب
بلى، الله عزيز وينتقم ممن يعصيه وممن يغضبه.(352/9)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] بين تعالى أن هؤلاء الذين يعبدون الأصنام من دون الله مقرون في أنفسهم بأن الخالق الله، ومع ذلك عبدوا غيره، فهذه الأصنام لا تخلق ولا ترزق فالذي يخلق ويرزق هو الله.
والشيطان سول للكافرين وزين لهم أن يعبدوها لتقربهم إلى الله تعالى، فجاءهم من باب التواضع أن لا يعبدوا الله تعالى مباشرة وإنما بواسطة الأصنام إذ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
قال الله سبحانه: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38].
الكفار يقرون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا أحد من الكفار يعترض على ذلك، فإن اعترض كان كذاباً وأظهر الله سبحانه كذبه على لسانه، فهذا النمرود لما قال: أنا أحيي وأميت فضحه الله حالاً أمام أتباعه، إذ قال له إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أي: فإن كنت تزعم إنَّ مقامك مقام الربوبية وأنت الذي يخلق ويرزق فأت بالشمس من المغرب! فبهت الذي كفر وافتضح أمام أتباعه وأشياعه.
فمقام الربوبية لم يدعها إلا اثنان: النمرود وفرعون، ففرعون زعم أنه ربهم الأعلى، فأغرقه الله ثم قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فأهلكه الله وأغرقه سبحانه.
والذي يزعم أنه إله فليبدل النجوم من مكانها، وليأت بالشمس في الليل إلى غير ذلك من الآيات الكونية التي لا يتحكم بها إلا الله.
والإنسان لا يستطيع أن يدعي لنفسه الربوبية فيقول أنه الخالق، ولكن يدعي الألوهية فيقول: اعبدوني من دون الله، سواء صرح بذلك أو لم يصرح، فيجعل التقديس لنفسه ويتوجه إليه غيره بالطلبات فيطلب منه ويعبده ويبجله ويقدسه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا قال الله سبحانه: ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: هذه الآلهة التي تتوجهون إليها بالعبادة ((إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)) وقراءة الجمهور (أَرَادَنِيَ) وقراءة حمزة (أَرَادَنِيْ) بالسكون.
وقوله تعالى: ((هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)) على الإضافة، والأصل: هل هن كاشفات يكشفن الضر الذي يريده الله عز وجل بكم؟ وهذه فيها قراءتان: قراءة الجمهور على إضافة اسم الفاعل، وكذلك قوله تعالى: ((هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)) والقراءة الثانية قراءة أبي عمرو ويعقوب ((هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرِّهِ)) على أن اسم الفاعل منون قام مقام الفعل وما بعده مفعولاً به، وكذلك قوله تعالى: ((هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتٌ رَحْمَتِهِ))، والمعنى: الذي تعبدون من دون الله إذا أراد الله بعباده أن ينزل عليهم من بأسه ومن بطشه هل تقدر هذه الآلهة أن تمنع ذلك؟ ف
الجواب
لا تقدر، ولو أراد الله أن يفتح رحمة على من يشاء من عباده المؤمنين هل تقبل هذه الآلهة أم تمنع رحمة الله؟
الجواب
لا تقدر على ذلك، فإذا كانت الآلهة لا تملك ولا تقدر فالله وحده لا شريك له هو حسبي وكافيّ، وهو الكافي سبحانه، وهو الذي يدافع عني وهو الذي ينصرني.
قال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] فيفوض المؤمنون أمورهم إلى الله، ويعتمدون عليه وحده لا شريك له، فهو وكيلهم وهم يبرءون من الحول والقوة إلا بالله سبحانه وهذا معنى لا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله أن يجعلنا من المتوكلين عليه أحسن التوكل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(352/10)
تفسير سورة الزمر [38 - 42]
أمر الله عز وجل نبيه أن يقول للمكذبين من قومه: استمروا على ما أنتم عليه من الضلال والتكذيب فإني مستمر على ما أنا عليه من التوحيد والهداية، وستعلمون إذا رجعنا إلى ربنا سبحانه من الذي يستحق العذاب المخزي والمقيم المستمر الذي لا ينقطع؟ نحن الذين عبدنا الله ووحدناه أم أنتم الذين عصيتموه وأشركتم به؟ والله سبحانه قد أنزل الكتاب المشتمل على الحق من عنده، فمن تمسك به اهتدى، ومن لم يتمسك به ضل وغوى، ونبيه ليس وكيلاً على العباد، وإنما هو رسول إليهم يبين لهم طريق الحق ليتبعوه، ويحذرهم من طريق الشر ليجتنبوه.(353/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعملون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ * اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:39 - 42].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن قدرته العظيمة سبحانه وتعالى في الخلق وفي الإحياء وفي الإماتة، ويدل عباده على أنه وحده الذي بيده مقاليد كل شيء، بيده الخير، يرسل لمن يشاء ويمسك عمن يشاء سبحانه وتعالى، فما أرسل فلا أحد يقدر أن يمنعه، وما أمسك فلا أحد يقدر أن يرسله، فبيده الخير وحده لا شريك له، والذين يدعون من دون الله سبحانه {َلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، فقال الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، لقد أقر المشركون أن الذي خلق السموات والأرض هو الله سبحانه وتعالى، فقال لهم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38] أي أخبروني عن هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله، من الأصنام والأوثان والأحجار، هل تملك مع الله سبحانه وتعالى في ملكه شيئاً؟ {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] أي: إذا أراد الله عز وجل أن يبتلي العبد ببلاء من عنده، أو بمصيبة من المصائب هل تقدر هذه الأصنام أن تكشف هذه المصيبة عن هذا العبد؟ {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]،
و
الجواب
لا تقدر الأصنام على ذلك، إنها لا تملك لنفسها شيئاً ولا لغيرها شيئاً، فكيف تنفع وتضر مع الله سبحانه وتعالى؟ قل لهؤلاء: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: يكفيني طالما أنكم اعترفتم أن هذه الأصنام لا تلمك لنفسها ولا لغيرها شيئاً، فلا أعبد ما تعبدون من دون الله، يكفيني أن أعبد الله سبحانه وتعالى، فهو يكفيني وهو الذي يدفع عني ويحميني، وهو الذي أعبده وأتوجه إليه وحده لا شريك له.
{حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] أي: إنني أتوكل على الله مع المتوكلين عليه، فهو الذي يرزقني، وهو الذي يعطيني، وهو الذي يمنحني من فضله سبحانه ومن رحمته.
يقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38]، يقول لهؤلاء مخاطباً عقولهم: أفرأيتم هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وهم يعرفون تماماً أنهم هم الذين صنعوها بأيديهم، ومع ذلك عبدوها من دون الله سبحانه، فيقول: أخبروني عن هؤلاء؟ ما الذي تملكه؟ وما الذي نفعتكم به حتى عبدتموها من دون الله سبحانه، وحتى أصررتم على ذلك؟ هم لا يجاوبون بالعقل، وإنما
الجواب
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]! يضحك عليهم الشيطان، ويخدعهم بمثل ذلك، حتى إن أحدهم يقول: أبي أعلم مني، وأبي كان يفعل ذلك، فأنا أفعل كما فعل أبي! فالله سبحانه يعجب الخلق من هؤلاء، أين عقول هؤلاء حين عبدوا هذه الأصنام؟!(353/2)
تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون)
قال الله سبحانه: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) أي: استمروا على ما أنتم فيه، {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الزمر:39] قراءة الجمهور: و ((اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ))، وقراءة شعبه عن عاصم: (على مكاناتكم) والمعنى على طريقتكم التي أنتم عليها، وليس المعنى أنه يبيح لهم أن يعبدوا غير الله، ولكن كأنه يقول لهم: اعملوا وستجزون، ففيها تهديد لهؤلاء، فطالما أنكم ترفضون ما أنا عليه من التوحيد وما أنا عليه من الحق، مع علمكم بأن هذا الكتاب كتاب من عند رب العالمين، وأنه الكتاب الحق، وأنما أنتم فيه هو الباطل؛ فاستمروا على ما أنتم فيه حتى تلقوا ربكم فيجازيكم على ما تصنعون، والمكانة والمكان بمعنى الجهة التي تمكنت عندكم، ((اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) أي: على جهتكم، وعلى طريقتكم، وعلى ما أنتم فيه، وهذا فيه تهديد لهؤلاء.
((إِنِّي عَامِلٌ)) أي: على مكانتي، وعلى جهتي، وعلى ما مكنني فيه ربي سبحانه، فأنا عامل على التوحيد، وعلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) هذا تهديد ووعيد لهؤلاء، {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود:39] أي: من هو الذي سينزل عليه عذاب من عند رب العالمين فيخزيه، ويقهره ويذله، ويذيقه الهوان، ((وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)) والذي يستحق هذا العذاب، هو الذي ألغى عقله، وعبد غير الله سبحانه، أقر بأن الله سبحانه هو الرب ومع ذلك وجه العبادة إلى غيره، فيحل عليه عذاب مقيم، لا يصرف عنه بل هو ملازم له ملازمة الغريم في نار جهنم والعياذ بالله.(353/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق)
قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41]، الكتاب هو القرآن العظيم، وعبر بنون العظمة، ليدل على أنه كتاب عظيم يستحق من التعظيم ما يستحقه، ((إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ))، وفي سورة النساء، قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، فالله أنزل الكتاب من السماء، وهذا دليل من الأدلة على علو رب العالمين سبحانه، وأنه فوق سمواته مستو على عرشه سبحانه، وقد نزل الكتاب مع روح القدس جبريل الأمين، نزله ربه سبحانه على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لينذر به، وليهدي به من شاء الله سبحانه.
وقوله: (الكتاب) أي: الكتاب المعهود المعروف، وهو القرآن العظيم.
(للناس بالحق) أي: إنزاله من السماء حقاً ونزل مشتملاً على الحق، ففيه الحق من عند رب العالمين، وفيه أحكام الشريعة، ليحكم بين الناس بالعدل وبالحق، فنزل حقاً من عند رب العالمين، ونزل مشتملاً على كلام رب العالمين، وعلى الشريعة الحقة من الله سبحانه.
(فمن اهتدى فلنفسه) أي: من أخذ بهذا القرآن وتمسك به فلنفسه النفع، ولنفسه الرحمة من الله سبحانه وتعالى، فالإنسان هو الذي ينتفع بتلاوة القرآن وبالعمل به، ولن ينفع ربه شيئاً سبحانه وتعالى، بل إن النفع يرجع على من يؤمن برب العالمين، ويصدق بكتابه ويعمل به.
(ومن ضل) أي: من انحرف عن طريق رب العالمين، وترك العمل بما جاء من عند رب العالمين، من جعل كتاب الله وراءه ظهرياً.
(فإنما يضل على نفسه) أي: وبال الضلال على نفسه، وشؤم ضلاله على نفسه، فهو الذي تتنزل عليه العقوبة من عند رب العالمين بسبب ضلالة.
قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه سبحانه أن يتوكل عليه فقال: {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، وأخبره أنه ليس وكيلاً على الخلق، فليس مفوضاً إليه أمر الخلائق عليه الصلاة والسلام، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:23 - 24].
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم منذر، ومبشر، ورسول من عند رب العالمين، (ما على الرسول إلا البلاغ)، أما أن يكون وكيلاً على الخلق، ومراقباً وحفيظاً عليهم ومغيراً ما هم فيه إلى شيء آخر فهذا لا يملكه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول له ربه سبحانه، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وهذا موافق لهذا المعنى، ولما يقول: {وََإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فهو موافق له، فهو يهدي بمعنى: يدل عليه الصلاة والسلام، ولا يهدي بمعنى لا يغير ما في القلوب عليه الصلاة والسلام.
فهو عليه الدلالة يدل الناس، هذا طريق الحق فاتبعوه، لكن هل يملك أن يقهرهم على التغير عما هم فيه إلى شيء آخر؟ لا، الذي يحول القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فليس النبي صلى الله عليه وسلم موكلاً بتغييرهم من حال إلى حال، وهو كقوله سبحانه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: لا تملك السيطرة على القلوب، إنما يملك ذلك الله سبحانه وتعالى، فالله يغير القلوب، والنبي صلوات الله وسلامه عليه يدل على الخير الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41] يعني: لم نوصك عليهم، ولست مسيطراً عليهم، مغيراً لما في قلوبهم، فأنت لا تملك ذلك، وإنما يملكه الله سبحانه فهو نعم المولى، ونعم الوكيل، ونعم الحفيظ سبحانه وتعالى.(353/4)
تفسير قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)
يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام وللناس: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، في هذه الآية دليل على قدرة الله سبحانه العظيم، فهو يذكر لنا في هذه الآيات شيئاً وراء شيء، يذكر أنه الذي خلق السماوات والأرض، والسور المكية فيها كثير من ذلك، ففيها بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق، وأنه الرب، فيخاطب العقول، هل الذي يخلق كمن لا يخلق؟ هل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟ هل يستوي العبد مع ربه، حاشا لله سبحانه وتعالى.
فالله الذي خلق السماوات والأرض، والله هو الذي خلق هذه الأنفس، والله هو الذي يتوفى هذه الأنفس، فهل تملك آلهتكم من ذلك شيئاً؟ يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى} [الزمر:42] أي: يقبضها وافية سبحانه وتعالى، و ((الأَنْفُسَ)) أي: الأرواح، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالله يقبض نفوس خلقه إذا ناموا، والنوم أخو الموت كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام أهل الجنة؟ فقال: لا، النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون)، فلا ينام أهل الجنة، والنوم يحتاجه الإنسان ليستريح، فإن الدنيا دار عناء وتعب ومشقة، فيحتاج الإنسان للنوم ليستريح من تعبه ومشقته، أما الجنة فهي دار السعادة، ودار الراحة، والإنسان مستريح فيها لا يحتاج إلى أن يجدد نشاطه بنوم، بل عمره كله في الجنة في استمتاع وراحة ونعيم مقيم.
فيقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) أي: إذا جاء وقت الموت قبض الله نفوس خلقه، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، فهذا نوع من الوفاة، والله أعلم به وبحال عباده فيه، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
خلق الله عز وجل الأرواح قبل أن يخلق هذه الأجساد {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، وغفل العباد عن ذلك، ولكن أوجد الله عز وجل في قلوبهم الفطر التي تدلهم على أن الله هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فالله هو الذي خلق أرواح عباده، فيقبض هذه الأرواح في وقت وفاتها، ويقبضها أيضاً في وقت نومها، فتخرج الأرواح في وقت نوم الإنسان بطريقة الله أعلم بها، ولكنها ليست كالطريقة التي تخرج حين يموت العبد، وإن كان هذا نوع من الخروج، وتلتقي الأرواح كما يشاء الله سبحانه، ويتعارف بعضها مع بعض، فما تعارف منها ائتلف، فتجد الإنسان يرى غيره أول مرة، وما رآه قبل ذلك، ومع ذلك يستريح إليه ويحبه ويتحدث معه، فيقول: (ما تعارف منها ائتلف)، أي: ما تعارف منها حين قبضها الله سبحانه وتعالى ائتلف، (وما تناكر منها اختلف)، فهنا يخبرنا ربنا سبحانه أنه يقبض الأرواح في حالين، في حال الوفاة، وهو القبض الذي لا رجوع فيه للروح إلى الجسد مرة أخرى في هذه الدنيا، وإنما ترجع إليه حين تقوم الساعة، وقبض آخر لكن الروح ترجع فيه إلى الجسد.
قال: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] يقبضها الله سبحانه في وقت نومها قبضاً يعلمه الله سبحانه، وليس كقبض الروح الذي تخرج فلا ترجع إلى الإنسان.
قال الله سبحانه: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، التي قضى عليها الموت يمسكها، فلا ترجع إلى جسدها مرة أخرى، والتي لم يقض عليها الموت ترجع إلى جسدها، وهذه الآية أجملت ذلك وفصله ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كيفية خروج الروح من البدن في الموت، وأن الله عز وجل يرسل ملك الموت فيأتي ملك الموت إلى من قضى الله سبحانه وتعالى عليه الموت، فيقول: (اخرجي أيتها الروح)، إن كانت روحاً طيبة قال: (اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان)، وإذا كانت روحاً خبيثة قال: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كنت في الجسد الخبيث إلى رب غضبان)، فتخرج هذه وتخرج هذه، كما يشاء الله سبحانه وتعالى.
فهو سبحانه أجمل في قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] كيفية خروجها، وأنه جاء إليها ملك الموت فأخرجها، أما الأخرى فلم يخبر النبي أن ملك الموت هو الذي جاءها ولكن الله هو الذي فعل بها ذلك، ثم ترجع إلى الجسد مرة ثانية كما يشاء الله سبحانه وتعالى.
((قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((فَيُمْسِكُ الَّتِي قُضَي عَلَيْهَا الْمَوْتُ)).
قال: ((وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: ويرسل النفس التي لم يقض عليها بالوفاة إلى أن تعمر العمر الذي كتبه الله، إلى الأجل المسمى.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42]، فهذا نائم وهذا ميت، هذا كهذا ولكن الميت له حال والآخر له حال آخر.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا)، ومناسبة هذا أنه (كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سفر ثم قال لـ بلال: اكلأ لنا الفجر)، فقد نزلوا آخر الليل.
قبل أن يطلع الفجر، فأرادوا أن يناموا من شدة التعب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال رضي الله عنه (اكلأ لنا الفجر) أي: احرس لنا الفجر، (فجلس بلال رضي الله تعالى عنه، ثم نام بلال ونام المسلمون ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس)، لحكمة من الله سبحانه، فلما قام الصحابة فزعوا لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم طمأنهم بأن الذي فعل بهم ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فقال: (يا أيها الناس! إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء ردها إلينا)، فالله أراد أن يناموا في هذا الوقت حتى يبين لنا حكم من وقع في مثل ذلك: (فالنبي صلى الله عليه وسلم قام وتوضأ، وتوضأ معه أصحابه، وصلى سنة الصبح ثم صلى الفجر) فبين لنا بفعله صلى الله عليه وسلم أن من نام عن صلاة الصبح، فعليه أن يفعل كالذي قام في وقتها، يصلي النافلة قبلها، ثم يصلي صلاة الصبح بعد ذلك.
وفي الحديث: (إن الله قبض أرواحنا)، وهذا نوع من أنواع الموت، وهو النوم، ثم رد الله سبحانه وتعالى الأرواح بعد ذلك.
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
من السنة أن تنفض الفراش قبل أن تنام عليه، وإذا نمت فمن السنة أن تضع يدك تحت خدك الأيمن، وتقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا دعاء عظيم من الأدعية التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، (إن أمسكت نفسي)، فالذي سينام بين أمرين إما أن يقوم من نومه وإما أن يموت، (إن أمسكت نفسي) أي: قبضت روحي في هذا النوم (فارحمها) أي: فاغفر لها، (وإن أرسلتها) أي: إن بعثت روحي مرة أخرى وتركتني أعيش، (فاحفظني بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا من الأدعية الجميلة المهمة، ومنه أن يحفظه كحفظه لعباده الصالحين، وهو سبحانه حفظ عباده الصالحين فوقاهم شرور الخلق، ويقيهم الابتلاءات إلا ما شاء سبحانه وتعالى، ويحفظ عليهم دينهم فيذكرون الله ويقرءون القرآن ويعملون الصالحات، فيحفظهم على ما يحب لهم من خير من كل وجه من الوجوه، ويحفظ لهم تقواهم.
نسأل الله عز وجل أن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(353/5)
تفسير سورة الزمر [43 - 47]
ذم الله تعالى المشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله من الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان على ذلك، وهي لا تملك شيئاً من الأمر؛ بل ليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، فكيف يعبدونها من دون الله سبحانه، وهو الخالق والفاطر للسماوات والأرض وكل شيء؟!(354/1)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله أنداداً وشركاء، وزعموا أنهم شفعاء لهم عند ربهم سبحانه، وأنهم يقربونهم إلى الله سبحانه.
هذه السورة كما ذكرنا من السور المكية التي نزلت، والشرك يملأ الأرض، والمشركون يعبدون غير الله سبحانه، والمؤمنون قلة يدعون الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فالله عز وجل يفضح هؤلاء المشركين الذين يقرون بأن الله هو الرب، وأن الله هو الخالق، وأنه خلق السماوات والأرض، ويملك كل شيء، ومع ذلك إذا توجهوا بالعبادة عبدوا غير الله سبحانه وتعالى.
يقول الله عز وجل هنا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} أي: بل اتخذوا من دون الله سبحانه وتعالى هذه الأصنام، وظنوا أنها تقربهم من الله، وأنها تشفع لهم عند الله سبحانه وتعالى! والشفيع بين الناس هو الإنسان الذي يأتي إلى غيره في حاجة له، فيقول: يا فلان اشفع لي عند فلان، فكنت وحدك وتراً، فأخذت هذا شفعاً معك، فصرتما اثنين، فهو يعاونك في هذه الحاجة حتى يقضيها لك هذا الإنسان.
إذاً: أصل الشفاعة من الشفع، والشفع هو الزوج، كأنك وحدك لا تقدر عليها، فتحتاج إلى غيرك ليكون معك ويقويك حتى تقضي هذه الحاجة.
فهنا هؤلاء زعموا أن هذه الأصنام تكون معهم وتقربهم عند الله سبحانه وتعالى، وتشفع لهم عند الله، فقال سبحانه: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ))، أي: هل اتخذوا من دون الله هذه الأصنام تشفع لهم وتأتي معهم عند الله سبحانه، لترفع حاجتهم عند الله؟ ومن الذي أخبرهم بذلك؟ وهل عندهم أثارة من علم من عند الله سبحانه بذلك أم جاءهم رسول يأمرهم بأن يفعلوا ذلك؟ ليس عندهم هذا ولا ذاك، بل كذبوا على أنفسهم وكذبوا على ربهم سبحانه.
قال سبحانه: ((قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ)) أي: هؤلاء الشفعاء لا يملكون شيئاً، وهذه الأصنام لا تملك شيئاً، ولا تعقل ما يراد منها، ولا تفهم ما يقولونه لها، فهل تجيبهم إذا دعوها؟! هم يعرفون تماماً أن الأصنام لا تتكلم ولا تدفع عن نفسها شيئاً، فإذا كانت كذلك فكيف تعبدونها من دون الله سبحانه؟ قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] أي: الشفاعة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول في كتابه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87]، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أي: من هذا الذي يشفع عند الله سبحانه؟ فهذا الذي يشفع عند الله لا يشفع إلا بإذن الله سبحانه؛ ليرينا قدرته وقوته، وأنه وحده الفعال لما يريد، ولا أحد يملك مع الله شيئاً، ولذلك في مقام الشفاعة العظمى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه يأتي يوم القيامة حتى يشفع عند ربه سبحانه لفصل القضاء بين العباد، فيخر ساجداً، ويتركه الله ما يشاء سبحانه وتعالى، فهو عندما يسجد لله يفتح الله عليه بمحامد يعلمه الله عز وجل إياها، فيحمد ربه ويمجد ربه سبحانه، حتى يشفع عند ربه سبحانه فيأذن له ربه سبحانه، بعدما يتركه ما يشاء سبحانه؛ ليرينا أنه لا أحد يملك الشفاعة، فيسجد لربه ما شاء الله سبحانه، ثم بعد ذلك يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) كل هذا حتى نعلم أنه لا يملك الشفاعة إلا الله، حتى رسولنا صلوات الله وسلامه عليه إلا أن يأذن الله سبحانه وتعالى له، وهذا معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيأذن له ربه سبحانه ويقول له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، فيقول: يا رب أمتي أمتي).
فالإذن بهذه الشفاعة يملكه الله وحده؛ لأن كل الشفاعة يملكها الله سبحانه وتعالى وحده، فإذا قام الأنبياء ليشفعوا فإنهم لا يشفعون إلا أن يأذن الله عز وجل لهم، كذلك إذا قام المؤمنون ليشفع بعضهم لبعض برفع بعضهم درجات عند الله سبحانه، وأن يخرج بعضهم من النار بإذنه سبحانه وتعالى، فلا يقدر أحد أن يشفع لأحد إلا أن يأذن الله سبحانه وتعالى فتشفع الرسل، وتشفع الملائكة، لكن بعدما يأذن الله سبحانه وتعالى.(354/2)
تفسير قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعاً)
قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44] أي: أنه سبحانه يملك السماوات وما فيها وما فوقها، ويملك الأرض وما فيها وما فوقها وما تحتها، فهو يملك كل شيء سبحانه، وله ملكوت كل شيء ثم إليه المرجع سبحانه، فيملك العباد ويملك ما يملكون، ويجازيهم يوم القيامة على ما قدموا وفعلوا.
فقوله: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (ثم إليه تَرجِعون) على البناء للفاعل، أي: ترجعون أنتم إلى الله رب العالمين سبحانه ليجازيكم.(354/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)
قال الله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] انظر إلى المشرك بالله كيف عاثت الشياطين في قلبه فساداً، فإذا به إذا ذكر الله وحده سبحانه الذي يقر هذا المشرك بأنه الذي خلق السماوات والأرض، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، يشمئز وينفر ويرفض هذا، ويعرض عن الله سبحانه وتعالى، والاشمئزاز هو الانقباض، فالمشرك ينقبض قلبه عند ذكر الله؛ لأن قلبه خرب لا يعرف التوحيد، ولذلك تجد المشركين يستهزئون من المؤمنين الموحدين الذين يدعونهم إلى عبادة الله وحده، فيقول قائلهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص:7 - 8] فهؤلاء الذين يتهكمون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتهكمون على مقام التوحيد، ويقولون: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)) تناسوا أنهم أقروا أن الخالق واحد سبحانه وتعالى، فنقول لهذا وأمثاله: لم لا تعبد هذا الخالق الواحد الذي أقررت أنت بأنه الذي خلق السماوات والأرض؟ فالنعرة الجاهلية والتعصب القبلي الذي عندهم، وكل قبيلة عندها صنم خاص بها، كل هذا جعله يقول: هل كلنا نعبد إلهاً واحداً ويأتي هذا الواحد ويقول لنا: اعملوا كذا، ولا تعملوا كذا؟! لا، لا نريد هذا الشيء، فكل واحد منهم يريد أن يعبد ما يشاء؛ بسبب هذه النعرة الجاهلية التي عندهم، كانوا يتنافسون أيام الجاهلية، هؤلاء يسبقون هؤلاء، كلهم يريد أن يكون السابق، ويريد أن ينفرد كل بالمدائح دون غيره، فكل هذا جعل أحدهم يقول: منكم رسول يا بني هاشم ونحن من أين نأتي برسول مثله؟ فيرفضون التوحيد بسبب هذه النعرة! كأن الدين لعبة يتلاعبون به، هؤلاء لا يحكمون عقولهم، ولا يفهمون ما يقال لهم، والكافر لا يحاول أن يفكر في هذا الشيء، ولذلك لما دخلوا في دين الإسلام بعد ذلك كانوا يضحكون على أنفسهم، كانوا يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر في المسجد حتى شروق الشمس، وهم يذكرون الله، فإذا شرقت الشمس انتظروا حتى ترتفع فيصلون الضحى، ثم يذكرون أشياء مما كانوا عليه في الجاهلية، ويضحكون على أنفسهم فيما كانوا يصنعون.
الإنسان هو الإنسان، هو هذا الذي كان مشركاً يوماً من الأيام، فالآن دخل في دين الله سبحانه، فإذا به يضحك على نفسه، كيف كان يعبد الصنم الذي صنعه هو بيده؟! كيف صنع صنماً من عجوة ثم لما جاع أكل هذا الصنم الذي يقربه إلى الله حسب زعمه؟! فكانوا يضحكون على أنفسهم فيما كانوا يفعلونه أيام جاهليتهم.
كان أهل الجاهلية إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وانقبضت ونفرت؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وكانوا يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: سنموت بعد هذه الدنيا ولن نرجع بعد ذلك، فلذلك يرفضون أن يدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يصدقون بوجود الآخرة، وأنهم راجعون إلى الله، ليجازيهم في الدار الآخرة.
ثم قال: ((وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) أي: إذا ذكر بعضهم لبعض هذه الأصنام والأوثان فرحوا بها، وذهبوا إلى أوثانهم وأصنامهم، وطيبوها وغسلوها ومسحوها، وتقربوا إليها من دون الله سبحانه مستبشرين بذلك، ((إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) أي: يظهر في وجوههم البشر والفرح والسرور.(354/4)
تفسير قوله تعالى: (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة)
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46]، هذه الآية العظيمة الجميلة التي تكسب المؤمن حين يتلوها الثقة بالله سبحانه وتعالى، والتوكل على الله سبحانه، والركون إلى ربه سبحانه، والخضوع له سبحانه، والتسليم والتفويض إليه سبحانه.
فقوله: ((قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يعني: قل: يا ألله، يا فاطر السماوات والأرض.
((اللهم)) هذا نداء، معناه: يا ألله، فهنا جمع بين صفة الإلهية، وأنه الإله المستحق للعبادة، وبين صفة الربوبية، وأنه الرب الذي يخلق ويرزق ويفعل ما يشاء ويحكم بما يريد سبحانه.
قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ} [الزمر:46] يعني: يا من فطر السماوات، أي: خلقها على غير مثال سابق سبحانه وتعالى، لم تكن هناك سماء فخلق هذه مثلها، لا، بل فطرها وابتدعها سبحانه وتعالى، كذلك الأرض فطرها الله سبحانه وتعالى على غير مثال سابق.
ثم قال: ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) يعني: يا عالم الغيب والشهادة، يا من تعلم كل شيء، وما خفي عن الخلق لا يخفى عليك، ما يشاهده الخلق وما غاب عنهم أنت تعلمه، فأنت عالم الغيب والشهادة.
ثم قال: ((أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) يعني: أفوض أمري إليك أنت تحكم بيننا وبين هؤلاء المشركين، وأنت تقضي بيننا وبين هؤلاء الظلمة، وأنت تحكم يوم القيامة بيننا فيما اختلفنا فيه.
هذه الآية العظيمة كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستفتح بها في قيام الليل، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وقد سألها حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بأي شيء كان يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته يقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، فكان يستفتح قيام الليل بسؤاله ربه سبحانه بأسمائه الحسنى التي جاءت في هذه الآية، من أنه فاطر السماوات والأرض، وأنه عالم الغيب والشهادة سبحانه، وقبلها يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل)، وهؤلاء هم أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى، والله أعظم وأعلى وأجل وأكبر سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا ألله يا من خلقت هؤلاء الملائكة العظماء كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ويا من فطرت وخلقت السماوات على غير مثال سابق، وخلقت الأرض اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك.
والمؤمن لا يمل من سؤال ربه الهداية، تسأل ربك الهداية سبحانه وتعالى في كل صلاة من الصلوات الخمس، فأنت تقرأ الفاتحة في كل ركعة وتقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: الطريق القويم، طريق رب العالمين، فالله يهديك ويدلك ويثبتك، فلا تزال على ذلك حتى تصل إلى الجنة ويدخلك الجنة، فلذلك تحتاج إلى سؤال الله سبحانه الجنة وسؤاله أن يهديك طريقها، وقد شاء الله عز وجل أن يهدي خلقاً وأن يضل خلقاً، فاختلف الخلق في ذلك، فمنهم من ضل ومنهم من اهتدى، والله عز وجل شاء ذلك، فاطلب منه الهداية وقل: اهدني لما اختلف فيه من هذا الحق بفضلك وبإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(354/5)
تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب)
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يخبرنا سبحانه عن يوم القيامة وما يكون فيه فيقول: ((وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: الذين ظلموا أنفسهم بأن أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وأشركوا معه غيره، والذين عصوا ربهم ولم يتابعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، لو أنهم يوم القيامة معهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه أضعاف مضاعفة، معهم كنوز الأرض جميعها أو مع أحدهم ومثلها معها لافتدى بها من عذاب يوم القيامة، يفتدي من النار بكنوز الأرض، كيف وهو لا يملكها، لم يملكها في الدنيا وليس معه شيء منها في الآخرة، قال: ((لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية العظيمة فيها معان عظيمة ينبغي للإنسان أن يتأملها، وأن يراجع نفسه وعمله مع هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) [الزمر:47] أي: بدا لهم من الله، كأن الإنسان ظلم نفسه في الدنيا وأحسن الظن بزعمه أنه إذا رجع إلى الله فإنه سيكرمه وسيدخله الجنة، هو أحسن الظن في نفسه وأساء العمل، فلما جاء يوم القيامة بدا له ما لم يكن يحتسب! قال الله عز وجل عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: هؤلاء الكفار عملوا في الدنيا أعمالاً يرونها صالحة، ومن أسلم منهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم، يقول الرجل: (إن أبي كان يصنع كذا وكذا وكذا، كان يطعم في الجاهلية، وكان يسقي الحجيج، وكان يعتق الرقاب، فهل ينفعه ذلك؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) يعني: أنه كان يعمل هذه الأشياء في الدنيا ليس لله سبحانه، فكونه يطعم الحجيج ويسقيهم، ويفك الرقاب، ويعين الإنسان المظلوم، لا ينتفع بذلك، ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) فالإنسان الذي يرائي بعمله في الدنيا، فيعمل حتى يقال عنه: عالم، وحتى يقال عنه: جريء، وحتى يقال عنه: شجاع، وحتى يقال عنه: قارئ، وحتى يقال عنه: منفق وجواد، فإذا جاء يوم القيامة: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)).
يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات.
وقال غيره: عملوا أعمالاً وتوهموا أنهم يتوبون إلى الله قبل الموت.
والإنسان يخدع نفسه بالتسويف ويقول: في هذا اليوم سنعصي ربنا وغداً سنتوب فخدع نفسه فخدعه الله سبحانه وتعالى، ولم يأت هذا اليوم الذي توهم أنه يتوب، وإنما عاجله الموت وبادره قبل أن يتوب، ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)).
يقول الإمام الثوري رحمه الله: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم، هذه آيتهم وقصتهم.
أي: المراءون الذين يراءون بأعمالهم، ويطلبون من الناس المدح على أعمال المفترض أنها تكون لله سبحانه وتعالى، لكنهم طلبوا من الناس المدح فمدحهم الناس وضاع ثواب العمل، فوجدوا من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
يقول عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، ومحمد بن المنكدر كان من الزهاد العباد الصالحين، فلما جاءه الموت وجدوه في غاية الجزع والخوف فقالوا: كيف تجزع وأنت تموت، وقد كنت تصلي وتقوم الليل وتكثر من الذكر؟! ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله! قالوا: أي آية؟ قال: هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ))، هذا العابد الزاهد خاف في آخر عمره من هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) فكيف بغيره؟! فالإنسان المؤمن يحاسب نفسه، ويراجع نفسه في كل عمل من الأعمال، هل هو مخلص لله أو غير مخلص؟! هل هو متابع للنبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله أم مبتدع في دين الله سبحانه؟! فليحذر كل من هذه الآية، وليحذر أن يرائي في الدنيا وأن يعمل أعمالاً ليست على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي يوم القيامة ويرد عليه عمله، ويقال له: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(354/6)
تفسير سورة الزمر [47 - 52]
حين يرى المشركون الجنة قد أزلفت، والنار قد برزت، يتمنى المفرطون أن ينجوا من المصيبة التي نزلت بهم، ولو ببذل دنياهم التي طالما تقاتلوا عليها، وكفروا وعصوا من أجلها؛ لأنه ظهر لهم من الأمر ما لم يكن في الحسبان، ففي تلك المواطن تسكب العبرات حقاً، وتتقطع الأفئدة حزناً وندماً، فأين من يستعد لهذا اليوم؟! فعلى العبد أن يلتزم العبادة في السراء والضراء، وعند النعمة والبلاء، ويعلم أن الملك ملك الله يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك سبحانه.(355/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:47 - 52].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة الزمر عن حال المشركين يوم القيامة، وحال الظلمة والمجرمين، أنه لو كان لأحدهم يوم القيامة ملء الأرض من الذهب، ومثله معه أي: ملؤها مرة أخرى لافتدى بها يوم القيامة من سوء العذاب ومن سوء الحساب، ما تقبل منهم! قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزمر:47] أي: الذين كذبوا وأشركوا بالله سبحانه {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:47]، وإذا كان المرء في الدنيا لا يملك ما في الأرض جميعاً فكيف به يوم القيامة؟! إذ الأرض يوزعها الله عز وجل بين عباده، فهذا يملك شيئاً وذاك يملك شيئاً، ولا أحد من ملوك الأرض يملك جميع ما في الأرض، ولكن الله عز وجل يُملّك من يشاء ما يشاء من الدنيا، فيملك ناساً بعضاً من كنوزها، وآخرين منافعها، وهكذا ويخاطبهم الله في الآية على فرض أن يملك أحدهم يوم القيامة مثل هذه الأرض، فيملك كنوزها ومثل هذه الكنوز معها لافتدى بهذا كله من عذاب الله يوم القيامة، قال تعالى: {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فقد كانوا في الدنيا في غفلة، وكان أحدهم يسوف ويقول: غداً أتوب، وغداً أوحد الله ولا أشرك به، وغداً أفعل كذا، ولكن هذا الغد لم يأت إلا وقد ماتوا على كفرهم وعلى شركهم، وعلى فسوقهم وعصيانهم، فماتوا على غير توبة، فإذا بهم يوم القيامة يودون الرجوع ولا رجوع، ويودون أن لو يفتدوا وكيف وهم لا يملكون شيئاً، ولو كانوا يملكون شيئاً ما تقبل منهم ذلك؟! قال الله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] أي: بدا لهم من الله عز وجل ما لم يكن في ضميرهم، وما لم يدر في خلدهم أن يفعل بهم ذلك، وإن قالوا: كنا نحسن الظن، لكنهم أساءوا العمل، أو قالوا: كنا نحسن الظن، لكنهم وقعوا في الشرك بالله سبحانه، فلم يَتقبل منهم شيئاً من أعمالهم.
قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:48]، فقد كسبوا السيئات، وجزاء سيئة بمثلها، وأساءوا فكان لهم من الله عز وجل ما يسوءهم، وهو العقاب الشديد، فكان الجزاء جزاءً وفاقاً، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ} [الزمر:48] أي: عقوبات ما اجترحوا في الدنيا وكسبوا من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الزمر:48] أي: نزل بهم نزول مصيبة، (حاق) بمعنى: أحدق بهم وأحاط بهم، فلم يفلتوا منه، وما ذلك إلا جزاء: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزمر:48] أي: ما كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا، ومن البعث والنشور، ومن القيام من القبور، ومن الحساب والجزاء، ومن عقوبة الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة.(355/2)
تفسير قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا)
قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]، فالله عز وجل بعد أن يخلق الإنسان يرزقه، ويعطيه من الدنيا ما يشاءه سبحانه تبارك وتعالى، ويبين له طريقه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، عله أن يشعر بنعم الله عز وجل عليه ليل نهار، ومع ذلك ينسى شكر هذه النعم من الله سبحانه، فإذا مسه شيء من الظلم لجأ إلى ربه، فدعاه رافعاً يديه: يا رب! يا رب! وكلما استشعر الإنسان أنه ضعيف وأنه عاجز، أو استشعر أنه مريض لجأ إلى الله، وناداه: يا رب! يا رب! ونحن نرى الطلاب عندما يدنوا الامتحان يسعون إلى المساجد، فتجد أحدهم يصلي الفجر، ويلهج بالدعاء: يا رب! ويطلب النجاح، فإذا ظهرت النتيجة ونجح نسى ذلك كله! وعاد إلى تضييع الصلاة، كذلك المرء عندما يبحث عن وظيفة يصلي استخارة، ويصلي للحاجة، ويدعوا ربه قائلاً: يا رب! يا رب! فإذا قبل في العمل نسى ربه سبحانه تبارك وتعالى! فكلما احتاج الإنسان إلى ربه وغلب على ظنه أنه الآن محتاج وأنه فقير إلى الله يتذكر ويرجع إلى الله ويقول: يا رب! يا رب! قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر:49] أي: إذا أصابه شيء من مصائب الدنيا وما يتضرر ويتأذى به، أو يسهر من أجله، أو يبحث عن الدواء من أجل ذلك، يفزع إلى الله وينادي: يا رب! يا رب! وقوله سبحانه: {دَعَانَا} [الزمر:49] أي: دعا ربه سبحانه، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} [الزمر:49] والتخويل بمعنى: التمليك، أي: ملكناه، وأعطيناه شيئاً من هذه الدنيا قال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} [الزمر:49]، ونسب الله النعمة إلى نفسه، فهو صاحب جميع النعم سبحانه تبارك وتعالى، إلا أنه بعد أن ينعم على هذا الإنسان يغتر بنفسه ويتكبر وينسب النعمة إلى نفسه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49] والإنسان عندما يذكر بالله سبحانه ونعمه عليه ويقال له: من الذي علمك إلا الله؟ ومن الذي أعطاك المال إلا الله؟ يجيب قائلاً: إن الله ما أعطاني إلا لأني أستحق ذلك، غروراً منه! فيرى نفسه مستحقاً، ويقول أيضاً: لو لم أكن مستحقاً لم يعطني الله، أو يقول: لو لم أكن ذكياً لم أتفوق، ولو لم أكن قادراً على الكسب والعمل لم يعطني الله سبحانه، فكان قوله هذا رجوعاً إلى الكفر مرة أخرى.
وفي الآية يذكر الله عز وجل غرور هذا الإنسان، وكفره لنعمه ربه بعد أن دعاه في وقت الضر قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49]، وقوله: (على علم) محتملة لعدة معاني وكلها صحيحة، منها: أن ينسب العلم لنفسه، كأنه يقول: على علم مني؛ لأنني تعلمت، أو كوني تعلمت ولدي خبرة في الدنيا، ولأجل ذلك استطعت أن أكسب، وهو بذلك ينسى الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد يكون المعنى: إنما أوتيته على علم من الله، أنني أستحق ذلك، ولأجل استحقاقي أعطاني، وقد كان الكفار المجرمون ومن على شاكلتهم يتطاولون على المؤمنين، ويقولون: أنتم تقولون: هناك جنة ونار! وتقولون: إننا سنبعث يوم القيامة، أليس الله قد أعطانا في الدنيا ومنعكم، وما ذاك إلا أننا أفضل منكم، وكذلك إذا بعثنا يوم القيامة فسيعطينا الله أفضل منكم! وهم بقولهم ذاك قد قاسوا الآخرة على الدنيا، وكأنهم يرون أن الله أعطاهم لكونهم يستحقون ذلك، ونسوا أن الله يملي للكافرين قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
ثم أضرب عن قوله: إنما أوتيته على علم، فقال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:49] أي: ما هم فيه من نعم إنما هي فتنة فتنهم الله سبحانه تبارك وتعالى بها، ومن معاني الفتنة: الاختبار، فالمعنى: اختبرهم فرسبوا في الاختبار.
ثم قال سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49] أي: لا يعلمون أن هذا استدراج من الله لهم، وأن هذا امتحان وأنهم رسبوا فيه، وأنهم إلى النار سائرون.(355/3)
تفسير قوله تعالى: (قد قالها الذين من قبلهم)
بين الله سبحانه أن الكافرين ليسوا أول من قال هذا، بل قد قاله أقوام قبلهم فقال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر:50]، فهذا كلام يحصل من كل كافر مستكبر ومشرك مغرور يقول هذا، وإذا ذكر بالله سبحانه تبارك وتعالى يقول: ما أعطاني الله إلا لأني أستحق ما أعطانيه.
ثم بين سبحانه أن ما كسبوه وحازوه لا يغني عنهم شيئاً قال سبحانه: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر:50] أي: لقد كان من قبلهم أذكياء، وكسبوا من الدنيا مكاسب كثيرة، إلا أنهم تركوها لمن بعدهم، وذهبوا إلى الله، فلم يغن عنهم ما كسبوا شيئاً، بل تركوه وحوسبوا عليه.(355/4)
تفسير قوله تعالى: (فأصابهم سيئات ما كسبوا)
قال تعالى: {(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:51] أي: أصابتهم عقوبة ذنوبهم التي اكتسبوها، ثم ألحق بهم من تبعهم فقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:51] أي: والذين ارتكبوا ما ارتكبه الذين من قبلهم سنعاقبهم يوم القيامة على ما اكتسبوا من السيئات بالسوء، ومصيرهم النار يوم القيامة، فهم في قبضتنا.
قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] أي: لا يعجزوننا ولا يهربون منا، تقول: انطلق جارياً حتى أعجزني، تريد أنك ما استطعت اللحاق به حين فر منك، فيكون معنى قوله سبحانه: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] أي: مهما جروا في الدنيا، ففروا إلى الجبال، أو إلى أي مكان سنأتي بهم يوم القيامة، وما هم بمفلتين من قبضتنا.(355/5)
تفسير قوله تعالى: (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)
بين الله سبحانه في الآية فضله على العباد فقال: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر:52]، والإنسان المؤمن يعلم ذلك، ويقول: بلى نعلم ونستيقن أن الرزق رزق الله سبحانه، وأن المال مال الله، وأن العبد عبد الله، وأن الله يعطي ما يشاء لمن يشاء، كما أن المؤمن يعلم أن الله إذا أعطاه في الدنيا لم يعطه لفضله عند ربه، بل ما أعطاه الله سبحانه إنما هو محض فضلٍ ورحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك أن الله لا يكرم المؤمنين، بل قد يكون عطاء الله سبحانه للعبد إكراماً له، وقد يكون عطاؤه له استدراجاً له؛ ولذلك فالمؤمن لا يأمن مكر الله سبحانه، ولا يأمن استدراج الله، فإذا أعطاه الله المال عرف حق الله سبحانه في هذا المال، فأخرج الزكاة، وأعطى من أوجب الله عليه أن يعطيهم من قرابته، أو ممن يحتاجون إليه، بل إن المؤمن وصل إلى ثقة بأن المال مال الله، وأن المال لا ينقص أبداً من الصدقة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما نقص مال من صدقة.
إذ إن الإنسان مهما أعطى لله، فالله سبحانه يخلف عليه، والله وحده هو صاحب المال، وهو صاحب الرزق سبحانه، يبسط ويوسع على من يشاء من عباده، وليس كل من وسع الله عز وجل عليه يحبه، وليست التوسعة شرطاً لحب الله، بل كم قد أعطى الله إنساناً كافراً من الدنيا أموالاً كثيرة، فكان ذلك استدراجاً له، وكم منع من إنسان طيب فقيه في هذه الدنيا، حتى إنه لا يجد ما يأكله، وقد يبيت الليلة الأولى والثانية والثالثة ولا يجد ما يملأ بطنه! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع في الدنيا من خبز شعير عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت عليه الدنيا، فلما فتحت عليه الدنيا قبضه الله سبحانه تبارك وتعالى، وما استمتع مما في الدنيا بشيء، وقد كان الصحابة يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ويبكون لما عاش عليه من الكفاف، وكان أبو هريرة يصنع العيش الحوارى، وهو الخبز الأبيض، ويطعم الناس ويبكي ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذاق هذا، فالمسلمون يستمتعون بالشيء الذي فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم به، وقد ذهب النبي ولم يأخذ من هذه الدنيا شيئاً، فصلوات الله وسلامه عليه.
وقد ثبت أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان يمر الهلال وراء الهلال وراء الهلال، ثلاثة أهلة، أي: شهران يمران على بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوقد في بيته ناراً لطبيخ أو لطعام عليه الصلاة والسلام، وإنما كان الطعام التمر والماء! ولم يمنعه الله الدنيا ظناً بها عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد الله عز وجل أن يجعله وصحبه القدوة والأسوة لمن بعدهم، حتى نعلم أن الله إذا أعطى العبد من الدنيا ليس معناه أنه يحبه سبحانه تبارك وتعالى، ونعلم أن الله إذا حرم آخر منها ليس معناه أنه يكرهه، وإنما قد يعطي لإنسان من المؤمنين من فضله سبحانه؛ لأنه لا يصلح لهذا العبد في علم الله إلا ذلك، فيتفضل الله سبحانه وتعالى عليه، أو لكون الله يعلم حيث يعطي هذا المؤمن أنه سينفق من هذا المال على من يحتاج إليه، وأنه سيضعه في حقه، فأعطاه الله سبحانه، وجعله قدوة لغيره، وقد يحرم الله إنساناً آخر مع أنه مؤمن؛ لأنه يعلم أن هذا سيصبر على الفقر، وأنه يكون قدوة في ذلك، فمنعه ليكون إماماً وقدوة لغيره في ذلك.
فالله أعطى الأول علماً منه أن هذا لو حرمه لضاع وفسد، فأعطاه رحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم الثاني مع أنه من المؤمنين لما سبق في علم الله أنه لو أعطاه لفسد ولطغى، فمنعه الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالله بيده الفضل، يبسط لمن يشاء ويقدر، أي: يضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فإذا رأيته أعطى إنساناً ومنع آخراً، فاعلم أنه لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وبيان آية من آياته.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52]، فالمؤمن ينبغي أن يرضى بما هو فيه، ويحمد الله عليه ويردد في نفسه: الله أعلم بحالي، أليس من الممكن أنه لو أعطاني أكثر مما أنا فيه أني قد لا أصلي الفجر، أو لو أعطاني أكثر مما أحوزه الآن قد لا أدعوه، فالله يحب أن يسمع صوتي وأنا أناجيه وأقول: يا رب! يا رب! وينتبه العبد هنا إلى أنه لو امتنع عن الدعاء فقد يجلب على نفسه السخط من الله سبحانه، كما أن الإنسان لو اطلع على الغيب لرضي بما هو فيه من الواقع، ارض بما قسم الله سبحانه تبارك وتعالى لك، واعلم أن الذي يدبر الكون هو الله وحده، العليم الحكيم سبحانه تبارك وتعالى، وهو أعلم بما يصلحك أكثر من نفسك سبحانه تبارك وتعالى، وما يدريك! فقد يمرضك وأنت تريد أن تعمل شيئاً معيناً، فلا تعمله بسبب المرض، فلعلك لو خرجت إلى هذا الخير بظنك وبزعمك لفاتك باباً آخر أدركته بمرضك، فكان المرض الذي أنت فيه أفضل من هذا العمل، وما يدريك! لعلك لو خرجت إلى عمل من أعمال الخير لغلبك الشيطان فراءيت وسمعت بعملك، فالله منعك من الرياء ومن السمعة عندما ابتلاك بالمرض، فأنت لا تدري ما الذي يدبره الله سبحانه بعلمه وقدرته وحكمته، فعليك أن ترضى بقضاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما ينبغي عليك أن تدرك أن القضاء واقع رضيت أم لم ترض، إلا أنك في الرضا أخذت الأجر، وفي السخط حل عليك سخط الله سبحانه تبارك وتعالى.
لذلك على المؤمن أن يؤمن بالله تمام الإيمان، فيؤمن بحكمة الله، ويؤمن بقدرة الله، ويؤمن أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يعطي من يشاء تفضلاً وتكرماً منه، ويمنع من يشاء بحكمته وعدله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أعطاك فهو محض منة منه، وإن منعك فلم يمنعك حقاً ليس لك عند الله، بل يعطيك ما كتبه على نفسه وتفضلاً منه لعباده سبحانه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52]، فالمؤمن من يتفكر ويتأمل في قضاء الله وقدره، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، كل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.(355/6)
تفسير سورة الزمر الآية [53]
أمر الله نبيه أن ينادي من أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب وتابع نفسه وهواه ألا يقنط من رحمة الله الواسعة العظيمة، فإن الله لا يتعاظمه ذنب، فهو يغفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها لمن تاب إليه وأناب.(356/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عظيم رحمته سبحانه وأنه يغفر الذنوب جميعاً، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
والقرآن مليء بآيات رحمة الله رب العالمين سبحانه، وأيضاً فيه ما يبين شدة بطشه وانتقامه وبأسه وعذابه سبحانه وتعالى، فيذكر الرحمة والعذاب؛ حتى لا ييئس الإنسان المذنب من رحمة رب العالمين، وحتى لا يطمع الإنسان المسيء في رحمته سبحانه ويتناسى عذابه؛ فيقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:12 - 16]، فبطشه شديد وهو الغفور الودود سبحانه وتعالى.
وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، فالله سبحانه ذو مغفرة للناس مع ظلمهم ومع إساءتهم، ومع ذلك هو شديد العذاب على من يسيء ولا يتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، رحمة الله واسعة لمن تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بأنه غفور رحيم، ولا تيئس من رحمة ربك، فالمؤمن بين أمرين: بين الخوف من ذنوبه وعقوبتها وبين رجاء رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته للذنوب، وإذا رجا العبد رحمة الله وخاف من عذابه، كان أهلاً لأن يرحمه الله وأن ينجيه من عذابه، وإذا اغتر الإنسان برحمته وترك ما دل على أنه يعذب بالذنب ويأخذ به سبحانه وتعالى وتناسى، فأساء في الدنيا وأسرف على نفسه وعصى الله سبحانه، واستهان بعقوبته سبحانه؛ فإنه مستحق لعذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى ولو كان ممن يحفظون القرآن، ويجاهدون في سبيل الله طالما أنه وقع في الاستهانة بعذاب الله سبحانه، وطالما أنه عمل لغير الله وليس لله سبحانه، فراءى في الدنيا وسمع وانتظر المدح من الناس، ولن ينتفع بشيء من الذي كان يفعله.
فالإنسان المؤمن يخلص لله سبحانه ويتابع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف من عذاب الله ويرجو رحمة الله، وهذا هو الذي يستحق المغفرة من الله سبحانه وتعالى.
وهذه الآية نزلت في العهد المكي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه يعملون ويخافون من الله سبحانه، ولا يشركون به، وكانوا قلة، ومع ذلك كان سبحانه وتعالى يأمرهم: توبوا إلى الله سبحانه اعملوا من الصالحات.
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبقي كثير من المسلمين في مكة ممن كانوا يكتمون الإسلام ولا يقدرون على الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من استطاع ثم رجع وفتن، كما جاء في الحديث: أن هشام بن العاص فعل ذلك، ثم نزلت هذه الآيات على النبي صلوات الله وسلامه عليه وكأن هذه الآية من هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة والسورة مكية، ولا يمنع أن تكون السورة مكية وينزل بعضها في المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت لهذا السبب فتكون نزلت في المدينة، ولا يمنع أن تكون نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ثم نزل بها جبريل مرة أخرى على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يذكره بهذا الحكم.
وقد هاجر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى المدينة، وأراد عياش بن ربيعة وهشام بن العاص أن يهاجرا، فاستطاع عياش أن يهاجر مع عمر ولم يستطع هشام بن العاص فأخذه أهله وفتنوه فافتتن، فلما نزلت هذه الآية كتب بها عمر إلى هشام بن العاص فقرأها فعلم أن له توبة، فهاجر فكان من المؤمنين بعد ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن) فهم ناس من أهل الجاهلية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: هذه الدعوة دعوة جميلة، وهذا الدين دين عظيم، ولكن نحن قتلنا في الجاهلية، ووقعنا في الفواحش، فلو أخبرتنا أن لنا توبة لدخلنا في هذا الدين، فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:68 - 70]، فالله سبحانه وتعالى جعل لهم ما يكفر عنهم هذه السيئات وهو أن يتوبوا، ويدخلوا في دين الله عز وجل، فإذا فعلوا ذلك تاب الله عز وجل عليهم.
ونزلت: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
وهذه السورة مكية فقد نزلت بمكة وهذه الآية منها أو أن بعض الآيات نزلت بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فألحقت بالسورة، أو أنها نزلت كلها في مكة ثم جاء جبريل ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات في هؤلاء الذين لم يهاجروا وفتنوا ثم أرادوا أن يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلاها النبي صلى الله عليه وسلم فتذكرها عمر وأرسل بها إلى هشام بن العاص، فراجع نفسه وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتاب إلى الله سبحانه وتعالى.(356/2)
الأدلة على سعة رحمة الله
الأحاديث التي جاءت في رحمة رب العالمين كثيرة جداً، وهي تدل على رحمته سبحانه لمن أذنب وأسرف على نفسه ثم راجع نفسه فتاب إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري وهذا لفظ الإمام مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟!).
والراهب هو العابد من النصارى، وكون الإنسان عابداً، لا يشترط أن يكون عالماً، فقد يكون الإنسان كثير العبادة لكنه يجهل كثيراً من أحكام رب العالمين، فلما ذهب إليه هذا الإنسان المذنب المسرف على نفسه وقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ (قال: لا، فقتله فكمل به المائة!) وهذا حال اليائس من رحمة الله سبحانه: فلسان حاله يقول: طالما أنني ليس لي توبة، فسوف أقتلك أيضاً، فقد قتلت تسعة وتسعين نفساً فلا يضيرني أن أكمل المائة! (ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟) إن هذا إنسان شرير ولكن في نفسه ما يدفعه إلى الخير، وما يدفعه إلى التوبة وهو يريد أحداً يدله على أن يتوب إلى الله.
(فقال له العالم: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) فهذا الإنسان الشرير كان في أرض فيها أشرار، يساعد بعضهم بعضاً على الشر، لذلك الذي يتوب لا بد أن يمتنع عن مرافقة الأشرار الذين كان معهم قبل ذلك، أما إنسان يقول: أنا تائب وهو لم يزل مع رفقائه الذين كان يمشي معهم كقطاع الطريق وأهل الإدمان وأهل المخدرات، فهذا لا يدل على توبته، فإن التائب يقلع عن ذلك، ويبتعد عن رفقاء السوء؛ لأنهم يغوونه ويردونه إلى ما كان فيه، فهذا العالم قال له: من يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن أنت مع أناس أشرار، فأقلع عن الشر وابتعد عن أهل الشر، واذهب إلى الأرض الفلانية فإن فيها أناساً صالحون، فاعبد الله معهم.
فالرجل تاب إلى الله عز وجل وترك هؤلاء وهاجر إلى البلاد الأخرى ليعبد الله.
(فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) عندما هاجر من الأرض التي فيها أشرار وهو تائب توبة صادقة، ودليل توبته أنه خرج من أرضه إلى أرض أخرى؛ ليعبد الله عز وجل فيها، فلما نصف الطريق، مات فجاءت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون، يعني: يجادلون.
(قالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله) فهذه نية التائب إلى الله.
(وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم) هذا كله من الله عز وجل ليرينا سبحانه وتعالى أنه غفور رحيم، وتختصم الملائكة ليرينا أنهم لا يعلمون الغيب، وأرسل الله عز وجل إليهم من يحكم بينهم ليرينا سبحانه وتعالى أن الحكم له وحده، وأن الملائكة لا تقدر أن تحكم في شيء إلا أن يعلمهم الله سبحانه وتعالى، والملائكة تخاف من ربها سبحانه، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] فجاء هذا الملك في صورة آدمي يفصل بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
(فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا) هذا لفظ الإمام مسلم.
وفي لفظ الإمام البخاري: (أنه لما أدركه الموت ناء بصدره نحوها) أي: وهو يموت انحرف بصدره شيئاً لكي يقترب من أرض الرحمة.
وفي لفظ آخر: (أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الأرض أن تضايقي من هاهنا واتسعي من هاهنا) يعني: تباعدي من أرض العذاب، وتقاربي من أرض الرحمة وكله بيد الله سبحانه، فالعبد عبده والأرض أرضه والسماء سماؤه والملائكة ملائكته سبحانه وتعالى، وهو بهذا يرينا رحمته.
(فقاسوا ما بين الأرضين فكان أدنى إلى الأرض التي أراد وهي أرض الرحمة، فقبضته ملائكة الرحمة).
وهذه الحادثة أراد بها الله سبحانه أن يرينا رحمته العظيمة سبحانه، فإذا كان العبد الذي قتل مائة نفس له توبة، فكيف بغيره؟! فمن تاب تاب الله عز وجل عليه، ولكن لا ننسى أبداً أن التوبة لا بد فيها من الصدق، فالتوبة ليست كلاماً، يقول الإنسان: أنا تبت إلى الله عز وجل، بل لا بد من صدق القلب؛ ولذلك هذا العبد لما أراد أن يتوب وذهب إلى الراهب يأسه الراهب من التوبة، فمن قهره على أنه حرم من التوبة قتل الراهب أيضاً، فهو قتل تسعة وتسعين نفساً؛ لأنه إنسان شرير وغير صالح، فلما دله العالم على أن له توبة، تاب إلى الله فصدق، فنفعته التوبة.
فإن قيل: والذين قتلهم ما مصيرهم؟
الجواب
لا يضيعون عند الله عز وجل، ولكن الله الحكم العدل سبحانه، خزائنه ملأى، والله بيده الرحمة وبيده العذاب، عفا عن هذا وأعطى هؤلاء، إذا كان في الدنيا الإنسان الذي يقتل له قتيل له أن يأخذ الدية ويعفو عن القاتل، فكيف بالآخرة والكل يحتاج إلى جنة الله وثواب الله ورحمة الله، فالله يرضي هؤلاء، بقوله: أعذب هذا أو أدخلكم الجنة، فالإنسان يقول: أدخلني الجنة، ماذا سأستفيد من عذاب هذا الإنسان؟ فيعطيه الله سبحانه وتعالى برحمته الواسعة، فالإنسان الذي يفعل الذنب له توبة إذ تاب إلى الله، وصدق في توبته، أما الإنسان الذي يحتال ويكذب ويخدع إنما يخدع نفسه ولا يضر ربه شيئاً سبحانه وتعالى.
فعندما نأخذ أحاديث الرحمة لا ننسى ما جاء في عذاب الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن بين الخوف وبين الرجاء.
ومن الأحاديث العظيمة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة، ما رواه الإمام الترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي).
(ما دعوتني) يعني: طالما دعوتني، ورجوتني سأغفر لك، فالعبد الذي يكثر من الدعاء: يا رب! اغفر لي، يا رب! تبت إليك، ويؤنب نفسه ويحاسبها، يقول له ربه: أغفر لك طالما عرفت أنك مخطئ وتبت إلي، فإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه.
(يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) الله عظيم سبحانه وتعالى ولا يتعاظمه ذنب، وكونه يغفر لعبده فإن ذلك لا يضره شيئاً.
ومهما عملت من المعاصي وتبت إلى الله سبحانه وتعالى غفر لك ذنوبك حتى لو كانت قد بلغت عنان السماء.
(يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب) (بقراب): أي بملء.
(الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) إذا جاء العبد تائباً إلى ربه سبحانه موحداً له عالماً به وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الله يتوب عليه مهما عمل، فالتوبة الصادقة جزاؤها من الله المغفرة.
ومن الأحاديث العظيمة الجميلة في هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم) أي أن ابن آدم كتب عليه نصيبه من الوقوع في المعصية، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أسماء الله الحسنى: الغفور لمن يعصي ربه سبحانه، فلا بد أن يحقق مقتضى هذا الاسم من أسمائه.
ومن أسمائه الحسنى الرحيم الذي يرحم خلقه سبحانه وتعالى؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل: (قال: أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي) وعندما تقع في الذنب، بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، واعترف بذنبك وتقصيرك، وتحلل ممن أسأت إليه، ورد المظلمة إلى أصحابها، وارجع إلى ربك سبحانه، فلما رجع العبد إلى ربه سبحانه قال تبارك وتعالى: (أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) (علم) بمعنى: استقين أن الله يحاسب على الذنب؛ لذلك تاب، فلما تاب غفر الله له سبحانه، (ثم عاد فأذنب ذنباً)، وكل بني آدم خطاء، الإنسان قد يقول: أنا تائب إلى لله من هذا الذنب ولن أعمل هذا الذنب مرة أخرى، وبعد ذلك يغلب عليه شقاؤه فيقع في الذنوب، ثم يراجع نفسه فيتوب إلى الله عز وجل، فهذا أذنب مرة ثانية.
(فقال: أي ربي!) يعني: يا ربي!.
(اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أنه له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب ذنباً، فقال: أي ربي! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك!)، فرحمة الله وسعت كل شيء، وطالما تاب العبد إلى الله، واستيقن أنه سيعذبه عليه أن يرجع ويتوب توبة صادقة إلى الله سبحانه، فلا ييئس ولا يقنط من رحمة الله، بل يبادر بالتوبة إلى الله، فإن الله يغفر الذنوب سبحانه وتعالى؛ لذلك يجب على المؤمن أن يراجع نفسه دائماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
فعندما تعمل السيئة أتبعها مباشرة بحسنة حتى تمحو هذه السيئة، أما أن الإنسان يقع في الإساءة ويظلم الخلق، ويقع في الذنوب كبائرها وصغائرها وبعد ذلك يستهين ويقول: الله غفور رحيم، فهذا لا يدخل تحت هؤلاء؛ لأن العبد قال: يا رب! رجعت إليك، تبت إليك، أنا أذنبت ذنباً، اغفر لي؛ فالله عز وجل يغفر له؛ لأنه رجع إلى ربه تائباً.
والنية في قلب الإنسان والصدق في قلبه لا يطلع عليه إلا ربه سبحانه، فإن صدق العبد في توبته تاب الله عز وج(356/3)
تفسير سورة الزمر [53 - 55]
من رحمة الله عز وجل بعباده أن دعاهم إلى التوبة والرجوع إليه، ففتح لهم أبواب رحمته، وناداهم بألطف النداء، ونسبهم وأضافهم إليه سبحانه ليقبلوا عليه، وليسلموا له وجوههم وقلوبهم؛ لينالوا الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وحذرهم من التجافي عن هذا النداء، وبين سوء عاقبة ذلك، وكل ذلك رحمة بهم ليعودوا إليه.(357/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ولا تقنطوا من رحمة الله)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53 - 55].
هذه الآيات في آخر ربع من هذه السورة الكريمة سورة: الزمر، يقول الله عز وجل لعباده: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وهذه من أرجى الآيات التي في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وقولنا: أرجى، من الرجاء، أي: الآية التي يرجو بها العباد مغفرة الله، ويرجون من ورائها رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى.
ومن آيات الرجاء في غير هذه السورة: قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] أي: أن الإنسان إذا وحد ربه سبحانه بالتوحيد الخالص، ولم يشرك بالله سبحانه، فيرجى له أن يغفر الله سبحانه تبارك وتعالى.
ومنها: قول الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].
فبهذه الآيات يرجو العباد رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا ييئسون من رحمة الله، فإنه لا ييئس، ولا يقنط من رحمة الله سبحانه إلا القوم الكافرون، ولا ييئس من رحمة الله إلا القوم الخاسرون، الذين خسروا الدنيا والآخرة، أما المؤمن فلا ييئس أبداً من رحمة الله سبحانه، حتى وإن وقع في الذنوب فإنه سرعان ما يتوب، ويرجع إلى الله؛ لأنه يعلم أن له رباً يأخذ بالعفو، ويغفر الذنب سبحانه تبارك وتعالى.
وفي الآية خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} [الزمر:53] أي: خاطب عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، وظلموا أنفسهم، وتجاوزوا في أمر الطاعة، فتركوا من طاعة الله ما تركوا، كالهجرة في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ففتنوا حين فتنهم المشركون، فأخبرهم أنهم إذا تابوا إلى الله؛ فإن الله يتوب عليهم.
وسبق أن هذه السورة سورة مكية، وكان نزول هذه الآية لسبب سيأتي بيانه، وإن كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن السبب يقيناً داخل في معنى الآية عموماً.(357/2)
سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)
جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما اجتمعنا على الهجرة استعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، أي: أن عمر رضي الله عنه أراد أن يهاجر هو وهشام بن العاص بن وائل، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة بن أبي ربيعة، فتواعد الثلاثة على مكان اسمه: أضاة بني غفار ليلقى بعضهم بعضاً هناك، ثم يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد سبقهم إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لبعض: من تأخر منا فقد حبس، فليمض صاحبه.
أي: أنه من تأخر منهم عن هذا الموعد ليعلم الباقون أن الكفار قدروا عليه وأمسكوه، فلا ينتظروه، ولينصرفوا مهاجرين إلى المدينة.
قال عمر: فأصبحت أنا وعياش بن عتبة، وحبس عنا هشام بن العاص - وهو أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه - وإذا به فتن فافتتن، أي: أن الكفار أخذوه إلى أبيه العاص بن وائل السهمي، فأخذ ابنه وفتنه عن دينه ففتن، ورجع إلى ما كان عليه من الكفر.
وبعد أن هاجر عمر وعياش إلى المدينة تاركين هشاماً بعد أن فتنه المشركون، ورجع إلى ما كان عليه المشركين أو وافقهم فيما هم فيه، يقول عمر رضي الله عنه: فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم، فلا نرى لهم توبة، أي: بعدما عرف هؤلاء الإسلام، وعرفوا دين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجعوا إلى الكفر بعد أن فتنهم الكفار، فلا توبة لهم، قال عمر: وكانوا هم أيضاً يقولون ذلك، كأن من فتن من المسلمين، ورجع إلى ما كان عليه من الكفر، وطاوع الكفار لا توبة له.
يقول عمر رضي الله عنه: فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ثم قال عمر: فكتبتها بيدي، أي: فرح عمر بذلك وكتبها بيده، قال: ثم بعثتها إلى هشام، قال هشام: فلما قدمت علي هذه الآيات خرجت بها إلى ذي طوى، فقلت: اللهم فهمنيها! وكأنه لم يفهمها، فأخذها وخرج إلى مكان خالٍ يتفكر فيها ويدعو ربه سبحانه، فصدق مع الله سبحانه تبارك وتعالى ففهمه إياها، قال هشام: فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعير، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه هاجر إلى المدينة، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فقال في عمرو بن العاص وأخيه هشام بن العاص: (إنهما مؤمنان) رضي الله عنهما، فهذا الرجل فتن فافتتن، ثم أنزل الله عز وجل هذه الآيات، فتاب وهاجر إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ويذكر ابن عباس رضي الله عنهما سبباً آخر فيقول: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لنا توبة؟ أي: هذا الذي جئت به كلام عظيم - والقرآن كله كلام عظيم - فإذا كان لنا توبة دخلنا معك، وإن لم يكن لنا توبة فعلام ندخل في الدين، ونحن معذبون؟! فإذا بالله عز وجل ينزل هذه الآيات العظيمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53].
أيضاً قوله سبحانه في آخر سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، إلى أن قال عز وجل: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70] ففرحوا بهذه الآيات، ودخلوا في دين الله تائبين إليه سبحانه تبارك وتعالى.(357/3)
الجمع بين قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعاً) وقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فقوله سبحانه في الآية: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) إطلاق، وقد جاءت آية أخرى مقيدة لهذه الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] فكأن الآية الأولى وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] تدل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً بما فيها الكفر، والشرك بالله سبحانه قبل وفاة العبد، فإذا تاب العبد من الكفر والشرك تاب الله عز وجل عليه وغفر جميع ذنوبه، ودلت الآية التي في سورة النساء، - وسورة النساء مدنية - وهي قوله سبحانه تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] على أن العبد إذا توفي على الشرك والكفر فلا يغفر له ذلك، أما من مات وقد اجتنب الشرك، ووقع في المعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه سبحانه تبارك وتعالى، لكنه من الموحدين وهو سيدخل الجنة بإذن الله.(357/4)
دعوة الله لعباده إلى العودة إليه
يقول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] نادى الله عباده بقوله: يا عبادي! وقد شرفهم بأن أضافهم إليه سبحانه تبارك وتعالى، والمعنى: هؤلاء عبادي أنا خلقتهم، وأنا التواب الرحيم، فأتوب عليهم.
قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] هذه قراءة الجمهور ومنهم: نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وعاصم، بفتح الياء في قوله: (يا عبادي).
وباقي القراء يقرءونها: ((قل يا عباديْ الذين أسرفوا على أنفسهم)) بسكون الياء في قوله: ((يا عباديْ)).
وقوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] فيها قراءتان: الأولى: بالفتح، فتقرأ هكذا: (لا تقنَطوا)، أي: لا تيئسوا من رحمة الله سبحانه، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب والكسائي وخلف: ((لا تقنِطوا من رحمة الله)) بالكسر، وكلاهما بمعنى اليأس من رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى.
وفي الآية يبشر الله سبحانه هؤلاء ويفتح لهم باب الرحمة، بل أبواب رحمته سبحانه تبارك وتعالى، فيقول لهم: لا تيئسوا مهما وقعتم في الذنوب، أو فعلتم من المعاصي، فمن تاب إلى الله فالله يتوب عليه؛ لأن رحمته سبحانه واسعة لا يقنط منها أحد، قال تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].(357/5)
ذكر معنى اسمي الله الغفور والرحيم
بين سبحانه سعة عفوه ومغفرته فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] الغفر بمعنى: الستر والتغطية، ومنها: المغفر، وهي: الحلقات من الحديد التي يلبسها المقاتل، ليتقي بها سيوف الأعداء، يستر نفسه بالحديد، والله الغفار سبحانه، والغفور، وغافر الذنب، وكلها من أسمائه الحسنى سبحانه وتعني: الذي يستر الذنب، ويغطيه، ويكفر سيئات العبد فيمحوها تبارك وتعالى، ثم بين سبحانه أنه لا يستثني ذنباً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] والآية تدل على مغفرة جميع الذنوب حتى الكفر بالله سبحانه والشرك به فإنه يغفره، طالما تاب العبد من الكفر، ومن الشرك؛ لأنه هو الغفور الرحيم، ولم يكتف بقوله: (إن الله يغفر الذنوب)، بل جاء بالتأكيد فقال: (جميعاً)، أي: كل الذنوب يغفرها سبحانه، وزاد المعنى تأكيداً بقوله: (إنه هو الغفور)، أي: الذي يستر الذنوب ويكفر السيئات، ويمحوها، بل ويبدلها حسنات، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (فرحيم) صيغة مبالغة من الرحمة، فهو الرحمن، وهو الرحيم سبحانه، وكلا الاسمين عظيم وجميل.
فالرحمن: رحمته لجميع خلقه، فهو يرحم الجميع، ومن رحمته لجميع خلقه سبحانه: أن ترفع الدابة حوافرها عن ابنها كي لا تقتله، فهو سبحانه تبارك وتعالى يجعل الرحمة في قلوب الإنس، وفي قلوب الجن، وفي قلوب الدواب، وفي قلوب كل ما خلق سبحانه.
والرحيم: الذي يرحم المؤمنين سبحانه، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] أي: يرحمهم في الدنيا فيهديهم، ويرحمهم في الآخرة فيستر ذنوبهم، ويكفر سيئاتهم، ويدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى، وكأن صفة الرحيم، تختص بالمؤمنين يوم القيامة بأنه لا يعذبهم سبحانه، وأنه يرحمهم ويدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى.(357/6)
تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب)
وجه الله المؤمنين بالإنابة والرجوع إليه فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] وهو أمر للمؤمنين خصوصاً، وللعباد عموماً بالإنابة إليه، وأناب بمعنى: رجع، والمعنى: ارجعوا إلى ربكم، ارجعوا إلى طاعة ربكم، ارجعوا إلى الخضوع والاستسلام لله سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أسلم نفسك، أي: سلم نفسك لربك سبحانه تبارك وتعالى، ولا يثبت قدم الإسلام إلا على التسليم والاستسلام لله رب العالمين، فلكي تثبت على دين الإسلام، لا بد أن تسلم فيه نفسك، ووجهك، وقلبك لله سبحانه تبارك وتعالى، وتقول: أنا مسلم.
أي: أسلمت نفسي لربي، فليحكم فيّ بما يشاء سبحانه وتعالى، وكما ينبغي أن تسلم لقضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فعليك أن ترضى وتذعن وتخضع لله وأحكامه سبحانه تبارك وتعالى، فإذا أمر تطيع، وإذا نهى تنزجر وتنتهي.
فلا يتحقق الإسلام إلا بالاستسلام والإذعان والخضوع لله سبحانه، ولذلك المؤمن حين يقول: أنا مسلم.
لا بد أن يفهم هذه الكلمة التي فهمها الكفار، فقد فهم الكفار ما هو دين الإسلام، وفهموا معنى: لا إله إلا الله، أي: أنه لا معبود بحق إلا الله، وهذه الكلمة يجهلها الكثير من المسلمين، بل إنك عندما تسأل أحد المسلمين: ماذا تعني كلمة: لا إله إلا الله؟ تجد من يقول لك: إن معناها: أن الله هو الذي خلقنا، والله الذي رزقنا، ويعدد بعض أفعال الله سبحانه، وهذا كلام معناه صحيح، فالله هو الذي يرزق، وهو الذي يخلق، لكن ليس ذلك هو معنى: لا إله إلا الله، بل لو قال الإنسان: لا رب إلا الله، لم يدخل في دين الإسلام، بل سيظل كافراً حتى يقول: لا إله إلا الله، إذ إن معنى الرب: الذي يفعل، والكافر لا يخالف في ذلك، بل يقر أن الله يفعل ما يشاء، ويقر أن الله يحكم، وأنه يدبر أمر السماء والأرض، وأنه يرزق عباده، وأنت عند قولك: لا رب إلا الله، تقر فقط أنه لا يفعل هذه الأشياء إلا الله، ولم ينكر أحد ذلك إلا الملحدون، فإنهم كذبوا بذلك وأنكروا، أما كفار أهل الجاهلية، عباد الأوثان والأصنام، فقد سئلوا من خلقكم؟ فقالوا: الله، وسئل بعضهم: كم تعبد يا فلان؟ فقال: سبعة من الآلهة، واحد في السماء، وستة في الأرض، فقيل: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء! ولذلك علم أن أمر الربوبية لم يختلف فيه الكفار، وشهد الله على الجميع بأن في قلوبهم ما يثبت ذلك، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
إنما وقع الخلاف بين الرسل وقومهم في إفراد الله بالعبادة، إذ إن الإله بمعنى: المعبود، فحين تقول: لا إله إلا الله.
فأنت تقر أنك لن تتوجه بالعبادة إلا إليه وحده، وهذه هي التي خالف فيها المشركون ورفضوا أن يقولوها تعنتاً وبغياً وكبراً وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم لم يخالفوا أنه لا رب إلا الله، وإنما خالفوا في أنه لا إله إلا الله؛ لأن مقتضى هذه الكلمة فعل من العبد، بخلاف الربوبية لله عز وجل، فإن مقتضى الربوبية أفعال من الله سبحانه، ولا أحد يخالف أو ينكر أفعال الله، أما مقتضى ألوهيته سبحانه، فهي أفعال من الخلق، وبيان لما يجب أن نعمل لهذا الخالق، ولذا جحد الكفار فقالوا كما أخبر الله عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي: إنما نعبد آلهة كثيرة، ولا نعبد إلهاً واحداً، وإنما رفضوا أن يعبدوا إلهاً واحداً؛ لأنهم لو عبدوا إلهاً واحداً، سيكون إلهك أنت يا محمد! وحينها سيكون لك النهي والأمر وحدك، وتتفرد بالشرف وحدك، وهم لا يرضون بهذا الشيء.
فكان هذا الذي من أجله خالف الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله.
وقد حدث أنه اجتمع أبو جهل ومن معه من زعماء قريش عند أبي طالب وشكوا له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما قالوا: إنه يسب آلهتنا، ويسفه أحلامنا.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدعوكم إلى قول كلمة واحدة، تدين لكم بها العرب والعجم قالوا: كلمة واحدة! بل نحن نقول لك عشر كلمات.
قال: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا).
فقد فهم الكفار منها ما لم يفهمه الكثير من المسلمين اليوم، بل إنك عندما تسأل الكثيرين لماذا تقول: لا إله إلا الله؟ ما الذي تعرفه عن هذه الكلمة؟ تجد أنه لا يعرف شيئاً عن معنى: لا إله إلا الله! وحين فهم الكفار معنى: لا إله إلا الله، قال قائلهم: أنترك كل الآلهة ونعبد إلهاً واحداً نتوجه إليه، ونصلي له، ونصوم له، ونزكي له، ونحج له، فاعلين ما يأمرنا، مجتنبين ما ينهانا عنه؟! أي أنهم فهموا من: لا إله إلا الله: ألا نعبد شيئاً إلا الإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى.
ولذا يُفهَم من قوله سبحانه: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أي: توجهوا إليه وحده سبحانه تبارك وتعالى، مستسلمين له، مسلمين بقضائه وقدره، راضين به أنه الرب، وأنه الذي يعبد وحده لا شريك له، فلا تعبدوا أحداً مع الله ولا من دون الله سبحانه.
وقد أردف هذا الأمر بوعيد فقال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:54] ففي الآية تهديد ووعيد للمشركين والعصاة المجرمين: أن ارجع إلى ربك، قبل أن ينزل بك العذاب من عند رب العالمين، وأكد ذلك فقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54].(357/7)
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم)
قال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] حين يأتي العذاب من الله سبحانه لا ينصرك أحد، فأردف تلك الأوامر بالعودة إلى الله والرجوع إليه بما يؤكدها فقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] إن الله قد أنزل من السماء كتباً كثيرة، فأنزل التوراة، وأنزل الإنجيل، وأنزل الزبور، وكان أحسن ما نزل من عنده سبحانه القران العظيم، فأمر باتباع هذا القرآن الذي نسخ الشرائع التي كانت قبله كلها، وهو الكتاب الخاتم.
وقوله سبحانه: {مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] تذكير بالربوبية فلم يقل: من إلهكم؛ لأن إلوهية الله تتجلى عندما يأمر بعبادته، أما الربوبية فيذكرها عندما يذكر صفاته سبحانه تبارك وتعالى، أو أفعاله سبحانه تبارك وتعالى، وبما أنه خلق فهو الذي يُشِّرِع، وهو الذي يحكم سبحانه، إذ إنه هو الرب سبحانه تبارك وتعالى، ومن مقتضيات ربوبيته: أنه يعلم ما في خلقه، وما يحتاجون إليه، وما الذي يصلح حالهم، فينزل شريعة من السماء تتناسب مع ما يصلحهم، فكان القرآن العظيم هو ما اختاره لنا وأمرنا باتباعه فقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]، كما أن الذي خلقكم والذي يشرع لكم ما تنتفعون به يعلم سركم وجهركم قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
وكسابقتها من الآيات فقد أردفها بالوعيد والتهديد فقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:55] فقد ذكر في الآية الأولى قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] أي أنه إذا جاء العذاب فلا يستطيع أحد أن ينتصر من الله سبحانه، ولا أن يغالب ربه سبحانه.
وفي الثانية ذكر أنه إذا جاء العذاب فجأة، أي: أنك لا تشعر إلا والعذاب نازل عليك فقال سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:55] أي: فجأة، {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا} [الزمر:55 - 56] أي: حين ينزل العذاب يصيح المفرط والجاحد: {يَا حَسْرَتَا} والمعنى: احضري يا مصيبتي! أو يا تحسري! ولا ينفعهم التحسر إذا نزل العذاب من عند رب العالمين.(357/8)
تفسير سورة الزمر [53 - 59]
لعظم رحمة الله عز وجل بعباده فإنه يناديهم بأرق النداء وأعذبه أن يعودوا إليه، ووعدهم إن عادوا إليه بأنه سيغفر ذنوبهم مهما بلغت كثرة وعظمة، ثم يوجههم إلى اتباع هديه وشرعه، ويحذرهم من مخالفته والصد عنه، ويبين لهم أن ذلك جالب للحسرة والخسارة يوم القيامة.(358/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ثم أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:53 - 59].
يذكر الله سبحانه في هذه الآيات رحمته العظيمة الواسعة التي وسعت كل شيء، قال سبحانه: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) أي: لا تيئسوا من رحمة الله، فالقنوط بمعنى: اليأس، والذي ينبغي على المسلم وهو يعيش في هذه الدنيا أن يرجو رحمة الله سبحانه، ويعلم أنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته سبحانه, ورحمته وسعت كل شيء, فلا ييئس من رحمة الله ومن روحه وكرمه سبحانه تبارك وتعالى, بل لا بد أن يلجأ ويتوب إليه سبحانه من كل الذنوب، فإنه يغفر الذنوب جميعاً, ومعلوم أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها ويعاقب عليها، وأن الذي يملك أن يدخل عباده الجنة هو الذي يملك أن يعذبهم في النار سبحانه، فلذلك ينبغي على العبد أن يتوب إلى الله سبحانه وأن يكون بين الخوف والرجاء, بين حب الله والذل بين يديه سبحانه، بين الأمل أن يدخله جنته والخوف أن يمكر به ويدخله ناره.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] أي: تجاوزوا حدهم ووقعوا في الذنوب وأسرفوا فيها، {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أي إن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره, فمهما أذنب العبد ثم تاب إلى الله فإن الله يتوب عليه حتى من الكفر ومن الشرك به سبحانه تبارك وتعالى, أما إذا مات العبد على الشرك فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، بل مهما عمل من أعمال ظنها صالحة ومات على الكفر بالله أو مات على الشرك بالله ولم يأت بأصل الإيمان والتوحيد ولم يأت بلا إله إلا الله فإن عمله لا ينفعه كائناً ما يكون هذا العمل، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] والخطاب في الآية للكفار والمشركين، أما المؤمن الذي وحد ربه سبحانه ولم يقع في الشرك ومات على الإيمان والإسلام والتوحيد فإنه حتى لو وقع في كبائر الذنوب فيرجى له رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه يغفر الذنوب جميعاً وهو الغفور الرحيم.(358/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب)
أمر الله عباده بالإنابة إليه فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: ارجعوا إلى الله سبحانه، ((وَأَسْلِمُوا لَهُ)) أي: سلموا أنفسكم له واستسلموا وأذعنوا واخضعوا له وأطيعوه سبحانه، ثم حذر مفاجأة العذاب فقال: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)) والعذاب حين يأتي فمن الذي يجير العباد إذا أراد الله بهم انتقامه وبأسه وعقوبته سبحانه؟ فلا ينصرهم أحد إذا أراد الله عذابهم، ولا يشفع فيهم أحد إذا أبى الله سبحانه قبول هذه الشفاعة.
ثم يوجههم باتباع شرعه ودينه فيقول: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:54] لقد أنزل الله سبحانه الأحكام الشرعية من السماء، فأنزل القرآن وأنزل من قبله التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، فكان هذا القرآن العظيم أحسن ما نزل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولما أمر بالاتباع حذر من المخالفة فقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:54] أي: فجأة بغير مقدمات، فإذا أتى على العبد فلا يستطيع حينها أن يتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فعادة ما ينزل العذاب بغتة فيأخذ الله عز وجل العصاة فيهلكهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، وقال سبحانه في سورة هود: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].(358/3)
تفسير قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)
بين الله سبحانه في الآية مدى حسرة العصاة والكفار فقال سبحانه محذراً: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ} لئلا تقول نفس، أو كراهة أن تقول، {يَا حَسْرَتَا} الأصل فيها: يا حسرتي! وكأن الإنسان ينادي على الندامة: أن تعالي يا ندامة من أجل أن أندم على ما فعلته، أو تعالي يا حسرة من أجل أن أتحسر على نفسي وعلى ما فرطت في جنب الله سبحانه! والنداء هنا يحمل معنى الاستغاثة والندب، والمعروف أن الإنسان يندب حظه ويصوت على نفسه، وقد يبكي على ما فرط وقصر.
وفي قوله تعالى: (يا حسرتا) قراءات، فيقرؤها أبو جعفر: (يا حسرتاي على ما فرطت في جنب الله) بخلاف ابن وردان فإنه يقرأ: (يا حسرتآي على ما فرطت) يُصوت على نفسه يوم القيامة فيقول ذلك (يا حسرتي)، فالأصل فيها بالياء وقلبت ألفاً للتخفيف، إذ إن الذي يُصوت يمد صوته من شدة حسرته فيقول: يا حسرتآه يمد صوته فيها، ويقف عليها رويس عن يعقوب: (يا حسرتاه) بهاء السكت عليها، ويميلها حمزة والكسائي وخلف، ويقللها الأزرق عن ورش والدوري.
وقوله سبحانه: ((عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)) أي: في ذات الله وذكره وطاعته سبحانه تبارك وتعالى، وهو حين يقول: يا حسرتاه، يستحضر ما كان في الدنيا، فيتذكر أنه كان من الممكن أن يجيره الله سبحانه ففرط في جوار الله سبحانه، ويتذكر أنه كان من الممكن أن يجعل الله سبحانه من يشفع له عنده ففرط، وقصر في ذلك.
وكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً، باراً كان أو فاجراً، يرى أنه يوم القيامة قد ظلم نفسه، ويرى نفسه مفرطاً في جنب الله سبحانه, فالمؤمن يقول: كان يمكنني أن أعمل أكثر من ذلك، فأحظى بدرجة أعلى مما أنا فيه في الجنة، فيرى نفسه مغبوناً، والغبن: أن يرى الإنسان نفسه استعجل أو تسرع في الشيء فخسر, كمن استعجل في الشيء فاشتراه بثمن غالٍ، وكان بإمكانه أن يشتريه بمثمن أرخص أو استعجل في بيع شيء فباعه بثمن بخس ولو انتظر لباعه بثمن أعلى، فكلاهما يسمى مغبوناً، ولذا سمي يوم القيامة: يوم التغابن؛ لأن كل إنسان يرى نفسه مغبوناً في ذلك اليوم، ولو سئل: من الذي خدعك؟ لوجد أنه هو الذي خدع نفسه، فحينها يتحسر ويتألم ويخاطب نفسه: كان أمامي وقت كثير ضيعته في النوم واللهو واللعب، كم من ساعات قضيتها في الكلام الفارغ فغبنت نفسي! وقد كان بإمكاني أن أجلس وأقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات فيبني الله لي قصراً في الجنة! وكان بإمكاني أن أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة فتغفر ذنوبي ولو كانت مثل زبد البحر, أو لو كنت قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كانت لي عدل عشر رقاب أعتقتها الآن -يوم القيامة-، فيرى نفسه مغبوناً قد غبن نفسه يوم القيامة؛ ولذا ينادي: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] والمعنى: لقد فرطت كثيراً في جنب الله، وكان من الممكن أستغل عمري أكثر مما استغللته.
أما الكافر فيرى نفسه خاسراً ضائعاً يقول: فرطت في جنب الله فرطت في الإسلام فرطت في لا إله إلا الله فرطت في كلمة التوحيد ((وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)) أي: لمن المستهزئين، فقد كنت أسخر من المؤمنين وأستهزئ بما جاءني من عند رب العالمين.(358/4)
تفسير قوله تعالى: (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين)
عندما يتيقن الكافر بفداحة خسارته يوم القيامة يتمنى الهداية حين لا هداية والعودة حين لا عودة، قال تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] يقول الكافر مخاطباً نفسه يوم القيامة: كنت أسخر وأضحك من المؤمنين، وأسخر من المصلين، وأسخر من أهل التوحيد، وكنت أستهزئ بهم، وغيره ممن على ملته يقول: ((لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي)) أي: ليت الله هداني، فلو هداني: ((لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ))، وقوله كلمة حق هو مبطل فيها، إذ إن الله سبحانه تبارك وتعالى قد هداه ودله على طريق الإيمان، لكنه أبي وتنكب؛ ولذا يوم القيامة يجد الإنسان أنه هو الذي ظلم نفسه، فيقول: ليت أن الله هداني! يريد الهداية بمعنى: التحويل وكأنه يقول: يا ليت أن الله حولني من الضلال إلى الهدى، وحينها يُسأل: هل أعطيت من نفسك ما تستحق عليه الهداية أم أنك أنت الذي فرطت وقصرت وأعرضت عن المؤمنين وعن دعوة رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام؟! ولذا يتحسر على نفسه يوم القيامة.
ومعلوم أن كلمة: (لو) في الدنيا تفتح عمل الشيطان، أما في الآخرة فإن الإنسان ييئس من هذه الكلمة، وإن كررها فهو من أهل النار والعياذ بالله، وذلك جزاء بما قدم قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57] أي: لكنت عملت ما أتقى به رب العالمين، وكنتُ اتقيت المعاصي والذنوب، ولكنه لم يفعل ولذا لا ينفعه قوله حين يقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57].(358/5)
تفسير قوله تعالى: (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة)
قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر:58] أي: حين تعاين عذاب رب العالمين سبحانه: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:58] أي أنهم إذا دخلوا النار يقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] أي: لعلي إن عدت مرة أخرى أن أعمل صالحاً، ولكن الله عز وجل منع العودة إلى الدنيا، وبين أنها أمنية لا يمكن أن تتحقق؛ ولذا صدرت بلو قال تعالى:: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] أي: لو رجعت إلى الدنيا مرة ثانية فسأكون من المحسنين، فقد تبت إلى الله عز وجل، وسأحسن أفضل الإحسان إن أعادني فيجيبه ربه سبحانه فيقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] وقوله: بلى: جواب عن استفهام منفي، وظاهر الآية أنه لا يوجد استفهام منفي، ولذا يقدر في الآية بمعنى قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] ليصبح المعنى: ما هداني الله أو لم يهدني الله، فيجاب: بلى، فينفي نفي هذا الذي يقوله ليكون المعنى: قد هداك: لأن نفي النفي إثبات، فكأن العبد يقول: ما هداني الله فأكون من المتقين، أو ما فعل الله عز وجل بي كذا فأكون من المحسنين، فيجاب: بلى، فقد هداك ودلك الله سبحانه تبارك وتعالى على طريق الهدى، فأعذر إليك بأن أنزل الكتاب، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين لك النجدين طريق السعادة وطريق الشقاوة، إلا أنك اكتسبت هذه الأعمال فاستحققت عقوبة الله، قال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] , فالكافر قد كذب بآيات الله سبحانه واستكبر عن طاعة رب العالمين سبحانه، وكان من الكافرين الجاحدين لربهم سبحانه المنكرين لنعمه عليهم، فقد اقترفوا ذنوباً بعضها فوق بعض، أفبعد ذلك يقول أحدهم: لو أن الله هداني؟! والهدى من الله على نوعين: هدى بمعنى الدلالة، وهذا لجميع خلقه، وهذا الذي لا يستطيع أن ينكره العبد يوم القيامة، وإن قال القائل يوم القيامة: لو أن الله حولني وعاملني كما يعامل هؤلاء المؤمنين، فسيجاب: المؤمن قد قدم في هذه الدنيا ما بسببه رحمه الله فاستحق أن يزيده هدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فالمؤمنون قد أراد الله عز وجل بهم الخير فدلهم على الطريق ثم أعانهم ففهموا هذا الطريق الحق فعملوا، فزادهم الله عز وجل إيماناً وهدى، أما الكافر فإنه لما دله الله عز وجل على الطريق، أخذ يستهتر ويأنف من اتباع الحق، بل أخذ يتبع الشيطان والهوى، ولذا استحق أن يطمس الله على نوره وبصيرته، فأصبح لا يرى حقاً ولا يجتنب باطلاً، قال الله عز وجل لهذا الكافر: {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر:59] أي: استكبرت عليها وأنفت أن تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، وكفى المستكبر عقوبة أنه لا يدخل الجنة أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكبر فعرفه بأنه: (بطر الحق وغمط أو وغمص الناس) والمعنى: أنه يرفض الحق ويأبى أن يدخل فيه وأن يتبعه، فكان من كبر المستكبرين أنهم إذا دعوا لا يطلبون أن يدلهم الله على الحق وإنما يقول قائلهم كـ أبي جهل وأمثاله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] , ومن الكبر كما جاء في الحديث غمص الناس أي: احتقار الناس، ولذا يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل النمل، وجاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر من الصغار في صور الرجال) فمن استكبر بقوته أو بضخامة جسده في الدنيا؛ فإنه يحشر يوم القيامة مثل النمل من الهوان، فإذا دخل النار كبر الله جثته وكبر حجمه ليناله العذاب في نار جهنم مفرقاً في جسده قطعة قطعة.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يغشاهم الذل من كل مكان) ولأن الكافر كان في الدنيا منيع الجانب، متعززاً على المؤمنين، فإنه يحشر يوم القيامة ذليلاً ويقال له تبكيتاً: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، كان الكفار في الدنيا كـ أبي جهل وغيره يقول قائلهم: أنا عزيز في قومي، أنا منيع الجانب في قومي، أنا كريم على قومي لا يسلمونني لأحد أبداً، وكان في يوم بدر في مثل الحرجة قد أحاطه الكفار يدافعون عنه برماحهم وسيوفهم، مثل الحرجة أي: في مثل الغابة الكثيفة من كثرة من حوله ممن يحمونه ويدافعون عنه، فإنه يعذب يوم القيامة ويقال له: (ذق) أي: ذق العذاب (إنك أنت) أي: لأنك كنت تقول عن نفسك ذلك (إنك أنت العزيز الكريم)، فذق يا عزيز، ذق يا كريم! فما كنت تدعيه في الدنيا من عزة وكرامة عذبت به في نار جهنم والعياذ بالله! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء المستكبرين: (يحشرون يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس) وبولس: اسم سجن في جهنم ثم قال صلى الله عليه وسلم: (تعلوهم نار الأنيار) أي: أفضع النار والعياذ بالله! ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال) طينة الخبال: أي يسقيهم الله صديد أهل النار والعياذ بالله، والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله.(358/6)
تفسير سورة الزمر [60 - 64]
إن الله سبحانه هو الحكم العدل فقد جعل النار مثوى المكذبين، وجعل الجنة دار المتقين، وقد بين الله سبحانه أنه هو الذي بيده مفاتيح الخزائن، فكيف يعبد معه غيره، وكيف يشكر معه سواه؟! ولذلك فقد سمى الله عز وجل من يعبد غيره جاهلاً، وإن علم من علوم الدنيا ما علم، فالعلم الحقيقي هو العلم بالله، والجهل الحقيقي هو الجهل به سبحانه.(359/1)
الإخلاص والمتابعة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:63 - 66].
في هذه الآيات وما قبلها يدعو الله عز وجل عباده إلى التوبة والاستغفار والرجوع إليه، وأن لا يقنطوا من رحمته سبحانه؛ فإن رحمته واسعة عظيمة، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وأمرهم بالإنابة إليه فقال: {وَأَنِيبُوا} [الزمر:54] أي: ارجعوا إلى ربكم، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أي: أسلموا نفوسكم ووجهوا وجوهكم وأخلصوا لله وحده لا شريك له، {وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزمر:54 - 55] فأسلموا: أخلصوا لله عز وجل، والإخلاص وحده لا ينفع حتى تتبعوا ما نزل من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن العبادة مبناها على ركنين: ركن الإخلاص لله سبحانه، والركن الآخر: المتابعة لدين الله سبحانه، فلا يخترع الإنسان عبادة يعبد الله عز وجل بها، فالله سبحانه قد كفانا بهذا الدين العظيم بالكتاب والسنة، فعلينا أن نتعبد لله سبحانه بما شرع، وبما أنزل.(359/2)
المبادرة بالتوبة قبل الندم
قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] أي: حتى لا تندموا يوم القيامة، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] فإذا سخر الإنسان في الدنيا وضحك ولعب فإنما يسخر من نفسه، ويوم القيامة يعرف عقوبة ذلك وعاقبته، فلذلك يقول الله لنا: احذروا أن تقول نفس يوم القيامة: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] أي: كنت أسخر من نفسي وأضحك عليها، لقد خدعتها وغبنتها، يقول الله سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] أي: يوم القيامة.
قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] (لو) في الدنيا تفتح عمل الشيطان، وفي الآخرة كلمة الحسرة يوم القيامة، فيفكر الإنسان كيف يخرج من النار؟ ويتمنى أنه عمل الصالحات، ويتحسر على ما فرط في هذه الدنيا، والدنيا مرة واحدة فقط، لن تكرر مرة أخرى.
فالإنسان الذي جعله الله عز وجل يعمر هذا الكون أخبره أن الدنيا حياة واحدة، وأن الحياة الأخرى يوم القيامة، والخلود إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان لما يجد ما قدمه حسنات يفرح ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] أي: أنا علمت في الدنيا أن الله سيحاسبني يوم القيامة فقدمت وعملت لهذا اليوم.
قال الله عز وجل: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24] فالمؤمن يوم القيامة يخلد في الجنة فلا يموت، قال الله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] والفاجر والكافر إذا وجد كتابه أخذه بيده الشمال من وراء ظهره، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26]، وهنا يذكر الله عز وجل أنه يقول: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] أي: ياليتني أرجع مرةً أخرى إلى الدنيا، فأحسن أفضل الإحسان، فهذا ما يتمناه العبد يوم القيامة، وفي وقت يقال للناس: لا رجوع لكم، فقد عمرناكم في الدنيا فلم تعملوا ولم تستجيبوا، فالله يخبرنا عن هذا الموقف الذي يكون يوم القيامة، وما يكون فيه من الكافرين والعصاة حين يتحسرون ويبكون على أنفسهم في وقت لا ينفع فيه الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم.(359/3)
تفسير قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] سود الله عز وجل وجوههم فهي سوداء، وأعينهم زرقاء، ويحشرون عمياً إلى النار والعياذ بالله.
ومعنى: {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} [الزمر:60] أي: افتروا على الله سبحانه، وكذبوا بآياته، وقالوا: ما أنزل الله من كتاب، وما أنزل من سلطان، وما أرسل من رسول، فافتروا عليه سبحانه، ولم يؤمنوا ولم يصدقوا، فهؤلاء تكون وجوههم مسودة يوم القيامة.
يقول الله سبحانه: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] أي: أليس فيها مكان يؤويهم ويسكنون فيه، وينزلون به، فيقيمون إقامةً دائمة مستقرة في النار؟ قال الله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} واسمها جهنم فهي نار بعيد قعرها تلقى الصخرة العظيمة من فوقها فلا تصل إلى قعرها إلا بعد سبعين سنة.
وكلمة جهنم معناها: البعيدة القعر، وهي مأخوذة من قولهم: هذا بئر جهنام قعره بعيد فكذلك النار، فهي عميقة وبعيدة القعر، وأسماؤها كثيرة في القرآن، تعبر عما فيها وعن معانيها، فهي جهنم، وهي الحطمة التي يحطم بعضها بعضاً، وهي نار السعير المستعرة المشتعلة الملتهبة، والسعار من الجنون، فكأنها نار لا تبقي ولا تذر أمامها شيئاً، فأسماؤها تدل على ما يكون فيها لأصحابها.
فقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: مثوى للمتكبر، فالمتكبر علا في الدنيا وارتفع على الخلق، وظن نفسه أعلى منهم، فأبى الله إلا أن يذله، ويضعه ويخفضه، فإذا به في دركات جهنم البعيدة القعر، يهوي بها هذا الإنسان المتكبر الذي تعالى على خلق الله، وتعالى على رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}
و
الجواب
بلى، في جهنم مثوى للمتكبرين، يحشرهم الله سبحانه وتعالى في هيئته الذر، كأمثال النمل يوم القيامة إلى النار كما جاء في سنن الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال).(359/4)
تفسير قوله تعالى: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم)
يقول الله سبحانه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].
إن الله عز وجل يهلك الكفرة والمستكبرين الذين تكبروا على آيات الله سبحانه وتعالى، وعلى رسله عليهم الصلاة والسلام، فتهوي بهم النار إلى قعرها جزاءً وفاقاً، ولكن المؤمنين ينجيهم الله سبحانه وتعالى، وكأنهم لما عاينوا وخافوا في الموقف يوم القيامة، ومروا فوق الصراط حصل لهم رعب وخوف، فنجاهم الله سبحانه وتعالى من ذلك.
وقوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا} هذه قراءة الجمهور، وقراءة روح عن يعقوب: {وَيُنْجِي اللَّهُ} بسكون النون، وقوله: (بمفازتهم) هذه قراءة الجمهور، وقرأها شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي، وخلف: ((بِمَفَازَاتِهِمْ)) على الجمع، والمفازة مصدر بمعنى: الفوز يعني: بفوزهم، وبما كتب الله عز وجل لهم من سعادة يوم القيامة بفضله وبكرمه عليهم سبحانه وتعالى فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فالجنة ثمنها غال لا يقدر العبد على دفعه، ولكن السبب إليها يسير، فإذا قيل لك: ادفع ثمن الجنة وأنت في الدنيا فلن ترض، ولن تقدر، فإذا عبدت ربك وخدمت دينك فلك الجنة التي لا تقدر على دفع ثمنها، حصلت عليها بالأخذ بالأسباب، وإذا نويت الخير وفعلته حصلت على ثوابه، وإذا لم تفعله أجرت على نيتك، فالمطلوب هو الأخذ بالأسباب، والنتيجة على الله سبحانه تبارك وتعالى، وعملك سبب لدخول الجنة، أما أن تدفع ثمن الجنة فهذا مستحيل، فالجنة العالية العظيمة الغالية تدخلها بفضل الله وبرحمته سبحانه وتعالى، وعملك لو وزن مع نعم الله عز وجل عليك فلا تكافؤ، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وإذا عددت عملك سوف تحصيه، وإذا عددت نعم ربك العظيمة عليك فلن تحصيها، ففكر في نفسك، وما الذي فيك من أعضاء، وانظر إلى جلدك وكيف أنعم الله عليك به، وانظر إلى العين واللسان والشفتين، وإلى السلاميات والمفاصل، وإلى كل أعضائك، فهذه كلها من النعم التي أنعم الله بها عليك، ومهما عملت في الدنيا لتؤدي شكرها فلن تستطيع، إنما تؤدي شكر بعضها، أما كلها فلن تحصيها، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18]، {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، فالله يغفر ويرحم سبحانه، والإنسان يغبن نفسه وغيره، ويجحد نعم الله عز وجل عليه.
فيوم القيامة ينجي الله عز وجل المؤمنين بما كتب لهم من رحمته، وبسعادتهم التي سبقت عنده؛ لأن أهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، فيدخلهم الله عز وجل الجنة فائزين بفضله وبرحمته سبحانه.
وقوله تعالى: ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ)) أي: بما نجاهم الله عز وجل فيه من رحماته العظيمة الواسعة، وما أعطاهم من فوز يوم القيامة.
وقوله: ((لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ)) أي: لا ينالهم ولو شيء قليل من السوء، فعبر بالمس، ولم يعبر بالاحتراق؛ ليدل على أنه لا يمسهم شيء يسوؤهم طالما أن الله كتب لهم النجاة من النار.
قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] وهذا الفوز العظيم عند الله سبحانه، وفي قوله تعالى: ((لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) أنهم لا يحزنون على ماض، فهم يحمدون الله أن خرجوا من الدنيا دار الفتن والمحن، ودخلوا الوطن الحقيقي للإنسان، وهو جنة الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يحزنون على شيء فاتهم.(359/5)
تفسير قوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل)
قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] أي: خالق الدنيا والآخرة، وخالق الجنة والنار، وخالق الإنسان وعمله سبحانه وتعالى، فكل شيء أوجده الله سبحانه وخلقه، أما الإنسان فلم يخلق شيئاً، وإنما يكتسب الأفعال الصالحة أو الأفعال السيئة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} فيه ما عليه سبحانه من العلو والقدرة، وأنه رقيب شهيد على أعمال العباد، وأن عليهم أن يخافوا منه سبحانه.
فالله يرينا استعلاءه بقدرته علينا في الحفظ، والوكيل هو من يحفظ الأعمال ويحصيها تبارك وتعالى حتى يجازينا عليها يوم القيامة، فهو الوكيل الحفيظ سبحانه، الشهيد الرقيب على عباده، الذي قام كل شيء به سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يتوكل عليه ويفوض أمره إليه، ويظهر عجزه أمامه، فلا قدرة ولا حول ولا قوة لهذا الإنسان إلا به سبحانه، فهو الذي يقدر على كل شيء، وهو الوكيل القادر الذي قام به كل شيء، وهو الحي القيوم القائم على كل شيء، والذي قام كل شيء به سبحانه وتعالى، ولا شيء يقدر عليه الإنسان إلا أن يقدره الله سبحانه وتعالى عليه، فهو الوكيل الحفيظ الشهيد الرقيب سبحانه الذي دبر أمور السماوات والأرض.(359/6)
تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63] المقاليد: الخزائن، وهي مفاتيح خزائن السموات والأرض، فكل شيء له يملكه، وكل شيء تحت تصرفه سبحانه وتعالى، يأمر بقوله: كن فيكون، فالمطر يأمره سبحانه وتعالى: انزل في المكان الفلاني، فينزل في ذلك المكان، وخزائن الأرض من كنوز وغيرها يأمر بخروجها فتخرج لمن يشاء من خلقه سبحانه وتعالى وهذه الخزائن ملأى لا تغيظها نفقة، فإذا أراد الإنسان الرزق فليسأل الله سبحانه تبارك وتعالى، وسوف يعطيه رزقه، فلا أحد يقدر أن يقدم أو يؤخر من أرزاق العباد شيئاً، ولكن الله الذي يفعل ذلك، فعلى العبد أن يقطع علائقه بالخلق، فلا يتعلق قلبه بأحد من الناس، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي سيعطيه ويرزقه، وإنما عليه أن يأخذ بالأسباب، وأن يثق بالله سبحانه وتعالى، فهو الرزاق الكريم، وهو على كل شيء وكيل.
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، إن الكافر طماع لا يثق بالله سبحانه ولا برسالاته، إنما يريد أن يرى أمامه الجنة وينظر إليها، فإذا رآها آمن بها، وإلا فإنه يكفر ويكذب مهما جاءته من الآيات، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، ولا يتبعون رسل الله عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63] الذين خسروا الدنيا والآخرة مهما جمعوا من الدنيا لا بد وأن يتركوها يوماً من الأيام، فإذا جاءوا يوم القيامة وقد ضاعت منهم الدنيا كان مصيرهم إلى النار، فهذا هو الخسران المبين، الذي يبين ويفصح عن نفسه أنه الخسران الحقيقي.(359/7)
تفسير قوله تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون)
قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]، يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: قل لهؤلاء الكفرة المجرمين: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} يخاطبهم بلهجة شديدة: أيها الجهلة! أيها الحمقاء والمغفلون! أتأمرونني أعبد غير الله؟! من إله غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟! أأله مع الله يستحق العبادة، وهو الذي خلق ورزق، وأقررتم وأيقنتم بأنه كذلك؟ أأعبد غير الله؟ أين عقولكم أيها الجاهلون؟! وقوله تعالى: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي)) بالمد والتسكين وتسكين الياء هذه قراءة الكوفيين، وقراءة البصريين أبي عمرو ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف ي ((تَأْمُرُونِيْ أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)) بالياء الساكنة على قراءتهم في المد والقصر فيه، ويقرؤها نافع وأبو جعفر المدنيان: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِيَ أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ))، بالتخفيف وفتح الياء، وطالما فتحت الياء فلا مد فيها.
ويقرؤها ابن كثير بفتح الياء والتثقيل: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تأمرونِّيَ أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)) ويقرءوها ابن عامر بخلف عن ابن ذكوان: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونني أَعْبُدُ)) ويمد فيها بحسب ما يمد هشام وابن ذكوان.
وهناك قراءة ثانية لـ ابن ذكوان: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} بالمد الطويل فيها، فهذه خمس قراءات في هذه الكلمة.
وإذا وقف يعقوب على كلمة (الجاهلون) يقرؤها بهاء السكت، يقول: ((أَيُّهَا الْجَاهِلُونَه))، أو يقرأ: ((أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)).
فهنا الخطاب للكفرة أنهم جهلوا، وإن كانوا قد علموا أشياء، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] فهذا علم الكفار، يعلمون من علوم الدنيا، كعلم الطب والفلك والبحار، فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا أما الغيبيات فلا يريدون أن يعرفوها، ولا يريدون أن يعرفوا مصيرهم بعد الموت، وهذا هو الجهل الحقيقي، فعلمهم لا يتجاوز هذه الدنيا التي يعيشون فيها فترة وجيزة، ويتغافلون عن الحياة الأبدية في الآخرة، فالجاهل حقيقة هو الذي ترك أخراه وطلب دنياه، وضيع العلم الحقيقي، وأخذ ظاهراً من الحياة الدنيا.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(359/8)
تفسير سورة الزمر [65 - 67]
يحذر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من الشرك، مبيناً له أن الشرك يحبط العمل، وحضه على عبادته وحده لا شريك له مع شكره سبحانه على نعمه العظيمة، واليهود والنصارى والمشركون ما قدروا الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو المستحق للعبادة وحده.(360/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
يخبرنا سبحانه وتعالى في هذه الآية عن أمر الشرك بالله سبحانه، وأنه أكبر الكبائر، وأن أفظع ما يرتكب الإنسان أو المخلوق أن يشرك بالله سبحانه وتعالى، والتحذير من الشرك ليس في ملة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولكنه في كل الملل قبله صلوات الله وسلامه عليه، فكل نبي من الأنبياء وكل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام أوحى الله عز وجل إليه وحذره أن يشرك بالله، وأمره أن يعلم الخلق في زمانه ألا يشركوا بالله سبحانه وتعالى، ولذلك دعوة الأنبياء كلهم الدعوة إلى الإسلام، إلى أن يسلم قومهم أنفسهم لله سبحانه وتعالى، إلى أن يعبدوا الله ما لهم من إله غيره، فهذا هو معنى لا إله إلا الله.
قال تعالى عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هذه الكلمة تساوي كلمة لا إله إلا الله أي: قولوا: لا إله إلا الله، واعملوا بمقتضى ذلك، لا إله إلا الله فيها النفي والإثبات، تنفي صفة الألوهية عن أي أحد إلا الإله الواحد سبحانه وتعالى، فلا يستحق العبادة أحد إلا إله واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولا إله إلا الله هي نفس المعنى الذي في قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلا أنه في هذه الآية قدم الإثبات قبل النفي، وفي كلمة (لا إله إلا الله) قدم النفي قبل الإثبات، فقوله: (لا إله) أي: لا معبود إلا واحد فقط وهو الله سبحانه وتعالى.
ومعنى قوله: ((اعبدوا الله)) أي: اعبدوا إلهاً واحداً، ومعنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، أي: لا إله غيره سبحانه وتعالى.
فأخبر هنا أن كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أوحي إليهم بذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر:65] أي: كما أوحى إليك وحذرك من الشرك أوحى بذلك أيضاً إلى من قبلك من الأنبياء والرسل، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، لماذا؟ قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، قيل هذا للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وقد عصمه الله من الذنوب فكيف يقع في الشرك؟! ومع ذلك يقول له: احذر من الشرك، إن أشركت بالله أو عبدت غير الله أو توجهت إلى غيره سبحانه حبط كل عملك، وهذا الإحباط للعمل يدل على عظيم أمر التوحيد وعلى شنيع أمر الشرك بالله سبحانه.
فالتوحيد عظيم جداً، فإذا ضيع الإنسان التوحيد استحق أن يحبط الله عز وجل جميع أعماله.
قوله: {لَيَحْبَطَنَّ} هذا فعل مضارع وأوله اللام المؤكدة وآخره النون المثقلة للتوكيد، ومعناه القسم، يعني: والله ليحدثن ذلك، والله ليحبطن عملك، والله لتكونن من الخاسرين، إن فعلت ذلك.
إذاً: الجملة هذه جواب لقسم محذوف دل عليه اللام المؤكدة أول الفعل المضارع والنون المثقلة المؤكدة آخر الفعل المضارع {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].(360/2)
حقيقة الشرك بالله وعاقبته
إن الشرك بالله سبحانه وتعالى أن تجعل لله نداً وهو خلقك، وأن تزعم أنه يجوز للعبد أن يعبد الله وغير الله، أو أن تجعل شريكاً لله في العبادة وأنه يستحق أن يعبد مع الله، حاشا لله سبحانه وتعالى.
إذاً: الشرك بالله أعظم الذنوب، وقد نبه الله عز وجل على ذلك في آيات من كتابه سبحانه، قال في وصية لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] أي: أعظم ما يظلم الإنسان به نفسه أن يقع في الشرك بالله سبحانه، وأخبر سبحانه عنه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116].
فالإنسان الذي يشرك بالله قد تاه وضيع نفسه، وخرج عن الطريق السوي إلى طريق المتاهة الذي يؤديه إلى النار والعياذ بالله في النهاية.
إذاً: لا يغفر الله عز وجل أن يشرك به إذا مات الإنسان على ذلك، وإلا وهو في الحياة إذا تاب ورجع إلى التوحيد فالله يغفر له جميع الذنوب بما فيها الكفر، فالإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، فإذا تاب العبد تاب الله سبحانه وتعالى عليه، لكن إذا أشرك بالله ومات على ذلك فهذا الذي لا يغفره الله سبحانه، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217] أي: هؤلاء الذين ارتدوا وماتوا على الردة ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة.
والمفهوم المخالف: أن من وقع في الشرك ثم راجع نفسه وتاب إلى الله سبحانه فالله يغفر له؛ لأنه قيد الذي لا يغفر له والذي يستحق أن يكون من الخاسرين بالذي يشرك بالله ويرتد عن دين الله ويموت على ذلك.(360/3)
تفسير قوله تعالى: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)
قال الله تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66]، قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، قدم المفعول على الفعل للاختصاص، والأصل اعبد الله، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقدم هنا الفاعل على المفعول، وهذا نوع من التفنن في سياق الألفاظ والكلمات، والأمر الثاني: اختصاص المفعول حين يقدم مثل أن تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، يعني: ليس غيرك ولا أحد معك أعبده، وإنما أنت وحدك لا شريك لك أعبدك وأستعين بك، وهنا قال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} يعني: اعبد ربك وحده لا شريك له سبحانه.
قوله: {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، يعني: كن ممن يشكرون الله سبحانه وتعالى، اشكر ربك أن هداك إلى هذا الدين، واشكر ربك أن ثبتك على التوحيد، واشكر ربك أن هداك إلى الشريعة العظيمة ووفقك للعمل بها، واشكر ربك على أن استجاب إليك من الخلق من شاء الله سبحانه وتعالى، فيكون لك أجور من اتبعك يوم القيامة على هذا الدين العظيم، فاشكر ربك.
فإذاً: أخبرنا سبحانه أنه من يشرك به يحبط عمله، ومن يعبده ويشكره يزيده الله سبحانه من نعمه، والشكر يستحق عليه العبد الزيادة من الله سبحانه، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والعكس {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
والشكر شكر النعمة، والكفر جحود هذه النعمة، وكأن الكفر منه كفر بالله سبحانه ومنه كفر جحود لنعمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن العبد قد يشكر نعمة من نعم الله ويتناسى نعماً كثيرة منه سبحانه وتعالى لم يشكرها، فكأنه جحدها وكأنه كفرها وسترها فلم يشكر ربه سبحانه وتعالى عليها.
فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللناس بالتبع: {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.(360/4)
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)
قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، قوله: (وما قدروا الله حق قدره) أي: ما عظموا الله سبحانه بما يستحق من تعظيم، لو أن العبد عظم ربه حق التعظيم فإنه يستحي منه سبحانه وتعالى، فيحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويخشى ويحذر من الموت والبلى، فهو يعلم أنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالإنسان الذي يستحيي من الله حق الحياء عرف ربه سبحانه فعبده أفضل العبادة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولم يقدروا الله حق قدره ولم يعظموا الله بما يستحق من تعظيم سبحانه وتعالى.
ثم قال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يرينا الله سبحانه وتعالى قوته وقدرته في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] أي: هذه السماوات التي فوقنا وما فيها من أجرام وما فيها من أفلاك وما فيها من شموس ونجوم وكواكب ومجرات وما فيها من خلق لا يعلمه إلا الله؛ الذي يمسك هذا كله والذي يدبر أمره والذي يحفظه من أن يزول هو الله سبحانه وتعالى! والله الذي قدر مقادير هذه الأشياء كلها، قال عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39]، والأرض جعلها راسية؛ لئلا تميد بكم، وهذه الأفلاك كل يجري إلى أجل مسمى، فالله سبحانه وتعالى يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وكل يجري بمقدار، وكل يجري بحساب قدره الله العزيز الجبار سبحانه وتعالى.
فهنا الإنسان الذي يتأمل الشمس حين تشرق من مشرقها وتغرب من مغربها ولا يتخلف هذا الأمر، واليوم يطول في الصيف، ويقصر في الشتاء، وهكذا في كل عام لا يتخلف شيء من ذلك، حتى يأتي أمر الله ووعد الله؛ من الذي يمسك هذه الشمس فتجري في مجرتها وفي فلكها ومدارها من غير تخلف في يوم من الأيام؟ إنه الله سبحانه تبارك وتعالى، لو تحركت في غير مسارها واقتربت من الأرض شيئاً لأحرقت ما على الأرض وأتلفت ما عليها، ولأغرقت الأرض جميعها بالفيضانات التي تكون عالية، ولو اقتربت شيئاً لارتفعت درجة حرارة الأرض، عند ذلك تسيح الجبال التي من برد والتي من ثلج فتغرق ما على الأرض ثم تحرق الأرض كلها.
إذاً: الله هو الذي يمسك هذه الشمس فيجعلها تجري في مدارها ومسارها، وقس على ذلك كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى، فهو القيوم سبحانه الذي قام به كل شيء، ثبت هذه في مجراها، وهذه في مسارها، وهذه في مدارها، فكل شيء قام بأمره سبحانه؛ فهو القيوم القائم بكل شيء سبحانه وتعالى، لا شيء يقوم بنفسه، الأرض ليست وحدها هكذا تتحرك بنفسها وتدور كما تريد، لا، ولكن الله ينظمها بمقدار سبحانه وتعالى، فيأتي الليل ويأتي النهار يتعاقبان بسبب دوران الأرض وجريان الشمس ودوران القمر مع الأرض، فكل هذه الأشياء يحركها الله سبحانه وتعالى، فتعرفون الأيام والسنين والشهور والحساب بواسطتها.
فإذا جاءت القيامة أمسك بالسماوات وأمسك بالأرضين فكانتا في قبضته سبحانه وتعالى، وهنا يخبرنا: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يقبض عليها ويمسك بها، فهذا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى وقوة الله سبحانه، فهو يعجز خلقه ويريهم هذه الأرض بما عليها من جبال وبحار وأشجار يمسكها سبحانه وتعالى ويقبضها كما يشاء يوم القيامة.
والسماوات يطويها ويمسكها بيمينه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يطوي السماوات بعضها على بعض كما تطوي السجل على الكتاب بما فيه.(360/5)
عدم تعظيم اليهود والنصارى لله مع معرفتهم به
جاءت الأحاديث التي تبين أن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك سبحانه وتعالى، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على ذلك، وهذا يدل على أن هذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل أبداً، ليس من الممكن أن يقال أمامه كلام كذب على الله وافتراء ويضحك صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه ضحك على أن هذا صدق وصحيح، وهو مع ذلك يتعجب لأمرهم، وكأنه يقول: كيف عرفتم ذلك وعرفتم قدرة الله وقوة الله ومع ذلك لم تعبدوا الله، ومع ذلك عصيتم الله سبحانه، وعرفتم أني نبي ومع ذلك لم تدخلوا في ديني؟ قال عبد الله بن مسعود (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]) أي: ما عظموا الله حق تعظيمه سبحانه وتعالى، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] سبحانه وتعالى.
إذاً: هؤلاء الذين عرفوا قدرة الله وقوة الله ذكروا العجائب عن أمر الله سبحانه وتعالى، وافتروا على الله الكذب، هؤلاء اليهود الذين شبهوا الله سبحانه بالمخلوق سبحانه وتعالى، وهؤلاء النصارى الذين شبهوا الله سبحانه وأشركوا به، وقالوا عن المسيح ابن مريم: إنه ابن الله، وقالوا: إن الله نزل من السماء ودخل في بطن مريم ونزل منها كما يولد الصبي الصغير سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وهؤلاء اليهود الذين عرفوا قدرة الله وقوة الله وقالوا: إن الله نزل فصارع داود، فغلبه داود! انظر كيف يقولون ويفترون على الله الكذب سبحانه وتعالى!! ولذلك تعجب النبي صلى الله عليه وسلم كيف تعرفون ذلك ومع ذلك تهرفون وتكذبون على الله سبحانه؟!(360/6)
عظمة الله تعالى وقوته وقدرته وسعة ملكه
روى البخاري من حديث أبي سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)، هذا يكون يوم القيامة، يعني: يطوي الله عز وجل السماوات العظيمة بيمينه بما فيها من أفلاك وأجرام، كما يطوى الكتاب بداخل السجل، والأرض كذلك يقبضها الله سبحانه وتعالى ويقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض).
والسماوات ملك لله سبحانه وخلق من خلقه، وكذلك الأرض.
وروى الترمذي حديث مجاهد قال: قال ابن عباس: (أتدري ما سعة جهنم؟ قال: قلت: لا، قال: أجل والله ما تدري، حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] قالت: قلت: فأين الناس يومئذ إذا كان ربنا سبحانه طوى السماوات وأمسكها بيمينه وأمسك بالأرض وقبضها؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على جسر جهنم).
الحديث رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد.
أي: ليس الناس أصحاب زمن واحد، وليس الصحابة وليس مجموعة من الناس، بل كل الناس على جسر فوق جهنم، فإذا كان هذا الجسر الذي على متن جهنم استوعب كل هؤلاء الناس فكيف تكون جهنم التي تحته؟! كم تكون سعتها؟! قد عرفنا بعد قعرها فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حجراً ألقي فيها فما وصل إلى قعر جهنم إلا بعد سبعين عاماً)، هذه جهنم التي يحذر الله عز وجل عباده أن يدخلوها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(360/7)
تفسير سورة الزمر [67 - 68]
أخبر الله في كتابه بالنفختين اللتين تكونان يوم القيامة، فيصعق في الأولى من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويقوم الخلق في الثانية، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن بين النفختين أربعين، واختلف العلماء في بيان من استثناهم الله من الصعق.(361/1)
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:67 - 70].
هذه الآيات من آخر سورة الزمر يذكر الله عز وجل فيها ما يكون من أحداث يوم القيامة، النفخ في الصور، والجزاء والبعث من القبور، فريق في الجنة وفريق في السعير.
قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] أي: ما عبدوه حق عبادته، وما عظموه حق تعظيمه، وما أعطوا لله سبحانه ما يجب عليهم وما ينبغي له سبحانه تبارك وتعالى.
{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فهذا الإنسان الذي يتطاول على الخلق، ويستكبر على الخالق سبحانه وتعالى، ويسير في الأرض يظن نفسه عالياً مرتفعاً قوياً عظيماً شاباً غنياً له مال وله عيال وعنده رجال يظن في نفسه ذلك، من يكون؟ حتى ولو حاز ما في الأرض جميعها.
فالأرض جميعاً في قبضة الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، يقبضها بيمينه سبحانه، ويطوي السماوات أيضاً بيمينه سبحانه وتعالى، ويقول: (أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟) وحين يقبض الله عز وجل الخلق، ينفخ في الصور نفخة الموت فيموت كل من شاء الله سبحانه وتعالى ويقضي الله عز وجل بالفناء على جميع خلقه.
قال الله سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] الذي يبقى هو الله سبحانه وتعالى، وكل من سواه يفنى، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فهؤلاء الذين يستكبرون في هذه الدنيا لم يعرفوا الله سبحانه، ولو عرفوا الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولو عرفوه بقدرته وكماله وعظمته سبحانه؛ لقدروه حق قدره، ولعبدوه حق عبادته، لكنهم وإن عرفوا في الظاهر لم تدخل المعرفة إلى القلوب ليكون فيها الإيمان واليقين والخوف من الله سبحانه، فالمؤمنون يخافون من الله سبحانه، ويعرفون قدر الله سبحانه وتعالى، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4] أي: المؤمنون حق الإيمان الذين استحقوا هذا الاسم هم المصدقون المستيقنون الذين يخافون من الله، وإنما من أدوات القصر، أي: الموصوفون بهذه الصفات هم المؤمنون، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال:2] أي: دخل الخوف والرهبة من الله عز وجل في قلوبهم، ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2] أي: إذا سمع أحدهم القرآن العظيم ازداد إيماناً فوق إيمانه، ويقيناً فوق يقينه، وخوفاً من الله، وطمعاً فيما عند الله فوق ما كان موجوداً فيه، فهؤلاء هم المؤمنون الذين يعرفون قدر الله وقدرة الله سبحانه وتعالى فيعظمونه ويعبدونه العبادة التي تنبغي له سبحانه.
قال سبحانه: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] أي: في قبضته سبحانه وتعالى يقبض الأرض جميعها، والسماوات يقبضها ويطويها كطي السجل للكتب، قال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] يوجد في الكتاب صفحات مفتوحة كذلك السماوات بعضها فوق بعض فيطويها الله سبحانه كما يطوى الكتاب بجلدته، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] بدأ الخلق الأول من لا شيء، وسيعيده الله سبحانه بعدما فني، وليست الإعادة بالصعبة على الله سبحانه، وهو الذي بدأ الخلق أول مرة فالإعادة أهون عليه سبحانه وتعالى.
قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] يذكر عن نفسه أنه المستحق للتنزيه والتقديس والتسبيح سبحانه ما أعظمه! ومعنى سبحان الله أي أنزه الله سبحانه عن أي نقص، أو أي عيب، أو أي شيء، فالله سبحانه منزه ومقدس عن أن يشابهه شيء أو يماثله شيء سبحانه وتعالى.
{وَتَعَالَى} [الزمر:67] أي: تمجد سبحانه وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].(361/2)
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] أي: يوم القيامة، فتحدث الصعقة، وقد ذكر لنا نفختين في كتابه سبحانه وتعالى، النفخة الأولى يموت منها جميع الخلائق، والنفخة الثانية يقومون مفزوعين من قبورهم، قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] فصعق أي مات.
{مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الزمر:68] أي: سكان السماوات {وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] أي: سكان الأرض، ويبقى من استثنى الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ومن هؤلاء الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى؟ الله أعلم بهم.
ولذلك يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه حين وقعت خصومه بين صحابي وبين رجل من اليهود وسنذكرها: (ينفخ في الصور فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى باطش بالعرش -أي: ممسك بالعرش- فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله سبحانه وتعالى).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري هل موسى ممن استثناهم الله سبحانه من هذا الصعق لكونه صعق قبل ذلك لما أراد أن يرى الله سبحانه وتعالى وقال: {قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وفي آخر الآية: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] هل جوزي بهذه فلم يصعق يوم القيامة أو أنه أفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري فكيف بنا نحن؟ فنحن لا ندري بهؤلاء الذين استثناهم الله سبحانه بقوله: (إلا من شاء الله).(361/3)
اختلاف العلماء في الذين استثناهم الله من الصعق
اختلف العلماء في الذين استثناهم الله سبحانه استناداً إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها صحيح لكنه لا يدل على المطلوب، وبعضها ضعيف وفيه نص على المطلوب.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في هذه المسألة عشرة أقوال: الأول: أنهم الموتى، فيكون تقدير الآية صعق من في السماوات ومن في الأرض من الأحياء (إلا من شاء الله) وهم الموتى فلا ينالهم شيء من هذا لأنهم ميتون أصلاً، وهذا استثناء صحيح بهذا المعنى.
وقد ذكر هذا الاستثناء بعض أهل العلم منهم القرطبي صاحب المفهم شرح صحيح مسلم وهو غير القرطبي أبي عبد الله صاحب التفسير.
الثاني: أن المستثنى: هم الشهداء؛ لأنه حكم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون فلا يموتون، وفي الحديث الذي رواه الحاكم ورجاله ثقات عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله).
فهذا الحديث يبين أن الذين لا يصعقون هم الشهداء، مع النظر إلى أنهم في حكم الدنيا أموات، لكنهم عند الله أحياء ليس كحياة الدنيا، فإن الله يجعل أرواحهم في أجساد طير خضر يسرحون من الجنة كما يشاءون، فهي حياة ليست كهذه الحياة التي على الأرض.
الثالث: أن المستثنى هم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم في هذا الحين يكونون قد ماتوا جميعاً بما فيهم المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي رفع إلى السماء ولم يمت ثم ينزل ليحكم بالقرآن، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويحكم بشرع الله سبحانه، ثم يموت ويدفن في الأرض، فيكون الأنبياء كلهم ممن استثناهم الله عز وجل، وجنح إلى هذا القول الإمام البيهقي.
الرابع: أن الذين استثناهم الله من هذه النفخة هم ملائكة الله سبحانه، جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يأمر الله عز وجل ملك الموت فيقبض هؤلاء، ثم يأمر ملك الموت فيموت ملك الموت بعد ذلك، فلا يبقى شيء على هذا الكون حي غير الله سبحانه وتعالى فيقبض السماوات ويقبض الأرضين ويقول: (أنا الملك، أين ملوك الأرض؟) إذاً: يستثنى من الصعق ملائكة الله عز وجل ثم يقبضهم الله عز وجل بعد ذلك.
الخامس: أن المستثنى هم حملة العرش، وجاء في ذلك حديث بإسناد ضعيف.
السادس: أنه موسى وحده على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ساقه الإمام الطبري بإسناد ضعيف.
السابع: أن الذين استثناهم الله من الموت هم أهل الجنة، أي: الذين خلقهم الله عز وجل في الجنة وهم الحور العين، والولدان المخلدون.
الثامن: أنهم خزان الجنة وخزان النار.
التاسع: أنهم الملائكة جميعهم، أي: أن النفخة في الصور تكون لكل الأحياء إلا الملائكة فيقبض الله عز وجل الملائكة بعد ذلك كيف يشاء سبحانه وتعالى.
وجاء عند الطبري بسند صحيح عن الحسن قال: يستثني الله وما يدع أحداً إلا أذاقه الموت.
بمعنى: استثنى الله من شاء ولكن مع ذلك كل من خلقه الله لا بد وأن يذيقه الله عز وجل الموت سواء كان بهذه النفخة التي ينفخها إسرافيل، أو يقبضه الله سبحانه بما يشاء.(361/4)
التحذير من انتقاص الأنبياء
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود في المدينة -يعني بسوق المدينة- والذي اصطفى موسى على البشر! -كأنه يعرض بالنبي صلى الله عليه وسلم- فغضب الصحابي ولطم اليهودي وقال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اصطفاه الله وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؟! فذهب اليهودي يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] قال: (فأكون أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل).
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب).
يعني: أنه لا ينبغي أن تفضلني على الأنبياء تفضيلاً تنتقص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويونس ذكر الله عز وجل في القرآن أنه ممن عاتبه بقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فقد عاتبه الله وعاقبه بسبب أنه خرج من قريته لما غضب من قومه ولم يستأذن ربه سبحانه، فتوجه إلى قرية أخرى يدعوهم إلى الله بغير أن يأذن الله عز وجل له، فلما فعل ذلك عاقبه الله بأن التقمه الحوت في القصة المعروفة، قال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
فقد عاقبه الله سبحانه لأنه خرج ولم يستأذن ربه سبحانه، وهذا لو فعله أحد من الدعاة كأن كان في مكان والناس أساءوا إليه ولم يستجيبوا له ثم ذهب إلى مكان آخر يدعو إلى الله فإننا سنقول: أحسن حين ترك هؤلاء وذهب لآخرين فقد يستجيبون له، لكن النبي ليس له أن يخرج من مكان إلى مكان إلا بعد أن يستأذن ربه سبحانه وتعالى.
فعذر يونس عليه الصلاة والسلام كما ذكر الله هو: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: ظن أن لن نضيق عليه، وأن الأمر واسع، يدعو هنا أو يدعو هنا المهم أن يدعو إلى الله، لكن الله عز وجل كان يبعث كل نبي إلى قومه خاصة، والذي بعث للناس عامة هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك لم يكن ليونس أن يخرج من بلده إلى بلد آخر حتى يستأذن الله.
فلعل الذي يسمع قصة يونس عليه السلام يقول: إن الله عاقب يونس على هذا الشيء، وينتقص يونس عليه الصلاة والسلام بسبب ذلك؛ لذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتقص من قدره، فلا ينبغي لأحد أن يقول: محمد أحسن من يونس، لأن يونس فعل كذا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل كذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخيروني على يونس بن متى) على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال: (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب).
لا شك أن النبي خير من يونس وخير من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكن الأمر الذي يقصده النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يفضل النبي صلى الله عليه وسلم على يونس لأجل أن ينتقص من قدر يونس عليه الصلاة والسلام، فهذا لا يكون.
كذلك في قصة الصحابي مع اليهودي الذي قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فالصحابي غضب ولطمه وقال: تقول هذا وفينا النبي صلى الله عليه وسلم، لا بل إن نبينا أحسن من موسى عليه الصلاة والسلام، ولعله يقول في وقت الغضب ما ينتقص به النبي الكريم موسى عليه الصلاة والسلام.
إذاً الذي يقول: محمد خير من موسى أو غيره على وجه الانتقاص فهذا كذاب؛ لأن كل الأنبياء قد فضلهم الله سبحانه وتعالى، وجعل لهم مرتبة عالية عظيمة، ولكن الله يرفع بعضهم على بعض سبحانه وتعالى، فجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من غيره، فإن الله يفعل ما يشاء، {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فالله هو الذي فضل بعضهم على بعض، وليس أنت الذي فضلت بعضهم على بعض، فالله فضلهم وكرمهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام، فليس لنا أن ننتقص أحداً منهم، فنفضل من فضله الله سبحانه ولا ننتقص الآخرين، بل نقول: كلهم على خير، وكلهم أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ونصلي عليهم جميعاً، ونقول: خيرهم وأفضلهم بتفضيل الله عز وجل هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه ولا ننتقص أحداً منهم.(361/5)
الزمن الذي بين النفختين
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون).
وإسرافيل هو الملك الموكل بذلك، ينفخ نفخة فيصعق جميع الخلق، ثم ينفخ النفخة الآخرة فيفيق جميع الخلق، يقول أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون).
أي: بين النفخة الأولى والنفخة الثانية أربعون.
قالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت.
يعني: ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعون لعله قصد يوماً، لعله قصد شهراً، لعله قصد سنة، أنا لا أدري.
قالوا: (أربعون شهراً؟ قال: أبيت.
قال السائل: أربعون سنة؟ قال: أبيت.
قال: ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب).
عجب الذنب هو آخر فقرة من العمود الفقري للإنسان، وهو آخر ما يبقى من الإنسان، فيبلى جميع الإنسان وتبقى هذه العظمة الصغيرة ينبت منها الإنسان مثل الحبة التي تضعها في الأرض فتنبت.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومنه يركب الخلق يوم القيامة).
إذاً بين النفختين أربعون لا ندري أربعون يوماً أو شهراً أو سنة.
وجاء في حديث آخر عند أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصور قرن ينفخ فيه).
إذاً إسرافيل ينفخ في الصور، وما هو الصور الذي ينفخ فيه؟ قال: قرن.
يعني: بوق يضعه على فمه وينفخ فيه فيسمع الناس صوته فيصعقون على ما سيأتي في حديثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو وفيه كيفية ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(361/6)
تفسير سورة الزمر [67 - 70]
إن الأرض بعظمتها والسماوات بسعتها كلها في قبضة الله تعالى، يدبر أمرها ويسيرها كما يشاء، وإذا كان ذلك في الأرض والسماوات فكيف بالإنسان الضعيف الصغير أمام عظمة الكون، ولذلك فإن ما نراه من عظمة الكون سيأتي يوم يكون الكون كله هباءً منثوراً، وذلك حين ينفخ في الصور نفختين، نفخة الموت ونفخة البعث، وحينها تتبدل السماوات والأرض، ويقف الناس للفصل والحساب، عليهم شهود من الملائكة والأنبياء وصالحي هذه الأمة، فما أعظم فزع ذلك اليوم!(362/1)
علامات الساعة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:67 - 68].
في هذه الآيات من آخر سورة الزمر يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن أحداث يوم القيامة، من النفخ في الصور والبعث من القبور، ومن سوق الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، ويقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، ففيها بيان لقوة الله وقدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، وضعف الإنسان بل وضعف جميع المخلوقات التي خلقها الله عز وجل.
قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات:27 - 28] أي: فهذه السماوات السبع التي أخبر الله أنها أشد خلقاً منكم، ومع ذلك فهي مطويات بيمينه سبحانه تبارك وتعالى، وهذه الأرض التي يسير عليها الإنسان، ويظن أنه كبير على خلق الله، وأنه قوي، فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
أي: فالأرض أعظم منك وأقوى منك، فلو ضربت الأرض بقدمك ما استطعت أن تخرقها، ولو تساميت في نفسك ما بلغت الجبال طولاً، فاعرف قدرك، واقدر ربك حق قدره، فالأرض هذه التي هي أقوى منك هي في قبضة الله عز وجل يوم القيامة، فكيف بك؟ والسماوات التي هي أشد منك يطويها الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة، فلا تتكبر على خالقك وارجع إليه، وتب إلى الله سبحانه، واذكر يوم القيامة وما يكون فيه من نفخ في الصور، إذ ينفخ إسرافيل، وهو الملك الذي وكله الله سبحانه بذلك، فيصبح الأمر كما قال تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وتكون في ذلك اليوم نفختان نفخة يصعق الله عز وجل فيه خلقه إلا من استثناهم الله سبحانه وتعالى على ما قدمنا في الحديث السابق، ونفخة أخرى ينشرون ويقومون من قبورهم، ويعادون كما كانوا عليه ويرجعون مرة ثانية، أما في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض، فإذا بكل مخلوق مات.(362/2)
من علامات الساعة هدم الكعبة
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل رواه الإمام مسلم ورواه الإمام أحمد من حديث يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو وقد جاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدثه؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا، أحياناً قد يذكر الإنسان حديثاً، والذي يسمعه يروي هذا الحديث ولا يتقن ما سمعه، فيزيد في الحديث شيئاً لم يقله راوي الحديث، فـ عبد الله بن عمرو روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه بعض الناس، فزادوا فيه وقالوا: إنه يخبر أن الساعة تقوم بعد كذا وكذا من السنين! وكذبوا فيما قالوه، فذهب رجل إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال له: ما هذا الذي تقوله؟ فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله! لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً.
يعني: قد وصل الأمر بكم إلى أن تفتروا علي بالكذب في الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، إني قد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً، يعني: سيكون من أمر الله عز وجل أشياء عظيمة من علامات الساعة، وإنكم بعد قليل سترون أمراً عظيماً يحرق البيت، ويكون، ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر هذا الحديث.
ومن علامات الساعة أن ذا السويقتين يهدم الكعبة التي نطوف حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، فإنما يهدم الكعبة ذو السويقتين من الحبشة وكأني أراه أصيلع أفيدع).
يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنه إنسان من الحبشة، وأن رجليه معوجتان وكأنه يراه يهدمها حجراً حجراً، فيخبر أنها إذا هدمت لم تبن مرة ثانية، وهذه من علامات الساعة التي تكون في آخر الزمان، فحدث عبد الله بن عمرو بذلك، ولم يقل: إن الساعة ستقوم غداً أو بعده، ولكنه قال: إن الساعة من علاماتها أن يحدث كذا وكذا.(362/3)
فتنة المسيح الدجال وما يحصل فيها
ومن علامات الساعة خروج الدجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيمكث أربعين قال الراوي: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً)، وهذه من العلامات الكبرى للساعة وسمي مسيحاً؛ لكون عينه ممسوحة لا يبصر بها، وعينه الأخرى ناتئة كأنها عنبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا اسمه: (المسيح الدجال).
وأما المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو نبي من أولي العزم من الرسل، وقد جعل الله عز وجل له معجزة من المعجزات وهي أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، فـ المسيح الدجال يريد أن يتشبه به فيقول: أنا أحيي الموتى ويقتل إنساناً ثم يحييه ولا يسلط على غيره، بل شخص واحد فقط هو الذي يقدر أن يفعل معه ذلك.
فكأنه يشبه نفسه بالمسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما أحيا الله عز وجل له الموتى، ولكن المسيح قال: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]، وأما الدجال فيقول: أنا الذي أحييه، ويقول: أنا ربكم، ويطلب منهم أن يعبدوه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسيح الدجال يمكث في الأرض أربعين)، وراوي الحديث يقول: لا أدري يوماً أو شهراً أو عاماً (فيبعث الله عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه) يعني: يأتي المسيح عيسى بن مريم عندما ينزل من السماء، فيطلب المسيح الدجال ويقتله كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة)، يعني: ينزل المسيح، فيحكم بهذا القرآن العظيم، ويمكث الناس على دين الله سبحانه تبارك وتعالى، مسلمون ليسوا نصارى ولا يهوداً ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية؛ لأنه لا يبقى أحد يقبل منه الجزية.
أي: لا يقبل منه إلا الإسلام حين ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يمكثون سبع سنين ليس بين اثنين عداوة.(362/4)
قبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة
قال: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير إلا قبضته) أي: مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، فبعد مجيء المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقبض الله عز وجل المؤمنين، ويمكث المسيح في الأرض سبع سنوات، وينشر في الأرض العدل، وبعد ذلك يقبض الله عز وجل المؤمنين، يقول: (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه) أي: تقبض هؤلاء المؤمنين.(362/5)
صفات من تقوم عليهم القيامة
قال عبد الله بن عمرو: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع)، فبعد أن يقبض الله المؤمنين، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الأشرار.
وأحوالهم كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع)، والطائر مجرد أن يأتي عليه ريح إذا به يطير ويفزع ويهرب، ومجرد ما يستشعر أن مخلوقاً آت إليه يهرب ويفزع منه.
وكذلك هؤلاء: إن اندفاعهم إلى الشر في غاية الخفة، وفي غاية الطيش، فهذا حالهم في خفة الطير وأحلام السباع، وأي حلم يكون عند السبع؟ بل هو أول ما يرى فريسة أمامه لا يصبر عليها، بل يثب عليها مباشرة، وهؤلاء يكونون في خفة الطير في سرعة الحركة إلى الشر، وفي طمع وشراهة السباع، فهؤلاء هم الذين تقوم عليهم الساعة.
ويقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)، وجاء أيضاً: (أنها لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، لا يقال فيهم الله الله)، فهم نسوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يقولون: الله! وإنما يشركون بالله سبحانه ويعبدون ما زينه لهم الشيطان.
قال: (فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون) أي: يتمثل الشيطان لهؤلاء الأشرار الذين تقوم عليهم الساعة، فيقول: (ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟) أي: ماذا تريد ونحن نطيعك؟! قال: (فيأمرهم بعبادة الأوثان) أي: أنهم عادوا مرة ثانية إلى عبادة الأوثان.
قال: (وهم في ذلك) أي: في فتنة من الله سبحانه تبارك وتعالى قال: (دار رزقهم، وحسن عيشهم) أي: فالله يملي لهم، فيترك لهم الرزق مع كونهم يشركون به، ويعطيهم منه سبحانه، ويكونون في عيشة حسنة.(362/6)
نفخة الموت والفناء
قال: (ثم ينفخ في الصور)، يبقون على هذا الحال من حسن العيش، ومع الإساءة في العبادة لله سبحانه، فلا يعبدون الله، وإنما يشركون بالله سبحانه، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)، ولية الإنسان: جانب الوجه أو صفحة العنق، أي: أنه يقوم الإنسان الذي يسمع النفخ في البوق، فيتسمع كما تستمع لصوت جاء من بعيد، فتميل حتى تستمع له (يصغي ليتا) أي: يخفض جانباً من جوانب وجهه، ويرفع الجانب الآخر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناس) أي: أول من يسمعه رجل ذهب إلى الحوض الذي سيسقي فيه الإبل، ويلوطه يعني: يصلحه بالطين من داخله لكي يهيئه لشرب الإبل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيصعق) هذا الإنسان، ويصعق الناس، فهنا ذكر صورة من أحداث النفخ في الصور، وفي حديث آخر ذكر صوراً أخرى منها: أن الناس يتبايعون، ويمد البائع الثوب والمشتري يأخذه أمامه فلا ينشرانه ولا يطويانه، يقول له: خذ الثوب لكي يقيس مقداره، فلا هذا قاس، ولا هذا طوى الثوب، فإذا بالساعة قد قامت، فوقع الاثنان على هذه الحالة.
وكذلك الإنسان يرفع الإناء إلى فمه ليشرب، فلا يرفع الإناء، لأنه سمع الصور فصعق.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل)، إذاً: هذه كانت النفخة الأولى صعق فيها كل من في السماوات ومن في الأرض بأمر الله، فلكي يبعث الخلق مرة أخرى: (ينزل الله سبحانه مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد الناس)، ينزل مطر ثقيل من السماء، فينبت الناس كالزرع الذي ترونه، والإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب، يعني: الفقرة الأخيرة من فقار الظهر التي يكون منها ذيل الحيوان في الإنسان، وهو العصعص الأخير الذي في ظهر الإنسان، فيركب منه الخلق مرة ثانية، وكأنه بذرة الإنسان الموجودة في الأرض، وينزل المطر من السماء كما ينزل على بذور النبات، فيحييها الله عز وجل، وكذلك هذا الإنسان ينبت من ذلك ويركب من هذه الفقرة.(362/7)
نفخة البعث والنشور
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون).
فرجع الإنسان بنفس الهيئة والجسد، ثم ينفخ إسرافيل بأمر الله عز وجل النفخة الثانية في الصور، فيستيقظ الناس من موتهم، فيخرجون من قبورهم على حالهم الأول.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم)، وذلك كقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] ومعنى هلموا: تعالوا فقد جاء الله لفصل القضاء بين العباد.
ثم يقال: (أخرجوا بعث النار)، وفي الحديث الآخر: يقال لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار -أي: أخرج الذين كتب الله عز وجل كتابهم في سجين- فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين!)، كل هؤلاء إلى النار والعياذ بالله، وواحد إلى الجنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذاك يوم يجعل الولدان شيباً) أي في هذا اليوم يشيب الولدان، وهو يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون.(362/8)
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: ينظرون في الموقف، (ينظرون) من النظر بالبصر، وينظر أيضاً من النظر وهو الانتظار، فهم في الحالين ينظرون متحيرين شمالاً ويميناً ينتظرون الذي سيكون وما الذي سيحدث لهم؟ وينتظر الإنسان حينها ما الذي يحدث له، وينتظر فصل القضاء بين العباد، وينظر مندهشاً متحيراً في هذا الموقف العظيم، نسأل الله العفو والعافية.(362/9)
تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها)
قال الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]، وأخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23]، وهذا في يوم القيامة، والمعنى: جاء ربك، وجاءت ملائكة الله سبحانه، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
فإذا جاءت بعض آيات الله سبحانه مثل: خروج الدجال أو طلوع الشمس من مغربها، ففي هذه الحالة: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، فيبقى الإنسان منتظراً مجيء بعض آيات الله، أو ينتظر مجيء الملائكة، أو ينتظر مجيء أمر الله ومجيء الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
جاء ربنا يوم القيامة كما يشاء سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة، فيقف الناس في هذا الموقف العظيم في عرصات القيامة ينتظرون فصل القضاء، وتنزل ملائكة كل سماء حيث يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، والناس في فزع وفي خوف، تحيط بهم الملائكة ويسأل الناس: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وإنه آت، وجاء ربك سبحانه تبارك وتعالى، وقام العباد لفصل القضاء فيما بينهم، قال الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69] أي: جاء ربنا سبحانه تبارك وتعالى فأشرقت الأرض بنور ربها سبحانه تبارك وتعالى، والله هو نور السماوات والأرض، ومنور السماوات والأرض، (حجابه النور -سبحانه- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ولا يحتاج الناس إلى شمس ولا إلى قمر، فقد أشرقت الأرض وأضاءت بنور الله سبحانه تبارك وتعالى.
ووضعت صحف الأعمال، وإذا بها تتطاير، فمن آخذ بيمينه ومن آخذ بشماله، والكتاب أي: جنس كتب أعمال العباد، فكل إنسان يؤتى كتابه إما بيمينه وإما بشماله ومن وراء ظهره.(362/10)
معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء)
قال الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، جاء الأنبياء وجاء الشهداء حتى يفصل الله عز وجل بين العباد، وجيء بالنبيين، (جيء) قراءة الجمهور هكذا، وهذه الصيغة مبنية للمجهول في أصلها والمعنى: أتي بهم، ولبيان أنها مبنية للمفعول يقرؤها هشام والكسائي ورويس بإشمام الكسرة، أي: فيها ضمة (جيء)؛ لبيان أنهم أتي بهم، وليسوا هم الذين جاءوا.
وقراءة الجمهور (بالنبيين)، وقراءة نافع: (بالنبيئين) يعني النبوءة، فالنبي منبأ يعني مخبر بأشياء من الغيب، أطلعه الله عز وجل عليها من هذه الكتب التي نزلت من السماء، وأطلعه الله سبحانه على بعض ما يكون من علامات القيامة، وما يكون في يوم القيامة وغير ذلك.
{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} [الزمر:69] أي: يوم القيامة وأتي بهم.
قال: {وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، وذلك كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] أي: سائق يسوقها وهو الذي يكون من الخلف يدفعها أن احضري لهذا المكان.
وهناك فرق بين السائق والقائد، فالقائد يكون في الأمام يمشي والمقود وراءه، وأما السائق فيكون في الخلف، وهذا موقف فظيع مفزع، فالسائق يأتي الإنسان ويقول: تحرك وامش وتقدم إلى حسابك! إذاً: أتت كل نفس ومعها سائق، ومعها أيضاً شهيد، وهو الملك الموكل بحفظ هذه النفس وبكتابة أعمالها؛ ليشهد عليها يوم القيامة.
فهذا واحد من الشهداء الذين يكونون يوم القيامة.
ومن ضمن الشهداء أيضاً هذه الأمة الذين كانوا عدولاً، فشهدوا للأنبياء السابقين، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه الأمة تشهد على تبليغ الرسل السابقين لقومهم، فيسأل الله عز وجل الأمم السابقة: هل أتاكم من نذير؟ يقولون: ما أتانا من نذير، فيكذبون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام! فالله سبحانه تبارك وتعالى يسأل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم، فيقول: من يشهد لكم؟ ولا شك أن الله سبحانه خير حافظاً وخير من يشهد سبحانه وتعالى، ولكن ليبين فضيلة هذه الأمة، فيستشهد الرسل بهذه الأمة، فتشهد أمتنا للأنبياء السابقين.
ونحن في هذه الأمة نشهد ونحن لم نر هؤلاء الأنبياء، ولكننا نشهد بتصديقنا لكتاب الله عز وجل الذي قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود:25]، فالقرآن قد أخبرنا أن الله أرسل نوحاً إلى قومه وأنه لبث فيهم يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأنه دعاهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يستجيبوا، فأهلكهم الله فتشهد أمتنا بذلك.
فهذه الأمة فيها الشهداء الذين يشهدون على تبليغ الأنبياء والرسل السابقين لأقوامهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
وصنف ثالث من الشهداء، وهم الذين يقتلون في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، وهؤلاء الشهداء هم الذين جاهدوا في سبيل الله فقتلوا في سبيل الله، قال الله عنهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
وأيضاً الشهداء من هذه الأمة هم عدول هذه الأمة، وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة).
فحتى تكون من ضمن الشهداء يوم القيامة، الذين يشهدون وتقبل شهادتهم، فلا تعود لسانك على لعن الخلق، ولا تدعو على أحد باللعن، ولا تعود لسانك على الكذب، فإن الإنسان الذي يكثر من اللعن ويكذب لا يستحق أن يكون شفيعاً أو أن يكون شهيداً يوم القيامة.
إذاً: الشهداء هم جملة من ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وجملة من جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(362/11)
معنى قوله تعالى: (وقضي بينهم بالحق)
قال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَق} [الزمر:69] قضي: فصل بينهم أو حكم بينهم، فالله يحكم بين العباد، بين المؤمنين منهم والكافرين، فيقضي بالحق سبحانه تبارك وتعالى، وينتصر للمؤمنين المظلومين من الظلمة والعصاة.
فيفصل الله سبحانه ويقضي بالحق سبحانه تبارك وتعالى، ففي يوم القيامة يحق الله الحق، فهو يوم الحق: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]، فلا يظلم الله أحداً شيئاً وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وإذا بالعباد أخذوا جزاءهم الوافي، قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران:25]، وكل هذا الفصل مع أن العدد ضخم جداً وكبير جداً يوم القيامة، من الإنس ومن الجن ومن خلق الله عز وجل، فيفصل بينهم جميعاً، وكل نفس على حدة، يقضي الله عز وجل فيها قضاءً حاسماً وقضاءً سريعاً، وقضاءً حقاً من الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [الزمر:70] ولا تفلت أي نفس.
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:70] يعني: فكل ما عملته النفوس يحاسبها الله عز وجل عليه، وهو أعلم فلا يحتاج إلى شهود ولا إلى كتب، ولكن الله سبحانه يبين في هذا اليوم العظيم كيف تكون عظمة هذا اليوم، وكيف تكون المحكمة العظمى يوم القيامة، فهي محكمة فيها شهود وكتب، فهذا هو الموقف يوم القيامة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(362/12)
تفسير سورة الزمر [68 - 72]
أخبر الله تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيها من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة، ومنها نفخة الصعق وهي النفخة الثانية، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، وينفرد الحي القيوم بالبقاء والديمومة.(363/1)
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من آخر سورة الزمر بعض ما يكون يوم القيامة من أحداث، حتى يخيف من يعصونه سبحانه وتعالى ولا يؤمنون به، وينذرهم حتى يراجعوا أنفسهم، ويعملوا لله سبحانه، ويدخلوا في الإيمان، وحتى يطمئن المؤمنون أنهم إلى ربهم راجعون، وأن يوم القيامة يوم يحق الله فيه الحق سبحانه وتعالى.
قد يأخذ الإنسان حقه وحظه في الدنيا وقد لا يكون ذلك، ولكن في الآخرة، الله سبحانه يحق الحق، ويقضي بين الناس بالحق يوم القيامة، يوم يفصل الله بين العباد يوم الجزاء، والدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وهذه عقيدة المؤمن في اليوم الآخر.
فالله سبحانه يوم القيامة يقبض السماوات والأرضين، ويقول سبحانه: أنا الملك، أين ملوك الأرض، والله سبحانه وتعالى يدخل من يشاء برحمته في جنته، ويعذب من يشاء بعذابه في ناره.
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهما نفختان، والذي ينفخ في الصور ملك من ملائكة الله عز وجل الكرام الموكلين بذلك، وهو من أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى، وأعظم ملائكة الله وأقربهم إلى ربه سبحانه وتعالى: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، هؤلاء أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى.
ملك الموت: يقبض الأرواح.
وإسرافيل: ينفخ في الصور نفخة الموت، ونفخة البعث: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}.
وميكائيل: وكله الله سبحانه وتعالى بالمطر، وبأرزاق العباد.
وجبريل: رسول رب العالمين إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام في الأرض.
هؤلاء أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى، والجميع يقبضون يوم القيامة حين يأمر الله سبحانه وتعالى.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] كما قدمنا قبل ذلك أن إسرافيل خلقه الله سبحانه ووكله بالنفخ على الصور، والصور: هو بوق ينفخ فيه، فإذا أمره الله سبحانه وتعالى نفخ، فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من استثناهم الله سبحانه.
ويبقى ملك الموت، ويبقى إسرافيل، ويبقى ميكائيل، ويبقى جبريل، ثم يأمر الله عز وجل أن يموتوا فيموتون هم أيضاً، ويبقى ملك الملوك سبحانه وتعالى، ثم يقبض السماوات والأرض، قال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال سبحانه: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
وهنا {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} أي: مات من في السماوات ومن في الأرض إلا من استثناهم الله، ثم يميت من بقي بعد ذلك كما يشاء سبحانه وتعالى.
ثم قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} أي: يأمر الله إسرافيل بعدما يحييه الله سبحانه وتعالى أن ينفخ نفخة الإحياء، النفخة الثانية، فإذا بالخلق قيام ينظرون إلى ما حولهم متعجبين! الكفار يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].
والمؤمنون يقومون من قبورهم مستبشرين فرحين؛ لأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى.
وهنا يقول: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} وقبل ذلك أحداث، منها: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: أن الله عز وجل ينزل مطراً من السماء كأنه الطل، هذا المطر ينبت منه بنو آدم، يرجعون وتركب الأجساد كما كانت، وتعاد مرة ثانية بعدما كانوا رفاتاً وتراباً.
ينزل هذا المطر فينبتون كما ينبت النبات، ويأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ فيها الروح، فتنفخ الروح في هذه الأجساد التي أعاد الله سبحانه وتعالى خلقها مرة ثانية، فقاموا وهم ينظرون بأبصارهم حولهم، وينظرون من النظرة بمعنى الانتظار، فهم منتظرون ماذا سيكون في هذا اليوم.(363/2)
تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها)
قال الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69] لا يحتاجون إلى شمس ولا إلى قمر، ولكن الله عز وجل الذي حجابه النور سبحانه وتعالى، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره سبحانه وتعالى.
فالأرض تشرق بنور ربها سبحانه وتعالى، ينيرها كما يشاء: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} فيوم القيامة انتهى أمر الشمس والقمر، لا توجد شمس ولا قمر في هذا اليوم، ولكن قبل قيام الساعة من الأحداث تشرق الشمس من مغربها، فإذا كانت القيامة يذكر الله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 6] ذكر الله سبحانه أحداثاً تكون في ذلك اليوم العظيم.
فقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: كور بعضها على بعض فانطفأ نورها وسقطت، لم يعد هناك شمس مرة أخرى يوم القيامة، إلا ما يشاء الله عز وجل في الموقف بين يديه سبحانه، وليست للإنارة للخلق ولكن للإحراق، وللتشديد على الناس.
فيوم القيامة النور نور الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يحتاجون إلى غيره، ولكن يجعل الشمس تدنو من رءوس الخلق يوم القيامة حتى يفيضوا ويتصببوا عرقاً، فمن لم ينزل عرقه في الدنيا في طاعة الله سبحانه، وفي خدمة دين الله سبحانه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي عمل الخير، ووفر عرقه لغير ذلك من معاصي الله سبحانه؛ فهذا يبذل العرق يوم القيامة عرقاً غزيراً، حين تدنو الشمس من الرءوس، فإذا به يتصبب عرقاً، والعرق بحسب عمل الإنسان، فمن الناس من يغطي عرقه قدميه، ومنهم من يرتفع إلى ساقيه، ومنهم من يرتفع إلى ركبتيه إلى حقويه إلى منكبيه، ومنهم من يغطي عرقه رأسه يوم القيامة، فهو غارق في عرقه وفي نتنه؛ لأنه لم يبذل في الدنيا لله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ)) أي: كتاب أعمال الخلق، والكتاب جنس الكتب، أي: كل إنسان يرى كتاب عمله وصحيفة عمله الذي عمله في الدنيا، تتطاير الصحف، فمن آخذ بيمينه، ومن آخذ بشماله من وراء ظهره، فأما من أخذ كتابه بيمينه فهؤلاء الناجون، ويقولون: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] أما من أخذ كتابه من رواء ظهره بشماله فيقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26].
ثم قال: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ)) أي: أحضروا في هذا اليوم.
وقوله: (وجيء) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((وَجِيءَ))، وقراءة هشام والكسائي ورويس: ((وجُيء)) بإشمام الجيم الضمة؛ لبيان أنه مبني للمجهول، فهنا ثلاث كلمات تأتي في هذه الآية والتي تليها والتي تليها، ((وَجِيءَ)) و {قِيلَ} [الزمر:72] {وَسِيقَ} [الزمر:73] فهي تقرأ على البناء للمجهول: ((وجُيء))، ((وسُيق)) و ((قُيل)) وهذه قراءة هشام والكسائي ورويس، وفي كلمة ((وسيق)) سيكون ابن عامر وهشام وابن ذكوان يقرءونها كذلك.
وقوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ)) قراءة الجمهور ((بِالنَّبِيِّينَ))، وقراءة نافع: ((بالنبيئين)) من النبوءة، والتنبؤ، وهذا أصلها أنه نُبِئ وأخبر، وأوحي إليه بأمور من أمور الغيب وبما شاء الله عز وجل من تعليم لهذا النبي، ليعلم أمته التوحيد، فإذا كلف بشريعة: أوامر ونواه، حلال وحرام، فلابد أن يبلغ الخلق، وإذا نزل عليه كتاب صار رسولاً، فمن نزل عليه كتاب من السماء بشريعة كاملة، وأحل الله عز وجل له أشياء في كتابه، وحرم عليه أشياء، فهذا رسول مرسل برسالة يبلغها إلى قومه.
ثم قال: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ))، الشهداء جمع شهيد، والشهيد: هو من يشهد على الشيء، فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة، والنبي عليه الصلاة والسلام شهيد على الجميع، والأنبياء شهداء على أممهم، والشهداء أيضاً: هم العدول من كل أمة، وهم الذين قتلوا في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فيؤتى بهؤلاء الشهداء جميعهم، ويؤتى بشهداء الله سبحانه وتعالى، وهم الملائكة الذين يشهدون على الخلق بما عملوا، فالشهداء من عند الله عز وجل ملائكة الله، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] أي: يشهد عليها من ملائكة الله عز وجل.
ثم قال: ((وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)) أي: قضي بين الخلق القضاء الحق من رب العالمين، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
الحق من عند الله سبحانه، وهو الذي أمرهم الله عز وجل أن يلتزموه في الدنيا فأعرضوا عنه، فيقضى بينهم بالحق وبالحكم الفصل، وهو أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وهو الملك الحق المبين.
ثم قال: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) أي: لا يظلمهم الله عز وجل مثقال ذرة.(363/3)
تفسير قوله تعالى: (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون)
قال الله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:70] أي: كل النفوس توفى ما عملت، فالإنسان المؤمن يأخذ حسابه وجزاءه وافياً من الله سبحانه وتعالى، الحسنة بعشر أمثالها، وقد تضاعف حتى تصل إلى سبعمائة ضعف، وتصل إلى أضعاف كثيرة بغير حساب، كل هذا من فضل الله ومن رحمته سبحانه.
ويوفى الظالم والكافر ما عمل من أعمال سيئة، السيئة بمثلها، والكافر لا يجد لنفسه خيراً يوم القيامة، فقد جوزي في الدنيا بما عمل من خير، بأن أعطاه الله عز وجل المال، وأعطاه الولد، وأعطاه الدنيا والمنصب والرياسة، فليس له عند الله شيء، فإذا جاء يوم القيامة يقول: عملت خيراً، يقال: أخذته في الدنيا، ليس لك عندنا شيء، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
قال: ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)) فهو سبحانه وتعالى أعلم بما تفعل، وبما تكسب كل نفس، والإنسان قد يعمل الشيء وينساه بعد قليل، والمؤمن يتذكر سيئاته، ولعله ينسى حسناته، ولكن الله لا ينسى شيئاً أبداً.
إذاً: ما عمله الإنسان من خير فالله عز وجل لا ينساه له، وما عمله من شر الله يحصيه عليه، قال: ((وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)).(363/4)
تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً)
قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] السياق إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وبدأ بذكر الكفار هنا: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} الكفار يوم القيامة أول ما يجدون من الحسرات عند خروجهم من قبورهم، فهم يجدون أمامهم يوماً عصيباً، فقالوا: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] من ساعة ما يقومون من قبورهم وهم في فزع، وفي ضنك، وفي خوف، وفي شدة، فهم في ذلك الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه، يجدون من شدة الموقف ما جعلهم يقولون: يا رب اصرفنا ولو إلى النار.
وإذا جاء الحساب والقضاء يقول الله سبحانه: ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه؟ فيقولون: بلى، فمن كان يعبد الشمس تمثل له الشمس ويتبعها إلى النار، ومن كان يعبد القمر يمثل له القمر ويتبعه إلى النار، الأتباع يذهبون إلى النار، فإذا رأوها فزعوا من منظر هذه النار، فإذا بالملائكة تأخذهم، وتدفعهم إلى النار، وسيقوا إلى النار، وفرق بين سوق الكفار والعصاة، وبين سوق المؤمنين والأبرار، هؤلاء يساقون إلى النار، وهؤلاء يساقون إلى الجنة.
يساق ويدفع الكافر وهو مفزوع من النار ولا يريد أن يدخل النار، فيدفع من قفاه، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:13 - 16].
أما المؤمنون فيكرمهم الله سبحانه وتعالى، فهم بعد أن يمروا على الصراط، وبعد أن يتقاضوا فيما كان بينهم من مظالم في الدنيا، استحقوا الآن أن يدخلوا الجنة، والله عز وجل يجعل الملائكة تدلهم: هذا طريقكم، ادخلوا من هنا إلى الجنة، والمؤمنون يشرفهم الله ويكرمهم سبحانه بأن يجعلهم يركبون مراتب، ويساقون بهذه المراتب إلى الجنة، ويقال لهم: ادخلوا الجنة، وينادون من أبواب الجنة.
إذاً: هناك فرق بين من يساق فيدفع من قفاه، ومن يساق فيحمل حملاً ليدخل الجنة، فرق عظيم بين الاثنين، إذا عرف المؤمن وأيقن من ذلك عمل له.
قوله: ((زُمَرًا)) أي: جماعات جماعات، ليس كلهم مرة واحدة، لا، ولكن يؤخذ هؤلاء فيدخلون النار، والآخرون وراءهم إلى النار، جماعات متفرقة بعضها إثر بعض إلى النار.
ثم قال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: إذا وصلوا إلى النار، وهم في فزع وفي صراخ وضجيج؛ خوفاً من النار.
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} هذه فيها إمالة في القراءة لـ هشام بخلفه وابن ذكوان ولـ حمزة والكسائي فيميلونها وكل يمد بحسب مده.
ثم قال: ((فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)) يقرؤها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)) وباقي القراء يقرءونها: ((حتى إذا جاءوها فتَّحت أبوابها)) أي: إذا وصلوا إلى النار فتحت لهم النار، وإذا وصل الفوج الآخر فتحت لهم، ويدفعون فيها، وتغلق عليهم والعياذ بالله، هذا السياق التصويري لما يحدث يوم القيامة، ((إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)).
ثم قال: ((وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا)) مقرعين لهم وموبخين ومبكتين لهم: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ)) أليس ربنا أعذر إليكم وأرسل إليكم رسلاً يتلون عليكم ما نزل عليكم من كتب من السماء من عند رب العالمين؟! ويقولون لهم: ((وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ)) أي: يخوفونكم من هذا اليوم، فما هو الجواب من الكفار ومن أهل النار؟ قالوا: اعترفنا فقد جاءتنا رسل، ونزلت علينا كتب من السماء وعرفنا ذلك، وليس لنا عذر، ولكن يحتجون بالقدر، وهذا لا ينفعهم؛ لأنهم في الدنيا لم يؤمنوا بقضاء ولا بقدر، وإنما كذبوا باليوم الآخر وبالجزاء والحساب، فكيف يوم القيامة يحتجون بالقدر؟! يقولون: ((وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) أي: ربنا أراد شيئاً، فكان ما أراده الله سبحانه وتعالى، ((حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ)) أي: تحقق ما قاله الله سبحانه في كتابه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
فهنا حقت بمعنى وجبت كلمة العذاب، يعني: ما قاله ربنا لا بد أن يكون، فكان أن دخلنا النار.(363/5)
تفسير قوله تعالى: (قيل ادخلوا أبواب جهنم)
قال الله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] أي: بئس مكان إقامة لكل إنسان متكبر على طاعة الله سبحانه، ومتكبر على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومتكبر في الدنيا، فهذا المتكبر استحق الهوان والعذاب، أما أهل الجنة فهم في النعيم المقيم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(363/6)
تفسير سورة الزمر [73 - 75]
من منن الله على عباده المؤمنين وكمال إحسانه وتفضله عليهم أن جازاهم بأعمالهم الصالحة جنات تجري من تحتها الأنهار، فأدخلهم ربهم فيها جماعة تلو جماعة، وجعل ملائكته وخزنة جنته مستقبلة لهم على أبوابها، فتسلم عليهم، وتهنئهم، وتبشرهم بالخلود الدائم في جنة الرضوان، ثم جعل حياتهم فيها هنيئة رغيدة، لا بؤس فيها ولا شقاء، فهم فيها لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، آنيتهم الذهب، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، فهم في نعيم دائم بفضل ربهم وكرمه وإحسانه.(364/1)
تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75].
هذه الآيات الجميلة العظيمة يختم بها الله عز وجل هذه السورة الكريمة سورة الزمر، بذكر الجنة وأهلها، وكيف يدخلونها، وكيف يستبشرون فيها، وكيف يحمدون ربهم سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، ذكر ربنا قبل ذلك أهل النار وكيف أنهم يساقون إلى النار فيدعون إليها دعاً، ساخراً منهم بقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]، وقوله: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، فهذه النار سيق أهلها إليها، فأخذوا وأدخلوا فيها، وأقحموا فيها، ودفعوا فيها دفعاً.
ثم قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] هذا السياق غير السياق السابق، فأهل الجنة على مراتب، وتقودهم الملائكة وتسوق نجائبهم فيدخلون الجنة، وتنادي عليهم أبواب الجنة: ادخلوا من هنا، فمنهم من ينادى من باب، ومنهم من بابين، ومنهم من ثمانية أبواب، فأبواب الجنة ثمانية كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأبواب النار سبعة أبواب كما ذكر ذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه.
وقوله: (زُمَرًا) أي: جماعات.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا): أي: وصلوا إلى أبواب الجنة.(364/2)
معنى الواو في قوله تعالى: (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)
قوله تعالى: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وكأنها فتحت قبل أن يصلوا، ولا تفتح الجنة إلا أن تفتح لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو أول من يدخل الجنة عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من تفتح له الجنة) وهو أول من يدخلها، قال: (آخذ بحلقة الجنة فيقال: من؟ فأقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فتقول الجنة: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) فاستفتح ففتحت له فأول من يدخلها نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معه.
قوله تعالى: (وَفُتِحَتْ) أي: أن الجنة تظل مفتوحة دائماً.
أما النار فإنهم إذا جاءوها فتحت فدخلوا فيها ثم أغلقت عليهم، وإذا جاء فوج آخر فتحت فيدخلونها ثم تغلق عليهم، فإن أبوابها مؤصدة، أما الجنة إذا فتحت فأبوابها مفتحة، ولذلك فرقت (الواو) هنا عن هناك، حيث قال في أهل النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71] أي: كل ما جاءها فوج تفتح فيدخلون فتغلق عليهم، ويأتي الفوج الآخر فتفتح ويدخلون، أما الجنة إذا فتحت فإنها تظل مفتوحة أبداً لا تغلق، فيأتي أهل الجنة ويجدون الأبواب مفتحة فيزدحمون على أبوابها، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من زحام أهل الجنة.
فهذا هو الفرق بين ذكر أهل النار بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ)، وذكر أهل الجنة بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) يعني: وكانت مفتحة قبل ذلك.
وهناك قراءتان في هذه الكلمة: فتقرأ: (فُتِحت) و (فتّحت)، وكذلك في النار: (فتِحت) و (فتّحت)، فقراءة: (فتِحت): هي قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف.
وقراءة: (فتّحت): هي قراءة باقي القراء نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب وابن عامر.
وقال بعضهم: الواو في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) مضمر فيها معاني، فكأنه قال: حتى إذا جاءوها وفعل بهم وفعل بهم وفعل بهم وفتحت أبوابها، فهنا محذوف دلت عليه الواو هنا، وهذا من بلاغة القرآن حيث يعبر بحرف واحد عن جمل كثيرة قبلها.
ويمكن أن يكون المراد: حتى إذا جاءوها ونقوا من مظالم كانت بينهم، وصفيت نفوسهم، وهذبوا، وطيبوا، وأخرج ما فيهم من مرض وكدر وغل وحقد، فتحت أبوابها، فأهل الجنة يمرون على الصراط فإذا وصلوا إلى الجنة حبس منهم -بعضهم أو كثير منهم- حتى يتقاصوا المظالم فيما بينهم، فيؤخذ من حسنات الظالم للمظلوم حتى يستوفي حقه، فإذا هذبت النفوس مما كان فيها دخلوا الجنة بعد ذلك.
ومن المعاني التي فيها قول بعضهم: الواو هذه واو الثمانية، وعادة العرب أنهم إذا ذكروا أعداداً فعدوا من واحد إلى سبعة قالوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة فإذا وصلوا إلى الثمانية قالوا: وثمانية، فهنا أبواب الجنة ثمانية، فذكرت الواو هنا دليل عليها، أو إشارة إلى ثمانية أبواب الجنة، ولقد جاء مثل هذا في القرآن في مواطن، منها ما جاء في سورة براءة قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:112].
وفي سورة أخرى قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، فقالوا: هذه الواو واو الثمانية، يعني: ذكر الشيء الثامن يسبقه الواو، فهذه ثلاثة مواضع في الواو التي ذكرت هنا مع أهل الجنة.(364/3)
استقبال الملائكة للمؤمنين وتبشيرهم بالخلود
قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر:73] أي: أهل الجنة يدخلون الجنة بالتحية والإكرام، فخزنة الجنة يقولون لأهل الجنة: سلام عليكم، وهنا التسليم من الملائكة بقولهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ)، يتلقاهم ربنا سبحانه وتعالى في جنته بالخير والسلام من أول أبواب الجنة، حيث تنادي عليهم الملائكة بقولهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ)، فتحيتهم فيما بينهم سلام، والجنة هي دار السلام.
وقوله تعالى: (طِبْتُمْ) أي: في الدنيا بتوحيدكم الله سبحانه وتعالى، فطبتم وطابت أعمالكم فكانت خالصة لله صالحة موافقة لكتاب الله ولهدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والإنسان المؤمن طيب القلب كريم، ألف مألوف، طاب في الدنيا فاستحق أن يكون في الجنة.
كذلك قوله: (طِبْتُمْ) أي: طهرتم الآن قبل دخولكم الجنة، فلا تدخلون وفيكم أخباث أو أنجاس، ولا تدخلون الجنة وفيكم بول أو غائط، إذ لا يوجد شيء من هذا، بل قد انتهى أمر ما كان في الدنيا من بول وغائط ومخاط وحيض ونفاس، فقد طابوا ونقوا وهذبوا ثم أدخلوا الجنة.
قوله تعالى: (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) أي: ادخلوا الجنة خالدين فيها ولا تموتون أبد الآبدين.(364/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده)
قال الله عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] أي: لما خلصوا من الدنيا، وخلصوا من الموقف العظيم، ومروا على الصراط، واستقروا في النعيم المقيم؛ حمدوا الله سبحانه وتعالى فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] أي: الذي وعدنا في الدنيا على العمل الصالح بهذه الجنة العظيمة الكريمة، فصدق الله وعده، إذ أعطانا ما وعدنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد سبحانه.
قال الله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74].
قوله: (أَوْرَثَنَا الأَرْضَ) أي: الدنيا، حيث توارثها أهلها، فذهب سلف وجاء خلف، فلم يزالوا يتوارثونها، هؤلاء يصلحون وأولئك يفسدون، وهؤلاء يعملون صالحاً، وأولئك يعملون الخبائث، فأهل الإيمان ورثوا الأرض فعملوا لطاعة الله عز وجل فيها، فعملهم هذا بوأهم أي: نزلهم من الجنة منازل عظيمة عالية، فقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا قبل ذلك الأرض بعد آبائنا حيث سكنا عليها فعملنا الأعمال الصالحة.
وقوله تعالى: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ) أي: ثواب هذه الأعمال أن بوأنا أي: أنزلنا الله سبحانه وتعالى الجنة.
قوله: (حَيْثُ نَشَاءُ) أي: لا يصدون عن شيء فيها، فهؤلاء في الجنة في درجة معينة، وأولئك أعلى منهم، وكل إنسان في الجنة التي جعله الله من أهلها مفتحة أبوابها، يسير فيها، ويلعب فيها، ويلهو بما يشاء، لا شيء يمنع عنه، طالما أنه دخل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.(364/5)
القصاص في الآخرة
جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار).
فقوله: (يخلص المؤمنون من النار) يعني: بالمرور على الصراط، وهذا قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] أي: لابد أن يمر الجميع فوق الصراط، فمنهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هكذا، ومنهم من يمر كلمح البرق، وكلمح الطرف والبصر، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يجري كأسرع الناس، ومنهم من يمشي، ومنهم من يمشي مرة ويكبو مرة وتلسعه النار أخرى، حتى يمروا من فوقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
قوله: (فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار) أي: بعد أن يخلص المؤمنون من النار، ويمروا على الصراط يحبسون على قنطرة قبل أن يصلوا إلى الجنة.
قال: (فيقص لبعضهم البعض) أي: لابد من القصاص بين الخلق حتى ولو خرجوا من النار أو اجتازوا الصراط، بل لابد من الوقوف على القنطرة؛ ليحصل القصاص بينهم في ذاك المكان.
قال: (مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) ولذلك فعلى المؤمن ألا يستهين بمعصية أبداً، ولا يستهين بمظلمة يظلمها أحداً أبداً، ولا يقول: أعمالي الصالحة كثيرة، أو أنا أعمل خيراً كثيراً، فإن ذلك لن ينفعه، حتى ولو كان من أهل الجنة؛ لأنه سيحبس عن الجنة حتى يقتص منه، وقد يكون الحبس يوماً أو أقل أو أكثر، فإن حبس نصف يوم عن الجنة فهو: خمسمائة عام، ومن حبس يوماً عن الجنة، فهو ألف سنة مما تعدون، وهذا شيء فظيع وطويل جداً! فلذلك على المؤمن أن يسارع ويعطي الحقوق لأصحابها، وألا يظلم أحداً، حتى يكون ممن يسرع بهم إلى الجنة.
ويحكي النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمنين حين يدخلون الجنة فيقول: (فوالذي نفس محمد بيده! لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا!) فالجنة واسعة وعظيمة جداً، وعندما ينزل المرء في الدنيا إلى بلد لا يعرف فيها أحداً، فإنه يحتاج لدليل يدله على المكان، والجنة واسعة جداً، وهناك الملايين من البشر الذين يدخلون هذه الجنة العظيمة، فكيف سيعرف الإنسان منزله؟ وهل يحتاج إلى دليل يدله على منزله؟
الجواب
لا، فإنك كما تعرف بيتك في الدنيا فإنك تعرف بيتك في الجنة أكثر مما كنت تعرف بيتك الذي في الدنيا.(364/6)
صفات المؤمنين وأحوالهم في الجنة
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة) وأهل الجنة يدخلون الجنة على شكل جماعات وزمر لا دفعة واحدة، كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، زمرة بعدها زمرة، وأول من يدخلون -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم وفيهم- من الزمر صورهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر) فأجمل ما يكون هؤلاء الداخلون.
قال: (لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون) فليس فيها مما كان في الدنيا من القاذورات.
وفي رواية أخرى قال: (لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون) أي: كلما كان من خبائث في الإنسان في الدنيا فإنه لن يوجد في الجنة منها شيء.
يقول صلى الله عليه وسلم: (آنيتهم فيها) أي: الأطباق التي يأكلون فيها.
قال: (آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة) أي: يمشطون شعرهم بمشط من الذهب والفضة.
قال: (ومجامرهم الألوة) والمجامر: هي المباخر، فالمبخرة التي يتبخرون بها في الجنة هي الألوة، وهي نوع من أنواع البخور طيب الريح، ليس يشبهه في الدنيا شيء، وما في الدنيا يشبهه بالاسم فقط، وذاك أعظم منه بكثير.
قال: (ورشحهم المسك) أي: إذا أكلوا أو شربوا خرجت منهم الفضلات على هيئة العرق رائحته المسك.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولكل واحد منهم زوجتان) أي: في الجنة.
(يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) مخ الشيء: أصل الشيء الذي بداخله، وكأن المعنى أن لحم الحور العين ولحم أهل الجنة غاية في الصفاء والنقاء والبياض، وغاية في الجمال وهو مثل المرآة يرى ما بداخلها! قال صلى الله عليه وسلم: (لا اختلاف بينهم) أي: لا يختلفون في الجنة؛ لأنهم قد نقوا من ذلك، وأيضاً في جمالهم، فلا يقال: إن فلاناً جميل وفلاناً أجمل منه، بل الكل غاية في الجمال.
قال: (ولا تباغض) أي: ولا يتباغضون.
قال: (قلوبهم قلب واحد) أي: على قلب رجل واحد، فهم مؤتلفون في الجنة فلا تناكر ولا اختلاف.
قال: (يسبحون الله بكرة وعشياً).
وفي رواية للحديث قال صلى الله عليه وسلم: (وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد).
ففي الدنيا يختلف الناس في أشكالهم، فهناك النحيف والسمين، وهناك الطويل والقصير، وهناك الأحمر والأبيض والأسود، أما في الجنة فكلهم على هيئة واحدة غاية في الجمال، الطول مثل آدم في الهيئة التي خلقه الله عز وجل عليها، قال صلى الله عليه وسلم وهذا لفظ البخاري: (على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء) فهذا هو طول آدم حين خلقه الله، وكذلك يكون أهل الجنة على هذا الطول.
يقول الله عز وجل في الآية: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] أي: أنعم به من أجر لمن عمل لله، ولمن وحد الله واتقاه، ولمن اجتنب المعاصي وعمل بالطاعات.(364/7)
تفسير قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش)
قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] أي: في ذلك اليوم العظيم ترى الملائكة في الجنة تنظر إلى ربها سبحانه وتعالى وهناك لا يظلم أحد.
ولقد جاء في الحديث: (ولا تضامون) أي: حين تنظرون إلى ربكم سبحانه وتعالى في الجنة لا يوجد أحد سينضم ويزاحم الناس لكي يرى ربه، بل الأمر كما تنظر إلى القمر، فكل أهل الأرض ينظرون إلى القمر وهو في مكانه، وكذلك -ولله عز وجل المثل الأعلى- لا يزدحم أحد ليرى ربه، بل كل إنسان مكانه، يطلع عليهم ربهم اطلاعاً فينظرون إليه، فهذا أعظم ما يستمتع به أهل الجنة، أن ينظروا إلى وجه ربهم، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثر من ينظر إلى وجه ربه يوم القيامة سبحانه.
وقوله تعالى: (حافين) أي: محدقين محيطين حول عرش الرحمن سبحانه وتعالى، منعمين بذلك حيث أكرمهم الله بذلك سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75].
أي: يتلذذون بعبادته وتسبيحه، وكذلك أهل الجنة يتلذذون بالتسبيح لربهم سبحانه، ففي الدنيا يسبح الإنسان ربه ليأخذ على ذلك الأجر، أما في الجنة فيسبح ربه ليستمتع كما يستمتع في الدنيا بالنفس، فعندما يذهب المرء إلى مكان فيه هواء طلق فيأخذ نفساًَ عميقاً، ويملأ صدره به، مستمتعاً بذلك الهواء، فكذلك تملأ صدرك تستمتع في الجنة بتسبيح الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي: وبحمد ربهم، يسبحون وبتسبيحهم يحمدون ربهم سبحانه.
قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الزمر:75] أي: بين النبيين وبين أممهم، وبين الخلق فيما بينهم بالحق.
قوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، فكان نعم الختام لهذه الآيات ولهذه السورة، ونعم ما يقوله أهل الجنة، ونعم ما يختم به الله عز وجل للمؤمنين من الصالحات: الحمد لله رب العالمين، فبدأ خلقه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
وأنهى الأمر بالحمد فقال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] فيستحب للإنسان أن يبدأ عمله بحمد الله وأن ينهيه بحمد الله، فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(364/8)
تفسير سورة غافر [1 - 2]
سورة غافر من السور المكية، وفيها التنبيه على أهمية عبادة الله وحده لا شريك له، وإبطال عبادة ما يعبده المشركون، وفيها الإخبار بالبعث ويوم القيامة وما يكون فيه من أهوال، كما أن فيها ذكر قصص بعض من تقدم من الأنبياء، وفي ذلك تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له.(365/1)
سورة غافر نزولها وعدد آياتها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:1 - 4].
هذه السورة هي الستون من كتاب الله عز وجل وهي سورة غافر، وهي سورة من السور المكية التي يقرر الله عز وجل لعباده فيها منهج حياتهم: أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى، وأن يؤمنوا بالبعث بعد الموت، وأن الله عز وجل سيجزيهم يوم القيامة إما الجنة وإما النار، ويذكر الله عز وجل فيها لنا دعوة الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقص علينا قصة موسى، وقصة مؤمن آل فرعون الذي آمن وابتلي في الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه السورة تسمى بسورة غافر، وتسمى بسورة المؤمن، أي: مؤمن آل فرعون الذي ذكره الله عز وجل في هذه السورة بقوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].
وهذه السورة عدد آياتها بحسب العد البصري ثلاث وثمانون آية، وبحسب العد الحجازي والحمصي أربع وثمانون آية، وبحسب العد الكوفي خمس وثمانون آية، وبحسب العد الدمشقي ست وثمانون آية، وكما ذكرنا قبل ذلك أن هذا العد ليس زيادة في الآيات، ولكن بحسب الوقوف، فالوقف على رأس كل آية يسمى فاصلة، أي: تفصل الآية عما بعدها بالوقف، وسبب الاختلاف هو وقف النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته، فإذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم على موضع فيحسب آية، فهنا يقال: هذه فاصلة، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على آيات، وأحياناً وقف على آيات أخرى، فأخذوا منه أن الآية هذه نهايتها حيث وقف النبي صلوات الله وسلامه عليه، ووقع الخلاف في تسعة مواضع في هذه السورة وهي في نفس الآية، فاختلفوا في عد (حم) آية منفصلة وحدها، فالكوفيون يعدون (حم) رأس آية، وليست برأس آية كما يعدها الباقون، بل يجعلونها هي وما بعدها آية واحدة: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1] فبحسب عد غير الكوفيين تكون آية واحدة.
كذلك الكوفيون عدوا (حم) وتركوا {كَاظِمِينَ} [غافر:18] ولم يقفوا عليها، وغيرهم وقفوا على كلمة (كاظمين).
وقوله: {يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] وقف عليها الجمهور وتركها الدمشقي ابن عامر في عده، وعد مكانها (بَارِزُونَ).
وكلمة: ((إِسْرَائِيلَ)) و ((الْكِتَابُ)) مواضع وقف لغير المدني الأخير وغير البصري.
وكلمة: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر:58] وقف عليها الدمشقي ابن عامر والمدني الأخير.
وكلمة: ((يُسَبِّحُونَ)) يقف عليها الكوفي والمدني الأخير أيضاً دون غيرهما.
وكلمة: ((فِي الْحَمِيمِ)) يقف عليها المكي والمدني الأول.
وكلمة: ((كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ)) يقف عليها الكوفيون والدمشقي.
فهنا كأنها آيات فواصل تفصل الآية عن التي تليها بالوقف، فإذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم هنا عدت آية، وإذا وصل هذه وما بعدها عدت هذه مع هذه آية، وهي نفس السورة ونفس الكلمات.
فالوقف عند رأس كل آية تسمى فاصلة، والقراء يقولون: هذا عد فواصل الآيات، ويقولون: هذه فاصلة، وهذه مشبهة بالفاصلة، أي: تشبه الفاصلة، أي: موضع مثل غيره من الوقوف، ولكن لم يقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعدها آية، فلم يعدها القراء آية، مثل قوله سبحانه: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] يقولون: هذه مشبه بالفاصلة، أي: يشبه الفاصلة، وقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] هذا وقف وليس برأس آية.
وهذه السورة سورة مكية كما ذكرنا، وبعض أهل العلم قالوا: إلا آية أو آيتين، فـ الحسن البصري يقول: هي سورة مكية إلا ما ذكر الله عز وجل فيها من التسبيح: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] قال: هذه مدنية، قال: لأن المقصود بالتسبيح هنا الصلاة، والصلاة لم تفرض على هيئتها إلا في المدينة، وهذا القول ضعيف، والصواب: أن الصلاة فرضت على هيئتها في مكة بعد قصة الإسراء والمعراج، فقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم من السماء وفرضت عليه الخمس الصلوات وهو في مكة، فصلى الخمس الصلوات عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك هاجر إلى المدينة، والذي كان فرضه في المدينة هو الأذان؛ فإنه لم يكن هناك أذان بمكة، وإنما شرع الأذان بالمدينة بقصة مذكورة في أبواب الأذان.
فالصواب أن قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] مكية كغيرها.
وأيضاً استثنوا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:56] الآية، وقد تكرر الجدل مرتين أو خمس مرات في هذه السورة، فقال البعض: المقصود به اليهود، ومكة لم يكن فيها يهود، والصواب: أن الذين جادلهم هم المشركون، فإنهم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية أيضاً آية مكية، فالسورة فيها خصائص السور المكية كما سبق.(365/2)
أغراض سورة غافر وبيان ترتيبها
والسورة لها أغراض، وعندما تتصفح آيات كتاب الله عز وجل تجد كل سورة يدل الله عز وجل عباده فيها على منهج معين تحتويه هذه السورة في سياقها، فهنا هذه السورة من السور المكية التي فيها ترسيخ العقيدة وخاصة أمر الابتلاء، وأن الإنسان عليه أن يصبر، وفي النهاية النصر والجزاء الحسن من الله سبحانه وتعالى، فإن كان الإنسان في الدنيا قد يقضى عليه بالموت فيوم القيامة ينصره الله سبحانه ممن ظلمه، ويقتص للمظلومين من الظالمين، وينتصر الله سبحانه لعباده الذين كانوا مستضعفين في الأرض.
وهذه السورة فتحها الله عز وجل بقوله: ((حم)) وليست وحدها بل ذكرت هذه الآية في سبع سور في القرآن.
وكما ذكرنا قبل أن هذا الترتيب الذي في المصحف ليس بحسب النزول، فإن أول المصحف سورة الفاتحة، وآخر المصحف سورة الناس، وهذا ليس ترتيب نزول القرآن، وليس هو ترتيب نزول السور، ولكن كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل في العرضة الأخيرة رتب القرآن على ذلك.
وهذه السورة من السور المكية وكان نزولها بعد سورة الزمر، وبعدها السور التي تليها من الحواميم، وهي: سورة فصلت، وبعدها سورة الشورى، وبعدها سورة الزخرف، وبعدها سورة الدخان، وبعدها سورة الجاثية، وبعدها سورة الأحقاف، سبع سور وراء بعض رتبت في المصحف بحسب ترتيب النزول.
ولكن يقول العلماء: هذه السورة حسب نزول القرآن هي السورة رقم (60) في النزول من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فسورة الزمر كانت السورة التاسعة والخمسين، وهذه السورة هي الستون في ترتيب النزول، لكن في ترتيب المصحف هي رقم أربعين.(365/3)
تفسير قوله تعالى: (حم) وبيان معنى الحروف المقطعة في أوائل السور
هذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، والله سبحانه وتعالى ذكر في أولها: ((حم)) وهما حرفان: الحاء والميم، والمقصد بذلك تحدي الكفار، أي: أن هذا القرآن من جنس هذه الأحرف التي تقرءونها، فهاتوا مثله، وعندما يتحداهم الله سبحانه فيقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، فيتحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فليس المعنى أن أي كلام يقوله الإنسان يعتبر سورة، مثل ذلك المخرف المجرم الذي اسمه شروش الذي يقول: أنا سأؤلف قرآناً، وأمريكا تؤيده على هذا الأمر وتطبع له، وهذا الذي يؤلفه كلام فارغ غاية في الركة في اللغة العربية، فهو كلام ركيك فارغ، كلام كفر، يريد أن يوزن كلاماً على ما يأتي في سور القرآن، ويأخذ منها حاجات ويحط مكانها الصليب، ويحط مكانها المسيح، وعقيدة التثليث، وغير ذلك من الكذب والافتراء، ويقول: هذا الذي جئت به ألفته في خلال سبع سنوات، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ألفه في ثلاث وعشرين سنة! فليس أي كلام يقوله الإنسان يقال: هذا قرآن، فلا يأتي تلميذ أو طالب فاشل يكتب موضوعاً ويأتي الناس يقارنون هذا الكلام الفارغ بكتاب الله العظيم الكريم، ولكن الذي يتحدى أن يأتي بمثل هذا القرآن عليه أن يأتي بكلام له معنى، وبكلام يفهم منه شريعة وعقيدة، وأن يقول كلاماً موزوناً وكلاماً فيه الرصانة والبلاغة والفصاحة والإعجاز، وفيه منهج الحياة، وفيه أمور الدنيا وأمور الآخرة، فعندما يأتي إنسان بكلام فارغ وكلام لا يعرف له أول من آخر، فليس بقرآن، وذلك مثل كلام مسيلمة عندما تكلم عن دابة من الدواب فقال: (يا وبر يا وبر، إنك رأس وصدر، وسائرك حقر نقر)، وهذا كلام فارغ يصف به دابة اسمها: الوبر، ويقول: هذا قرآن، وقد رد عليه من كان في زمانه وقال: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب.
فعلى ذلك نقول: الله عز وجل يتحدى الخلق بهذا القرآن، ويتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، فتقرأ القرآن، وكلما ازددت قراءة للقرآن تجد كلاماً عظيماً، وتجد كمالاً وبلاغة وأسلوباً فائقاً رائقاً عظيماً، ولو أتيت بكلام من أي كلام يكون حتى ولو كان حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم لا تجد فيه التغني الذي تقرأ به القرآن والنغمة الموجودة في قراءتك للقرآن، فالقرآن غير كلام البشر، فهو كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وحين تقرأ القرآن تتغنى به، وتجد روعة أسلوب القرآن، من حيث ترتيب حروف القرآن، فهذا حرف يخرج من آخر الحلق، وهذا من أول الحلق، وهذا من عند اللسان، وهذا من عند الشفة، ويصير للكلمة نغمة.
ولذلك العلماء الذين يفهمون في اللغة العربية يقولون: إذا أتينا بأقصر آية في القرآن فيها حكمة، وأقصر كلمة قالتها العرب فيها حكمة، وقارنا بين هذه وبين هذه فسيكون كلام العرب لا شيء أمام القرآن، فمثلاً: من الكلمات التي قالها العرب: القتل أنفى للقتل، قالوا: وهذا من أبلغ الكلام الذي قالته العرب، أي: أن القاتل عندما يقتل يمنع القتل بعد ذلك، لكن أين تقع هذه الكلمة التي قالوها بجانب قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]؟ فمخارج حروف الآية فيها سهولة، بخلاف كلمة (أنفى للقتل) ففي مخارجها صعوبة، وحروفها بعيدة عن بعضها، وليس فيها النغمة الموجودة في القرآن، وهكذا قول الله عز وجل: ((فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) أقصر من قولهم: القتل أنفى للقتل، وحين تقرأ كتاب إعجاز القرآن للباقلاني تجد فيه العجب من هذا الجنس، وهذا فن واحد من الفنون في الكلام عن بلاغة القرآن.
فهناك فرق بين القرآن وبين أشعار العرب التي هي تعتبر أشياء عظيمة وقوية في اللغة العربية، فأين هذا مع تخريف شروش الجاهل المجرم الكافر النصراني الذي يقول: أنا آتي بمثل هذا القرآن؟! فلذلك محله مزبلة الناس يلقي فيها كلامه الذي يقوله، أما كلام رب العالمين فهو الذي يتحد الخلق أن يأتوا بسورة من مثله في مثل إتقانه وإحكامه وبلاغته وقوته، وما فيه من مذهب للحياة، وما فيه من إخبار بالغيب، وما فيه من إعجاز في كل الوجوه كما رأينا ونرى في سور هذا القرآن العظيم.
فبدأ الله عز وجل هذه السورة بقوله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2] فقوله: (حم) حرفان، ويشير بعدها إلى القرآن، وقد ذكرنا أن الغالب في الحروف التي في أوائل السور أنها إذا ذكرها الله عز وجل يعقب بعدها بذكر القرآن أو يشير إلى القرآن سواء بعدها مباشرة أو بعدها بآيات.
والله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، فذكر اسمين من أسمائه: (العزيز) أي: الغالب سبحانه، (العليم) بما يقولون وما يفعلون، وهو الذي يحاسبهم سبحانه ويفصل القضاء بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فكأنه يعرض لهم: أقلعوا عما أنتم فيه، وإلا فالله غالب على أمره، فالله يعلم ما تقولون وما تفعلون فيجازيكم عليه.
وكذلك يعقب بقوله: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ)) أي: أن الكتاب ليس هو من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من عند الله، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ألفت هذا القرآن، فليس هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام رب العالمين، والفرق واسع جداً بين القرآن العظيم وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الشريف وبين كلام البشر.
أيضاً: في هذه السورة يذكر الله سبحانه اشتغال الكفار بالجدل في دين الله سبحانه وتعالى، وقد تكررت كلمة الجدل والمجادلين في هذه السورة حوالي خمس مرات.
وكذلك ذكر الله الأمم السابقة وما فعلت مع أنبيائها وخاصة فرعون مع موسى، وبني إسرائيل مع موسى، ذكر الله سبحانه ذلك حتى يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وهو يؤذى والمؤمنون يؤذون أننا سننصركم كما نصرنا هؤلاء، ووعد الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
وفيها أيضاً التنبيه على تفرد الله عز وجل بالعبادة، وإبطال عبادة ما يعبده المشركون من دون الله، والتذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على العباد، والإخبار بالبعث يوم القيامة، والإنذار بما يكون من أهوال يوم القيامة، وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر؛ فإن النصر سيكون له.
كذلك هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر، فانظر إلى الخاتمة في سورة الزمر وإلى البداية في هذه السورة؛ فقد ختم الله سورة الزمر بذكر الجنة والنار، وبذكر أهل الجنة وأهل النار، وذكر رحمة رب العالمين وذكر عذاب رب العالمين سبحانه، وبدأ هذه السورة بما يشير إلى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو، فختم بما يدل على قوته وقدرته وعذابه لمن خالفه وعانده، ورحمته سبحانه للمؤمنين، وبدأ هذه السورة بما يدل على ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(365/4)
تفسير سورة غافر [1 - 4]
في هذه الآيات يذكر الله تعالى بعض أسمائه الحسنى كالتي تدل على المغفرة والتوبة على التائبين، وفي المقابل يذكر بعض أسمائه التي تدل على الترهيب وشدة العقاب، وذلك ليكون المؤمن في حياته بين الخوف والرجاء، وفيها أيضاً ما يجب أن يكون عليه المؤمن من التسليم لآيات الله وعدم الخوض والجدل فيها بغير حق.(366/1)
تفسير قوله تعالى: (حم) والكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:1 - 4].
سورة غافر هي أول السور التي تبدأ بـ (حم).
وهي من السور المكية التي يرسخ الله عز وجل فيها أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، بذكر الإيمان بالله سبحانه، وتوحيد الله سبحانه، وذكر اليوم الآخر، والجنة والنار، وذكر الابتلاء للمؤمنين وكيف صبروا حتى نصرهم الله سبحانه.
بدئت هذه السورة بهذين الحرفين: (حم)، وكأنه سبحانه يذكر أن حروف اللغة العربية منها هذان الحرفان: حرف الحاء وحرف الميم، والسور التي يبدأ فيها بهذين الحرفين نجد أن أكثر ما يتكرر فيها هما هذان الحرفان، ولا نقول: إن ذلك هو الأكثر، ولكن هو من أكثر ما يتكرر فيها، فإذا بدأ الله عز وجل سورة بنون فإنك تجد حرف النون يتكرر فيها كثيراً، وهو غالب على غيره من الحروف، وقد يكون حرف الألف أكثر منه في السور، ولكن الغالب أن تكون هذه الحروف التي في فواتح السور تتكرر فيها أكثر من غيرها من الحروف.
وأشار بعد قوله: (حم) إلى هذا الكتاب، وكأنه يشير إلى التحدي، فهذا كتاب نزل من السماء فهاتوا كتاباً مثله، وهاتوا شريعة مثل هذه الشريعة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه العظيم، وجيئوا بكلام رصين متين قوي حكيم مثل هذا القرآن العظيم الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه.
(حم) وقد اختلف العلماء في المقصود بهما، والراجح أن الحروف المقطعة في فواتح السور من أسرار القرآن، ولذلك جمع بعض العلماء هذه الحروف التي في فواتح السور ليكونوا منها جملة، فأبعدوا منها الحروف المكررة وأبقوا الحروف التي لم تتكرر فوجدوا هذه الجملة: (نص حكيم قاطع له سر)، وهذه الجملة تؤيد قول من قال: إن هذا من أسرار القرآن، فعلمها عند الله سبحانه وتعالى، والعلماء يذكرون بعض الحكم كقولهم: إن هذه الحروف أكثر ما يتكرر في هذه السورة، فلعل هذا من الحكم، ولا يقال: هي الحكمة التي من أجلها جعل الله عز وجل هذه الحروف في أول السورة.
وقال بعضهم: إنها للتحدي، وهذا أيضاً استنباط، فقالوا: إنه عندما يذكر الحروف المقطعة فإنه يشير بعدها مباشرة أو بعدها بآيات إلى هذا القرآن، نحو: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، وهنا يقول: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2].
إذاً: من ضمن الحكم التي فيها أنها لتحدي الكفار، فهي من جنس الحروف التي تتكلمون بها.
وأيضاً يقال: إن هذه الأحرف تسمى السور بها، فيقال: سورة (حم) فصلت، التي ذكرت فيها السجدة، ويقال: هذه حم غافر، التي ذكر فيها اسم الله عز وجل الغافر، وهذه سورة (الم) السجدة، أي: التي بدأت بـ (الم) وفيها السجدة، وكان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم في فجر كل جمعة، وهكذا.
وقيل: بل هي إشارة إلى أسماء الله سبحانه وتعالى، فالألف إشارة إلى الله، واللام إلى اللطيف، والحاء إلى الحميد والحكيم والحليم، وقد جاء عن العرب إشارات إلى مثل ذلك، كما قال بعضهم: قلت لها قفي فقالت: قاف.
أي: وقفت، فهنا أشارت بحرف إلى ما تقصده، فلعل مثل هذا يحتمل، ولكن لا نقول: إن هذا هو المقصود.
بل نقول: إن هذه الأحرف التي اختارها الله عز وجل في أول بعض السور من أسرار القرآن العظيم، والمراد بيان أن هذا القرآن من جنس هذه الأحرف التي تتكلمون بها.
وأيضاً فالعرب ما كان من عادتهم إن يبدءوا الكلام بحروف القطعة، فعندما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ عليهم القرآن ويقول: ((الم)، فإن هذا يجعلهم ينتبهون، ويشد أذهانهم ليسمعوا هذا الكلام الذي لم يسمعوه من قبل، فيقوم ويقرأ عليهم بعد ذلك ما في هذا القرآن: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3].
إذاً: فالحروف التي في أوائل السور هي من أسرار هذا القرآن العظيم، لكن من الحكم التي في ذكرها بعض العلماء ما ذكرناه.
قال سبحانه: ((حم))، وهذه فيها قراءتان: بفتح الحاء، وهي قراءة الجمهور، ويقرؤها بالإمالة ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (حم)، فالحاء تمد مداً طبيعياً، والميم تمد مداً طويلاً.(366/2)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم)
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] أي: هذا الكتاب العظيم نزل من الله ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، ومن أجلنا نزل هذا الكتاب من عند الله سبحانه الذي سمى نفسه بهذه الأسماء العظيمة، فالله هو العزيز، وهو العليم، وهو غافر الذنب، وهو قابل التوب، وهو شديد العقاب، وهو ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير، فهذا سبعة أسماء لله عز وجل تشتمل على صفاته سبحانه وتعالى، وقد جمعت في هاتين الآيتين في سياق جميل لطيف، وسياق متناسق، وبترتيب عظيم تقرؤه وتجد فيه نغمة في قراءتك له، وتجد فيها سهولة في النطق بها، ولو قدمت بعضها على بعضها فلن تجد فيها السهولة التي تجدها في ترتيب الله عز وجل لهذه الأسماء الحسنى.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} [غافر:2] أي: الغالب، وفيه إشارة إلى أنك لا تغالب ربك سبحانه؛ فإنه يغلبك سبحانه وتعالى، فمهما تحدى الإنسان ربه فلا بد وأن يهلكه ويقهره الله سبحانه، فهو العزيز الغالب الذي لا يقهر سبحانه وتعالى، والذي لا يمانع، والذين إذا قال للشيء: كن فلا بد أن يكون ما أراده سبحانه.
{مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، وهذه من أسمائه الحسنى، فالله لفظ الجلالة، ومعناه: المتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، والمستحق للألوهية وحده لا شريك له، و (الْعَزِيزِ) هو الغالب سبحانه وتعالى، فهو غافر الذنب، وهو قابل التوب، وهو شديد العقاب، وهو ذو الطول، (غَافِرِ الذَّنْبِ)، فهو يتفضل على عباده بأن يغفر لهم ذنوبهم، (قَابِلِ التَّوْبِ)، وعد من الله عز وجل أنه يقبل توبة من يتوب إليه سبحانه، (شَدِيدِ الْعِقَابِ)، عدلاً منه سبحانه، فمن عاقبه الله فلم يعاقبه ظلماً، وإنما بعدله سبحانه وتعالى، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] أي: هو وحده الذي يستحق العبادة وإليه المرجع سبحانه.
وأسماؤه عظيمة: الله، العزيز، العليم سبحانه، وهذه من أسماء الله الحسنى، والإنسان المؤمن عندما يذكر اسماً من أسماء الله فليفهم هذا الاسم، وليستعمل هذا الاسم في الدعاء في حاجته إلى ربه سبحانه وتعالى.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، والله عز وجل له أسماء كثيرة جداً سبحانه منها ما نعلمه، ومنها ما لا نعلمه، ومن هذه الأسماء تسعة وتسعون اسماً (من أحصاها)، أي: من حفظها وفهم معانيها واستخدمها ودعا الله عز وجل بها، وآمن بها، فإنه يدخل الجنة.
فالعزيز هو الغالب، فتعلم أنه غالب فلا تغالب ربك سبحانه، فترضى بقضائه وقدره، وتسلم له سبحانه، والعليم هو علام الغيوب، فهو يعلم كل شيء، ما كان وما سيكون، بل ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لم يوجد يعلم الله عز وجل لو وجد كيف سيكون، فيعلم كل شيء، فهو علام الغيوب، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما يخفيه الإنسان في قلبه، ويعلم نية الإنسان، ويعلم ما لم ينوِ الإنسان بعد، وماذا سيكون غداً.(366/3)
تفسير قوله تعالى: (غافر الذنب وقابل التوب)
قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3].
(غَافِرِ الذَّنْبِ)، من أسمائه: الغفور والغفار، وهو الغافر للذنب، والغفر: هو الستر والتغطية، فالله عز وجل يغفر الذنب، أي: يستره، فهو يستر على عباده، ويكفر السيئة ويمحوها ويزيلها، فالله يغفر لعباده ويستر عليهم ذنوبهم إذا تابوا إليه سبحانه.
والذنب هنا جنس، وإذا كان جنساً فيعم، وليس المقصود به ذنباً واحداً، بل المقصود به جنس الذنوب كبائر وصغائر، فكل ما يقع فيه العبد إذا تاب إلى الله منه فالله يتوب عليه، حتى لو كان كفراً وشركاً، فإذا لم يكن شركاً ومات العبد عليه فهو في مشيئة الله سبحانه: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.
قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] (قابل التوب)، أي: يقبل توبة عباده، فمن تاب إلى الله من أي ذنب صغيراً كان أو كبيراً تاب الله عز وجل عليه.
{َقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3]، الله عز وجل يجعل عباده بين الخوف والرجاء، فإذا ذكر ناره ذكر جنته، وإذا ذكر عذابه وعقابه ذكر مغفرته ورحمته سبحانه؛ حتى لا ييئس العبد من رحمة الله سبحانه، فيضيق بسبب ذنوبه وعدم الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فيذكره بالجنة ويخوفه من النار، فيكون العبد بين الخوف والرجاء.
(ذِي الطَّوْلِ)، أصلها من الطول، فهو الذي يعطي لعباده من فضله ورحمته، فأصله الشيء الطويل، فالله سبحانه وتعالى أعطى العباد نعماً جزيلة ومنناً عظيمة.
أعطاهم رحمة عظيمة، وأعطاهم نعماً عظيمة، وأعطاهم سعة، وعنده الكثير سبحانه وتعالى، فهو صاحب النعم، وصاحب الفضل، وصاحب الغنى والسعة، فذكر أنه ذو الطول سبحانه وتعالى.
(لا إله إلا هو) أي: إذا علمت أنه العزيز، وأنه العليم، وأنه الغافر للذنب، وأنه القابل للتوب، وأنه شديد العقاب، وأنه ذو الطول, علمت أنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، (إليه المصير) أي: إليه المرجع، فترجعون إلى الله في يوم القيامة ليجازيكم.
وقوله تعالى: (حم)، جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه جعلها كلمة سر، فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أرى أعداءكم إلا يبيتونكم الليلة، فإذا بيتوكم فقولوا: حم لا ينصرون) ذكرها أبو داود بلفظ: (إذا بيتم فقولوا: حم لا تنصرون)، فالنبي صلى الله عليه وسلم توقع أن الأعداء سيأتون في الليل، فإذا هجم العدو عليهم بالليل وليس هناك نور ولا إضاءة فكيف ستميز بين العدو وبين المسلم، فلابد من كلمة سر تكون بين المسلمين يقولونها كي يعرف المسلم من أمامه، والحاجة الثانية لعل وراءها سراً عند الله سبحانه وفضلاً، فهذه آية في كتاب الله عز وجل: (حم)، فكأن هذا خبر عن الكفار أنهم إذا قلتم: (حم) فإنهم لا ينصرون، فكان المسلمون يقولون ذلك، وصار شعاراً لهم، وكلمة السر بينهم، فإذا رفع أحدهم سيفه فالذي أمامه يقول: (حم لا ينصرون)، فيعرف أنه مسلم، وهذا حديث صحيح.(366/4)
تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)
قال الله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدل فقال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً)، فالمؤمن لا يجادل إلا إذا احتاج ذلك لنصرة دين الله سبحانه، والعلماء يذكرون أن الجدل لا يكون إلا لإيضاح ما التبس على الناس، فإذا لبس إنسان على الناس وخلط في دين الله سبحانه وتعالى وأدخل في قلوبهم الشك، فهنا ينبري له بعض المؤمنين من أهل العلم ليجادلوه ويردوا عليه فيما قاله من تحريف ومن كلام كذب، فقالوا: الجدل لإيضاح ما يلتبس على الناس، أو لحل مشكل مما يشكل على الناس، أو لردع إنسان يلبس على الناس في دين الله سبحانه، أو للرد على أهل البدع، ففي هذه الحالة يكون جائزاً، ودليله ما كان من إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد ذكره الله مادحاً له: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، فهنا مدح الله عز وجل إبراهيم أن جادل النمرود وكذبه فيما يقوله، فقد أوهم الناس أنه يحيي ويميت، وادعى لنفسه ما ليس أهلاً له.
فالغرض أن الجدل لنصر دين الله عز وجل جائز، لكن الأصل أن الإنسان المؤمن لا يجادل، ولا يتكلم إلا بعلم، ولا يكثر من الكلام؛ فالله قد كره لنا قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(366/5)
تفسير سورة غافر [4 - 7]
إن الجدال في آيات الله لا لشيء إلا لردها كفر، وهو دأب الكفار والجاحدين، يجادلون لدفع الحق بباطلهم، وأنى لهم ذلك! فالحق منتصر، والباطل زائل، وأهله وإن تنعموا في الدنيا فإنما هو استدراج، ثم يأتي العذاب الشديد، أما المؤمنون الصادقون فإن عاقبتهم الحسنى، وإكرام الله لهم لا حدود له.(367/1)
تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:4 - 7].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أمر الكفار وجدلهم بالباطل ليدحضوا به الحق -ليزيلوا به الحق- الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فالكافرون دائماً أبداً يجادلون بالباطل، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
وقد ذكر الجدل في هذه السورة خمس مرات، وغاية الكفار من الجدل بالباطل رغبتهم في دفع الحق، فهم يريدون أن يزيلوا ما نزل من عند الله، وأن يمحوا أثره إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، قال سبحانه: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فالذي يجادل بالباطل ليلبس على الناس دينهم، ويصرفهم عن آيات كتاب رب العالمين بالتشكيك كافر في كل عصر وفي كل مكان، ومن وسائلهم المشتهرة في تشكيك المؤمنين في آيات الله عز وجل أن يجادلوا فيها حتى يدخلوا الشكوك في القلوب، ويزرعوا الشبه في العقول.
وقوله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، أسلوب قصر أفادته (ما) النافية و (إلا) الاستثنائية، والمعنى: ما يفعل هذا الجدل إلا الكفار، فدأبهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق، ولكن الله أخذ هؤلاء وأتلفهم وأهلكهم جزاءً بما قدموا، وقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: فلا يغررك أن تركناهم، إنما نملي لهم ليستوجبوا المزيد من الرجس والعذاب، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
وقوله: {فلا يَغْرُرْكَ} [غافر:4] أي: لا تغتر بما أعطيناهم، ولا يخدعك ذلك عن أمر الله وعن دين الله، والإنسان حين يرى الكافر يكفر بالله، ويجادل بالباطل، ومع ذلك يعطيه الله المال والبنين والقوة والرئاسة والمنصب في الدنيا، وإن كان مؤمناً قد يحدث في قلبه شيء مما يرى، ولذا يوجه الله نبيه فيقول: لا تغتر ولا تنخدع بما أعطيناهم، ولا يصرفنك ذلك عن دعوتك فإنك على الحق، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم كل داعية في حتمية أن يبتليه الله سبحانه بمثل هؤلاء، فيرى أصحاب القوة والمنصب يتكلمون والناس يسمعون لما يقولون، ويراهم يهرفون بما لا يعرفون، فيتكلمون في دين الله، ويناقشون أهل الدين، وحين يتكلمون يتكلمون بصوت عال، ويراهم قد تملكوا صحفاً وقنوات فضائية تنشر تراهاتهم، وحين يأتي عالم الدين ليتكلم يسكته أذيالهم والمنبهرون بما هم فيه، وهم بذلك يظنون أنهم علوا على المؤمنين، ولا يدركون أنهم مهملين إلى حين، فإذا جاء أجلهم أخذهم الله وقصمهم قصماً شديداً أليماً جزاء بما كانوا يعملون.
فقوله تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ} [غافر:4] أي: لا تغتر بتقلبهم في مناصبهم، وأموالهم، وذهابهم ومجيئهم وأسفارهم وهم يتكسبون في هذه الدنيا فإنما هو متاع قليل زائل، وما الذي نصنعه معك بإعطائهم وحرمانك إلا ابتلاء وفتنة ومحنة، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، بل لا بد وأن يفتن المؤمن ويبتلى حتى إذا قال له ربه: لا تحزن، يصدق ما يقوله الله عز وجل ولا يغتر بما هم فيه من الباطل، ويوقن أن الله ناصره يوماً من الأيام.
قوله تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: تصرفهم في البلاد في ذهابهم ومجيئهم، في حكمهم ورياستهم وسلطانهم، وكل ذلك لا تغتر به، فلا تغتر إن سلمهم الله سبحانه فجعل فيهم صحة وعافية ومنحهم الأموال والبنين، فإن هذا متاع الحياة الدنيا إلى حين، ثم يسلب منهم حين يأتي أمر الله سبحانه.(367/2)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم)
قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يصلح له الخطاب أن ارجع بذاكرتك إلى الماضي وتذكر فقد أخبرناك في كتابنا عن كذب الكاذبين، وتكذيب المكذبين، الذين كذبوا على الله وافتروا عليه، وعبدوا غيره سبحانه وتعالى، وإن نوقشوا كانت حجتهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [غافر:5]، فدعا بعضهم بعضاً إلى الكفر بالله سبحانه، وتكذيب نبي الله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقالوا لنوح: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، أي: إما أن تسكت وإما أن نرجمنك، وقد دعاهم نوح عليه السلام إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت دعوة طويلة في عمر مديد، فكان يدعو الأجداد، والآباء، والأبناء، والأحفاد، يذهبون الأول فالأول وهو باق يدعو، حتى كان يوصي بعضهم بعضاً بالكفر بالله سبحانه وتعالى، فيذهب الأولون وقد أوصوا من بعدهم: لا تتبعوا نوحاً -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- وقد أخبر الله عن عملهم ذاك فقال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، وكان من شأنهم أنهم صنعوا أصناماً ثم عبدوها وقالوا: هؤلاء كان يعبدهم آباؤنا وأجدادنا، فإياكم أن تتركوهم لدعوة هذا -يريدون نوحاً عليه السلام- لا تتركوا من كان يعبد آباءكم: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24]، وكان نوح عليه السلام قد دعاهم إلى عبادة الله، وبين لهم أتم البيان؛ بل لم يترك وسيلة ممكنة له تعينه في دعوتهم إلا واستخدمها، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9]، فقد دعاهم بالسر ودعاهم بالعلن، دعاهم بالجهر ودعاهم في الخفاء، دعاهم بالتبشير وبالإنذار، بالتخويف وبالتطميع، ومع ذلك لم يسلم الكثير منهم، فكان يدعوهم لجنة عرضها السماوات والأرض، فيزهدوا فيها؛ لأنهم لا يريدون الجنة، ويخوفهم من نار تأكل أجسادهم خالدين فلا يحذرون منها، فاستحقوا أن يستجيب الله لنوح بإهلاكهم، وقد أشار الله عز وجل في الآية إلى ذلك، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5].
وقوله تعالى: {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5] الأحزاب هم: الذين تحزبوا، والتحزب هو التجمع، وتحزبوا: تجمعوا على أنبيائهم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وقوله: (من بعدهم) أي: من بعد قوم نوح جاءت عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط، وغيرهم كثيرون، قال تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38].
فالله سبحانه وتعالى خلق القرون، وأرسل إليهم رسلاً وأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فدعوهم إلى الله؛ فأبوا إلا الكفر.
وقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} [غافر:5] أي: قبل هؤلاء المشركين من قريش كذبت قوم نوح، قوله: {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5] أي: كل من تحزب وتجمع على معصية الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولم يتوقف تحزبهم على عدم الإيمان فحسب، بل عزموا أن يؤذوا أنبياء الله، قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]، كأن هذه سنة الله في خلقه، فكل أمة يرسل الله عز وجل إليها نبياً أو رسولاً يجتمعون على تكذيبه، وعدم الإيمان به، إلى إن يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5] أي: ليأسروه، أو يعذبوه، أو يهلكوه، ولما كان الحق أبلج غالباً لا محالة فقد أخذوا يدفعون حججه بالباطل وهذا دأبهم، قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} [غافر:5].
وفي الآية إشارة للنبي صلى الله عليه وسلم: أن يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لست أول من جادلك قومك بالباطل، بل كل الأمم السابقة جادلوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، وتماروا معهم مجادلين بالباطل دافعين للحق، قال تعالى: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر:5]، قوله: (ليدحضوا) أي: ليزيلوا، والدحضة: الأرض المزلة التي تزحلق الذي يقف عليها، والمعنى: يردون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بالباطل الذي يقولونه ويدعونه.
ثم قال سبحانه: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] أي: أخذ كل هؤلاء بكلمة واحدة من الله: كن فيكون، وعبر عنها بقوله: (فأخذتهم) فأجمل، وفصل في موضع آخر، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، فذكر إهلاكهم في الآية الأولى، فهم لا يستحقون سوى ذلك، فانظر كيف كان عقاب الله لهم، قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]، أي: انظر ما فعلناه بهؤلاء، فقد أخذنا الجميع، فلا ترى منهم من أحد، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لأحدهم صوتاً، أخذت الجميع ولم أبق أحداً منهم، كم صرخوا ونهقوا ورفعوا أصواتهم مجادلين بالباطل! كم أنكروا على أنبيائهم، واعترضوا عليهم، وأسكتوهم حين دعوهم إلى الله! كم اشمأزوا وظهر الاشمئزاز على وجوههم حين ذكر الله وحده سبحانه وتعالى! وكم استبشروا حين ذكر غير الله سبحانه وتعالى! قال سبحانه: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]، وإذا أخذهم الله فلن يتركهم ولن يفلتهم، ولن يعجزوا الله سبحانه.
وقوله: (فكيف كان عقاب) أي: كيف كانت عقوبتي لهؤلاء؟ وفيها قراءتان: الوقف عليها بالسكون، وهي قراءة الجمهور، والوقف عليها بالياء والوصل وهي قراءة يعقوب، فيقرؤها: (فكيف كان عقابي)، والمعنى: كيف كان عقابي لهؤلاء.(367/3)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، قوله: (وكذلك) يفيد تشبيهاً لشيء مذكور قبل ذلك، والمعنى: كهذا الذي ذكرناه أهلكنا هؤلاء السابقين، وقوله: (حقت كلمة ربك) أي: وجبت كلمتنا على كل إنسان كافر مكذب لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، مكذب بوعد الله سبحانه أننا نهلكه، فمعنى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ} [غافر:6] أي: وجبت، {كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6]، ومثلها كلمة (العذاب) أي: أنه يعذبهم بالنار سبحانه، وكلمة وكلمات، أي: ما جاء في وعد الله عز وجل في كتابه سبحانه، قال تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فقوله: (لأملأن) وعد من الله سبحانه وتعالى أن يفعل ذلك، فحقت كلمة ربك على هؤلاء أن يجمعهم إلى النار.
وفي قوله: (حقت كلمة) قراءات: فتقرأ: (كلمات) بالجمع، وهي قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر، وباقي القراء بالإفراد (كلمة) فيقرءونها: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار).(367/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم)
قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} [غافر:7]، العرش مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، وهو غير كرسي الله سبحانه، وكلاهما مخلوقان خلقهما الله سبحانه وتعالى، والله مستو على عرشه، خلق الأرض وخلق السماوات فجعلها سبع سماوات، وفوق السماوات كرسي الله سبحانه وتعالى، فلو جمعت السماوات والأرضين وما بينهما، ثم قرنت بكرسي الله سبحانه وتعالى لكانت كالحلقة في الفلاة، فلا وجه للمقارنة بين السماوات السبع العظيمة، وما فيها من أجرام، وما فيها من أفلاك، وما فيها من نجوم، وما فيها من مخلوقات لله عز وجل، وبين كرسي الله سبحانه؛ إذ لو قرن كل هذا بكرسي الله سبحانه لكان كما توضع حلقة في صحراء فتأمل نسبتها منها! والعرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك، يقال في ملوك الدنيا: عرش الملك، أي: السرير الذي يستوي عليه، ولله المثل الأعلى، فلا نشبه ربنا سبحانه وتعالى، ولا ننفي ما قاله سبحانه عن نفسه حيث قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وقد ذكر صفة الاستواء في سبعة مواضع من كتابه سبحانه وتعالى، فالله خلق العرش وهو لا يحتاج إليه، ولكن خلق ذلك ليري الخلق عظمته، فهو العظيم سبحانه وتعالى، فإذا عرفت أن العرش عظيم جداً فكيف بالذي استوى عليه وهو الله سبحانه وتعالى! ويحمل عرش الرحمن سبحانه وتعالى الملائكة، وهو مستغن عن العرش وما دونه، وهو فوق كل شيء أحاط بكل شيء سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقد حدثنا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذن له أن يحدث عن هؤلاء فقال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش) أي: أذن له أن يصف هذا الملك بما يقربه للأذهان حتى تدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وإذا كان هذا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه فكيف برأسه! وكيف ببدنه! وكيف بحجمه كله؟! لا شك أن هذا شيء عظيم جداً.
وحملة العرش هم أقرب الملائكة لله سبحانه وتعالى، وأشرف الملائكة هم الذين قربهم الله عز وجل من عرشه فهم يحملون العرش.
وقوله: (ومن حوله) أي: ومن حول حملة العرش، فجعل الله عز وجل وظيفة لأشرف الملائكة وهي أنهم يحملون العرش وكذلك: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، فجعل أشرف الملائكة من رحمته العظيمة سبحانه وتعالى يستغفرون للعبد المؤمن، وتقول: يا رب! اغفر لفلان، يا رب! اغفر لفلان، وكون الإنسان بشراً فمن طبعه أنه يقوم وينام، ويصوم ويفطر، ويذكر ويغفل، أما الملائكة فهم في عبادة دائمة، لا يفترون ولا يسأمون من تسبيح الله سبحانه، وذكره ليل نهار.
يقول إبراهيم النخعي: كانوا يقولون: لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة، أي: أن جميع أهل القبلة تستغفر لهم الملائكة.
ويقول مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ينصحون فيستغفرون للمؤمنين، ويحبون المؤمنين، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، يغويهم ويمنيهم ويضلهم.
ويقول يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية: فما في العالم جُنة أرجى منها، آية يستجن بها الإنسان، ويتقي بها غضب الله سبحانه وتعالى، فحق على المسلم أن يحب هذه الآية لما فيها من رحمة رب العالمين، إذ فيها أن الملائكة تستغفر للخلق، فطالما كان العبد على عبادة الله محباً لله وملائكته ورسله متبعاً لدين الله ماضياً على منهاجه الإسلامي القويم، فالملائكة تستغفر له.
ثم يقول: إن ملكاً واحد لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين؟ وليس كل إنسان يقول: أنا مسلم، وهو تارك لدين الله وراءه، مضيع لصلاته متكاسل عن أمر الله تستغفر له الملائكة، فهم إنما يستغفرون للذين آمنوا، الذين يصدقون ويعتقدون ويعملون بمقتضى ذلك.
يقول خلف بن هشام البزار أحد القراء العشرة: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت هذه الآية: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، بكى، ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله سبحانه وتعالى! ما أكرم المؤمن على الله نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له.
فالمؤمن كريم على الله سبحانه وتعالى، فقد جعل سبحانه الملائكة تستغفر له، وتجلس معه في حلق الذكر فتحف الذاكرين بأجنحتها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وقال أيضاً: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبحثون عن مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا: هلموا إلى بغيتكم، فيحفون الذاكرين بأجنحتهم).
والملائكة لا يسأمون من التسبيح لله تعالى، فهم ينزهونه ويقدسونه سبحانه، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا، الذين تشبهوا بالملائكة في الإيمان، إذ الملائكة يؤمنون بالله سبحانه، ولذلك بدأ بالتسبيح قبل الإيمان؛ حتى يكون المؤمنون وراء الملائكة، فجمع الاثنين: التسبيح والإيمان بالله سبحانه، ولا غرو أن يقال: أخوة إيمانية.
قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] أي: أنهم خلقوا لذلك، وقوله: (بحمد ربهم) أي: حامدين الله سبحانه في تسبيحهم إياه، ثم قال سبحانه: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] أي: يؤمنون بالله سبحانه، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7].
أي: يا ربنا! يا من وسعت رحمتك كل شيء! إلا تسع هؤلاء المؤمنين، وفي الآية يعلمنا الله سبحانه أدب الدعاء، فيحبذ أن يقول العبد: يا رب! اغفر لي، يا من غفرت للمؤمنين! إلا تغفر لي، يا رب! اغفر لي مع المؤمنين، أنا من المؤمنين، فلا تجعلني أقل خلقك وأحقرهم عندك، فالملائكة يرجون ربهم سبحانه متوسلين بذلك: يا ربنا يا من: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} [غافر:7] ومعنى ذلك أي: وسعت كل شيء برحمتك وأحطت كل شيء بعلمك.
ثم يقول سبحانه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7] أي: فاغفر للمؤمنين الذين تابوا إليك، ولذلك إذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، والملائكة تستغفر لهؤلاء التائبين، كما أثبت لنا ربنا ذلك فقال سبحانه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].(367/5)
تفسير سورة غافر [7 - 9]
لله سبحانه وتعالى ملائكة يسبحون بحمده، وهؤلاء الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه، ومنهم حملة العرش، ووظيفتهم أنهم يحملون عرش الرحمن ويسحبون بحمده، ويستغفرون للمؤمنين الذين اتبعوا ولم يبتدعوا واستنوا ولم يخترعوا.(368/1)
حملة العرش ودعاؤهم للمؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة غافر عن فضله وكرمه سبحانه بأن جعل الملائكة الذين هم أشرف الخلق عند الله عز وجل -وهم حملة العرش- يسبحون بحمد ربهم سبحانه، (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).
فالمؤمن يعمل العمل الصالح ويرجو فضل الله سبحانه، وقد يقع في المعاصي ثم يتوب ويرجع إلى الله عز وجل، ويستغفر ربه، والله يغفر ويتوب عليه سبحانه، والملائكة تستغفر له أيضاً، وأشرف وأعظم ملائكة الله عز وجل هم حملة العرش الذين يستغفرون للمؤمنين.
روى أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه، هذه المسافة الصغيرة التي لا تتجاوز عدد قليل من السنتيمترات في الإنسان، وفي ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة عرش الرحمن سبحانه تصل إلى مسافة سبعمائة عام، فكيف بباقي جسد هذا الملك؟! فحملة عرش الله يسبحون بحمد ربهم، ويقدسونه، وينزهونه عن كل نقص سبحانه وتعالى، فيسبحون الله ويحمدونه ويؤمنون به، وأيضاً من وظيفتهم: أن يستغفروا للمؤمنين.(368/2)
حملة العرش يسبحون بحمد ربهم
قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، فحملة العرش عددهم ثمانية كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه بذلك، وجاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث ذكر فيه حملة العرش أنهم من أول من يسمع أوامر الله سبحانه وتعالى، فروى مسلم من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما نحن جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار)، وهم جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم رأوا نجماً يرمى به من السماء، فاستنار هذا النجم ورآه الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -قالوا ذلك متأدبين مع النبي صلى الله عليه وسلم- أما نحن فكنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم).
فكانوا في الجاهلية إذا رأوا الشهاب يقذف به في السماء يقولون: سيولد رجل عظيم أو سيموت هذه الليلة رجل عظيم، وهذه من خرافات أهل الجاهلية، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه قال لهم: (فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله إذا قضى أمراً سبح حملة العرش)، فأول من يسمع أوامر الله سبحانه وتعالى حملة عرشه، وهؤلاء الملائكة المقربون من رب العالمين سبحانه، فيقدر الأمر ويأمر به، فأول من يسمع حملة العرش، فإذا سمعوا ذلك سبحوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم)، وكلما كانوا أقرب من حملة العرش كانوا أقرب إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، فتسبح حملة العرش، ويسبح الملائكة الذين يلونهم، قال: (حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ قال: فيخبرونهم ماذا قال، قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به)، أي: يظل أهل السماء يتناقلون هذا الخبر، فالملائكة الأقربون يخبرون من يليهم حتى يصل الخبر إلى ملائكة السماء الدنيا، فكانت الشياطين والجن يسترقون السمع، ويتسمعون إلى خبر السماء، فيأخذونه لينزلوا به إلى الأرض، وهذا امتحان من الله لأهل الأرض، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به)، أي: يقذفون الخبر إلى أوليائهم من الجن، ثم إلى أوليائهم من الإنس، والله عز وجل يرمي هؤلاء بالشهاب الثاقب ليحرقهم به، قال: (فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون)، أي: ينزل خبر السماء فتزيد فيه الشياطين، ويقولونه لأوليائهم من أهل الأرض، ويخبرون به الناس، فالكلمة من الحق تحدث ابتلاء للناس.
وقد نهينا أن نصدق الكهنة والعرافين، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاًَ فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، فلو أن كلام العرافين والكهنة كله كذب لما أتاهم أحد، ولكن الله يبتلي الخلق بأن يقول هؤلاء كلمة فيها من الصدق، ليمتحن أهل الأرض هل سيصدقونهم أو سيطيعون أمر الله في تكذيب هؤلاء؟ فالله أمرنا بتكذيبهم، وقد نهينا أن نأتي إليهم أو نستمع إلى ما يقولون، فهم يزيدون ويكذبون على الله سبحانه وتعالى.(368/3)
حملة العرش يمجدون ربهم سبحانه
حملة العرش هم أقرب الملائكة لرب العالمين سبحانه وتعالى، وهم الملائكة المقربون الذين جعلهم الله عز وجل حملة عرش الرحمن، يؤمنون بالله عز وجل ويسبحون بحمده ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، قال الله عز وجل: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) قائلين: ((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا))، وهنا يعلم الله عز وجل المؤمن كيف يدعو ربه سبحانه، وكيف يسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبرحمته التي وسعت كل شيء، كما تدعو الملائكة للإنسان فيقولون: ((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)) فـ (ربنا) فيه صفة الربوبية لله سبحانه وتعالى، ومقتضاها قدرة الله على كل شيء، وأفعال يفعلها الله سبحانه لا يقدر أحد أن يفعل مثلها، فالله الفعال لما يريد، فهو الخالق، البارئ، المصور، وهذا من ربوبيته سبحانه، وهو الذي يشرع لعباده ما يشاء وما يريد، وهو الله الرب القادر الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، فيتوسلون إليه بصفة الربوبية، ويقولون: يا ربنا! يا من أنت قادر على كل شيء، ((وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا))، فمن صفات ربوبيته سبحانه وتعالى أنه يرحم كل شيء بمشيئته، وتسع رحمته كل شيء سبحانه، وقد كتب هذه الرحمة للمؤمنين.
ومن صفاته سبحانه أنه ذو العلم العظيم علام الغيوب، وهو عالم الغيب والشهادة، وقوله: ((وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ)) أي: أحطت بكل شيء علماً، ووسعت كل شيء رحمة، ومن أدب الدعاء حين تدعو ربك سبحانه أن تتشبه بملائكة الله عز وجل، فتبدأ بالثناء عليه سبحانه، ولا تعجل في الدعاء، وليس مجرد أن ترفع يديك وتقول: يا رب أعطني كذا، ولكن ابدأ بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم سل الله سبحانه وتعالى، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعا ربه فبدأ بالدعاء والمسألة فقال له: (عجلت)، أي: تعجلت، فليس هذا أدب الدعاء، إنما الدعاء أن تبدأ فتثني على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله وتحمده، وتمجده وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل الله سبحانه بعد ذلك ما تريد.(368/4)
حملة العرش يستغفرون للمؤمنين
يقول الله عن الملائكة أنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7]، فيدعون للمؤمنين التائبين إلى ربهم سبحانه وتعالى، والمتبعين سبيل رب العالمين، لا للمبتدعين، فقالوا: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]، ولم يبتدعوا، ولم يتنكبوا طريق الله سبحانه، ولم يسيروا مع الشيطان، ولم يخترعوا أشياء غير دين الله فيمشون فيها ويوهمون الخلق أنها من دين الله، وإنما الذين يتبعون سبيل الله، فسبيله واحد وهو الطريق خلف النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، فدعوا للمؤمنين أن يقيهم الله عذاب الجحيم، و (غفر) بمعنى: ستر، أي: ستر سيئاتهم، وستر هذه الذنوب ومحاها عنهم وبدلها من الحسنات ما يشاء.
وقوله: ((وَقِهِمْ)) هذه قراءة الجمهور، وقرأها رويس عن يعقوب: {وَقِهُمُ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، أي: اجعل وقاية وحاجزاً بينهم وبين عذاب الجحيم، والجحيم: النار، ولها أسماء تدل على فضاعة أمرها وعظيم شأنها، فسماها (الجحيم) وكل نار عظيمة الهوة فهي جحيم.
فالنار التي تكون عظيمة في مكان منخفض أو في حفرة عظيمة يطلق عليها: الجحيم، والجحيم النار الشديدة المتأججة، والجمر يطلق عليه الجحيم، ويقال للنار: جاحم؛ لأنها مشتعلة حمراء تتوقد وتلتهب على أصحابها، ونار الجحيم بمعنى: شديدة الاشتعال، ومن ذلك قولهم: جحمة الأسد أي: عين الأسد، فالأسد حين يأكل فريسته تحمر عيناه، فيدعو الملائكة ربهم للمؤمنين ويقولون: ((وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ))، فهي نار، وهي جحيم، وهي لظى، وهي سعير، وأسماؤها تدل على معانيها.(368/5)
حملة العرش يدعون للمؤمنين بدخول الجنة
قال الله تعالى عن الملائكة أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8]، فيدعون ربهم للمؤمنين أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم جنات عدن، والجنات فيها بساتين عظيمة، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقوله: ((رَبَّنَا)) يعني: يا ربنا! ((وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ)) والعدن بمعنى: الإقامة الدائمة، أي: جنات الإقامة الدائمة، فيقيمون فيها فلا يخرجون منها أبداً، وقوله: ((الَّتِي وَعَدْتَهُم)) أي: في كتبك، وعلى ألسنة رسلك عليهم الصلاة والسلام، بمعنى: وعدت المؤمنين، ووعدت من صلح من الآباء، فأدخلهم وأدخل الصالحين من آبائهم، وأزواجهم وذرياتهم، والمؤمن يدخل الجنة ويدخل معه الصالحون من أهله، وهم الذين يستحقون أن يوصفوا بأنهم من أهله، فإن كانوا غير صالحين فلا يستحقون هذه الصفة، ولذلك قال نوح يدعو ربه سبحانه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، فكان الجواب من الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، أي: هذا عمله عمل غير صالح لا يستحق أن يوصف بأنه من أهلك.
فيوم القيامة يدخل الجنة الرجل الصالح، ويدخل معه الصالحون من أهله، ويتفضل الله سبحانه على عباده، ويرينا كرمه العظيم، فقد يعمل الرجل العمل العظيم الصالح ويكون له في الجنة منزلة عالية عظيمة، وتكون زوجته امرأة صالحة تقية، ولكن لم تبلغ عمله، ويكون أولاده أيضاً على صلاح وعلى تقى، ولكن لم يبلغوا عمل أبيهم، فإذا بالله عز وجل يدخل هذا الرجل في أعلى الجنات، فينظر فيقول: أين زوجتي وأولادي؟ فيقال له: دخلوا، ولكن ليسوا في منزلتك، فيقول: لكني أنا عملت، فيتكرم الله سبحانه ويرفع هؤلاء إلى درجة أبيهم معه في الجنة، ولذلك دعت الملائكة ربها سبحانه أن يدخل هؤلاء الصالحين الجنة ((وَمَنْ صَلَحَ)) من الآباء، والصالحات من الأزواج، ((وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ))، أي: من جاءوا منهم من الأبناء والأحفاد وغير ذلك يدخلون الجنة مع آبائهم، وغير الصالحين لا ينتفعون بصلاح آبائهم.
ثم قالوا: ((إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) فلما قالوا: قهم عذاب الجحيم، وأدخلهم جنات عدن، ناسب أن يقول الله سبحانه ويذكر بعد ذلك في دعائهم: ((إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، والعزيز: هو الغالب، فأدخلت العصاة النار، ووقيت هؤلاء الصالحين شر النار وعذاب النار فأنت الحكيم يا ربنا في أن أدخلت هؤلاء الجنة، وأدخلت معهم الصالحين دون غيرهم، فإذا قال أحدهم: هؤلاء أبنائي وكنت أرحمهم في الدنيا، فيقال: إنهم كانوا غير صالحين، فالله حكيم في أقواله، حكيم في أفعاله سبحانه وتعالى، يعذب من عصاه سبحانه، ويرحم من أطاعه، فهو الرحيم بالمؤمنين، وهو شديد العقاب للكافرين والفجار.(368/6)
حملة العرش يدعون للؤمنين بأن يقيهم الله السيئات
يقول الله سبحانه عن الملائكة أنها تدعو وتقول: {وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُِ} [غافر:9]، أي: قهم سوء أعمالهم، فإذا وقعوا في شيء وتابوا إليه فقهم ولا تعذبهم على ذلك يوم القيامة، ((وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ))، من وقيته أي: من حجبت عنه عذاب سوء عمله في الدنيا فهذه رحمة عظيمة، فلو أن الله عز وجل أدخل العبد النار فهذا عذاب أليم، ولو أنه وقاه عذاب النار فهذه رحمة عظيمة، فكيف إذا وقاه عذاب النار وأدخله الجنة؟ فهذه من أعظم رحمة رب العالمين سبحانه.
وقوله: ((وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ)) أي: يوم القيامة، ((فَقَدْ رَحِمْتَهُ)).
وقوله: ((وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ)) قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف وكذلك رويس عن يعقوب: ((وَقِهُمُ السَّيِّئَاتِ))، بضم الهاء والميم، والقراءة الأخرى لـ رويس فيها وهي قراءة روح وقراءة أبي عمرو: {وَقِهِمِ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9]، بكسرتين فيها، ففيها ثلاث قراءات.
قال تعالى: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9]، أي: النجاة الكبيرة العظيمة التي يبتغيها كل إنسان مؤمن.
نسأل الله عز وجل أن يقينا السيئات يوم القيامة، وأن يدخلنا في رحمته وهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(368/7)
تفسير سورة غافر [10 - 15]
في هذه الآيات بيان ما سيكون عليه الكفار يوم القيامة من الاعتراف بذنبهم وكفرهم وعدم استجابتهم لشرع الله، ثم بعد ذلك يمقتون أنفسهم ويكرهونها؛ وذلك جزاءً وفاقاً، فقد كانوا في الدنيا يزهون بها ويترفعون بها على الحق وأهل الحق، وفي ذلك اليوم حين يحق الله الحق يبغضونها.
وفيها أيضاً بيان ما عليه الكفار والمنافقون من الاستئناس بالباطل والنفور من الحق، بخلاف أهل الإيمان والتقوى.(369/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:10 - 15].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حال الكفار يوم القيامة حين يعذبهم الله عز وجل، ويدخلهم النار، ويعلمون أن هذا الجزاء الصعب الذي عاينوه هو بسبب من أنفسهم، فيبغضون ويكرهون أنفسهم في ذلك الوقت حين يعذبهم الله سبحانه.
فإذا مقتوا وأبغضوا أنفسهم نادتهم الملائكة: إن الله يبغضكم أشد من بغضكم لأنفسكم، يقول الله سبحانه: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ)) أي: تناديهم الملائكة، {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10]، والمقت: هو أشد البغض والكره، وقد مقتهم الله حين كذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وحين عارضوا ربهم، وجحدوا آياته، ففي هذا الحين استحقوا غضب الله ومقته وبغضه سبحانه، فلما جاءوا يوم القيامة أبغضوا أنفسهم حين رأوا العذاب، وعلموا أنه بسبب تكذيبهم، وبسبب إعراضهم، وبسبب قلة عقولهم، فأبغضوا أنفسهم فنادتهم الملائكة بذلك.
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [غافر:10] أي: أشد، {مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ} [غافر:10] أي: حالة وحين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] أي: مقتم الله في الدنيا في حال أن دعتكم أنبياء الله إلى الإيمان بالله فأعرضتم وكذبتم، فاستحققتم مقت الله سبحانه، {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] يعني: في حال دعتكم رسل الله إلى الإيمان فكفرتم وكذبتم مقتكم الله عز وجل أشد المقت.(369/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)
قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11].
فانظر إليهم في الدنيا وانظر إليهم في الآخرة، ففي الآخرة يتواضعون حين يرون العذاب، وفي الدنيا كانوا مستكبرين يتعالون على ربهم سبحانه، وعلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فلا يصدقون ولا يؤمنون، فيتضرعون وهم في النار في الآخرة يقولون: (ربنا)، فهذا ربهم الذي جحدوه قبل ذلك وكذبوه، وكانوا إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا دعي غير الله سبحانه وأشرك به {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، فهذا في الدنيا، فلما عاينوا العذاب، ورأوا هلاكهم {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، فعرفوا قدرة الله العظيمة يوم القيامة، وفي الدنيا أعرضوا، وكذبوا، وجحدوا، واستكبروا، وفي الآخرة قالوا: يا ربنا! أنت على كل شيء قدير، فأنت الذي أوجدتنا من عدم، فقد كنا نطفاً في آبائنا أمواتاً فأحييتنا، وأوجدتنا في أرحام أمهاتنا، وخلقتنا هذا الخلق الذي خلقتنا عليه، فكنا في هذه الدنيا أحياء فكذبنا وأعرضنا، ثم قدرت علينا الموت فقبضت أرواحنا، ثم أحييتنا بالبعث والنشور، فهنا إماتتان وإحياءان، فالأولى حين لم يكونوا شيئاً، أو كانوا نطفاً لا حياة فيها بالمعنى المعروف للحياة، ثم كانت هذه النطف أجساداً في بطون الأمهات ونفخت فيها الأرواح، فهذه الحياة الأولى، ثم أماتهم فأقبروا، وهذه الموتة الثانية، ثم بعثهم فنشروا، وهذه الحياة الثانية، قال تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، والمعنى: أنك يا ربنا على كل شيء قدير، فكما قدرت على الإماتة وعلى الإحياء فإنك تقدر على إرجاعنا إلى الدنيا مرة ثانية، {فَارْجِعْنَا} [السجدة:12]، أي: يتوسلون إلى الله سبحانه بصفاته وبقدرته سبحانه العظيمة، فأنت على كل شيء قدير فأعدنا مرة ثانية إلى الدنيا حتى نعبدك.
والله سبحانه أعلم أن هؤلاء لا ينفع معهم ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، أي: لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهاهم الله عز وجل عنه من الكفر والشرك بالله، ولأعرضوا عن ربهم، ولكفروا وكذبوا مرة ثانية، فالله يعلم أنهم لا يستحقون إلا النار.
قال الله سبحانه عن هؤلاء: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]، فهل هناك أي صورة أو وسيلة للخروج من النار؟!(369/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم)
يقول لهم سبحانه: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وهنا حذف يدل عليه الكلام، يقول الله عز وجل: (ذَلِكُمْ) أي: هذا العذاب الذي تعاينونه، وتتعرضون له، وكأنه يقول: إنكم تستحقون هذا العذاب،
و
الجواب
لا، ليس إلى الخروج سبيل والعياذ بالله.
أي: لا سبيل إلى الخروج؛ وذلك لأنكم تستحقون ذلك، فقد كذبتم قبل ذلك العذاب الذي تدخلونه وتعاينونه، وكنتم (إِذَا دُعِيَ اللَّهُ) أي: كنتم قبل ذلك إذا وجدتم من يوحد الله سبحانه ويعبده تشمئزون وتكفرون، {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر:12]، وكان إيمانهم كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فيقولون: الله هو الخالق، لكن إذا قيل لهم: اعبدوه، قالوا: إنها تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، ومع ذلك فهم يعبدون غير الله سبحانه، فلا يصدقون بالله إلا وهم يشركون بعبادته سبحانه.
قال سبحانه: {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، فالحكم له وحده سبحانه، فهو الذي يحكم فيكم بهذا العذاب، وهو العلي سبحانه لا شيء أعلى منه سبحانه، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه، ولا غالب لأمره، فهو الذي يعلو سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فحكمه أعلى وفوق كل حكم، فالحكم لله العلي، فله علو الذات سبحانه، وله علو الشأن سبحانه، وله علو القهر سبحانه، فهو فوق كل شيء، وأكبر من كل شيء، ويحكم على كل شيء، ولا معقب لحكمه سبحانه.
يقول محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء! إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون فهلم فلنصبر، فصبروا، فطال صبرهم، ثم جزعوا فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، فلا ينفع الصبر في النار، وسواء صبروا أو جزعوا فما لهم من مهرب ولا مخرج ولا مخلص منها، فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:21 - 22].
فقد تبرأ الشيطان منهم في هذا الوقت، وهو الذي دعاهم في الدنيا إلى عبادة غير الله فاتبعوه، فلما جاءوا يوم القيامة نظروا فلم يجدوا لهم مهرباً، ولم يجدوا لهم سبيلاً للخروج من النار، وتبرأ منهم الشيطان، وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، فقد كنت أوسوس لكم فقط وأنتم الذين ضللتم واتبعتم الهوى، فتستحقون ما أنتم فيه من العذاب.
يقول: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، أي: بما كنتم تعبدونني من دون الله، فقد كنتم تعبدون الأصنام التي أمرتكم بعبادتها، وقد كنت أعلم أن الله سبحانه واحد، وهو المستحق للعبادة وحده دون غيره، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22].
فلما سمعوا ذلك -وكانوا قد صبروا وطال صبرهم- جزعوا فصرخوا، ووجدوا الشيطان يتبرأ منهم، فهنا في هذا الوقت إذا بهم ينادون وقد مقتوا أنفسهم: ضيعنا وفرطنا، واتبعنا هذا الذي كان لا يملك لنا شيئاً، وأخذنا من الدنيا ما أخذنا فاستحققنا العذاب، فأبغضوا وكرهوا أنفسهم، ونادوا على أنفسهم: نحن نمقت ونكره أنفسنا، فإذا بهم يُنادَون: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، أي: أشد (مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فحكم وفصل بين عباده، وأحق الحق، وأبطل الباطل.(369/4)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13].
قوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: هو الله سبحانه الذي يريكم أدلة توحيده، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد سبحانه، فقد أراكم الآيات، وأنزل عليكم الكتب، وأرسل لكم الرسل، وأوضح لكم ما أشكل عليكم، فأصررتم على ما أنتم فيه من الكفر والإعراض.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} [غافر:13]، ((وَيُنَزِّلُ)) قراءة الجمهور بالتثقيل، وقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب بالتخفيف: (وينزل).
فقوله: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13] يمن الله عز وجل على عباده بأن رزقكم جاءكم من السماء وأنتم تشاهدون ذلك، وإذا منع عنكم الغيث عطشتم ومتم عطشاً، وإذا منع عنكم المطر لم يخرج النبات من الأرض، فرزقكم جاء من السماء.
قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] أي: وما يتعظ فينتفع بهذه الموعظة إلا الذي ينيب، أي: يرجع، فيعمل عقله ويقول: الله الذي رزقني، والله الذي خلقني، والله الذي أعطاني، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد سبحانه، فالذي يتذكر هو الذي ينيب ويرجع إلى توحيد وعبادة الله وحده لا شريك له.(369/5)
تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين)
قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] يأمر الله عز وجل عباده بتوحيده، وحسن عبادته، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ} [غافر:14]، أي: وحدوه واعبدوه وحده لا شريك له، فلا تدعوا معه أحداً غيره، ولا تتقربوا إلا إليه، ولتكن حياتكم ومماتكم له وحده لا شريك له.
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] الدين هو العبادة والطاعة، ويأتي الدين بمعنى: الجزاء، وهنا المقصود به الطاعة والعبادة، فأخلصوا ونقوا العبادة واجعلوها له وحده، فلا تدخلوا في عبادتكم أي شوائب من شوائب الشيطان، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] أي: ولو كره الكافرون ذلك منكم، فأخلصوا لله، واستقيموا على طريق الله سبحانه وتعالى، واصبروا على طاعة الله؛ فلكم الجزاء من الله سبحانه.(369/6)
تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره)
قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي} [غافر:15].
قوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] أي: فادعوا الله رفيع الدرجات سبحانه وتعالى.
وقوله: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) لها معان وكلها صحيحة، فهو المستحق لأعلى درجات الثناء، وهو المستحق لأعظم المدح، وهو العالي المتعالي سبحانه، فهو العلي العظيم الذي استوى على عرشه، وعرشه فوق كل شيء سبحانه وتعالى.
فهو: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) أي: فوق السماوات، وفوق العرش سبحانه تبارك وتعالى، وهو المتعالي العلي سبحانه، ذو الدرجات العظيمة، فالله فوق سماواته فهو رفيع الدرجات سبحانه، والله مستحق لأعظم وأعلى وأجمل وأجل المدح والثناء، والله صاحب الدرجات العظيمة في جنات الخلود التي يرفع إليها أنبياءه وأولياءه، فهو رفيع الدرجات سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق السماوات بعضها فوق بعض عالية جداً، فبين السماء والسماء خمسمائة عام، وسمك السماء خمسمائة عام، فهو رفيع الدرجات.
قوله: (ذُو الْعَرْشِ) أي: صاحب العرش العظيم، فعرشه بهذه العظمة التي يذكرها لنا ربنا، ويذكرها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عرش عظيم، وعرش كريم، فكيف بصاحب العرش سبحانه الذي خلق العرش؟! قال تعالى: (يلقي الروح)، فهو ينزل الوحي سبحانه وتعالى: (مِنْ أَمْرِهِ) أي: من قضائه وقدره بما قضاه وشرعه سبحانه، (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فـ {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى:13] أي: يصطفي إليه من يشاء، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، فينزل الملك بالوحي من السماء على من يشاء من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] أي: يوم القيامة.
فقد جاءت الأنبياء لتبين للناس أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأنهم راجعون إلى {يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15]، يوم تلتقي أوائل الأمم مع أواخرها، ويلقون ربهم سبحانه وتعالى، فيقفون بين يديه، فهذا هو يوم التلاق.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(369/7)
تفسير سورة غافر [13 - 20]
يذكرنا الله عز وجل بيوم هوله عصيب، وأمره عجيب، إنه يوم القيامة، يوم أن يبرز الناس فيه مصطفين ينتظرون الحساب، فيجزي الله كل نفس بما كسبت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فالملك كله يوم القيامة لله تعالى، وينفرد به سبحانه فلا يستطيع أحد منازعته؛ ولذا كان على العبد أن يعبد الله مخلصاً في عبادته، صابراً على أذى المشركين، فإن هذا هو سبيل النجاة من العقاب، والفوز بالجنة في يوم الحساب.(370/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكك آياته وينزل لكم من السماء زرقاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:13 - 17].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما يأتي بعدها عن قدرته العظيمة في خلقه للعباد، وفي إنزاله الرزق عليهم من السماء، وأيضاً في بعثهم يوم القيامة، وحسابهم، ولا تخفى عنه سبحانه وتعالى خافية من عباده، وغير ذلك من مظاهر قدرته العظيمة سبحانه.
يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) أي: أن رزقكم من عند الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان فسواه فعدله، وهو الذي رزقه وأطعمه وسقاه، وهو الذي أعطى ومنح عباده في الدنيا، وهو الذي يجازيهم يوم القيامة.
ومعنى: (يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: دلائل قدرته، وعلامات إعجازه سبحانه وتعالى، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) أي: ينزل من السماء أرزاق العباد المقسومة بتقديره سبحانه وتعالى، فينزل ما يشاء على من يشاء، ويرسل الرياح فتثير سحاباً، فساقه الله إلى بلد ميت، فأنزل به الماء، ثم أخرج به من كل الثمرات، والله على كل شيء قدير.
قوله تعالى: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي: ما يتعظ بآيات الله سبحانه مما يقرأ في القرآن، ومما يراه أمامه من آيات خلق الله عز وجل ويتذكر فلا ينسى، ويتعظ فيعمل ولا يشقى إلا من ينيب إلى الله، ويرجع إليه بالعبادة والطاعة، وبالتفكر في إلهيته وربوبيته سبحانه.(370/2)
تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين)
قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] أي: ادعوه ووحدوه، والجئوا إليه سبحانه، واعبدوه وحده لا شريك له، وادعوه تضرعاً وخفية وخيفة، بالليل والنهار، فإنه لا يعجزه شيء سبحانه.
فقوله: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) فيه أن الإخلاص شرط من شروط العبادة، والعبادة لها شرطان: الإخلاص، والمتابعة، والمتابعة: هي أن تتابع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه من وحي الكتاب أو من السنة، والمتابعة وحدها لا تنفع إلا مع الإخلاص، فلا بد من ركنين للعبادة: أن تعبد ربك سبحانه بما جاء في الكتاب والسنة، وأن تكون مخلصاً لله عز وجل في عبادتك، فمعنى (مخلصين) أي: موجهين العبادة له وحده، حتى تكون خالصةً من شوائب الشرك بالله سبحانه وتعالى.
وقوله: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) أي: حتى ولو كره الكافرون منكم ذلك، ولو أبغضوكم على ذلك، وحاربوكم وجاهدوكم على أن تشركوا بالله فلا تشركوا به شيئاً، فأخبر الله الإنسان أنه حتى إذا جاهده والداه على الشرك فلا يطعهما، وإنما يصاحبهما في الدنيا معروفاً.(370/3)
تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره)
قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] أي: أن الله رفيع الدرجات سبحانه وتعالى، له الثناء والمجد والمدح العظيم كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
و (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) بمعنى: أنه على العرش استوى، وأنه فوق عرشه وسماواته، وقد أحاط بكل شيء، وعلا فوق كل شيء سبحانه، فهو رفيع الدرجات: ذو الدرجات العظيمة الرفيعة سبحانه وتعالى، المستحق للكمال وحده، والمستحق للثناء والمدح وحده، صاحب كل خير سبحانه.
وهو الذي يملك أن يرفع عباده إلى درجات عنده، فجعل الجنة درجات عالية، فهو صاحب هذه الدرجات، يرفع من يشاء من عباده إليها.
ورفيع الدرجات: صفة من صفات الله، وهي صفة دالة على سعة ملكه وقدرته سبحانه وتعالى، فيرفع درجات من يشاء، ويخفض من يشاء سبحانه، (ذُو الْعَرْشِ) أي: صاحب العرش وخالقه، وفي الدنيا يقال: الملك فلان له عرش، وهو سرير الملك الذي يكون عليه، ولله عز وجل المثل الأعلى، فله العرش العظيم سبحانه وتعالى، وهو فوق السماوات وفوق كل شيء، وأحاط بكل شيء، وهو الرحمن فوق عرشه استوى عليه سبحانه.
قال تعالى: (يُلْقِي الرُّوحَ) الروح: الوحي، أو النبوة، حيث ينزل الملك جبريل وهو روح الله وروح القدس، أي: روح مقدسة خلقها الله سبحانه وتعالى، فينزل على من يشاء الله من عباده.
والروح: القرآن، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] إذاً: فالروح: الوحي، والنبوة، والقرآن الذي ينزل من عند الله سبحانه وتعالى، فهو يلقي الروح أي: ينزل الروح بأمره، وفيه أمر الله وقضاء الله سبحانه، وفيه إحياء لقلوب الخلق، فالقلوب الميتة بالكفر يحييها وحي الله سبحانه، والنبوة والقرآن، فكما ينزل الغيث من السماء ليحيي به الأبدان، كذلك ينزل من السماء القرآن ليحيي به الإنسان.
وقوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي: أن الله يصطفي إليه من يشاء، ويجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب، فالنبوة والرسالة ليست كسباً من الخلق، وليس لأحد من الخلق أن يقول: سوف أعبد الله وأتقرب إليه حتى يجعلني نبياً أو رسولاً، فهي هبة من الله سبحانه ومنحة يمنحها من يشاء من عباده، فيجعله نبياً أو رسولاً.
(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) أي: يوم القيامة، يوم يلتقي أوائل العباد مع أواخرهم من لدن آدم إلى آخر من تقوم عليه الساعة، ويلتقي فيها الظالم مع المظلوم، والقاتل مع المقتول ليحكم الله بينهم، وليقتص كل واحد من الآخر.
وكلمة: (التلاق) يقف عليها الجمهور بالسكون، ويقف عليها بالياء ابن كثير ويعقوب؛ فإذا وقف قال: (يوم التلاقي)، وإذا وصل قال: (يوم التلاقي) كذلك، فيقف بالياء في الوصل وفي الوقف، وورش وقالون بخلفه وابن وردان يقرءونها في الوقف: (يوم التلاق)، وفي الوصل: (يوم التلاقي).
إذاً: وصلاً فقط بالياء لـ ورش وقالون بخلفه وابن وردان.(370/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء)
قال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] أي: خرجوا من قبورهم وبرزوا وظهروا، فلا يستخفي منهم أحد، ولا يوجد مكان يختفي فيه، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] أي: لا ارتفاعاً ولا انخفاضاً في الأرض، فهي مستوية بيضاء نقية، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فليس هناك جبل يختفي فيه الإنسان، ولا حفرة ينزل بداخلها، فالأرض (لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)، والكل بارزون أمام رب العالمين سبحانه ليجازي كل نفس بما كسبت.
قال تعالى: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (شيء): نكرة في سياق النفي، وهي تعم، فلا يخفى على الله شيء ولو كان دقيقاً، فهؤلاء الأعداد الغفيرة الكثيرة لا يخفون على الله، فهو يرى جميع الخلق، وسوف يحاسبهم في يوم القيامة.
يقول سبحانه: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) في يوم القيامة يقبض الله عز وجل الخلائق ويطوي السماوات بيمينه ويقبض الأرض ويقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا أحد يقدر على أن يقول: أنا كنت ملكاً في الدنيا، وإنما الذي يجيب هو الله، فيجيب على نفسه ويقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
والملك هو ملك السماوات والأرض، فلا يدعي أحد أنه يملك في هذا اليوم، فالله هو المالك سبحانه وتعالى، وقوله: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ) أي: له وحده لا شريك له، (الْقَهَّارِ) الذي قهر وغلب وأذل كل شيء، وأذعن له وخضع كل شيء، فله الملك وحده سبحانه، وقد قال في كتابه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2]، فالله مالك الملك، وملك الملوك سبحانه.(370/5)
تفسير قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت)
يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
قوله: (اليوم) أي: يوم القيامة، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) ففي يوم القيامة يحاسب الله كل إنسان بمفرده، فلا يظن الإنسان أنه بإمكانه أن يختفي في ذلك اليوم.
وقوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) فيه أن الجزاء على كسب العباد، والله خالق العباد، وخالق أفعالهم، والعبد يكتسب فعله، وحين يفعل الفعل يشعر أنه قادر على فعله وقادر على تركه، فإن أراد أن يفعله فعله، والله عز وجل يجازيه على إرادته، وإن كنا نؤمن أن كل شيء بقضاء الله وقدره ومشيئته، ولكنه سوف يجازي العبد على ما فعله ورضي فعله، فإن عصى الله جازاه على معصيته، ولا يمكن أن يقول: يا رب! أنت قدرت علي هذا الشيء؛ لأنه وهو يكسب المعصية يرى نفسه قادراً على فعلها، وقادراً على تركها، فيكون فعله هذا اختياراً منه.
فلا ينبغي للإنسان أن يتعلل بالقدر، فالله عز وجل أمره بالإيمان بالقضاء والقدر، لا أن يتعلل به.
إذاً: فالإنسان حين يرتكب المعصية أو يفعل الخير يعلم أن الله قد قدر كل شيء، وعلم كل شيء سبحانه، ولكن كسبه هذا كان اختياراً منه، فالله عز وجل يشكر له الخير، ويجازيه على الشر، أو يعفو سبحانه، فإذا حاسب الله العباد فلا يقدر أحد أن ينكر ويقول: يا رب! لقد كان ذلك قضاء وقدراً؛ لأنه كان قادراً على الفعل وعلى الترك، ولم يكن مجبراً.
وقوله تعالى: (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي: لا يظلم ربك أحداً، ولا ينسى شيئاً، بل يجزي كل إنسان على مثقال الذرة، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فالله سبحانه سيحاسب الخلق يوم القيامة، وهو يوم طويل من أيام الآخرة كما قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وهذا اليوم يطيله الله عز وجل على من يشاء، ويخففه على من يشاء، نسأل الله التخفيف والعفو والعافية في يوم عظيم يقضي فيه الله بين جميع العباد.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي: سريع المحاسبة، ليس كمحاكم الدنيا التي تؤجل فيها بعض القضايا لسنة أو سنتين، فيوم القيامة يوم واحد، يجزي الله فيه كل إنسان بمفرده على ما صنع، فلا يخفى عليه من عباده شيء، لا يشغله القضاء بين عبد وآخر عن القضاء بين ثالث ورابع، وإنما يقضي بين الجميع كما يشاء، لا يشغله شيء عن شيء سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).(370/6)
تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين)
يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] وهذا كقوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:57] أي: اقتربت الساعة، وهي القيامة، وأزف الشيء بمعنى: قرب، والقيامة قريبة، قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] والساعة آتية، وكل شيء وعد الله سبحانه أنه سيأتي لا بد وأن يأتي، وطالما أنه سيأتي فهو قريب، فسماها الله عز وجل: آزفة، أي: قريبة، فقوله: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ) أي: يوم القيامة الذي سيكون قريباً.
(إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) وهذه حالة لا تكون في الدنيا أبداً، فالإنسان قد يفزع في الدنيا، ويحس أن قلبه سوف يطلع من مكانه، لكنه لا يطلع من مكانه، أما في يوم القيامة فإنه يطلع من مكانه، ويصل إلى الحنجرة، فالقلوب تثب من مكانها إلى الحناجر من شدة الهلع والخوف والجزع والرعب.
والحنجرة: هي العظمة الموجودة في الجزء البارز في الرقبة الذي نسميه: تفاحة آدم، ففي يوم القيامة يثب القلب من مكانه يريد أن يخرج حتى يموت هذا الإنسان من رعبه.
وقوله: (كَاظِمِينَ) أي: كاتمين على أنفسهم، فأرواحهم تريد أن تطلع، وقلوبهم تكاد أن تخرج من أفواههم، ولا قدرة لهم على إرجاعها، وهذا مشهد صعب شديد! قال الله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) في الدنيا قد يجد الظالم لنفسه أعواناً، فيظلم ويأتي بالرجال ليعينوه، أما يوم القيامة فلا يوجد من يعينه، (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) والحميم: هو الصديق والقريب والمحب، وفلان حميم لفلان أي: بينهم علاقة حميمة وصداقة عظيمة.
فلا يوجد في ذلك اليوم للظالمين من يشفق عليهم أو يشفع لهم أو يدافع عنهم كما كانوا في الدنيا، ففي يوم القيامة لا أحد يقف بجوار الآخر فيشفع له، إلا حين يفتح الله عز وجل باب الشفاعة، وأول من يبدأ بها نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع عند ربه ليقضي بين العباد.
فقوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي: ليس للظالم حميم ينفعه، ولا شفيع يطاع فيسمع كلامه.(370/7)
تفسير قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
قال الله عز وجل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، خائنة الأعين أي: العين الخائنة، فالإنسان قد يخون بعينه، وقد يمشي ويراه الناظر أنه غاض البصر، ولكن إذا لم ير أحداً ينظر إليه نظر إلى ما حرم الله عز وجل، فهذه هي النظرة الخائنة التي يختلسها الإنسان إلى شيء حرمه الله سبحانه وتعالى، وكأن يغمز إنسان لآخر بعينه أن يفعل أي شيء فهذا لا يجوز.
وقد جاء في الحديث أنه لما جيء بـ عبد الله بن أبي السرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد فعل أشياء في كفره، ثم أسلم، ثم ارتد عن الإسلام، ونافق، وآذى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاء به عثمان رضي الله عنه ليشفع فيه يوم فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم استكثر ما صنعه هذا الرجل في كفره، وفي ردته، وفي نفاقه، فأبى أن يقبل منه صلى الله عليه وسلم وسكت، ولم يعطه عهداً ولا أماناً، ومن أدب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه أن مكثوا ينتظرون ماذا سيقول فيه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال سكوته، وفي النهاية أمنه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال لأصحابه بعد ذلك: (أما كان منكم من رجل رشيد يقوم لهذا فيضرب عنقه؟) أي: هذا الرجل الذي آذى الله ورسوله، الذي ارتد عن الإسلام، وآذى المسلمين، وقد رفضت أن أعطيه أماناً، أما كان منكم رجل رشيد يقوم إليه فيقطع رقبته؟ فقالوا: هلا أشرت لنا؟ أي: لو غمزت لنا بعينك لكنا قتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) فلا يليق بنبي أن يغمز لأحد ليعمل شيئاً من وراء آخر.
فالمقصود: أن الله عز وجل يعلم خائنة العين، وما يكون من تلصص وتجسس وتحسس، وما يكون منها من نظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى من غير أن يدري الناس، وما يكون منها من إشارة وغمز إلى إنسان بتهكم أو بسخرية، أو بغير ذلك.
وقوله: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أي: ما يكنه الإنسان في صدره من نية سوء أو غيرها.(370/8)
تفسير قوله تعالى: (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء)
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20].
قوله: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يجازي ويفصل بالحق.
وقوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي: من الأصنام التي تعبد من دون الله، والآلهة التي اتخذوها من دون الله، (لا يقضون بشيء)، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: يسمع ويرى كل شيء، ويقضي بين عباده بالحق.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(370/9)
تفسير سورة غافر [21 - 25]
على الإنسان أن يسير في الأرض وينظر ويتفكر في آثار السابقين الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى بسبب كفرهم وعنادهم، وعليه أن يعتبر بهؤلاء، وألا يسلك ما سلكوا من الطرق المنحرفة حتى لا يصيبه ما أصابهم.(371/1)
تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم)
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:21 - 25].
في هذه الآيات من سورة غافر يخبرنا الله سبحانه وتعالى بعلمه العظيم، فإنه سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، وبقضائه المحكم بين عباده، وبفصله بالحق بينهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر:20]، فيجازي سبحانه وتعالى المحسن على إحسانه بالحسنى وزيادة، ويجازي المسيء على إساءته، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر:20]، أي: ما يعبدونه من أوثان ومن أصنام لا يقضون بشيء، ولا يملكون أن يفصلوا بين الخلق، وأن يقضوا بينهم، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيرهم.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20]، فالله هو الذي أحاط سمعه كل شيء، وأحاط علمه وبصره بكل شيء، يعلم ما ظهر وما خفي، يعلم ما قاله الإنسان وما أخفاه في صدره وما أكنه، يعلم نيته، يعلم ما في حاضر وما في مستقبل هذا الإنسان، وإلى أي شيء يصل يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20].
ثم يأمر عباده أن يسيروا في الأرض فيتفكروا في مصارع السابقين، فقد عاش على هذه الأرض أناس قبلهم، عاشوا كما عاش هؤلاء، وخاضوا كما خاض هؤلاء، فأهلك الله عز وجل السابقين، فما ينتظر هؤلاء اللاحقون من الله عز وجل إلا مصير السابقين، قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا} [غافر:21]، ويعتبروا بما وقع على الأرض، {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:21]، كيف كانت العاقبة والنهاية، فهم عملوا في هذه الأرض، واستمتعوا بخلاقهم، وخاضوا في هذه الدنيا، ثم في النهاية أماتهم الله وأهلكهم سبحانه وتعالى فلم يملكوا لأنفسهم شيئاً.
قال تعالى: {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:21]، لكنهم مضوا وذهبوا، لقد كانوا في هذه الدنيا ملوكاً، كانوا رؤساء، كانوا أقوياء، كانوا أغنياء، خاضوا في هذه الدنيا، ألا تعتبرون بما حدث لهؤلاء؟ كيف كان عاقبة الذين كانوا في الماضي؟ ((كَانُوا هُمْ))، وقد عبر بكان التي تفيد أن الشيء انتهى وصار أثراً بعد عين، فبعدما كانوا حاضرين صاروا آثاراً، وصاروا ذكراً، وصاروا عبرة يعتبر بهم الناس، فكرر سبحانه (كانوا)، ليؤكد أنهم كانوا في الماضي وانتهى أمرهم وذهبوا إلى ربهم ليجازيهم بأعمالهم.
{كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [غافر:21]، هؤلاء السابقون يذكر الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا أشد من هؤلاء الموجودين الآن، فقد كان السابقون من الكفار أشد من اللاحقين الموجودين.
وقوله: (مِنْهُمْ) هذه قراءة الجمهور، أما ابن عامر فقرأها: (كانوا هم أشد منكم) أي: أنتم أيها الموجودون أضعف منهم في الأبدان، فهم كانوا أقوى منكم، كانوا أطول منكم، وكان لهم في هذه الدنيا أعمار، فمنهم من عاش ألف سنة، ومنهم من عاش ثلاثمائة سنة، ومنهم من عاش خمسمائة سنة، فقد عاشوا سنين طويلة، فهل نفعتهم أعمارهم وقد كانوا يكفرون بالله سبحانه؟ وهل نفعهم إعمارهم لهذه الأرض وقد كانوا يكفرون بالله سبحانه وتعالى؟ وهل انتفعوا بهذه الآثار التي خلفوها من ورائهم؟ فهم قد ذهبوا وتركوا الآثار، فانظروا إليها واعتبروا يا أولي الأبصار.
قال تعالى: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} [غافر:21]، فترون آثارهم، يسير الإنسان فيقول: هذه آثار الأقدمين، هنا كان قوم عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، كانت بيوتهم عظيمة في هذه الجبال، وكانوا يتخذون من هذه الآثار ما يدل على قوتهم فرحين بذلك، أرادوا أن يظهروا مهاراتهم وأن يظهروا قوتهم، لكنهم خالفوا ربهم، وخالفوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، فكفروا وذهبوا وبقيت الآثار تدل على أصحابها الذين صاروا ذكراً بعد ذلك، قال سبحانه: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر:21]، لم يأخذهم ظلماً سبحانه، وحاشا له أن يظلم أحداً من عباده، وإنما أخذهم بسبب ذنوبهم، بسبب ما اقترفوا من أعمال سيئة.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:21]، أي: لم يكن لهم من ينصرهم، ومن يقيهم عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وكلمة (واق): نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فلا كبير ولا صغير ولا شيء يقيهم من الله سبحانه وتعالى، فما وجدوا لهم أحداً ينصرهم من عذاب الله.
وقرأها الجمهور بالوقف على تسكين القاف (واقْ)، وقرأها ابن كثير وقفاً: (من واقي) فيقف عليها بالياء، فإذا وصل وصلها بغير ياء (من واق ذلك بأنهم).(371/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات)
ثم قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:22]، إذاً هذا الأخذ الذي أخذهم الله سبحانه والعذاب الذي أصابهم من الله سبحانه كان لأنهم كفروا بالله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ} [غافر:22]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ يعقوب (كانت تأتيهُم رسلهم بالبينات) بضم الهاء.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا} [غافر:22]، أي: جحدوا هذه الآيات التي رأوها مع الأنبياء، وكذبوا ربهم سبحانه، وكذبوا رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} [غافر:22]، وانظر إلى هذا التعبير (أَخَذَهُمُ)، فأنت تأخذ الشيء فتمسكه حتى لا يفلت منك، فأخذهم الله سبحانه وتعالى، أي: أمسك بهم فعذبهم فلم يقدروا على الإفلات، ولم يقدروا على الهرب، فما أبقى منهم أحداً، فهو سبحانه قوي شديد العقاب، فإن من صفاته العظيمة الجليلة سبحانه صفة القوة، فهو القوي سبحانه وتعالى، فلا شيء يقدر أن ينازع أو يغالب ربه سبحانه عز وجل.
فالله هو القوي الحميد العزيز سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّه قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:22]، إذا أخذ أحداً لم يفلته، إذا عذب أحداً كانت عقوبة الله أشد ما يكون فلا يقدر أحد أن يقاومها أو يفلت منها.(371/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا فقالوا ساحر كذاب)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:23 - 24]، هذه قصة من قصص القرآن العظيم، يسوق لنا ربنا فيها قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام هو الرسول صاحب الشريعة قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكثيراً ما يذكر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام بياناً لأن موسى كان صاحب شريعة، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، مع أن الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن ذكر (كِتَابُ مُوسَى)؛ لأنه كان كتاب تشريع، فالتوراة كتاب شريعة والقرآن كتاب شريعة مهيمن على ما قبله من الكتب، فهذا القرآن شاهد على صحة ما جاء قبل ذلك، وناسخ لما جاء قبل ذلك من شرائع من عند رب العالمين، والشريعة الباقية هي ما في هذا القرآن العظيم، وهو ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر موسى عليه الصلاة والسلام، أما عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فهو قد جاء ليحكم بشريعة موسى، وإن كان قد أحل لهم بعض الذي حرم عليهم، لكنه لم يلغ شريعة موسى، فكأن صاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو موسى عليه الصلاة والسلام، والكتاب الذي كان قبل القرآن هو التوراة؛ لأن الإنجيل لم يكن كتاب شريعة، بل كان كتاب مواعظ فقط، أما التوراة فكان كتاب شريعة، فعندما تذكر القرآن يذكر قبله التوراة؛ لأن التشابه بينهما أن هذه شريعة وهذه شريعة، فموسى كان صاحب شريعة ونبينا صلى الله عليه وسلم كذلك، أما عيسى فكان يحكم بشرع من قبله، بشرع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر:23]، وفي الإسراء قال: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]، إذاً أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون وملئه بآيات بينات، وفي الأعراف ذكر أنها {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فاستكبر هؤلاء وكانوا قوماً مجرمين.
ذكر ربنا سبحانه وتعالى أنه أرسل موسى بآيات من عنده، أي: بمعجزات، وبـ (سُلْطَانٍ مُبِين)، والسلطان: هو الحجة، وكأن المقصود بها التوراة التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، فقد أنزل عليه ألواح التوراة حين ناجى ربه سبحانه وتعالى، فقوله: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [غافر:23]، أي: بحجة بينة واضحة جلية من عند الله، تبين عن نفسها وتفصح عن حقيقتها وصدقها، هذا معنى كلمة (مُبِينٍ)، أي: بين واضح.
وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر:23]، وهي تسع آيات، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى وهي: اليد، والعصا، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، فهذه أربع آيات: اليد، والعصا، والسنون، ونقص من الثمرات، وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فذكر تسع آيات أرسل بها موسى إلى هؤلاء الكفار حتى يؤمنوا، لكنهم كما قال عنهم: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133].
لقد أرسل الله عز وجل موسى بهذه الآيات: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:24]، فرعون من هؤلاء الكفار الذين طغوا وأفسدوا في الأرض، قال لقومه وقد كانوا ضعاف العقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، إذاً فرعون كان ملكاً اغتر بملكه فاستكبر وزعم أنه إله، بل تجاوز ذلك وقال إنه رب، وهو كذاب مجرم، يقول للناس: أنا إله فاعبدوني، وهو بذلك كأنه يقول: أنا أجلب الود، أنا أرزق، أنا أحيي، أنا أميت، وهو يعلم أنه كذاب فيما يقول، ولذلك أذله الله عز وجل أعظم الذل وأفظع الذل وأشنع الذل حين ألقاه في اليم وقال: {الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
وهامان رأس من رءوس الكفر، وهو تابع لفرعون، فقد كان وزير فرعون، ففرعون غره ملكه، وهامان غرته وزارته، وهما من أهل مصر، ومن ملوك مصر، وفرعون كان الملك وهامان كان الوزير، أما قارون فكان من بني إسرائيل، ابن عم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فسبحان من جمع هؤلاء: فرعون هذا الرجل الملك المتكبر، وهذا الوزير الطاغي، وقارون الغني صاحب الأموال، الذي هو من بني إسرائيل الذين ذاقوا العذاب من فرعون وملئه، وهذا الرجل مع غناه العظيم وهو من بني إسرائيل لكنه لم يعطف على قومه، بل خرج من هؤلاء واستكبر على قومه واغتر بما هو فيه، وحسد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن آتاه الله عز وجل الرسالة، فكان مع فرعون على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجمعه الله عز وجل معهم في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا جمعهم على الكفر، وفي الآخرة جمعهم في النار.
قال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:24]، فماذا قال هؤلاء لموسى؟ قالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]، قالوا له: أنت ساحر، وأنت كذاب، حتى قارون يقول ذلك مجاملة لهؤلاء، يقولها وهو يعلم أن موسى صادق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(371/4)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، أي: جاءهم بالآيات البينات من عند رب العالمين، جاءهم بالتوراة التي فيها شرع رب العالمين، جاءهم بالمعجزات الظاهرة القوية التي ضجوا من هولها وهرعوا إلى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يطلبون منه أن يجيرهم من ذلك، قال تعالى عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، يتوسلون إلى موسى: ادع ربك يكشف عنا هذا العذاب ونحن سنؤمن، فالله عز وجل يرسل عليهم آية وراء آية ولكنهم لا يفهمون، كلما كشف عنهم آية من العذاب كلما ازداد عتوهم وإفسادهم ورجعوا إلى كفرهم.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25]، وهذه هي المرة الثانية التي يأمرون فيها بذلك، فالمرة الأولى قبل مولد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين رأى فرعون الرؤيا وفسرها له قومه بأنه سوف يخرج من بني إسرائيل من يكون ضياع ملكه وهلاكه على يديه، فلما سمع بذلك أمر بقتل كل الصبيان من بني إسرائيل الذين يولدون.
فإذا بقومه بعد ذلك يقولون له: إذا قتلت الجميع فمن سيخدمنا بعد ذلك؟ هؤلاء بنو إسرائيل يتزاوجون رجالاً مع نساء، فحين تقتل الصبيان كلهم لا يبقى إلا النساء، فيقول له الكهنة: إنه في عام كذا سوف يولد كذا، وليس كل عام، فإذا به يرجع عن قراره ويقول: اقتلوا الصبيان في عام واستحيوهم في عام، ويرينا الله عز وجل الآية العظيمة، فيولد هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام -وهو أكبر من موسى- يولد في العام الذي لا يقتل فيه الصبيان، فيعيش هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويولد موسى في العام الذي يقتل فيه الصبيان، فالمفروض أن يقتله فرعون، لكن يرينا الله عز وجل أن هذا الجبار الطاغية فرعون الذي يريد قتل موسى لا يقدر على شيء، فالله عز وجل ينشئ موسى ويحفظه، بل ويربيه في بيت هذا الذي يريد قتله، فسبحان من يسبب الأسباب ويدبر مقاليد الكون سبحانه تبارك وتعالى.
فيعيش موسى في بيت فرعون، وينشأ فيه، ويكون سبباً في عزة بني إسرائيل بعد ذلهم على يد فرعون، ثم يكون سبباً في إهلاك فرعون بما يأتي بعد ذلك.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(371/5)
تفسير سورة غافر [23 - 28]
يرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى الناس فيأتون إليهم بالآيات البينات الواضحات على صدق رسالتهم، فلا يكذبهم إلا جاحدٌ معاند لا يريد الحق، ولا يريد اتباع الحق، وإنما يريد فرض أفكاره ومبادئه حتى بالقوة، ولكن رغم هذا فإن كيد الكافرين ضعيف، وهو في ضلال، والله معلٍ كلمته وناصر دينه.(372/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآيتنا فقالوا ساحر كذاب)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:23 - 27].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه أرسل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بآيات من عنده سبحانه، وهي المعجزات التسع: اليد، والعصا، والسنين، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأرسل الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، فالله سبحانه جعل هذه آيات لقوم فرعون حتى يعودوا إلى ربهم سبحانه وتعالى ويتركوا كفرهم، فأبوا إلا أن يستمروا على ذلك.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [غافر:23]، أي: حجة بينة واضحة، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24].
إلى فرعون الذي زعم أنه إله، وطلب من قومه أن يعبدوه من دون الله سبحانه، ثم زعم أنه رب، واستخف عقول قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين.
وهامان هو وزير فرعون، ذلك المجرم الذي ينفذ لفرعون ما يريد، قال تعالى عنهما: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37] فاستجاب لفرعون وبنى له برجاً عالياً حتى يرقى عليه فرعون، ويزعم أنه نظر في السماء فلم يجد فيها إلهاً، وصدقه قومه لكفرهم، خدعهم فرعون فانخدعوا وكانوا خفاف العقول، كما وصفهم الله عز وجل بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
وقارون كان قريباً لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قالوا: إنه كان ابن عم له عليه الصلاة والسلام، هذا موسى المؤمن رسول رب العالمين، وذاك قارون الكافر من بني إسرائيل، كان يحسد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فآتاه الله عز وجل كنوزاً عظيمة، فكان يؤمر بأن ينفق على الفقراء لكنه كان يستكبر عن ذلك، وينظر إليهم بأنهم لا يستحقون، فهو صاحب هذه الكنوز العظيمة، وربما تنتهي عليه، فكان موسى يقول له: أنفق على بني إسرائيل، ولكنه كان متكبراً مغروراً، يتقرب إلى فرعون مع معرفته بالحق الذي مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقال هؤلاء الثلاثة ومن معهم: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]، قالوا عن موسى عليه الصلاة والسلام لما رأوا الآيات البينات: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49]، وذلك حين جاءتهم الآيات من عند الله سبحانه آية وراء آية، فكلما ازداد عليهم الضيق يهرعون إلى موسى ويقولون: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فعندما يكشف الله عز وجل عنهم العذاب {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف:135]، فلم يستقيموا على طريقة أبداً مع موسى عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هذا ساحر، ووصفوه بأنه كذاب.
وهنا عندما يذكر الله عز وجل ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة -سورة غافر- وهي من السور المكية؛ فكأنه يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لست أول من قيل لك: إنك كذاب، فقد قالوا قبل ذلك لموسى وقالوا لنوح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقالوا لغيرهم من الأنبياء والرسل، قالوا عنهم: سحرة، وقالوا عنهم: إنهم كذابون، وقالوا عنهم: إنهم مجانين، وقالوا ما قالوا عن رسل الله، ولذلك فالإنسان الذي يدعو إلى الله لا ينتظر أن تكون الطريق التي يدعو فيها إلى الله عز وجل مليئة بالورود، وأنها ممهدة له، بل كما ورد في الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه)، فيأتي البلاء من الله عز وجل لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ ليثبتهم ويثبت من معهم، وحتى يميز الخبيث من الطيب، فالمؤمن يثبت على طريق الله سبحانه وتعالى، والذي في قلبه مرض يتزلزل ويتزعزع ويترك وينصرف عن دين الله سبحانه وتعالى، فهذا موسى قالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كذاب، وكذلك قالوا عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه مثل ذلك.(372/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه)
يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25].
لما جاءهم موسى بالحق والبينات من عند الله سبحانه وتعالى قال فرعون ومن معه: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25]، وهذه هي المرة الثانية التي يأمر فيها فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، والمرة الأولى قبل ميلاد موسى عليه الصلاة والسلام، والآن بعدما بعث الله عز وجل موسى لفرعون يدعوه إلى الله سبحانه، ففرعون أمر بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، فقال: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر:25] اقتلوا أبناء المؤمنين، {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] استحيوا من الحياة، أي: استبقوهن أحياء، أي: اقتلوا الأبناء واتركوا النساء أحياء؛ لأن النساء لا خوف منهن، فدعوا النساء وذروهن أحياء للخدمة، لخدمة فرعون وجنوده وقومه وملئه.
يقول الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، فقد كاد فرعون لموسى ولبني إسرائيل -للمؤمنين الذين مع موسى عليه الصلاة والسلام- ولكن {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ} [غافر:25]، هذه جملة من الله سبحانه وتعالى يختم بها هذه الآية، فلم يقل: كيد هؤلاء فقط، ولكن كيد كل الكافرين، جعل الله عز وجل كيدهم هباء منثوراً، وجعل كيدهم في تدمير، وفي ضلال وفي هلاك وفي خسران، فمهما كادوا للمؤمنين وانتصروا في وقت من الأوقات فلابد أن يظهر نور الله سبحانه، وأن يأتي الحق ويكون -رغماً عن الكافرين- هو المنتصر وهو الغالب، قال سبحانه: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، فهم يكيدون لربهم سبحانه، ويكيدون لأولياء الله عز وجل، ويأبى الله إلا أن يظهر دينه، وإن ترك المؤمنين في فترة من الفترات بسبب تقصيرهم، وبسبب ذنوبهم، فإنه لحكمة منه سبحانه يبتليهم، ولكن في النهاية يأبى الله إلا أن يظهر دينه، وإلا أن يخزي الكافرين، {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، وقال سبحانه: {يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ويقول: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17].(372/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه)
ثم قال سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
فرعون يقول لقومه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] كأنه بلغ به في النهاية الغيظ والحنق من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى أن يقول ذلك، وكأنه وجد من خوفه من دعاء موسى كما دعا قبل ذلك بالسنين ونقص من الثمرات، وجاء الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فكأنه استهان بدعاء موسى فقال: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26].
أي: ليعمل الذي يريده، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26] هذه قراءة الجمهور، وقرأ الأصبهاني عن ورش وقرأها ابن كثير: (ذَرُونِيَ أقتل موسى))، بفتح الياء.
وقوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] أي: دعوه فليدع وليفعل ما يشاء، وسنرى من الأقوى؟ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] هذه أيضاً قراءة الجمهور: {إِنِّي أَخَافُ} [غافر:26]، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ)، بفتح الياء.
وقوله: (أو أن يظهر) فيها أربع قراءات: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ} [غافر:26] وتقرأ بالواو: (وأن يظهر)، وتقرأ: (يَظهَر) و (يُظهِر)، فقراءة حفص ويعقوب: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) يظهر: فعل رباعي، كأنه يزعم أن موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي سيفسد وسيظهر الفساد، والفساد في نظر فرعون هو طاعة الله سبحانه وتعالى، وترك عبادة فرعون هذا المجرم الحقير، فكأنه رأى أن موسى سيفسد الناس، وسيظهر الفساد بعبادة رب العباد سبحانه وتعالى، فقال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
أما قراءة باقي الكوفيين: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (أو أن يَظهَر في الأرض الفساد)، وكأن فرعون يقول: أنا خائف من أن يظهر الفساد في الأرض، وهو أكيد يقصد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن على هذه القراءة الفعل من السداسي، أي: أن الفساد سوف ينمو بسبب موسى وبسبب من معه.
أما نافع وابن كثير وأبي جعفر فيقرءون: (وأن يُظهِر في الأرض الفساد)، وأما ابن عامر فيقرأ: (وأن يَظهَر في الأرض الفساد).
إذاً: جميع القراءات مرجعها إلى أن فرعون خائف من أن موسى سوف يظهر الفساد في الأرض بزعمهم، فهو خائف من موسى ومن معه أن يفسدوا ويظهروا الفساد في الأرض، وهم يعنون بذلك دين الله سبحانه وأن فيه الفساد، وكذلك نظر الكفار في كل عصر من الأعصار، فإنهم ينظرون إلى دين الله على أنه هو الفساد، وأنه الذي لا يراد، ولذلك قال كفار قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب الله: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً، أي: دين الإسلام، فغرور الإنسان يدفعه إلى أن يعظم نفسه ويقول: أنا سباق للخير، لو كان الدين هذا خيراً لكنت أنا من أصحابه، فطالما أني لست من أصحابه فهذا ليس خيراً، هذه هي نظرة الكفار لجهلهم وحماقتهم، قالوا ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا بأول من قال ذلك، فهذا فرعون قال ذلك قبلهم بآلاف السنين، قال ذلك لموسى عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.(372/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر)
ثم قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27].
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ} [غافر:27]، أي: استجرت بالله، ألجأ إليه، وأعوذ به، وأعتصم وألوذ وأحتمي به سبحانه وتعالى، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} [غافر:27] هذا موسى وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأن بني إسرائيل لم يكونوا مع موسى على استقامة دائمة حيث يدعوهم لجهاد فرعون، فإنهم كانوا يخافون، فموسى يجد نفسه وحيداً ليس معه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]، أي: من كل إنسان متعاظم في نفسه، كفر بالله، وكفر باليوم الآخر، وظن في نفسه أنه يقدر على كل شيء، فأعوذ بالله من فرعون ومن معه، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} [غافر:27].
وفي هذا بيان للعقيدة الصافية، فموسى يقول لفرعون: ربي هو ربك، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} [غافر:27] أي: عذت بالذي هو ربي والذي هو ربك، فلست رباً ولست إلهاً، وإنما الرب الذي خلقك والذي يستحق العبادة هو الله وحده سبحانه وتعالى، فقال لفرعون: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27].(372/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه)
قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] ظهر الآن من يدافع عن موسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان يتلطف في ذلك، وهو الرجل المؤمن الذي ذكر الله عز وجل أنه من آل فرعون، وهذا هو الراجح في سياق الآية وما في معناها: أن هذا مؤمن من آل فرعون، من أقباط مصر، فأهل مصر كان يطلق عليهم الأقباط، فهذا الرجل قبطي من أهل مصر، وليس من بني إسرائيل، رجل مؤمن يكتم إيمانه، فقال لفرعون وهو يكتم الإيمان: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] والمعنى: ماذا عمل موسى؟ أتحاسبونه على تفكيره؟ أتحاسبونه على كلام يقوله؟ هل فعل فيكم شيئاً؟ أقتل منكم أحداً؟ لم تريدون أن تفعلوا به هذا الأمر؟ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، أي: جاءكم بآيات بينات رأيتموها قبل ذلك، فقد رأى فرعون اليد والعصا، فقد أخرج موسى يده فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ثم وجدوا الآيات الأخرى التي ساقها الله عز وجل في سورة الأعراف: السنين، والنقص من الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
{وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} [غافر:28] هنا نلحظ التلطف في الخطاب، فإنه لو قال لهم: أنا مؤمن معه لقتلوه مباشرة، ولكنه تلطف معهم في الخطاب من أجل أن يتدرج معهم في الحجج، فقال لهم: انظروا وتدبروا وتأملوا وتفكروا، لقد أتى لكم بآيات قبل ذلك، آيات بينات، وأنتم رأيتموها، وكنتم تقولون له: ادع لنا ربك، أي: أنه أتى بالآيات هذه من عند ربه، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} [غافر:28]، هنا إدخال الشك في نفس الإنسان المجادل المخاصم، فهو يقول لهم: إذا فرضنا جدلاً أن موسى هذا كان كذاباً فذنبه على نفسه، أما إذا كان صادقاً فكيف يكون الأمر؟! ففكروا فيما جاءكم به، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28].
ومؤمن آل فرعون هذا قيل: اسمه حبيب النجار، وقيل: اسمه شمعان، أو حزقيل، لكن لا يهمنا اسمه، وإنما الذين يهمنا هو فعله العظيم الجميل، وجداله بالتي هي أحسن مع هؤلاء، والتدرج معهم في البيان حتى يقبلوا منه هذه الحجة أو يرفضوها، فيقول لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28].
يقول لهم: موسى عليه الصلاة والسلام لم يذنب، فما الذنب الذي جناه حتى تقتلوه؟ {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] فتفكروا في الآيات واتركوا ما يقوله الآن، ولكن انظروا في الآيات، ولذلك لمعرفة أي رسول أنه رسول لابد أن يأتي بآية، فإذا أتى بمعجزة يقهر بها البشر، ويرون أنه صادق فيما يقول، وأنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثل ما أتى به؛ فيلزمهم أن يصدقوه فيما يقول، أي: أن للناس على أي رسول أن يقولوا: هات آية تثبت أنك رسول من عند رب العالمين، فيأتيهم بمعجزة يتحداهم بها، معجزة يتحدى بها القوم ويعجزهم أن يأتوا بمثلها، فإذا غلبوا فيلزمهم أن يصدقوا وأن يؤمنوا بما جاء به من شريعة من عند رب العالمين.
ولهذا قال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، ثم افترضوا: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28]، أي: إذا كان يكذب على الله فالله عز وجل سوف يحاسبه ويعاقبه، ولو كان صادقاً {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]، وهو يعدكم بالجنة في الآخرة فسوف يصيبكم من الجنة، ويعدكم في الدنيا بأن يؤتيكم الله الثمرات ويؤتيكم البركات ويؤتيكم الخير، فسوف يصيبكم بعض الذي يعدكم من خير ومن نعم من الله عز وجل.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر:28] أي: على نفسه في معصية الله سبحانه وتعالى بسفك الدماء، أو بفعل الحرام، {كَذَّابٌ} [غافر:28] أي: مفتري، يفتري على الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(372/6)
تفسير سورة غافر [26 - 28]
إن الله سبحانه وتعالى إذا طمس بصيرة العبد فإنه يصبح لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، بل يدعو على نفسه بالهلاك بدلاً من اتباع الحق المبين، وذلك كفراً وعناداً، وفي هذه الحالة على المؤمن التقي الالتجاء والرجوع إلى ربه سبحانه، وعليه أن يقيم الحجة على خصمه بالتي هي أحسن.(373/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه لا يؤمن بيوم الحساب)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:26 - 33].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن فرعون قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، وكان هذا حين أرسل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات إلى فرعون يدعوه إلى عبادة الله سبحانه، وترك ما هو فيه من كفر وضلال، وعلو واستكبار على الخلق، فقال فرعون: ذروني، أي: دعوني أقتل موسى، (وليدع ربه)، وكأنهم خوفوه من دعاء موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد رأى قبل ذلك كيف دعا عليهم موسى عليه السلام فابتلاهم الله سبحانه بالسنين ونقص من الثمرات وغير ذلك من الآيات، فخوفه قومه من دعاء موسى فقال: وليدع ربه، فتهور فرعون في هذا الأمر، وهذه سمة من سمات الكفار: التهور في أمر الدعاء، والتهور مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتهور مع ربهم سبحانه وتعالى، يتبجحون ويتهورون ويطلبون ما فيه هلاكهم.
وقد جربوا مع موسى عليه السلام مرات كثيرة كيف أنه دعا عليهم فاستجاب الله عز وجل دعاءه، فكأنهم خوفوا فرعون من ذلك، لكن الرياسة والملك كانت أهم عند فرعون من أن الناس يخوفونه من دعاء موسى، وأهم عنده من الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (وليدع ربه)، وبين لهم السبب فقال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ودينهم هو عبادة فرعون، يعبدونه من دون الله، فإنه قد استخف قومه فأطاعوه، استخفهم فأوهمهم أنه إله، وأنه ربهم، وأن له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته، وهم قد كانوا ضعاف العقول، فاستخفهم بطيشه، وبغبائهم، وحماقتهم صدقوه فيما يقول {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، منسلخين عن دين الله سبحانه، خارجين عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
يضحك عليهم فرعون ويخدعهم بكلام باطل ويقول لهم: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، انظر إلى خداعه وكذبه، وانظر إلى غباء هؤلاء الذين معه، فهم تركوا التفكر في الآيات التي جاء بها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وصدقوا فرعون فيما قال لهم، مع أنه لا أحد منهم يعتقد أن فرعون هذا رب، ولا أنه يستحق العبادة، ولكن فرعون قوي، وهو من منطق القوة يكلمهم: أليس لي ملك مصر؟ من ينازعني؟ هذه الأنهار تجري من تحتي، أليس أنا الذي عملت هذه الأنهار؟ إذاً أنا ربكم الأعلى، فيصدقونه، ويقول: اعبدوني، فيعبدونه من دون الله، فقد كانوا ضعاف العقول، أغبياء، وصفهم الله عز وجل بذلك: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، أطاعوه في غضب الله، وفي معصية الله سبحانه وتعالى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
وكذلك كل قوم يتابعون الأقوى حتى ولو لم تكن معه حجة فهم قوم فاسقون، الذين لا يعملون عقولهم، ولا يفكرون في آيات الله، ولا في شرع الله، ولا في دين الله، وإنما ينظرون من القوي فيقولون: نحن مع الأقوى، نخاف على أنفسنا ونخاف على عيالنا ونخاف على بيوتنا، ولذلك نمشي مع الأقوى حتى ولو كان على حساب الدين، وعلى حساب توحيد الله سبحانه وتعالى.
فهذا فرعون قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، فلا يهمه الدعاء، فاستدعى على نفسه غضب الله سبحانه، واستعجل هلاكه، وكذلك فعل كفار قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دعوا على أنفسهم، فقد قال أبو جهل وأمثاله: اللهم إن كان هذا - يعني الدين الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم- {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، بدلاً من أن يطلبوا من الله الهداية إلى هذا الدين؛ طلبوا العذاب والمطر من السماء الذي يكون فيه هلاكهم، فالكافر يستدعي على نفسه غضب الجبار سبحانه وتعالى، ويقرب نفسه من عذاب النار والعياذ بالله، هؤلاء هم الكفار وهؤلاء أسلافهم من قوم فرعون، وأبو جهل كان فرعون هذه الأمة، وهذا فرعون موسى، فهذا طلب الهلاك وذاك طلب الهلاك، وقال: (وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم)، هذا الدين الذي يدعيه فرعون قال: أخاف أن يبدل دينكم فتطيعون موسى وتطيعون الله سبحانه، (أو أن يظهر في الأرض الفساد)، أي: يظهر موسى في الأرض الفساد، وهو يقصد بذلك دين الله سبحانه وتعالى.
وكذلك الكفار في كل زمان ومكان، ينظرون إلى دين الله سبحانه فينفرون الناس عنه، ويقولون عن أهل الإيمان: هؤلاء هم المخرفون، هؤلاء هم المفسدون، هؤلاء هم الإرهابيون، هؤلاء أصحاب الكتب الصفراء، يرمون أهل الحق بالضلالات وبالباطل، فيقولون عنهم: إنهم أهل الفساد، وقد قالوها عن موسى، وقالوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه، فصدقهم الجهال وضعفاء العقول، وقالوا: هذا صحيح، فإن فينا فلاناً وفلاناً، كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، أي: لو أن القرآن نزل على واحد عظيم من قريش، على أبي جهل مثلاً، أو على عروة بن مسعود الثقفي، لماذا نزل القرآن على محمد؟! هذه نظرتهم الغبية، ولم ينظروا إلى هذا القرآن، وما فيه من إعجاز ومن تحد، فإنه قد تحداهم فلم يقدروا على مثله، فهم لم ينظروا إلى ذلك، وإنما نظروا إلى من الذي نزل عليه هذا القرآن؟ كما نظرت اليهود من الملك الذي ينزل من السماء إلى الأرض بهذا القرآن؟ فإذا كان جبريل فهذا عدونا، ونحن لا نريده وإنما نريد ملكاً آخر أين عقول هؤلاء؟! لم يتفكروا في هذا القرآن، وإنما نظروا بكفرهم وبغبائهم ورأوا أنهم على ملة لا يريدون تركها، فلم يتفكروا فيما جاء من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
حينما قال موسى متعوذاً بربه سبحانه، لاجئاً إليه، معتصماً به: (إني عذت)، أي: لجأت إلى الله سبحانه وتعالى، واعتصمت به سبحانه، واحتميت به: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]، متكبر أي: متعظم في نفسه، لا يؤمن بيوم الحساب.(373/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)
قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]، والمفسرون اختلفوا في هذا الرجل المؤمن: هل هو من آل فرعون، أي: من قوم فرعون، من أقباط مصر، أم أنه رجل من بني إسرائيل مع موسى؟ وهذا الرجل يكتم إيمانه من فرعون، أي: كأن في الجملة تقديماً وتأخيراً على هذا القول، فيكون المعنى: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون، والأول أصوب، وهو أنه رجل من قوم فرعون، من آل فرعون، أي: رجل من أهل مصر؛ لأنه يخاطب قومه بعد ذلك ويقول: يا قومي، يا قومي: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]، فدل على أنه منهم، ولكنه كان مؤمناً رضي الله عنه.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] فهو لم يقل: أنا مسلم مع موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كتم إيمانه وجادل فرعون وقومه بالحجج، ودعاهم أن يعملوا عقولهم، فما دام أن هذا الرجل جاء لكم ببينة فلماذا لا تنظرون في البينة التي جاء بها؟ لماذا لا تناقشونه فيما جاء به؟ فلعله يكون صادقاً فيصيبكم بصدقه بعض الذي يعدكم، وإن كان كاذباً فالله لا يهدي المسرف الكذاب، فتعالوا نفكر فيما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام بدلاً من رده، وبدلاً من توبيخه وإرادة قتله.
فقال هذا الرجل المؤمن: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] يعني: ما جريمته؟ هل أجرم معكم؟ هذا الرجل يتكلم فلماذا لا تناقشونه بالحجة وبالعقل بدلاً من قتله؟ هل لأنه يدعوكم إلى الله تقتلونه؟ قال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] إذاً: له عذره، فقد أتاكم ببينات، ففكروا في هذه البينات، وانظروا في هذه الآيات، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28]، وبدأ بتقديم الكذب على الصدق لأنه هو منهم ويكتم أنه مؤمن فقال: إن يكن موسى هذا كاذباً فعليه كذبه، وربه سيعاقبه؛ لأنه يكذب عليه، وإن كان صادقاً فاتباعه فيه الفلاح والنجاة لنا جميعاً.
{وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]، مسرف، أي: على نفسه في المعاصي، وكذاب: يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه وتعالى.
هذا قول الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وقد ناقش الموضوع بكلام طيب، حيث انتقل من شيء إلى شيء، حتى إنهم في النهاية علموا أن هذا مؤمن مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(373/3)
أبو بكر الصديق ومؤمن آل فرعون
هذا الرجل العظيم كان مثله في أمتنا سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، حيث يذكره علي رضي الله عنه ويقول: أبو بكر الصديق خير من مؤمن آل فرعون، مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه وأبو بكر الصديق كان يظهر إيمانه رضي الله عنهما.
وهناك قصة ذكرها الإمام البخاري مختصرة، وساقها الإمام أحمد مطولة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث سأله عروة بن الزبير فقال له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، أي: عند الكعبة في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط! سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم! يذكرون هذا بنوع من التغيظ على النبي صلى الله عليه وسلم، وبنوع من إيقاد الشر عليه عليه الصلاة والسلام، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، أي: أراد أن يطوف بالكعبة عليه الصلاة والسلام، ثم مر بهم طائفاً وهم عند الحجر فغمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، أي: شتموا النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف عبد الله بن عمرو بن العاص ذلك في وجهه، أي: رأى وجه النبي صلى الله عليه وسلم تغير وغضب صلى الله عليه وسلم لما قالوا، ولكن صبر صلى الله عليه وسلم ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، قال: فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى، فلما مر بهم الثالثة غمزوه بمثلها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أتسمعون يا معشر قريش؟! أتسمعون يا معشر قريش؟! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)، أي: بهذه الشريعة التي فيها استئصال الكفار الذين يظهرون العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدين الله سبحانه وتعالى.
قال عبد الله بن عمرو: فأخذت القوم كلمته عليه الصلاة والسلام، فكأنهم فزعوا مما قاله صلى الله عليه وسلم، وأسكتهم الله فلم يقدروا على الرد والجواب، قال: حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً، يعني: اتركنا في حالنا، فانصرف النبي صلوات الله وسلامه عليه.
حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، قال عبد الله بن عمرو: وأنا معهم، أي: كان ما زال كافراً، قال: فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منه، وما بلغكم عنه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه، أي: بدأ بعضهم يحرض بعضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يريدون أن يضربوه، ويريدون قتله عليه الصلاة والسلام.
قال: فأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ مما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، يقولون: أنت تشتم آلهتنا، وتشتم ديننا، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك، فقد كان شجاعاً صلوات الله وسلامه عليه، فلا يهمه أمرهم، مع أنهم قاموا له قومة رجل واحد، ولا أحد يوجد ليدافع عنه صلى الله عليه وسلم إلا حين بلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه، يقول عبد الله بن عمرو: فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: ذروه، أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه.
هذا في رواية الإمام أحمد، وفي رواية الإمام البخاري قال: فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فهجموا عليه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم فوضع أحدهم رداءه في عنقه، وهو المجرم الملعون عقبة بن أبي معيط لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فوضع رداء النبي صلى الله عليه وسلم في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟! فهجموا على أبي بكر رضي الله عنه، وضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه، فجعل لا يمس شيئاً من شعره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
أبو بكر الصديق أظهر إيمانه ودافع عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ونصر الله عز وجل به هذه الأمة في حرب الردة لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد عن دين الله عز وجل، فقام أبو بكر وحده وثبطه كثيرون، فأبى إلا أن يقوم لينصر دين الله سبحانه وتعالى، وقال: لأقاتلن حتى تنفرد سالفتي، أي: أقاتل هؤلاء المرتدين حتى أكون وحدي لا أحد معي، أقاتل حتى تنفرد سالفتي، يعني: حتى أقتل، فيكون معه عذر عند الله، فأيد الله عز وجل به هذا الدين، وقام الناس معه، ورجع دين الله إلى ما كان، ونشر الله هذا الدين بفضله سبحانه وتعالى ثم بما صنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فهذه مقولته وهذه مقولة مؤمن آل فرعون قبله: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ هذا دافع عن موسى وذاك دافع عن نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، وأن يثبت المؤمنين في كل زمان ومكان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(373/4)
تفسير سورة غافر [28 - 34]
ذكر الله سبحانه قصة الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ودعوته لقومه وتحذيره لهم، ولما توعد فرعون بقتل موسى حذره من قتله، وذكر له كيف أن الله أهلك الأمم السابقة بسبب تكذيبهم لرسلهم، وقال: كيف تقتلون رجلاً لأنه يقول: ربي الله، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟! وبعد أن خوفهم بالعقوبة في الدنيا حذرهم من عقاب الله لهم في الآخرة، ولكنهم لم يستجيبوا ولم يرعووا.(374/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:28 - 34].
عندما ذكر الله سبحانه وتعالى أن مؤمن آل فرعون دافع عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما غضب فرعون من موسى وأراد قتله، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، فتعوذ موسى بربه، ولجأ إليه، واعتصم به سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] فانبرى هذا الرجل المؤمن، وهو من قوم فرعون، أي: من أقباط مصر، وليس من قوم موسى، أي: ليس من بني إسرائيل، وكأن الرجل له مركز بحيث إنه يكلم فرعون ويكلم من معه وينصحهم، فقام هذا الرجل المؤمن، وكان يكتم إيمانه حتى أظهره بعد ذلك، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، أي: أتحاسبون موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- على ما يتكلم به ولم يجرم في حقكم؟ فهل قوله: ربي الله يعتبر جريمة يستحق عليها أن يقتل؟ وليس فقط يقول هذا، ولكنه جاءكم ببينات وبأشياء تدل دلالة واضحة على صدقه فيما يقول، قال تعالى: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] أي: لنفرض أنه كاذب فهو يتحمل هذا الكذب، ولكن لو كان صادقاً فماذا يكون الأمر؟ قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] فإذا كان صادقاً فوافقتموه واتبعتموه أصابكم الذي يعدكم من بركات السماء والأرض، وأصابكم وعد الله سبحانه بأن يدخلكم جنات النعيم في الآخرة، وإن لم تتبعوه أصابكم بعض الذي يعدكم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] المسرف: هو من أسرف على نفسه بالمعاصي، والكذاب: هو الذي يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه وتعالى.(374/2)
تفسير قوله تعالى: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض)
قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] واضح أن خطاب هذا الرجل المؤمن مع قومه فيه التلطف وفيه اللين وفيه الحجج العقلية والإقناع، فلم يأمرهم مباشرة، ولكنه تلطف في الوصول بهم إلى أن يعرفوا الحق، ويحكموا عقولهم فيما يقوله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال متلطفاً بهم: يا قوم أنا أريد لكم الخير، وهنا أظهر هذا المؤمن الإيمان الذي أبطنه في قلبه، فخوفهم من بطش الله وبأسه في يوم القيامة، وقال لهم قبل ذلك: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} [غافر:29] والظهور: هو العلو والرفعة في الأرض، فهم ملوك في الأرض، وكانت لهم المناصب والقوة، ولكن يوم تأتون إلى ربكم سبحانه لا حول لكم ولا قوة، وقد كانوا في الدنيا عالين في الأرض، وغالبين غيرهم، قال: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] أي: إذا جاءنا العذاب من عند الله فمن الذي يدفع عنا نقمته وعذابه؟ فهذه الحجج العقلية التي قالها تقتضي أنه لا بد وأن يؤمنوا بما يقول، فقد جاءهم موسى بتسع آيات بينات، وكانوا يرونها ولا يقدرون عليها أبداً، وهي: يده التي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فكذبوا واعرضوا فأرسل الله عز وجل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آية وراء آية، فكل آية تأتيهم من هذه الآيات يجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فهم عرفوا أنهم لا قبل لهم ولا طاقة لهم بهذه الآيات التي يأتيهم بها موسى من عند ربه سبحانه وتعالى.
وفرعون فهم ذلك، ومع ذلك استخف بمن معه، فملكه ورياسته جعلته لا يأبه لذلك، المهم أن يكون هو الغالب العالي على غيره، فطرد موسى وأظهره أمام الخلق أنه كذاب، فقال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] فالإنسان الذي بيده القوة والمنصب والرياسة، إذا أقنعته بالعقل في أشياء معينة لا يعمل عقله فيها، فالرأي رأيه طالما أن القوة معه، وهذا في كل الأرض يحدث ذلك، فمهما تكلم البشر عن الحرية وعن المساواة وعن العدل وعن الديمقراطية وعن كذا وكذا، فإنهم يكذبون إذا لم تكن شريعة الله عز وجل تحكمهم، فلا بد من وازع في القلب، فالقلب يخاف من الرب سبحانه وتعالى، ويجعل الإنسان لا يعصي الله ويمتنع من أخيه الإنسان أن يؤذيه؛ لأنه يعلم أنه سيرجع إلى الله وسيحاسبه يوم القيامة.
أما الخوف من الحكومة أو من الشرطة أو من القوة فهذا خوف في الظاهر، وهذا في طبيعة البشر، فلذلك ربنا سبحانه نزل الشريعة التي فيها الحكم بالعدل، وفيها التخويف من الله سبحانه وتعالى بأنه سيجازي ويحاسب الناس يوم القيامة، وأنهم إليه راجعون ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وفيها الحكم الذي يُحْكَم به العباد، فيأمر الله السلطان بأن يحكم بما أنزل الله، فيقطع يد السارق، ويرجم الزاني الثيب، ويجلد الزاني البكر، ويجلد من يقذف المحصنات المؤمنات وهكذا، فيقيم الحدود التي أمر الله عز وجل بإقامتها.(374/3)
صاحب القوة هو صاحب القرار في شريعة الغاب
والشيء الذي يجعل الناس يخافون من الوقوع في المعاصي هو ما في قلوبهم من الإيمان، فإذا لم يكن فيها إيمان فمهما ادعى الإنسان الحرية والمساواة والعدالة فهذا كذب كله، والعالم كله يتكلم عن العدالة وعن المساواة وعن الحرية وعن كذا وكذا، لغاية ما تعلو دولة من الدول، وفي النهاية تكون النتيجة بحسب ما يريدون، فيحتلون بلاد المسلمين لأنهم ضعاف مغلوبون منكوسون، أما الدولة القوية أمريكا فهي أعلى الدول، ومن حقها أن تفعل ما تشاء، فالمسلون ليس معهم قوة مثل قوتها من أجل أن يقولون لها: لا تفعلي كذا، فتتكلم أمريكا بمنطق فرعون وبمنطق الغابة: نحن الأقوى وصوتنا الأعلى نحن الذين نتكلم وغيرنا يسمع نحن الذين في أيدينا أن نؤدب من نشاء، وأي دولة أو رئيس دولة يمشي شمالاً أو يميناً فإننا نؤدبه ونسجنه ونبعث له القوات وغيرها!! فهم يكذبون وجنودهم يقتلون ويدنسون المصاحف، ولا أحد يقدر أن يمنعهم، فأين الحرية؟ وأين المساواة؟ وأين العدل؟ وأين الديمقراطية؟ فكل ما يدعونه كذب، فليس يحكمهم شيء من عند ربنا سبحانه وتعالى، فالذي يحكمهم هو قانون الغاب للأقوى، فيعملون ما يريدون، وغيرهم يمنع عن ذلك، فيصنعون القنبلة الذرية ويمنعون غيرهم، ومن أراد أن يصنعها فإنه يفتش ويعاقب ويحتل دياره وأرضه بدعوى أنه يصنع سلاح الدمار الشامل! أما هم فلا؛ لأنهم الأقوى فيفعلون ما يشاءون، فهذا منطق الغابة، الذي تفعله أمريكا وأوروبا وكل من يملك القوة.(374/4)
سبب تسلط اليهود على المسلمين
ولذلك فإن ربنا أمرنا بأن نعبده فعصيناه، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فقلنا: منطق القوة كان زمان الاستعمار، ونحن في هذا الوقت في حرية ومساواة وعدالة وتنوير وكذب وضلال وبعد عن ربنا سبحانه وتعالى، ففجر الكثيرون من المسلمين، وتركوا دينهم وراءهم ظهرياً، وحاربوا ربهم سبحانه وتعالى، فاستحقوا الضلالة التي هم فيها، واستحقوا سخط الله سبحانه وتعالى.
والمسلمون يحاربون ربهم بأفعالهم المخالفة، فترى النساء العاريات يحاربن الله سبحانه وتعالى، فإذا قلت لعارية منهن: اتقي الله، قالت لك: وأنت ما لك؟! هذا شأني وليس لك دخل بي! فتحارب ربها جهاراً نهاراً وتأبى أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وإذا قلت لرجل: كيف تترك ابنتك عريانة هكذا؟ رد عليك: وأنت ما لك، اتركها حرة فإنها لا تزال صغيرة، يا أخي! أنتم تريدون أن تكتفوهن وتدخلوهن داخل الخيمة وتلبسوهن النقاب، وتعملوا لهن كذا وكذا فهؤلاء لا يستحقون النصر أبداً، ولا يستحقون إلا ما فعله الله ببني إسرائيل، الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فسلط بني إسرائيل على المسلمين، فإذا بهم يدوسونهم بالأقدام في كل مكان في العالم.
فإسرائيل تعلن للعالم أن الذي يتكلم عن اليهود فإنه يحارب السامية، ومن فعل ذلك فوفقاً للقانون أنه يسجن، أما هم فيتكلمون ويتبجحون والمسلمون قد أخرسوا وسكتوا؛ لأنهم حاربوا ربهم سبحانه؛ ولأنهم كذبوا على الله، وأكلوا السحت، وانتشر بينهم الفساد، وانتشرت فيهم الأخلاق الكاذبة، ولا يقبل أحدهم أن ينصح في الله أو يقبل النصيحة، فمن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر يقول الناس عنه: فلان رمى بنفسه إلى المخاطر! فمنطقهم: أنا في حالي وأنت في حالك، واترك الإجرام ينتشر، والزنا يكثر، والفواحش تملأ الدنيا، وليس لك دخل في ذلك! فكان منطقهم مثل منطق فرعون لما قال لقومه: ما أريكم إلا ما أرى، فأنا على الحق، وأنا المبصر وأنتم العميان، فقال لهم كما قص الله ذلك {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، أي: أليس أنا الملك؟ فهذه الأنهار التي تجري من تحتي هي من عملي، أفلا أستحق أن أكون رباً؟ فيجيب قومه: بلى أنت الرب، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] أي: لعب بعقولهم الخفيفة، ويبدو أن هذه كانت طبيعة المصريين في الماضي، وأن الذي يملكهم فإنه يقنعهم بمنطق العصا، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، ومعنى فاسقين: خارجين عن دين الله وطاعته سبحانه وتعالى.
وفرعون قال لقومه لما ناقشه الرجل المؤمن بالبينات وبالمنطق وبالعقل: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، أي: أنا وحدي فقط الذي أعرف سبيل الحق والرشاد! وموسى لا يعرفه ولا غيره، فأنا الذي أهديكم إلى الحق، فاعبدوني، والعياذ بالله!(374/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] أي: يا قوم! خافوا من ربكم سبحانه وتعالى، وتذكروا ما الذي صنع بمن قبلكم؟ الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتجمعوا عليهم بالباطل وأرادوا الكيد لهم، فأهلكهم الله تعالى، وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، قال الله تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:31] فأين ذهب قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود والذين من بعدهم؟ قال الله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] أي: الله لا يريد الظلم بالعباد، وإنما يريد أن يحق الحق سبحانه وتعالى.
فخوفهم بالعقوبة في الدنيا كما حدث للسابقين، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] فالسابقون عاقبهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، فاحذروا أيها القوم من عقوبة الله لكم في الدنيا ثم عقوبته يوم القيامة.(374/6)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد)
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] يوم التناد: هو يوم التناجي، يوم ينادي الناس بعضهم بعضاً، ويستجير بعضهم ببعض فلا مجير ولا عاصم ولا ملجأ من الله إلا إليه.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] هذه الآية فيها قراءتان: قراءة ورش وابن وردان بوصل كلمة (التناد) بما بعدها، فيثبتان الياء، وعند الوقف عليها يحذفان الياء.
أما ابن كثير ويعقوب فيقرأان: (يوم التناد) وصلاً ووقفاً.
ويوم التناد: هو يوم القيامة، مأخوذ من النداء الذي هو الصراخ، فإنه يصرخ بعضهم على بعض، وينادي بعضهم بعضاً، فيقول أهل الجنة لأهل النار: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44] وينادي أهل النار أهل الجنة، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] فيرد عليهم أهل الجنة: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
وينادي أصحاب الأعراف أناساً يعرفونهم بسيماهم، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:48] فأصحاب الأعراف ينادون المستكبرين من أهل النار: هل رأيتم عذاب رب العالمين؟ هل رأيتم وعد الله وقد تحقق بكم؟ ويتعوذون بالله أن يجعلهم معهم، والملائكة تنادي أهل الجنة وأهل النار فيرفعون أعناقهم إلى النداء، فيرون الموت ويقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
وينادي أهل النار مالكاً، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
وينادون ربهم سبحانه وتعالى فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيوم القيامة هو يوم التناد.
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: [32 - 33] وهذه الآية مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] فكل إنسان يهرب من الآخر، ويقول: نفسي نفسي، قال تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:33] أي: يعطي كل واحد منهم دبره للآخر، ويفر منه ويعطيه ظهره، ويمشي بعيداً عنه، فلا الزوج ينفع زوجته، ولا المرأة تنفع زوجها، ولا الابن ينفع أباه وهكذا، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:33] أي: من منجٍ يعصمكم ويدافع عنكم أمام عقوبة رب العالمين سبحانه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:33] أي: من أضله الله وختم على قلبه فمن الذي يهديه من بعد الله سبحانه وتعالى؟!(374/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)
قال لهم: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] يعني: أن موسى ليس جديداً عليكم بأن يدعوكم دعوة التوحيد، فيوسف كان من قبله ودعا ملك مصر إلى ربه سبحانه وتعالى، وكان على خزائن الأرض يحكم بالعدل، ويوحد ربه سبحانه وتعالى، {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر:34]، فمنكم من آمن وصدق، ومنكم من شك فيه وكذب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، أي: توفاه الله سبحانه، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]، أي: زعمتم أنه آخر الرسل ولن يأتي إليكم من بعده أحد قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(374/8)
تفسير سورة غافر [34 - 37]
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن مناظرة وجدال الرجل الصالح مؤمن آل فرعون لفرعون ومن معه، وأنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، وذكر لهم ما حل بالأمم السابقة التي كذبت الرسل، كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وكيف أن الله أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، ومع هذا كله أصر فرعون على كفره وطغيانه، حتى أهلكه الله وقومه بأن أغرقهم في البحر.(375/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها عن مناظرة وجدال مؤمن آل فرعون لفرعون ومن معه، ودعوتهم إلى أن ينظروا في كلام موسى وأن يتريثوا، فلا يحكموا عليه حتى يروا ماذا يقول، وحتى يتدبروا كلامه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكان يخاطبهم بقوله: يا قوم! يا قوم! يتلطف معهم، ولم يظهر لهم إيمانه في البداية لعلهم يحكمون عقولهم، وحتى لا يصدوه عن سبيل الله سبحانه وتعالى إذا علموا أنه مؤمن، فكأن هذا المؤمن التقي أخفى إيمانه من هؤلاء خوفاً منهم، هذه ناحية، والناحية الأخرى: أنه أخفى إيمانه لأنه لو بدأ وقال: أنا مؤمن مع موسى، لكذبه فرعون ولأعرض عنه ولم يستمع إلى ما يقوله، ولذلك كتم إيمانه في البداية وبدأ يقول: تفكروا إذا كان هذا الرجل كاذباً فالله سيحاسبه على كذبه، وإذا كان صادقاً فسيصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو يعدكم بأنكم إذا آمنتم فلكم الجنة، وإذا كفرتم فلكم النار، وقد جربتم العذاب قبل ذلك، فلم لا تفكرون فيما يقول موسى عليه السلام؟ ثم ذكرهم بما حدث للأمم السابقة فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] قوله: (مثل يوم) أي: جنس الأيام التي جرت على الأحزاب الذين كانوا من قبلكم، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وغيرهم ممن تحزبوا على أنبياء الله وأرادوا إيذاءهم وقتلهم، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، فخوفهم بعقوبة الدنيا، ثم خوفهم بعقوبة الآخرة فقال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] أي: يوم القيامة يوم يستغيث بعضكم ببعض فلا ينفع بعضكم بعضاً.
ثم ذكرهم هذا الرجل المؤمن بأنه قد جاءهم قبل موسى نبي آخر وهو يوسف عليه السلام، جاء إلى مصر وكان يعمل على خزائن الأرض حفيظاً وأميناً ووزيراً لملك مصر، ودعاهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، فهو لما كان في السجن قال لمن معه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39 - 40] فأخبرهم بأن الإله الواحد سبحانه خير، وأن الأرباب المتفرقة التي تدعى شر، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لفسدت السماوات والأرض، والمعروف عند البشر أنه إذا وجد أكثر من رئيس في مكان واحد يتعارض هذا مع هذا، وكل منهما يريد أن ينفذ ما يريد، فإذا كان هناك مركب واحد فيها رئيسان فستغرق المركب في النهاية؛ لأنه لا يصلح للسفينة إلا ربان واحد، ولا يصلح للعمل إلا رئيس واحد، فكيف يكون لهذا الكون كله أكثر من إله يحكم فيه ويدبره؟ قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] أي: أنهم سموا أشياء فعبدوها من دون الله سبحانه، عبدوا البقر وعبدوا العجل وعبدوا القمر وعبدوا الشمس وعبدوا أشياء كثيرة، حتى جاء فرعون فاستكثر هذه الأشياء {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] كأن لهم أرباباً غير الله وهو الرب الأعلى لهؤلاء، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].(375/2)
دعوة يوسف قبل موسى عليهما السلام
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34] أي: بالحجج النقلية من ربه سبحانه وتعالى، وناقشكم بالحجج العقلية، ورأيتم ما قال لكم، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34] أي: توفي يوسف النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] فتطاول عليكم الأمد فرجعتم إلى عبادة غير الله سبحانه، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} [غافر:34] أي: كهذا الضلال الذي صرتم فيه وصرتم إليه {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] فهم قد ضلوا بعد يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتشككوا فيما يقول، ولما مات يوسف قالوا: انتهى أمر الرسالة وأمر النبوة، ولن يأتينا رسول آخر، ارجعوا إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى، فتشككوا في أمرهم فعبدوا غير الله، فمثل هذا التشكك ومثل هذا الضلال الذي صاروا إليه يضل الله سبحانه وتعالى كل إنسان يسرف على نفسه بمعصية الله سبحانه وتعالى.
والإسراف: هو التجاوز للحد في معصية الله سبحانه، فالإنسان الذي يعصي ربه سبحانه ينكت الله في قلبه نكتة سوداء، فإذا عصى ثانياً فعل به هكذا، وإذا عصى ثالثاً فلا يزال يطبع على قلبه بنكتة سوداء وأخرى سوداء وثالثة سوداء حتى يصير في غفلة، فيضله الله سبحانه فلا يتبين له الهدى أبداً.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] أي: من هو متشكك في دين الله سبحانه.(375/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] أي: هؤلاء المسرفون وهؤلاء المرتابون الذين يجادلون بغير بينة، وإنما يجادلون للجدل فقط، ولذلك الشياطين توحي إلى هؤلاء بأن جادلوا المؤمنين حتى يرجعوا عن دينهم وحتى يتكلموا بالباطل، فهذا الإنسان المبطل يفرح بما يقول، فهو يجادل للجدل فقط، فتراه يقول لك: أنا ناظرت فلاناً وغلبته، وناظرت فلاناً فلم يعرف أن يرد علي! تجده يفرح بما يقول، حتى لو كان ما يقوله كلاماً ساقطاً باطلاً فهو معجب بما يقوله، قال عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فهؤلاء المجادلون في آيات الله بغير حجة وبغير بينة وبغير دليل أتاهم به الله سبحانه يضلهم الله؛ فهم المسرفون المرتابون.
قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35] أي: صار شيئاً كبيراً عظيماً فاحشاً عند الله وعند المؤمنين أن يجادل إنسان بالباطل في دين الله سبحانه، وكبر مقت وغضب الله عز وجل على صاحبه، ويبغضه أشد البغض، فالمقت أعظم الكراهية، والمبغوض والمكروه عند الله سبحانه وتعالى وكذلك عند المؤمنين من يجادل بغير حجة وبغير بينة.
وقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو عمرو وابن عامر: (على كل قلبٍ متكبرٍ جبار) أي: الذي طبع على قلوب من قبله وجنوده وملئه سيطبع على قلوبهم، وكذلك كل إنسان يتكبر على دين الله سبحانه، ويتكبر على رسل الله، ويتكبر على من يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى يصير جباراً قاسي القلب صلباً عنيفاً قاسياً؛ لأن الله عز وجل يطبع على قلبه، فقوله: ((كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)) كأن المعنى على قراءة الجمهور: يطبع الله على قلوب الجبارين جميعهم قلباً قلباً، كل واحد يختم الله عز وجل على قلبه فلا يفقه ولا يفهم ولا يعي ما يقول، فإذا به يهرف بما لا يعرف، ويتكلم ويخوض فيما لا يعنيه، فيجادل في الله وفي آيات الله وفي رسل الله عليهم الصلاة والسلام بغير بينة.
أما القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عامر وقراءة أبي عمرو: ((كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)) فيكون المعني: أن صفة هذه القلوب الاستكبار والتجبر، فيطبع الله عز وجل على كل قلب صفته أنه متكبر وجبار، وصفة القلب هذه هي صفة لصاحبها، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فقلب الإنسان إذا كان صالحاً حكم بالصلاح على جميع الإنسان، وإذا كان فاسداً حكم بالفساد على الجميع، فالقلب هو الملك والأعضاء الرعية، فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، هذا هو المعنى الثاني على القراءة الثانية.(375/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً وما كيد فرعون إلا في تباب)
قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] أي: أن فرعون يريد أن يريهم بالتجربة العملية أن موسى هذا كذاب، فقال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ)) أي: ابن لي هرماً عالياً قوياً من أجل أن أطلع على الإله الموجود في السماء، فإن اطلعت عليه وإلا فهو كذاب، والنتيجة عند فرعون موجودة من قبل أن يستشير الناس، فقد قال: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) أي: من الآن كونوا على يقين أن موسى كذاب، لكن أن سأطلع من أجل أن أبين لكم أن هذا كذاب فيما يقول.
وقوله: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ)) هامان هو وزير فرعون الذي غره منصبه عن دين الله سبحانه، وعن النظر في آيات سبحانه، وعن التدبر فيما يقوله موسى عليه الصلاة والسلام، وظل يسير وراء فرعون، ويصدقه فيما يقول، فكان معه في الدنيا وسيكون معه في النار يوم القيامة والعياذ بالله.
قوله: {ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36] أي: ابن لي بناءًَ عالياً جداً حتى أصل إلى السماء، وأبحث فيها هل يوجد إله أم لا؟ ففرعون يستخف بقومه، قال: ((لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ)) أي: سأصل إلى أبواب السماء وسأفتح الأبواب، وسأنظر هل فيها إله أم لا؟ وسأنزل إليكم لأخبركم بما رأيت، لكن اعلموا أن النتيجة معلومة من الآن أن هذا كذاب.
قال الله تعالى: {أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] الأسباب بمعنى: الطرق، أو ارتفاعات السماء، أو الأمور التي تستمسك بها السماوات، فكأنه يقول: سنطلع نفحص السماء وننظر هل يوجد فيها إله كما يقول موسى أم أنه لا يوجد فيها إله.
قال تعالى: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:37] قوله: (فأطلع) يقرؤها بالنصب على السببية حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء يقرءونها: ((فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى)) على العطف، وتأتي بمعنى (ثم) للتراخي، فعلى الأولى: ابن لي صرحاً حتى أبلغَ الأسباب وحتى أطلعَ، فنصبت على ذلك، وعلى الرفع (فأطلعُ) كأنه يقول: ابن لي صرحاً فأصعد على هذا الصرح ثم سأطّلِعُ وأنظر إلى هذه السماوات حتى أثبت لكم أن موسى يكذب عليكم.
قال: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) أي: كأن فرعون متشكك هل أموسى كذاب أو ليس بكذاب، فيقول لهم: أنا أظن أنه كذاب، وسأطلع إلى السماء لأؤكد لكم كذبه، ففرعون متشكك، ومع أنه يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فكيف بإله يحكم بالظن؟! وهو يريد أن يبحث هل يوجد إله آخر أم لا؟! قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ)) أي: وكذلك بمثل هذه الصورة قد زين لفرعون سوء عمله، فهو رجلٌ عنده مال ومنصب وقوة، ولديه قوم خفاف العقول يسمعون لكلامه ويطيعونه، فزين له سوء عمله، فتراه يفرح بالذي يقوله، فكلما أتى بشيء كأنه أتى بما لم يأت به أحد قبله، ويعتقد أنه رجل ملهم؛ فهو يقول والناس تصدقه وتصفق له فيما يقول، وكذلك الضلال مثله يزين لكل ضال سوء عمله، فإذا به لا يقول شيئاً إلا ومن حوله يصفقون له، فيفرح بذلك.
وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى لكل ظالم؛ أنه يتركه مع شيطانه يزين له السوء، حتى يرى الخطأ ويرتكبه ويتأول لنفسه أنه على صواب، وأن ما يفعله هو الخير الذي لا بد أن يفعله.
قوله: ((وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ)) أي: صده الله سبحانه وتعالى عن الحق بأن ختم وطبع على قلبه، وقوله: ((وَصُدَّ عن السبيل)) هذه قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقراءة يعقوب وباقي القراء: ((وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ)) والمعنى: أنه زين له سوء عمله ففرح بما هو فيه من باطل، وتزين له الباطل أمامه فعمل به، وصد الناس عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: كيد فرعون في هلاك وخسارة، يقول الله سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16] فإذا كاد الله عز وجل لواحد من خلقه فلابد أن يغلبه وأن يقهره وأن يذله ويفضحه، كما فعل بفرعون لعنة الله عليه وعلى أمثاله، قال سبحانه: ((وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ)) أي: وما عمل فرعون فيما يكيد لموسى ويدبر من مؤامرات لموسى ليهلكه هو ومن معه، فإن كيده فِي تَبَابٍ وفي خسران وهلاك وضياع وباطل؛ لأنه يكيد لأنبياء الله ولأولياء الله، فالله عز وجل يكيد له، ولذلك أخذه الله من حيث لم يحتسب، فظن أنه سوف ينجو من اليم فأغرقه الله فيه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(375/5)
تفسير سورة غافر [38 - 45]
إن الدعوة إلى الله سبحانه تستلزم اللين والرفق فيها مع الناس، ولنا في مؤمن آل فرعون قدوة في ذلك، فهو قد دعا قومه بكل رفقٍ ولين، ولكنهم أرادوا قتله، فوقاه الله شرهم.(376/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:38 - 43].
في هذه الآيات يذكر الله عز وجل لنا مناظرة مؤمن من آل فرعون من أهل مصر لفرعون ومن معه، وقد أراد فرعون -كما تقدم- أن يقتل موسى ومن معه، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فانبرى هذا الرجل المؤمن مدافعاً عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقائلاً لهؤلاء: علام تقتلون هذا الرجل؟ تقتلونه لأنه يقول ربي الله؟ وماذا في ذلك؟ وقد جاءكم ببينات من عند ربه وقد رأيتم هذه البينات، فإن أطعتم هذا الرجل فيما يقول فإن كان صادقاً أصابكم بعض الذي يعدكم، وإن كان كاذباً فكذبه على نفسه وسوف يحاسبه ربه على ذلك.
قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] بدأ الكلام معهم وهو يقول: يا قوم، وكان يكتم إيمانه، فلم يزل يناظر ويذكر شيئاً فشيئاً ليتدبروا بعقولهم، حتى كشف لهم عن أمر نفسه، فقال: (اتبعوني)، أي: أطيعوني (أهدكم سبيل الرشاد)، وكان قبل ذلك قد كذب فرعون موسى وأنهى الحوار معه، قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] أي: رأيي هو الصواب، والذي أنا أقوله هو الذي سينفذ، ثم أراد أن يريهم آية لنفسه، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] أي: اجعل لي قصراً عظيماً وهرماً عالياً جداً من أجل أن أصعد إلى السماء وأنظر أين إله موسى الذي يزعمه، وأنا على يقين أنه كاذب، فلا يوجد إله في السماء، قال تعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} [غافر:37] إنَّ الذي زين لفرعون سوء عمله وزين له الكفر فاتبع هواه وقال: أنا ربكم الأعلى هو الشيطان، والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه، فلا يفهم ولا يفقه شيئاً، فهو يسير في طريق الضلالة، فقد أضله الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعجب بنفسه، وأعجبه رأيه، ولم يستمع إلى داعي الله، ولم يستمع إلى موسى الذي جاء بالآيات من عند الله سبحانه وتعالى.
فلما قال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] قال هذا المؤمن: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] أي: سبيل الرشد، طريق الله سبحانه وتعالى الذي ترشدون فيه وتعقلون فيه وتفهمون الحق، وتستحقون من الله عز وجل أن يدلكم على الجنة وأن يدخلكموها، فقوله: (أهدكم سبيل الرشاد) أي: طريق الهدى وطريق الجنة.(376/2)
تفسير قوله تعالى: (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع)
قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] فهو لما كان يكتم إيمانه كان يقول: يا قوم، ولما أظهر لهم الإيمان تجد في قوله الحنان والرفق في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، يعني: إني خائف عليكم، فأنتم قومي، وأنا أدعوكم إلى الله عز وجل، فاستجيبوا لي فأنا مشفق عليكم.
قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:39] فالإنسان يتمتع في الدنيا بشبابه، ويتمتع بجماله ومنصبه وماله وأولاده، كل ذلك متاع الدنيا، ولن يدوم هذا المتاع أبداً، فإذا اغتر الإنسان بشبابه سرعان ما تأتيه الكهولة والشيخوخة، ويرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، ومهما ادخر الإنسان المال فإنه سيتركه لمن يرثه، فيستمتع قليلاً ثم يترك هذا الذي استمتع به.
ويستمتع الإنسان بجماله حتى يظن أنه لا شيء أجمل منه، ثم تأتي عليه أعراض هذه الدنيا، وسرعان ما يزول ذلك، وتكون المرأة في أوج جمالها فتكبر في السن شيئاً فشيئاً ويذهب هذا كله، فالدنيا كلها متاع يستمتع بها الإنسان شيئاً، وما استمتع به زال بعد ذلك وتركه هذا الإنسان أو تركه هذا المتاع.
ومن البديع في القول المقابلة بين الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:39] وقابلها بالآخرة فقال: {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] أي: دار الاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار، فأهل الجنة يستقرون فيها، وأهل النار يستقرون فيها، والدنيا دار زوال وسفر للإنسان، يرحل في هذه الدنيا إلى الآخرة حتى يصل إلى قبره ثم إلى الجنة أو إلى النار.(376/3)
تفسير قوله تعالى: (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها)
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] السيئة: الشرك فما دونه، إذا أساء الإنسان جوزي على هذا العمل الذي عمله، فإن وقع في الشرك وقع في النار والعياذ بالله، وإن وقع فيما هو دونه فالسيئة بسيئة مثلها، بما يسوءه عند الله عز وجل، وقد يعفو ربنا سبحانه عما هو دون الشرك، أما الشرك فلا يغفره الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [غافر:40]، حتى لا يظن أن الثواب والجنة للذكران دون الإناث، فالإنسان سواء كان ذكراً أو أنثى الذي يعمل العمل الصالح قل أو كثر، وهو مؤمن -أي: بشرط الإيمان- هو الذي يتقبل الله منه عمله، فالمؤمن ينتفع بعمله الصالح، أما الكافر فمهما عمل صالحاً فإنه يجزى به في الدنيا، أما يوم القيامة فيقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فالكافر ظلم نفسه بأن كفر بالله وأشرك به وجحد، وجعل لله نداً وهو الذي خلقه سبحانه، فاستحق ألا يعطى شيئاً في الآخرة؛ لأن شركه أحبط جميع عمله، لكن المؤمن جاء بهذا الإيمان العظيم الذي يقبل به العمل وإن قل.
قال تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [غافر:40] يقال لهم: ادخلوا الجنة فيدخلون الجنة، وفي قوله تعالى: ((يُدْخَلُوْنِ الْجَنَّةَ)) قراءتان في هذه الكلمة.
{فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [غافر:40] أي: يأمرهم الله سبحانه بدخول الجنة جزاءً بما كانوا يعملون، يأتون إليها ويدخلونها، فيدخلون الجنة، وتدلهم الملائكة: هذا طريقكم، هذه بيوتكم، هذه جنتكم، ولم يدخلوا الجنة بأعمالهم لتكون ثمناً، وإنما أعمالهم سبب لدخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، والله عز وجل يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، فصدق الله عز وجل، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فربنا يقول: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] والباء للسببية، أي: بسبب ما كنتم تعملون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) والباء هنا للثمنية، أي: عملك ليس ثمناً للجنة؛ لأن الجنة أغلى بكثير من عملك الذي عملته، إنما عملك سبب للجنة، فيرضى الله عز وجل عنك ويدخلك الجنة برحمته وهو أرحم الراحمين سبحانه.
وقوله تعالى: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] أي: يرزقون في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، وقال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:22 - 24]، وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52]، وقال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] هذه هي الجنة العالية، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وقوله تعالى: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: بلا نهاية، فليس هناك نهاية للجزاء، فالله عز وجل قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: تهنوا بما في هذه الجنة، فقد تعبتم في الدنيا وعملتم، فهذا اليوم يوم الجزاء ويوم الراحة، تستريحون في الجنة فلا كدر ولا تعب ولا نصب فيها ولا خروج منها، ولا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، فهي جنة الله سبحانه.(376/4)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار)
قال الله تعالى حاكياً عن المؤمن: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] يتعجب المؤمن من هؤلاء القوم: أنا أدعوكم إلى الله سبحانه وتعالى وأدعوكم إلى الجنة، أسوق لكم الأدلة شيئاً فشيئاً، وقد جاءكم موسى عليه الصلاة والسلام قبل ذلك ببينات ومع ذلك لا تؤمنون وتريدون أن تدعوني إلى النار! فهم يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، ويعبدون الأصنام والأبقار، ثم وصل بهم الأمر إلى أن عبدوا فرعون من دون الله سبحانه، فهو يقول: تدعونني إلى هذه الأشياء التي لا تسمع ولا تستجيب وليس لها دعوة في الدنيا والآخرة، وأنا أدعوكم إلى الله الرب الذي خلقكم والذي يملككم ويملك هذه الدنيا ويملك الآخرة.
قال تعالى: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر:42] أي: تدعونني لشيء من الجهل، ليس لي ولا لكم، تدعونني إلى الكفر وإلى عبادة البقر، وإلى عبادة فرعون الذي لا يملك لنفسه شيئاً، والكفر بالله: هو الجحود، أي: أن يعتقد أنه لا يوجد إله، والشرك بالله: أن يتخذ أنداداً مع الله، وحاشا لله سبحانه وتعالى، فهم يدعونه للكفر والشرك بالله، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه العزيز الغالب القوي الجناب الذي لا يمانع، الذي إذا قال للأمر كن فلابد وأن يكون، سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
وقوله تعالى: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42] العزيز: هو الله الغالب سبحانه، والغفار: غافر الذنب وقابل التوب، يغفر الذنوب ويمحوها سبحانه وتعالى ويسترها على أصحابها، ويكفر عنهم سيئاتهم.(376/5)
تفسير قوله تعالى: (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة)
قال تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43] لا جرم: كلمة معناها: حقاً، أي: ينكر عليهم هذا الذي يقولون، ويقول: هذا الذي تقولونه كلام باطل، والحق هو الذي أقوله لكم، فهم يدعونه إلى الشرك بالله، ويدعونه إلى عبادة فرعون، ويدعونه إلى عبادة العجل والبقر من دون الله، ويدعونه إلى عبادة الأوثان والأصنام وعبادة الشمس وغيرها، وكل هذه المخلوقات لا تستجيب لهم بشيءٍ ولا تنفعهم، فهذه الأشياء ليس لها دعوة في الدنيا، أي: ليس لها إجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، بل ضررها أكثر من نفعها.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43] (مردنا): رجوعنا إلى الله، (وأن المسرفين): كفرعون ومن معه الذين أسرفوا في قتل النفوس، وفي شركهم بالله سبحانه وتعالى، وفي عصيانهم، فهم أصحاب النار المستحقون لدخولها، والمستحقون لعذابها.(376/6)
تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم)
قال تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44] أي: ستتذكرون ذلك يوم القيامة، وستعرفون يوماً من الأيام أني كنت أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر، وقوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44] أي: قلت ما هو واجب علي أن أقوله، وفوضت: أسلمت وسلمت وتوكلت على الله سبحانه وتعالى ولجأت إليه وحده سبحانه، والتفويض: هو التوكل على الله سبحانه وتعالى وتسليم الأمر إليه، ولما جهر بالإيمان أرادوا قتله فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بهؤلاء سوء العذاب، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(376/7)
تفسير سورة غافر [44 - 50]
لما طغى فرعون وتجبر وظلم وتكبر أغرقه الله في البحر، ونجى بدنه ليكون عبرة لمن اعتبر، لقد تغطرس وأبى، واتبع بكفره الهوى، وقال: أليس لي ملك مصر وأنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وجعله وملأه يعذبون في قبورهم قبل الآخرة، ثم يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، ومنتهى العقاب، فيوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون، ولا تنفع رياسة ولا قيادة، فمن دخل النار من ينجيه؟ ومن ذاق حرها فمن يقيه؟ ومن استغاث فيها ودعا فمن يغيثه ويؤويه؟ فتزود قبل الوقوف بين يدي الله عز وجل، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.(377/1)
تفسير قوله تعالى: (فوقاه الله سيئات ما مكروا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:45 - 50].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى مناظرة مؤمن آل فرعون لفرعون وملئه الذين وافقوا فرعون على قتل موسى ومن معه، وكيف أنه جادلهم في هذا الأمر، وقال لهم: كيف تقتلون رجلاً ذنبه أنه يقول: ربي الله! وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! ولم يزل يناقشهم في ذلك حتى ضاق فرعون بمناظرته وبكلامه فقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
وقد كان هذا المؤمن يكتم إيمانه فأعلنه صراحة وجهر به وقال: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38]، وذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وذكرهم بأن موسى ليس بالشيء الجديد، ولا بالنبي الذي أرسله الله عز وجل أول مرة، بل قد أرسل قبل ذلك يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومع ذلك شكوا وارتابوا، فقال المؤمن لهؤلاء: إن الذي تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا، فأنتم تدعونني إلى عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، وأن مردنا ومرجعنا إلى الله، وأن المسرفين أمثالكم يستحقون أن يكونوا أصحاب النار.
ثم قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44]، وكأنه يتوعدهم بعقوبة الله سبحانه وتعالى، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44]، يوم لا ينفعكم التذكر، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، أسلم أمري إلى الله، وأتوكل على الله، فلما قال ذلك إذا بالله الكريم سبحانه يقيه سيئات ما مكروا، {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] والآية فيها إشارة إلى أنهم أرادوا به المكر، وأرادوا قتله، فإذا بالله ينجيه من بطشهم وبأسهم، قال تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: ما كادوا له، وما كادوا لموسى ولمن معه، فوقاهم الله عز وجل هذا الشر في الدنيا، وجعل هذا المؤمن آية من آياته سبحانه وتعالى، فذكره في كتابه، فلا يزال المؤمنون يقرءون هذه السورة الكريمة ويذكرون هذا المؤمن رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقتدون بقوله وبفعله، وبهدوئه وتعقله في مناقشته لقومه.
قال تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: ما مكروا له ولموسى، قال: {وَحَاقَ} [غافر:45]، أي: أحاط، أو نزل نزول إحاطة وإهلاك لا يفلت منه أحد، فكأن العذاب نزل فأحاط بهم فدمر جميعهم، وهكذا كان الحال والأمر، فلما أراد فرعون أن يخوض البحر إذا بالله عز وجل يمكر به، فيجعل موسى يضرب البحر بعصاه فينفلق البحر ويمر موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما توسط البحر إذا بفرعون يقبل هو ومن معه من جنود وينظرون إلى البحر متعجبين مترددين، فلم يأبه فرعون لتكبره وعتوه لهذه الآية العجيبة العظيمة في هذا البحر العميق المخيف، ولم يعترف بأنها آية من آيات الله حصلت لنبي مرسل وهو موسى عليه السلام، بل ختم الله سبحانه على قلبه فإذا به لا يفقه، ولا يفهم، ويأمر من معه أن يعبروا البحر وراء موسى، وفي هذه الأثناء يصل موسى ومن معه إلى الناحية المقابلة، في حين يتوسط فرعون وجنوده البحر، فإذا بأمر الله سبحانه وتعالى يتنزل على البحر فينطبق البحر على فرعون ومن معه، وهكذا استأصلهم الله جميعهم ولم ينج منهم أحد، إلا فرعون فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، أي: الجسد فقط؛ لينظر الناس إلى نهاية فرعون المجرم المجنون الذي كان يقول: أنا إله، فأين ذهبت ألوهيته؟ وأين ربوبيته يوم أن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟ أهلكه الله سبحانه وتعالى في هذا البحر العميق، وأخرجه للناس عارياً، ليكون آية للناس أن الله سبحانه سيهلك كل جبار عنيد، كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
فوقى الله عز وجل مؤمن آل فرعون وموسى ومن آمن معه سيئات ما مكر فرعون وملأه، قال تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ (، أي: نزل بهم من العذاب الشديد ما أحاط بهم وأهلكهم: (سُوءُ الْعَذَابِ)، أشد أنواع العذاب.(377/2)
تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)
قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فعندما أغرقهم سبحانه نقلهم من هذا العذاب إلى عذاب البرزخ في القبور، سواء دفنوا في البحر أم دفنوا في البر، قال سبحانه: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا).
وأرواح فرعون وجنوده وملئه في حواصل طير سود تغدو بهم إلى النار والعياذ بالله، ولك أن تنظر إلى الفرق بين هؤلاء وبين الشهداء والأولياء، فالله سبحانه يقول عن الشهداء والأولياء: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، ويقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقد جعل الله أرواحهم في أجواف طير تسرح في الجنة حيث شاءوا، وهؤلاء الآن في البرزخ في قبورهم، وهم الآن في هذه الحياة الوسطية بين الدنيا والآخرة، ففي البرزخ جعلهم الله عز وجل يستمتعون من الجنة بأرواحهم، فإذا كان يوم القيامة أدخلهم الجنة بأجسادهم وأرواحهم، أما فرعون ومن معه فقد جعل الله عز وجل أجسادهم مملوءة عليهم ناراً، وجعل أرواحهم في أجواف طير سود تذهب بهم إلى النار كل يوم غدواً وعشياً، والغدو: أول النهار، والعشي: آخر النهار، وذلك حتى تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة ألقيت أرواحهم وأجسادهم في النار خالدين فيها أبداً إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، فإذا قامت القيامة: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)، فإن كان مؤمناً قال: رب أقم الساعة، فرحاً بما سيناله في الجنة، وإن كان من أهل النار قال: رب لا تقم الساعة، خوفاً مما سيناله في النار، والقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار والعياذ بالله، لكن آل فرعون يذهب بهم إلى النار كل يوم غدواً وعشياً كما ذكر الله سبحانه وتعالى، ثم قال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا)، والأمر للملائكة، أي: خذوهم وسوقوهم إلى النار.
وفي الآية قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، فإنهم يقرءونها: (أَدْخِلُوا) من الأمر، فالله سبحانه يأمر الملائكة بهذا فقال: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) وهذا الفعل متعدٍ إلى مفعولين هنا، والمعنى: خذوا آل فرعون وأدخلوهم أشد العذاب في النار، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا)، أيها الملائكة! (آلَ فِرْعَوْنَ)، هذا هو المفعول الأول، (أَشَدَّ الْعَذَابِ) هذا هو المفعول الثاني.
القراءة الثانية: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وشعبة عن عاصم وابن عامر، فإنهم يقرءونها: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا)، وكأن الأمر لآل فرعون، أي: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، وهل يجرءون على عدم دخول النار بأرجلهم؟ لا، فهم لا يملكون أن يتقهقروا أو أن يعصوا الله فيما أمر سبحانه، فإذا خافوا من النار دفعتهم الملائكة إليها والعياذ بالله، قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، أي: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، وهي نار جهنم والعياذ بالله.(377/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يتحاجون في النار إن الله قد حكم بين العباد)
ثم يصور الله لنا هذا المشهد العظيم، وما يحدث في النار لهؤلاء المجرمين؛ ليخوف الله المؤمنين وعصاة الموحدين، فيقول سبحانه: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ} [غافر:47]، أي: يقول أحدهم للآخر: أنت السبب، أنت الذي فعلت هذا، حتى إن أحدهم ليقول لمن لم يدركه: أنت السبب، كما قال تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، فيقول الأولون للآخرين: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:39]، أي: أننا كنا قبلكم بسنين وأعمار طويلة فماذا صنعنا بكم؟ بل أنتم الذين أجرمتم فذوقوا العذاب، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، فلكل عذاب مضاعف، سواء للأولين أم للآخرين؛ وذلك بسبب عصيانهم ربهم سبحانه وتعالى، لفعلهم السوء وإجرامهم في هذه الدنيا، وبسنهم السنن السيئة.
قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر:47]، ولم يقل: من آل فرعون، فليس الضعفاء من آل فرعون فقط، بل كل الضعفاء المجرمين، وكل من كان جندياً مأموراً من قائده أو سيده وهو يطيع وينفذ الأمر وإن كان معصية لله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) سبحانه وتعالى، فذكر في هذا الحديث أنه لا يحل لأحد أن يعصي الله سبحانه وتعالى في طاعته لأي مخلوق، فلا يجوز لأحد أن يسمع أو يطيع إلا في طاعة الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، فإذا أمركم بطاعة الله فافعلوا، وإن أمركم بمعصية فلا تفعلوا ذلك.
قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر:47]، للقادة الكبار المستكبرين، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} [غافر:47]، أي: كنتم تأمروننا في الدنيا: هاتوا فلاناً، اقبضوا على فلان، عذبوا فلاناً، فماذا ستصنعون لنا الآن ونحن في النار؟ قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47]؟ أي: جزءاً من عذاب النار، وقد كان هؤلاء الكبراء يقولون للمؤمنين في الدنيا كما قال الله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12].
أي: فنحن سنتحمل عنكم هذه الخطايا، فنحن في الدنيا وفي الآخرة معكم، قال الله عز وجل مكذباً لهؤلاء: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13]، إذاً: هذا الذي يقول للثاني: اعمل وعلي، فليس هناك حاجة اسمها عليك، بل كل من الاثنين يحمل ذنبه فوق ظهره، يحملون أوزارهم فوق ظهورهم يوم القيامة جزاءً بما صنعوا، فيقول سبحانه هنا عن هؤلاء: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} [غافر:48]، أي: فات الأوان، فقد أصبحنا فيها كلنا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48]، حكم فعدل سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين، وهذا الذي يطمئن الإنسان المؤمن، فمهما ظلم المؤمن في هذه الدنيا فهو مطمئن بالله سبحانه وتعالى، وأنه راجع إليه، وأن الحكم له وحده سبحانه وتعالى، فهو الذي يحكم بين عباده بالعدل يوم القيامة، فيقتص للمظلوم من ظالمه، ويعذب الظالمين، كما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48]، أي: فصل وقضى بين العباد بعدله سبحانه وتعالى.(377/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)
ثم قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنْ الْعَذَابِ} [غافر:49]، أي: جميع من في النار، فهم يستغيثون بخازن النار: {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} [غافر:49]، وجهنم اسم فظيع معناه: النار العميقة القعر، ويقال في الدنيا عن البئر: إنها ركية، أي: بئر عظيمة القعر، بعيدة الغور، وكذلك نار جهنم والعياذ بالله، فهي نار عظيمة متقدة مشتعلة بعيدة القعر جداً والعياذ بالله، والكفار في أقصى قعر جهنم والعياذ بالله.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا} [غافر:49]، أي: حتى يخفف عنا {يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]، مع أنهم في النار خالدين فيها أبداً، فماذا سيغني عنهم هذا اليوم؟! ولكن شدة العذاب تجعلهم يطلبون الراحة منه ولو للحظة معينة، ولو ليوم واحد يقولون لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]، وهذا يدل على شدة العذاب الذي يلاقونه، فقد يئسوا من رحمة الله، وهم مع ذلك لا يستطيعون الهرب، ومع ذلك فعليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ثم يقول الخزنة لهؤلاء: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50]، أي: ألم تأتكم رسل منكم تبلغكم، وتبذل النصح لكم، وتأمركم وتنهاكم؟ فأنتم تستحقون هذا الذي وقع بكم، ثم يقولون لهم: {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، أي: إن كان الدعاء ينفعكم فادعوا، لكنك إذا دعوت الله في الدنيا، ورفعت يديك إليه استحيا الله أن يردهما خائبتين، فالله يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً، فالله كريم سبحانه وتعالى، فهو إما أن يعطيك جواب ما سألته، وإما أن يصرف عنك من الأذى بقدره، وإما أن يدخره لك ليوم القيامة، أما في النار فادعوا بما شئتم فلن يستجاب لكم، قال تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، أي: في تيه، وفي ذهاب، وفي باطل، لا قيمة له، ولا يستجاب لدعائهم، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(377/5)
تفسير سورة غافر [51 - 52]
لقد ذكر الله سبحانه أنه سينصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا بهزيمة الكافرين والتمكين للمؤمنين، وفي الآخرة بتعذيب الكافرين والإنعام على المؤمنين، ونصر الآخرة أعظم وأكبر وأجل؛ لأن النصر في الدنيا قد يتأخر، وفي الآخرة لا يقبل الله عز وجل من الظالمين عذرهم، بل هم مطرودون من رحمة الله تعالى.(378/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما آل إليه حال فرعون ومن معه، فصاروا من أهل النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46] يقال: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، ذكر الله سبحانه نصره لعباده المؤمنين، فقال: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)) فهذا وعد من الله، ووعد الله حق، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9].
قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا) أي: حق على الله أن ينصر رسله سبحانه، ولم يقل: رسلنا فقط، وإنما قال: (رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)، فالنصر من الله عز وجل آت لعباده المؤمنين.
وقد يتأخر النصر، كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، أصابهم اليأس من إيمان قومهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، أي: ظن الرسل ووصل ظنهم إلى درجة عالية بأن هؤلاء القوم لن يؤمنوا ولن يفلحوا ولن يأتي منهم خير، وليس فيهم رجاء.
فظنت الرسل أن قومهم قد كذبوا بالله سبحانه، وكذبوا بآيات الله سبحانه وتعالى، وظن أتباع الرسل من المؤمنين أن الرسل قد كذبوا، وأخلفوا الميعاد وتوهموا ذلك، فإذا بالرسل يقعون في ضيق شديد، يظنون أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا من قومهم، وظن أتباعهم أنهم توهموا بإتيان النصر مع أن النصر لما يأت، فدخلهم الشك، أما الرسل فلا تدخل قلوبهم أبداً الريبة أو الشك، وفي هذا الوقت الشديد وقت اليأس جاء نصر الله سبحانه وتعالى، فعندما تضيق الدنيا على الإنسان المؤمن يأتي الفرج، قال تعالى: ((جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) أي: أن الله عز وجل ينجي بعظمته وبقدرته من يشاء سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين.
وهذا لا يعني أن كل المؤمنين الذين هم على الحق سيكونون من المنتصرين، ومن الذين ينجيهم الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، ولكن الوعد الحق أننا ننصر ديننا مع هؤلاء الرسل بنجاة من نشاء من المؤمنين، وبهلاك من نشاء من عبادنا من الصالحين في الدنيا، ثم يوم القيامة ننصر جميع المؤمنين على أعدائهم.(378/2)
نصر الله للمؤمنين بالحجة والبيان وبالسيف والسنان
إن نصر الله يأتي في الدنيا بتضحيات وبتعب ومشقة على الإنسان، وبجهد يبذله في طاعة الله سبحانه وتعالى، فوعد الله حق ينصر دينه، وإذا نصر المؤمنون دين الله سبحانه فمنهم من يتوفى قبل تمام النصر، ويقاتل فيقتل في سبيل الله، ومنهم من يهاجر، ومنهم من يؤذى في سبيل الله، ومنهم من يقاتل فينتصر، فالنصر يأتي للدين مع التضحيات، مع وجود هؤلاء جميعهم: الذين أوذوا، والذين هاجروا، والذين قتلوا، والذين قاتلوا وانتصروا، فالنصر في النهاية لهم، قال سبحانه يعد المؤمنين: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، وهذه قراءة الجمهور: (رُسُلَنَا)، وقراءة أبي عمرو: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسْلَنَا)) بتسكين السين فيها، (وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: في الدنيا ينصرهم ويكون لهم التمكين وإعلاء شأنهم، فالنصر يكون بالسيف، ويكون النصر بالحجة والبيان، الحجة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه ليس في كل زمن يكون الانتصار بالسيف وبالقوة، ولكن الانتصار قد يكون بالحجة، وهذا حاصل في كل زمان، فقد أعطى الله عز وجل المؤمنين المعجزة العظيمة: القرآن الكريم، وأعطاهم الحجج البينة التي تدوم مع دوام هذا الدين إلى أن تقوم الساعة.
فالله عز وجل ينصر رسله وطائفة من المؤمنين إلى قيام الساعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال)، فلا يزال من المؤمنين طائفة ينصرها الله سبحانه، وهم المتمسكون بدين الله سبحانه أهل السنة والجماعة، أهل هذا القرآن العظيم الذين تمسكوا به وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا بذلك، ولم يضرهم المخالفون وإن كثروا، فهم مع قلتهم تمسكوا بدين الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء)، هؤلاء الغرباء الذين يتمسكون بدين الله وبكتاب الله، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أهل الله سبحانه، فهم أهل السنة والجماعة، ينصرهم الله، ويمكن لهم في يوم من الأيام.
أما التمكين بالحجة وباللسان وبقوة البيان فهذا حاصل دائماً، طالما أن المؤمن متمسك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فالله ينصره ويؤيده؛ لأن معه الحق وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) وكذلك ننصرهم: ((ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))، والمؤمن الذي قتل في الدنيا ينصره الله في الدنيا بالانتقام ممن قتله، وبالانتقام من الظالم الذي ظلمه، فهذا نصر الله له في الدنيا، قال الله سبحانه وتعالى وقد نهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33].
إذاً: ينصر الله المؤمن الذي يقتل في سبيله سبحانه وتعالى، بأن يجعل لوليه سلطاناً فينتصر في يوم من الأيام، ويقتص من هذا الظالم الذي قتله بغير حق.(378/3)
معنى الأشهاد في قوله تعالى: (ويوم يقوم الأشهاد)
قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] أي: يوم القيامة يقوم الأشهاد، والأشهاد: إما جمع لشاهد أو لشهيد، فالشهود يقومون يوم القيامة فيشهدون.
والأشهاد: الملائكة تشهد بأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل الكتب، وقد أرسل الرسل، وقد أقام الحجة على العباد، ويشهدون على العباد، فكل عبد معه سائق وشهيد.
والأشهاد: الرسل يشهدون على أقوامهم بأننا قد بلغنا هؤلاء الأقوام، فهؤلاء كذبوا وأعرضوا، وهؤلاء استجابوا لنا.
والأشهاد: أتباع الرسل من الأولياء والصالحين الذين يشهدون بإبلاغ الرسل لقومهم، وأنهم آمنوا وصدقوا بذلك.
والأشهاد: الأجساد التي تشهد على المرء: يده، ورجله، وفخذه، يختم الله عز وجل على فيه وتنطق جوارحه يوم القيامة، فالجميع يقوم لله رب العالمين فيشهد كل منهم بما أمره الله عز وجل به.(378/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم)
قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
قوله: ((يَوْمَ لا ينفع)) قرأها نافع: (يوم لا تنفع) وقراءة الكوفيين عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف وباقي القراء يقرءونها: ((يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)) أي: يوم القيامة يعتذر الظالم والمنافق، ويحلف المنافق لله سبحانه وتعالى أنه ما كذب وما أعرض، وأن هذا المكتوب عليه في الكتاب لم يعمله، ولا يقبل إلا شاهداً إلا من نفسه، فيختم الله عز وجل على فيه فتنطق جوارحه فتكذبه فيدعو عليها، فهذا نصر للمؤمنين يوم القيامة: أن المنافق يشهد على نفسه، وأن الفاجر يشهد على نفسه، وأن الكافر يدخله الله عز وجل النار، ويعذب الذين كذبوا وأعرضوا، فالظالمون يعتذرون لله سبحانه فلا تنفع المعذرة.
قوله: ((وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)) أي: الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] أي: يستغيثون فلا يغاثون، ويستنصرون فلا ينصرون، يقول المنافقون للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: أعطونا نوراً قليلاً، لقد كنا معكم في الدنيا وكنا نصلي معكم فأعطونا شيئاً من نوركم، {قِيْلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:13 - 14] أي: حتى جاء نصر الله، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، هؤلاء الكفار.
روى الإمام الترمذي حديثاً بإسناد فيه ضعف يسير وهو قريب من الحسن؛ لأن فيه شهر بن حوشب وهو صدوق، فهو كثير الإرسال، وقد روى عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب) أي: يلقى عليهم الجوع فيعادل الجوع ما هم فيه من العذاب، (فيستغيثون فيغاثون بطعام مِنْ ضَرِيعٍ) والضريع: نبت من شوك طعمه قذر منتن مر تستقذره الإبل فلا تأكله، فإذا أكلته الأنعام ماتت، فتجتنبه الأنعام ولا تأكله، فهؤلاء يغاثون بمثله والعياذ بالله! قال: (فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد) والحميم: هو السائل الذي بلغ النهاية في الحرارة والعياذ بالله! ثم يقول: (فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم، فتقول لهم الخزنة: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، فيقولون: ادعوا مالكاً، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فيجيبهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77])، أي: لا نهاية لعذابكم بل سوف تعذبون أبد الآبدين، قال الأعمش أحد رواة هذا الحديث: (نبئت أن بين دعائهم، وبين إجابة مالك إياهم ألف عام) أي: ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فلا يرد عليهم مدة ألف عام ثم يجيبهم، فلما انتظروا تلك المدة ظنوا أنه يجيب بشيء ينفعهم، ولكن {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فبعد أن عذبوا بالنار وبالجوع وبالطعام والشراب من الحميم وبطول الانتظار يأتي هذا الرد: ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) قال: (فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]) يحتجون بالقضاء والقدر، أي: غلب علينا قدرنا فكنا أشقياء، فسامحنا في هذه المرة وأَخْرِجْنَا مِنْهَا وأرجعنا إلى الدنيا مرة ثانية، فإن عدنا إلى الظلم وإلى الكفر فافعل بنا ما تشاء.
قال: (فيجيبهم ربهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]) (اخسأ) كلمة تقال للكلب حين يزجر ويطرد من مكانه.
كذلك يقول الرب سبحانه لأهل النار والعياذ بالله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108 - 110]).
أي: تذكروا في الدنيا حين كنتم تضحكون من المؤمنين وتسخرون منهم وتستهزئون بهم.
ثم قال تعالى عن المؤمنين: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]) أي: الفوز اليوم والفلاح والنصر للمؤمنين، فالمؤمن يفرح بنصر الله سبحانه وتعالى، فهو يفرح أن ربه انتقم له من عدوه، فينظرون إلى أهل الجنة وقد نجاهم الله سبحانه وتعالى من العذاب وجعلهم في الجنة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] أي: في شغل عن هؤلاء لا يلتفتون إلى أهل النار؛ لما هم فيه من متعة عظيمة جميلة في جنة الخلد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
يقول في آخر الحديث: (فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل).
وهذا انتقام الله عز وجل من الكفار والظلمة والمجرمين، فهو سبحانه ينتقم منهم أعظم الانتقام يوم القيامة في نار جهنم، أما في الدنيا فقد ينصر المؤمنين ويمكن لهم، وقد يأتي الأمر على خلاف ما يشتهون؛ لأن الأمر أحياناً يكون عليهم، ولكن دين الله عز وجل لا يزال عالياً، وأحياناً ينتصرون.
فنقول: إذا صار المسلمون في وقت من الأوقات بعيدين عن دين ربهم فإن مصيرهم إلى ذلة وهوان، وبهذا يعلم أن النصر لا بد له من تضحيات، ولا يعلو دين الله سبحانه وتعالى إلا بالقتال في سبيل الله، وبالحجج والبراهين من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله أن ينصر دين الإسلام، وأن يمكن للإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(378/5)
تفسير سورة غافر [51 - 55]
مهما علا الباطل وانتفش فلابد أن يزول، فالنصر حليف أولياء الله من الأنبياء والرسل والمؤمنين، إما معجلاً في الدنيا، أو مؤخراً إلى يوم القيامة، يوم لا تنفع المعاذير، ويكون جزاء الكافرين النار وبئس المصير، وما على المؤمنين والدعاة إلا السير على هدى رب العالمين، مقتدين بمن سبقوهم، متأسين بهم، صابرين على ما ينالهم، موقنين أن العاقبة لهم.(379/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا)
الحمد لله ربي العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:51 - 55].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه ينصر رسله سبحانه وتعالى وينصر المؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ونصر الله سبحانه وتعالى أكيد لأنبيائه ورسله وللمؤمنين الذين ينصرون دين الله سبحانه، إلا أن الله عز وجل ذكر أنه ينصر أولياءه في الدنيا وفي الآخرة، ونصره لهم في الآخرة لابد وأن يكون؛ ففي يوم القيامة ينتقم الله من الظالم وينصر المظلوم، أما في الدنيا فقد يظلم الإنسان الظالم ولا يعاجل بالعقوبة، بل يظل حتى يقبضه الله سبحانه وتعالى على ظلمه، فأخذ الله عز وجل له على هذا الحال أخذ عزيز منتقم مقتدر سبحانه تبارك وتعالى، وقد جاء في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فنصر الله عز وجل للمظلوم إما أن يسلطه على من ظلمه فيكون في ذلك نصره، وإما أن يملي لهذا الظالم حتى يجعله عبرة للناس إذا كسره وقصمه.(379/2)
الجواب عن إشكال أن بعض الرسل قد عذبوا وقتلوا في الدنيا
وقد أورد الإمام الطبري في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] استشكالاً وأجاب عليه رحمه الله فقال: قد يقال: كيف ينصر الله عز وجل رسله جميعهم في الحياة الدنيا وقد جاء أن بعض الرسل قد قتلوا في الدنيا، كما قتل زكريا وابنه يحيى، وقتل أشعياء، وأراد اليهود قتل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فنجاه الله عز وجل ورفعه إليه، وطرد إبراهيم من بين قومه حتى هاجر إلى الله وترك قومه، فهؤلاء كيف نصرهم الله عز وجل على أقوامهم؟ ويجاب: بأن نصر الله سبحانه وتعالى إما بأن ينصر أنبياءه ورسله في حال حياتهم، كما فعل ببعض منهم، أو أن ينصرهم بمعنى: ينتصر وينتقم ممن ظلمهم، حتى ولو مات هؤلاء، فلما قتل يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام سلط الله عز وجل على القوم الذين قتلوه بختنصر وهو كافر، فلم يزل يقتل منهم الألوف بدم يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا نصر من الله عز وجل لنبي ورسول من رسله عليهم الصلاة والسلام.
واليهود لما سعوا بالمسيح عليه الصلاة والسلام ليقتل، وذهب إليه الأمير ليأخذه هو ومن معه لينفذ فيه حكم الملك اللبناني بالقتل؛ فإذا بالله يرفع المسيح عليه الصلاة والسلام، فكان نصره من الله عز وجل بأن رفعه، ثم سلط على هؤلاء -هذا الملك ومن معه- اليهود، فأذلوهم وأذاقوهم الأمرين بعد ما فعلوا فعلتهم مع المسيح عليه الصلاة والسلام وأرادوا قتله، فنصره الله بأن نجاه ورفعه، ثم سلط اليهود على هذا الملك، ثم قبل قيام الساعة ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيسلطه الله عز وجل على اليهود، فلا يبقى على الأرض يهودي، ولا يبقى نصراني، ولا يكون إلا الإسلام، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يخرج المسيح الدجال وأكثر من يتبعه اليهود عليهم الطيالسة لعنة الله عليهم، فينزل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا رآه المسيح الدجال ذاب كما يذوب الثلج، فيهرب من المسيح عيسى بن مريم، فيقول له المسيح: إن لك عندي ضربة لن تخطئها، ثم يتبعه فيقتله صلوات الله وسلامه عليه، وحينها يقتل المسلمون اليهود، وتشهد الأحجار والجمادات على اليهود، حتى يقول الحجر والشجر للمسلمين: يا مسلم! إن ورائي يهودياً تعال فاقتله، ويضع المسيح عليه الصلاة والسلام الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، أي: لا يقبل من أحد ديناً غير الإسلام، وحتى لو دفع الجزية كما كانوا يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم ويظلون على أديانهم، كما أنه إذا نزل المسيح بن مريم حكم بالإسلام، أي: بهذا القرآن العظيم، ولم يقبل الجزية وإنما يضعها، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهذا هو نصر الله عز وجل لنبيه ورسوله المسيح عليه الصلاة والسلام في الدنيا.
فحتى ولو كان من هؤلاء الأنبياء من أخذه الله فرفعه كالمسيح، أو كان منهم من قتل وذاق القتل والهلاك في الدنيا كيحيى وزكريا فالله عز وجل ينتقم لهم وينتصر لهم سبحانه وتعالى، هذا جواب.
وهناك جواب آخر لما تقدم حول قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51]، وهو أن هذا من العموم الذي يراد به الخصوص أو العام المخصوص، والمقصود منه: أنا لننصر بعض رسلنا في الحياة الدنيا وننصر جميعهم يوم يقوم الأشهاد، وكذلك ننصر المؤمنين من عبادنا، إذ الآية وعد من الله سبحانه أن ينصرهم، ولكن لم يقل: إنه ينصرهم فرداً فرداً، ولكن ينصر دينه بما يشاء سبحانه وتعالى بما يتحقق من شروط النصر {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(379/3)
نصر الله للمؤمنين يوم يقوم الأشهاد
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، تقدم أنه يوم القيامة، والأشهاد جمع شاهد، كما أن الأصحاب جمع صاحب، وهم الشهود الذين يشهدون على الناس يوم القيامة من ملائكة ورسل وأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك ممن يشهد على الإنسان من نفسه جوارحه، فإنها تشهد عليه يوم القيامة، وفي ذلك اليوم ينصر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، وقد جاء في الأثر: من نصر مؤمناً في الدنيا كان حقاً على الله أن ينصره في الدنيا والآخرة، ومن رفع ظلماً عن مؤمن في الدنيا كان حقاً على الله عز وجل أن يرفع عنه من الظلم ومن الكروب في الدنيا وفي الآخرة)، ويؤيده ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم) إذ الجزاء من جنس العمل، فالإنسان المؤمن حين يسمع غيبة لأخيه المؤمن فيرد وينتصر لهذا الغائب؛ فإن عز وجل ينصره يوم القيامة، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه كما تقدم في الحديث، والحديث رواه الإمام الترمذي وحسنه، وصححه الشيخ الألباني، وهو من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وجاء في زيادة ليست عند الترمذي أنه تلا هذه الآية: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] فجعل من نصر الله عز وجل للمؤمن في الحياة الدنيا أن يسخر له من يدافع عنه ويدفع عنه في غيبته، ويدفع عن حقه في الدنيا، ويوم القيامة ينتصر الله عز وجل للمؤمنين يوم يقوم الأشهاد.
وبمعنى حديث الترمذي ما روى الإمام أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار، ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج من مقاله)، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وقوله: (من حمى مؤمناً) أي: من دافع عن إنسان مؤمن من إنسان يذكره بسوء، وقوله: (من منافق) وصف صاحب الغيبة بالنفاق، كما وصف الإنسان الذي يدافع عنه بأنه يحمي أخاه ويمنع عنه هذه الغيبة من مثل هذا المنافق.
قوله: (بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار)، أي: يدفع عنه نار جهنم يوم القيامة في مروره على الصراط حتى ينجيه الله سبحانه وتعالى، قوله: (ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه)، أي: من يتكلم عن مسلم بكلام يسوءه، كأن يريد أن يضره، وقوله (يشينه) بمعنى: أنه يقبحه ويذكر فيه فعالاً ويفضحه عند الناس، ومن فعل ذلك وهو كاذب فيما يقول وقفه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج من مقاله، وهذا من نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين؛ ولذا ينبغي أن يحذر المرء أن يقع في غيبة المؤمنين أو غيرهم، أو يقع في أعراضهم، وكيف لا يحذر وقد علم أن الجزاء أن يحبسه الله عز وجل على جسر جهنم تلفحه النار ويقال له: اخرج مما قلت، وفي الدنيا قد يخرج الإنسان مما يقول بأن يكذب نفسه ويقول: أنا كذاب، لقد كذبت في هذا الشيء، ويعتذر لمن اغتابه أو طعن في عرضه حتى يقبل منه، وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فلا يقول: أنا كذاب، فقد فضحه الله عز وجل، وإنما يوبخ بأن يقال له: اخرج مما قلته، وهو لا يدري كيف يخرج مما قال.
وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يدخل رجلاً في النار قد كذب في الدنيا وادعى أنه رأى رؤيا مع أنه كاذب فيها ويقول له: تريد أن تخرج اعقد شعيرتين، أي: خذ شعيرتين واربطهما وحين تربطهما نخرجك من النار، وهذا تعجيز لهذا الإنسان، حيث يظل في النار ولا يخرج منها إلا أن يشاء الله سبحانه.
ومثله ما ورد في الحديث المتقدم أن الإنسان يوقف على جسر جهنم ويقال له: اخرج مما قلت، وخروجه أن يخبر الناس أنه كان كذاباً، ومعلوم أن المؤمن لن ينتفع بما يقول عن نفسه: أنا كنت كذاباً، وإنما الغرض من ذلك: تحقير هذا الإنسان وتوبيخه وتعجيزه في هذا الموقف، ويظل كذلك حتى يأذن الله فتوخذ من حسنات المغتاب إن كان له حسنات بقدر مظلمة من اغتابه وتوضع في حسنات من اغتابه، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.(379/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]، أي: يوم القيامة لا ينفع الظالمين معذرتهم، كأن يقول أحدهم: أنا آسف على ما بدر مني، فيظهر الأسف والاعتذار، فهذا لا يقبل منه، وإنما كان يقبل منه وينتفع به في الدنيا بأن يعتذر الإنسان وأن يتوب إلى الله سبحانه، أما يوم القيامة فلا ينفع الاعتذار من الظالم، قال سبحانه: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر:52] أي: لهم الطرد من رحمة الله سبحانه {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]، أي: الدار التي تسوؤهم، ويعذبون فيها وهي النار والعياذ بالله.(379/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الهدى هدى وذكرى لأولي الألباب)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر:53]، في هذه الآية يذكر الله عز وجل كتاب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، مذكراً للمؤمنين أن هذا الكتاب -القرآن العظيم- ليس أول كتاب فيه الشريعة وفيه الموعظة وفيه الهدى والنور من عند الله تعالى، فقد جاء الكتاب لبني إسرائيل قبلهم، وقد تكرر هنا المعنى في كثير من آيات القرآن، والسبب في ذلك: أن يتدبر المؤمنون ويعتبروا أن الشريعة إذا جاءت من عند الله فهي هدى، وهي نور؛ ولكن يهدي الله عز وجل بها من يشاء، وينير بها قلب من يشاء، فلا يغتروا بما جاءهم من هدى القرآن ونوره من عند الله سبحانه.
وليس المعنى: أن حافظ القرآن قد حاز الهدى والنور بحفظه له من دون الإكثار من تلاوته والعمل به، فإنه لم ينتفع اليهود بالتوراة وقد حملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً، ومما يبين عدم استفادتهم من الهدى والنور الذي في التوراة: ما عُلِم أن كل نبي قد حذر قومه من المسيح الدجال، وكان اليهود ممن حذروا منه، ومع ذلك فإن أكثر أتباعه اليهود، فهل نفعتهم التوراة؟ وهل نفعهم تحذير موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ فالغرض الموعظة للمؤمنين، قال تعالى مخاطباً اليهود: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فلم يأخذوا ولم يعملوا، وقيل ذلك للمؤمنين حيث أمروا أن يتمسكوا بكتاب الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم ما إن تمسكتم به دخلتم الجنة) وفي رواية: (تركت فيكم الثقلين إذا تمسكتم بهما فلن تظلوا بعدي أبداً: كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الهدى والنور)، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لنا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً وهو كتاب الله سبحانه؛ إذ إن كتاب الله الذي جاء من عند الله فيه الهدى وفيه النور، وكأن الله يذكرنا أنه آتى بني إسرائيل الهدى والتوراة فيها هدى ونور فلم ينتفعوا بها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم، فقد استحقوا أن يلعنهم الله وأن تلعنهم أنبياء الله، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، فإنهم لما جاءتهم التوراة تنهاهم عن المنكر وتأمرهم بالمعروف، عكسوا الأمر فعبدوا غير الله ولم يتناهوا عن المنكر، فاستحقوا لعنة الله.
فلذلك عندما يذكر الله عز وجل أن يوم القيامة لا ينفع الظالمين معذرتهم، يراد بالظالمين اليهود الذين لم ينتفعوا بالتوراة، إذ لم ينتفع منهم إلا القليل، وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر:53]، أورثناهم، أي: جعلنا فيهم التوراة، ومعلوم أن ميراث الأنبياء هي الكتب السماوية التي تنزل من عند الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه ذلك فقال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، قوله: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً)، أي: أن ما يتركونه صدقة، فإذا مات النبي جمع المال الذي يتركه وتصدق به، وإنما الميراث الحقيقي للأنبياء هو هذا القرآن العظيم، فهو العلم الذي جاءوا به من عند الله، فقوله: (وَأَوْرَثْنَا) أي: جعلنا إرث النبي فيهم هذا الكتاب، وهو التوراة.
وقوله تعالى: (هُدًى) أي: يدلهم على الطريق، (وَذِكْرَى) أي: موعظة وتذكير، (لِأُولِي الأَلْبَابِ) أي: ليست لكل الناس، ولكن لمن كان له قلب يعقل آيات الله وينظر ويعتبر بها.(379/6)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، فيأمره بالصبر صلوات الله وسلامه عليه على أذى هؤلاء المشركين، وأخبره أن وعد الله بنصر المؤمنين حق لا شك أنه سيأتي وقت ما يشاء الله سبحانه وتعالى، وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر والتصبر والإكثار من الصلاة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وهنا أمره بالتسبيح والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى في صلاته وفي غيرها، قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55].(379/7)
تفسير سورة غافر [55 - 59]
يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين ومجادلة أهل الباطل، ويأمره بالاستغفار والتسبيح في أول النهار وآخره، والمؤمنون يقتدون بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي يستغفر الله في اليوم مائة مرة.
والاستكبار عن الحق والمجادلة بالباطل صفتان من صفات الكافرين، فهؤلاء الذين أنكروا البعث نسوا أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلقهم، ولكنهم لا يعلمون ذلك؛ لأنه لا يستوي من نوَّر الله بصيرته، ومن أعماه الله عن الحق، ولا يستوي الذي يعمل الصالحات والذي يعمل السيئات.(380/1)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ * إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:55 - 59].
في هذه الآيات يصبر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه يأمره بالصبر ويخبره عما سيكون بعد ذلك من مجيء الساعة ومن حساب لهؤلاء المشركين، وأنهم لا يستوون أبداً مع المؤمنين عند ربهم سبحانه، قال تعالى: (فَاصْبِرْ)، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين بذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
فعودوا أنفسكم على الصبر كما أمر الله سبحانه وتعالى وكما أخبر عن الجزاء فيه، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
فقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: مهما فعل بك هؤلاء ومهما آذوك فنفذ ما أمرك الله عز وجل به واصبر على ما أمرت به من صبر وتنفيذ لهذه الشريعة وتبليغ لدين الله سبحانه، وجهاد لهؤلاء بالسيف والسنان، وبالكلمة واللسان، وبالقلب والجنان.
وقوله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: وعدكم الله بالنصر إن نصرتم دينه حقاً، ولا بد أن يكون، ووعد الله للمؤمنين بإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة حق، وإن الله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، ووعيد الله عز وجل للكفار بأن يعذبهم وأن يدخلهم النار حق.
ثم أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يستغفر، وإن كان ربه سبحانه قد عصمه من الذنوب، وكأنه من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فقال له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، وهذه السورة مكية، والنبي صلوات الله وسلامه عليه أعلمه ربه سبحانه بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في سورة الفتح بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه بست سنوات، في ذي القعدة من سنة ست في عام الحديبية، قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:2 - 3].
فبين هاتين الآيتين سنوات طويلة، وأمر الله للنبي بالاستغفار هو أمر للمؤمنين أن يكثروا من الاستغفار مقتدين بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار حتى بعد أن أخبره سبحانه أن ذنبه مغفور عليه الصلاة والسلام، فلا يقع منه ذنب عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان يعد له في المجلس الواحد سبعون مرة وهو يستغفر الله سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة).(380/2)
معاني قوله تعالى (وسبح بحمدك)
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، أمر أن يسبح الله في أول النهار وفي آخر النهار، فالعشي: وقت العصر، والإبكار: وقت الفجر، فأمره أن يستغفر الله وأن يسبح حامداً ربه، والتسبيح: هو التنزيه.
وقالوا معناه: صل في هذا الوقت في العشي والإبكار، وكانت الصلاة في العهد المكي أن يصلي مرتين في اليوم عليه الصلاة والسلام قبل أن يسرى به ويعرج به إلى السماء وتفرض عليه الصلوات الخمس المعروفة، فكان قبل ذلك يصلي ركعتين أول النهار وركعتين آخر النهار، حتى علم صلى الله عليه وسلم كيف يصلي الخمس الصلوات، ونزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة من الصلوات الخمس المفروضة وهي صلاة الظهر؛ ولذلك تسمى صلاة الظهر: الصلاة الأولى، لا لكونها أول صلاة في اليوم، ولكن لأن جبريل أول ما علم النبي صلى الله عليه وسلم وصلى به إماماً صلاة الظهر.
فقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر:55]، على عموم التسبيح والحمد، وأيضاً على خصوصية معنى الصلاة، ولذلك تسمى صلاة النافلة صلاة التسبيح أو صلاة السبحة، بمعنى: صلاة التطوع، فالأمر هنا بالصلاة التي فيها ذكر الله وتسبيح الله وتحميد الله، والأمر هنا بأن يذكر الله في هذين الوقتين.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين الذكر في هذين الوقتين: بعد الفجر، فالملائكة تحضر الذكر في هذا الوقت، وبعد العصر أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم)، أي: يعرجون بعد الفجر (فيسألهم الله سبحانه وتعالى كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون -أي: صلاة العصر-، وتركناهم وهم يصلون)، أي: الفجر، وهكذا تطوف الملائكة على بني آدم في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، فالمستحب كثرة ذكر الله عز وجل في هذين الوقتين.(380/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]، هنا تنبيه للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يصبر على أمثال هؤلاء؛ لأن هذا أمر يضايق الإنسان أن يسمع الجدل بالباطل، فبدأ ربه سبحانه معه بقوله: {فَاصْبِرْ} [غافر:55]، فهم سيجادلونك، وسيؤذونك، وسيحاولون أن يفعلوا بك ما يريحُ أنفسهم من أذى لك وإتعاب لك، (فَاصْبِرْ) على ذلك.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً ولا أوسع من الصبر)، فالله يرزق العباد الكثير، وأفضل ما يرزق العبد الصبر، فإذا بهذا الإنسان الصابر يجد نفسه أغنى الناس؛ لأنه رزق الصبر فلا يحتاج إلى أحد من الناس، فتراه يصبر على البأساء وعلى الضراء، ويصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر على تكاليف ما جاء في هذه الشريعة من أوامر فيفعلها، ويصبر على ما نهى الله عز وجل عنه فيجتنبه.
فقوله: تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر:35]، أي: يضايقونك، ويتكلمون معك جدالاً بجدال، وقوله: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر:35]، أي: بغير حجة من عند الله سبحانه وتعالى، وقوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، (إن) هنا بمعنى: ما، أي: ما في صدورهم إلا كبر، وهذا أسلوب قصر، أي: الجدل ليس إلا للكبر الذي في نفوسهم، فهم يجادلون مستكبرين على شرع الله، ومستكبرين أن يطيعوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فليس في صدورهم علم، وليس في صدروهم دين، وليس في صدورهم نور، بل في صدورهم الكبر والتعاظم وبطر الحق وغمط الناس، فهؤلاء القوم يخبر الله عز وجل عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس في قلوبهم علم حين يجادلونه، إنما الذي في صدورهم حب الجدل استكباراً عن الحق.
وكذلك كل إنسان يجادل بالباطل ليس في صدره علم، ولو كان في صدره علم لتكلم بالحق، ولأذعن له، ولا سمع للخصم فيما يقول، ولأنصف من نفسه، ولكن هؤلاء لا ينصتون، فهم يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بآذانهم، أما قلوبهم فلا تعقل ولا تفقه شيئاً، ولكنهم يسمعون ليردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كل مجادل بالباطل يستمع إلى خصمه لا يفكر فيما يقول، إنما يفكر كيف يرد عليه كبراً، فعظمت أنفسُهم في أنفسِهم واستعظموا واستكبروا.
وقوله تعالى: {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، أي: أن العظمة التي يدعونها لن يصلوا إليها أبداً؛ لأن الله يأبى إلا أن يضعه ويذله ويفضحه، فهؤلاء الكفار الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم أذلهم الله وأخزاهم، فجعل شيوخهم وكبراءهم قتلى وصرعى في يوم بدر، فقد أنتنت جيفهم، وألقوا في قليب بدر جثثاً منتنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا)، وقال لأصحابه: (ما أنتم بأسمع لما أقول من هؤلاء).
فهؤلاء الذين استكبروا عن الحق قال الله عنهم: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وكل إنسان متكبر عن الحق مستحيل أن يصل إلى ما يزعم أنه متكبر عن قبول الحق ومتعاظم في نفسه يوهم الناس أن معه حق والناس يصدقونه، حتى وإن أطاعه الناس فيما يقول هو في أنفسهم كذاب، ويحتقرونه في أنفسهم ويظهرون له البغضاء، ولذلك كان أتباع مسيلمة حين يسمعون منه ما يقول يضحك بعضهم إلى بعض ويقول بعضهم لبعض: والله إنه لكاذب، ولكن كذاب ثقيف أحب إلينا من صادق قريش، فوجهة نظر هؤلاء الكفار أن هذا كذاب، لكن نحن نحب الكاذب منا على الصادق الذي من قريش.
فالواحد منهم إذا سمعه يتلو عليه أشياء من وحي الشيطان ويزعم أن جبريل جاءه به يقول له: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، فلا يصدقه، وأبى الله إلا أن يحقره فيما يقوله وأن يذله وأن يضعه.
فهنا يقول الله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، أي: ليسوا ببالغيه ولن يصلوا إلى ما يتمنون من استعظام أو استكبار، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر:56] أي: استعذ بالله من الشيطان، واستعذ بالله من الكبر، واستعذ بالله من الهوى، وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]، أي: يسمعك ويسمعهم ويسمع كل شيء، ويراك ويراقبك ويراهم ويراقبهم ويراقب كل شيء ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.(380/4)
تفسير قوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس)
قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، هؤلاء الذين يجادلون في الله سبحانه وتعالى ذكرهم الله في هذه السورة مرتين، فقال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وقال قبل ذلك {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35]، فقوله: (كَبُرَ)، أي: تعاظم هذا الشيء، فهو شيء يغضب الله سبحانه وتعالى، وهو شيء بغيض عند الله عظم في مقته وفي كراهته، وهو الجدال بالباطل.
ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، يقول لهم ذلك لأنهم كانوا يجادلون في ذلك، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، أي: هل نرجع مرة أخرى بعدما نكون تراباً، فقالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36]، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، قال الله سبحانه: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].
ظن كاذب وتخرص باطل على الله سبحانه وتعالى بما يزعمونه، فقال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، فالكبر يدفعهم بأن يجادلوا بالباطل وأن يدفعوا الحق الذي معك فيرفضوك، فقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، أي: هؤلاء المتعجبون من كيفية إعادة الله لهم لا ينظرون إلى كيفية خلق السماوات، وكيفية خلق الأرض، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، أي: ما أمسكهما من أحد من بعده، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21]، هذا الذي عليك، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، أي: خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم من خلق الناس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، أي: لم يتفكروا في ذلك، وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزلت علي آيات الليلة ويل لمن قرأها فلم يتفكر فيها)، وهي هذه الآيات العشر من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] إلى آخر السورة.
فيتفكر المؤمنون في خلق السماوات وفي خلق الأرض، يتفكرون في هذه الأشياء العظيمة التي خلقها الله سبحانه، وكلما نظروا إلى السماوات وإلى الشمس وإلى القمر وإلى النجوم وإلى هذه الأعداد الهائلة من الأجرام التي خلقها الله سبحانه وتعالى قالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:191]، أي: تعاليت وتنزهت يا ربنا أن تخلق شيئاً باطلاً {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].(380/5)
تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)
قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، أي: لا يستوي إنسان أعمى لا يبصر آيات الله عز وجل في الكون مع إنسان بصير يبصر آيات الله، وهل يستوي الأعمى في قلبه الذي لا يتفكر ولا يتدبر مع إنسان أعطاه الله البصيرة فهو يتفكر في كون الله سبحانه وتعالى وفي مخلوقات خلقها الله؟! فهو يتأمل ويتدبر، ويعلم أن هذا ما خلق باطلاً، فلا يستوي الأعمى في قلبه الذي هو على الضلالة مع إنسان بصر الله قلبه ونوره.
قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} [غافر:58]، فالإنسان المؤمن لا يستوي مع صاحب أعظم سيئة وهي الشرك بالله سبحانه، لا يستوي أبداً المؤمن مع الكافر، ولا يستوي من يعمل صالحاً مع من يسيء ويعمل السيئات، قال تعالى: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، فقليلاً ما يتذكر الإنسان أي: ما يتعظ، وإذا اتعظ حيناً نسي أحياناً كثيرة فلم يتعظ، فقال الله سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، وهذه قراءة الكوفيين بتاء الخطاب، وباقي القراء يقرءون (قليلاً ما يتذكرون) للغائب، أي: هؤلاء المشركون وهؤلاء الكفار قليلاً جداً ما يتذكرون، وإذا تذكروا أحياناً وقالوا: إن هذا القرآن ليس بقول بشر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، سرعان ما يرجعون عن ذلك.
قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25].
إذاً: هذا الذي قال: القرآن له حلاوة، وعليه طلاوة، رجع عن كلامه بسرعة خائفاً من قومه مجاملاً لهم، فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24]، أثره عمن كان قبله، فتعلم السحر ممن كان قبله فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وافترى عليه، فقليلاً ما يتذكر أمثال هؤلاء، أما المؤمنون فهم يتعظون بما قال الله سبحانه، ويعلمون أنهم إليه راجعون؛ ولذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [غافر:59]، أي: اتركهم على ما هم فيه من باطل ومن ضلال ومن كبر، فالساعة ستأتي لا ريب في ذلك، قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [غافر:59]، أي: لا شك في ذلك، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] بأنهم راجعون إلى الله، وأنه مجازيهم، قال تعالى: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]، حتى {تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:107]، فيومئذ يعرفون أن الدين كان هو الحق من عند رب العالمين، وأن شيطانهم أضلهم فاستحقوا أن يكونوا من الغاوين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(380/6)
تفسير سورة غافر الآية [60]
الدعاء نوع من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله سبحانه وتعالى، وصرفها لغيره شرك، وفضائل الدعاء معروفة في الكتاب والسنة، وللدعاء آداب، منها: ألا يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، ولا يتعجل الإنسان الإجابة، فإن الله يستجيب الدعاء على أي وجه من الوجوه، واستكبار العبد عن الدعاء استكبار عن عبادة الله سبحانه، والله سبحانه وتعالى عال فوق عرشه قريب من عباده إذا دعوه، ودعوة المضطر مستجابة، فلا بد من الإخلاص في الدعاء والعبادة.(381/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:60 - 63].
في هذه الآيات من سورة غافر يأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] ووعد بالإجابة على الدعاء فقال: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولم يجعل بينهما شرطاً، ولم يقيد الدعاء بشيء في الآية، وإنما قال: {رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60].(381/2)
أسباب إجابة الدعاء
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله يستجيب الدعاء ما لم يدع أحدكم بإثم أو قطيعة رحم).
إذاً: الإنسان المؤمن يدعو ربه بما شاء من الدعاء، فالله يستجيب بقيد: لا تدع بإثم، ولا تطلب ذنباً فتسأل ربك أن يعينك عليه مثلاً، أو تدعو على أحد بشر أو بشيء تأثم أنت حين تسأل ربك ذلك، وكذلك أن تدعو بقطيعة رحم، أو تدعو بشيء يكون فيه قطيعة الرحم، فلا يستجاب لك في ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي)، فعلى الإنسان إذا دعا ربه أن يصبر وليسأل ربه الخير فهو أعلم سبحانه وتعالى، فقد تسأله الشيء الذي يعلم أن فيه ضرراً لك فلا يستجيب لك، ويعطيك مكانه من الخير أشياء أخرى، وقد يعطيك في الدنيا، وقد يعطيك الثواب في الآخرة، وقد يصرف عنك من السوء بقدر ما سألت الله عز وجل من الخير، فالله يستجيب الدعوات يقيناً لا محالة في ذلك ولا شك فيه.
وأمركم أن تدعوه سبحانه تضرعاً وخفية وخيفة، فتسأل ربك سبحانه متضرعاً إليه، وتسأله في العلن وفي الخفاء، وتسأله وأنت محب له عز وجل خائف منه سبحانه.(381/3)
معاني الدعاء
والدعاء على معنيين: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} [غافر:49] بمعنى: وحدوا ربكم سبحانه وتعالى، و {ادْعُونِي} [غافر:60] اطلبوا مني، إذاً: ادع ربك موحداً له؛ لأن الدعاء فيه توحيد الله سبحانه وتعالى، وترسيخ العقيدة، فلذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، والعبادة: هي توحيد الله سبحانه وتعالى، تعبد ربك، وتتذلل لخدمته سبحانه، ولخدمة دينه سبحانه، والعبادة لله: اسم جامع لكل خير، ولكل شيء تثبت به لربك سبحانه أنك عبد له، فهو اسم جامع لكل الطاعات للأقوال والأعمال والأفعال الظاهرة والباطنة التي ترضي بها ربك سبحانه وتعالى، ولذلك فقولك: لا إله إلا الله دعاء له سبحانه، وأعظم ما دعا به الأنبياء والمرسلون في يوم عرفة قولهم: لا إله إلا الله، فهم يوحدون الله سبحانه وتعالى، فالدعاء توحيد؛ لأنك تقول: يا رب أعطني كذا، فأنت تطلب منه وحده، وتقول: أنا أوحدك يا رب، أنت المستحق لأن تدعى فأنت الإله الذي تستحق ذلك وحدك، وأنت الرب الذي تستجيب.
فالدعاء هو العبادة، فتوحد ربك سبحانه بالدعاء، فتقول: يا رب! أنت وحدك الذي أتوجه إليك بهذا الدعاء، وهذا توحيد الألوهية، وأنت وحدك الذي تقدر على الإجابة، وهذ1 توحيد الربوبية، فمقتضى ربوبيته سبحانه أنه يعطي سبحانه، ومقتضى ألوهيته سبحانه أنك تتقرب إليه وتدعوه.(381/4)
كرم الله سبحانه واستجابته للدعاء على أي وجه من الوجوه
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه).
انظر إلى كرمه سبحانه وتعالى، يقول لك: اطلب مني، وإذا لم تطلب مني فسأغضب عليك، فأنت تطلب من الإنسان ما تحتاج إليه فتقول: يا فلان! أعطني كذا، فيكون كريماً، وتطلب منه مرة ثانية فيكون كريماً، وتطلب منه مرة ثالثة فيقول لك: ليس كل مرة تأتيني وتطلب مني! فالعبد يغضب إن طلبت منه الشيء، والرب سبحانه يغضب إن لم تطلب منه سبحانه وتعالى، ولذلك الإنسان المؤمن يعرف أن له رباً كريماً سبحانه وتعالى، يعطي سبحانه عطاء عظيماً، وعطاؤه الشيء كن فيكون، وخزائن الله عز وجل ملأى لا تغيظها نفقة، فعلى المؤمن أن يكثر من الدعاء، فالدعاء ينفعه في الدنيا والآخرة، فهو توحيد لله سبحانه وتعالى.
والله يستجيب للعبد على وجه من الوجوه التي كلها خير، فإما أن يعطيه هذا الذي سأله، أو يصرف عنه من الشر بقدر ما طلبه من الخير، أو يدخر ذلك له ويجعلها جبالاً من الحسنات يجدها يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى، فلا تعدم خيراً في الدعاء مهما دعوت ومهما سألت الله فكن على يقين بالإجابة على وجه من هذه الوجوه، وكن على ثقة في الله سبحانه أنه كريم جواد يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً، ومستحيل أن ترفع يديك وتقول: يا رب! ويردك ولا يستجيب لك، بل لابد أن يعطيك من فضله ومن كرمه سبحانه، فهو أعلم بالخير، فلا تقل: إني أدعو وربي لا يستجيب لي، فلعل هذا الذي تطلبه ليس فيه الخير لك، فإذا صرفه الله عز وجل عنك فثق أن الخير في غيره وليس فيه.
ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة في الأمور كلها، فالاستخارة دعاء تطلبه من ربك، حيث إنك لا تطلب شيئاً بعينه، بل تقول: يا رب! اختر لي، إذا كان هذا الشيء فيه خير لي فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان فيه شر لي فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به.
فالمؤمن يرضى بما يرضى الله عز وجل به.
وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ).(381/5)
استكبار العبد عن الدعاء استكبار عن عبادة الله سبحانه
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60].
فلما قال الله تعالى: (ادْعُونِي} [غافر:60] وصف الدعاء بأنه العبادة، فالذي يستكبر عن دعاء الله عز وجل مستكبر عن عبادة الله سبحانه، وعمم في ذلك فقال: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] بكل صورها، فبدأ بذكر الدعاء ثم عمم العبادة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، أي: من أعظم ما يكون في العبادة الدعاء؛ لأنك وأنت تدعو تستشعر بالذل بين يدي الله عز وجل، وبحبك لله سبحانه، وبأنه يريد بك الخير ويريد لك الخير، فتسأله سبحانه وتعالى وأنت مستيقن بأنه سوف يعطي سبحانه، وأنه المستحق لأن يدعى وأن يطلب منه وحده لا شريك له.
وقد وعدنا الله عز وجل في كتابه بالاستجابة وأمرنا بالدعاء، وأخبر عن هذه الاستجابة في مواطن من كتابه سبحانه وتعالى فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولم يجعل بين الدعاء والإجابة شرطاً، فقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن تدعو وتسأل ربك، لكن احذر من الدعاء بالإثم فلا استجابة لك في ذلك، فلا تدع على نفسك إلا بخير، ولا تتعجل في الدعاء، ولا تدعُ بقطيعة الرحم.(381/6)
علو الله فوق عرشه وقربه من العبد إذا دعاه فيستجيب له
وانظر إلى قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم يقل فقل: إني قريب، ولكن أعجل من ذلك الجواب من الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى قريب من عباده.
وجاء في سبب نزولها: أن بعض الصحابة سألوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ والنجوى: حديث السر، فنزل القرآن يجيب عن ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، والله فوق سماواته، وهو فوق عرشه سبحانه وتعالى، ومستو على عرشه، بائن من خلقه، والسماوات بعيدة عن الأرض، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والتي تليها كذلك، وفوق السموات السبع كرسي الله سبحانه، وفوق ذلك عرش الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات والأرضون بجوار الكرسي إلا كحلقة في فلاة)، وقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وأوسع من ذلك وأعظم عرش الرحمن، وما الكرسي بجوار العرش إلا كحلقة في فلاة، ومع ذلك كله فهو القريب سبحانه، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، فهو قريب بسمعه وبصره واستجابته وقدرته سبحانه وتعالى، فالله يحكم في عباده ويفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وهو أقرب لعباده من حبل الوريد بسمعه وبصره وقدرته سبحانه، وبلطفه بعباده، وبرحمته وحنانه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] أي: كل داع يدعو ربه فالله يستجيب له سبحانه وتعالى، وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] أي: فليدخلوا في ديني: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] أي: وليصدقوا بما جئتهم به من كتاب، وبما أنزلت في هذا الكتاب من أحكام، ومن أوصاف للرب سبحانه وتعالى، {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].(381/7)
الأصنام لا تملك لمن يدعونها شيئاً من الإجابة
وانظر إلى الفرق بين الرب القادر سبحانه وبين الآلهة التي لا تملك شيئاً، فالله له دعوة الحق، وأنزل الكتاب بالحق وفيه الحق، ويدعو الخلق إلى الحق، فالدعوة الحق له سبحانه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [الرعد:14] أي: الأصنام والآلهة وهذه الأشياء الباطلة {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14].
هذه الآلهة التي يدعونها مثل بسط الإنسان يده للماء وهو يقول: تعالى يا ماء ادخل فمي، وأنى سيأتي الماء إلى فمه؟ قال تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14].
فالدعوة الحق هي لله سبحانه، والدعاء الحق الذي يكون من المؤمن للرب سبحانه وتعالى.(381/8)
فضل الله علينا ومنه باستجابته دعاءنا عند الاضطرار
كذلك يمن الله علينا ويذكرنا، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، من الذي يجيبك إذا اضطررت؟ وكل منا يتعرض لذلك ليل نهار، فتجد نفسك مضطراً مريضاً تجأر إلى الله يا رب! اشفني، يا رب! اكشف عني، يا رب اشف ابني، وتسأل ربك وأنت مضطر، وتبكي على نفسك، وتبكي من الضرر الذي نزل بك، وتبكي خائفاً من الله عز وجل، حتى إذا استجاب لك نسيت كل شيء، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، من الذي يجيب هذا المضطر إذا دعاه؟ أإله مع الله؟ لا إله إلا الله، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من أمر البشر، أي: هل بعد استجابته لكم تدعون غيره وتطلبون من غيره سبحانه؟! وقوله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] لم يقل: أرب مع الله؛ لأنه لا أحد ينكر ذلك، فأي خلق تكونون وأنتم تعلمون أن الله هو الذي يعطيكم ثم تشكرون غيره سبحانه؟ فلو أن إنساناً أعطى صديقه شيئاً، أيشكر غيره؟! سيقولون: سبحان الله! انظروا هذا إنسان جاحد، فإذا كنا لا نرضاه بين الناس، فهل نرضاه لربنا أن يعطينا ونشكر غيره ونعبد غيره؟! وكرر الله سبحانه وتعالى نعمه على عباده، وفي كل نعمة يذكر وراءها (أإله مع الله) أي: هل هناك إله يستحق العبادة مع الله الذي يفعل بكم ذلك؟ لا إله إلا هو، قال تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].(381/9)
أمر الله سبحانه لعباده أن يخلصوا في دعائهم وعبادتهم له
كذلك قال الله سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، أي: ادعوه ووحدوه سبحانه وتعالى، وأخلصوا له في العبادة، وأخلصوا في دعائكم.
كذلك يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الدعاء والعبادة، ويذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث منها قوله صلوات الله وسلامه عليه: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)، فدعاؤه كرم منه سبحانه فكيف ستكون الإجابة؟! فمن أكرم ما تتقرب به إلى ربك سبحانه الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء).
فإذا أحببت أن يستجيب الله لك في وقت الأزمة والشدة فأكثر من الدعاء في وقت الرخاء.
نسأل الله عز وجل أن يستجيب دعوات المكروبين ودعوات المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(381/10)
تفسير سورة غافر (تابع) الآية [60]
لقد اشتمل الدعاء بمدلولاته على أنواع التوحيد الثلاثة، وهذا يدل على أهميته في حياة المسلم اليومية، والحقيقة: أن الدعاء باب لا يغلق، وفيض لا ينقطع، وسلاح ذو أثر عجيب، وهو أسرع الطرق للوصول إلى ما يتمناه الإنسان، فلتحرص عليه؛ لأن المدعو كريم حيي يستحي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين.(382/1)
الدعاء فضله وأهميته وشموله لأنواع التوحيد الثلاثة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
ذكرنا هذه الآية في الحديث السابق، وذكرنا أن الله سبحانه أمر عباده بدعائه، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم الدعاء فقال: (الدعاء هو العبادة)، فالدعاء يشتمل على توحيد الله سبحانه وتعالى بأنواعه، ففيه توحيد الألوهية، وفيه توحيد الربوبية، فعندما يدعو الإنسان ربه سبحانه وتعالى يقول: يا رب! وهو موقن بأن الله يستجيب الدعاء، وهذه من خصائص ربوبيته سبحانه، فهو الذي يستجيب الدعاء ويعطي عباده ما سألوه سبحانه وتعالى، وهو عندما يدعو ربه فإنه يتقرب إليه وحده لا شريك له، وهذه من خصائص توحيد ألوهية الله سبحانه، فهو الإله الذي يستحق أن يعبد، وأن يتوجه إليه بالعبادة.
وعندما تتوجه إلى الله بالدعاء فإنك تقول: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا عظيم، يا عزيز، يا حكيم، فتسأل ربك بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فهو وحده الذي يستحق هذه الصفات، ففيه توحيد الأسماء والصفات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، أي: له وحده لا شريك له.
فالدعاء مشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وجاء عنه قوله: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: (من سره أن يستجيب له الله عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء)، وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي، وهو حديث صحيح، وفيه: أن تعود نفسك على الدعاء في كل وقت، سواء في وقت الرخاء والخير أو في وقت البلاء والضيق، فإذا أكثرت من الدعاء في كل وقت كنت جديراً باستجابة الله لك حين ينزل بك شيء من البلاء، فيكون الله معك وبجانبك.
ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء أن تدعو لأخيك بظهر الغيب، وهذا من أجمل ما يكون إذا دعوت لنفسك وغيرك، فإنك إذا دعوت لأخيك أيضاً أمن الملك على ذلك، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: آمين ولك مثله)، فإذا أوصاك إنسان بالدعاء له فادع وأنت موقن بالإجابة، فإن الملك يدعو لك بمثل ما سألت لأخيك، ولذلك لا تستكثر على أخيك شيئاً في الدعاء، بل ادع له بالنجاح والرزق والجنة ونحو ذلك، فإن لك مثل الذي سألت لهذا الذي دعوت له بظهر الغيب.
وجاء في الترمذي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)، إذاً: فالإجابة على وجوه: إما أنه يعطيك الشيء الذي سألته بعينه، أو أن يكف عنك من الشر والسوء بمثل هذا الذي سألته سبحانه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً: (أن العبد يجد يوم القيامة جبالاً من الحسنات فيقول: يا ربي! لم أعمل هذا، فيقال: هذا دعاء ادخرناه لك)، فيتمنى العبد لو لم يستجب له أي دعاء، فلو ادخرت له الأدعية كلها ليوم القيامة لكان أنفع له يوم القيامة.
كذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوته فلم أره يستجيب لي)، يعني: أنه يضجر لعدم الاستجابة فيمتنع عن الدعاء، فيحرم نفسه من فضل الله سبحانه ويدع الدعاء.(382/2)
من شروط استجابة الدعاء
وحتى يستجاب للإنسان: فعليه أن يطيب مطعمه ومشربه وكسوته ورزقه الذي يأخذه؛ لكي يستجيب الله عز وجل لدعائه، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) إنسان مسافر سفراً طويلاً (أشعث)، أي: أن شعره غير مرتب من طول السفر، فهو لا يجد وقتاً ليمشط فيه شعره، (أغبر) أي: ممتلئ بالتراب وغبار الطريق، فهذا الإنسان على هذه الهيئة هيئة المسكين الذليل التعبان المنهك الذي يدعو ربه، فهو بهذه الحال حري أن يستجيب الله عز وجل له، ولكن هذا الإنسان الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيب الله له؛ والسبب هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له)، أي: إذا كان هذا يأكل الحرام ويمد يده على أموال الناس يأخذها ويأكلها ولا يتحرى الحلال فيأخذ منه، وكذلك مشربه وثيابه، فهو يسرق ويلبس ويغتصب ويشتري الشيء دون أن يدفع ثمنه، أو يلبس الحرير أو الذهب أو ما حرم الله سبحانه وتعالى.
قال: (وغذي بالحرام)، إذاً: فهذا الإنسان يشبع بطنه من الحرام ثم يقول: يا رب! يا رب! فهذا بعيد من الله سبحانه وتعالى، قال: (فأنى يستجاب له)، أي: كيف ينتظر الإجابة من الله سبحانه وهو قد أبعد نفسه عن ربه بهذا الحرام؟(382/3)
من موانع استجابة الدعاء
من موانع استجابة الدعاء: أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، أو أن يسكت عن المنكر، ويقول: دع الناس وشأنهم، مع قدرته على تغيير المنكر ولو بلسانه، فهذا بعيد عن الإجابة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).
إذاً: فهي عقوبة من الله عز وجل يبعثها على العباد من بلاء يبتلون به ومصائب تعمهم، فإذا دعوا الله فلا يستجاب لهم؛ لأنهم تركوا المنكر أمامهم فلم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر، فإذا بالله عز وجل يبتلي العباد بالمصائب لهذا.(382/4)
الحث على العزم في الدعاء
إذا سأل العبد ربه فليسأله وهو موقن بالإجابة، وليسأل سؤال المضطر العاجز المحتاج إلى ربه سبحانه وتعالى، وليري الله تعالى من نفسه الذل والمسكنة والحاجة والعجز، فيقول: يا رب! إني فقير فأغنني، إني ضعيف فقوني، إني ذليل فأعزني، فهذا جدير أن يستجيب الله عز وجل له.
ولذلك فإن الإنسان الذي يتكبر في سؤاله ربه فيقول: يا رب! أعطني كذا إن شئت، أو إذا أردت أن تعطيني فأعطني، وكأنه يخاطب إنساناً مثله، فهذا دليل الكبر الذي عند الإنسان وعدم الحاجة إلى الله عز وجل، فهذا لا يستحق جواباً من الله عز وجل؛ لأنه يعلق عطاء الله عز وجل واستجابته على المشيئة، بل ليعزم المسألة وليطلب من الله عز وجل وهو متيقن أنه الرب القادر العظيم سبحانه وتعالى، أما إذا علقت الدعاء بالمشيئة فإن الله لا يقبل ذلك، فقد يطلب الإنسان من الآخر ذلك ويعتبره نوعاً من الاحترام، وهذا من البشر؛ لأن الإنسان بطبيعته متكبر متعال، فيحتاج من الآخر أن يلتمس منه ويرجوه ويتلطف معه في الطلب، فإذا كان هذا الإنسان كريماً أنف هذا الشيء في البشر فكيف بالخالق العظيم سبحانه وتعالى؟! فهذا الأمر لا يقال للكريم سبحانه؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، وليعزم المسألة فإنه لا مكره له).
إذاً: فلتعزم المسألة راغباً من ربك فيما عنده، راهباً مما عنده، موقناً بإجابته، فلا أحد يكره الله عز وجل على شيء، عياذاً بالله.
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، إذاً: اطلب من الله عز وجل، ووحد ربك سبحانه وتعالى، وأكثر من ذكره سبحانه وتعالى، وادع إليه سبحانه، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك)، إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أن يذكروه ويشكروه ويتوجهوا إليه بالعبادة وحده لا شريك له.(382/5)
فضل ذكر الله تعالى
يقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي} [البقرة:152]، فلو ذكرت ربك فالنتيجة قوله تعالى: {أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وانظر إلى جمال كلامه سبحانه وتعالى وجمال
الجواب
{ اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا درجة الذي يذكر الله سبحانه وتعالى فيقول فيما يرويه عن ربه: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، إذاً: كلما ذكرت الله عز وجل في مكان كلما ذكرك الله سبحانه وتعالى في مكان خير من المكان الذي ذكرته فيه سبحانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
كذلك: أخبر الله عن المؤمنين أنهم يذكرون الله سبحانه كثيراً فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب أن يجلس مع أقوام يذكرون الله سبحانه وتعالى فقال: (لئن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة -أي: الفجر- حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل)، أي: أحب إليه من أن يعتق أربع رقاب من العرب، فهو يحب الجلوس في المسجد لذكر الله من وقت الغداة إلى أن تطلع الشمس قال: (ولئن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)، صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً قوله: (سبق المفردون)، أي: الذين يفردون الله عز وجل بالذكر سبحانه، (قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، فالمفردون: هم الموحدون ربهم سبحانه، الذاكرون الله كثيراً، فهؤلاء سبقوا، أي: إلى الآخرة، فالذي يسبق بهذا السباق هم المتقدمون الذاكرون الله كثيراً، والذين لا يزال لسانهم رطباً بذكر الله سبحانه وتعالى.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره أنه قال: (ما عمل آدمي عملاً قط أنجا له من عذاب الله تعالى من ذكر الله)، إذاً: فأفضل عمل ينجيك عند الله سبحانه هو ذكر الله سبحانه، ولا يكفي أن تذكر الله ساعة فقط، بل لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، فكلما قمت أو نمت أو ذهبت أو جئت فأنت تذكر الله تعالى، وعلى لسانك ذكر الله سبحانه وتعالى.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن شرائع الإسلام كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكر الله تعالى) فذكر الله أعظم من هذا كله، فقد تحدث هذه الأشياء مرة ثم تنقطع، ولكن الذكر لا ينقطع أبداً، فإن العبد يصل بالذكر إلى درجات عالية جداً، قال سبحانه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
نسأل الله عز وجل أن يطمئن قلوبنا بذكره، وأن ينصر الإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(382/6)
تفسير سورة غافر [60 - 64]
يحث الله عباده المؤمنين أن يتوجهوا إليه بالدعاء، وسماه الله عبادة لأهميته ومنزلته العالية، وتوعد الله الذين يستكبرون عن دعائه وعن عبادته بنار مستعرة، ويذكر الله في مواضع كثيرة عباده بالنعم الكثيرة والخيرات الوفيرة التي أسبغها عليهم؛ امتناناً وفضلاً منه سبحانه وتعالى، حتى يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً.(383/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:60 - 65].
لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده في هذه الآيات بدعائه بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وعد بالإجابة على الدعاء فقال: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وأخبر عن الذين يستكبرون عن الدعاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فالمتكبر عن توحيد الله سبحانه، والمتكبر على ربه سبحانه هو الذي لا يدعوه ولا يطلب منه سبحانه وتعالى، والمتكبر على دين النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه ولا يتابعه عليه.
قال تعالى: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: سوف يدخلهم الله سبحانه نار جهنم، قال تعالى: {يَوَمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، فيساقون إليها تسوقهم الملائكة فيدخلون جهنم وهم يدفعون إليها.
وقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} [غافر:60]، هذه قراءة الجمهور، وقرئ: (سيُدخَلون جهنم) وهي قراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم.
أي: يدخلهم ربنا سبحانه أو تدخلهم الملائكة.
وجهنم هي نار الآخرة، وسميت بذلك لبعد قعرها، فالحجر يلقى من فوق شفيرها ولا يصل إلى قعرها إلا بعد سبعين سنة، وقد خلقها الله عز وجل ليعذب بها من عصاه، نسأل الله العفو والعافية وأن يجيرنا من عذاب النار.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، أي: يستكبرون عن توحيد الله، وعن دعاء الله، وعن متابعة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كيف يدخلون النار وأنهم يحشرون كأمثال الذر في صور الرجال، فالذي يستكبر ويرى نفسه كبيراً عن أن يتابع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستكبر في نفسه، ووجد نفسه أكبر من الخلق، فالله يحقره ويذله ويهينه، ويجعله يوم القيامة مثل النملة، فيحشر على مثل هذه الصورة، والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وهو حديث صحيح: (إن الله عز وجل يحشر المتكبرين كأمثال الذر في صور الرجال حتى يدخلهم نار الأنيار)، أي: أشد جزء في النار سعيراً والتهاباً يدخل الله عز وجل فيه المتكبرين عن عبادته سبحانه وتعالى.(383/2)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه)
ثم أخبر الله عن نفسه سبحانه، وعن فضله على عباده، وعن قوته وقدرته سبحانه، فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61] فالله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فعبر عن ألوهيته بلفظ الجلالة (الله)؛ لأنه يفرد بالعبادة سبحانه، وعبر عن ربوبيته بقدرته سبحانه وخلقه وصنعه لهذه الأشياء، فالله هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، وكلمة (جعل) تأتي بمعان: فمن معانيها: الخلق، وهذا هو المقصود هنا، وقد تأتي بمعنى التصدير، أي: تصدير الشيء كذا، فإذا تعدت لمفعول واحد فهي بمعنى الخلق، وإذا تعدت لأكثر من مفعول فلها معنى آخر كما يذكر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، وهنا ليس معناها الخلق، فقد تعدت لمفعولين، والمعنى أي: جعله لتفهموه ولتعملوا به، فجعله لكم قرآناً عربياً، وهو كلامه سبحانه وتعالى، وهو صفة من صفاته سبحانه، فجعل الكلام عربياً لتفهموه، وقد خلق جميع الألسنة التي يتكلم بها الخلق فكلام الخلق مخلوق، وأما كلام الخالق سبحانه فهو صفة من صفاته.
و (جعل) في هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر:61] بمعنى الخلق، أي: خلق لكم الليل وخلق لكم النهار، فخلق لكم الليل رحمة بكم لتسكنوا فيه، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61]، رحمة من الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47].
ومن رحمته سبحانه أنه علم ضعف خلقه، والخلق لا يقدرون أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا والواحد منهم مستيقظ دائماً، فلا يطيق ذلك ولا يقدر، فلو أن إنساناً ظل مستيقظاً أياماً كثيرة فقد يموت من عدم النوم، فجعل الله للعباد ما يتمكنون فيه من النوم، وما يتمكنون فيه من الخروج للمعاش، فجعل الليل سكناً ولباساً يغشيهم ويغطيهم ويخفيهم ويسترهم، فيقدر الرجل في الليل أن يختبئ في بيته، وأن يختفي عن الخلق، وأن يأتي ويعاشر أهله في خفاء عن غيرهم من الخلق، فيستر الله عز وجل عباده، وجعل {َالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان:47]، أي: تنامون نوماً عميقاً فتستريحون بهذا النوم، وتقدرون على العمل بعد ذلك.
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، أي: أحياكم بعد ما أماتكم في هذا الليل، فقمتم من نومكم وقد أخذتم قسطاً من الراحة، فنشركم الله سبحانه، أي: أعادكم مرة أخرى لليقظة وللحياة.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْه} [غافر:61]، أي: من أجل أن تسكنوا فيه، فالسكون هو الهدوء، والعشرة، ويسكن الرجل إلى أهله، ويسكن إلى بيته، فجعل الليل لكم سكناً.
قال تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61]، أي: شديد الإضاءة، ففي النهار تشتد الإضاءة الناتجة من الشمس التي خلقها الله عز وجل للعباد، فجعل النهار يبصر فيه العباد، ومن شدة إضاءته كان النهار نفسه الذي يبصر، والمعنى: أنه جعل لكم النهار لتبصروا فيه وتعرفوا مصالحكم، وينظر بعضكم إلى بعض، وهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:61]، دائماً يكون التعبير بالألوهية والربوبية؛ لبيان أن الرب هو الله المستحق للعبادة وحده، والمشركون كانوا يفرقون بين ذلك، فالربوبية يصرفونها لله، فلو سألهم سائل من خلق السماوات والأرض؟ لقالوا: الله، والألوهية يصرفونها لغير الله، فلو سألهم سائل من تعبدون؟ لقالوا: غير الله.
فيخبر الله عن ربوبيته، فالرب هو الذي يخلق: فقد خلق السماوات، والأرضين، والليل والنهار، والإنسان، فالله هو الذي يخلق والذي يصنع ويفعل، قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17]، أي: الذي يخلق تتركونه وتعبدون من لا يخلق، فهل يستوي الخالق مع المخلوق سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً؟! فلفظ الجلالة (الله) من معانيه: أنه المعبود الذي يعبد سبحانه وتعالى، فالله هو المستحق لأن يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، وهو هذا الرب الذي خلق والذي رزق والذي سوى كل شيء سبحانه.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:61] أي: إن الله سبحانه وتعالى صاحب الفضل العظيم، فقد تفضل على عباده فأعطاهم وأوجدهم، وتفضل عليهم فأعطاهم ما يسكنون فيه، وما يتنعمون به، وما يعيشون فوقه، وجعل لهم الجنة جزاءً على حسن العمل، وجعل العقوبة بالنار جزاءً على الإساءة.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61]، فكل الناس يعرفون نعمة الله عز وجل عليهم، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18]، فهو رءوف بالعباد فأعطاهم النعم، ولكن الإنسان ظلوم وكفار، يظلم نفسه ويجحد نعم الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61]، فالقلة من الناس هم الذين يؤمنون، والكثير من الناس يغويهم الشيطان فلا يشكرون ربهم تبارك وتعالى.
قال تعالى: {َإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، فالأكثر من الناس في غفلة عن ربهم وعن نعم ربهم سبحانه، فإذا أعطاهم لا يشكرون، وإذا تفضل عليهم سبحانه لا يعرفونه، ولا يرجعون الفضل إليه، ولعل الإنسان ينسب الفضل إلى نفسه فيقول: بذكائي، وبقدرتي، وبكدي، وبتعبي، وبجهدي، فينسب لنفسه ما أعطاه الله سبحانه، فلا يشكر نعمة الله.
لكن الإنسان المؤمن يحمد ربه ويشكره في كل أحواله، قال عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن في كل أوقاته حامد لربه شاكر له، صابر على ما ابتلاه به.(383/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم خلق كل شيء)
قال تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ} [غافر:62]، (ذلكم) اسم إشارة، ويشار به للشيء البعيد، وهنا وجه التعظيم، فالخطاب لكم أنتم، ولذلك قال: ذلك وفي آخرها ميم، وهذا الضمير يشير إليكم أنتم، فيخاطب المخاطبين بالجمع، ولذلك جاء الضمير مع اسم الإشارة (ذلك).
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62]، أي: ذلكم الله الذي صنع بكم هذا كله من النعم العظيمة، فهو الرب الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر:62]، أي: ربكم ورب غيركم، فهو رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62]، فالله خلق السماوات وخلق الأرضين، وخلق ما تعلمون وما لا تعلمون، والله خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:62]، فانظر كيف يؤكد على الألوهية وعلى الربوبية، في التأكيد على أنه هو الذي يصنع، وهو الذي يخلق، وهو الذي يفعل، وهو الذي يستحق أن يعبد، فهو الإله سبحانه وتعالى، ويؤكد ذلك بذكر الله وبذكر الرب، وبذكر صفات الخالق سبحانه وتعالى وما يصنع، فقد قال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ)، وفي هذا ذكر الألوهية، (رَبُّكُمْ)، وفي هذا ذكر الربوبية (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، ذكر مقتضى الربوبية: أنه يخلق فهو الخالق وكل ما سواه مخلوق، (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، ذكر توحيد الألوهية وتقرير ذلك وتثبيت ذلك في قلوب المؤمنين أنه لا إله إلا هو سبحانه.
قال تعالى: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، أي: كيف تصرفون عن توحيده سبحانه وتعالى؟! وكيف تكذبون عليه وتجحدون ما يقوله لكم سبحانه؟! (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، أي: كيف تصرفون عن دلائل توحيده فتعبدون غيره وتكذبون عليه سبحانه؟! ومثل هذا الإفك العظيم كمثل ذلك العبد الذي صرف عن دين الله سبحانه وتعالى، فكل إنسان غاو بعيد عن الله سبحانه وتعالى فهو يجحد بآيات الله، وهو في هذا الإفك، وفي هذا الكذب، وهو في هذا الانصراف عن دلائل توحيد الله سبحانه وتعالى.(383/4)
تفسير قوله تعالى: (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون)
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:63] (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) أي: يصرف عن توحيد الله وعن فهم آيات الله كل إنسان جاحد، والجحود للشيء عكس الإقرار به، فعندما تقر بالشيء أي: تعترف به كأن تعترف أن الله هو الخالق سبحانه، وأن الله هو الذي يستحق العبادة، ويجحد الشيء أي: ينكره مع العلم والمعرفة، كأن يأخذ إنسان منك وديعة فتقول له: هات ما عندك، فيجيب عليك بالإنكار أنه لم يأخذ منك شيئاً، فهو ينكر وهو يعلم أن هذا الشيء عنده، فهؤلاء يجحدون آيات ونعم الله وهم يعرفون ربهم سبحانه وتعالى، ففي قلب كل إنسان ما يدله على ربه سبحانه، وعلى توحيده سبحانه، ولكنه ينصرف ويجحد فيختم الله على قلبه، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:63].(383/5)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء)
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64] فنعم الله كثيرة جداً، وتأمل في كل نعمة من النعم كيف لو أنه لم يوجدها لكم، فلو لم يجعل لكم الأرض قراراً كيف ستعيشون؟ ولو لم يثبت لكم هذه الأرض في أعينكم وفي شعوركم والأرض تدور والشمس تجري، لو أنه جعلكم تشعرون بدوران الأرض هل كان من الممكن أن نعيش فوقها وهي تدور بنا ونحن نشعر بذلك؟! ولكن الله من فضله وكرمه أن جعل ذلك دون شعور منا، بل نظن أن هذه الأرض ثابتة لا تدور ولا تتحرك، فالجبال راسية عليها أن تميد بكم، لئلا تضطرب وتتحرك بكم، وهذا من نعم الله، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] نسأل الله من فضله ورحمته إنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(383/6)
تفسير سورة غافر [61 - 65]
لقد دعا الله عز وجل عباده في أكثر من آية إلى التفكر في مخلوقاته وعجيب صنعه؛ لما لذلك الأمر من إقرار بأحدية الربوبية والتصرف لله وحده، والذي يستلزم لأجله إفراده جل في علاه بالألوهية؛ إذ لا يستحق العبادة إلا من كان خالقاً، رازقاً، معطياً مانعاً، وذلك هو الله وحده سبحانه وتعالى.(384/1)
مقتضيات ربوبية الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:61 - 65].
في هذه الآيات العظيمة من هذه السورة يقرر الله عز وجل أمر العقيدة الإسلامية التي هي دين الله عز وجل ودين الرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة السلام، فالله عز وجل أرسل الرسل يدعون الخلق إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، فيذكرهم بربوبيته، وأنه الذي يخلق ويرزق، وأنه خالق كل شيء، وأنه الفعال لما يريد، وأن الذي يخلق هو الذي يرزق وهو الذي يحكم بين عباده، وهو الذي يحاكم عباده ويحاسبهم فيدخلهم الجنة أو يدخلهم النار سبحانه وتعالى، فهذا الرب سبحانه هو وحده الذي يفعل ذلك، فإذا أمر وجب على العباد أن يطيعوا أمره سبحانه وتعالى، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
ومن مقتضيات ربوبيته سبحانه أنه يخلق وحده سبحانه وتعالى، وأنه وحده يحكم بين عباده فيما فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وهو الذي يشرع لعباده سبحانه، فهو الحكم، وهو الحكيم، وهو الحاكم سبحانه وتعالى يحكم بين عباده، وهذا كله من مقتضيات ربوبيته.
وما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية هو من مقتضى ألوهيته سبحانه، بأن ينفذ العباد ما يحكم به الله سبحانه وتعالى، فيعبدونه ويقيمون شرعه سبحانه وتعالى، فهنا بيان أنه الإله الذي يستحق العبادة بأفعال المخلوقين، وبيان أنه رب لأفعال منه سبحانه وتعالى، فهو رب يفعل ما يريد سبحانه، وهو إله يستحق أن يعبده كل الخلق، ومن ألوهيته أن يتوجه إليه بالعبادة سبحانه وتعالى، يقرر الله هذا المعنى العظيم بما يذكره سبحانه وتعالى من آياته ونعمه وفضله على عباده سبحانه وتعالى، ذلكم الله ربكم سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، فإذا خلق وجب على العباد أن يعبدوه وأن يشكروه، وإذا رزق وجب على العباد أن يحمدوه وأن يشكروه سبحانه وأن يذكروه، فأفعاله منه سبحانه تستوجب على العباد أفعالاً يفعلونها ليوحدوا ربهم سبحانه وحده لا شريك له.(384/2)
توحيد الألوهية أساس دعوة الرسل
لقد كان أهل الجاهلية يقرون بالربوبية، ولذلك لما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدعهم لأن يقولوا: لا رب إلا الله؛ لأنهم يعرفون ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم ليسوا بحاجة لأن يقولوا: لا رب إلا الله، وإنما أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ليدعو خلق الله إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، إقراراً على النفس بأني لا أتوجه إلى سواه بالعبادة، فلا أعبد إلا هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وأن أعتقد أنه لا يوجد في الكون إله حق إلا هو سبحانه، فهذا هو معنى شهادة التوحيد: لا إله إلا الله، إذ معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فهناك معبودات أخرى غيره كثيرة، منها ما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81].
لكنها كلها باطلة، فكلمة التوحيد (لا إله)، فيها حرف (لا) وهي نافية للجنس، و (إله) اسمها، والأصل في هذه النافية للجنس أن يقدر الخبر كلمة: (حق)، ومن ذهب إلى أن التقدير كلمة (موجود) كقولهم: لا مصلي في المسجد، أي: لا مصلي موجود في المسجد، فهو خطأ؛ لأن كلمة التوحيد لا يقال فيها: لا إله موجود إلا الله؛ لوجود آلهة أخرى كثيرة تعبد، لكنها باطلة، فالتقدير الصحيح أن يقال: لا إله حق إلا الله، فالله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وما سواه من أوثان وأصنام ومعبودات اتخذت من دون الله كلها آلهة باطلة عبدت من دون الله بغير حق، ولذلك نقول: أرسل الله الرسول عليه الصلاة السلام ومن قبله الرسل ليعبدوه وحده لا شريك له، وليوحدوه، وليقولوا للخلق: قولوا لا إله إلا الله، قال تعالى في شأن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فيبين ربنا هنا أنه أرسل نوحاً إلى قومه ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
فقوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] إثبات ونفي، وهي مثل كملة التوحيد: نفي وإثبات، فقولنا: (لا إله) نفي لصفة الألوهية الحقة عن إي مخلوق، وقولنا: (إلا الله) إثبات لصفة الألوهية الحقة له وحده سبحانه وتعالى، فمعنى (لا إله إلا الله) هو نفسه الذي أرسل به الله سبحانه الرسل أن يقولوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
وهذه الكلمة -أي: كلمة التوحيد- يدخل العباد في دين الإسلام ويعبدون الله سبحانه عن طريق اتباع أمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لابد من كلمة التوحيد الثانية وهي: محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول من عند الله يبين لنا كيف نعبد الله سبحانه وتعالى.(384/3)
توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية
هذه الآيات تقرر لنا معنى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه} [غافر:61]، ولاحظ أنه قبل ذلك أمر العباد أن يدعوا ربهم سبحانه وتعالى فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ} [غافر:60]، أي: ربكم الذي هو الله سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61].
فذكر آية من آياته سبحانه وتعالى الكل يحتاج إليها وهي الليل والنهار، وقال: الذي خلق لكم ذلك هو الله سبحانه، والذي صير لكم النهار مبصراً وجعل الليل مظلماً هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر:61] أي: خلق لكم الليل من أجل أن تسكنوا فيه، وجعل لكم النهار مبصراً، أي: تبصرون فيه، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ} [غافر:61 - 62].
أي: الخالق العظيم هو الله وهو الرب وحده سبحانه، وهو الإله الذي تعبدونه وحده دون سواه، قال جل في علاه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62].
فقوله تعالى: (كُلِّ شَيْءٍ) أي: كل ما يطلق عليه أنه شيء فالله عز وجل خالقه سبحانه، وقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله إلا الله، وهي كلمة عظيمة تعني: إفراد العبادة لله وحده سبحانه؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تمد عند علماء التجويد والقراء حتى عند من يقصر منهم المد المنفصل، ويقول: هذا من باب مد التعظيم، أي: التعظيم للخالق سبحانه وتعالى، فكلمة (لا إله إلا الله) لا بد أن تملأ قلبك وصدرك وفمك بأن تقر أنه الإله وحده لا شريك له، والذي لا يعبد سواه، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، فقوله: (فأنى تؤفكون) أي: إلى أين تذهبون؟ وكيف ترون هذه الآيات العظيمة وهذا الإعجاز الذي ترونه من ربكم سبحانه ثم تنصرفون عن الاعتبار بالآيات وعن توحيده سبحانه؟! قال تعالى: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، أي: كل من عرف الحق فأنكر بعد المعرفة استحق أن يطبع الله على قلبه، وأن يؤفك أي: أن يصرف عن الحق إلى الباطل، فقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) أي: يصرف عن توحيد الله بالختم على قلبه، والطبع لكل من يجحد بآيات الله سبحانه، ولذلك فالإنسان الذي يعلم ثم يجحد بعد علمه، أو يتكلم بالباطل بعد أن عرف الحق يستحق أن يطبع الله على قلبه فيكون من الغافلين.(384/4)
تسخير الأرض للإنسان وبسطها لهم آية على توحيد الإلوهية
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64].
هنا يذكر الله بألوهيته سبحانه وتعالى وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه هو الذي يخلق وهو الذي يجعل لكم ذلك قال تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: وطأ لكم الأرض فجعلها لكم موطأة تستقرون عليها، وقال تعالى عن إنعامه بالأرض للعباد في سورة المرسلات: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26].
أي: جعل الأرض تقبل العباد، فهم يعيشون فوقها، فإذا ماتوا دفنوا بداخلها فتقبلهم الأرض، ولو شاء الله عز وجل ما جعلها تقبلهم، ولقد أرانا الله آياته في ذلك، وذلك لما قتل رجال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المؤمنين ثم دفنوه فإذا بالأرض تلفظه، فقالوا: لعل أحداً من أعدائنا أخرجه، فبعثوا غلمانهم يحرسونه، فإذا بهم يدفنونه بالنهار، وإذا بالأرض تلفظه بالليل، فقالوا: لعل غلماننا قصروا، أو هم الذين عملوا هذا، فحرسوه بأنفسهم، فوجدوا الأرض تلفظه ثلاث مرات، يدفنونه في قبر ويعمقون له الأرض فيصبحون وهو على ظهر الأرض لم تقبله، فلما تعجب الصحابة من ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأرض لا تقبل شبراً منه)، ومع أن الكفار كلهم يدفنون في الأرض فتأخذهم وتقبلهم، إلا أن الله أراد أن يجعل تلك القصة عظة وعبرة للناس؛ لئلا يقتل بعضهم بعضاً.
فهذه الأرض نعمة من الله، تجمعكم فوقها وتستقرون عليها، ومن ذهب إلى القمر فإنه يرى نفسه تطير فوق سطح القمر؛ فلا توجد أرضية هناك، فالإنسان هناك يظل طائراً ولا يستطيع المشي، إلا إن ثقل بشيء يعينه على النزول على سطح القمر، أما الأرض فالإنسان ليس محتاجاً لهذا الشيء؛ إذ قوة الجاذبية تجذبه ليبقى على الأرض، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى لا يفكر الإنسان فيها، ولهذا يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: تستقرون عليها، فالأرض تدور، وهذا الدوران يجعل اليوم أربعاً وعشرين ساعة ومنه يأتي الليل والنهار، ولو شاء الله لثبتها، ولو شاء لشعرتم بدوران هذه الأرض، وانظر عندما يركب إنسان أرجوحة تلف به فإنه يشعر بدوران في رأسه، والأرض تدور بك أسرع من ذلك بكثير، ومع ذلك فأنت لا تشعر بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وأيضاً لو أن إنساناً أتى بحجر ولفه على خرقة، ثم صار يلوح بها في الهواء، لطار الحجر مسافة بعيدة، وهنا الأرض تدور دوراناً شديداً ثم لا نرى أحداً يطير من مكانه، وكل هذا بفضل الله وكرمه؛ ولذلك يقول الله تعالى مذكراً بنعمته هذه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا).
أي: جعلكم تستقرون على هذه الأرض وهي تدور بكم فلا تطيرون فوقها.
وقوله تعالى: (والسماء بناء)، أي: جعل السماء بناءً عظيماً محكماً، وهي سبع سماوات بعضها فوق بعض، ومع ذلك لم نر من تلك السبع إلا السماء الدنيا التي زينها ربنا بمصابيح، ونرى ما تحتها من كواكب وشموس وأقمار، ونسمع عن المجرات الكثيرة التي تتجاوز مائتي مليار مجرة موجودة، وكل مجرة فيها مليارات المليارات من الكواكب، وكل هذا فقط تحت السماء الدنيا، فكيف بالسماء الثانية والثالثة والرابعة؟! وما بين السماء والسماء؟! فالله جعل السماء بناء محكماً، وإذا تدبرنا في السماء الدنيا وأن الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها، وأن الشمس تجري في هذا الكون، بل المجموعة الشمسية كلها تدور حول الشمس في مسير جعله الله عز وجل لها لا تتخلف عنه، فلا يوجد كوكب يقرب عن مكانه أو يبعد عنه، بل كل شيء ثابت في المسار الذي جعله الله عز وجل له، وهذا هو إحكام الله سبحانه وتعالى، ولقد قال جل في علاه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، أي: بناها بقوته سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، أي: أن الله يوسع هذا الكون، وهذا هو الذي اكتشفه الخبراء حديثاً، ومع ذلك فكل شيء في مداره، وتتحرك النجوم من مكان إلى مكان بنظام دقيق، وهذا كله يدبره الخالق سبحانه وتعالى، والذي بناها فأحكم بناءها وجعل فيها طرقاً ومسارات هو الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى، ولذلك يحث الله عباده أن يتفكروا فيقول: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].(384/5)
إتقان خلق الإنسان وصورته دليل على ربوبية الله وألوهيته
يقول الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64] أي: أعطاكم صوركم، وأعطاكم الهيئة والمنظر الذي تتميزون به عن غيركم، وكل هذا بأحسن منظر، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7].
أي: هو الذي خلقك ودبرك سبحانه، فخلق فسوى، وقدر فهدى سبحانه وتعالى، جعلك مستوياً، تقوم بقامتك فلا تمشي على يديك ورجليك، أو تمشي على بطنك، أو تزحف على استك، ولكن جعلك بشراً سوياً فعدلك سبحانه وتعالى، وجعل لك يداً عن يمين وشمال، ورجلاً عن يمين وشمال، وعيناً يمنى ويسرى، فجعلك جميلاً وصورك فأحسن صورتك سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64] أعطاكم من فضله تأكلون وتشربون وتقتاتون وتتفكهون، وكل هذه النعم بمن الله وكرمه.
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر:64] سبحانه وتعالى، فالذي فعل ذلك هو الله المستحق للعبادة، وهو ربكم الذي يفعل ذلك ولا أحد سواه يقدر على شيء من ذلك، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ} [غافر:64]، أي: تعالى وتمجد وكثرت بركته وخيره سبحانه وتعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، وفي هذا توكيد على الألوهية والربوبية، والمعنى: تبارك الله وتمجد الذي يستحق العبادة وحده، والذي هو رب العالمين، و (العالمين) يشمل كل عالم: عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الأرض، وعالم السماء، كل هذه العوالم العلوية والسفلية الله ربها ورب العالمين رب كل شيء سبحانه وتعالى، فتبارك وتعالى وتمجد الله رب العالمين.(384/6)
دعاء الحي الذي لا يموت أولى من دعاء غيره
قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65] هذه صفة من صفاته سبحانه وتعالى وحده، فهو الحي الحياة الأزلية الأبدية، أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، ظاهر فليس فوقه شيء، وباطن فليس دونه شيء، سبحانه وتعالى، قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
فقوله: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله إلا هو، هو الحي وما سواه ميت، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
قال تعالى: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فإذا كان هو الحي وحده لا شريك له، الباقي وغيره فان، فادعوه وحده، واطلبوا منه سبحانه وتعالى بإخلاص، وأخلصوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئاً، فلا تعبدوه وتعبدوا غيره معه، وإنما اعبدوه وحده لا شريك له، ووجهوا العبادة إليه مخلصين له الدين، فمن معاني الدين: العبادة، ومن معانيه: الجزاء، والمقصود هنا: أخلصوا له دينكم أي: عبادتكم، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فكأنه يقول: وحدوه واحمدوه، فإن لم تحمدوه فقد حمد نفسه سبحانه فقال في كتابه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وقد كرر ذلك في مواضع من كتابه؛ ولذلك استحب العلماء أن يختم ذكر الله بالحمد لله، وأن يختم الدعاء بالحمد لله، كما قال هنا: ادعوه ثم قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فالحمد لله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(384/7)
تفسير سورة غافر [66 - 67]
نهى الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنداداً من دون الله، ونهاه أن يعبد الذين يدعون من دون الله، فقد بعث صلى الله عليه وسلم ليدعو الخلق إلى توحيد الله سبحانه في العبادة وعدم الإشراك به، فلابد للمرء أن يستسلم لله وينقاد له ويخضع، فالإسلام هو دين الأنبياء جميعاً، فالذي خلق الإنسان أطواراً ثم أخرجه طفلاً هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.(385/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:66 - 68].
في هذه الآيات يأمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بعبادته وحده لا شريك له، وأنه بعث عليه الصلاة والسلام ليدعو الخلق إلى ذلك، ونهي هو عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنداداً من دون الله وغيره بالتبع، ونهي أن يعبد الذين يعبدون من دون الله، وقد كان المشركون يتمنون من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يسفه آلهتهم وأحلامهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بذلة هذه الآلهة وأنها لا تستحق أن تعبد، وأنه لو فعل ذلك كانوا على استعداد أن يدخلوا معه في دينه صلوات الله وسلامه عليه، بشرط ألا يسفه أحلامهم ولا يتكلم على آلهتهم، ولكن أبى له ربه سبحانه إلا أن يصدع بالحق، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر صلوات الله وسلامه عليه، فقال له: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
قوله: (إِنِّي نُهِيتُ) أي: نهاه ربه سبحانه، وما تقرب إلى آلهتهم قط لا قبل البعثة ولا بعدها صلوات الله وسلامه عليه، فنهاه ربه عن ذلك، وهو الذي يدعو الناس إلى التوحيد، والكفار يشنعون عليه صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: هذا الذي يدعونا إلى التوحيد يقول: الله والرحمن ويشرك، قالوا ذلك وهم يعلمون أنهم يكذبون ويهرفون بما لا يعرفون، وربنا سبحانه يكذبهم ويقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] سواء دعوته باسمه العظيم (الله) أو باسمه العظيم (الرحمن)، أو بأي اسم من أسمائه الحسنى سبحانه فكلها أسماؤه، والمسمى واحد هو الله سبحانه وتعالى.
فقال لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويقولون: يدعونا للتوحيد وهو يشرك: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) أي: جاءه هذا القرآن العظيم وجاءه الوحي، وجاءه ما يصدق به صلوات الله وسلامه عليه، ويجعلهم يصدقون ويؤمنون، جاءه هذا القرآن العظيم الذي أعجز بلغاءهم وفصحاءهم فلم يقدروا أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور مثله مفتريات، ولا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك.
فقوله: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أي: نهاني ربي سبحانه وتعالى، وقوله: (أَنْ أَعْبُدَ) أي: أن أتوجه ولو بشيء قليل من العبادة إلى هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله، (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) أي: لما جاءني القرآن وجاءتني الآيات البينة من ربي، والبينة أي: الظاهرة الجلية الواضحة التي تبين عن نفسها، وتبين لكم الحق الذي أنا عليه، وتبين لكم كيف أن هذا القرآن معجز وعظيم.
قال تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ)، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بدين الإسلام وأمر أن يسلم، وأمر الخلق أن يسلموا لله سبحانه وتعالى، فأنت مسلم أي: مسلم نفسك لله سبحانه وتعالى، وموجه وجهك إليه، ومسلم قلبك له، يفعل بك ما يختاره لك وما يريده وما يشاء سبحانه، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالذي خلق هو وحده الذي له الأمر، فلله سبحانه الخلق، ولا أحد غير الله سبحانه يخلق، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17].
فإذا كان هو الذي يخلق فله الأمر وحده سبحانه، أي: له التشريع، وله أن يأمر بما يشاء، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وأمر الله سبحانه واجب التنفيذ، فهو كما خلقك من دون أن يستشيرك كذلك يأمرك من دون أن يأخذ رأيك، فله الخلق سبحانه وله الأمر يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يريد سبحانه ويحكم في عباده بما يختاره سبحانه.
فقوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) أي: أن أسلم أمري ونفسي لله سبحانه يحكم فيَّ بما يشاء سبحانه وتعالى، إذاً: دين الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا لله أي: وجهوا وجوههم لله، وسلموا قلوبهم لله، وخضعوا بأبدانهم لله سبحانه وتعالى فنفذوا ما أراد الله، إذاً: الإسلام بمعنى: الإذعان، والخضوع، والاستسلام لله سبحانه وتعالى، فأنت تسلم نفسك له كما يسلم الأسير نفسه لمن أسره، تسلم نفسك لخالقك، لمالكك، للذي يدبر أمرك، تسلم أمرك إليه سبحانه وتعالى حتى يدلك على طريق الجنة فتكون من أهلها.
وقوله تعالى: (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فهو رب العالم كله، العالم العلوي والعالم السفلي، والرب: هو الخالق المدبر سبحانه وتعالى.(385/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُ} [غافر:67] فأنتم تسلمون أنفسكم لله، وتستسلمون له؛ لأنه مستحق لذلك، فأنتم كنتم لا شيء، وهو الذي خلقكم من تراب، والتراب لم يكن شيئاً فأوجده الله سبحانه، وخلقكم من نطفة من ماء مهين، كل هذا خلق الله سبحانه وتعالى، فأصل الإنسان كان عدماً، وأوجد الله عز وجل الماء، وأوجد التراب سبحانه وتعالى، وخلط الماء بالتراب فأوجد الطين، ثم ترك الطين فترة فصار صلصالاً، كما قال تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] أي: من هذا الطين الذي يكاد أن ينتن، تقول: أسن الماء بمعنى: أنتن الماء، فخلق الإنسان كان من طين تركه الله عز وجل فصار صلصالاً متغيراً، تغير ثم يبس فكان كالفخار، ثم شكله الله عز وجل كما يشاء فكان آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم نفخ فيه من روحه، أي: مما خلق من الأرواح، فبثها فيه سبحانه وتعالى فكان هذا الخلق، ثم جعل الإنسان بعد ذلك يتناسل كما سمعنا في هذه الآية العجيبة، ومثلها ذكر الله عز وجل في سورة الحج، ومثلها ذكر في سورة المؤمنون، فتكرر وصف خلق الإنسان الذي أعجز الخلق جميعهم، فالله سبحانه وتعالى خلق {الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وخلق {الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، وهنا يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:67] فبدء خلق آدم كان من تراب.
قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وكان التناسل بعد ذلك من هذه النطفة، وعناصر جسد الإنسان هي عناصر موجودة في التراب، وقد اكتشف العلماء منها حوالي اثنين وعشرين عنصراً من العناصر كلها موجودة في تراب الأرض، ومن الممكن أن يكتشفوا بعد ذلك عناصر أخرى، قالوا: تراب الأرض فيه مائة عنصر، وقد اكتشفوا في الإنسان من هذه العناصر اثنين وعشرين عنصراً، ولذلك إذا مات الإنسان تحول إلى هذا التراب واختلط به؛ لأنه جاء منه أصلاً، فقد جعل الله عز وجل الإنسان من تراب، وجعل ماءه يجري على هذا التراب، وجعل رزقه يخرج من هذا التراب، فأنت من هذه الأرض وإليها ترجع مرة ثانية.
وكلمة (نطفة) المقصود بها: المني، ومعنى النطفة لغةً: الماء اليسير الذي ينطف في الإناء، فخلق الإنسان من هذه النطفة، وهذه النطفة عجيبة جداً، إذ هي ماء يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية، والإنسان يخلق من حيوان واحد منها فقط، وحجمه صغير ضئيل جداً جداً، لم يكتشف العلماء هذا الحيوان الموجود في هذه النطفة إلا منذ سبعين سنة مضت، وكانوا قبل ذلك يظنون أن الإنسان كله يخلق في بطن أمه إنساناً صغيراً مثل النملة ويكبر على هذا الشيء، واعتقد به علماء الطب حتى القرن السابع عشر للميلاد، حتى اخترع الميكروسكوب في هذا الزمان، وكان لا يزال هذا الاعتقاد سائداً إلى قبل سبعين سنة، ثم اكتشفوا أن الإنسان يتكون في بطن أمه أطواراً، وقد ذكر الله عز وجل ذلك لنا منذ ألف وأربعمائة سنة.
يذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني الذي أكرمه الله بهذه الآية وأمثالها في القرآن قصة له مع رجل أمريكي في هيئة الإعجاز العلمي، وهو عالم من علماء الطب اسمه البروفسور مرشال جونسون، قال الشيخ عبد المجيد للبروفسور مرشال: قد ذكر في القرآن أن الإنسان خلق أطواراً، طوراً فطوراً، قال: فلما سمع هذا الكلام كان قاعداً فوقف مندهشاً! قال: قلنا له: كان ذلك في القرن السابع الميلادي، فالقرآن يذكر لنا أن الإنسان كان أطواراً، فقال البروفسور: هذا غير ممكن، وتعجب لهذا الأمر، فقال له الشيخ عبد المجيد: لماذا تحكم عليه بهذا؟ هذا القرآن يقول: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، قال: فقعد البروفسور مرشال جونسون على الكرسي وهو يقول بعد أن تأمل الأمر: ليس هناك إلا ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون عند محمد صلى الله عليه وسلم ميكروسكوبات ضخمة جداً يعرف بها ذلك، وهذا مستحيل جداً.
والاحتمال الثاني: أن يكون هذا الشيء من قبيل الصدفة.
والاحتمال الثالث: أن يكون رسولاً من عند الله سبحانه وتعالى.
فقال له الشيخ عبد المجيد: أما قولك: عنده ميكروسكوبات ضخمة، فأين هذا وأنتم لم تصنعوها إلا في القرن السابع عشر؟ قال: هذا صحيح.
قال: أما الأمر الثاني: وهو قولك إن هذا صدفة، فهل احتمالات الصدفة الواردة عندكم في الإحصاء تعطي هذا الأمر ومن الممكن أن يكون؟ وإذا جاء مرة في القرآن فهل تتكرر الصدفة مرة أخرى؟ فقال الرجل: هذا صحيح، صعب أن نقول: صدفة، فقال الشيخ عبد المجيد: قلنا: ما رأيك؟ هل هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء؟ فقال الرجل بعدما سكت: لا تفسير إلا بوحي من فوق، أي: نزل عليه من السماء صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الأمر العجيب الذي ذكره القرآن يذكر فيه مراحل الخلق، وليس كل النطفة هي التي تلقح البويضة، وإنما حيوان واحد من ملايين الحيوانات الموجودة داخل هذا الماء القليل هو الذي يخترق البويضة ويلقحها، فهذا خلق الإنسان.(385/3)
معنى العلقة
قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)، كانوا في الماضي يفسرون كلمة (العلقة) بأنها قطعة من الدم الجامد، وهذا من المعاني اللغوية، والله عز وجل يقول: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2]، وقال هنا سبحانه: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وقد تكررت هذه الكلمة، والبعض يفسرها بأنها قطعة من دم عبيط، ومعنى عبيط: أحمر طري، أي: دم جديد، والبعض يفسرها بقوله: العلق: دودة صغيرة تسمى دودة العلق، وشكلها صغير جداً يضعونها على عرق دم الإنسان في الزمان القديم، يستخدمونها لتخفيض الضغط في الإنسان، حيث إنها تكبر وتكبر وتمص دم الإنسان فيخف عنه الصداع، ويخف عنه ارتفاع ضغط الدم، فقالوا: العلقة: كهيئة الدودة، وهذا لعله يكون التفسير الصحيح الذي فيه: أن الإنسان يكون في مرحلة ما بعد النطفة مثل الدودة الصغيرة لاصقة في جدار الرحم.(385/4)
معنى المضغة
ويذكر الله في سورتي المؤمنون والحج أن المضغة مرحلة أخرى من مراحل خلق الإنسان، والتعبير عنها بالمضغة تعبير عجيب جداً، والعلماء لما نظروا إلى هذه المرحلة وجدوها تشبه في شكلها اللبانة حين يمضغها الشخص، فتحدث تلك النتوءات على اللبانة، وقد تعجب علماء الطب من ذلك، كما يذكر ذلك الشيخ الزنداني: أنهم احتاروا في تسمية هذه المرحلة، وكانوا يتعجبون لهذا الذي في كتاب الله العظيم، وكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم هذا العلم العظيم؟! فلا يكون علم محمد صلى الله عليه وسلم إلا من لدنه سبحانه وتعالى، وهذا العلم بوحي من السماء عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بما في القرآن، فهو لا ينطق عن الهوى وإنما ينطق بوحي من الله سبحانه وتعالى.
إن هذه الآية العجيبة جعلت الكثيرين من أطباء الغرب يدخلون في دين الله عز وجل عندما يقرءون مثل ذلك، منهم الدكتور موريس العالم والطبيب الفرنسي الذي درس القرآن ودرس الإنجيل ودرس التوراة، وبعد ذلك في النهاية شكل مؤتمراً هنالك، وقال: إن القرآن هو الكتاب المعجز لبيان كذا وكذا منها هذه الآية العظيمة.(385/5)
الطور الأخير في خلق الإنسان إخراجه طفلاً
قال الله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا).
إذاً: المرحلة الأخيرة: أن يخرج الإنسان طفلاً، وقد يتوفى قبل ذلك.
وقد جاء في الحديث في سنن أبي داود وعند الترمذي وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض).
آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام خلقه الله عز وجل من تراب هذه الأرض التي نحن عليها، (من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك)، فجاءوا مثل تراب الأرض، فيها الأبيض والأحمر والأسود، فقد جاء الإنسان على هذه الألوان، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والسهل والحزن، والخبيث والطيب وبين ذلك)، مثل هيئة الأرض ففيها الأرض السهلة، وفيها الأرض الصعبة الوعرة، وفيها الأرض الخبيثة، وفيها الأرض التي تنبت، أي: أن الإنسان جاء على ما خلق الله عز وجل من تراب هذه الأرض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(385/6)
تفسير سورة غافر الآية [67]
لقد أخبر القرآن عن مراحل وأطوار خلق الإنسان في زمن خال من جميع العلوم والأجهزة والتقنيات، ووصفها في عدد من سوره، وفصلها تفصيلاً دقيقاً، وكذلك وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن لا يعلم عنها الناس شيئاً، ثم جاء العلم الحديث ليثبت مصداق ذلك كله، وليكون شاهداً على أن القرآن نزل من عند الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله.(386/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67].
لقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز عن مراحل خلق الإنسان، وقد ذكرها هنا في سورة غافر، وذكرها في سورة الحج، وفي سورة المؤمنون.(386/2)
بيان أن ابتداء خلق الإنسان من تراب
قال الله سبحانه: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)) وقال في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5].
فذكر الله عز وجل في هاتين الآيتين مراحل وأطوار خلق الإنسان، فقد ابتدأ خلقه من تراب، وكل إنسان مخلوق من هذا التراب، فأصل الخلق هو آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد خلقه الله عز وجل من تراب، كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض)، أي: جاءوا في ألوانهم وفي أصنافهم وفي أنواعهم وفي أخلاقهم وفي تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وفي بعدهم عنه، وفي خيرهم وفي خبثهم كهذه الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (منهم الأحمر والأبيض والأسود)، أي: كما أن الأرض فيها هذه الألوان، قال: (منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك)،فكما أن الأرض فيها السهول والجبال الوعرة والخبيث والطيب وبين ذلك، فكذلك أخلاق الإنسان جاءت على طبيعة الأرض التي خلقوا منها.(386/3)
اكتشاف العلم الحديث أن بداية خلق الإنسان من تراب
فالإنسان خلق من تراب، ومن تحليل جسد الإنسان وجدوا أن فيه اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عنصراً، وكلها موجودة في الأرض، والأرض فيها أكثر من مائة عنصر اكتشفها الإنسان، ووجدوا أن أكثر خلق الإنسان من هذا الماء، وقالوا: إن نسبة وجود الماء في جسد الإنسان من خمسة وستين إلى سبعين في المائة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كل شيء من ماء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وقد كان الناس في الماضي لا يتصورون أن يكون هذا البدن واللحم والعظم والعظام من الماء؛ لأن الماء شيء والجسد شيء آخر، ولكن التحليل الحديث أثبت وجود هذا الماء في جسد الإنسان، وأن جسد الإنسان تركب منه، وأيضاً الحيوان فيه هذه النسبة من الماء بنسبة كبيرة.
والماء عبارة عن اتحاد ذرة الأكسجين مع ذرتين من الهيدروجين.
إذاً: فثلاثة أرباع جسم الإنسان من الماء، قالوا: وباقي جسد الإنسان فيه عناصر أخرى، منها: الكربون والهيدروجين والأكسجين، والمركبات العضوية الموجودة في جسم الإنسان وهي: السكريات، والبروتينات، والدهون، والفيتمينات، وغير ذلك من المواد الجافة التي تكون جسم الإنسان من المعادن والكلور والكبريت والفسفور والمغنسيوم والبوتاسيوم والصوديوم، ومواد أخرى مثل: الحديد والنحاس واليود والكوبل والتوتيا والفلور والألمنيوم والكدينم والكرم، وأشياء من المعادن الموجودة بداخل هذا الإنسان، فإذا حلل جسم الإنسان وجدت فيه هذه المعادن بنسب بسيطة جداً، والإنسان عندما يموت ويدفن ويتحلل في القبر فإن نسبة الماء الخمسة والستين في المائة ترجع إلى أصلها، وتتحلل بقية المعادن.(386/4)
بيان أن قيمة الإنسان بسبب تشريف الله له
يقول العلماء: إن المعادن في الإنسان تملأ علبة طباشير أو علبة كبريت فقط، ولا تكون إلا مسماراً صغير وحزمة من الملح ومواداً أخرى لا قيمة لها، فعندما يموت الإنسان ويدفن في الأرض لا يخرج منه إلا هذه الكمية البسيطة من هذه الأشياء التي لا يمكن الاستفادة منها، وليس لها أية قيمة.
فالإنسان خلق من تراب، والتراب أكثر قيمة منه، وهو جاء من هذه النطفة التي لا قيمة لها، والتي يستقذرها الإنسان فيغتسل منها شرعاً، ويغسلها عن نفسه ليميط عن نفسه الأذى عرفاً.
وإنما قيمة الإنسان في تكريم الله سبحانه له، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:70]، وهذا التكريم تشريف من الله سبحانه لهذا الإنسان، ومنة منه عليه، وليس لأن الإنسان يستحق ذلك بأصل خلقته، فهناك من هو أشد خلقاً منه، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]، يقول تعالى في هذه الآيات: أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأرض التي تسيرون عليها؟ فالأرض أشد خلقاً منكم، والجبال أشد خلقاً منكم، والسماء أشد خلقاً منكم، إذاً: فتشريف ربنا سبحانه وتكريمه لهذا الإنسان منه منَّة، فقيمة الإنسان في تكريم ربه سبحانه وتعالى له.(386/5)
أطوار خلق الإنسان كما في السنة
ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان ما جاء في الصحيحين البخاري ومسلم، ففي رواية البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، هذا الحديث في رواية الإمام البخاري كما قلنا، وفيه: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)، فكأن جمع خلق الإنسان في بطن الأم يكون خلال أربعين يوماً يتكون فيها هذا الإنسان.
(ثم يكون علقة مثل ذلك)، أي: مثلما جمع الخلق في بطن الأم في خلال الأربعين فإن تكون النطفة والعلقة والمضغة وتكون الإنسان يكون في خلال هذه الفترة.
وفي لفظ لـ مسلم أوضح قليلاً من لفظ البخاري يقول: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك)، أي: في خلال الأربعين (علقة مثل ذلك)، يعني: مثلما كان نطفة فإنه يتكون ويتشكل ويصبح علقة مثل ذلك، (ثم يكون في ذلك)، أي: في نفس الأربعين (مضغة مثل ذلك).
وأكثر من فسر هذا الحديث فسره بأنه يكون نطفة أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين أخرى، ثم يكون مضغة أربعين أخرى، فيكون المجموع مائة وعشرين يوماً، وهذا خطأ، فإن لفظ الحديث وإن كان محتملاً ذلك في البخاري إلا أنه غير محتمل لذلك في مسلم، فهو يقول في مسلم: يجمع خلقه أربعين ويكون في ذلك مثل ذلك، أي: في خلال هذه الأربعين يكون مثل ذلك مضغة، أي: أنه يكون نطفة وفي خلال هذه الأربعين يتشكل ويتحول إلى علقة، ثم يتشكل ويتحول إلى مضغة في نفس هذه الأربعين، إلى أن يتشكل إنساناً، ولكن نفخ الروح لا يكون إلا بعد الأربعين الثالثة، وإن كان فيه قبل ذلك حياة من نوع آخر، وهي كما يقولون: إما حياة نباتية أو حياة حيوانية.
والحياة النباتية: هي الحركة والنمو، أي: مثلما يتحرك النبات، فإنه يكون بذرة، ثم تنشق هذه البذرة ويخرج منها الساق، ثم تكبر حتى تصير شجرة.
وكذلك الإنسان ينمو داخل بطن أمه كهذه الحياة النباتية إلى أن يمر عليه الأربعة الأشهر فينفخ فيه الروح بعد ذلك، فتتحول حياته إلى نوع آخر من الحياة وهي الحياة الحيوانية التي فيها الروح، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على هذا المعنى في نفخ الروح.
وجاء في رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)، فسمع رجل ذلك من ابن مسعود فذهب إلى حذيفة بن أسيد وقال له: سمعت ابن مسعود يقول: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره، كيف يشقى وهو لم يعمل شيئاً؟! فكأنه لم يفهم المعنى من ذلك، فقال له حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أتعجب من ذلك! فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها).
وهذا الحديث عجيب جداً! فقد حدد اثنين وأربعين يوماً على وجود النطفة في بطن الأم يكون خلالها قد تكونت فيها هذه الأشياء، وأهل الطب يقولون ذلك، ويقولون: في الأسبوع السادس يكون قد تكونت هذه الأشياء، والأسبوع السادس هو بعد اثنين وأربعين يوماً، وإن كانوا عندما يحددونها بالأيام يقولون: بين ثمانية وثلاثين يوماً وأربعين يوماً يتكون هذا الشيء، والبعض منهم يقول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم يذكر اثنين وأربعين يوماً، والأطباء لا يعرفون اليوم الأول أصلاً متى كان؟ ولذلك يخطئون في الاحتمال بين الثمانية والثلاثين وبين الاثنين والأربعين، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اثنان وأربعون.
فهذا الحديث عجيب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشيء الذي كان العلماء لا يعرفونه إلى وقت قريب جداً، فلم يكونوا يعرفون متى تتخلق النطفة وتتحول إلى علقة وإلى مضغة، وإلى هذه الأطوار، حتى اكتشفوا الميكروسكوبات وصنعوا الأفلام التلفزيونية التي تمكنوا من خلالها من رؤية تحول الجنين من شيء إلى شيء آخر داخل بطن الأم، وأما قبل ذلك فلم يكونوا يعرفون متى تتحول النطفة إلى علقة وإلى مضغة، ومتى تخلق فيها هذه الأشياء.
فالغرض هنا: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الاثنين والأربعين يوماً التي يتكون فيها الإنسان، وجاء العلماء ليقولوا: بعد الاثنين والأربعين يوماً يتحدد جنس هذا الإنسان، ذكراً أم أنثى، وقد قال الحديث: إنه بعد الاثنين والأربعين يأتي الملك ويقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ كما قال العلماء: إنه بعد هذا الوقت يحدد جنس الجنين ذكراً أو أنثى، حسبما يأمر الله عز وجل به، فيحول الغدد الموجودة في الأعضاء التناسلية إلى الذكورة أو إلى الأنوثة.
قال العلماء: ولا يمكن تمييز الجنين أنه ذكر أو أنثى قبل الاثنين والأربعين يوماً أو قبل الأسبوع السادس، هكذا يذكر علماء الطب، وهذا هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه.(386/6)
الإيمان بالقضاء والقدر
قال النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: (إن الملك يقول: يا رب أجله؟ فيقول الرب كما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي الرب كما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك والصحيفة في يده فلا يزيد عما أمر به ولا ينقص).
فما ذكره ابن مسعود من أن الشقي من شقي في بطن أمه أخذه من سؤال الملك ربه سبحانه وتعالى أشقي أو سعيد؟ فإذا قال الله: شقي فقد علم الله سبحانه وتعالى ما يكون عليه هذا الإنسان، فيكتب الملك ما أعلمه الله سبحانه وتعالى من علم الغيب وعلم المستقبل، فقد علم الله أنه سيكون شقياً، ويكتب الملك قدر الله في الأمرين، وهذا هو الذي استغربه الرجل وقاله ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد كذلك، أي: من كتب الملك له ذلك بحسب علم الله سبحانه وتعالى، وهذا هو ما نؤمن به، وهو أن الله عز وجل يقدر كل شيء، ونحن مأمورون أن نؤمن بالقضاء والقدر وألا نعارض ذلك، ولا نقول: كيف ذلك؟ فالقدر غيب وسر من أسرار الله عز وجل في خلقه، ولم نؤمر أن نتناقش فيه، وإنما أمرنا أن نؤمن به كما نؤمن بالجنة ولا ندري في أي مكان في السماوات هي؟ أهي فوق السماوات السبع أم دونها؟ ولكننا نؤمن بذلك ونوقن بأنها عالية جداً، وكما أمرنا أن نؤمن بالنار، ولا ندري أين توجد، وكما أمرنا أن نؤمن بالملائكة، ولا نعرف أشكالهم ولم نرهم، وإنما أمرنا أن نؤمن بالغيب.
ومن الغيب: القضاء والقدر، وعندما يحاسبنا الله عز وجل يوم القيامة لن يقول لنا: لقد علمت أنك تكون شقياً وكتبت أن تدخل النار، ولو احتج أحد على شقائه بكتابة الله أنه شقي لن يقول له الله: وأنا كتبت عليك أن تدخل النار، وليس هناك آية قالت لنا ذلك، وإنما القرآن يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، وأيضاً ادخلوا النار بما كنتم تعملون، وحين يقال للإنسان: ادخل النار، فيقول: لماذا يا رب؟ أنا لا أقبل شاهداً علي إلا من نفسي، فيختم على فيه وتشهد عليه أعضاؤه وتقول: عملت كذا وكذا وكذا، فيستحق العذاب والعياذ بالله! فالإنسان يوم القيامة يسأل عن عمله.
إذاً: علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر ولا نناقش فيهما، فإن الله علم كل شيء وقدر كل شيء، وله الحكمة والعلم والقدرة سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يعمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105]، والعمل الذي تعمله يكتبه الله عز وجل عليك ويحاسبك عليه، ولم يقل لأحد أنه في الجنة أو في النار، وإنما قد علم الله أن ناساً في الجنة وناساً في النار، وقدر الله عز وجل أن هؤلاء في الجنة ولا يبالي وهؤلاء في النار ولا يبالي، وأما نحن فأمرنا بأن نؤمن ونصدق ونعمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فنعمل ولا نتشكك ولا نرتاب، ونؤمن بما قاله الله عز وجل في كتابه، فإن من الإيمان: أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً.
والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان أحاديث عجيبة جداً، ولعلها كلها كانت تستغرب في الأزمان الماضية، ولم تعرف حقيقتها إلا بعد تقدم الطب وإثباته أن هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو الواقع الموجود، والذي في القرآن أدق في ذلك، وأدق مما عرفه الإنسان.(386/7)
لابد على الإنسان من العمل وعدم الاتكال على القدر
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يأمر الله الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فيه إثبات أن الملك يكتب رزق الإنسان، وأنه يرزق في يوم كذا كذا وكذا، فهذه من أقدار الله سبحانه التي لا يناقش فيها، وإذا كان كذلك فلا يقول الإنسان: إذا كان الله قد كتب لي رزقي فسأجلس في البيت حتى يأتيني رزقي، ولا يوجد أحد يقول ذلك، وإنما يقول: سأخرج وأعمل؛ لأن رزقي لن يأتي إلا بالعمل، فلابد أن يكون كذلك في جميع القضاء والقدر، فالإنسان مكتوب عليه أن يموت، فمن الناس من يموت بحادثة، ومنهم من يموت بكذا، ومنهم من يموت بكذا، ولا يجلس الإنسان في بيته ينتظر الموت ويقول: كل ما هو مكتوب فسيأتي هذا صحيح، ولكن لم تؤمر أن تمكث في بيتك، بل سر في الأرض وامش في مناكبها وابتغ من فضل الله ومن رزق الله سبحانه، ودع أمر القدر ينفذ فيك كما يريد الله سبحانه وتعالى، فكما أنه إذا جاع الإنسان لا يجلس ينتظر الأكل ويقول: إن الله قد كتب أني سآكل وسيدخل الأكل إلى فمي، ولو قال إنسان ذلك لقيل عنه: مجنون، فربنا كتب لك الأكل وجعل له أسباباً، فمد يدك إلى الأكل وكل، ولا تعمل كهذا الذي سخر منه القرآن بقوله تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14].
وهذا المثل للذي يدعو الأصنام، فالقرآن يستهزئ من هذا الداعي للأصنام بقوله: أنت عندما تدعو الصنم وتمد يدك له وتسأله كهذا المغفل الذي يمد يديه إلى الماء وينتظر أن يأتي الماء إلى فمه لأنه عطشان، والماء لن يأتيه ولن يروى هكذا، وهكذا الذي يحتج بالقضاء والقدر، فإن الناس يسخرون منه، فالقضاء والقدر ينفذ فيه، ولكن الله لم يطلعه عليه، ولم يقل له ماذا سيأكل أو سيشرب في هذا اليوم، ولا ما الذي سيحصل له، إذاً: فلا يجلس ينتظر القضاء والقدر، وإنما يؤمن به فقط، ويعمل ويطلب رزقه، وما قدره الله عز وجل له سيأتيه، وليذهب إلى عمله وما قدره الله له من رزق سيكسبه من هذا العمل أو سيفقده في غيره بحسب ما قدر الله عز وجل له، فنؤمن بالقدر ولا نتواكل ولا نناقش في هذا الأمر.(386/8)
بيان أن الأعمال بالخواتيم
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وفي رواية أخرى: (فيما يراه الناس)، فقد ترى أنت إنساناً صالحاً ثم تراه قد انقلب فجأة، فتتعجب وتتساءل: ما الذي قلب هذا الإنسان؟ والله أعلم بنفس هذا الإنسان، فأنت ترى الظاهر فقط، وكم من إنسان تراه في ظاهره مؤمناً ومهذباً وفيه من خصال الخير، ولكن الله يعلم خبث باطنه، فتجده ينقلب ويتغير حاله بعد أن كان متديناً وملتزماً بأمر الله عز وجل، نسأل العفو والعافية.
فالله أعلم بمن يستحق الثواب ومن يستحق العقاب، فنؤمن ونتعظ بغيرنا ولا نكون نحن عظة لغيرنا، وهذا معنى قول ابن مسعود: (السعيد من وعظ بغير)، ولم يجعله الله هو العبرة لغيره، وإنما اتعظ فانتفع بالموعظة.
يقول في بقية الحديث: (وإن أحدكم لعمل بعمل أهل النار)، وفي رواية: (فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، إذاً: فلا ييأس أحد من رحمة الله سبحانه، فقد يعمل الإنسان الأعمال الباطلة الكثيرة، حتى يقال عنه: إنه من أهل جهنم، كما يقول الناس: فلان شرير، وستكون آخرته سوداء، ولعله يختم له في النهاية بخير، فيتوب إلى الله عز وجل ويراجع نفسه.
مثل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم تاب إلى الله فكان من أهل الجنة، ولذلك لا يحكم على إنسان بجنة ولا بنار حتى يرى بماذا يختم له.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السعادة، وألا يجعلنا من أهل الشقاوة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(386/9)
تفسير سورة غافر [67 - 68]
لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم وفيه علمه الواسع المحيط بكل شيء، وكلما تقدمت البشرية شيئاً وعلمت بعض ما كان مخفياً عنها وجدت أن القرآن الكريم قد تحدث عن هذا الذي اكتشفته قبل أربعة عشر قرناً، ومن ذلك كيفية خلق الإنسان في بطن أمه، والمراحل التي يمر بها، فقد فصلها القرآن الكريم في بعض سوره تفصيلاً دقيقاً، شاهداً على أنه من عند الله سبحانه وتعالى.(387/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:67 - 68].
يخبرنا الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين وفي غيرهما من كتاب الله عز وجل في سورة الحج وفي سورة المؤمنون عن خلق هذا الإنسان، هذا الخلق العجيب الذي كلما قرأه المؤمن أو غير المؤمن وتأمل فيه علم أن هذا هو الحق من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنه ليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له علم بعلم التشريح حتى يعرف الأجنة التي في بطون أمهاتها، وكيف تتكون في اليوم الأول والثاني، وفي اليوم الثاني والأربعين، وكيف تتكون في الأسبوع الأول، وفي الأسبوع الثاني، وفي غيرهما، فلم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك، لا علماً نظرياً اكتشافياً ولا تجريبياً، وإنما كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء فيخبرهم بما أوحي إليه، وقد كان يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يعرفه فكان ينتظر الوحي من السماء، فينزل عليه القرآن فيخبره، أو ينزل عليه جبريل من عند الله سبحانه فينبئه أن هذا كذا وكذا، فكان يقول لأصحابه صلى الله عليه وسلم: (لقد سألني هذا وما لي بذلك من علم، فأتاني جبريل فقال لي: كذا وكذا) صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن يدعي أنه هو الذي يعلم ذلك عليه الصلاة والسلام، وإنما كان يرد العلم إلى الله سبحانه.
وكان الله تعالى يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأشياء العجيبة المعجزة للخلق فلا يسع من يتأمل ذلك إلا أن يعترف أن هذا وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه مستحيل أن يكون قاله النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه.
يذكر الشيخ الزنداني عن أحد الأطباء المشهورين في علم الأجنة واسمه كيث مور، وهو من أشهر علماء الأجنة في العصر الحديث، وله مؤلفات تعتبر من المراجع في علم الأجنة، أنه تناقش هو ومجموعة من المسلمين في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14]، وعن هذه الأطوار التي يذكرها الله سبحانه وتعالى، وهل كان يمكن أن يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بغير وحي من السماء؟ فتناقشوا معه حتى أقر الرجل بأن هذا علم من السماء، وأنه ليس من عند النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكان قد طبع من كتابه المؤلف علم الأجنة -وهو مرجع من المراجع- في سنة خمس وتسعين طبعتين، منها طبعة ذكر فيها هذه الآيات، وهذا المعنى الذي في القرآن، وقال: إنه شيء عجيب جداً أن يذكر القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة ما لم يعلموه هم إلا في هذه السنوات المتأخرة!(387/2)
مراحل خلق الإنسان
قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:67]، وذكر في سورة المؤمنون العجب العجاب، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:12 - 13]، فقد كانت النطفة في صلب الرجل واستقرت في رحم المرأة، قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} [المؤمنون:14] من جزء واحد من ملايين الحيوانات المنوية، وهو الذي ينجح في أن يصل إلى البويضة فيلقحها، والله يجعل من يشاء عقيماً فلا يصل شيء من ملايين الحيوانات المنوية إلى بويضة المرأة، والمرأة تفرز بويضة واحدة في كل شهر، وأما الرجل ففي دفقة من دفقات المني تخرج منه ملايين الحيوانات المنوية، التي قد تلقح البويضة وقد لا تلقحها، والذي يلقح البويضة هو حيوان واحد منها فقط، ثم يحدث التخليق والانقسام، أي: كل واحد ينقسم إلى اثنين، حتى يصير في النهاية جنيناً في بطن أمه.
قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14]، وهذا الترتيب ترتيب سريع، ولذلك أتى بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب مباشرة، ففي خلال اثنين وأربعين يوماً يتكون الجنين في بطن الأم، ويتخلق في خلال هذه المدة، ثم يبعث الله إليه الملك ليصور سمعه وبصره، ويصور جنسه ذكراً أو أنثى، ويكتب عليه شقي أو سعيد، ويكتب ما يكون عليه هذا الإنسان في هذه الدنيا من عمل، ويكتب رزقه، ومصيره، يقول سبحانه: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14].
وهذه التصويرات الدقيقة العجيبة من نطفة واحدة في القرار المكين، فإن الرحم عندما تدخل النطفة فيه فإنها تنقسم وتتحول إلى علقة كشكل الدودة، وتتعلق في جدار الرحم وتستقر فيه، ثم تتحول هذه العلقة إلى مضغة، فتصبح وكأنها قطعة من اللحم الممضوغ بالأسنان، والذي تكون فيه علامات الأسنان، فتكون على هذه الهيئة، ويكون طولها وهي في بطن الأم مضغة حوالي عشرة سنتيمترات.
قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14]، أي: فخلق الله هذه القطعة الصغيرة المضغة عظاماً، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14]، يقول الشيخ الزنداني: إنه سأل بعض علماء المسلمين: أيهما يتكون أولاً العظام أم اللحم؟ قال: فكان جوابه سريعاً وقال: اللحم.
قال: فرجعنا إلى القرآن فإذا هو يقول: إن العظام تخلق أولاً، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14]، فراجع الأمر ثم قال: إنه أخطأ في كلامه، وإن العظم يتكون أولاً وبعد ذلك اللحم.
قال: وسألت بعض العلماء الأجانب في ذلك فكان جواب الجميع: أن العظم يتكون أولاً وبعده اللحم.
وصدق الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
قال الله سبحانه: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، أي: خرج من مرحلة التخليق إلى مرحلة تصوير السمع والبصر والجنس، فخرج خلقاً آخر، وهو هذا الإنسان العجيب، ثم ختم سبحانه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} [المؤمنون:14]، أي: تعالى وتمجد سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، أي: أحسن المقدرين والمنشئين للشيء، والموجدين له من العدم إلى الوجود.
وهنا يأتي سؤال وهو: هل هناك خالق غير الله عز وجل حتى نقول: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]؟
و
الجواب
أن الخلق له معانٍ، فمن معانيه: الإيجاد، نقول: هذا مخلوق أي: موجود أوجده الله سبحانه وتعالى.
ومن معاني (خلق): فطر، أي: أنشأ على غير مثال سابق.
ومن معاني (خلق): قدر، فقولنا: هذا مخلوق، أي: مقدر قد قدره الله سبحانه، ولذلك يقول بعضهم: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض الناس يخلق ثم لا يفري فهو يقول: إن الله يقدر ما خلق، فيخلقه كما قدره، وبعض الناس قد يقدر الشيء ثم لا يستطيع عمله كما قدر.
إذاً: فقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] أي: أحسن المقدرين، الذي يقدر فيوجد الشيء على ما يريده، وهذا من معاني الخلق، وقد يكون في الناس شيء من هذا الوصف كما نقول: الله الرحمن الرحيم، فمن صفته تعالى الرحمة، وجعل في الناس الرحمة، وفرق بين رحمة المخلوق ورحمة الخالق سبحانه وتعالى، فرحمة الله تليق به جل جلاله، ورحمة المخلوق تليق به كمخلوق لله، وكذلك صفة الحياة، فحياة الله لائقة به، وللمخلوق حياة لائقة به.
وكذلك الخلق على معنى التقدير، فإن الإنسان يقدر ويفكر في كيفية عمل الشيء ثم قد يكون وقد لا يكون، وأما الله عز وجل فلا يقدر شيئاً إلا ويوجد على الهيئة التي قدره عليها سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، أي: أحسن من يقدر ومن يوجد ومن يخلق، سبحانه وتعالى ويدبر.(387/3)
متى يشبه الولد أباه وأمه؟
روى مسلم في حديث طويل عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليكم يا محمد! قال: فدفعته دفعة كاد يصرع منها)، أي: أنه غضب من هذا اليهودي المتطاول الذي نادى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد، ولم يقل: يا رسول الله، ولا: يا نبي الله، يكلمه وكأنه أحد أصحابه، فدفعه دفعة كاد يلقيه على الأرض منها، (فقال اليهودي: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، وهذا من تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، وأما كلام اليهودي فإنه من إجرام اليهود ومن محاولتهم إهانة النبي صلى الله عليه وسلم في قولهم، فكان أن دفعه هذا الصحابي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم ألا تقع فتنة فقال صلى الله عليه وسلم: (إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، وهذا تواضع منه عليه الصلاة والسلام، وقد منع الله المؤمنين أن ينادوه بذلك فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً، وتقولون له: يا محمد! بل نادوه بالتشريف والتعظيم وبما يستحقه صلوات الله وسلامه عليه، فنادوه بـ: يا رسول الله! يا نبي الله! عليه الصلاة والسلام.
فينادى بهذا اللفظ الذي جعله الله عز وجل لقباً له عليه الصلاة والسلام.
قال: (فقال اليهودي: جئت أسألك -أي: أنه جاء يسأل ويتعالم في كلامه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال اليهودي: إنما أسمع بأذني)، وهذا فيه قلة أدب وسوء وتطاول في الكلام، يعني: كلامك لن يتجاوز أذني إلى قلبي وسأفكر فيه، قال: (فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ -وكان هذا اليهودي حبراً من أحبار اليهود، وقال: إنه لا يعرف الجواب إلا نبي- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر -فتعجب اليهودي أن عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- ثم سأله: من أول الناس إجازة؟ -أي: من أول من يعبر الجسر ويطأ أرض الجنة؟ - قال: فقراء المهاجرين.
قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
قال: (فما غداؤهم على إثرها؟ فقال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)، فثور الجنة الذي تربى في الجنة وأكل من أطرافها ينحر لهؤلاء الذين هم أول الخلق دخولاً الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم.
قال: (فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً)، وكان اليهودي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في كل
الجواب
صدقت.
وهو صلى الله عليه وسلم لم يأت بهذا الجواب من كلام العرب ولا من كلام الناس، وإنما أتى به من عند رب العالمين سبحانه.
قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان.
أي: إنه لا يوجد في الدنيا أحد يعلمه إلا رجل أو رجلان، يقصد نفسه ومعه رجل آخر من اليهود، فإذا علمه ثالث فلا يكون إلا من الأنبياء، فقال عليه الصلاة والسلام: (أينفعك إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني)، نفس الجواب الذي قاله قبل ذلك.
قال: جئت أسألك عن الولد -وهذا هو الشاهد من الحديث- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر)، فماء الرجل مني أبيض وكلهم يعرفونه، وأما أن ماء المرأة أصفر فلم يكن أحد يعرفه، ولا حتى الأطباء كانوا يعرفون ذلك، وإنما كانوا يقولون: إن المرأة ليس لها ماء أصلاً، وإنما هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء عليه كانوا يكذبون بهذا الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله -أي: كان الجنين ذكراً- وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله -قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، ثم انصرف، ولم يؤمن، ولم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به).
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ثوبان، وقد ذكر فيه أن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر.(387/4)
القرآن الكريم يسبق العلم الحديث في علم الأجنة
يقول علماء الطب في العصر الحديث: إن البشرية لم تعلم بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني يتكون من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، أي: بعد النبي صلى الله عليه وسلم باثني عشر قرناً عرفت البشرية أن الجنين يتكون من ماء الرجل ومن ماء المرأة، وتأكد ذلك لديها بما لا يدع مجالاً للشك في القرن العشرين، وأما في القرن التاسع عشر فقد بدءوا يكتشفون أن المرأة لها ماء، وفي القرن العشرين تأكد لديهم أن الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، فقد تضمن هذا الحديث معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول علماء الطب: ماء المرأة في المهبل وفي حويصلة جراف في المرأة، وهذا الماء يميل إلى الصفرة، والبويضة تخرج من هذه الحويصلة التي تسمى: حويصلة جراف في المرأة، ولونها أصفر، ويسميها علماء الطب: الجسم الأصفر، وهذا هو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنكره الأطباء في الماضي ثم اعترفوا به الآن.
وقد اكتشف العلم الحديث أيضاً أن إفرازات المهبل لها تأثير في الذكورة والأنوثة، ولذلك يقولون: إن إفرازات المبيض الذي تخرج منه البويضة حمضية وقاتلة للحيوانات المنوية، فلو وصل الحيوان المنوي إليه وهو على هذه الصورة لقتله، وحتى لا يقع ذلك فإنه عندما تخرج البويضة وتصل إلى حويصلة جراف وإلى عنق الرحم تتحول الإفرازات التي تأتي إليها إلى قلوية، لتعين الحيوان المنوي للمجيء إلى هذا المكان، وعلى أن يعيش، ثم هو قد يضعف قليلاً، وقد يقوى قليلاً في هذا المكان، فمكان الإفراز نفسه له تأثير بأن يضعف الحيوان المنوي أو يقويه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا علا ماء الرجل)، أي: غلب ماء الرجل وكان أقوى من هذه الإفرازات، كان ذكراً بإذن الله، وأما إذا كان أضعف منها كان أنثى بإذن الله.(387/5)
أطوار حياة الإنسان في الدنيا
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67]، أي: يخرجكم من بطون أمهاتكم بعد أن كنتم أجنة، والجنين: من جن أي: اختفى، فهو خفي في بطن أمه، فإذا نزل من بطن أمه صار طفلاً.
قال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67].
أي: عندما يأذن الله سبحانه وتعالى، فقد يخرجه خلال تسعة أشهر، أو خلال ستة أشهر، أو خلال سبعة أشهر، وقد يخرجه كاملاً أو قاصراً، فالله سبحانه وتعالى يصنع ما يشاء، فهو الذي يخرجكم، وأنتم إنما تنتظرون أمر الله سبحانه وتعالى، ثم تعيشون في هذه الدنيا.
قال تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر:67].
وهذا هو وقت البلوغ والرشد والقوة، قال تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67]، وهذا هو الخط الذي يسير فيه الإنسان في الدنيا: فيكون أولاً جنيناً، ثم يخرج طفلاً صغيراً، ثم يكبر كلما تقدم به السن والزمن إلى أن يصير شاباً قوياً مكتملاً راشداً، ثم يدخل في زمن الكهولة، ثم يدخل في زمن الشيخوخة، ويرجع إلى مرحلة الصفر التي أتى منها، فقد كان ضعيفاً ثم رجع مرة ثانية إلى الضعف، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، وقال هنا: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67].
يقول علماء اللغة: الشيخوخة: مرحلة ما بعد الأربعين، فعلى الإنسان أن يجهز نفسه بعد الأربعين، فلم يبق من عمره إلا قليل مقارنة بما مضى منه، فقد بلغ أشده واكتمل، وأخذ من الدنيا ما أخذ، فليعد نفسه الآن ليقابل الله سبحانه وتعالى، ولا يسرف على نفسه ولا يضيع دنياه، فليس بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى أعلى منها، وإنما تبدأ مرحلة النزول، فعليه بالرجوع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67].
هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان والكسائي وشعبة وخلف: ((شيوخًا))، بالكسر، ففيها قراءتان: (شُيُوخًا)، و ((شِيُوخًا)) بكسر الشين فيها، ومن قرأها بالكسر راعى فيها الياء، فقرأها على الاتباع، فكسر الشين إتباعاً للياء، وقراءة الجمهور: (شُيُوخًا) على الأصل.
قال تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي: ليس كل الناس سيمرون بهذه المراحل، فإن من الخلق من يصل في بطن أمه إلى مرحلة معينة ثم يسقط، ومنهم من ينزل ميتاً، ومنهم من ينزل حياً ويعيش فترة ثم يموت بعد ذلك، فمنكم من يتوفى من قبل الاكتمال، ومنكم من يكتمل به العمر إلى الشيخوخة.(387/6)
أجل الإنسان محدد لا يزيد ولا ينقص
قال تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر:67] أي: أجلاً قد قدره الله سبحانه وتعالى فلا تتجاوزونه أبداً، ومهما قال الإنسان: لقد وصلنا إلى العلاج وإلى الأغذية التي تطيل عمر الإنسان، فإن هذا كله تقدير الله عز وجل، فاعمل ما شئت فإنك لا تستطيع أن تطيل من عمر إنسان شيئاً، فالأعمار قد قدرها الله، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فقوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر:67]، أي: مكتوباً عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67]، أي: تفهمون، وتتدبرون، وتعقلون، وتفهمون ما يمر بكم، وتفهمون هذه الآيات التي يذكرها ربكم سبحانه، فتتوبون إلى الله وتعبدونه سبحانه وتعالى.(387/7)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يحيي ويميت)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68]، أي: هو وحده سبحانه لا شريك له، فهو الذي يخلق ويرزق، وهو الذي يحيي ويميت سبحانه وتعالى، وهو الحي الذي لا يموت، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [غافر:68] أي: دبر أمراً وأراده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68]، فيكون هذا الشيء على ما أراده ودبره وقضاه الله سبحانه.
وهذه الآية قد قرأها الجمهور (فَيَكُونُ) على أن الفاء في قوله: (فَيَكُونُ)، عاطفة، أو على أنها جواب الأمر؛ لأنها سببية، أي: بسبب ذلك، وقرأها ابن عامر بالفتح: (فَيَكُونَ)، ولذلك استحب الجمهور لمن قرأها أن يقف عليها بالروم، أي: أن يضم شفتيه عندها كأنه يضع عليها ضمة بسيطة، والفرق بين قراءة الجمهور وقراءة ابن عامر أنه ليس في قراءة ابن عامر روم ولا إشمام في الفتح، وإنما يكون الروم والإشمام عنده في الضم وفي الكسر، وأما على قراءة الجمهور فيجوز الوقف عليها بالسكون فقط، ويجوز الوقف عليها بالروم بياناً لأنها مضمومة، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(387/8)
تفسير سورة غافر [69 - 77]
العجب كل العجب من أولئك الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويجادلون أنبياء الله تعالى ورسله بالباطل، ومن جاء بعدهم يجادلون أهل الحق، ويزعمون أنهم على حق كذباً وزوراً وبهتاناً، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم على باطل، وإنما دفعهم إلى ذلك التكبر على الحق وعلى الخلق، لكنهم سيعملون غداً من الكذاب الأشر.(388/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله فسوف يعلمون)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:69 - 72].
يعجب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ممن يجادل في آيات الله عز وجل بغير حق وبغير علم، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] أي: يوحي الشياطين إلى أوليائهم من المشركين والمنافقين والكاذبين والجاحدين بأن يجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالباطل ليصرفوهم عن الحق.
يقول تعالى: ألا تعجب يا محمد من هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله وقد سمعوا كتاب الله وما فيه من الآيات المحكمة العظيمة، والمعجزات الباهرة أنى يصرف هؤلاء عن التفكر في آيات الكتاب، وفي المعجزات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي آيات الله في الكون التي تدل على أنه إله واحد يستحق العبادة؟! فكيف صرف هؤلاء عن التفكر؟! أين ذهبت عقولهم وقلوبهم؟! لم لا يتفكرون؟! ما هذه الغفلة التي هم فيها؟! ألا تعجب من هؤلاء الذين لا يفهمون ولا يتعظون بما تقول؟! كيف صرفوا عن الحق ودلائله وعن التوحيد؟! وكيف فتنوا وانصرفوا عن التفكر في آيات الله؟! هؤلاء المجادلون بالباطل {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر:70]، أي: الذين كذبوا بما نزل من القرآن من عند رب العالمين، وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا، فهؤلاء جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه، وقد جاءهم بقصص الأنبياء السابقين مع قومهم، فهذا نوح أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وقال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وهود أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وصالح أرسل إلى قومهم فأمرهم بالتوحيد، ولوط أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمروا قومهم بالتوحيد فانصرفوا عنه إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، فكأن من كذب نبياً واحداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن الجميع جاءوا بهذه الدعوة دعوة التوحيد: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
إذاً: هؤلاء المشركون كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا دعوة التوحيد، وكذبوا بالكتاب وهو القرآن الذي نزل من عند رب العالمين، وكذبوا رسلنا الذين أرسلنا من قبل ذلك، وهو دين الإسلام دين التوحيد.
وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [غافر:70] فيه التهديد والوعيد من رب العالمين سبحانه، أي: انتظروا فسوف ترون ما يسوءكم، سوف ترون العذاب الشديد، وذلك بأن نجعل الأغلال في أعناقكم والسلاسل تسحبون بها إلى النار والعياذ بالله.(388/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون)
قال تعالى: {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71].
قوله: (إذ) ظرفية فيها توقع حدوث الشيء، فسوف يعلمون في زمن كذا وفي وقت كذا إذ يحدث لهم كذا.
قوله تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] الأغلال: جمع غل، والغل: هو القيد الذي تربط به اليدان إلى رقبة الإنسان، فتغل يد الأسير وتربط بسلسلة إلى رقبته، فكذلك يصنع بهؤلاء، بحيث تربط أيديهم فتغل في أعناقهم فلا يقدرون على الفكاك ولا الهرب.
وقوله: (والسلاسل يسحبون) أي: السلاسل يسحبون بها، قال تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، فهي سلاسل يسحبون بها وسلاسل يسلكون فيها والعياذ بالله، كما تسلك حبات السبحة في الخيط، فتدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم، كالشيء المشوي على سيخ والعياذ بالله! قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] أي: يسحبون بهذه السلاسل، إلى أين؟ قال: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] والعياذ بالله! يؤخذون بأغلالهم وسلاسلهم فيسحبون على وجوههم إلى الحميم، والحميم: هو السائل الذي بلغ الغاية النهائية القصوى من درجات الحرارة، وفي الدنيا يبلغ الماء أقصى درجة الحرارة مائة درجة مئوية، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فالسائل يبلغ أكثر من ذلك؛ فالذي يوقد عليه هو نار جهنم والعياذ بالله، ولو تخيلنا أن هذه الشمس قريبة منا بمقدار ثمان دقائق، وهذه الشمس درجة حرارتها الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية، أما في نواة الشمس وداخلها فتصل درجة الحرارة إلى ستة ملايين درجة مئوية، فحرارة هذه الشمس ليست كنار جهنم، فكيف تكون نار جهنم؟! وكم تكون درجة الحرارة التي تبلغ فيها وهي سوداء مظلمة تصل إلى أقصى ما يكون من درجات الحرارة والعياذ بالله؟! وفي هذه النار سائل ينضج عليها النار، وهو من صديد أهل النار والعياذ بالله، مما يسيل من جلودهم، فهؤلاء يسحبون على ذلك الحميم السائل الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، ثم يؤخذون فتوقد بهم نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] أي: يصيرون وقوداً للنار والعياذ بالله.(388/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون كذلك يضل الله الكافرين)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر:73 - 74]، هذه النار لا يطيقها أحد أبداً، نسأل الله العفو والعافية وأن يجيرنا من النار، وأن يجعلنا من أهل الجنة، اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل جنتك، هذه النار التي في الآخرة يجعل الله عز وجل فيها هؤلاء، فهم لا يحيون حياة كريمة، ولا يموتون فيستريحون، ثم قيل لهم لما عاينوا ورأوا العذاب وأدخلوا فيه: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر:73 - 74]؟ أين ذهبت الأنداد والأصنام التي كنتم تتخذونها آلهة من دون الله؟ فأجابوا (قالوا ضلوا عنا) أي: غابوا عنا وتاهوا، وذهبوا في مكان آخر، فلما تفكروا قالوا: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74] أي: استدركوا على أنفسهم فقالوا: لقد كنا في الدنيا في تيه وفي ضلال، بل لم نكن ندعو شيئاً ننتفع به، ولا شيئاً يملك لنفسه نفعاً فضلاً عن غيره، وإنما كنا ندعو أشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع.
إذاً: كانوا في الدنيا يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ويدعونها من دون الله سبحانه، لكن دفعهم الكبر والأشر والبطر لذلك، فالكبر جعلهم يتعالون على دين الله وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجادلون بالباطل فيما يعرفون أن الحق معه صلى الله عليه وسلم، فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
أي: كل هذه الآلهة والأصنام التي نعبدها يريد أن يوحدها بواحد فقط، هذا شيء عجيب! وما هو وجه العجب في ذلك؟ فهم يقولون ذلك قولاً فقط، وهم يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فهم يرون أحدهم يصنع الصنم والآخر يكسره، ويرون الذي يصنع الصنم ثم هو الذي يأكله بعد ذلك، فهذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله قد عبدوها وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأحدهم: (كم تعبد من إله؟ فقال: أعبد سبعة، واحداً في السماء وستة في الأرض، فقال له: من الذي ترجوه لنفعك؟ فقال: الذي في السماء).
إذاً: الآلهة التي في الأرض لا تنفع ولا تضر، وهذا باعترافهم، فنقول لهم: لماذا تعبدونها؟ قالوا: إنها تقربنا إلى الله، فالشيطان يوحي إليهم ألا تعبدوا الله مباشرة، ولكن اعبدوا هذه الآلهة فإنها تقربكم إلى الله زلفى، ومع أنهم غير مقتنعين بذلك، ولكن منعهم الكبر على الحق، والكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون نبياً من بني هاشم؟! إذاً: الكبر يمنعهم من اتباع الحق، ويدفعهم لعبادة ما لا ينفع ولا يضر، فلما جاءوا يوم القيامة ما استطاعوا أن يكذبوا كما كانوا يكذبون في الدنيا، ولكن قالوا: {لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74] أي: اعترفوا بالحقيقة، وندموا حين لا ينفع الندم، وطلبوا الاستدراك في وقت لا ينفع فيه الاستدراك، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85].
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:74] أي: كذلك الضلال الذي ضل فيه هؤلاء حتى وصلوا إلى النار يضل الله عز وجل مثله كل كافر يجادل بالباطل، فكل من يجادل بالباطل لم يضر إلا نفسه، فمن يتبع الباطل ويترك الحق ويظن أنه أتى بشيء فالله عز وجل يختم على قلبه، ويتركه في غفلته هكذا، ويذكر ربنا سبحانه المؤمنين كأنه يقول لهم: أيها المؤمنون! انظروا إلى الضلال الذي كان في هؤلاء حتى وصلوا إلى النار، فإنا سوف نضل هذا الإنسان المجادل بالباطل، حتى يظل في تيه وفي غفلة، عابداً غير الله حتى يصل إلى مثواه في نار جهنم كما فعل الله بالسابقين {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:74].(388/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق)
قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر:75] أي: هذا الذي تذوقونه من العذاب بما كنتم تفرحون، فربنا سبحانه وتعالى ذكر لـ قارون نصيحة قومه له حين قالوا: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] أي: لا تفرح أنه أعطاك، فكون الإنسان يصيبه شيء من الهناء ومن السرور لا مانع أن يفرح بنعمة الله، وأن يفرح بنصر الله، ويفرح بالإيمان والهدى، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4]، لكن كون الإنسان يفرح بالمعاصي، أو يفرح بكثرة الأتباع، ويأشر ويبطر ويبتعد عن الحق، وينظر لغيره باحتقار لأنه أعلى منهم؛ ولأنه أفضل منهم، فهذا المرح والفرح فيه إسراف وفيه تعد وغرور وهو الذي نهى عنه الله سبحانه فقال مبكتاً لهم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75].(388/5)
تفسير قوله تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فإلينا يرجعون)
قال تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:76] أبواب جهنم سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فيقول لهؤلاء: ادخلوا هذه الأبواب والعياذ بالله، ((فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)) أي: بئس مقر ومأوى ومنزل ينزل فيه هؤلاء، فهذا هو مثوى للمتكبرين عن الحق، وللمستكبرين على الخلق.
ثم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] أي: اصبر على ما سيحصل من هؤلاء؛ فإن الدنيا قليلة وحقيرة، وسرعان ما تزول، فاصبر لأمر الله، واصبر على قضاء الله وقدره، واصبر على الأذى، واصبر على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، اصبر فإن الوعد من الله، ووعد الله حق، فهو الذي يعدك بالجنة، وهو الذي يعدك بالنصر سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77] أي: نريك بعض الذي نعد هؤلاء ونتوعدهم به من العذاب في الدنيا، كما حدث لهم في بدر وغيرها، قال: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] سواء مكناك فنلت النصرة وغنمت من هؤلاء، أو أخذناك وقبضناك، فالكل إلينا راجع، وسنحاسب الجميع.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(388/6)
تفسير سورة غافر [77 - 78]
تواجه الإنسان في هذه الدنيا المشاكل والأزمات، ويجد الصعوبات والعقبات، وما لم يتسلح بالصبر فإنه سيهون أمامها ويلين، ولا يقدر على المواجهة والوقوف أمامها، والمسلم يواجه في حياته أهل الكفر والنفاق والشقاق ومكرهم وكيدهم للدين وأهله، وما لم يكن على هذا الخلق العظيم فإنه لن يقدر على الثبات والمواجهة، وتجده يتزلزل ويتراجع؛ ولذلك أمر الله بالصبر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم به، وبينا عظيم أجره، وحسن عاقبته، من أجل أن يتمسك ويتخلق به المسلم في حياته، ويكون زاداً له أمام أهل الشقاق والكفر والنفاق.(389/1)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:77 - 78].
يأمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآيات بالصبر، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77]، فإنه كما ابتلي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ابتلي أيضاً وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، فأمره ربه سبحانه بأن يصبر ويأمر المؤمنين كذلك بالصبر، وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر فهو أمر بالتبع للمؤمنين؛ لأنه قدوتهم صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يصبروا وأن يصابروا وأن يرابطوا وأن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77]، أي: إن وعد الله عز وجل لكم بإحدى الحسنين حق: إما النصر والتمكين، وإما الشهادة وقبض الروح فترجعون إليه ويجازي هؤلاء على ما فعلوا، قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس:46] أي: فتبصر وترى ما توعدناهم وتهددناهم به، وما أخبرناك بأنه آتيهم من عذاب الله عز وجل، أو نقبضك إلينا ونتوفينك.
وكلا الأمرين خير للنبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يقبضه الله عز وجل فيرجع إلى ربه الكريم سبحانه، فيدخله جنات النعيم فيكون خيراً له، أو أن الله سبحانه وتعالى يمكن له وينصره فيرى في أعدائه ما يشفي صدور المؤمنين، قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77]، وهذا من كرمه سبحانه، فإنه لما هددهم سبحانه علم أن فيهم من يتوب ويرجع إليه فقال: {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77]، وليس كل ما وعدهم الله سبحانه، فقد يعفو عن البعض وقد يعذب البعض، وقد يؤخر الجميع إلى يوم يرجعون إليه سبحانه وتعالى ويفعل الله ما يشاء.
قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77]، أي: بعض ما توعدناهم به من العذاب وما هددناهم به من نزول العقاب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي: نرجعك إلينا ونقبضك، قال تعالى: (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، أي: الجميع سيرجع إلى الله، ثم يكون الجزاء والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار.
وقوله تعالى: (إِِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقرأ يعقوب (إلينا يَرجِعون)، أي: يرجع كل إنسان إلى ربه فيجازيه بعمله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر.(389/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك)
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78] يخبر الله سبحانه في هذه الآية أنه أرسل رسلاً قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء الرسل كانوا من البشر، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد:38] فالله عز وجل أرسل الرسل وجعلهم من البشر، وجعل لهم أزواجاً وذرية، وابتلاهم عز وجل في هذه الدنيا، وقد كان هؤلاء الرسل والأنبياء كثيرين، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] أي: أن الله عز وجل قص لنبيه صلوات الله وسلامه عليه بعضاً من هؤلاء فقط، فالقرآن ليس كتاب تاريخ وسير حتى يسرد له أسماء جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وإنما القرآن كتاب شريعة، وفيه من الحكم والمواعظ التي يعظ الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.(389/3)
بيان أن الله لا يعذب قوماً إلا بعد إقامة الحجة
والله ما كان ليعذب قوماً حتى يقيم عليهم الحجج ويرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب، ثم بعد ذلك يجازيهم على أعمالهم، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: أننا نبعث الرسول ليقيم الحجة على الخلق، ثم بعد ذلك نعذب من عاند ومن جحد ومن شاق الله سبحانه.(389/4)
أكثر الرسل لم يذكرهم الله في كتابه
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، أي: أرسلنا كثيراً من الأنبياء والرسل، وقد ذكروا أن عدد رسل الله سبحانه الذين بعثهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً أو خمسة عشر رسولاً، وقد ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين بأسمائهم، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وذو الكفل -عند كثير من المفسرين- وخاتمهم وسيدهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولم يذكر بقيتهم وهم الأكثرون، وكذلك لم يذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم.(389/5)
تكذيب الأقوام لرسلهم وسؤالهم الآيات
قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر:78]، أي: لقد كانت عادة الأقوام الذين بعث إليهم الرسل التكذيب، فإذا جاءهم رسول من عند الله كذبوه وأعرضوا عنه وطلبوا منه آية على أنه رسول من عند الله، أو يشترطون عليه أن يعمل لهم ما اشترطوه، فقوم هود طلبوا من نبيهم آية، وكذلك قوم صالح، ومن قبلهم قوم نوح، وهكذا كل نبي بعثه الله إلى قوم كانوا يطلبون منه الآيات ويتعنتون معه، فيرسل الله عز وجل لهم الآيات، ويريهم ما سألوا، ومع ذلك يعرضون ويكذبون إذا جاءتهم الآيات الحسية التي طلبوا أن يروها ولم يؤمنوا بها، فإذا كان السابقون لم يؤمنوا فهؤلاء لن يؤمنوا، وقد جعل الله عز وجل الآية العظيمة والمعجزة الكبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، وتحدى به الخلق جميعهم أن يأتوا {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].
ولما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يبعد عنهم الجبلين اللذين في مكة من أجل أن تتوسع أرضهم؛ لأن أرضهم ضيقة، وأن ينزل عليهم من السماء أمطاراً غزيرة، وينزل عليهم من السماء ذهباً وفضة وينزل عليهم كتاباً من السماء، وتعنتوا فيما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يجبهم ربنا سبحانه إلى ما سألوا وطلبوا؛ لأن الذين من قبلهم لما طلبوا الآيات ورأوها لم يؤمنوا، فهؤلاء مثلهم، فكان من رحمة الله عز وجل ألا يبعث هذه الآيات؛ فإن الله إذا أرسل آية من الآيات وكذب بها الخلق أتتهم العقوبة والاستئصال والإهلاك والتدمير، ولذلك من رحمة الله عز وجل أنه لم يعطهم ما سألوا من الآيات؛ لأنه علم أن الذين يطلبون هذه الآيات سيموتون على كفرهم كـ أبي جهل وأبي لهب وغيرهم، فإذا أعطاهم الله عز وجل آية وحول لهم الصفا ذهباً فسيقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر، ويظلون على تكذيبهم، فيأتيهم العذاب من عند الله فيستأصلهم جميعاً، فمن رحمة الله أنه لم يعطهم الآية التي طلبوها؛ حتى لا يهلكهم ويبيدهم بعد ذلك، وهذا فضل منه ورحمة.(389/6)
تعذيب الله تعالى للمكذبين للرسل
قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر:78] أي: إذا جاء وعد الله وجاء العذاب من عند الله سبحانه وتعالى قضى بين هؤلاء بالعدل وبالحق في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كذبوا وأعرضوا جاء العذاب، فكان قضاء الله الحق أن يستأصلهم جزاء بما كانوا يعملون، وإذا أخرهم ليوم القيامة قضى الله عز وجل بين عباده بالحق، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78] والمبطلون: جمع مبطل، والمبطل: المدعي الكذب، وهو الذي يتكلم بالباطل وهو يعرف أنه باطل ومع ذلك يجادل فيه، فهو يلعب في الدنيا ويلهو ويجادل في آيات الله، وكأنه يتكلم بالحق في هذا الذي يقول ويعتقده وهو يكذب، ولذلك فضحهم الله عز وجل وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وهناك فرق بين من يكذب وهو يعتقد أنه كاذب، وبين من يكذب وهو يعتقد أنه صادق، فهنا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، أي: لا يعتقدون أنك كاذب، وإنما هم مقرون بما تقول في أنفسهم، ولكنهم منكرون في الظاهر أمامك، وهذا هو الجحود، فهم يجحدون بآيات الله سبحانه مع اعترافهم وعلمهم أنها صواب وأنها من عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر:78] أي: في يوم القيامة أو في وقت مجيء العذاب، {قُضِيَ بِالحَقِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78] أي: في دعواهم أن مع الله آلهة، وحاشا له سبحانه وتعالى! وفي دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاذب أو مجنون، فيخسرون حين يرون العذاب.(389/7)
أمر الله تعالى نبيه بالصبر
وإذا كان الأمر كذلك فاصبر، كما قال تعالى: {فاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أي: كما صبر الرسل من قبلك فلست أقل منهم شأناً، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، فهذه الدنيا التي يراها الإنسان طويلة عريضة، ويراها زمناً طويلاً، ويرى فيها التكذيب والمحاربة لله سبحانه وتعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام فـ {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35]، أي: من العذاب، و {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35] أي: يوم الحساب، كأنهم ما لبثوا في هذه الدنيا إلا ساعة، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} [الأحقاف:35]، أي: هذا بلاغ وإنذار من الله عز وجل.
{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، أي: لا يهلك إلا الإنسان الفاسق الذي خرج عن الإيمان وعن طاعة الرحمن وعن دين ربه سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق العذاب.
فطمأن الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر، فصبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد أمره الله عز وجل بالصبر في السور المكية وفي السور المدنية فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] وهذه في سورة آل عمران وهي مدنية.(389/8)
فضل الصبر
وأما عن فضل الصبر فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما أعطي عبد عطاء خيراً له ولا أوسع من الصبر)، فالله يرزق العبد الكثير من فضله، ومن أعظم ما يعطيه الله عز وجل للعبد الصبر، فيتجلد لما ينزل به من عند الله سبحانه ويصبر، ويطيع الله سبحانه ولا يعصيه ويصبر على الآلام والأوجاع، وعلى أذى الكفار والمشركين، وعلى الدفاع عن هذا الدين، فيدافع عنه ويجاهد أعداءه ويصبر في ذلك.
ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر أيضاً.
قوله: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، فيبتليهم الله عز وجل بما يشاء ليرفع درجاتهم ويكفر خطاياهم ويعطيهم من فضله سبحانه، فإذا رضي الإنسان عن ربه سبحانه وصبر فله الرضا.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الراضين عن ربه سبحانه وتعالى، فكان يصبر ويرضى، ففي يوم أحد لما هزم المسلمون هزيمة شديدة وصعبة وقتل فيها عمه حمزة وبقرت بطنه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورأى صلى الله عليه وسلم في أصحابه قتلاً شنيعاً صعباً، فعندما انتهى القتال قال: (قوموا نحمد الله، فأقام أصحابه وراءه صفاً، وقام حامداً ربه سبحانه وتعالى بمحامد ذكرها صلوات الله وسلامه عليه، فقال: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)، وذكر كلاماً كثيراً صلوات الله وسلامه عليه، فحمد ربه سبحانه وتعالى ثم تعوذ بالله سبحانه وتعالى من الخوف يوم القيامة ومن الفزع الأكبر ومن يوم العيلة ومن غيرها.
فيحمد ربه وهو في موقف الضعف وهو في موقف الهزيمة، فقد كان يحمد الله على كل حال ليعلم المؤمنين ألا يتسخطوا على ربهم أبداً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهذا كما في الحديث السابق: (فمن رضي فله الرضا).
فالإنسان إذا نزلت به المصيبة إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سلو البهائم، فالبهيمة عندما تنزل بها المصيبة تصرخ مدة ثم تسكت، فإذا كان الإنسان يصرخ كذلك إذا نزلت به البلية ثم في النهاية يسكت فقد أشبه البهيمة، وأما إذا تصبر وانتظر أمر الله سبحانه وقال: يا رب يا رب، وطلب الفرج من الله عز وجل فهذا صبر الكرام، فإما أن يصبر صبر الكرام وإما أن يسلو سلو البهائم، ومن رضي عن الله فله الرضا، أي: يرضى الله سبحانه وتعالى عنه، وإذا رضي الله عنه جعل قلبه مليئاً بالرضا.
وكم رأينا من بلاء ينزل بالصالحين فيصبرون الصبر العظيم، وأعظم من صبر أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد أعطاه الله عز وجل المال فصبر وحمد الله، ثم أخذ منه المال والصحة والولد فصبر وحمد الله سبحانه وتعالى، واستمر ثمان عشرة سنة في البلاء، فجعله الله آية للخلق في الصبر العظيم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهؤلاء، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقال تعالى: {اصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(389/9)
تفسير سورة غافر [79 - 85]
نعم الله سبحانه على عباده كثيرة، وآياته عظيمة ومشاهدة في خلقه، ولذلك أمر الله تعالى بالسير في الأرض والنظر في آثار من خلوا من قبل للعظة والعبرة، ومن أنكر آيات الله فلينظر في هلاك من قبله من الأمم الذين هم أشد قوة وآثاراً، ومع ذلك لم ينفعهم ذلك لما جاءهم بأس الله سبحانه؛ لأنهم فرحوا بما آتاهم الله واستكبروا وجحدوا، وكفروا بالله سبحانه، وهكذا كل من كفر بالله وعصاه فعاقبته وخيمه في الدنيا والآخرة.(390/1)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:79 - 85].
في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة غافر يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن دلائل قدرته ووحدانيته، وعن صنعه بالقرون السابقة، ما الذي صنعوه؟ وكيف صنع الله عز وجل بهم؟ فيرينا هذه الآيات حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد ما بين ووضح في كتابه سبحانه.
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) آية من آيات الله سبحانه أن سخر لكم بهيمة الأنعام، وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، هذه بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، منها الذكور ومنها الإناث، تستفيدون منها من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، منها تأكلون وعليها تحملون، وعلى الفلك أيضاً تحملون.
قال الله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أي: خلق لكم الله عز وجل الأنعام وجعلها لكم لمنافعكم، ولمعايشكم، لتأكلوا منها، ولتركبوا عليها، فمن الأنعام ما تركبون عليها، وهي الإبل خاصة، قال تعالى: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: من الإبل وغيرها، فبهيمة الأنعام تأكلون منها، وتنتفعون بألبانها، وتنتفعون بلحمها وبنسلها.(390/2)
تفسير قوله تعالى: (ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم)
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر:80] فجعل الله عز وجل لكم فيها منافع، تنتفعون للتجارة بها، وتنتفعون بأخذ أصوافها وأوبارها وأشعارها، وأخذ كسائكم من أصوافها وغير ذلك، وبأن تصنعوا بيوتاً ترحلون عليها في يوم ضعنكم وترحالكم، وتنتفعون منها منافع كثيرة، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
قال تعالى: (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي: لتقطعوا عليها مسافات واسعة وأراضي شاسعة، تريدون أن تسافروا من قطر إلى قطر لحاجة في نفوسكم وفي صدوركم، فتركبون عليها فتوصلكم، وتقطع بكم الفيافي والصحراء، وتسير بكم من بلاد إلى بلاد؛ لتبلغوا عليها ما تحتاجونه من أشياء، وما تهتمون لأمره وتكنونه في صدوركم، ولتبلغوا عليها حاجة قد لا تخبرون بها الناس، ولكن هي في صدوركم، والله عز وجل يبلغكم بذلك.
قال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي: ليست وحدها فقط التي تركبون عليها، ولكن أيضاً كما جعلها في البر جعل في البحر الفلك، وسخرها لكم، وصنعتم السفن وبنيتموها وركبتموها وانتقلتم عليها من مكان إلى مكان بفضل الله سبحانه، فهذه من نعم الله سبحانه.
والإنسان ضعيف، ومع ذلك سخر الله عز وجل له هذا الحيوان القوي، ولو شاء الله عز وجل لجعل الحيوان شرساً ليس أليفاً، ولجعله نافورة لا يطيع، ولكن الله سبحانه بفضله وبكرمه يسره لكم، وذلل لكم هذه الأشياء، ويرينا ربنا سبحانه في هذا الكون أشياء أخر، حتى لا يتطاول الإنسان ويقول: أنا أقدر على كل شيء، يريه من خلقه سبحانه ما لا يقدر الإنسان عليه، يريه الأسد، ويريه النمر فلا يستطيع الإنسان أن يركبه أو يسافر عليه من مكان إلى مكان، لا يقدر مهما روضه، فالإنسان لا يزال خائفاً منه، فتراه يأخذ الأسد ويخلع أسنانه، ويجعله في السرك ليلعب به، ويري الناس أنه قوي، وفجأة يأتي الأسد على رقبته ويعضها، أو يأكل الإنسان فيخيف صاحبه، ويرينا الله سبحانه وتعالى آياته.
فليس كل شيء في الكون تقدر عليه أو تقدر على ترويضه، ولكن الله سبحانه هو الذي يسخر ما يشاء، فسخر بهيمة الإنعام لكم لتأكلوا منها ولتركبوا عليها، وجعل لكم فيها من الحرث ومن الزرع ما تستفيدون به، فهذا من فضله سبحانه وتعالى.(390/3)
تفسير قوله تعالى: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)
قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] كما جعل لكم الفلك في البحر ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وعلمه كيف يصنع المركب، وكيف يصنع السيارة، وكيف يصنع الطائرة، وكيف يصنع الصاروخ، وكيف يصنع مركبة الفضاء، يعلم الله عز وجل عباده ويفتح عليهم من فضله، ويريهم نعمه عليهم تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فالذي خلق هو الله سبحانه، والذي خلقك هو الله سبحانه، والذي دلك على ما تصنعه وعلى ما تفكر فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بقوتك، ولا تغتر بأنك استطعت أن تصنع الصاروخ، وتصعد إلى الفضاء، فالذي أمكنك من ذلك هو الله سبحانه، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33 - 34]، فعندما يتطاول الإنسان ويقول: أنا أفعل، فربنا سبحانه يريه، ويحرق له مركبة الفضاء، فلا تصل إلى المكان الذي يريد.
قال تعالى: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) فهو الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فإذا علمكم من فضله فاحمدوه سبحانه واشكروه، ولا تنسبوا النعمة إلى أنفسكم، بل انسبوها إلى خالقها وصاحبها وهو الله سبحانه الذي يريكم آياته.
قال تعالى: (فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) أي: ما الذي تنكرونه من آيات الله سبحانه؟ وما الذي تزعمون أن الله لم يخلقه سبحانه وتعالى؟ أو أن غير الله شاركه في ذلك؟! حاشا له سبحانه وتعالى، وأي نعمة من نعم الله تظنون أن الله عز وجل جعلكم أنتم شركاء له فيها؟ قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136].
هؤلاء المشركون بإفكهم وباطلهم وكذبهم وتخرصهم على الله سبحانه قسموا بهيمة الأنعام، قالوا: هذه لله بزعمهم وهذه لشركائنا، فالله عز وجل هو الذي خلق الجميع، وهو الذي أباح لكم أن تأكلوا هذه الأشياء، وهو الذي حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فمن الذي جعل هذه الميتة في هذه الحالة حلالاً وهذه الميتة حراماً؟ ومن الذي جعل ما في بطون هذه الأنعام حلالاً للذكور دون الإناث وهذه يشترك فيها الجميع؟ من الذي قسم هذه التقسيمات؟ من الذي شارك الله في ملكه حتى يحكم في هذه الأشياء؟ وأي آيات الله تنكرون أنه خلقها؟ ومن هذا الذي يخلق غير الله سبحانه، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:17 - 18].(390/4)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [غافر:82] يأمر الله عز وجل عباده أن يتفكروا ويمشوا في الأرض، ويسيروا فيها، قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وتفكروا في نعم الله وفي آياته سبحانه.
قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: كيف كانت نهاية السابقين، وهؤلاء كانت آخرتهم ماذا؟ كيف كانت العاقبة والنهاية لهؤلاء المكذبين؟ قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي: كانوا أكثر من هؤلاء القرشيين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن السابقين قوم عاد، وقوم نوح، وقوم صالح، فأين ذهب هؤلاء الذين كانوا كثرة كاثرة؟ أين ذهب فرعون وجنوده وقومه؟ قال سبحانه: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي: كانوا عدداً ضخماً جداً، قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) [غافر:82]، أي: كانت قوتهم أشد، وانظر إلى عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8] فقد كانوا طوال الأجساد عراضها، أقوياء في بنيانهم، قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] أي: نحتوا الصخر فصنعوا منه بيوتاً، وكانت بيوتهم داخل الجبال منحوتة، فضاعت هذه البيوت وتهدمت، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وترك الله المساكن آية وعبرة حتى يقال: هنا كان قوم ثمود الذين صنعوا هذه البيوت من الجبال، فذهب قوم ثمود، وبقيت البيوت لتدل على أن الله أفنى هؤلاء وأذهبهم، ولتدل على قوته سبحانه وتعالى وفعله بمن عصى.
قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) أي: جعلوا الآثار في الأرض وهم يتكبرون على الخلق، قال الله سبحانه في قوم عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131].
فقوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) أي: في كل مكان من أماكن بلدانكم وعلى كل طريق تبنون قصراً شاهقاً عظيماً لا تحتاجون إليه، ولكن ليرى الناس قوتكم وقدرتكم على ذلك، زخارف وزينة، وإظهار القوة والاستكبار، تبدون شيئاً عظيماً، نصباً عالياً؛ ليرى الناس أنكم على قدرة عظيمة.
وقوله تعالى: (تَعْبَثُونَ) أي: عبثاً ولعباً ولهواً، ليس لاحتياجهم لهذه القصور، ولا لهذه الأعمدة العالية، ولكن عبثاً، فقوله: (تَعْبَثُونَ) أي: تلعبون.
قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي: قصوراً عظيمة، أو منابع للمياه عظيمة تجمعون فيها المياه، حتى تروا الناس قدرتكم على ذلك، فتقولون: نحن الذين عندنا الماء، ونحن الذين نفعل هذا الشيء، فمن الذي أعطاكم هذه القدرة سوى الله سبحانه الذي أوجب عليكم أن تعبدوه، فقوم عاد تركوا عبادته، وعبدوا غيره، وأشركوا بالله سبحانه، ورفضوا كلام رسله، فعاقبهم الله سبحانه.
قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) إنها دعوة للتفكر في آثار السابقين، فهؤلاء تركوا هذه الآثار التي صنعوها بطراً وأشراً، وارتفاعاً وكبراً، فأذاقهم الله عز وجل العذاب في الدنيا فضلاً عما يذوقونه في الآخرة، قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (ما) إما نافية بمعنى: الجحد، أي: لم يغن عنهم ما كانوا يكسبون، أو بمعنى: الاستفهام فيها، (فما أغنى عنهم) أي: فأي شيء أغنى عنهم هذا الذي كانوا يكسبونه؟ بمعنى: ماذا أغنى عنهم هذا الذي صنعوه؟ فما كانوا يكسبون من أموال، ومن عتاد، ومن قصور، ومن أعمال، ومن أولاد، ومن أتباع، أين ذهبت هذه الأشياء؟ هل انتفعوا بها؟ فأي شيءٍ أغنت عنهم هذه التي كسبوها؟
و
الجواب
ما أغنى عنهم، أي: لم يغن عنهم ذلك شيئاً، بل لما جاءهم الهلاك أهلكهم الله وعذبهم سبحانه، وذهبوا ولم يرجعوا.(390/5)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)
قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83] أي: لما جاءت الرسل هؤلاء المكذبين؛ قوم لوط، وقوم عاد، وقوم ثمود، وأصحاب الأيكة، وفرعون وجنوده، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه، فرحوا بما عندهم من العلم، وعلم هؤلاء إنما هو الجهل، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] هذا هو ما عندهم من العلم، فهم لا يعلمون شيئاً عن الدار الآخرة، ولا يعلمون شيئاً عن ربهم إلا ما يفترونه ويكذبونه، أما أن تأتيهم الرسل وتنبئهم وتخبرهم فيرفضون ويفرحون، ويقولون: نحن الذين عندنا العلم، تحذرهم الرسل من الموت ومن البعث فيقولون: لا يوجد بعث، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية:24]؛ لذلك ذكر الله عز وجل هؤلاء أنهم عن الآخرة هم غافلون، وأنهم لا يعلمون فهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولا يعلمون شيئاً عن الآخرة، إنما غاية علمهم في الدنيا، يعلمون في الدنيا ما يصنعونه ويأكلونه ويشربونه، ولا يتجاوز علمهم الحياة الدنيا، فهذا علمهم الذي هو جهل فيهم، لا يعلمون شيئاً عن ربهم، ولا عن قدرته سبحانه، فيكذبون رسلهم؛ ولذلك أخبر سبحانه أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، كالإنسان الجاهل إذا أتاه عالم يعلمه شيئاً يقول له: أنا أعلم كل شيء، تقول له: تعال أحفظك القرآن أو تعال أعلمك أن تقرأ القرآن، فأنت لا تعرف أن تقرأ القرآن، فيقول لك: أنا أقرأ أفضل منك، وكل إنسان يجهل شيئاً يعادي هذا الذي يجهله، وقد قيل: ومن جهل شيئاً عاداه.
كذلك هؤلاء ليس عندهم علم، فالذي عندهم هو الجهل؛ ولذلك عادوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، وفرحوا بما عندهم من العلم في زعمهم من علم الدنيا، وهو الجهل بالله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)، لقد كانوا يستهزئون بعذاب الله سبحانه وبقدرته، فحاق بهم أي: نزل بهم نزولاً وإحاطة، فقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) أي: أحاط بهم العذاب فلم يفلتوا من عذاب الله سبحانه، ونزل بهم قدر الله سبحانه، فلم يقدروا على الهروب من ذلك.(390/6)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84] أي: لما جاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه على هؤلاء ورأوا بأسنا، والبأس: هو العذاب، وقدرة الله سبحانه وتعالى عليهم، خافوا ورجعوا إلى أنفسهم فتابوا، قال تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) قالوا مثل فرعون لما جاءه الهلاك والعذاب وهو فرح بنفسه وبجنوده، ولما دخل في اليم وانطبق عليه البحر قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فقال تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] فلا تنفعه التوبة الآن، وكذلك هؤلاء، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98]، فالقرية الوحيدة والقوم الوحيدون الذين نفعتهم توبتهم عند الله عز وجل هم قوم يونس، أما غيرهم من الأقوام فلن تنفعهم توبتهم، وقوم يونس لما خرج نبيهم من بلدهم وظنوا أن العذاب آتيهم رجعوا إلى الله قبل أن يأتي العذاب، فلم يأت العذاب، فقد وجدوا أن نبيهم خرج وتركهم فقالوا: سوف ينزل العذاب علينا، سنتوب إلى الله عز وجل، فتابوا فنفعتهم توبتهم.
فالإيمان إنما يكون غيباً، أما إذا كان العذاب مشاهداً ثم يقول: آمنت الآن، فلا ينفعه إيمانه الآن، فالله سبحانه يقول: (فَلَمَّا رَأَوْا) أي: عاينوا، (بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي: رجعنا إلى التوحيد، وكفرنا بما كنا به مشركين، كفرنا بالأصنام وبالأوثان، وبالآلهة التي عبدناها من دون الله.(390/7)
تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)
قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] أي: لما جاء البأس وجاء العذاب من عند الله لم ينفعهم الإيمان الآن.
قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ) أي: سن الله سنة وجعلها عادة مطردة من عوائده سبحانه، ومن سيرته في خلقه وحكمه وأمره فيهم سبحانه.
قال سبحانه: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ) والتقدير: سن الله سنته سبحانه، فنصبت على المصدرية، أو نصبت على التحذير، أي: احذروا سنة الله في خلقه سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه كانت سنة الله وعادته المطردة في خلقه أنه يملي، فإذا أخذ لم يفلت، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) وسنته أنه إذا جاء العذاب لا ينفع الإيمان بعد مجيء العذاب لمن كان يكفر قبل ذلك.
قال تعالى: (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) أي: مضت في عباده.
قال تعالى: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) أي: حين نزول العذاب خسر هنالك الكافرون، أي: هلك من جحدوا ربهم سبحانه، ومن أشركوا بالله سبحانه، فأهلكهم فلم ينفعهم إيمانهم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(390/8)
تفسير سورة فصلت الآية [1]
سورة فصلت من السور المكية، وفيها التنويه بمنزلة القرآن الكريم، وأنه منزل من عند رب العالمين سبحانه، وأن العرب عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله، وفي هذه السورة ذكر عاقبة المكذبين يوم القيامة، وذكر عاقبة أهل الإيمان.(391/1)
مقدمة بين يدي سورة فصلت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:1 - 8].
هذه السورة هي الحادية والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي سورة فصلت، وسورة فصلت واحدة من سبع سور بدأت بالحرفين (حم) أولها سورة غافر التي ذكرناها قبل ذلك، وآخرها سورة الأحقاف، وهذه السورة من السور المكية، ومجموعة السورة الحواميم يطلق عليها عرائس القرآن؛ لما فيها من جمال، وما فيها من حكم، وما فيها من آيات تخاطب المشركين بأمور تدل على وجود الله سبحانه، وأنه الخالق الذي يستحق وحده أن يعبد، وتناقش هؤلاء وتذكرهم ما حل بالسابقين من عذاب، وتذكرهم بالدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو من عذاب أليم وغير ذلك.
وتسمى هذه السورة بسورة فصلت، لأن الله عز وجل ذكر في أولها: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3]، وتسمى بسورة السجدة أو سورة (حم السجدة) يعني: السورة التي في أولها الحرفان (حم) والتي فيها السجدة، فهي الوحيدة من الحواميم التي فيها سجدة، كذلك تسمى بسورة المصابيح؛ لقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12] وكذلك ذُكر أنها تسمى بسورة (الأقوات) لأن الله عز وجل ذكر فيها: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10] يعني: قدر في هذه الأرض الأقوات لأهلها فيها، كذلك هذه السورة تسمى بسجدة المؤمن، وسورة المؤمن هي سورة غافر، وكأنها السجدة التي بعد سورة المؤمن.
هذه أسماء هذه السورة.
وهذه السورة عدد آياتها اثنان وخمسون آية على العد البصري والشامي، وثلاثة وخمسون على العد الحجازي، وأربعة وخمسون على العد الكوفي، وكما ذكرنا قبل ذلك أن الخلاف في العد إنما هو بحسب الوقوف، فالبعض يعتبر هذه رأس آية فيقف عليها.
فيعدها، فالخلاف سيكون في الآية الأولى منها (حم) فسيعد الكوفيون هنا أن هذه رأس آية، فعند الكوفيين أن هذه السورة أربعة وخمسون، فيعتبرون (حم) هذه رأس آية، وعند غيرهم تعتبر هي وما بعدها آية واحدة، وكذلك قول الله عز وجل: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فالوقف هنا عده الكوفيون رأس آية، وكذلك عده الحجازيون، وغيرهم اعتبر هذه وما بعدها آية واحدة، فالخلاف في العد هو خلاف في موضع الوقف هل هنا رأس آية أو ليس رأس آية؟ وقد قدمنا قبل ذلك أن سور الحواميم نزلت على ترتيب وجودها في المصحف، فأول ما نزلت من الحواميم سورة غافر وآخر ما نزل من الحواميم سورة الأحقاف، وكلها من السور المكية كما قدمنا قبل ذلك، فهذه السورة على الترتيب في النزول تعتبر السورة الحادية والستون، لكن في ترتيبها في عد المصحف تعتبر الحادية والأربعين.(391/2)
أغراض سورة فصلت
وهذه السورة لها أغراض، والسور المكية أهم أغراضها: إثبات توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى، ومناقشة أمر العقيدة والاستدلال على ذلك بما يراه الإنسان في هذا الكون العظيم من آيات تدل على الله سبحانه تبارك وتعالى، وعلى أنه وحده الذي يخلق فلا يستحق أن يعبد أحد سواه سبحانه تبارك وتعالى.
فأغراض هذه السورة منها التنويه بشأن القرآن العظيم، كما في قوله عز وجل: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:1 - 3] فذكر أن هذا القرآن نزل من عند رب العالمين الذي فصله سبحانه، فالله الرحمن الرحيم العزيز الحكيم سبحانه تبارك وتعالى هو الذي فصل لنا هذا القرآن، وذكر أنهم يعجزون عن معارضة هذا القرآن العظيم، وذكر في هذه السورة هدي هذا القرآن العظيم، وأنه هدىً للناس، وأنه معصوم من أن يتخلله الباطل، وأن الله عز وجل يؤيد النبي صلوات الله وسلامه عليه بما أنزله عليه من هذا القرآن العظيم الذي يبين للناس الشريعة والمنهاج.
كذلك يذكر لنا كيف تلقى المشركون هذا القرآن، قال عز وجل: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] فتلقوا هذا القرآن بالرفض؛ ورفضوه لأنهم خافوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحسدوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد رأوا أمامهم الآيات البينات، ولكن لم يعتبروا ولم يتعظوا غيرة وحسداً، كما قال عز وجل عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: لماذا أنت ينزل عليك القرآن؟! فكان الرد من هذا الباب ليس بكونهم لم يفهموا القرآن، بل فهموا وعلموا، ولذلك قال الله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] فهم يعلمون، وهم يفهمون لغة هذا القرآن، ويعلمون ما هي الفصاحة، وكيف تكون، وما هي البلاغة، وكيف تكون، فإن هذا اللسان العربي لسان واضح مبين، لذلك لم يريدوا أن ينقضوا شيئاً من هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وجماله وحلاوته، وإنما كان أقصى ما يقولونه: ما معنى أنه نزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه دون غيره؟ كذلك يخبرنا الله عز وجل عن إبطال مطاعن هؤلاء المشركين في هذا القرآن العظيم، ويذكرهم ربنا سبحانه بأنه نزل بلغتهم، فإنهم قالوا: إن القرآن تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من بشر آخر، فأخبرنا الله عز وجل أن هذا الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم منه لسانه أعجمي، وهذا القرآن لسان عربي مبين، فلو نزل هذا القرآن بلسان أعجمي لقالوا: أأعجمي وعربي؟! أي: كيف يكون القرآن بلسان أعجمي ونحن عرب نتكلم باللغة العربية، نريده عربياً، فلما نزل لهم باللسان الذي يفهمونه إذا بهم يعرضون، فأي عقول هذه؟ وهم شهدوا على أنفسهم فقالوا: في آذاننا وقر، وقلوبنا فيها أكنة مما تدعونا إليه، كما قال عز وجل حاكياً عنهم: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].
كذلك يذكر الله عز وجل في هذه السورة بما يكون في هذه الدنيا من عذاب وعقوبة، كالذي حدث لقوم عاد وثمود، فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] وهم عرفوا ما الذي حدث بهؤلاء الأقوام السابقين، فكانوا يخافون من ذلك فيناشدون النبي صلى الله عليه وسلم الله ويناشدونه الرحم ألا يصنع بهم ذلك، ومع ذلك لم يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه! وذكرهم بيوم القيامة وكيف أنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وتشهد عليهم جلودهم يوم القيامة، وأنهم يقولون لجلودهم ولأعضائهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21].
كذلك يذكر لنا سبحانه ما يكون في يوم القيامة من مناقشات بين الكفار وبين من طلبوا من الله عز وجل أن يريهم هؤلاء الذين أضلوهم في هذه الدنيا وأضل بعضهم بعضاً، فلما أفاقوا على الموت وأفاقوا على القيامة وأفاقوا على النار قالوا: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] يقولون ذلك يوم القيامة وهم في النار، يقولون لله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أي: ندهسهم بأقدامنا، وندوس عليهم بأقدامنا مثل ما عملوا فينا وورطونا في الدنيا وأدخلونا النار، فيبكون وهم في جهنم ويتمنون العودة إلى الدنيا، ولكن لا رجوع ولا إجابة لهؤلاء، ويتمنى بعضهم لبعض عذاب الضعف، فيقول الله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] أي: كلكم تستاهلون المضاعفة من العذاب، والعياذ بالله! كذلك ذكر لنا كيف كانوا في الدنيا يعرضون، ويوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، كانوا في الدنيا يقولون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] أي: لا تسمعوا لهذا القرآن، وحين يقرأ عليكم القرآن الغوا وتكلموا وباعدوه؛ بحيث ما أحد ينتبه له.
كم كادوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد الله كيدهم في نحورهم، ونشر دينه، ونصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وأخزى هؤلاء الكافرين.
كذلك يخبرنا عن المؤمنين السعداء نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] انظر الفرق بين المؤمن وبين الكافر، فالكافر في النار وفي العذاب وفي الهوان وفي الذل، والمؤمن تتنزل عليه الملائكة في حال وفاته، وتطمئنه وتقول له: لا تخف؛ فأنت راجع إلى رب غفور رحيم، لا تحزن أنت مكانك في الجنة ولن تدخل النار، قال عز وجل: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] إلى غير ذلك مما ذكر الله عز وجل من الآيات وما يسر الله في هذه السورة الكريمة.(391/3)
معنى الحروف المقطعة
بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بالحرفين {حم}، وهناك سور كثيرة في القرآن بدأت بهذه الأحرف، وتسمى الحواميم، وهي سبع سور، وغيرها من السور ذكر الله عز وجل: (الم، الر، المر، المص، كهيعص)، وذكر (ن، ق، ص)، فيذكر الله عز وجل آيات يبدؤها بهذه الحروف التي يقيناً لها حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سر من أسرار هذا القرآن العظيم، وهي من حكم القرآن أن ينزل فيه في أوائل السور ذلك، والعلماء كل منهم يدلي بدلوه في ذلك، وإن كان في النهاية هذه من أسرار القرآن، ولكن يذكرون أشياء من الحكم التي يصلون إليها فيقولون مثلاً: إن هذه الحروف المكررة في أوائل السور تبلغ أربعة عشر حرفاً، وحروف العربية ثمانية وعشرون حرفاً، قالوا: نصف حروف اللغة العربية موجودة في أوائل هذه السورة، وهذه الحروف المذكورة هي أشرف من الحروف المهجورة غير المذكورة، ولذلك يقولون: هذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، ونحن في نظرنا أن الحروف كلها حروف، ولكن علماء اللغة العربية وعلماء التجويد وغيرهم يفرقون بينهما، فيقولون: الحروف منها الحرف المهموس ومنها المجهور، ومنها حروف اللين ومن الحروف الشديدة، ومنها الحروف المطبقة ومنها الحروف المفتوحة، والمستعلية والمنخفضة، وحروف القلقلة.
بدأ الله عز وجل في هذه السور بهذه الحروف، فمنها ما هو مهموس ومنها ما هو مجهور ومنها ما هو من حروف الرخاوة، وغير ذلك، فالله عز وجل انتقى من هذه الحروف نصف حروف اللغة العربية فوضعها في أوائل بعض سور القرآن؛ لحكمة من الحكم.
وهذه الحروف من العلماء من قال: لو جمعناها وكونا منها جملة بعد أن نأخذ المكررات منها، فنظروا وكونوا جملة عجيبة وهي: (نص حكيم قاطع له سر)، هذه الحروف التي تكررت أخذوا منها المكرر وأخذوا الحروف الغير مكررة فطلعت منها هذه الجملة التي تدل على هذا المعنى: أن هذا نص حكيم قاطع له سر، فهي من أسرار هذا القرآن! والعلماء يذكرون أنه بدأ بهذه الحروف حتى يري هؤلاء الكفار أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون بها، من جنس اللغة العربية التي أنتم تنطقون بها، فأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو من هذه الحروف، فعجزوا عن ذلك، والعرب قوم إذا تحداهم إنسان يقبلون التحدي ويعاندون، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هم يحسدونه وتحداهم صلى الله عليه وسلم عجزوا، وما عرفوا كيف يردون عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أنهم عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يقدروا على أن يأتوا بمثله.
وهذا التحديث كان للعرب الذين هم أهل اللغة العربية وأهل البلاغة وأهل الفصاحة، وأما الجهلة الحمقى من النصارى والمجرمين وغيرهم فهم يجهلون اللغة العربية، ويجيء الجاهل الأحمق الغبي منهم ويقول: أنا سآتي بمثل هذا القرآن، ويتكلم بكلام تافه ليس له معنى، ويقول: أنا قلت هذا الشيء مثل هذا الشيء، فيلقى هو وكلامه في مزبلة؛ فلا ينظر إليه أحد؛ لأنه أصلاً ليس من أهل العربية حتى يتكلم بذلك، وليس هذا الذي أتى به مثل هذا القرآن، بل هو كلام فارغ، لكن العرب قوم يعلمون كما وصفهم الله عز وجل بذلك، فهم يعلمون ما هي اللغة العربية، وما هي الفصاحة، وما هي البلاغة، وكان أحدهم إذا سئل: عرف الشيء الفلاني، يعرفه تعريفاً وجيزاً في كلمات قليلة تأتي بالمعنى الكبير، ويمكن أن البعض من الناس ينقده في هذا، فيقول: أقلني، لا أقصد كذا، فيلغي الذي قاله ويأتي بشيء ثان أقصر منه؛ لأنه يفهم اللغة العربية ويعرف ماهية البلاغة في الكلام، وماهية الفصاحة، أما الجاهل الذي لا يفهم ذلك مثل تلميذ في الابتدائي لا يفهم شيئاً، ولا يفهم اللغة العربية، لكن مثل أستاذ في اللغة العربية أو دكتور فيها فإنه حين ينظر يقول: مستحيل أن يقول إنسان: أنا سآتي بمثل هذا القرآن.
ولو يحبس نفسه في البيت ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فإنه بعد ذلك سيخرج على الناس عاجزاً لم يأت بشيء، ولما يتطاول بعضهم ويقول شيئاً يقول كلاماً يضحك الناس عليه فيما يقوله، فهو من أهل الفصاحة ومن أهل اللغة ولكنه عجز أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولذلك قالوا: لن نأتي بمثله، ولكن سنقول فيه: هذا شعر، ويقوم يكذب بعضهم بعضاً: أين أوزان الشعر؟ وأين التفعيلات التي فيه؟ هذا ليس شعراً، فيقولون: سنقول: هذا سحر، فيقال: ما هو السحر الذي في هذا الذي تلاه؟ أقصى شيء يصلون إليه أنهم يقولون: هو يفرق بين الولد وبين أبيه، فأبوه يبقى كافراً والابن يصير مسلماً، فيفرق بين الولد وأبيه، هذا هو الذي يقولونه في القرآن وهم يعرفون أنهم كذابون فيما يقولون، لذلك ربنا سبحانه تبارك وتعالى أخبر عن هذا القرآن أنه كتاب حكيم فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42] أي: نزل من عند رب العالمين من لدن حكيم حميد سبحانه تبارك وتعالى.
واليهود كانوا ينظرون نظرة أخرى إلى القرآن وإلى هذه الحروف التي في أول القرآن، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: ماذا نزل عليك من القرآن؟ فيقرأ لهم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] وعندهم حساب يسمونه بحساب الجمل، يأتون بالحروف ويجعلون لكل حرف رقماً، ويقسمونها على نسق: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت إلخ ويقولون: الألف: واحد، والباء: اثنان، والجيم: ثلاثة، والدال: أربعة، والهاء: خمسة، والواو: ستة، والزاي: سبعة، ويجعلون لكل حرف رقماً؛ يعملون هذا الشيء من أجل أنهم يفترضون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون: بناءً على كذا سنعرف العدد ونعرف أشياء من الغيب، وهذا من العلم المحرم، وهذا شيء حرام.
فاليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم: {الم} فقالوا: الألف هذا حرف بواحد، واللام بثلاثين، والميم بأربعين، فنجمع واحداً وثلاثين وأربعين ينتج واحداً وسبعين، إذاً: عمر دعوتك سيكون واحداً وسبعين سنة، فيقول بعضهم لبعض: كيف نتبع رجلاً دعوته عمرها واحد وسبعون سنة؟ فيأتون يسألونه مرة أخرى: ماذا نزل عليك؟ فيقول لهم: {المص} [الأعراف:1] فيقولون: الألف بواحد واللام بثلاثين والميم بأربعين والصاد بسبعين فيكون المجموع مائة وواحداً وثلاثين، إذاً: لا نريد أن نتبعك؛ لأن عمر دعوتك قليل، وإذا قرأ عليهم: (الر) يقولون أيضاً: الألف بواحد واللام بثلاثين والراء بمائتين، فيكون المجموع مائتين وواحداً وثلاثين سنة، فمن أين أتوا بالمائتين وواحد وثلاثين؟ هذا كذب، ولا يحل أن يتكلم بهذا الشيء لا في دين ولا في دنيا.
فقالوا في النهاية: لبس علينا، واليهود يعرفون يقيناً أنه نبي من عند رب العالمين، وشهد عليه ربنا سبحانه فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [الأنعام:20] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:20] فكما أن أحداً لا يغلط بابنه فإنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
والمؤمنون يعرفون أن هذه الأحرف لها سر من الأسرار، وأن الله عز وجل أنزلها لحكمة من الحكم، فلا مانع أن يعرفوا البعض من هذه الحكم، ومنها أن هذا القرآن من جنس الحروف التي تتكلمون بها، فنتحداكم أن تأتوا بمثله، ولذلك الغالب أنه إذا ذكر شيئاً من هذه الحروف يذكر بعدها إشارة إلى القرآن، كما قال في أول البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، أي: القرآن، وقال: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران:1 - 3]، وهنا قال: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:1 - 3].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(391/4)
تفسير سورة فصلت [2 - 4]
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون حجة على الكافرين والمعرضين عن الحق، فقد أنزله بلسان العرب ولغتهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، وسورة فصلت بدأها الله بـ (حم) مثل بقية الحواميم، ليبين عظمة كتابه، وقوة تعبيره، وجودة بلاغته، التي شهد لها أفصح العرب ممن عايش النبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وغيرهم، ومع ذلك كذبوا وأعرضوا، وكأنهم لم يسمعوا ولم يعلموا.(392/1)
تفسير قوله تعالى: (حم.
تنزيل من الرحمن الرحيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: بسم الله الرحمن الرحيم.
{حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5].
بدأنا قبل ذلك في هذه السورة الكريمة سورة فصلت، وذكرنا كيف أن الله عز وجل بدأها مع سبع سور من كتاب الله عز وجل متوالية، من أول سورة غافر وحتى سورة الأحقاف، كلهن يبدؤهن الله عز وجل بحرفي حاء وميم (حم)، وهذه الحروف في هذا القرآن العظيم ذكر العلماء أن لها حكماً، وهذه الحروف سر من أسرار هذا القرآن العظيم، ولكن لا يذكر الله عز وجل في افتتاح السور حروفاً أو حرفاً أو حرفين إلا والغالب بعدها أن يشير إلى هذا القرآن العظيم، كما يقول تعالى هنا: {حم * تَنزِيلٌ} [فصلت:1 - 2] يعني: هذا القرآن نزله الله عز وجل من عنده.
فقوله تعالى: ((تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) أي: نزل القرآن من السماء.
وكما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح: أن القرآن نزل جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ونزل منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الأمين، كلما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر أو نزلت به حادثة أو احتاج إلى حكم من الأحكام نزل القرآن عليه يبين له ويفصل له ما يحتاج إليه؛ ولذلك قال تعالى هنا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3]، فقوله تعالى: ((فُصِّلَتْ)) أي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً، يعني: مقطعاً، آية آية، سورة سورة، فهي آيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تنزل آيات غيرها وهكذا، وهذا معنى التنجيم، أي: نزل مقطعاً على حسب ما يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم من حوادث.
قال الله عز وجل: ((تَنزِيلٌ)) لأنه نزل من السماء.
وقوله: {مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] أي: من عند الله سبحانه الرحمن الرحيم، بمعنى: نزلت هذه الآيات من السماء التي تفيد علو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهو العلي العظيم سبحانه، والكبير المتعال سبحانه وتعالى، وهو الذي استوى على العرش، وهو الذي فوق السموات، قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، وهو الذي ترفعون إليه أيديكم في الدعاء، كما ثبت في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يدعو فيرفع يديه إلى السماء فيدعو ربه سبحانه وتعالى)، فأخبر الله عز وجل أنه نزل الكتاب العظيم من عنده، وذكر صفتين له في اسمين من أسمائه الحسنى: الرحمن الرحيم.(392/2)
من أسماء الله الحسنى الرحمن والرحيم والفرق بينهما
الرحمن اسم من أسماء الله عز وجل الحسنى التي اختص بها، قال الرحمن: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، فلن تجد أحداً اسمه الرحمن مع الله عز وجل، فهو الرحمن وحده لا شريك له، ولذلك فإن الكفار أرادوا أن يفتروا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه يُعلم رجل من اليمامة اسمه: الرحمن، وقالوا: يأتي بالقرآن رحمان اليمامة، فكذبوا في ادعائهم، إنما الرحمن الواحد سبحانه، وما تسمى بهذا أحد سواه سبحانه وتعالى، فاختص بأنه الله، واختص بأنه الرحمن.
أما الرحيم فهو اسم من أسمائه الحسنى سبحانه، وهي صفة جعل لخلقه أن يتصفوا بها، فالله يرحم من عباده الرحماء، كل إنسان رحيم من عباد الله عز وجل يرحمه الله، والراحمون يرحمهم الرحمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وأخبرنا الله سبحانه عن نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام أنه جعله رءوفاً رحيماً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولكن الله عز وجل أعطاه رحمة من عنده، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159].
فقوله: ((فَبِمَا)) يعني: فبرحمة عظيمة من الله عز وجل جعلها في قلبك ((لِنْتَ)) أي: للمؤمنين، فأي رحمة عظيمة نزلت عليك وجاءتك من الله يتعجب من أمرها! فقد كان غاية في الرحمة والحنان صلوات الله وسلامه عليه، ولشدة شفقته على أمته صلى الله عليه وسلم جميعهم كاد يهلك عليه الصلاة والسلام من جزعه على كفرهم؛ ولذلك عاتبه الله عز وجل فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: ستهلك نفسك من الأسف ومن الحزن عليهم بسبب عدم إيمانهم والله تعالى يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، وأرسله الله نذيراً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:23 - 24].
فالنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وأخبر عن نفسه سبحانه فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
إذاً: الله هو الرحمن الرحيم، والرحمن: صفة يختص بها سبحانه وتعالى، وهي صيغة مبالغة من الرحمة، ورحمة الله سبحانه وتعالى رحمة واسعة عظيمة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الله قسم رحمته مائة قسم، أنزل منها قسماً في الأرض، وترك عنده -سبحانه وتعالى- تسعة وتسعين قسماً من رحمته يرحم بها عباده يوم القيامة)، وهذا القسم الذي أنزله الله في الأرض يتراحم به الخلق جميعهم، كلهم يرحم بعضهم بعضاً، فيجعل الرحمة في قلب الوالدة، وفي قلب الوالد على ولده، باختلاف خلقه من الإنس ومن الجن ومن الحيوان ومن الطيور، فجعل في قلوبهم رحمة يرحم الأب ولده بهذا الجزء من الرحمة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، حتى إن الحيوان ذا الحافر ليرفع حافره عن ولده لئلا يصيبه، وهذا من الرحمة التي جعلها الله عز وجل.
فإذا جاء يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى تسعة وتسعين قسماً من رحمته، ورحم بها عباده يوم القيامة، فهو الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.
والرحمن صيغة مبالغة والمعنى: ذو الرحمة العظيمة الواسعة العامة التي تعم جميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى.
فالرحمن فيها عموم وخصوص.
والرحيم فيها عموم وخصوص أيضاً.
فالرحمن: صيغة مبالغة من الرحمة العامة التي تعم الخلق جميعهم، فجعل في قلب كل واحد من خلقه شيئاً من الرحمة زادت أو قلت، في قلوب المؤمنين، وفي قلوب الكفار، وفي قلوب الحيوانات، وفي قلوب كل خلق خلقه الله عز وجل.
كذلك يرحم الله عباده سبحانه، فالإنسان يرفع يديه إلى الله: يا رب يا رب، فيستجيب الله عز وجل له، يظلم الإنسان نفسه وغيره، فيقول المظلوم: يا رب -وقد يكون المظلوم كافراً- ويقول: يا رب فينتصر الله له ممن ظلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دعوة المظلوم تصعد إلى السماء كالشرر ليس بينها وبين الله حجاب حتى وإن كانت من كافر).
فالله هو الرحمن الذي رحم خلقه فأقام عليهم الحجة حتى يعرفوا الحق، فأرسل الرسل وأنزل الكتب لجميع خلقه، ليهديهم سبحانه وتعالى، وجعل فيهم العقول، وجعل فيهم الفطر، وجعل فيهم القلوب، فهذه صفة الرحمن تبارك وتعالى، فجعل للجميع ما يظهر لهم أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة لا شريك له حتى يؤمنوا به؛ لأنه الرحمن.
والرحيم: صيغة مبالغة فيها عموم وخصوص، فالعموم في الرحيم أن الله سبحانه وتعالى جعل الرحيم لنفسه اسماً له، وجعله صفة لخلقه.
إذاً: الله عز وجل هو الرحيم، ومن خلقه من يكون رحيماً أيضاً، ولكن هناك فرق بين الله الذي سمى نفسه الرحيم وهي صفة تليق بعظمته سبحانه وبين من يتصف من خلقه بأنه رحيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، وفرق بين رحمة الله العظيمة الواسعة ورحمة المخلوق المحدودة.
والخصوص: أن الله سبحانه وتعالى رحيم بالمؤمنين، فقال عن نفسه سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
إذاً: هي صفة لله عز وجل يختص بأنه يرحم بها المؤمنين، وفي يوم القيامة إذا حشر الناس قنط الكافرون من رحمته سبحانه، وفتح الله للمؤمنين رحمته سبحانه وتعالى، فالرحيم اسم من أسمائه سبحانه، وصفة يرحم بها عباده المؤمنين.(392/3)
تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته)
ثم قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] هذا الكتاب العظيم هو القرآن الذي بين أيدينا وكتاب الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: ((كِتَابٌ فُصِّلَتْ)) التفصيل: التبيين، أي: البيان الواضح الجلي، فالمجمل الذي قد لا يفهمه الإنسان يحتاج إلى تبيين، فهذا القرآن يبين ما يشكل على الناس، ويفصل لهم ما يحتاجون إليه، بحيث لا يبقى عندهم إشكال ولا غموض في شرع الله سبحانه وتعالى، فهو المنزل كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أي: نزل على قوم يعلمون هذا اللسان، ويعقلون اللغة العربية، ويعقلون عن ربهم ما يريده منهم، فقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3] أي: بينت الآيات التي فيه.
قوله: {قُرْآنًا} [فصلت:3] أي: نزل قرآناً، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((قُرْآنًا)) بالهمزة، وقراءة ابن كثير المكي: ((قُرْآنًا عَرَبِيًّا)) [فصلت:3]، وكذلك إذا وقف عليها بالهمزة.
وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] يعني: نزل القرآن باللغة العربية، وهذا تشريف للغة العربية أن ينزل القرآن بهذه اللغة.
فجاء هذا القرآن على قوم يعلمون أن الخالق هو الله سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وهم يعترفون بذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
ولئن سألتهم: لماذا لا تعبدون الله؟ أليس هو الذي خلقكم؟ ألا يستحق العبادة؟ قالوا: يستحق العبادة، ولكننا نعبد أصناماً حتى تقربنا إليه، نحن أقل شأناً من أننا نعبده مباشرة، فهذه واسطة بيننا وبين الله عز وجل حتى تقربنا، قال تعالى مبيناً قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فافتروا الكذب.
ومن الذي قال لكم: اعبدوا هذه الأصنام وهي تقربكم إلى الله سبحانه؟ قال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].
قوله سبحانه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3]، إذاً: يعلمون أنه خالقهم، وأنه الذي يستحق العبادة وحده، ومع ذلك أعرضوا، ويعلمون أيضاً أن هذا القرآن معجز، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فقد علموا ذلك، وكانوا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويمشون وراءه وهو يذهب ليصلي عند الكعبة، ويقفون يتنصتون عليه في الليل؛ حتى يستمعوا إلى هذا القرآن، ويقول قائلهم وهو الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة.
هذا القرآن العظيم ما هو بقول البشر، بل كلام عظيم فيه حلاوة وعليه طلاوة، هكذا يقول الوليد بن المغيرة، ومع ذلك لم يسلم هذا الرجل، فقد علموا أن هذا القرآن قرآن عظيم، وأنه معجز، وأنه ليس من قول البشر، وأنه لقوم يعلمون.(392/4)
تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
قال تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: جاء القرآن بالبشارة وجاء بالإنذار، يبشر المؤمنين ويخبرهم بما يسرهم وبما يفرحهم، فتظهر أثر الفرحة على وجوههم، يفرحون ويسرون بما يقوله الله وبما يعدهم من جنات ونعيم.
ونذيراً لقوم يكفرون ويعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستجيبون له صلوات الله وسلامه عليه، فالقرآن ينذر من أعرض عن الله، ومن أشرك به، ومن عبد غيره، ومن عاند النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4] أي: أكثر هؤلاء الذين استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم أعرضوا عنه، وهذه عادة الأقوام مع رسلهم، فأول ما يواجه الأقوام المرسلين بالإعراض والإنكار والتوبيخ والتسفيه والرمي بالكذب، كذا فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4]، صحيح أنهم قالوا: إن له لحلاوة، وعليه لطلاوة، ولكنهم سمعوا سمعاً لا ينتفعون به، فهم بلا سمع، كما أن الإنسان الذي يعلم علماً لا ينتفع به، كأنه لا علم عنده، فأخبر الله عز وجل عن المشركين فقال: {فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:93]، لكنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ لأن علمهم لا يتعدى الدنيا إلى ما عند الله سبحانه وتعالى من جنة ونار، ولا يتعدى إلى إيمان ويقين، كأنهم لا علم عندهم كذلك، قال الله تعالى هنا: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: لا يستمعون استماعاً ينتفعون به، وإنما مجرد سماع كلمات تدخل في آذانهم، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثلها، ومع ذلك يعرضون ويكذبون، فسمعوا ولم يفهموا ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، كما ستأتي في قصة عتبة بن ربيعة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستمع إليه فتلا عليه هذه الآيات، ومع ذلك لم يفهم منها إلا التخويف فناشده الله والرحم ألا ينزل الله عز وجل عليهم عذاباً، ومع ذلك أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذب! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(392/5)
تفسير سورة فصلت [3 - 4]
للقرآن الكريم خصائص وسمات تميزه عن غيره من الكتب، فهو منزل من عند الله تعالى، وهو كتاب مفصل مقروء نزل باللسان العربي لكي يعلم ويفهم، وجاءت فيه البشارة للمؤمنين بالجنة والنعيم، والنذارة للعصاة الكافرين بنار الجحيم، فإذا كان هذا الكتاب له هذه الأوصاف فحري بكل إنسان أن يتبعه، لكن عمى البصائر جعل بين الكفار وبينه حاجزاً من الران على القلوب والصمم في الأسماع والعمى في الأبصار، فصدوا عن اتباعه والاهتداء بهديه.(393/1)
تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:3 - 4].
في هذه الآيات يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أن هذا القرآن العظيم نزل من عنده، وهو أرحم الراحمين سبحانه، وأنه كتاب فصلت آياته، أي: بينت ووزعت هذه الآيات، ونزلت منجمة على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما يحتاج إليه الخلق.
فأنزل الله سبحانه هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، وبين في آياته الأحكام والأوامر والنواهي والمواعظ وقصص السابقين وما يكون في يوم الدين.
وبين للناس شريعة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الشريعة الكاملة الخاتمة التي أكمل الله عز وجل بها هذا الدين العظيم ورضيه للمؤمنين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت:3] أي: نزل من عند الله عز وجل كتاباً مقروءاً مجموعاً إلى السماء الدنيا ثم نزلت الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم والسور بحسب الحوادث خلال ثلاثة وعشرين سنة، وهذا القرآن قرآن عربي نزل بلغة العرب.
وقد ادعى المشركون أن رجلاً من اليمامة يقال له: رحمن اليمامة، هو الذي يعلمه صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً أعجمياً.
فعجب الله عز وجل من أمر هؤلاء! فلو نزل القرآن بلسان العجم لقالوا: لماذا لم يأت بلغتنا؟ فقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: أنزل هذا القرآن باللسان العربي الذي هو أشرف لسان وأشرف اللغات وأعلاها وأفصحها وأجملها، فاللغة العربية استوعبت هذا القرآن العظيم، وأنزل الله سبحانه القرآن أعظم كتبه وأشرف الكتب بأشرف اللغات وهي اللغة العربية على أشرف الخلق النبي صلى الله عليه وسلم بسفارة أشرف الملائكة جبريل عليه السلام في أشرف بقاع الأرض وهي مكة في أشرف الأشهر والأزمنة في شهر رمضان.
فكان القرآن في نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم الشيء العظيم الذي أكرم الله عز وجل به هذه الأمة، فكانوا يزدادون شرفاً فوق شرف بهذا الكتاب الذي جعله الله سبحانه وتعالى لخلقه شريعة ومنهاجاً.
قال الله سبحانه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] وذكر الله سبحانه في سورة يوسف: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] أي: لعلكم تفهمون عن الله سبحانه وتعالى ما يريده بكم من خير وتعقلون هذه الشريعة العظيمة التي جاءتكم بلسانكم فتفهمون حدود الله سبحانه وأصول هذا الدين وفروعه.
فإذا عقلتم ذلك وفهمتموه ازدادت عقولكم وازدادت أفهامكم، ونور الله عز وجل بهذا القرآن قلوبكم، فأثمر بذلك عمل الجوارح فعملتم لتستحقوا أن تكونوا من أهل الجنة بانقيادكم إلى الله سبحانه وتعالى.
وهنا أخبر أنه نزل بهذا اللسان العربي لقوم يعلمون، أي: يعلمون أن هذا القرآن لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، وإنما نزل من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
لقوم يعلمون فيفهمون أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله الذي اعترفوا به أنه الخالق وحده.
ولقوم يعلمون أن هذا القرآن أعجزهم فلم يقدروا أن يأتوا بقرآن مثله، ولا بعشر سور مثله مفتريات ولا حتى بسورة واحدة.(393/2)
تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
قال تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] جاء القرآن ببشارة من الله بالجنة لمن أطاع واتبع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ونذير ينذرهم ويخيفهم من عذاب يوم أليم يوم يرجعون إلى الله سبحانه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
فهو نذير ينذرهم بالموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وبالعذاب الأليم لمن عصى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4] أي: أعرض أكثرهم مع ما ذكر الله عز وجل ومع ما فهموا من ذلك، قال تعالى: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4]، وقد ذكرنا في الحديث السابق أنهم كانوا يسمعون، ولكن الله عز وجل أخبر أن سمعهم كلا سمع، كما أن علمهم كلا علم، لكونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولم يتجاوز علمهم الدنيا إلى الآخرة، فكأنهم لا علم لهم، والدنيا قليلة حقيرة صغيرة مقابل الآخرة الكبيرة العظيمة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] فالدار الآخرة دار الحياة الدائمة ودار الخلود، فالذي لم يتجاوز علمه هذه الدنيا القصيرة الحقيرة، ولم ينظر في هذه الدار العظيمة الباقية الكبيرة فهو كالذي لا علم عنده، ولذلك قال الله سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7].
وقد ذكرنا أن الكفار استمعوا لهذا القرآن، ولم ينتفعوا بما استمعوا بل عاندوا وأعرضوا كما قال الله سبحانه: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: لا ينتفعون بما استمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يهربون منه حتى لا يسمعوا هذا القرآن العظيم، وقد استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا حلاوة هذا القرآن.
قال ابن إسحاق: ذكر عن الزهري قال: حدث أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في جوف بيته عليه الصلاة والسلام، فجلس كل واحد منهم مختبئاً في مكان لا يراه صاحباه، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم ليستمع لجمال هذا القرآن وحلاوته، فلما رجعوا إلى بيوتهم جمعهم طريق واحد، فاستحيا كل واحد منهم من الآخر، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء، وكأن هذا الشيء لم يقع في نفوسهم، وهكذا فعلوا في الليلة الثانية وفي الثالثة كذلك، ثم أصبحوا فجمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم أتى الأخنس بن شريق أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك في هذا القرآن الذي سمعناه من محمد، فقال أبو سفيان: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، أي: أعلم أنه يدعونا إلى التوحيد، والذي يمنعنا من اتباعه جعله الآلهة إلهاً واحداً.
ولم يزد على ذلك وهو يعلم أن هذا الكلام ليس كلام كهانة ولا عرافة.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به فهمت هذا القرآن وعرفت الذي يراد منا.
ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل فرعون هذه الأمة: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، فمتى ندرك ذلك؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه! ومعنى كلامه: أنهم تنازعوا على الشرف في الدنيا على السمعة، وكل فريق منا على قدر عظيم من إظهار النفس والفخر بين العرب، فإذا صدقنا نبيهم حازوا شرف السبق.
فقام الأخنس عنه وكأنه كان أطيبهم قلباً ينتظر من أحدهم أن يقول: إن هذا حق؛ لكي يظهر ما في قلبه، ولكنهما لم يفعلا، فـ أبو سفيان كتم وأبو جهل أظهر ما في قلبه من الحقد، وكان أشد الناس عداءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت كنيته عندهم أبا الحكم ثم غيرها النبي صلى الله عليه وسلم فكناه بـ أبي جهل؛ لأنه عرف الحق وتنكب طريقه، ولم يرض بقضاء الله وقدره، بل حسد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف فضله.
وأبو جهل الملعون صد الناس عن هذا الدين، وممن صده الوليد بن المغيرة إذ كاد أن يدخل في الدين لما سمع القرآن الكريم وقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوه، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
فقال له أبو جهل: قد أعطاك محمد مالاً لتتبعه! فإذا بالرجل يرجع عما قال فقال له: والله لا نسكت عنك حتى ترجع عما قلت وتشتم محمداً أو تقول فيما جاء به.
فكان من الوليد ما قصه الله تعالى في سورة المدثر فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 19] أي: لعنة الله عليه كيف قدر! {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:20 - 23] أي: بعدما أقبل على القرآن؛ إذا به يدبر ويستكبر عن الحق.
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24 - 25]، فأغضب بقوله رب العالمين وأرضى أبا جهل لعنة الله عليهما وعلى أتباعهما، فغضب الله عليه وقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] أي: اتركني وهذا الإنسان الذي جعلته وحيداً في قومه معه المال والولد في قومه بالرئاسة والشرف وبغير ذلك فسيأتيني وحيداً ليس معه شيء من ذلك.
والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن هذا وأمثاله بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] وقد جاء في الأثر عن جابر بن عبد الله وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم ذكروا هذه القصة: قال الملأ من قريش وعلى رأسهم أبو جهل لعنة الله عليه: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان أمره.
فقال عتبة بن ربيعة وهو أحد شيوخهم: والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علماً لا يخفى عليّ إن كان كذلك، فقالوا: اذهب فحدثه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنت خير أم قصي؟ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك كعادة العرب أن الشخص منهم إذا قيل له: أنت أحسن أم جدك؟ يستحي أن يقول: إنه أحسن ثم قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا وتسفه أحلامنا وتذم ديننا؟ إن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت.
وتأمل الفتنة بهذا الإغراء، إنه يعرض عليه رياسة قومه حتى يموت، مع أن عادة العرب أن في كل فترة يكون لهم رئيساً، لكنهم وجدوا الأمر أعظم من قدرتهم، وإلا فهم أبداً لا يعترفون لإنسان أن يكون وحده المتفرد فيهم بالرياسة.
ولذلك كان العرب يعيرون الفرس والروم ويقولون: إن الملك لا يصلح فيكم إلا لبيت واحد، أما نحن العرب فكل بيت فينا يصلح أن يكون الملك فيه؛ ولذلك ليس لدينا رئيس، وكل قوم منا لهم رئيس وحدهم، وقال قائلهم: إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا وقال آخر: وليس يهلك فينا سيد أبداً إلا اشتلينا غلاماً سيداً فينا ثم قال عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم: وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت أي: إن كنت تعمل هذا تريد النساء فاخترلك عشر من خير نسائنا نزوجك بهن.
ثم قال: وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي من الجن بذلنا أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك.
أي: إن كان ذلك رئي، أي: جليس من الجن بينك وبينه محبة داويناك أو غلبنا عن علاجك بعد بذل وسعنا، فلما انتهى من كلامه والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم.
قال: اسمع.
فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] إلى أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فلما سمع ذكر الصاعقة وضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أناشدك الله والرحم لا نريد صاعقة؛ خاف لأنه كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ولا يكذب أبداً، فإذا خوفهم بشيء لابد أن يحدث، فقد انتفع بما سمع ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش وكاد الرجل أن يسلم لكن الملعون أبا جهل وقف له حجر عثرة فذهب إليه فقال: أصبوت إلى محمد أم أعجبك طعامه؟! كأنه يعيره بذلك، وهو رجل غني من الأغنياء فيقول: كنت جائعاً حين ذهبت إليه.
يعرف اللعين كيف يدخل عليهم من حيث لا يقدرون على الرد فيحرجهم، وغضب وأقسم أن لا يكلم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكان من المفترض أن يقسم(393/3)
تفسير سورة فصلت [1 - 6]
القرآن منزل من الرحمن الرحيم، والرحمن ذو الرحمة العامة لجميع الخلق، والرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين في الدار الآخرة، والله سبحانه فصل في هذا القرآن آياته ووضحها، لكن من أعرض فإنه لا ينتفع بهذا القرآن ولا يتعظ بما فيه.(394/1)
مقدمة بين يدي تفسير سورة فصلت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5].
هذه السورة كما ذكرنا في حديث سابق هي السورة الحادية والأربعون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وسورة فصلت هي واحدة من سور الحواميم السبعة في كتاب الله عز وجل، واختصت بسجدة فيها، ولذلك تسمى بسورة حم السجدة؛ لأن فيها سجدة.
سورة فصلت سورة مكية، ويبدأ الله عز وجل هذه السورة كغيرها من سور الحواميم بالحرفين: (حم)، إشارة إلى أن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف العربية التي تتكلمون بها، وتصيغون بها خطبكم وشعركم ونثركم وغير ذلك، فيتحداكم ربكم سبحانه أن تأتوا بسورة من مثله.(394/2)
تفسير قوله تعالى: (حم)
قال الله تعالى: {حم} [فصلت:1].
هذان حرفان: حرف الحاء وحرف الميم، ولا شك أن هذه الحروف في فواتح السور من أسرار كتاب الله سبحانه وتعالى، ومهما قال العلماء من أسباب أو ما يبدو لهم من أسباب وحكم فقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن ليس معناه: أن هذا هو السبب الذي من أجله جعل الله عز وجل ذلك؛ لأن السبب لا يقال إلا بنص حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فطالما أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، فغايته أن يجتهد العلماء فيبينون شيئاً من الحكم في ذلك.
قوله: (حم) يقرؤها الجمهور: (حم)، تمد الحاء مداً طبيعياً حركتين، والميم تمد مداً طويلاً ست حركات، أما أبو جعفر فيقرؤها بالتفريق بين الحاء والميم، فهو يفصل: حاء، ميم، ويسكت بينهما سكتة بغير تنفس؛ لبيان أنها ليست كلمة وإنما هما حرفان، وفي كل فواتح السور التي في أول السور من الحروف يقرؤها بالفصل وبالسكت بينها بسكتة بغير تنفس؛ لبيان أن هذه ليست كلمة، فيقرأ: {الم} [البقرة:1] ألف، لام، ميم؛ لبيان أن هذه ليست كلمة واحدة، وإنما هي ثلاثة أحرف، كذلك قوله تعالى: {طه} [طه:1] يسكت بينهما سكتة؛ لبيان أن هذا ليس اسماً وليس كلمة، ولكنهما حرفان: طاء وهاء، وغير ذلك من الحروف في فواتح السور.(394/3)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل من الرحمن الرحيم)
قال الله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2].
كأن هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل من الرحمن الرحيم، وذكروا غير ذلك.
والتنزيل هو مصدر من نزل تنزيلاً، فنزل القرآن من عند الله عز وجل، نزله تنزيلاً عظيماً، فيه عظمة ربنا سبحانه وتعالى في إنزال هذا القرآن من السماء إلى بيت العزة، ثم مع جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ليلاً وينزل نهاراً، وينزل في مكة وينزل في المدينة، وينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما يحتاج إليه الخلق، وبحسب ما يجد من أحداث.
قوله: (تنزيل) أي: نزل هذا القرآن من عند رب العالمين الذي في السماء سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17] فنزل هذا القرآن من السماء من عند رب العالمين سبحانه الذي هو الرحمن الرحيم.
والرحمن الرحيم اسمان لله عز وجل فيهما وصف الرحمة له سبحانه وتعالى، وكلاهما على صيغة مبالغة.
(الرحمن) على وزن فعلان، و (الرحيم) على وزن فعيل، فالله عز وجل الرحمن العظيم الرحمة، وكذلك الرحيم العظيم الرحمة، والرحمن ذو الرحمة العامة بخلق الله سبحانه وتعالى، والرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، والرحمن لا يوصف به غير الله سبحانه، فهو عام في الإطلاق خاص في المسمى، فالله عز وجل وحده سبحانه الذي له هذا الاسم، والرحيم صفة لله عز وجل وقد يوصف بها خلقه، فيقال: فلان رحيم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، أما الرحمن فيقول: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] يعني: لا يوجد أحد اسمه الرحمن غير الله عز وجل، لا إله إلا هو، فهو الله وهو الرحمن سبحانه لا يتسمى بذلك سواه سبحانه وتعالى.
ولذلك المشركون قالوا مغالطين للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنت تزعم أنك تدعونا إلى التوحيد وأنت تشرك فتقول: بسم الله الرحمن الرحيم فتذكر الله وتذكر الرحمن؛ فقال الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) أي: من حفظها وعرف معانيها واستعملها فيما ينبغي فهذا يدخل الجنة.
إذاً: الرحمن العظيم الرحمة سبحانه وتعالى بخلقه جميعهم، والرحيم هو الذي اختصت رحمته بالمؤمنين في الآخرة، والرحمة تكون لمن مات على التوحيد ولمن لم يشرك بالله سبحانه وتعالى، قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:156 - 157].
والقرآن نزل من عند الرحمن سبحانه العظيم الرحمة بجميع خلقه، لذلك أنزل الله عز وجل القرآن هداية لخلقه جميعهم، ولم يجعله مخصوصاً لطائفة دون طائفة، وإنما نزل للعالمين، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين للناس كافة، وهو الرحيم سبحانه الذي يرحم عباده المؤمنين ويدخلهم جنته سبحانه وتعالى.(394/4)
تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)
قال الله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: هذا الكتاب كتاب قد فصلت آياته، فسماه الله عز وجل القرآن وسماه الكتاب، فهذا القرآن العظيم كتاب مكتوب جاء من عند رب العالمين سبحانه، حفظه النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه المؤمنون.
قوله: (كتاب فصلت) أي: فيه التفصيل وفيه التبيين.
قوله: (فصلت آياته قرآناً عربياً) أي: نزل قرآناً عربياً على هذا الحال، حال كونه فصله وبينه وفسره ووضح لنا ما نحتاج إليه، فهو سبحانه بين فيه الحلال والحرام، وبين الطاعة من المعصية، وبين فيه الوعد والوعيد، وذكر فيه الجنة والنار، فكلما قرأت فيه استفدت منه ما يريده الله عز وجل لك وبك.
قوله: (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً) أي: في حال كونه قرآناً مقروءاً يقرأ، جمع في كتاب وجمع في الصدور، وأصل القرء بمعنى: المجموع، وقرأت الشيء يعني: جمعته فتلوته، وهذا القرآن المجموع في هذا الكتاب المحفوظ في صدور المؤمنين الذي يتلونه بلسان عربي مبين.
قوله: (قرآناً) فيها قراءتان: قراءة ابن كثير بالنقل: (قراناً عربياً)، كذلك إذا وقف عليها حمزة يقف كـ ابن كثير: (قراناً)، لكن مع الوصل لـ حمزة يقرأ: (قرآناً) وإن كان له السكت فيها أيضاً.
قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: نزل القرآن على العرب الذين يعرفون هذه اللغة، ولم ينزل على أعاجم لا يفهمون، فالعرب يعلمون ما في هذا القرآن من معان، وما فيه من فصاحة وبلاغة، وما فيه من أحكام الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهو معجز، ولا أحد من البشر يقدر أن يأتي بمثله، فيعلمون أنه لا يأتي بمثله إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يتكلم بهذا الكلام العربي المبين إلا الذي جاء به من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
فقوله: (لقوم يعلمون) أي: يعلمون هذه اللغة العربية، ويعلمون أنه إله واحد لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعالى، فنزلت هذه الآية تقريعاً وتوبيخاً لقريش، يعني: أنتم تفهمون ولستم جهلاء ولا أغبياء، فهذا كلام رب العالمين بلغتكم، عرفتم فصاحته وبلاغته فما الذي منعكم أن تؤمنوا به؟!(394/5)
تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
قال الله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4].
(بشيراً ونذيراً) أي: هذا حاله أنه فيه البشارة وفيه النذارة، والبشارة من البشر، بمعنى: الشيء السار الذي يغير وجه الإنسان وبشرة الإنسان، فالإنسان حين يأتيه الخبر السار يستبشر، وبشرته تتغير، فتجد أنه يتورد وجهه ويبدو عليه أثر الفرح، فهذه البشارة، أما النذارة: فهي الإنذار بالوعيد.
إذاً: القرآن فيه البشارة، وفيه ما يسر المؤمنين، وفيه الوعيد الذي يخيف العصاة والكافرين.
فلما جاءهم هذا القرآن العظيم أعرض أكثرهم، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4]، وهذه العادة أن يبعث الله الرسول فيؤمن به القلة من الناس، قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فكأن القليلين هم الذين يؤمنون، والأكثرين هم الذين يتولون ويعرضون.
قال: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: هناك فرق بين سماع وسماع، فإنسان يستمع فينتفع، وإنسان يسمع فلا يعي ولا يفهم، فهؤلاء كانوا يذهبون للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يكلمهم فيقولون: نسمع بآذاننا كلامك ولن يدخل قلوبنا، ولن نحاول فهم ما تقوله، فكانوا يخافون أن يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه؛ حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم واستكباراً على الحق.(394/6)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].
يعني: لا تحاول، فنحن نأتي ونسمع الكلام فقط، لكن هذا الكلام لن يدخل آذاننا، ولن يصل لقلوبنا.
والأكنة: هي الأغطية الثقيلة، كأنهم جعلوا على قلوبهم أغطية ثقيلة، حتى لا يسمعوا كلام الله تعالى.
وكانوا إذا جاءهم الرجل من خارج القبيلة يقولون له: احذر أن يسحرك محمد، احذر أن تسمع إليه وأن تذهب إليه، فهذا الرجل يخاف، فتجده حين يرى النبي صلى الله عليه وسلم يغطي وجهه بثوبه؛ حتى لا يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا شاء الله عز وجل أن هذا الإنسان يؤمن يذهب إليه ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتيتك وقد حلفت عدد هؤلاء ألا آتيك، يعني: عدد أصابعي العشر، ولكن يشاء الله أن يدخل الإيمان في قلب هذا الرجل، فيذهب ويسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن بعد ذلك، فكان الكفار لا يريدون أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، ويحذرون الناس أن يدخلوا في دينه، فكان هذا قولهم.
قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] يعني: قلوبنا بداخلها أغطية فلن نستمع إليك، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] أي: في آذاننا صمم وثقل فهي لا تسمع ما الذي تقوله، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] أي: بيننا وبينك حجاب ومانع عظيم يمنعننا من أن ندخل في دينك، فالكبر والحقد والحسد جعل ذلك كله بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مانعاً أن يتبعوه عليه الصلاة والسلام.
قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] أي: فاعمل بما يأمرك به ربك، إننا عاملون بما تأمرنا به أهواؤنا، فأنت اعبد ربك ونحن نعبد آلهتنا من دون الله، يعني: اعمل وكد لنا فإننا عاملون ونكيد لك، وهذا منهم منتهى الشر ومنتهى التبجح على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنت الذي تريده اعمله، وسنعمل الذي نحن نريده، لن نؤمن ولن نستمع إلى ما تقول، وإذا سمعنا لن نفهم ما هذا الذي تقوله، فكانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المعجزات والآيات، ومع ذلك يقولون له: وما نظن أنك لو فعلت سنؤمن، يعني: حتى لو أتيت بهذه المعجزات فإننا لا نؤمن، نقول: طالما أنكم تنوون من البداية عدم الإيمان فلماذا تطلبون المعجزات؟! هذا هو حال المشركين فقد فضحهم الله عز وجل ووبخهم بذلك، وأخبر أنهم قوم خصمون، لا يجيدون إلا الجدل بالباطل، أما أنهم يجادلون من أجل أن يصلوا إلى الحق فلا، ليست هذه عادتهم.(394/7)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6].
أي: هو بشر مثلكم ليس ملكاً من الملائكة، وليس نوعاً آخر من غير البشر، فهو بشر من البشر يوحى إليه من عند ربه، لا يأتيهم بما يريدونه هم، ولكن بما يريده الله عز وجل أن ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتلوه عليهم.
فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6] خصيصة النبي صلى الله عليه وسلم أن ميزه الله عن الخلق بالوحي، مع أنه بشر خلق من أبوين صلوات الله وسلامه عليه، وأصله من تراب كغيره من البشر، ولكن ميز على البشر بالوحي من السماء، {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] فهو سبحانه أمرهم بالاستقامة على دينه سبحانه، وحذرهم من الشرك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(394/8)
تفسير سورة فصلت [5 - 7]
لقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من تعنت الكافرين وأذاهم الشيء الكثير، ولقد بالغوا في إيذائه والاستهزاء به بما أمكنهم، فقد كانوا من شدة عداوتهم له يرفضون مجرد سماع كلامه وتفهمه، وكانوا يتوعدونه ويتهددونه، ويطلبون منه الآيات الدالة على صدقه، ويبالغون في أوصافها تعنتاً واستهزاء به صلوات الله وسلامه عليه.(395/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:5 - 7].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب المشركين للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وعن جحودهم وإعراضهم عنه، فقد كانوا لا يسمعون ما يقول، ويعرضون عنه فلا يسمعون ولا يفهمون كلامه صلى الله عليه وسلم، إلا مجرد سماع لا ينتفعون به، فهم كالذين لا يسمعون ولا يفهمون، ومع ذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] وأكنة: جمع كنان وكن، وهو ما يغطي الإنسان.
فقالوا: قلوبنا عليها أغطية مغطية عليها، فهي {فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت:5] أي: في أغطية مكنونة داخل هذا الغطاء، فلا تراك، ولا تسمعك، ولا تعقل عنك، فهي مغطاة وعليها أغشية ومطبوع عليها، فلا تفهم هذا الذي تقول.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]، فهي إذاً: ليست في أكنة من كل شيء، وإنما منك أنت وحدك، فنفهم أي شيء آخر إلا الذي تأتي به، فقلوبنا في أغطية ثقيلة عنك أنت بالذات.
{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] فالقلب لا يفهم ولا يعي ما تقوله وما تريده، والآذان مسدودة، بحيث لا نسمع ما تقوله، ولا نريد أن نستمع إليك، وأما غيرك فسنسمعه.
{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] أي: صمم، فهي مسدودة فلا نستمع إليك.
{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] أي: هناك حاجز بيننا وبينك، فلا نفهم هذا الذي تقول، {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].
وقد كانت هذه معاملة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، فكم عانى وكم قاسى صلوات الله وسلامه عليه من هؤلاء؛ فقد كان يذهب إليهم ويخاطب عقولهم فيقولون له: لا نفهم، فيخاطب قلوبهم فيقولون له: نحن نغطيها فلا تعي هذا الذي تقول، ويخاطب أسماعهم فيسدون آذانهم بأصابعهم فلا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد استغشوا ثيابهم وأسروا النجوى فيما بينهم بألا يسمعوا له، فكان إذا جاء أحد إلى مكة جاء إليه الكفار محذرين له قائلين: لا تذهب إليه -أي: الرسول- فإنه مجنون وكذاب، ونحن أعلم به، ويأخذون عليه العهود والمواثيق ألا يستمع إليه، فكان الرجل يضع ثوبه فوق وجهه، حتى لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كلمه النبي صلى الله عليه وسلم سد أذنيه بأصابعه، حتى إن أحدهم ليقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد جئتك وقد حلفت عدد هؤلاء ألا أكلمك.
يعني: أن الكفار أخذوا عليه اليمين عشر مرات ألا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله العظيم سبحانه يشاء أن يدخل الإيمان في قلبه، فيذهب ويستمع ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي تدعو إليه؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره: (أدعو إلى الله الذي إن مسك الضر دعوته فكشف عنك، والذي إذا أصابتك سنة جدب دعوته فكشف عنك، والذي إذا أضللت راحلتك دعوته فردها عليك).
أي: أدعوا إلى الله سبحانه الذي أنت تعرف قدرته، وتعرف ما يصنع بك من جميل الفعل سبحانه تبارك وتعالى، والذي إذا أصابك عام جدب وسنة دعوته، فهذا هو الإله العظيم الذي أدعو إليه، وأدعوك لتعبده ولا تعبد أحداً غيره.
وقد كان هذا الكلام يخاطب عقولهم ويفهمون منه، فهم يعرفون ذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، فقد كانوا يعرفون هذا الشيء، وكان الواحد منهم يعبد الصنم والوثن ويعبد غير الله سبحانه في وقت الرخاء، فإذا نزل عليه البلاء رفع يده إلى السماء ويقول: يا رب يا رب.
إذاً: فادع ربك في كل وقت، في وقت البلاء، وفي وقت الرخاء، وفي وقت الكرب، وفي وقت النفع والضر.
فادع ربك دائماً، وادع إليه، فهذا الذي تدعوه في وقت ضرك أدعوك إلى أن تدعوه في كل وقت، وأن تعبده وحده لا شريك له.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب عقول هؤلاء لو كانوا يفهمون، وهم يبتعدون ويعرضون عنه صلى الله عليه وسلم، ويقولون له ما حكاه عنهم القرآن: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] أي: في أغطية مغطاة، وفي أغلفة مغشاة، فلا نفهم ولا نعي.
قوله تعالى: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] أي: اعمل بما تقول أنت، ونحن عاملون بما نقول وما نريد، فلن نتبعك واعمل لإلهك فإنا نعمل لآلهتنا، واعمل في إهلاكنا -متحدين له- فإنا نعمل في إهلاكك.
{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] أي: الذي تقدر عليه اعمله، ونحن الذي نقدر عليه سنعمله، كد لنا فإننا سنكيد لك، صلوات الله وسلامه عليه.
{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].(395/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال الله سبحانه مجيباً لهؤلاء: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6].
وهذا من التلطف في الخطاب، وإلا فهم يعرفون أنه بشر مثلهم عليه الصلاة والسلام، وأنه مولود من أبوين منهم، وولد بينهم، فهم يعرفونه تماماً صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا يقول: ((أَنَا بَشَرٌ)) أي: مثلي مثلكم، فلا أتعالى عليكم، ولا أستكبر عليكم، ولا أقول: إنني من جنس آخر غير جنسكم، وإنما أنا بشر مخلوق من طين كما خلقتم أنتم من طين، وولدت من أبوين كما ولدتم أنتم أيضاً.
وهذا يرد ما جاء كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) فإن هذا كذب لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلام موضوع عليه صلى الله عليه وسلم، فلم يخلق من نور وإنما خلق كغيره من البشر من طين ومن مني، فهو من أبوين {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت:6] وإنما ميز عليهم بالوحي من السماء.
{يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6] أي: ينزل علي الوحي من السماء، وينزل علي الملك من عند رب العالمين؛ ليخبرني وينبئني بما يريده الله منكم، فأبلغكم رسالة الله سبحانه تبارك وتعالى.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يميز على غيره في أصل الخلقة، وإنما ميز عليهم صلى الله عليه وسلم بأن جعله الله عز وجل نبياً رسولاً صلوات الله وسلامه عليه.
((يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) وهذه هي دعوة كل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي دعوة التوحيد فاعلم أنه لا إله إلا الله، وكانوا يدعون قومهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فلا إله إلا الله هي دعوة كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فإنه إنما أوحي إليه {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} [فصلت:6] أي: المعبود الوحيد الذي يستحق العبادة هو الله سبحانه تبارك وتعالى.
{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6]، فلماذا تفرقون بين الرب وبين الإله، فتقولون: الرب واحد وهو الذي يخلق ويرزق، والآلهة التي نعبدها كثيرة متعددة؟ وأي مزية في هذه الآلهة حتى تعبدوها وتتقربوا إليها وتتركوا الذي خلقكم ورزقكم؟! فإن الإله والرب الواحد سبحانه، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، إذاً: الله سبحانه هو الذي يفعل ذلك: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وهو هذا الإله الذي أتوجه إليه بالعبادة سبحانه.
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6] أي: استقيموا على دينه، وتوجهوا إليه بأقصر الطرق، وهي طريق الاستقامة، فلماذا تنحرفون عنه؟! ولماذا تقولون: نعبد الأصنام؛ لأنها تقربنا إلى الله؟! توجهوا إليه مباشرة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، فلا تبتعد عن ربك سبحانه، واستقم إليه، كما قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6] أي: استقيموا على طاعته، وخذوا أمره سبحانه عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عن طريق غيره، فاعملوا به، فإنه يدعوكم إلى التوحيد، وإلى الاستقامة على دينه سبحانه تبارك كما تعالى، كما قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6] أي: أقيموا وجوهكم إلى الله واعبدوه وحده لا شريك له {وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] أي: توجهوا إليه وحده، واستغفروه من شرككم ومن معصيتكم، ومن جهلكم ووقوعكم في الأخطاء تجاه ربكم وتجاه الخلق.
ثم قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] ويل: وعيد شديد من الله سبحانه، قيل: ويل: واد في قعر جهنم للكفرة والمشركين والعياذ بالله، فهو تهديد لهم، أي: لكم الويل والهلاك، فلكم واد في قعر جهنم -والعياذ بالله- إذا أشركتم بالله، ودمتم على هذا حتى متم عليه.(395/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:7]، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) هنا ذكر صفة المشركين الذين أشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، وعبدوا غيره، وجعلوا له أنداداً وقرناء يعبدونهم معه سبحانه وتعالى.
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) والزكاة: زكاة أبدان، وزكاة نفوس، وزكاة أموال، فكأنه عنى الجميع، وقد ذكر الذين لا يزكون أنفسهم في قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] أي: زكى نفسه بالإيمان وطهرها.
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من زكى نفسه بطاعة الله وتوحيده والإيمان به، {وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: قد خاب الإنسان الذي نجس ودنس ودس نفسه فأبعدها عن طريق الله، وأشرك بالله سبحانه وتعالى.
وهذه السورة مكية، والزكاة فريضة مدنية، ولم تكن قد فرضت في مكة، وإنما فرضت الزكاة في المدينة مع الصيام سواء قبله أو بعده، بعد العام الثاني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا قال الله في المشركين: {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7] فإن المعنى: أنهم لا يزكون أنفسهم، ولا يتصدقون، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الزكاة إجمالاً في سورة مكية أخرى وهي سورة الأنعام، في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، إذاً: فقد أمر الله تعالى بحق الزرع في يوم الحصاد في مكة، ثم أمر بأن تحصي الذي عليك يوم الحصاد، ثم أمر أن تعطى الفقراء العشر أو نصف العشر بعد أن تجفف هذه السنابل وتصير صالحة لأن تخزن وتقتات، إذاً قد وجدت في السور المكية إشارات إلى الزكاة من دون تحديد للمقادير، وقد ذكر البعض أن هذا منسوخ، ويرى البعض الآخر أنه ليس بمنسوخ، وإنما هو مجمل بين بعد ذلك وفصل، وهذا هو الصواب، فالصواب: أن الله أشار إلى فرضية الزكاة، وأما الآن فليست مفروضة، وإنما الواجب عليك أن تتصدق بأي شيء، وويل للمشركين الذين لا يتصدقون.
والمعنى الأعم في الزكاة: أنها تزكية للنفس سواء بالإيمان أو بالبذل والعطاء والإنفاق، فأشار إليها، وكأن هذه الصفة - صفة العطاء - من أشق الصفات على الإنسان، أو من أشق ما يكون على قلب الإنسان، ولذلك يقولون: المال شقيق الروح، بل هو من ضروريات حياة الإنسان التي يدافع عنها وهي: دينه وروحه وعقله وماله وعرضه، وهذه الخمسة الأشياء يسمونها: الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحمايتها، وبتحريم كل شيء يؤذيها؛ فلا بد من حماية هذه الضروريات حتى يستطيع الإنسان العيش في هذه الدنيا، والإنسان له عقل يحمي به هذه الأشياء، فقد جاءت الشريعة بحماية هذه الضروريات للإنسان، فحمى روح الإنسان وبدنه بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فجعل الله الحدود حماية لذلك، سواء بقتل القاتل إذا كان قتلاً عمداً وعدواناً، أو بقطع عضوه إذا كان قطعه من آخر عمداً وعدواناً، فيفعل به ذلك، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]؛ لأن من ضروريات حياة الإنسان: حماية روحه وبدنه وعقله.
وكل ما يعترض الضروريات ويؤذيها فبابه التحريم، فلا تتعرض لبدن إنسان أو حياته إلا بما شرع الله عز وجل، لا تتعرض لعقلك ولا لعقل غيرك بما حرم الله، لأن حماية العقل ضرورة من ضروريات الحياة، ولذلك حرم الله المسكرات وحرم الخمر، وحرم على الإنسان كل ما يذهب عقله.
وحمت الشريعة العرض، فجعلت حد القذف، فكل من قذف إنساناً ولم يأت بالبينة فإنه يجلد الحد الشرعي، ومن وقع في الزنا أقيم عليه الحد، فإن كان ثيباً رجم، وإن كان بكراً جلد.
وحمت الشريعة المال بأن شرعت قطع يد السارق إذا توافرت فيه شروط السرقة المعروفة.
إذاً: فهذه ضروريات لحياة الإنسان حمتها الشريعة بذلك.
إذاً: فالمال من ضمن ضروريات الإنسان حتى يعيش، فهو محتاج إليه، وإنفاقه له قد يكون سخاء، وقد يكون لمصلحة، كأن يأخذ أكثر منه، أو من أجل أن يمدح كما كان يفعل أهل قريش، كما قال أبو جهل: لقد تنافسنا الشرف نحن وبنو عبد مناف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! فما صده إلا الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله هنا: ويل لهؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة، وليست أي نفقة فإن النفقة التي كان ينفقها هذا المجرم وغيره هي للتفاخر، وقد قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أي: التفاخر {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، وقد كان الفخر عندهم شيئاً كبيراً جداً، وأشعارهم مليئة بالفخر الذي كان بينهم، واستكبار بعضهم على بعض، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أي: التفاخر حتى ذهبتم إلى المقابر تعدون عظام الموتى، وتفتخرون بهم! {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، وهم لن ينفقوا؛ لأنهم أقسموا فيما بينهم ألا ينفقوا على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدفعوا لأحد منهم حاجة، فقال: فويل لهؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة.
إذاً: المشرك الكافر يعذب يوم القيامة على عدم دفع الزكاة، وهذه مسألة من مسائل الأصول التي يقول فيها أهل العلم: إن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وإن لم يأت بأصل الأصول وهو التوحيد ولا يقبل منه شيء من العبادات إذا أتى بها بوجود المانع وهو الشرك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(395/4)
تفسير سورة فصلت [6 - 8]
النبي صلى الله عليه وسلم من البشر، لكن الله عز وجل فضله بالرسالة، وأكرمه بالوحي، فيجب أن يطاع ويعظم، ولا يرفع فوق منزلته، فهو عبد فلا يعبد، ورسول فلا يكذب، وقد أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على دينه عز وجل وترك سبيل المشركين، وأمره بأداء الزكاة والإيمان والعمل الصالح.(396/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:6 - 8].
يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول للخلق: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت:6]، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر، ومخلوق ممن خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، أبوه آدم كغيره من البشر، ولكن الله سبحانه تبارك وتعالى اختصه بهذه الرسالة العظيمة الخاتمة التي جعلها الله عز وجل أكمل الرسالات وأفضلها وأشرفها، وأكمل بها دينه سبحانه تبارك وتعالى.
فهذا النبي الكريم وظيفته وصفته أنه بشر يوحى إليه، فيدعو إلى ربه سبحانه ويأمر الخلق بطاعة الله سبحانه، وبعبادته وحده، وبتوحيده، ويبشرهم وينذرهم صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام بشير ونذير، يبشر من أطاع وينذر من عصى، يبشر من آمن وينذر من كفر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، فهو كغيره من الرسل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، فليس شيئاً جديداً مخترعاً، ولكنه كمن تقدموا قبله من الرسل بشر من البشر يدعو إلى ربه عليه الصلاة والسلام.
قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6]، فالوحي من الله، يدعو الخلق إلى عبادة الله الإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى.
قال عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6]، أي: توجهوا إلى الله عز وجل بعبادتكم، وبدعائكم، وباستغاثتكم، توجهوا إلى ربكم سبحانه تبارك وتعالى بقلوبكم وأبدانكم ووجوهكم مستقيمين على دينه ولا تنحرفوا عنه، واستغفروا ربكم سبحانه.
قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] عقاب شديد لمن أشرك بالله، وجعل لله نداً ونظيراً، وهؤلاء المشركون من صفاتهم أنهم لا يؤتون الزكاة: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]، فهم أشركوا بالله سبحانه، وزادوا على ذلك أنهم لا يؤتون الزكاة، والزكاة إما تزكية القلوب، بمعنى: التطهر بالإيمان، أو أنهم لا ينفقون في سبيل الله سبحانه، بل يبخلون، وإنفاقهم محض الرياء، وإخراجهم المال طلباً للسمعة، أما لله سبحانه تبارك وتعالى فلا، فويل لهؤلاء المشركين الذين طلبوا الدنيا للدنيا، فلم ينفقوا لله سبحانه، ولم يؤتوا زكاة يطهرون بهم أبدانهم وأموالهم وأنفسهم، ولم ينفقوا، بل منع بعضهم بعضاً أن ينفقوا على الفقراء والضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتواصوا فيما بينهم بذلك.
هذا فعل المشركين وكذلك فعل المنافقين، والمشركون في مكة دعا بعضهم بعضاً ألا ينفقوا على أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه مهما كان بهم الفقر، بل اجتمعوا على أن يمنعوا عنهم الطعام الذي يأتيهم من خارج مكة، فحبسوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، حبس النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه وكفار قريش يحيطون بهم، ويمنعون عنهم الطعام الذي يأتيهم من الخارج! هذا فعل المشركين معهم.
وكهذا الفعل فعل المنافقون في المدينة، فالمنافقون قال بعضهم لبعض: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، لكونهم يعلمون تأثير المال على الإنسان، فقالوا: امنعوهم من أجل أن يموتوا من الجوع، امنعوه من أجل أن يمد يده ويشحت، امنعوه من أجل أن يرجع إلينا، أما المؤمنون فامتلأت قلوبهم بالإيمان، فلم يأبهوا لذلك، وصبروا على أمر الله سبحانه، حتى فرج الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم، وأما المنافقون فلا يصبرون على ذلك، والكفار لا يصبرون على ذلك، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش بأن يعاقبهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤدبهم بسنين كسني يوسف، فحبس الله عز وجل عنهم المطر، ومنع عنهم غذاءهم، فهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثين به، يناشدونه الله والرحم، أن بيننا وبينك رحماً، فاتق الله فينا، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل لهم ربه أن يرزقهم طعاماً وينزل عليهم ماءً، ويرفع عنهم الجدب والقحط الذي هم فيه.
فالمؤمن يصبر لأمر الله ولا يلجأ إلا إلى الله سبحانه، والكافر تغره الدنيا، والكافر مستعد أن يعمل أي شيء في كفره، فيتوجه إلى الله أو إلى غير الله، ولا فرق عند الكافر في أن يتوجه إلى أحد، حتى يأخذ قوته ويأخذ طعامه، وينكشف عنه الضر.
فلذلك المشركون كانوا إذا مسهم الضر في البحر يدعون الله سبحانه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا عن الله.
ففي وقت رخائهم ووقت استراحتهم لا يعبدون الله سبحانه وتعالى، وحين يأتي عليهم البلاء من السماء يرجعون لله عز وجل ويقولون: يا رب! يا رب! إلى أن ينكشف، ويرجعون مرة أخرى إلى عبادة أوثانهم! فقد ساووا بين الله وبين غيره، يخادعون البشر ويخادعون رب البشر سبحانه تبارك وتعالى؛ فإن هؤلاء الكفار يدعون الله ويدعون غير الله، والمنافقون كذلك، يخادعون الله وهو خادعهم، ولذلك كان من أسلم من هؤلاء يثبته النبي صلى الله عليه وسلم على الدين بشيء من المال، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، وجعل الله عز وجل لهم سهماً من الزكاة، حتى يثبتوا على الدين، فلا يغروا غيرهم، ولا يفتنوا غيرهم، فجعل لهؤلاء حظاً وشيئاً، فيثبتهم الله عز وجل على دينه بهذا الذي يأخذونه، إلى أن يستقر الإيمان في قلوبهم بعد ذلك.
فالمال يحبه الإنسان، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه ازداد حبه للمال، وثقته في المال، فيرى أن المال يفتح له أي باب مغلق، وأن المال يعمل له الذي لا يمكن عمله، لذلك يكنز، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن هذا المال وعن ابن آدم أنه يهرم ويشب منه اثنان: حبه للمال، وحبه الحياة في الدنيا، وأنه يعيش ويكبر في الدنيا، ومهما شاب الإنسان ازداد حباً للدنيا، وازداد حباً للبقاء فيها، وازداد حباً للمال، وكأن قلبه شباب دائم في حب الدنيا وفي حب المال، ولا يهرم قلبه عن حب الدنيا ولا عن حب المال، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى.(396/2)
تفسير قوله عز وجل: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)
قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7] أي: الذين لا ينفقون لهم الويل والعذاب الأليم عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولاحظ أن هذه السورة سورة مكية، وأن الزكاة هنا ذكرت قبل أن تفرد بحدودها المعروفة وبمقاليدها المقدرة، فهذه إشارة إليها فقط، وكان مطلوب منهم أن ينفقوا شيئاً من أموالهم، أما تحديد النفقة وكم يكون مقدارها، وأنها في كل حصاد، ومتى تكون، فهذا حدد قدره بعد ذلك في المدينة، فهنا إشارة مجملة، والتفصيل والتبيين كان بعد ذلك في المدينة.
يقول الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، هذا بيان على أنهم يعذبون بالويل -وهو واد في قعر جهنم- على كفرهم وشركهم بالله، وعلى تركهم أصول الدين والإيمان والتوحيد، وعلى ترك فروع الدين أيضاً، كترك الصلاة وترك الزكاة، ولذلك حين يسألون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42]، ما أدخلكم في قعر جهنم؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، والصلاة والزكاة من أركان هذا الدين، قالوا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، ولو صلوا هل كانت تقبل منهم هذه الصلاة؟ لا تقبل منهم الصلاة كهيئة من الهيئات إلا أن يأتوا بالتوحيد، إلا أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أما لو قلدوا المسلمين ووقف الواحد منهم مع المسلم وركع مع المسلم وسجد مع المسلم، فهذا لا يقبل منهم إلا أن يأتوا بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، والشهادة برسالة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً قالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43 - 46].
فبدأ بالفروع فذكرها الله سبحانه تبارك وتعالى، ذكر أنهم لم يكونوا يفعلونها، ثم كذبوا بأصل هذا الدين، فكانوا يكذبون بيوم الدين.
قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، هم بالآخرة وبالمرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وبيوم القيامة هم كافرون، فكان الكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: لا توجد آخرة، وقالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، ويقولون: فرضنا أن هناك آخرة، والذي أوجدنا في الدنيا أليس هو الله؟ فإذاً في الآخرة سيعطينا أيضاً كما أعطانا في الدنيا! فهم لا يؤمنون، وإذا جادلوا جدالاً قالوا: فرضنا أن هناك آخرة، فإن الله سيعطينا مثلما أعطانا في الدنيا.
وقالوا: فرضنا أنه لا يعطينا، فنحن أقوياء، فيوم القيامة الذي تخوفنا منه حين يأتي ويقول الله لنا: ادخلوا جهنم، سنقف ونسد باب جهنم، ولن يدخل أحد منا! فقاسوا الآخرة على الدنيا بجهلهم، وبغبائهم وبكفرهم، فهذا كلامهم عن الآخرة، وكأن المعاملة مع الآخرة هي بهذه الصورة، وأنه لا يوجد آخرة، وإذا فرضنا وجود آخرة، فإذاً الله سيعطينا في الآخرة كما أعطانا في الدنيا، وإذا فرضنا أنه لن يعطينا، فسنقف على باب جهنم وسنمنع أي أحد يدخل فيها، هذا كلام هؤلاء المشركين.
فسخروا من الآخرة، ولما هددهم الله بالزقوم في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، إذا بهم يسخرون، ويقولون: الزقوم هو التمر بالزبدة، فهاتوا زبدة وهاتوا تمراً وتعالوا نتزقم، يخوفنا من الزقوم، فهذا الزقوم، فنحن نأكل الزقوم! وقال عز وجل حاكياً عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، قالوا: لن ننتظر إلى يوم القيامة، فأت بهذا العذاب الذي تخوفنا منه الآن، يسخرون ويستهزئون، ولذلك يقول الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]، وقال: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] أي: اتركهم يلعبون ويخوضون، فإذا جاء وعد الله علموا الحق الذي جاء من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
أما المؤمنون فقد آمنوا بالإيمان كله بأصوله وفروعه، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وعملوا لذلك، فإن الإيمان بالله يجعل العبد يعمل للآخرة، وعرفوا من ربهم سبحانه، وترى الواحد منهم عرف حق الله فوحده وتوجه إليه بالعبادة، وآمن برسل الله، وعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسالة نزلت عليه، وأنه أعلم هذه الأمة، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم من كتاب الله، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فأصول الإيمان: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
فهذه خمسة أصول من أصول الإيمان، وأيضاً ذكر الله عز وجل القضاء والقدر في مواضع كثيرة من كتابه، منها قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، فكل شيء يجري بتقدير الله سبحانه تبارك وتعالى، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.(396/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)
المؤمنون آمنوا بأصول الإيمان، فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر وبالقضاء والقدر، آمنوا بذلك فاستحقوا النجاة عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال عنهم سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8]، ولاحظ قوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت:8]، وكم تكرر في القرآن ذلك؟ فلابد من الإيمان والعمل الصالح، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فإذاً: الإنسان حين يقول: أنا مؤمن بالله، يقال له: أين العمل الذي تعمله؟ فالإيمان يكون في قلب الإنسان، والإيمان الذي نطق به اللسان في كلمة التوحيد وطاعة الله وذكر الله سبحانه تبارك وتعالى.
فإذاً: الإيمان نطق باللسان، وتصديق بالقلب والجنان، وعمل بالجوارح والأركان، هذه أصول الإيمان التي تدفع العبد إلى طاعة الله وإلى جنة الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [فصلت:8]، صدقوا وأقروا وأيقنوا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] أي: لهم أجر عظيم عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (غير ممنون) أي: غير منقطع، فلا ينقطع أجرهم عند الله أبداً، بل هو خلود في الجنة، فأجرهم عظيم دائم متصل، لا ينقطع عنهم أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(396/4)
تفسير سورة فصلت [8 - 12]
الله عز وجل على كل شيء قدير، لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو عز وجل قادر على أن يخلقها في طرفة عين، ولكنه سبحانه خلقها في ستة أيام لحكمة عظيمة أرادها سبحانه وتعالى.(397/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:8 - 12].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات العظيمة عن فضله على المؤمنين بعدما أخبرنا عما أعده للمشركين من عذاب أليم حيث قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7] ثم ذكر المؤمنين وما أعد لهم سبحانه تبارك وتعالى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8]، وقد ذكرنا ذلك في الحديث السابق، وأن الله سبحانه تبارك وتعالى أمر الخلق بالإيمان بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، أمرهم بالإيمان، وهو التصديق واليقين والإقرار بالقلب وباللسان، فالتصديق في القلب ويتبعه القول باللسان، ويتبع ذلك العمل بالجوارح والأركان.
قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت:8] لا بد من العمل الصالح؛ حتى يستحق الإنسان أن يدخل الجنة وينجيه الله عز وجل من النار، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يتفضل الله عز وجل عليهم بكرمه الواسع وبرحمته التي وسعت كل شيء فيدخلهم جنته ويعطيهم الأجر العظيم الذي لا نهاية له.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] أي: غير مقطوع، فلا يقطع عنهم ولا نهاية له، فيعطيهم أجرهم بغير حساب، ليس محسوباً عليهم أنه من يوم كذا إلى يوم كذا فقط وينتهي هذا الشيء، فإذا كان كذلك فهو المقطوع وهو المحسوب، فالأجر لا ينقص منه شيء، ولا يقطع عنهم، بل هو أجر عظيم عند الله سبحانه، أجر بغير حساب.
معنى آخر لقوله: (غير ممنون): أي: لا يمن عليهم به، فالإنسان في الدنيا قد يعطي لغيره المال ثم يمن عليه، فالإنسان إذا من عليه آخر يستشعر بهذا الشيء الذي يقوله له ويتحسر في نفسه، أما في الجنة فلا حسرة فيها، ولكن الله يمن على عباده سبحانه ولا يوبخهم ولا يبكتهم إذا دخلوا الجنة، بل لهم النعيم العظيم الذي لا يقطع عنهم، ولا يمن عليهم بشيء من ذلك، وهذا من فضل الله الواسع.
وقد علمنا الله عز وجل في القرآن أننا نعطي ولا نمن في العطاء، فقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعطي العطاء مستكثراً لهذا الذي أعطيت، ولكن مهما أعطيت فانظر إليه على أنه قليل، فلا تمنن تستكثر: لا تعطي وتطلب من الناس أن يردوا إليك ذلك، فعلمه سبحانه الكرم العظيم الذي يليق به صلوات الله وسلامه عليه، الكرم العظيم الذي يليق بتأديب الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أعطيت للخلق فلا تنتظر المقابل، ولا تنتظر الأكثر مما أعطيت، وإذا أعطيت للخلق فلا تمن عليهم بما أعطيت، ولذلك لما جاء رجل من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عليه الصلاة والسلام شيئاً وأسلم الرجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع الرجل في غاية الفرح والسرور إلى قومه يقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر! يعني: الظاهر أن هذا عنده غنى كثير جداً لا يخاف من الفقر، أعطاني غنماً بين جبلين، فاذهبوا فسيعطيكم هذا.
النبي صلى الله عليه وسلم علمه ربه فقال: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تعط عطاءً مستكثراً على من أعطيت هذا العطاء، ولا تعط وتطلب المقابل على ذلك، إلا أن تطلب منهم الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: ولكن راعوا المودة التي بيني وبينكم، وراعوا القرابة التي بيني وبينكم، ولا أسأل أحداً من الخلق شيئاً، إنما أسأل ربي سبحانه تبارك وتعالى بهذا العطاء الغير ممنون.
وقد وصف الله عز وجل عطاءه سبحانه بأنه غير ممنون، ووصفه بأنه غير مجذوذ فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] غير مجذوذ من الجذاذ، والجذ: القطع، فعطاء الله سبحانه لا ينقطع عن عباده إذا أدخلهم جنته، فإنه يعطيهم من فضله ومن رحمته سبحانه، ولا يقطع عنهم هذا الفضل العظيم.(397/2)
تفسير قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين)
ثم قال تعالى بعد ذلك للخلق: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9] أي: إنكم تكفرون بالله سبحانه الذي خلق هذا العالم الذي ترونه وخلق العوالم الأخرى التي لا ترونها، ولكن يخبركم الله عز وجل عنها وكيف خلقها وفي أي زمن خلق الله عز وجل ذلك، وهذا يدلنا على قدرته العظيمة، قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] والله سبحانه تبارك وتعالى هو الحليم الكريم الصبور سبحانه تبارك وتعالى، فربنا يرينا قدرته ويرينا حلمه سبحانه تبارك وتعالى، ويرينا الأشياء المتقنة؛ فإنه أتقن كل شيئاً خلقه سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء مخلوق بإتقان ومخلوق في الموضع الذي يريده الله سبحانه، قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3]، فيخلق كل شيء وهو الخالق البارئ المصور، قدر سبحانه وأعطى لكل شيء صورته، وهذا جليل في خلقه سبحانه تبارك وتعالى يرينا إياه حتى نعتبر، وحتى ننظر في قدرته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى.
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] أنتم مقرون بأنه الذي خلق هذه الأرض، وهو الذي خلق هذه السماوات، فكيف تجعلون له أنداداً وشركاء؟ ماذا خلق هؤلاء الشركاء وهؤلاء الأنداد؟ خلق الله الأرض في يومين والله على كل شيء قدير، فهو سبحانه قادر أن يخلق الأرض وحدها في أيام كثيرة، وقادر على أن يخلقها في لحظة واحدة، ولكنه سبحانه أرانا حلمه وإتقانه، خلقها في يومين، فالله على كل شيء قدير: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فإذا قال للأرض: كوني أرضاً تكون أرضاً، وإذا قال للسماء: كوني سماءً تكون سماءً، وإذا قال: كوني جبالاً وبحاراً وأنهاراً وأشجاراً تكون كما يريده الله، ولكن أرانا أن هذه الأشياء خلقها في ستة أيام كما سيأتي التفصيل.
قوله: (قل أئنكم) هنا همزتان في كلمة: الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وفيها قراءات للقراء كل على أصله، فيقرأ قالون عن نافع وأبو جعفر وأبو عمرو: (قل أأنكم) يعني: إدخال ألف بين الهمزتين مع تسهيل الهمزة الثانية، وقراءة ورش عن نافع، وقراءة ابن كثير، وقراءة رويس أيضاً عن يعقوب: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ} [فصلت:9]، وقراءة باقي القراء: (قل أئنكم) إلا أن هشاماً عن ابن عامر له ثلاثة وجوه فيها: فيقرأ (أَئِنَّكُمْ) كغيره، وبالإدخال (أآئنكم)، وبالإدخال مع التسهيل (قل أآنكم) هذه ثلاث قراءات له.
قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9] يعني: أنه عز وجل خلق الأرض وقال لها: كوني أرضاً، في يومين، فكيف تجعلون له أنداداً؟ والند: النظير والمثيل والشريك والشبيه، فكيف جعلتم لله أشباهاً ونظراء له تعبدونهم من دونه؟ وما الذي فعلوه حتى تعبدوهم؟ إن الخالق العظيم هو الله وحده لا شريك له رب العالمين الذي يقدر ويربي سبحانه تبارك وتعالى ويخلق ويرزق سبحانه، الرب الصاحب لكل شيء، المالك لكل شيء، مالك العالمين، ورب كل عالم: عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الدواب، وعالم الحشرات، وعالم السموات، وعالم الأرض، وعالم الملائكة، وكل عالم داخل تحت ربوبية رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.(397/3)
تفسير قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها)
قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] هذا من قدرته سبحانه تبارك وتعالى وإتقانه لكل شيء، خلق هذه الأرض في يومين، وأوجد فيها ما فيها من أشياء في يومين، فخلق الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين، فهنا كأنه يقول لنا: إنه خلق الجبال الرواسي التي ترسو فوق الأرض وترسي هذه الأرض فتثبتها بأن لا تميل بكم، فجعل في الأرض رواسي من فوقها وبارك فيها وأخرج منها النماء وجعل فيها البركة، وخلق فيها أرزاق العباد، وقدر فيها أقواتها، والأقوات: ما يحتاجه أهل الأرض، وكل ذلك بتقدير الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد قدر في كل زمان وفي كل مكان أرزاقهم وأقواتهم، وكلها محسوبة معلومة عند الله سبحانه تبارك وتعالى تامة غير ناقصة، ولو أنهم أحسنوا وعبدوا الله سبحانه لأتى كل إنسان رزقه من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] جعل الله الرواسي في الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين، وفي اليومين الأولين خلق فيها الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام سواءً للسائلين.
وهل تلك الأيام متصلة؟ لا؛ كأنه فصل بين خلق الأرض وبين إيجاد الجبال فوقها والأقوات فيها بخلق السماوات في يومين، فخلق الأرض في يومين، وسوى السماوات في يومين، وجعل في الأرض الرواسي والأقوات في يومين، والمجموع ستة أيام، ففي هذه الآيات يخبرنا عز وجل عن مجموع الأيام التي خلق فيها هذه الأرض وعن كون الأرض، وذكر الله سبحانه أنه خلقها وقدر فيها الأقوات والأرزاق في أربعة أيام سواءً للسائلين، لكن يخبرنا في آية أخرى عن هذه الأرض فيقول: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:30 - 33]، وقال قبلها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]، ثم قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النازعات:30] دحاها: أي بسطها، وجعلها مبسوطة، والأرض خلقها الله سبحانه كروية، ولكن في نظر الناظرين وسع الأرض حيث جعلها أمام الناظر يراها مستوية، فيقدرون على العيش فوقها.
فكأن الخلق للأرض في يومين، وخلق السماء في يومين، ثم دحو الأرض وإخراج الأقوات منها في يومين بعد ذلك، هذا ظاهر قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] ثم ذكر بعد ذلك: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] أي: بعدما خلق السماوات وسع الأرض وبسطها للعباد، وجعل فيها الجبال الرواسي، وأخرج منها الأقوات، وقدر فيها ما شاء وبارك فيها سبحانه، فكان خلق الأرض في أربعة أيام سواءً للسائلين.
والله عز وجل جعل الجبال الراسية التي هي فوق الأرض لتثبتها ولترسي هذه الأرض من فوقها، وجعل فيها البركة والنماء، وما خلق الله عز جل لعباده من أشياء وقدر فيها من أقوات رزقاً للعباد إلى أن تقوم الساعة وتفنى الأرض ومن عليها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين.
وقوله: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إذا سئلت عن ذلك فالذي قلناه لكم: خلقنا الأرض في أربعة أيام سواء، أي أربعة أيام مستوية تامة، فهذا الجواب لمن سأل، ومن لم يسأل فهذا موجود في كتاب الله عز وجل.
{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] أي: قدرنا ما في هذه الأرض من أقوات ومن أرزاق على قدر حاجة المحتاجين، فإذا جاء من يسأل: كيف خلق الله عز وجل؟ وفي أي شيء خلق الله سبحانه؟ فأجبه بذلك، ومن سأل الله: يا رب! ارزقني، يا رب! أطعمني، يا رب! اسقني، فقد جعل الله عز وجل فيها لكل سائل حاجته، فجعلنا هذه الأشياء في هذه الأرض لمن يحتاج إليها، فمن يسأل الله شيئاً يجد ما رزقه الله سبحانه وما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر (سواءٌ للسائلين) أي: هي سواء، وقرأها يعقوب: (سواءٍ للسائلين) على الوصف للأرض.(397/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] هنا استوى بمعنى: قصد وعمد وتوجه إليها ليفعل ما يريد سبحانه تبارك وتعالى، وهذا غير استوى على العرش، فاستواء الله على العرش استواء معلوم؛ فالله سبحانه مستوٍ على عرشه، استواء كيف يشاء وكما يشاء سبحانه تبارك وتعالى.
وهنا استوى إلى السماء بمعنى: عمد إليها وقصد إليها بالفعل وبالخلق سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: ((وَهِيَ دُخَانٌ)) كانت دخاناً فأوجد الله عز وجل منها السماوات، فسمكها وجعل لها كسفاً وجعل لها سمكاً، وجعل فيها أهلاً، فخلق ملائكة وسكاناً لكل سماء.
قال سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] الله عز وجل يأمر السماوات أن تطيع، ويقول لها: أطيعي أمري شئت أم أبيت، والأرض كذلك، هذا الجماد الذي خلقه الله جعل فيه ما ينطق ويجيب ربه، والله على كل شيء قدير، ولا عجب في ذلك أن تنطق السماء وأن تجيب الأرض، والإنسان مخلوق من تراب هذه الأرض، وجعل الله عز وجل فيه ما ينطق ويتكلم ويجيب ربه سبحانه، كذلك السماوات والأرض، قال تعالى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] أطيعا ولبيا أمر الله سبحانه {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] الجماد أتى ربه طائعاً، والأرض تخرج أرزاقها كما يأمرها الله سبحانه، والسماء تنزل بركاتها، والكل أطاع الله وعبد الله طائعاً إلا الإنسان؛ فكثير من الناس حق عليهم العذاب.
قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، خلق السماوات، هذه السماء العظيمة نرى فيها قدرة الله البديعة العظيمة، والأرض أصغر من السماء بكثير، فجعل سبحانه للأرض أربعة أيام، وجعل للسماوات التي هي أعظم بكثير يومين، ليرينا قدرته، وأنه لا يعجزه شيء، فالشيء العظيم يخلقه.
كما أنه سبحانه يبعث عباده يوم القيامة وهو قادر في لحظة أن يحاسب الجميع، لكنه جعل للحساب يوماً طويلاً مقداره خمسون ألف سنة؛ ليحاسب فيه العباد، وهو قادر على أن يحاسبهم في لحظة كما أنه يفني الأرض ومن عليها في لحظة، ويحيي العباد في لحظة، والله على كل شيء قدير يرينا قدرته على أن يطيل علينا الأيام والليالي وعلى أن ينقصها ويقللها، والله على كل شيء قدير، قال: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12].
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(397/5)
تفسير سورة فصلت [9 - 12]
كيف يكفر الإنسان بالله تعالى الذي خلق الأرض في يومين وجعل فيها الجبال الرواسي تثبتها، وقدر فيها أرزاق الخلائق في يومين آخرين، ثم خلق السماوات في يومين كذلك وأوحى في كل سماء أمرها وزين السماء الدنيا بالنجوم والكواكب زينة لها وحفظاً من كل شيطان يسترق السمع؟! فما أظلم من كفر بخالقه وعبد غيره!(398/1)
تفسير قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة الباهرة، وعن خلقه المتقن العظيم الصنع في خلقه للسموات وللأراضين، وما جعل فيها من دواب ومن جبال راسيات، وما قدر فيها من أقوات وأرزاق للعباد وغير ذلك فيقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9].
فبين سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، ثم خلق السموات في يومين، ثم جعل في الأرض رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين، فصار خلق الأرض وتقديرها في أربعة أيام، وخلق السماوات في يومين، وهنا مزيد اعتناء بهذه الأرض، التي يكون عليها هذا الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى.
وخلق الله آدم على نبينا وعليه الصلاة السلام، في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، وجعل لآدم هذه الأرض سكناً ومتاعاً إلى حين، وخلق السموات العلى، وجعل ما فيها من زينة وما فيها من خلق في يومين اثنين، وهي أعظم بكثير من هذه الأرض، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] فهذه السماء العظيمة خلقها الله في يومين، وهذه الأرض التي نحن عليها عظيمة واسعة متسعة وهي بجوار السموات شيء قليل لا قيمة لها، وجعل لها أربعة أيام ليسكن فيها آدم وذريته.
وكرم الله ذرية آدم أنه خلق آدم بيده سبحانه وتعالى، وسواه ونفخ فيه من روحه، وجعل له هذه الأرض مستقراً ومتاعاً إلى حين، فسوى له هذه الأرض، ودحاها، وبسطها، وجعل فيها أرزاقها للعباد، وقدر فيها ما قدر سبحانه وتعالى، حتى يستمتع الإنسان على هذه الأرض إلى حين فيعبد ربه ويعرف نعم ربه سبحانه وتعالى عليه.
وزين الله السماء الدنيا بمصابيح ليهتدي بها الإنسان ويستمتع بالنظر إليها، وتكون له دليلاً في مسيره شمالاً أو يميناً أو جنوباً أو شرقاً أو غرباً، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]، وجعلها حفظاً للسماء من الشياطين ودليلاً وهداية للإنسان.
والإنسان قد اعتنى به ربه سبحانه وتعالى بأن هداه في سبيله وطريقه إلى الله عز وجل في شريعته وفي دينه، وكرمه الله سبحانه وحمله في البر والبحر، فإذا عرف الإنسان رحمة ربه به ونعمته عليه وتكريمه له، عبد الله سبحانه, فكيف يكفر بعدما صنع به الله عز وجل ذلك؟ وبعدما صنع له هذه النعم العظيمة أيكفر بالله الخالق القادر سبحانه، الذي خلق هذه الأشياء وهو قادر على أن يخلق الجميع في لحظة وعلى أن يفني الجميع في لحظة؟ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9].
وذلك الخالق العظيم هو الذي خلقكم ورباكم بنعمه سبحانه وتعالى، وهو مالككم ومالك كل شيء، وجعل في هذه الأرض رواسي من فوقها وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، وهذا التقدير في هذه الأرض من أرزاق وأقوات وجبال رواسي كان بعد خلق السماوات، فلقد استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ثم بسط الأرض لعباده، وقدر لهم فيها الأرزاق، وجعل الرواسي فوقها فكان جميع الأيام ستة أيام.(398/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
خلق الله تعالى السموات والأرض والجمادات التي خلقها الله عز وجل من دخان، وبسط هذه الأرض، وكانت عدماً فجعل منها تراباً وطيناً، ثم أمر السماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وأمرهما الله سبحانه بطاعته سبحانه وتعالى سواء رفضتا أم أطاعتا.
فالجماد عرف فضل الله وقدرته سبحانه وتعالى والإنسان كفر بالله وعصاه!(398/3)
تفسير قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)
قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12].
أي: انتهى من خلق السموات وفرغ منهن في يومين ومن الجميع في ستة أيام، وأوحى في كل سماء أمرها، فكل سماء فيها ملائكة وفيها من خلق الله مالا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والأرض بجوار السموات كحلقة صغيرة ملقاة في فلاة، وهي: الصحراء الضخمة العظيمة، فلا وجه مقارنة أو نسبة بين الحلقة الصغيرة التي رميت في هذه الصحراء، فالصحراء شيء عظيم شاسع وواسع وهذه الحلقة صغيرة قليلة ليس لها قيمة بجوار ذلك، ولا موازنة أو نسبة بين قطرة وبحر عظيم، كذلك الأرض إذا قورنت بهذه السموات! والسموات كلها إذا كانت بجوار كرسي الله سبحانه وتعالى كانت كحلقة في فلاة، والكرسي بجوار العرش كذلك، والله فوق العرش، قد أحاط بكل شيء، وهو فوق كل شيء سبحانه وتعالى، فهو العلي الكبير سبحانه وتعالى، وأكبر وأعظم من كل شيء لا إله إلا هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
وقوله سبحانه: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت:12].
جعل الله النجوم في السماء مثل المصابيح الصغيرة التي تكون في السقف، كذلك زين الله السماء الدنيا بمصابيح، وجعلها زينة لأهل الأرض لينظروا إليها ويفرحوا بالنظر إليها، وجعلها هداية لابن السبيل فيعرف الشمال من الجنوب والشرق من الغرب، وتكون دليلاً في مسيره في الطريق، وجعل منها ما يقذف به الشياطين فيحرقهم بالشهب التي فيها.
فهي حفظ للسماء من أن يخترقها الشياطين والجان لاستراق السمع، فالذي قدر ذلك هو الله العزيز العليم سبحانه، وذلك التقدير العظيم لا يخطئ أبداً، فكان على ما قدره الله سبحانه وتعالى ولا يشذ أبداً ولا يفلت منه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، فهو العزيز الغالب القاهر الذي لا يمانع سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد أن يرد قضاء الله عز وجل.
وأظهر عزته وقدرته وجبروته وقهره لكل شيء سبحانه العليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء.(398/4)
الآيات التي توهم التعارض
جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، أي: توهم أنها متعاكسة أو متناقضة وهي قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
وقوله سبحانه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27].
كأن الرجل ظن أن فيهما تناقضاً، فإذا أشكل على رجل شيئاً فإنه يذهب إلى أهل العلم فيسألهم كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا جهلوا، إنما شفاء العي السؤال)، فالإنسان الذي يجهل الشيء ليس عيباً أن يسأل، إنما العيب أن يسكت على جهله أو أنه يفسر لنفسه أو يشرح لنفسه.
قال: وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42].
وقوله: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
وكذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27]، إلى قوله سبحانه: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، مع قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9].
إلى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، فالآية الأولى ذكرت أن خلق الأرض بعد خلق السماء، والآية الثانية ذكرت العكس.
وكذلك في قوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:14]، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134].
كأن الرجل لم يفهم اللغة جيداً فكأنه فهم أن الفعل الناقص (كان) يفيد الزمن الماضي فقط.
فإذا بـ ابن عباس يجيبه رضي الله عنه، ويرفع عنه الإشكال في هذه الأسئلة، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، فقال رضي الله عنهما: قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] ذلك في النفخة الأولى، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
فكل الخلائق يموتون فلا تنفعهم أنساب ولا أحساب ولا أموال ولا غير ذلك، فإذا نفخ فيهم النفخة الأخرى قاموا من قبورهم فيسأل بعضهم بعضاً عن يوم الحساب، قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27].
أما قوله سبحانه عن الكفار أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42].
فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص والتوحيد الذين عبدوا الله وكانوا مسلمين، فيغفر لهم صغائر ذنوبهم وكبيرها ويتجاوز عنها بسبب إخلاصهم وتوحيدهم أن قالوا: لا إله إلا الله، فلما رأى هؤلاء المشركون أن الله يغفر لأهل التوحيد قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
أي: نحن كنا موحدين أيضاً، فكذبوا على الله فختم على أفواههم، وشهدت عليهم أعضاؤهم بأنهم كذبوا وأشركوا وكفروا، فتنطق على أنفسهم بالحق فلا يكتمون الله حديثاً.
كذلك المنافقون يوم القيامة فإنهم يحلفون بالله سبحانه وتعالى أنهم كانوا مؤمنين ولم يكونوا مشركين: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18].
فلما كذبوا أشهد عليهم جوارحهم فينطق على أحدهم جلده ويده وفخذه ورجله {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42].
فإذا بأحدهم يدعو على نفسه ويقول: سحقاً لكن! عنكن كنت أدافع، أي: كانت لسانه تدافع عن يده ورجله وأعضائه، فيكذبون أمام الله تعالى أنهم كانوا مؤمنين تم تشهد أعضاؤهم بخلاف كذبهم، فيستحقون العذاب بشهادتهم على أنفسهم.
وجمع ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9].
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10].
فذكر الأربعة الأيام ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11]، وقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12].
مع قول الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27].
وبعدما ذكر السماء قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30].
فقال ابن عباس: خلق الله الأرض في يومين: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11]، فسواهن سبع سموات ثم أكمل ما في الأرض من أشياء فهنا لا يوجد أي تعارض بين هذه وهذه، فبدأ بالأرض ثم السماء ثم رجع إلى الأرض مرة ثانية، فلم يقل في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]: والأرض بعد ذلك خلقها، وإنما دحاها أي: بسطها للناظرين، وجعل فيها المعايش لمن كان عليها، فكان كل من الآيتين يعطي المعنى نفسه.
فدحاها أي: أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وغير ذلك في يومين آخرين، فذلك قوله سبحانه دحاها، وقوله: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9].
فخلقت الأرض وما فيها من أشياء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96].
سمى الله سبحانه وتعالى نفسه الغفور الرحيم, فالتسمية من الأزل، ولا تزال هذه التسمية أبداً لله سبحانه وتعالى، وكان هو الفعل الوحيد الذي يصلح أن يكون للماضي وللحاضر وللمستقبل، فالله غفور في الماضي والحاضر ولا يزال هكذا أبد الآبدين سبحانه وتعالى.
وكان الله عز وجل بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى منذ الأزل، ولم يحدث له شيء جديد، وإنما هو الله سبحانه العزيز الحكيم الغفور الرحيم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.
فالله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فهو من عند الله.
فـ ابن عباس رضي الله عنهما له قدر عظيم، فهو الذي جمع بين الآيات ورفع ما يشكل على الناس، فاستحق أن يكون ترجمان القرآن وحبر هذه الأمة رضي الله عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(398/5)
تفسير سورة فصلت [13 - 16]
أهلك الله عز وجل الأمم السابقة التي كذبت رسلها بأنواع شتى من العذاب، فمنهم من أهلكه الله بالريح كعاد، ومنهم من أهلكه الله بالصيحة كثمود، ولقد هدد الله كفار مكة إن أعرضوا عن دينه بعذاب كعذاب عاد وثمود.(399/1)
تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:13 - 16].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة على تعذيب من كفر بالله، وجحد بآيات الله، وكذب رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وقبل هذه الآيات ذكر لنا قدرته العظيمة في الخلق والرزق والإبداع سبحانه تبارك وتعالى، فقد خلق السماوات والأرض، وبث في الأرض الدواب، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وجعل فيها الرواسي، وكان هذا الخلق في ستة أيام، فأرنا الله عز وجل قدرته على الإيجاد، وعلى الخلق، وعلى رزق عباده، وأنه رب العالمين سبحانه، وأخبرنا أن الذي يقدر ذلك هو الله العزيز الغالب، الذي قال للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
فهو العزيز الغالب، الذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، إذا قضى شيئاً فلابد أن يكون، وهو العليم سبحانه الذي يعلم كل شيء مما ظهر وما خفي، ويعلم ما في قلوب العباد ونياتهم، وما لم يعملوه ولم ينووه، وقد علم الله عز وجل ما هم فاعلون.
وهنا يقول لنا: إن أعرض هؤلاء الكفار عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينذرهم بصاعقة وبعذاب شديد من عنده عز وجل، وكأن الصاعقة هي: الصيحة التي يكون من ورائها رجفة عظيمة تهد الناس، وتهزهم في أماكنهم فيغشى عليهم فيموتون بسببها.
قال تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] أي: خوفتكم الهلاك كما أهلكنا عاداً وثمود.
قال تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14] أي: جاءتهم الرسل أمامهم، فأرسل الله عز وجل إلى عاد أخاهم هوداً.
وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14] أي: من قبل هؤلاء أرسل إلى قوم نوح نبيهم نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكانت الرسل من قبلهم وقد علموا ذلك، ومن ورائهم أرسل الرسل، فكأنه يقول: بلغهم نبأ ما كان قبلهم، أي: أخبار قوم نوح من قبل، وجاءهم رسول إليهم.
ولما أهلك الله عاداً جاءت ثمود بعد ذلك، وجاءهم خبر من كان قبلهم، أي: قوم نوح وقوم عاد، وكيف أهلكهم الله، ثم جاءهم رسولهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله، وكل قوم يهلكهم الله يحذرهم ما صنع بالذين من قبلهم.
قال سبحانه: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14]، وما بين اليدين هو ما يراه الإنسان، وما خلفه ما لا يراه، فكأن المقصود بمن خلفهم أي: قبلهم من الرسل الذين سمعوا عنهم ولم يروهم، وأما الذين من بين أيديهم فكأنهم من يرونهم من رسل الله سبحانه.
فسمعوا أخبار الرسل السابقين، وعرفوا أنهم دعوا إلى الله، وإلى توحيده سبحانه، فكذبوا فأهلك الله عز وجل قومهم.
وكذلك هؤلاء جاءتهم العظة والعبرة على لسان رسلهم، فإن الرسول الذي يرسله الله عز وجل إلى قومه يخبرهم بأنباء من كانوا قبلهم، فكأن السابقين أنذروا قومهم، وتركوا النذارة لمن بعدهم أيضاً.
قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت:13] أي: يأتيكم عذاب يصعقكم على أي شكل من الأشكال، فقد تأتي صاعقة من السماء، وقد تأتي ريح شديدة فيها صرصر، أي: ذات صوت عاصف شديد تهد الناس وتميتهم ويغشى عليهم بسببها، أو يكون عذاب من نار من السماء يحرقهم، كما في هذه الآيات.
قال تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فعاد: أخذتهم الصيحة، وثمود: أخذتهم الرجفة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وكلهم كذبوا واستكبروا على رسل الله.
فأما عاد فقالوا باستكبارهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، فأراهم الله عز وجل بهذا العذاب هل هم أقوى أم هذه الصاعقة التي أرسلها الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم؟(399/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم)
قال تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14] دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الدعوة إلى عبادة الله وحده، والمنع من عبادة أي شيء غيره.
وهذا المعنى هو نفسه معنى: لا إله إلا الله أي: لا يستحق العبادة إلا إله واحد.
لصفة الألوهية الحقة لأي أحد ولأي شيء، وإثباتها للإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:14] أي: لا تتوجهوا بعبادتكم لأحد إلا لمن يستحق أن يكون إلهاً وهو الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهو نفس معنى لا إله إلا الله، وكل الأنبياء والرسل قد دعوا أقوامهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، يعني: لا نعبد إلا الله.
وكل الأقوام كانوا يقرون بأن الخالق هو الله، وبأن الرب هو الله، وأن الله هو الرب الذي يخلق ويرزق، سبحانه تبارك وتعالى.
وقد كانوا يعبدون غيره سبحانه تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: {قَالُوا} [فصلت:14]، أي: الأقوام، {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14] أي: ألم يجد الله غيركم؟ فلو أراد الله أن يرسل أحداً لأنزل ملائكة علينا.
ولو شاهد الناس الملائكة لآمنوا، فيكون الإيمان قسراً وقهراً، ويجبرون على الإيمان.
وهذا ما لا يريده الله عز وجل، وإنما يريد من عباده أن يختاروا هذا الدين العظيم الذي أرسل به الأنبياء.
فقد كلفهم الله وهداهم النجدين، وبين لهم سبيل السعادة وسبيل الشقاء، وليختر كل منهم ما يريد، ولا يحاسب إلا على اختياره، وإن كنا نؤمن أنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله، ولن يفعل أحد شيئاً إلا وقد علمه الله وقدره قبل ذلك وكتبه عنده سبحانه تبارك وتعالى، ولكن أمرنا أن نفكر وأن نختار، فاختار هؤلاء طريق الشقاوة، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14] أي: لن نؤمن بكم ((فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)).
فاستكبروا هؤلاء على الرسل الذين بعثهم الله، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، فأعرضوا عن رسلهم، وأعرضوا عن دين الله، ولم يعملوا عقولهم في ذلك، واستكبروا في الأرض.
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6 - 13].
فأنزل عليهم عذاباً صبه عليهم من السماء، وكانوا يتوقعون من السماء الرحمة والمطر، فصبه عليهم من السماء، فمن حيث كانوا يأمنون وينتظرون الرحمة جاءهم العذاب، وصُب عليهم العذاب صباً.
قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13 - 14] أي: ليس هؤلاء فقط الذين أهلكوا، وإنما كل من سار على نهجهم ومن فعل فعلهم وكفر كفرهم فله الهلاك، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] أي: يرصد كل إنسان يطغى على أمر الله سبحانه ويظلم الخلق، ويعطيه من العذاب ما يستحقه.(399/3)
تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)
قال سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]، وقال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65].
فالرسول الذي أرسل إلى عاد كان أخاهم هوداً، وقد كانت عاد من العرب، وكانوا في اليمن، وكانت عاد قبل ثمود، وهي عاد الأولى، وقد أهلكها الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65].
فدعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنكر عليهم ما هم فيه من باطل ومن لعب.
فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131].
وهذا بعض صنيعهم، فكانوا قد استكبروا عندما وجدوا في أنفسهم القوة، قال تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] يعني: بيوتهم عالية عظيمة، فقد نحتوا الجبال نحتاً، وصنعوا قصوراً بداخل هذه الجبال، فأعطاهم الله عز وجل قوة لم يعطها لأحد من بعدهم من العالمين، فاستكبروا بقوتهم، واستطالوا على رسولهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما فعلوا ذلك قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت:15] أي: على الخلق، قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] أي: تلعبون، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء:129]، أي: أماكن لجمع المياه على هيئات فيها افتخار، وظلم للخلق، وأنتم غير محتاجين إلى ذلك، وإنما كانوا يصنعونها ليروا الناس أنهم أقوياء بصنعها، فكانوا يصنعون هذه المصانع التي هي موارد للمياه على هيئات عظيمة -أحواض ونحوها- يجمعون فيها المياه، ويُروا من أنفسهم أنهم أقوياء قادرون، ويفاخرون الخلق بذلك.
ويقولون لهم: هذه بيوتنا شققناها في الجبال وصنعناها فيها، وهذه عمداننا عالية طويلة؛ لأننا طوال الأجسام عريضها لا نسكن في بيوت مثلكم، وإنما ننحتها في الجبال.
استكباراً على الخلق، وتعالياً عليهم.
قال {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ} [الشعراء:128 - 130] أي: بأقوام، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: وأنتم قاهرون لهم مستكبرون عليهم، ولم يكن في قلوبهم رحمة، قال: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: قاهرين غالبين لهم لا رحمة في قلوبكم فانتظروا جزاء صنيعكم وعملكم.
قال الله عز وجل هنا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، وهذا هو الاستكبار في الأرض، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] فهم معترفون بالرب سبحانه، ومعترفون بأن الرب أقوى منهم، ودليل اعترافهم بالرب أنهم بعثوا وافدهم إلى مكة يستسقي هنالك فهم يعرفون أن الرب القادر هو الذي يرزقهم ويسقيهم.(399/4)
بعث عاد وافدهم للاستسقاء لهم
جاء في الحديث كما في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث الحارث بن يزيد البكري أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في قصة طويلة، وذكر الرجل: (أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم كانت معه امرأة من بني تميم حملها في الطريق معه، -وهذا الرجل كان من بني بكر، وكان بين قومه وقومها عداوة، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! اجعل الدهناء حاجزاً بيننا وبين بني تميم، -وكأنه يريد أن يأخذ الدهناء لبني بكر الذي هو منهم، ويجعلها حاجزاً بينهم وبين بني تميم، فاستوفزت المرأة، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إلى أين تضطر مدركة؟ -أي: إذا أعطيتهم هذه الأرض التي فيها المياه ولنا فيها حاجة، فأين نذهب؟ - فنظر إليها الرجل وقال: أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد.
وقال: إنما مثلي ومثلك كما قال الأول ماعز حملت حتفها يعني: أخذتك معي ولا أعلم ما الذي ستفعلينه معي؟ فأنت تهاجميني بعد أن عملت فيك هذا الجميل؟ فقد وضحت هي للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الدهناء أرض تحتاجها بنو تميم، أي: قومها، وفيها إبلهم ترعى، فعندما تجعلها لهؤلاء فأين نذهب نحن؟ وكلامها صدق، ولذلك صدقها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وامتنع من أن يعطيه هذا الذي طلبه.
وهذا الحديث حديث حسن، وقال الحارث في حديثه: أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم منه بالقصة، ولكنه لما لم يعطه الذي يريده قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟)، وهو أعلم منه صلوات الله وسلامه عليه، (فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عاداً لما أقحطوا أرسلوا وافدهم، إلى مكة)، فكأن هذا الموضع معروف من القديم أنه موضع بركة، وإن كان الذي رفع البيت فيه هو إبراهيم بعدهم بآلاف السنين، ولكن الغرض أن هذا المكان من عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام معلوم أنه مكان البركة في الأرض.
فكان من أصابه شيء يذهبون به إلى هذا المكان، ويسألون الله سبحانه تبارك وتعالى له، فإذاً: كانوا يطلبون الرزق من الله، ويؤمنون بأن الذي خلق هو الله، ولا ينكرون هذا، وإنما يصدقون به، ويعلمون أن الخالق والرازق هو الله، وهذا هو إيمان الربوبية، وليس هو المطلوب من العباد؛ لأن الكل يعرف ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وإنما المطلوب هو التوجه بالعبادة إلى هذا الخالق العظيم سبحانه، وتوحيده في العبادة كما قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقد أرسلت عاد وافدهم إلى هذا المكان، واسمه قيل.
ولما توجه إلى مكان مكة في ذلك الزمان ذهب إلى رجل هنالك اسمه معاوية بن بكر ومكث عنده شهراً، يسقيه الخمر وتغنيه الجرادتان، ولما مر شهر سأله معاوية: إلى أين بعثك قومك؟ فتذكر أن قومه أقحطوا ثلاث سنوات، ويطلبون الطعام والماء والمطر، فذهب إلى موضع مكة، ودعا ربه هنالك وقال: اللهم إني لم آتك لأسير لأفاديه، ولا لمريض لأداويه، ولكن اسق عاداً ما كنت تسقيه، فأنشأ الله عز وجل ثلاث سحابات سوداء، ونودي منها: اختر، فنظر إلى أشدهن سواداً وقال: هذه، فهي في نظره سوداء مظلمة، فهي مليئة بالماء، فكان فيها العذاب فقيل له: خذها رماداً رمدداً، لا تبق من عاد أحداً، فكانت عليهم ريحاً من السماء فأهلكهم الله عز وجل بها.
قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، ونسوا الله سبحانه تبارك وتعالى الذي لما منع عنهم المطر رجعوا يطلبون منه الغيث، ولم يعبدوه سبحانه تبارك وتعالى، ولكن استكبروا عن العبادة وطلبوا منه الرزق والماء.
قال الله سبحانه: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15].(399/5)
تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً)
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] أي: أرسل الله عز وجل عليهم الريح في: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7] فنزلت عليهم هذه السحابة بالعذاب من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وكانت ريحاً شديدة ليس فيها مطر، وكانت أصواتها عالية، وكانت ريحاً صرصراً، أي: عظيمة البرودة، شديدة الهبوب، وفيها أصوات عالية منكرة من جنس كفرهم واستكبارهم، فقد استكبروا على الخلق، ورفعوا أصواتهم على نبيهم عليه الصلاة والسلام، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] فجاءتهم هذه الريح شديدة الهبوب {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، فكانت الريح تأتي على أحدهم فتقلعه من الأرض، وترفعه فينزل على الأرض ميتاً، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي: كجذوع النخل الفارغة، فانظر إلى الريح وصنعها، وانظر إلى هؤلاء الذين شبههم الله بالنخل، فقد كانوا طوال الأجساد أقوياء، فصاروا صرعى على الأرض {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8] أي: هل ترى أحداً منهم موجوداً الآن؟ لقد ذهبوا كما ذهب من كان قبلهم؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، فكان هذا العذاب في أيام نحسات في الدنيا، وبعد ذلك عذاب الآخرة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(399/6)
تفسير سورة فصلت [15 - 18]
أهلك الله تعالى الأولين عندما كذبوا رسله، مثل عاد وثمود، فقد كذبوا واستكبروا في الأرض بغير الحق فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وجعلهم آية وعظة لكل من جاء بعدهم.(400/1)
تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:15 - 18].
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إن أعرض هؤلاء المشركون فحذرهم وأنذرهم بعذاب من عند الله سبحانه كما حدث للسابقين لهم، فإن أعرضوا فقل: أنذرتكم، خوفتكم، وهددتكم بعذاب مهلك من عند الله سبحانه، وأنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، والصاعقة: هي كل أمر هائل رآه الإنسان أو عاينه حتى يصير من هول هذا الأمر ومن عظيم شأنه إلى هلاك وإلى عطب وإلى ذهاب عقل وإلى غمور فهم أو فقد بعض آلات الجسم، والصاعقة قد تكون ناراً محرقة تنزل من السماء عليهم، أو قد تكون رجفة وهدة شديدة على الإنسان حتى يغشى عليه أو حتى يهلكه الله عز وجل بها، وقد تكون صوتاً عظيماً يفزع منه الإنسان، وقد يكون شيئاً من أمر الله سبحانه وتعالى، فيطلق على هذا كله الصاعقة، والصاعقة: هي الشيء الذي يصعق بسببه الإنسان، فإما أن يغمى عليه وإما أن يهلك ويموت، قال الله سبحانه: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13].
وقد ذكرنا قصة صاعقة عاد، وكيف أرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، وكيف جاءتهم الصيحة من السماء مما انتقاه صاحبهم الذي ذهب ليدعو لهم في السنين التي قحطوا فيها وأمحلوا فقيل له: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، فرأى سحابة سوداء مظلمة ظنها ممتلئة ماء فإذا بها العذاب من عند الله سبحانه، فقد أرسل الله عز وجل عليهم من السماء عاصفة شديدة اقتلعتهم من الأرض فحملتهم ثم نزلت بهم على رءوسهم فصاروا كأعجاز نخل خاوية.
وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:14] من بين اليد ومن الخلف تطلق على الزمان وعلى المكان، فكأن المعنى في قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [فصلت:14] أي: من أمامهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14] أي: من بعدهم فلم يروهم، كذلك من بين اليد، أي: مما من يرونه في المكان، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14]، أي: كأنه في البلاد المحيطة حولهم، إذاً: فقد كان قوم عاد قبل ثمود الذين كانوا في بلاد الشام، وعاد كانوا من خلفهم في بلاد اليمن، فكأنه في المكان وكذلك في الزمان، قال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14]، والمعنى: أن الله لم يترك عباده مهملين من غير أن يبين لهم، بل أرسل إليهم رسلاً وجعل فيهم الأنبياء بوحي من السماء يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، وأخبرنا عن الرسل فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقال: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38]، إذاً: فهي قرون وأمم كثيرة قص الله علينا بعضاً من قصص هؤلاء، وسكت عن أشياء منهم، فذكر لنا ما نعتبر به، فليس القرآن بكتاب تسجيل للحوادث أو للتاريخ ولكنه كتاب تشريع وفيه من الحكم والمواعظ ما ينتفع به أولو الألباب.
ودعوة الرسل جميعهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:14] بمعنى: لا إله إلا الله، أي: لا توجهوا عباداتكم إلا إلى الله الواحد الذي أقررتم بأنه خلقكم ورزقكم سبحانه، فاعبدوه وحده لا شريك له، ولكن هؤلاء الكفرة أعرضوا وقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، وقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} دليل على أنهم يعرفون ربهم سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
إذاً: فقد أقروا بأن الله هو الخالق، قالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} [فصلت:14] أي: الذي خلقنا، {لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، وهذا كلام صحيح، فلو شاء الله ذلك لفعله، ولكن لم يقل: إن الرسل لابد أن يكونوا ملائكة، وإنما اختار الله عز وجل من عباده من ينزل عليه ملك من السماء ليكون نذيراً وبشيراً لقومه، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، والنتيجة: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14] أي: مكذبون بما تقولون، كافرون بما أرسلتم به.
قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت:15] أي: استطالوا على الخلق وكذبوا الرسل، قال الله سبحانه: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} [فصلت:15]، فليس معهم فيما يصنعون بيان ولا برهان، ولا حجة من الله سبحانه، وإنما هي الاستطالة والعلو في الأرض والإفساد وإرادة الطغيان، فالله سبحانه يخبر أنهم قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، والمعنى: أننا نطغى ونعمل الذي نريده، فنحن أشد الناس قوة وأعظمهم أجساماً، ولن يقف أمامنا أحد، وهذا هو البغي والظلم في الأرض، وما من إنسان ولا أقوام يبغون في الأرض إلا وأخذهم الله سبحانه، وجعلهم عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ.
وكم من عال في الأمم السابقة طغى وتجبر فإذا بالله يهلكهم ويبيدهم، ومنهم من استضعفوا، كما قال سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
فالله عز وجل جعل الأيام دولاً بين الناس، كما قال: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فيرتفع الإنسان إلى ما يشاء الله ثم ينخفض حيث قدر له الله عز وجل ذلك، قال هنا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} [فصلت:15] أي: قد عرفوا أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقهم وأعطاهم قوة، أفليس بقادر على أن يخلق أقوى منهم حتى يبيدهم على أيديهم؟ أليس قادراً أن يخلق لهم ما يهلكهم به من عاصفة أو رياح شديدة أو مطر سوء من السماء أو عذاباً مهيناً من عنده سبحانه؟! قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]، إذاً: فلم يجحدوا ربوبية الله سبحانه، بل جحدوا آياته التي جعلها الله مع رسله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]، فلما تطاولوا في أمرهم وبغوا كان لابد أن تأتيهم سنة الله في خلقه.(400/2)
تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً)
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] أي: لها صرير، بمعنى: صوت عال مزعج، ولها صرص أي: برد قاس شديد، فهي ريح هبوب تهب على هؤلاء هباً شديداً حتى اقتلعتهم كالنخل على الأرض من طول أجسامهم، وقوة أبدانهم، فاقتلعتهم هذه الرياح، وجاءتهم من حيث يظنون أنه يأتيهم الأمن ويأتيهم الرزق من السماء، فقد قالوا: نريد هذه السحابة، وهم لا يعلمون أنها سحابة لن تأتي بالمطر، بل ستأتي بصاعقة من السماء، فقد سمعوا صوتاً فظيعاً من السحابة التي في السماء وإذا بالرياح تهب عليهم، وإذا بشدة البرد تهلكهم، وإذا بالله تعالى يقتلعهم وينكسهم على رءوسهم، قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16]، وفيها قراءتان: قراءة نافع وابن كثير وأبي عامر: {أَيَّامٍ نَحْسَاتٍ} [فصلت:16]، بالتسكين للحاء، وقراءة باقي القراء: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، وكأن الأصل فيها: أنها أيام نحس وشؤم، فجمعت على المصدر (نحْسات) بالتسكين، أو على أنها وصف فهي نحِسة، أي: أيام مشئومة، فجمعها (نحِسات)، وكأنها شؤم على هؤلاء بسبب تكذيبهم وإعراضهم عن ربهم سبحانه.
وقد بين لنا سبحانه عدد هذه الأيام فقال: {ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]، جاءهم فيها العذاب ليل نهار، قال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]، تأديباً وتعذيباً لهؤلاء وموعظة لغيرهم، قال: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت:16]، فقد أخزاهم الله سبحانه وأذلهم، وأهانهم وحقرهم، وجعل رءوسهم بعد أن كانت منتصبة القامات كأعجاز نخل خاوية، في: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]، فجعلهم الله عز وجل فيها كأعجاز نخل خاوية.
ثم قال سبحانه: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16]، وليس هذا العذاب فقط، بل ولعذاب الآخرة أشد وأخزى على هؤلاء، قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت:16]، فالخزي الحقيقي والإهانة يكونان يوم القيامة في الآخرة أشد بكثير مما تعرضوا له في الدنيا، قال: {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] أي: في الدنيا ولا في الآخرة، فلم ينصرهم أحد من عذاب الله، ويوم القيامة لا ينجيهم أحد من عذاب الله، ولا يدفع عنهم أحد عذاب الله سبحانه وتعالى.(400/3)
تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)
ثم جاءت ثمود من بعدهم، فقد كان عاد في جنوب الجزيرة وثمود في شمالها، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: بينا، والله يهدي على وجهين وطريقتين: إما بمعنى الدلالة والإرشاد، وهذا من رحمته سبحانه، فهو الرحمن الذي يهدي خلقه كلهم ويدلهم، كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا للإنسان طريق السعادة وطريق الشقاوة، فلا عذر لأحد عند الله سبحانه وتعالى، فالذين آمنوا زادهم الله هدى من فضله سبحانه، بمعنى: دلهم ووفقهم سبحانه للسير لطريقه سبحانه وتعالى، وإذا أخذ بأيدي المؤمنين فهو مزيد فضل من الله عز وجل، ولا يلزم ربنا سبحانه أنه يأخذ بيد الجميع، بل يهدي من يشاء ويعصم ويعفو فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً سبحانه وتعالى، فإذا هدى قوماً فهذا بفضله سبحانه، وإذا أضل أقواماً فهذا بعدله سبحانه وتعالى.
قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: دللناهم على طريق الله، وتوحيده وسنته في خلقه.
قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: فضلوا أن يعيشوا في كفرهم بالله سبحانه وعماهم وبعدهم عن دين الله على أن يهتدوا! قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، والصاعقة تكررت هنا، فحصلت الصاعقة للأوائل كما حصلت لهؤلاء، وهي العذاب المبيد المهلك، رجفة وصيحة تأتيهم من السماء، وإهلاك لهؤلاء بشر أنواع الإهلاك، وقد طلبوا آية من الله سبحانه، وطلبوا من رسولهم أن يخرج لهم من الجبل ناقة معها فصيلها، فلما جاءتهم هذه الآية التي رأوها وقيل لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، فلما رأوا هذه الآية كادوا يسلمون مع نبيهم، فإذا بالكبراء من القوم يخافون أن يضيع منهم منصبهم، فما زالوا بالقوم حتى رجعوا عن أمر الإيمان وكذبوا رسولهم عليه الصلاة والسلام، انتظروا على الناقة فترة وخافوا من إيمان القوم فتعاقد منهم مجموعة على قتلها، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:48 - 49].
إذاً: فالبداية من هنا: فقد قال رجل منهم اسمه قدار: أقتلها لسبب من الأسباب، فإذا بهم يحفزونه ويهيجونه ويعدونه بالزواج إذا فعل ذلك، فذهب فعقر هذه الناقة، وأراد قتل فصيلها فإذا بنبيهم صالح يحذرهم عقاب الله سبحانه، فتعاقدوا بينهم أن يلحقوه بها، بل وتقاسموا بالله فيما بينهم، فاجتمع هؤلاء التسعة النفر وأقسموا فيما بينهم بالله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل:49]، والتبييت بمعنى: القتل في الليل، لنبيتنه هو وأهله قبل الصبح، وتوعدهم صالح بعذاب، فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]، فأول يوم سيجعل الله عز وجل لكم آية في أنفسكم: وهي أن تصفر وجوهكم، ثم في اليوم الثاني: تحمر وجوهكم، ثم في اليوم الثالث: تسود وجوهكم ويأتيكم العذاب، فقالوا: سنقتلك إذا لم يحصل ذلك، فإذا بالعذاب يأتيهم تدريجياً، اصفرت الوجوه فعرفوا العذاب، ثم احمرت الوجوه فانتظروا الأمر، ثم اسودت الوجوه فإذا بهم ينتظرون عذاب الله سبحانه، وهذا من أقسى ما يكون على الإنسان أن ينتظر عذابه من حيث لا يدري من أين يأتيه، هل من السماء أم من الأرض؟ فجاءتهم صاعقة بعذاب الله سبحانه وتعالى، فسمعوا صيحة عظيمة ورجفت بهم الأرض فإذا بهم صرعى أهلكم ربهم سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، أي: العذاب المهين الذي أهانهم الله به وأخزاهم، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17]، وقال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] أي: بما كسبت أيديهم، وبأخذهم للسيئات وتركهم للحسنات، وتركهم لطاعة الله سبحانه، لكن المؤمنين ينجيهم الله سبحانه، كما قال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فبفضل الإيمان والتقوى ينجي الله عز وجل عباده الصالحين، فهو الذي دلهم على طريق الخير وأرشدهم إليه وأخذ بأيديهم إليه ونجاهم من العذاب.
نسأل الله سبحانه أن ينجينا من عذاب الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(400/4)
تفسير سورة فصلت [19 - 21]
أخبر الله سبحانه في كتابه أنه سيحشر الكفرة والمجرمين إلى نار جهنم يوم القيامة، وسوف تشهد عليهم جلودهم وأسماعهم وأبصارهم بما كانوا يعملون، فما أشد هذا الموقف على الكافرين!(401/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى تكذيب الأمم السابقة بأنبيائهم عليهم وعلى نبينا الصلاة السلام وكيف أخذهم الله سبحانه بالعذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى من عذاب الدنيا، أخبرنا سبحانه وتعالى عن حال المؤمنين أنه سينجيهم في الدنيا وفي الآخر بفضل تقواهم، قال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فالمؤمن التقي يحبه الله سبحانه وتعالى، وينجيه من الفتن، ومن العذاب في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة.
يقول سبحانه: {وَيَوْمَ} [فصلت:19].
كأنه يقول: اذكر هذا اليوم، وهو القيامة {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19]، وقد عذبهم الله عز وجل في الدنيا فقد أهلك قوم نوح وعاد وثمود، وأخبر أن عذاب الآخرة أخزى من عذاب الدنيا، وأشد إهانة فإنه في يوم القيامة يذلهم ويخزيهم ويدخلهم النار، ومعنى يحشرهم، أي: يجمعهم، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع ويعقوب {وَيَوْمَ نحْشَرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، بنون العظمة، فيأمر الله عز وجل الملائكة بجمع هؤلاء من الموقف يوم القيامة، فيساقون إلى النار، وقبل أن يدخلوا النار يحبس أولهم حتى يجتمع إليهم آخرهم، ثم يقذفون جميعاً في نار جهنم ليلقى أكابرهم أولاً ثم أتباعهم والعياذ بالله.(401/2)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم)
قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20] هم في الموقف العظيم يحشرون ويجمعون وبعد ذلك يقادون إلى النار، وحين كانوا في المحشر بين يدي الله عز وجل ورأوا النار {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، فيسألهم الله ماذا عملتم في الدنيا وسواء عليهم كذبوا على الله أو اعترفوا، وسواء عليهم صبروا أو لم يصبروا فهم في النار والعياذ بالله.
وقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:20] أي: جاءوا الموقف وحشروا وجمعوا ورأوا النار أمامهم قال: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20]، شهد سمع الإنسان عليه، وبصره، وشهد الله سبحانه وتعالى، فالله الذي أقدر خلقه على أن يتكلموا بألسنتهم قادر على أن ينطق فيهم أسماعهم وأبصارهم بما كانوا يفعلون في الدنيا.
روى الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك -صلوات الله وسلامه عليه- فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قلنا: الله ورسول أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه) يعني: يوم القيامة، يعني: يظن المنافق أنه يستطيع أن يكذب على الله وينجو بهذا الكذب، فأضحك الله النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المجرمين، وكيف أنه يستدرجهم سبحانه وتعالى بحلمه وبكرمه، فإنهم لما ظنوا أنهم سيخدعون الله إذا بالله سبحانه يخدعهم فتشهد عليهم أعضاؤهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله عز وجل: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، لم يعترف أمام الله سبحانه، وظن أنه سيخدع ربه سبحانه، ووصل إلى أقصى درجات الغباء في مخاطبته لربه سبحانه وتعالى، قال: (يقول الله عز وجل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] وبالكرام الكاتبين شهودا)، فإن الله أكرمهم ونزههم أن يكذبوا أو يفتروا على أحد شيئاً، كما كرمهم بعلو منزلتهم عنده سبحانه، (فيختم على فيه، فلا يقدر على الكلام بلسانه، ويأمر الله عز وجل أركانه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، فتشهد عليه يده ورجله وفخذه، بما كان يصنع في الدنيا، قال: فإذا خلي بينه وبين الكلام دعا على نفسه بالسحق وبالبعد وبالعذاب، يقول: بعداً لكن وسحقاً عنكن كنت أناضل) يعني: أنتن تستاهلن أشد العذاب.
في حديث آخر في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سألوه: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب؟) كأنهم يقولون: سيكون العدد ضخماً جداً وكبيراً وسيزدحم بعضنا مع بعض، فكيف سنرى ربنا يوم القيامة؟ وهذه عقيدة المؤمن أنه يرى الله عز وجل يوم القيامة في الجنة، وأنهم في الموقف العظيم يسألهم الله عز وجل فيسمعون ما يقول، ويردون ويجيبون على ربهم، نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة.
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فحين ترون الشمس هل تزدحمون أو كل واحد ينظر إليها من مكانه فيراها؟ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نزدحم، فقال: (هل تضارون؟) أي: هل يضر بعضكم بعضاً (في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما).
فلا أحد يضر أحداً عندما ينظرون إلى الشمس، فكلهم ينظر إليها من مكانه ويراها، ولله عز وجل المثل الأعلى، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة، لا يضر بعضهم بعضاً في النظر إليه سبحانه.
قال: (فيلقى العبد فيقول: أي فل)، هذا ترخيم، وهو حذف الحرف الأخير وأصلها يا فلان، (أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع)، ألم أكرمك {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، (وأسودك) أي: أجعلك سيداً ولم أجعلك عبداً من العبيد بل جعلتك سيداً حراً (وأزوجك)، أي: أعنتك على أن تزوجت (وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع) أي: تركتك تكون رئيساً في قومك وكبيراً، وتربع أي: لك رباع ودور وحقول وبساتين، وغيرها في الدنيا، (فيقول العبد: بلى، قال: أفظننت أنك ملاقي؟) أي: هل اعتقدت أن هناك بعثاً ونشوراً وجنة ونار يوم القيامة؟ قال: فيقول: لا، أخذت هذا كله ونسيتك يا رب ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله عز وجل: (فإني أنساك كما نسيتني)، فكما نسيت ربك سننساك في النار أي: نتركك مهملاً، لا ننظر إليك والعياذ بالله، فنعاملك معاملة المنسي، ولا ينسى ربك أحداً، ولكن هذا من المشاكلة والمجانسة اللفظية، ومعنى: ننساك أي: نتركك كما يترك المنسي، أما أن الله يغفل عن شيء من عباده فحاشاه سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول له: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث: فيقول له مثل ذلك، فيجيب هذا العبد، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول الله عز وجل: ههنا) أي: قف مكانك، ثم يقال له: (الآن نبعث شاهدنا عليك)، فيتفكر العبد في نفسه، من سيشهد علي، فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، فهو كذب في الدنيا ويريد أن يكذب على الله يوم القيامة، خدع في الدنيا ويريد أن يخدع يوم القيامة فخدعه الله كما خدع الناس في الدنيا، وجعل أعضاءه تشهد عليه، قال: وذلك الذي يسخط الله عليه، والمنافق في الدرك الأسفل من النار، أي: في قعر جهنم، والعياذ بالله، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].(401/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا)
قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، وهذه المناقشة والعداوة تكون بين الإنسان الكافر والمنافق ونفسه، فيقول مخاطباً نفسه وأعضاءه، {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، فقد جعل الجماد ينطق، وجعل الحيوان ينطق، وجعل كل شيء يشهد على نفسه وعلى غيره، أنطق كل شيء سبحانه وتعالى، {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:21]، فأليس بقادر على أن يعيد الخلق مرة ثانية؟ بلى إنه على كل شيء قدير، {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21] أي: إليه المرجع يوم القيامة سبحانه.
وهذه قراءة الجمهور، وقرأها يعقوب (وَإِلَيْهِ ترْجِعُونَ) أي: أن العود إلى الله سبحانه والمرجع إليه.
والإنسان المؤمن يتفكر في هذا اليوم، الذي لا ينفعه فيه شيء إلا العمل الصالح الذي عمله في الدنيا، وفي الدنيا قد يلتمس الإنسان لنفسه الأعذار، فإذا جاء يوم القيامة لم تعذره نفسه، ونطقت عليه بما كان يصنع، لذلك العبد المؤمن عليه أن يعرف أنه مهما دافع عن نفسه وعن أعضائه في الدنيا فإنها ستشهد عليه يوم القيامة، فعليه أن يعمل في الدنيا العمل الصالح الذي ينتفع به يوم القيامة.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(401/4)
تفسير سورة فصلت [22 - 23]
إن الوقوف بين يدي الله مشهد عظيم حري بكل عاقل أن يستعد له، ففي ذلك الموقف لا يملك العبد سراً فكل سره علانية، حتى أعضاؤه التي كان ينافح عنها تشهد عليه إن عصى الله بها، فأين المفر؟ فلا ملجأ ولا منجى إلا إلى الله تعالى.(402/1)
تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22 - 23].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده في هذه الآيات أنهم ما كانوا يستترون أن يشهد عليهم سمعهم ولا أبصارهم ولا جلودهم، والاستتار بمعنى: الاختباء، والاستخفاء، وللآية معنيان: المعنى الأول: ما كنتم تستخفون من أنفسكم، فهم حين رأوا أيديهم، وجلودهم، وأفخاذهم، وسمعهم، وأبصارهم تشهد عليهم، علموا أنهم ما كانوا يستخفون من هذه الأعضاء أن تشهد عليهم يوم القيامة.
والمعنى الثاني: أن الإنسان إذا علم في الدنيا أن فلاناً لو دعي للشهادة لشهد عليه، فإنه إذا أراد أن يفعل شيئاً يوجب الشهادة، يحرص على التخفي والبعد عنه حتى لا يراه، أما هؤلاء فلا يستطيعون ذلك، ولذا ينكر الله عليهم مستفهماً: هل كنتم تستخفون من أنفسكم؟ وهذه الآية في الإنسان الذي يأتي يوم القيامة ويقول لله عز وجل: لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي! ألم تجرني من الظلم؟ فإني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا منها، فرفض الملائكة الكرام شهوداً، ورفض أن يشهد عليه أحد، فإذا بالله يستدرجه من حيث يظن أنه أمن، فيختم على فيه وتنطق جوارحه بما عمل في هذه الدنيا، فيقول لنفسه: بعداً لكُنّ -يريد أعضاءه- فعنكن كنت أناضل.
فقوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22] أي: تستخفون من أنفسكم أن تشهد عليكم، وقيل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22]، أي: تستحيون من الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنتم تعلمون أن الله يرى، ويسمع ما تقولون، فما استحييتم وما اتقيتم ربكم سبحانه تبارك وتعالى، وجهرتم بالمعاصي والذنوب بغير حياء، فما كنتم تستترون أن يجعل الله هذه الأعضاء التي وقعتم بسببها في المعاصي تشهد عليكم يوم القيامة، قوله: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} [فصلت:22]، فقد سمعوا السوء، وسمعوا الغيبة والنميمة، والتلصص والتجسس على الناس، وسمعوا ما حرم الله سبحانه من معازف وغيرها، ولم يستحيوا من الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بالله عز وجل يجعل هذه الأعضاء التي تتلذذ بالمعصية تشهد عليهم يوم القيامة.
قوله: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت:22]، كذلك الأبصار، فقد نظر إلى ما حرم الله سبحانه، فإذا بهذه الأبصار تشهد عليهم يوم القيامة، وقد تقدم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وأعضاء الإنسان تكفر اللسان، تكفر أي: تذل وتخضع له، وتحذره من الوقوع في المصائب والآثام، وتقول له: إذا أنت عصيت الله عز وجل فسنكون معك في النار، فاحذر من معصية الله، ومع ذلك يقع الإنسان في المعصية، ويتكلم بما لا ينبغي أن يتكلم به، فيستحق عقوبة رب العالمين.
وقوله: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22] أي: ظنوا بربهم ظن السوء، وهو: أن الله لا يعلم بأعمالهم، ولا يسمع أقوالهم، وأنهم يختبئون من الله فلا يعرف ما الذي يقولونه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان، وثقفي، رجل قرشي وختناه من ثقيف، وكان ابن مسعود حينها مختبئاً من الكفار وراء أستار الكعبة، في الزمان الذي كان يؤذى فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء هؤلاء الثلاثة ووقفوا أمامه، وهم لا يرونه وهو يسمع ما يقولون، قال رضي الله عنه واصفاً هؤلاء: قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، أي: أجسامهم مليئة أسمع بعض كلامهم ويخفى علي أكثره، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، أي: عند رفع أصواتنا يسمعنا، وعندما نتكلم سراً لا يسمعنا، فقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، كأنه يريد: إن الله يطلع على ما نقول، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22]، فكان ظنهم أن الله لا يسمع ما يقولون، هو ظن السوء بالله سبحانه تبارك وتعالى، وظن السوء يمنع العبد من العمل؛ لأنه إن ظن أن الله لا يسمع ما يقول؛ قال ما شاء، وإذا ظن أن الله لا يراه؛ فعل ما شاء من المعاصي.(402/2)
تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم)
قال تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22 - 23] أي: ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون أرداكم، وهكذا كل من يظن سوءاً بالله عز وجل -كهذا الظن الذي ظنه هؤلاء- يرديه ظنه، ولذلك يعلم المؤمن أن الله عز وجل يعلم كل شيء، ويطلع على كل شيء، ويحسن الظن بالله، فله المثل الأعلى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى، أما هؤلاء فهم يسيئون الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، فقد أساءوا الظن حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: لماذا لم يختر الله للنبوة إلا أنت؟ فلو أنه نزل القرآن على أحد غيرك! وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وحقدوا عليه لا لشيء إلا لأن الله نزل عليه القرآن.
وكأنهم يعرفون ما لا يعرفه الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراًَ! ومن سوء الظن كذلك ما قالت اليهود في الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
ومن سوء الظن كذلك ما قالت النصارى واليهود في الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، فصرفوا عن توحيد الله سبحانه بهذا الذي اخترعوه من كلام باطل، وكذب على الله سبحانه أنه اتخذ صاحبة واتخذ الولد، حاشا له سبحانه، إنما يحتاج إلى الولد من هو ضعيف يموت ليبقى الولد ذكره بعده، والله حي لا يموت، فلا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إلى الولد من يضعف في كبر سنه وتأتيه الشيخوخة، فيحتاج إلى من يعينه إذ المخلوق ضعيف بطبعه فقير بخلقته، يحتاج إلى المال، ويحتاج إلى البنين، ويحتاج إلى أنصار ليكونوا عونه في نوائبه، أما الله فهو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى.
ومن ظن السوء ما ظنه المشركون بالله من أنه لا يقدر على الإرجاع مرة ثانية، قالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فأساءوا الظن بالله، ولذلك يعذبهم الله يوم القيامة على إساءتهم الظن فيه، وإساءتهم الاعتقاد فيه، أما المؤمن فهو يؤمن أن الله على كل شيء قدير، أليس الذي بدأ الخلق بقادر على أن يعيده مرة أخرى، {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].(402/3)
حسن الظن بالله وأثره في الإنعام على العبد
المؤمن حسن الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، يعرف ربه على ما ذكر لنفسه عز وجل من صفات عالية عظيمة حيث قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وهو إذ يحسن الظن بالله سبحانه يحسن العمل؛ لأنه يرجو من هذا العمل جنة الله سبحانه كريم، وهو يعلم أن الله ودود غفور، شكور، مجيد، رحمن رحيم، فيرجو رحمته وجنته سبحانه تبارك وتعالى، وإذا وقع المؤمن في المعاصي لم ييئس من رحمة الله؛ لأنه يعلم أن الله غفور كريم رحمن رحيم فيحسن الظن في الله، ويرجو من الله أن يغفر له، فيتوب إلى ربه، ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، فالإنسان حين يحسن الظن بالله؛ يعطيه الله ما يؤمله وينجيه مما يخافه، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو يجود بنفسه فقال له: (كيف تجدك؟ فقال: والله يا رسول الله! أني أرجو الله وأخاف ذنوبي)، فقوله: أجدني أرجو الله، حسن ظن في الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا وأمنه الله مما خاف، وأعطاه ما يرجو)، ولذلك فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه).(402/4)
حديث معاوية القضيري
روى الإمام أحمد بسند صحيح عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيته فقلت: والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد هؤلاء ألا آتيك ولا آتي دينك، يعد له بيديه ثنتاهما، وكان قد حلف أكثر من عشر مرات للكفار أنه لن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في دينه، ولكن الله العظيم يشاء أن يسلم، ويدخل في دين الله عز وجل، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقد جئت امرأ لا أعقل شيئاً، إلا ما علمني الله، رجل أتيتك لا أفهم شيئاً عن هذا الذي تقوله، ولا أعقل شيئاً مما تقوله، فعلمني وفهمني، ثم قال: وإني أسألك بوجه الله بم بعثك الله إلينا؟ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله، وهو أعظم شيء يقسم به، ولذا لا يجوز لإنسان أن يقسم على أحد طالباً دنيا بمثل هذا القسم العظيم، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)، أما الرجل فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه، فأقسم عليه بأغلظ ما يعرف من اليمين، وقال: أسألك بوجه الله: بم بعثك الله إلينا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام)، يستفهم عن الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت)، وهنا ندرك أن دعوة الرسل كلها دعوة التوحيد، وأن الرسل كلهم عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى التوحيد يقولون: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، ويدعون إلى: لا إله إلا الله، التي تتضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل أسلمت لله وتخليت)، إذ إن معنى لا إله إلا الله: أنني أسلمت نفسي لله، فله أن يأمرني بما يشاء، وليس لي إلا أن أفعل ما أمر به، وأحقق عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، قوله عليه الصلاة والسلام: (وتخليت) أي: عن كل معبود سوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فكان معنى لا إله إلا الله: أسلمت لله وتخليت عن كل شيء سواه سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران)، وأخذ النبي يشرح له أركان الإسلام، لأنه من المتعذر أن يعلمه كل الإسلام في جلسة واحدة، ولكن يخبره عن أهم ما يكون في هذا الدين العظيم؛ حتى يستوعب معاوية رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسلم على مسلم محرم: أخوان نصيران).
بمعنى: المسلم أخو المسلم، ينصره على نفسه، وينصره على عدوه، ويأخذ له بحقه من ظالمه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد ما أسلم عملاً) أي: أن الإنسان الذي يسلم ثم يرتد يحبط عمله كما قال الله سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وتفارق المشركين إلى المسلمين) أي: لا تعود إلى المشركين، فتكون أكيلهم وشريبهم؛ وإلا يصيبك ما يصيب هؤلاء، فإذا غزا المسلمون المشركين كنت أنت معهم، وحينها لا يميزون بينك وبينهم، فلذا ليس لك أن تقيم مع المشركين.
ثم قال: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار)، الحجز مكان معقد الحزام، والحجزة أقوى ما يمسك الإنسان منه الحزام، بحيث لا يتفلت، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أمسككم مسكاً قوياً، حتى لا تدخلوا النار، ومع ذلك تتفلتون وتهربون فتشركون بالله سبحانه، وتقعون في المعاصي.
ثم قال: (ألا إن ربي عز وجل سائلي: هل بلغت عباده، وإني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام)، قوله: (ثم إنكم مدعوون) أي: يدعوكم ربكم، قوله: (مفدمة أفواهكم بالفدام) الفدام: الغطاء الذي يوضع على الوعاء؛ لكي لا يدخل فيه شيء يشوبه، وقد يربط على فوهة السقاء، والمعنى: أنه إذا جاء يوم القيامة يختم على أفواهكم، فلا تنطق الأفواه قبل أن تنطق الأعضاء شاهدة على الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: (ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه قال معاوية: قلت: يا نبي الله! هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم وأينما تحسن يكفك)، يعني: في أي مكان تعمل العمل الحسن تتقرب به إلى الله عز وجل، فيكفيك هذا فضلاً عند الله سبحانه وثواباً من الله سبحانه.(402/5)
تفسير سورة فصلت [22 - 28]
الإنسان قد يختفي عن غيره لكنه لا يستطيع أن يختفي عن نفسه، وبعض الناس يظنون أن الله لا يعلم كثيراً من أفعالهم وأعمالهم، وظنهم هذا هو الذي أرداهم وأهلكهم، وجعلهم يتمادون في المعاصي، واستحوذ عليهم الشيطان حتى خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وخسروا رضوان الله تعالى فاستحقوا النار والعياذ بالله.(403/1)
تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:22 - 25].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما بعدها عن حال الكفار الذين جحدوا نعمة الله سبحانه وتعالى عليهم، وكذبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كيف سيكون حالهم يوم القيامة، فيخبر الله عز وجل أنه يشهد عليهم أنفسهم فتشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كانوا يخفونه، وبما كانوا يريدون أن يكذبوا على الله عز وجل فيه.
قال سبحانه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22] أي: تستخفون: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت:22] أي: ما كنتم لتستطيعوا أن تستخفوا من ذلك، ومن يستطيع أن يخفي الشيء عن نفسه؟ قد تخفي عن غيرك أما عن نفسك فلا، قد ترى أن فلاناً سيشهد عليك إذا عملت كذا، فتختبئ منه وتعمل العمل من ورائه، ولكن أين تختبئ من نفسك؟! كذلك ما كنتم تستحيون من الله سبحانه أن تجاهروه وتبارزوه بالمعاصي، ولكن ظننتم بربكم ظن السوء، فقد ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون.
وقد ذكروا أن رجلاً من ثقيف وختنيه من قريش ربيعة بن أمية وصفوان بن أمية التقوا عند البيت وابن مسعود مختبئ بأستار الكعبة فسمعهم يحدث بعضهم بعضاً يقول أحدهم للآخرين: أترون الله يسمع ما نقول؟ فيجيبه جاهل منهما فيقول: إن الله يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أسررنا، فيكذبون على الله سبحانه وتعالى، فيخبر الله عز وجل {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22].
وهذا هو الظن السوء الذي أردى أصحابه وأهلكهم فقد ظنوا أنهم سيفعلون ما يشاءون وأن الله لا يسمع ما يقولون أو ينوون أو يعملون.(403/2)
تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم)
قال الله سبحانه: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] أي: الذي أهلككم هو ظنكم السوء بالله سبحانه وتعالى، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، والخسران هنا هو الخسران العظيم، فقد خسروا الآخرة، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وخسروا رضوان الله سبحانه فاستحقوا عذابه سبحانه.(403/3)
تفسير قوله تعالى: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم)
قال تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24].
أي: فإن يصبروا على عذاب الله سبحانه فالنار هي محل إقامتهم فلن يخرجوا منها، ولذلك قال في آية أخرى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] أي: ما لنا من مهرب ولا منجى ولا ملجأ من عذاب الله سبحانه وتعالى، كذلك قال لهم هنا سبحانه وتعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت:24]، والصبر في الدنيا صبر عن محارم الله سبحانه وتعالى، وصبر على طاعة الله سبحانه، وصبر على قضاء الله وقدره، ويؤجر العبد على قدر صبره، اصبر تؤجر في الدنيا، أما في الآخرة فلا تكليف، فإذا دخلوا النار سواء عليهم صبروا أو جزعوا وصرخوا ليس لهم إلا العذاب، فلن يخرجوا منه ولن يخفف عنهم قال الله: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} [فصلت:24] أي: وإن يريدوا أن يرضوا ربهم سبحانه وأن يزيلوا ما أعتبه عليهم سبحانه وتعالى، وما أغضبه عليهم؛ فليستقيلوا ربهم سبحانه، وليعتذروا إليه سبحانه.
واستعتب أراد إزالة العتب، وإزالة ما يسخط ويغضب، تقول: استعتبني فلان، أي طلب مني أن أرضى عنه، وإن يريدوا أن يرضوا ربهم سبحانه فلن يقبل منهم سبحانه ولن يقبلهم، ولن يعيدهم إلى الدنيا مرة ثانية: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] أي: ليسوا بالذين يرضون ربهم يوم القيامة ولن يقبل منهم ولن يقبلهم يوم القيامة.(403/4)
تفسير قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، (قيضنا لهم) أي: هيأنا، وسببنا لهم قرناء، والقرناء جمع قرين، وقرين الإنسان هو الذي يقترن به، ويكون معه، والقرناء من الإنس ومن الجن، وقرين الإنسان صاحبه الذي يكون معه، والشيطان الذي يغويه، وشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأمر الإنسان أن يتعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.
فالشيطان يغوي صاحبه فهو قرينه لأنه معه لا يتركه، وإذا أردت أن يتركك الشيطان فالجأ إلى الله قال الله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، فأمرك الله عز وجل أن تلجأ إليه وحده سبحانه، ولا تلجأ إلى غيره، فهو الذي يجيرك، وهو الذي يعينك، وهو الذي يعيذك من الشيطان الرجيم، وقيضنا من المقايضة والمبادلة، وقايضته في البيع أي: أخذت منه وأعطيته، (فقيضنا لهم) أي: أبدلناهم بالناس الخيرين أناساً أشراراً وجناً أشراراً لا ينفعونهم بل يغوونهم ويضلونهم بما كسبت أيديهم.
قال الله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25] أي: زين شياطين الإنس والجن لهؤلاء الغاوين الذين أغواهم الشيطان وأضلهم الله عز وجل ما بين أيديهم، وما بين يديك هو ما أمامك أي: في الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]، أي: ما لا يرونه من الدار الآخرة، فيقولون لهم: أنتم ستعيشون في هذه الدنيا، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، اعملوا الذي تريدون، وخذوا الذي تريدونه في الدنيا، واظلموا من شئتم، واستمتعوا بالدنيا فليس غير الدنيا شيء، فزينوا لهم الظلم والإعراض عن الله سبحانه، والتكذيب لرسل الله، وزين شيطان الإنس وشيطان الجن لصاحبه أن يبتعد عن دين الله سبحانه في الدنيا.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]، بأن قالوا لهم: لن ترجعوا إلى الله ولن يحاسبكم فإذا بهم ينسون الدار الآخرة: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، وإذا بهم يعرضون عن الله سبحانه وتعالى، ويوم القيامة يقول لهم الله: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:34] ويقولون لهم: ولو فرض أن هناك آخرة فإن الله سيعطيكم في الآخرة كما أعطاكم في الدنيا، فاستدلوا بأن الله قواهم، وأغناهم، وأعطاهم في الدنيا على أن لهم الفضل، فقالوا: إذا رجعنا إلى الدار الآخرة فإن الله سيعطينا مثلما أعطانا في الدنيا، فقد أعطانا لفضلنا في الدنيا فسيعطينا لفضلنا في الآخرة، فكان تفكيرهم في الدار الآخرة إما استهانة واستهزاء بعذاب الله سبحانه، وإما استكباراً ونظراً للنفس بنظرة افتخار، يقولون: مثلما أعطانا في الدنيا سيعطينا في الآخرة، وإما أنه لا توجد آخرة أصلاً، فزين لهم الشيطان السيئ من القول، والسيئ من الظن.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [فصلت:25] وحق على هؤلاء أي: وجب عليهم ما قاله الله سبحانه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فحق عليهم قول الله سبحانه وتعالى، ووجب عليهم أن ينفذ فيهم ذلك، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فصلت:25] أي: ليسوا لوحدهم، بل هم والذين من قبلهم من الجن والإنس استحقوا عذاب الله سبحانه لتكذيبهم وإعراضهم.
وقوله: ((وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)) فيها ثلاث قراءات: {وَحَقَّ عَلَيْهِم الْقَوْلُ} [فصلت:25]، هذه قراءة أبي عمر: (وَحَقَّ عَلَيْهُمُ الْقَوْلُ)، هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف ويعقوب: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت:25]، هذه قراءة باقي القراء.
{إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، هذه وأمثالها من جمع المذكر السالم إذا وقف عليها يعقوب بخلفه فإنه يقف عليها بهاء السكت، كما ذكرنا قبل ذلك في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وقلنا: فإنه يقف عليها يعقوب بخلف عنه بهاء السكت.(403/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن)
قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] الله سبحانه يرينا مشهداً في الدنيا كانوا يعملونه وجزاءه في الآخرة، فهؤلاء كانوا يتعاملون مع القرآن ومع النبي صلى الله عليه وسلم بعلو الصوت، وليس بالنظر في الحجة، وبالمناظرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد تحداهم في كل المواطن فلما عرفوا أنهم عجزوا عن ذلك، كان الحل عند هؤلاء الأغبياء: رفع الصوت، واللغو واللغط، والصراخ، وإلهاء الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر الله عز وجل صورة من صور قذارة هؤلاء في معاملتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه: يا قوم! قولوا: كلمة واحدة، أشهد لكم بها عند الله، كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم، قولوا: لا إله إلا الله! فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت:26] أي: قال بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] أي: الغطوا، واصرخوا، وهيجوا، وقولوا ما تصرفوا به الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، والهوا غيركم عن هذا القرآن: {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] بذلك، فهم لم يستطيعوا أن يغلبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالحجة، فأرادوا أن يغلبوه باللغط والصراخ والقول الباطل كلما قرأ القرآن صلوات الله وسلامه عليه.
فكان كلما ذهب إلى مكان وجد وراءه من يقول: ابتعدوا عنه لا تسمعوا له إنه مجنون، إنه كذاب، إنه كذا، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه.(403/6)