تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن)
ثم قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32].
قوله: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ))، تشريف لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتخصيص بالخطاب.
قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] أي: أنتن لستن كغيركن من النساء، فقد شرفكن الله سبحانه وتعالى بأن جعلكن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم.
{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، ويجوز الوقف على (اتَّقَيْتُنَّ) وله معنى، ويجوز الوقف على: ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ويبدأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، وإن كان الأول أجمل، فالمعنى: أن النساء كلهن متساويات، والفرق بين امرأة وامرأة: التقوى.
فقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، أي: إذا اتقيتن سبحان الله وتعالى لستن كغيركن من النساء، ولكنكن أعلى منزلة وأشرف موضعاً، فـ (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) بتقواكن لله سبحانه وتعالى.
أي: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) صرتن عند الله عز وجل أشرف وأفضل من غيركن من النساء.
وتقوى الله سبحانه وتعالى ترفع الإنسان عند الله عز وجل درجات، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وما رفع الله الذين أوتوا العلم درجات إلا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد تقوى لله سبحانه، وازداد إحساناً في عمله، فيرفع الله المؤمنين عنده درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم فوقهم درجات بتقواهم لله سبحانه وتعالى.
إذاً: هنا: ((يا نساء النبي)) الخطاب لهن أنهن لسن كغيرهن من النساء بشرط، والشرط هو تقوى الله سبحانه وتعالى.
فالفضيلة عند الله بكونهن تقيات، ثم بكونهن نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا اتقين الله هنّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الدرجات الدنيا من الجنة، وليس في ربض الجنة، بل في أعلى الجنة، فلن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الجنة ونساؤه أسفل منه، بل يرفع الله الإنسان إلى منزلة من يحبه ممن هو أعلى منه، فيرفع الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكن معه في الجنة.
وعلى الوقف الثاني: وهو أن تقف عند قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ثم تقرأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
ولها معنى أيضاً، والمعنى فيها: أن الإنسان أحياناً إذا اتقى الله سبحانه وتعالى يتنازل، فتواضعه يجعل غيره يركب عليه ويخدعه ويطمع فيه.
إذاً: المعنى هنا: اتق الله سبحانه وتعالى، ولكن لا تكن ليناً بحيث تخدع في الشيء، والنساء في ذلك أولى، فالمرأة تكون تقية فتتواضع، ولكن لا يجعلها هذا التواضع تلين أمام الرجال في القول، والرجل حين يتواضع للرجال أكثر من حده ينقص قدره عندهم فلا يعرفون قدره.
والمرأة كذلك، فلو أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن يخضعن في القول مع الرجال بدعوى التواضع لطمع المنافق والفاسق، والذي يخاطب بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعلم بما في القلوب.
فإذا كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تربت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يحذرها الله من الخضوع في القول، فنساء المؤمنين أولى بهذا الحذر.
فلو أن إنساناً شريفاً كبيراً في قومه وله مهابة، تخاف أن تدخل بيته، وتستحيي أن تكلم نساءه أو تكلم أهله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أجل الخلق قدراً؟ إذاً: قليل أن يحدث مثل هذا الشيء، ومع ذلك فإن الله يحذر نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخضوع في القول للرجال.
فعلى ذلك فإن غير نساء النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فكل امرأة للرجال فيها مطمع، فنحن في زمان فسد أهله، وكثر فيه الخيانة والغش، وكثر فيه الخديعة، فعلى كل إنسان أن يحافظ على نفسه، ويحافظ على أهل بيته.
إذاً: حذر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضعن بالقول، فالمرأة تكون جادة في كلامها وتكون حازمة، لا تخنع بكلامها ولا تلين ولا ترخم صوتها لا بقراءة قرآن ولا بغيره، فإذا كانت المرأة تريد أن تقرأ القرآن وعلمت أن حول البيت رجال فلا يجوز لها أن ترفع صوتها بالقرآن، وخاصة إذا كانت تتغنّى بالقرآن، فلا يجوز لها أن تتغنى بالقرآن إلا مع نساء؛ لأن قراءة المرأة لكتاب الله أمام شيخ مدعاة للفتنة التي نهى الله عز وجل عنها.
إذاً: ليكن قولك قولاً فصلاً جاداً فيه الحزم وفيه القطع، وليس فيه الميل ولا التكسر أو التغنج، فلا يجوز للمرأة أن تصنع ذلك، حتى ولو كانت من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه اللاتي شرفهن الله سبحانه وطهرهن بموضعهن من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: احذرن من الخضوع بالقول مع الرجال.
وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وهل يصل المنافق إلى مطمعه؟ حاشا لله عز وجل، ومستحيل أن يكون ذلك.
لكن في زماننا قد يصل إلى مطعمه، والمصائب كثيرة، فعلى ذلك فإن المرأة تلزم بيتها، وتلزم الأدب الشرعي، وتلزم حجابها، ولا تخضع بالقول للرجال، ولا تختلط بهم، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.
ومعنى الخضوع بالقول: اللين والتكسر في القول بترخيم الصوت وتليينه إظهاراً للتواضع.
فعلى المرأة أن تلتزم وقارها وتلتزم الصمت، وإذا احتاجت لشيء تكلمت على قدر ما تحتاج، أما الأخذ والعطاء والإكثار من الكلام مع الرجل فهذا لا يجوز، والأصل في المرأة أن تلزم بيتها، فإذا خرجت لضرورة أو حاجة فليكن باللباس الشرعي، وليكن بالأدب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به.
قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: في كلامكن مع الناس.
أمرهن الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرأة يجب عليها إذا خاطبت الأجانب حتى وإن كانوا من المحارم بالمصاهرة مثلاً أن تكون في كلامها غير رافعة للصوت، ولا تعتاد ذلك، ولتكن حازمة في كلامها، لا لين فيه ولا تكسر، إلا أن يكون كلاماً ليناً مع زوجها أو مع محارمها مثلاً، فهي مأمورة بخفض صوتها، وليكن خفض الصوت لها عادة.(272/4)
معنى الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج
ثم قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وهذا خطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهن يقتدين بهن.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قدوة، والجميع يقتدون به رجالاً ونساء، ونساء النبي عليه الصلاة والسلام قدوة يقتدي بهن النساء، وقد طهرهن الله وأمرهن أن يلزمن بيوتهن، فغيرهن ممن لم يكن مثلهن أولى وأولى.
وإذا كانت المطهرة الشريفة الفاضلة مأمورة بذلك، فغيرها أولى بذلك.
يقول الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، أي: هذا أمر من الله سبحانه حتى يذهب عنكم الرجس والآثام، وما كان من ذنوب ومعاصٍ في الجاهلية، {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] سبحانه وتعالى.
وقراءة نافع وأبي جعفر وعاصم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].
وباقي القراء يقرءون: (وقِرنَ في بيوتكن).
والواو هنا عاطفة، وأصل الفعل من (قَرّ) إما من القرار أو الوقار، فكلا المعنيين مقصودان، تقول وقَر يقِر فهو وقور.
فقوله: ((وقَرن)) أي: كن ملازمات لبيوتكن.
وقوله: (وقِرن في بيوتكن) يأتي أيضاً بمعنى القرار، ويأتي بمعنى الوقار، أي: ليكن عليكن الوقار، في أي مكان تكنّ فيه، أو الزمن البيوت بوقار.
وقوله: (بيوتكن) بضم الباء هي قراءة حفص عن عاصم وورش وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب.
وباقي القراء يقرءونها بكسر الباء (بِيوتكن).
وقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (ولا تبرجن).
وقراءة البزي عن ابن كثير: (ولآ تَّبرجن) بالمد والتشديد، والمعنى: اللزوم فيها، كأنه شدد الكلمة للمبالغة في الزجر عن التبرج.
وأصل التبرج: الظهور، أو الإظهار، وتبرج الجاهلية معناه: المرأة التي كانت تظهر زينتها وحسنها وجمالها للناس، وتمشي متغنجة متكسرة، ومتبخترة أمام الرجال، فنهاهن الله سبحانه وتعالى أن يتشبهن بهؤلاء.(272/5)
معنى الجاهلية الأولى
قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
إذاً: هناك جاهلية أخرى، ستكون بعد ذلك.
والجاهلية الأولى: ما كان قبل الإسلام، وذكروا أنه من عهد آدم حتى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كل قرن جاهلية، وهي أن المرأة تبدي فتنتها وتبدي زينتها وتمشي أمام الرجال، فيراها الرجال وينظرون إليها، فذكر العلماء في الجاهلية الأولى أموراً مما كانت تصنعها المرأة في الجاهليات.
فمثلاً: مما جاء في ذلك، يقول الإمام القرطبي: الجاهلية الأولى: الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق، وتعرض نفسها على الرجال، وتمشي متبرجة، لكي ينظروا إليها.
وأنت ترى المرأة في هذا الزمان قاعدة ببيتها لابسة لباس البيت ومنظرها ظاهر التبرج، إذا نزلت إلى الطريق تتزوق؛ حتى ينظر إليها الرجال كما كان يصنع أهل الجاهلية الأولى.
يقول: تلبس الدرع من اللؤلؤ، والدرع: القميص المحلى باللؤلؤ، فتمشي حتى ينظر إليها الرجال وهي على ذلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بين نوح وإدريس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عشرة قرون، وقيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق لا تواري بدنها.
هذه الجاهلية الأولى.
وفي الماضي كانت المرأة تمشي وتضرب برجلها؛ حتى ينظر من في السوق إلى ساقها ورجلها، وتبدي شيئاً من صدرها، بل تبدي جميع مفاتنها، وتتفنن في السير على الطريق حتى ينظر إليها الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهي تعرض نفسها على الرجال، وتعرض نفسها على النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(272/6)
أحوال جاهلية اليوم
روي في صحيح البخاري أنه: (قوم من هذه الأمة يخرجون إلى عيد لهم ويذهبون إلى جانب علم -جبل من الجبال لمعصية الله سبحانه وتعالى- فيخسف بهم، ويسقط عليهم العلَم، ويمسخ منهم قردة وخنازير).
وذكر في حديث آخر: (أنه يخرج الرجلان إلى الفاحشة ويمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، ولا يمنع ذلك صاحبه أن يكمل ما هو فيه) لا يمنعه أنه يكمل مشيه إلى المعصية، رأى صاحبه مُسخ قرداً أو خنزيراً فلم يترك المعصية.
وانظر إلى الممثلات الآن ما الذي يحصل فيهن، ترى ممثلة متبرجة فاجرة، قد ابتلاها الله بأن سقطت من عمارة، وتلك أصيبت بالسرطان، وكذلك الرجال، ولكنهم لا يتعظون؛ لأن المال يغر الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (السعيد من وُعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه).
فالإنسان الذي يرى المصيبة في غيره فيتعظ هو السعيد، والإنسان الذي ينظر إلى غيره ولا يتعظ، ويحس أنه سينجو، ولن يحدث له شيء هو الشقي المبتلى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكم ترى من بلاء يحيط بالناس والناس لا يتعظون، والموت يفاجئ الناس، وكل يوم يصلون على جنازة في المسجد، مرة في الظهر، ومرة في العصر، ومرة في المغرب، ومن الناس من يقعد خارج المسجد ولا يصلي، ينظر الناس الميت داخلين به إلى المسجد وخارجين به، وكم من الناس من دخل المسجد والميت على ظهره ولا يصلي، ومن الناس من يتكلم خارج المسجد حال الخطبة وكأن الأمر لا يعنيه، ومن الناس من يقول: مكبرات الصوت التي في المسجد تزعجنا، والدروس تزعجنا، وهو لا يصلي ولا يعمل صالحاً، وتراه طوال النهار يضحك في الشارع.
وهل تستحق الرحمة عند رب العالمين بالصلاة عليك بعد الموت وأنت تارك للصلاة، وتارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخادع ربك سبحانه، وتخادع الناس، وفي النهاية تريد الرحمة من رب العالمين.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده السعداء، ولا يجعلنا من عباده الأشقياء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(272/7)
تفسير سورة الأحزاب (تابع) [30 - 33]
المرأة المؤمنة يجب عليها أن تتخلق بأخلاق الإسلام، وأن تقتدي بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين، فقد علمهن وأدبهن القرآن الكريم في كثير من الآيات، وعلى المرأة المسلمة أن تترك التخلق بأخلاق الجاهلية الأولى من التبرج والسفور والخضوع بالقول، وأن تعلم أن هذه الصفات هي ما يريد الغرب الكافر منها، من أجل أن يسيطروا على بلاد المسلمين.(273/1)
صفات المرأة المؤمنة(273/2)
المرأة المؤمنة لا تخضع بالقول
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:33 - 35].
في هذه الآيات من سورة الأحزاب وما قبلها من الآيات يخاطب الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو القدوة الحسنة وهن القدوة للمؤمنات، فقال قبل هذه الآيات: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى لهن بأن يلزمن الطاعة ونهي لهن عن الوقوع في المعصية، فمن وقعت منهن في معصية من المعاصي المعلومة المنهي عنها فإنه سيضاعف لها العذاب، فإذا اتقت ربها سبحانه وقنتت وخشعت وأذعنت له سبحانه وتعالى كان لها الأجر المضاعف عند الله سبحانه، قال جل وعلا: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31].
ثم أخبرهن أنهن لسن كغيرهن من النساء لأنهن قدوة للنساء، تقتدي بهن كل امرأة مؤمنة طيبة صالحة، لذلك فإن الخطأ منهن سيتبعن فيه، والطاعة منهن سيتبعن فيها كذلك.
فإذا أطعن الله ورسوله واتبعتهن المؤمنات على ذلك، كان لهن أجرهن وأجر من عمل بهذه الطاعة من بعدهن حتى تقوم الساعة، فقال سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: بتقواكن الله سبحانه لستن كأحد من النساء، فإن اتقيتن ربكن سبحانه فاحذرن من المبالغة في ذلك فتقعن في الخضوع بالقول مع الرجال.
بمعنى: تقوى الله سبحانه لا تدفعكن إلى اللين في القول مع الرجال الأجانب، فإنما تلين المرأة في القول مع زوجها أو مع محارمها، أما مع الإنسان الأجنبي فلا، حتى ولو كان هؤلاء الأجانب أبناء لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أو في حكم الأبناء، إذ هن أمهات المؤمنين ومع ذلك يحرم عليهن أن يخضعن بالقول مع الرجال الأجانب، ويحرم على المؤمنين الزواج منهن، وبذلك يكن قدوة حسنة لمن خلفهن.
قال الله سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، حتى وإن كنتن أمهات المؤمنين فلا تلن في القول، وليكن القول منكن قولاً فصلاً فيه الحزم، فيه التأديب، فيه التهذيب، فيه الإرشاد، فيه التبليغ لدين الله سبحانه.
قال سبحانه: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، التعليل أنكن لو خضعتن بالقول طمع الذي في قلبه مرض، مع أن الإنسان الذي يذهب إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم أو ليسأل أمهات المؤمنين هذا في العادة يكون على تقوى ويريد أن يتعلم الحكم الشرعي، ومن النادر أن يذهب الذين في قلوبهم مرض أو شك أو نفاق أو فسق؛ لأنه يخاف على نفسه من الفضيحة، بأن ينزل الله في شأنه قرآناً يفضحه بما قال، فإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرن بهذا، فغيرهن من النساء من باب أولى، ففي كل امرأة مطمع، وكما قالوا: لكل ساقطة لاقطة، فقد تكون المرأة صغيرة ويهواها شاب أو شيخ، وقد تكون المرأة كبيرة ويهواها إنسان، فإذا لانت في قولها وقعا في الهوى ووقعا في الحرام، فعلى الإنسان أن يخاف على نفسه من الوقوع فيما حرمه الله سبحانه ويجتنب الخلوة مع النساء الأجانب.
وعلى المرأة كذلك أن تجتنب المخالطة للرجال قال سبحانه: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: مرن بالمعروف وانهين عن المنكر، والمعروف: ما جاء في كتاب الله عز وجل من أحكام شرعية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(273/3)
المرأة المؤمنة تقر في بيتها ولا تتبرج
قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] من القرار وهو المكوث في البيوت، ومن الوقار، أي: ليكن عليكن الوقار والسكينة، ولا تخرجن من البيوت إلا للحاجة وللضرورة.
ثم قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، أي: واحذرن تقليد أهل الجاهلية الأولى، وهي ما كان قبل الإسلام، سواء ما كان قبله مباشرة أو ما كان قبله بزمان طويل حتى إلى عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو ما كان من جهل في الناس واتباع للشيطان بتبختر النساء وخروجهن متزينات يفتن الرجال، فنهى الله سبحانه وتعالى نساء نبيه عليه الصلاة والسلام عن تقليد هؤلاء.
فالشيطان يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، ولا يحب أن يكون الإنسان مطيعاً لله سبحانه، فهو يبغض بني آدم لأن آدم عليه السلام كان سبب دخول الشيطان النار، وذلك حين أمر الشيطان بالسجود لآدم فرفض، كما قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، أي: جحد وكفر واستكبر فاستحق أن يكون من أهل النار، والعياذ بالله.
فقال لله عز وجل: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، أي: لن أدخلها وحدي، وإنما سأدعو كثيراً من الناس إليها، فانظر استكبار الشيطان، وانظر رده على ربنا سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال في موضع آخر: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
فالشيطان يتربص بالفتاة المؤمنة وبالإنسان المؤمن حتى يغويه ويضله عن سبيل الله، والله عز وجل هدى الإنسان بهذا الكتاب العظيم وبين حدوده سبحانه، وحذر من تعدي هذه الحدود.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36]، فالحياة قصيرة جداً، فمهما ظننت أنها طويلة فإنك تجد الأيام والليالي سرعان ما تمر حتى تجد العمر قد فني وبعد ذلك تقابل ربك سبحانه وتعالى.
فليحذر الإنسان أن يغتر بالدنيا، أو أن يغتر بالشيطان أو بالشهوات والشبهات فيقع في المحرمات ويجادل بالباطل كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]، فمن تبع الشيطان أغواه وأضله عن سبيل الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:8 - 9].
أي: من الناس من يجادل في الله بلا علم ولا هدى ولا كتاب من الله تبارك وتعالى، ويتبع الشيطان فيما يقوله له: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9]، فالشيطان استكبر، وأولياء الشيطان يستكبرون أيضاً فيرفضون الحق الذي جاء من عند الله ويتبعون الشيطان على ما هو فيه من باطل وقد عرفوا أنه عدو لهم.
فأخبر الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وهنا يخبر الله سبحانه وتعالى ويبين ما يريده بأهل البيت وكذلك بالمؤمنين الذين يتبعونهم، فقال جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، أي: يريد الله أن يطهركم تطهيراً بهذه الأحكام، من عدم اتباع الهوى والشيطان، وعدم مخالطة الرجال، فاحذروا من الوقوع فيما حرم الله سبحانه من الفتن ومن الغرور ومن تقليد أهل الجاهلية الأولى.(273/4)
تبرج الجاهلية الأولى(273/5)
إظهار المرأة زينتها واختلاطها بالأجانب
ذكرنا أن الجاهلية الأولى هي ما كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم سواء ما كان قبله مباشرة أو قبل عهد نوح أو في عهد إدريس أو في عهد إبراهيم على نبينا عليه الصلاة والسلام، أو بعد ذلك في عهد موسى وعيسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
فقد كان بين كل رسول ورسول تظهر جاهلية وتظهر فتن ويظهر اختلاط بين الرجال والنساء وبغي ووقوع في الحرام، فذكر العلماء أن من فعل الجاهلية أن المرأة كانت تكشف عن شيء من بدنها، كأن تلبس القميص أو (الجلابية) وتكون مفتوحة من الجانبين بحيث تبدو الثياب التي تلبسها المرأة تحتها، فهذه من فعل الجاهلية الأولى.
كذلك ذكروا أنه في زمان داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، كانت المرأة تلبس قميصاً من در غير مخيط الجانبين، وكانت النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها.
أي إذا كانت المرأة جالسة مع زوجها كان يجلس معها صديقها كذلك، ونحن حين نسمع ذلك نستنكر ونقول: كيف يمكن أن يحدث هذا الشيء؟ وهذا يحدث الآن في الجامعات، فتجلس البنت مع أصدقائها في الكافتيريا وتتكلم معهم، وهذا هو فعل الجاهلية بل أسوأ، فقد كانت المرأة في الجاهلية تجلس مع رجل واحد وزوجها معها، والآن تجلس مع جملة من الأصدقاء، وتتزوج من وراء أهلها زواجاً عرفياً باطلاً محرماً، فتتزوج من إنسان بدون علم أحد، ثم بعد ذلك لعله يواقعها وتقول: زوجي، ثم يتركها بعد ذلك وتظل على هذه الحال، لا هي متزوجة ولا هي غير متزوجة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قالوا: وكانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، يعني: صديقها ينظر إليها إلى ما فوق إزارها إلى وجهها وإلى صدرها، وزوجها ينفرد بما تحت الإزار، قال: وربما سأل أحدهما صاحبه البدل، فهذا من الجاهلية ولا حول ولا قوة إلا بالله.(273/6)
تمشي المرأة وسط الرجال
وقال مجاهد: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج.
فالتبرج الذي يذكره مجاهد هو أن تمشي المرأة في وسط الرجال.
قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أراد الجاهلية التي لحقنها، يعني: كأنه يقول: الجاهلية الأولى التي لحقها الصحابيات؛ لأن التي عاشت منهن قبل الإسلام فترة وعاشت في الإسلام أدركنت ما كان يحدث فنبههن الله عز وجل بألا تعدن إلى مثل هذه الجاهلية التي رأيتنها قبل ذلك.
قال: فأمرهن بالانتقال عن سيرتهن وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وعدم الغيرة على المحارم؛ لأن أهل الجاهلية كان عندهم الزنا شيئاً عادياً، فكان الإنسان يذهب ويزني سراً أو علناً، وإن كان الذي يزني علناً يقبح نوعاً ما، فلم يكونوا ينكرون على أحد ولا حول ولا قوة إلا بالله، فجاء الإسلام ينهى عن الجميع، ظاهر الإثم وباطنه.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله عن الجاهلية الأولى: المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار للمحاسن للرجال إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً، فالمرأة إذا أبدت شيئاً من زينتها وتجملت للرجال في الطريق فهذه هي الجاهلية الأولى، وهذا لا يجوز شرعاً، فأمرهن بلزوم البيوت.(273/7)
موقف الغرب من التبرج
فالبيت هو مكان المرأة، والغرب قد ضاقوا ذرعاً من خروج المرأة ومن الفجور ومن الزنا الذي عندهم، فبدءوا يحاولون أن يضعوا قوانين لمكوث المرأة في البيت، بأن تترك العمل وتقعد في البيت، وتأخذ أجرها كاملاً لفعلها هذا.
يعني: أن الذين سنوا للناس خروج المرأة وتبرجها عانوا من مضار ذلك، وعرفوا كيف ضاعت بيوتهم، فلا يوجد فيها المودة والرحمة الموجودة في بيوت المسلمين، فالفتاة والغلام إذا كبرا أصبح أحدهم ليس له دخل بأهله؛ لأنه ابن الدولة وليس ابن أهله، فأبوه وأمه لا يقدران على ضربه أو تأديبه ولو كان صغيراً؛ لأنه يذهب للمدرسة فيعطونه تلفون الشرطة ويقال له: إذا قام أبوك أو أمك بضربك فاتصل بالشرطة وأخبرهم بذلك، فإذا حصل هذا الشيء مرات يؤخذ الطفل أو الفتاة من أبيها وأمها وتعطى لأسرة أخرى من الأسر التي ليس عندها أطفال وينتظرون مثل هؤلاء ليأخذوهم ويربوهم بعيداً عن آبائهم وأمهاتهم.
فإذا كان الأب والأم يمنع من ضرب الولد فسوف يصبح الولد عنده إباحية، وليس عنده التزام بأي آداب، ولأنه ابن الدولة وليس ابن أبيه ولا ابن أمه؛ فإنه حين يكبر الأب أو الأم فالولد يرميهم في الملجأ أو يرميهم في دار المسنين، فلا يوجد عندهم الاحترام الموجود في بلاد المسلمين، فالابن يحترم أباه ويحترم أمه ويعطف عليهما، ينفق عليهما، يرجو من وراء ذلك الثواب عند الله تبارك وتعالى.
تجد في بلاد المسلمين أن المسلم يحس أن أباه الشيخ الكبير، وأمه المرأة العجوز، فوق رأسه، وأنهما بركة البيت، وأن دعوة الأب ودعوة الأم سبب من أسباب دخول الجنة، وهذا الشعور لا يوجد عند الغرب؛ لأنهم يعيشون حياتهم هذه للاستمتاع فقط، فيذهب الأب للعمل في مزرعة بعيدة، بينه وبين ابنه آلاف الأميال، والابن يزوره كل سنة مرة أو كل سنتين مرة، ويموت يوم يموت ولا يوجد من يدفنه؛ لأنه لوحده في مكان بعيد من أجل المال الذي فرق بين الجميع.(273/8)
الغرب يصدرون الإباحية إلى بلاد المسلمين
فالآن وجدوا أن الأفضل هو في أن ترجع المرأة إلى بيتها، وفي الرجوع للجو الأسري، ولكن يرجعون على استحياء لئلا يقال: رجعتم إلى ما هو موجود في الإسلام الذي تزعمون معارضته، ولكنهم يصدرون القبيح إلى بلاد المسلمين.
فهم عرفوا أن الإسلام يجعل المؤمن مع المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وهم لا يريدون هذا الشيء، بل يريدون إنساناً متفككاً مسحوباً عن مجتمعه وعن أسرته، ليس بينه وبين أخيه المودة والرحمة، فقاموا يصدرون لبلاد المسلمين الصور العارية والإباحية الجنسية، بحيث ينتشر بين المسلمين الخلل الأخلاقي والديني، فإذا بهم لا يعرفون دينهم، بل يحبون الشهوات والفتن، وإذا بكل مسلم أصبح لا ينكر على أصحاب المنكرات وإن حدثت أمامه، ولا يتمعر وجهه إذا رأى رجلاً وامرأة في الطريق، وقد كان هذا الأمر من قبل لا يمكن أن يحدث أمام الناس، أما الآن فأصبحوا يقعدون مع بعض على البحر، الرجل مع المرأة، الشاب مع الفتاة، يتبادلون القبلات، يلعبون مع بعض، ولا أحد يتكلم، ولا غيرة موجودة، ولا أحد يأمر بمعروف وينهى عن منكر.
جاءت تعاليم الغرب إلى بلاد المسلمين، وأصبحوا يطمحون إلى أكثر من ذلك، وهو اللواط ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونادوا بأن الشذوذ حرية شخصية؛ حتى تتفكك عرى الإسلام وتتفكك بلاد المسلمين، ولا يكون في المسلمين من يقدر أن يقاوم الكفار.
أما الكفار فإنهم يزعمون التمسك بالدين، فاليهود دولة دينية، وأمريكا رئيسها رجل ديني مسيحي متعصب لهذا الشيء، فأول ما بدأ بحرب المسلمين قال: الحرب الصليبية، ثم رجع على استحياء وقال: لا أقصد هذا الشيء.
وهي كلمة مقصودة تماماً، فهي حرب صليبية على المسلمين، حرب تخرب ديار المسلمين، فأمريكا حين عرفت أن بترولها لن يكفيها ثلاثمائة سنة قادمة -كما كانوا يزعمون- ولا حتى عشرين سنة قادمة، بدءوا ينظرون: أين يوجد البترول؟ فإذا كان عند بحر قزوين في أفغانستان، إذاً لابد أن نأخذ أفغانستان.
البترول موجود في العراق، إذاً نأخذ العراق، موجود في بلاد الشرق الأوسط نضع أيدينا عليه، حتى يصبح هذا كله تحت سيطرتنا.
فليست القضية قضية تحرير ولا ديمقراطية ولا شيء من ذلك، إنما القضية قضية استيلاء على البترول؛ لأن الذي معهم سوف ينفد خلال سنوات قليلة، فقالوا: لابد أن نضع أيدينا على احتياطي البترول العالمي الموجود في هذه البلاد، وعرفوا أنهم لو جاءوا إلى هذه البلاد فجأة فإنهم سوف يقاومون من الشباب المتدين، فقالوا: لابد أن نخرب هؤلاء الشباب المتدينين، فندخل لهم الشهوات والشبهات، ندخل العري، ندخل الشكوك.
فبدعوى الإبداع سمح للشكوك في كل مكان، فيؤلف الإنسان كتاباً فيه سب لكلام ربنا سبحانه وتعالى، والاعتراض على الدين، والاعتراض على السنة، وفيه تسفيه أمور الدين، ولو اعترض أحد عليه، قيل له: أنت ضد الحرية، أنت ضد الديمقراطية، أنت تحارب الإبداع، فبذلك يسكت الكل، ويترك لهؤلاء أن يتكلموا، ويمنع وجود الإنسان المتدين الذي ينافح ضد اليهود وضد الغرب الكافر، وينادى بالقضاء عليه بأي صورة من الصور، فإذا بالشباب يصبح شباباً مخنثاً، لا يعرف شيئاً عن دينه، وهؤلاء هم الذين إذا دخل الكفار بلاد المسلمين وجدوهم أمامهم، يريدون لقمة سائغة وإن ضاعت بلاد المسلمين.
وقاموا بتحويط بلاد المسلمين، وذلك باختلاق مشكلة في البلد الفلاني من أجل أن يضع الكافر رجله فيه، ومشكلة في البلاد الفلانية الأخرى من أجل ضربها، فإذا بضربة في ليبيا وضربة في العراق وضربة في السودان وضربة في دارفور، وهكذا حتى يحوطون بلاد المسلمين، والمسلمون في ضياع ولا يشعرون بذلك؛ لأنهم تركوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وعرف هؤلاء الكفار كيف يدخلون إليهم من باب الفتن والشهوات، فالمرأة تركت بيتها فلا تعلم عن أبنائها شيئاً.
تجد الأبناء أصبحوا أبناء شوارع، يجلس يتعلم من صاحبه في الشارع، واقف على قارعة الطريق طول النهار، لا يوجد شغل عنده، أو جالس على القهوة، أو جالس في نادي الفيديو أو في نادي الإنترنت ليشاهد الإباحيات، ويا ليته يشاهد شيئاً ينفعه في دينه أو دنياه، وإنما أخذوا كل سلبيات الغرب وكل الإجرام في البعد عن دين الله سبحانه.
يشاهد أفلام الشهوات، ويحاول أن يقلد ذلك، فكثر الاغتصاب في بلاد المسلمين، وكثر الخطف، وكثرت الفواحش ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإسرائيل كانت تحارب المسلمين بإرسال فتيات إلى بلاد المسلمين على الحدود، وهؤلاء الفتيات مصابات بالإيدز؛ لأنهم عرفوا أن المسلمين ممكن أن يقعوا في الزنا بسهولة فيدخل الإيدز بلاد المسلمين عن طريق ذلك.
وكل طريقة يقدرون أن يخربوا بها بلاد المسلمين فإنهم يفعلونها، حتى أرسلوا حبوب زراعية توضع في الأرض، فإذا خرجت فإنها تملأ الأرض دوداً فتخرب الأرض ولا يبقى فيها خيرات، فإذا بك تأكل الفاكهة فتجد أنها ليس لها طعم، وتأكل الحبوب فلا تجد لها طعماً كذلك، ما هو الذي حصل فيها؟ لقد خربوا على المسلمين ما كان في بلادهم.
حرب ظاهرة وحرب باطنة، يخربون العقول والكفاءات، فإذا ظهرت كفاءات عالية في بلاد المسلمين فإنهم يخطفونها وتبقى عندهم في بلادهم، وإذا لم يقدروا على هذا فإنهم يقتلون علماء المسلمين في بلادهم، بحيث تبقى دول المسلمين دولاً متخلفة، لا دين فيها ولا شباب قوي فيدخلونها بمنتهى البساطة.
ولذلك كانوا طامعين أنهم حين يدخلون العراق فإن أهل العراق سوف يقابلونهم بالورود؛ لأنهم عرفوا أن الناس ابتعدوا عن الدين في العراق، فالناس هناك ضيعوا دينهم من فترة فضاعوا وتفرقوا شيعاً، فهم قد درسوا أحوال المسلمين وما هم عليه، فقالوا: سندخل العراق وسيستقبلوننا بالورود، ولكن الذين وقفوا لهم هنالك هم أهل الدين، وإن كانوا قلة وإن كانوا ضعفاء، ولكن الله يثبت من يشاء.
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يذل الكفر والكافرين، وأن يرينا فيهم يوماً يأتي عليهم فيه عذاب من عند الله وبأيدي المؤمنين، اللهم آمين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(273/9)
تفسير سورة الأحزاب [33 - 35]
نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنساء المسلمين، فإذا نهاهن الله عن التبرج والاختلاط وأمرهن بلزوم البيوت، فنساء المسلمين أولى بامتثال ما أمر الله سبحانه واجتناب ما نهى الله عنه، ففي ذلك تطهير للقلوب والأبدان من رجس الشيطان، والإناث والذكور كلهم معنيون بأمر الله ونهيه، ومجازون على كل عمل يعملونه.(274/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:33 - 35].
في هذه الآيات من سورة الأحزاب أمر من الله سبحانه وتعالى لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهن، وهن القدوة الحسنة للنساء اللاتي يقتدى بأفعالهن وأقوالهن؛ لأنهن تعلمن من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك قال الله سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، فأمرهن بالوقار في البيوت ولزوم البيوت وهذا هو حجاب الشخوص، أن تلتزم بيتها ولا تخرج فيراها الناس، سواء خرجت بحجابها أو خرجت من بيتها في كامل ثيابها، وحولها ما يواريها، فأمرها الله عز وجل، بقوله: الزمي البيت، لا تخرجي من البيت.
قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وعليكن السكينة والوقار، واحذرن من التبرج، والتبرج بمعنى: الظهور والزينة، قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
وذكرنا في الحديث السابق تبرج الجاهلية الأولى وما كان النساء يفعلنه من ظهور أمام الرجال وفتنة، يحرش الشيطان بها بين النساء والرجال، وما وجد على الأرض من فتنة أشد على الرجال من النساء، فالنساء فتنة؛ ولذلك حذرهن الله سبحانه وتعالى من التبرج وقال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].(274/2)
تفسير قوله تعالى: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة)
ثم أمرهن سبحانه: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، طاعة الله سبحانه عامة، ومن خصوصيات الطاعة: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية، فهنا أمرهن الله سبحانه بالاستعانة بذلك على طاعة الله سبحانه، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا مما يعين الإنسان على طاعة الله سبحانه، يصلي فيكون قريباً من ربه سبحانه فيدعوه، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، ويزكى فيكون سمحاً جواداً كريماً، يبذل فيأخذ الأجر العظيم من الله سبحانه، ويظهر الإيمان بالصلاة وبالزكاة، بالعبادة البدنية وبالعبادة المالية.
قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] في كل شيء، أي: في كل ما أمركن الله سبحانه وتعالى.(274/3)
تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)
ثم أمرهن سبحانه: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، طاعة الله سبحانه عامة، ومن خصوصيات الطاعة: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية، فهنا أمرهن الله سبحانه بالاستعانة بذلك على طاعة الله سبحانه، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا مما يعين الإنسان على طاعة الله سبحانه، يصلي فيكون قريباً من ربه سبحانه فيدعوه، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، ويزكى فيكون سمحاً جواداً كريماً، يبذل فيأخذ الأجر العظيم من الله سبحانه، ويظهر الإيمان بالصلاة وبالزكاة، بالعبادة البدنية وبالعبادة المالية.
قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] في كل شيء، أي: في كل ما أمركن الله سبحانه وتعالى.(274/4)
دخول نساء النبي في خطاب أهل البيت
ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، أي: أهل بيته صلى الله عليه وسلم.
والواضح من سياق الآيات أن الله عز وجل يوجه الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهن الأصل في ذلك، فقد قال الله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:30 - 33]، أيضاً هذه أوامر لنساء النبي.
ثم قال بعدما أمرهن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وكأن الجملة هنا تعليلية، يعني: أمرناكم بكذا ونهيناكم عن كذا لعلة ولسبب، وهو أنا نريد أن نذهب عنكم الرجس يا آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وواضح أن السياق من أول الآيات في خطاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهن داخلات في أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآيات.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع مجموعة ممن كانوا معه من آل بيته، منهم: علي بن أبي طالب، وابنته فاطمة، والحسن والحسين ووضع كساء عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، اللهم هؤلاء أهل بيتي)، فهؤلاء آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هؤلاء فقط هم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
ليسوا هم فقط، بل إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك بكثير، فآل العباس من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وآل علي بن أبي طالب وذريته من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون من أهله صلى الله عليه وسلم من بني العباس ومن بني علي بن أبي طالب كلهم من أهله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون من آل بيته عليه الصلاة والسلام.
هنا في هذا الحديث كانت أم سلمة واقفة، ووجدت النبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم في الكساء وقال (اللهم! هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنا الرجس، فقالت: وأنا يا رسول الله؟ فقال: أنت على خير، أنت على مكانك).
فهنا لا ينبغي أن تأتي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وتكون تحت كساء فيه من ليس محرماً لها، فهذا الكساء تحته علي بن أبي طالب رضي الله عنه وليس محرماً لها، ولذلك لم يدخلها، ولم يقل لها: تعالي أنت أيضاً معنا تحت هذا الكساء، ولكن قال: (على مكانك، أنت على خير).
إذاً: واضح من التعليل الذي ذكره ربنا سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، أن الخطاب الساري فيها لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فدلت الآية على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من آل بيته، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم على أن هؤلاء من أهل بيته: علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عن الجميع، فالسيدة أم سلمة قالت: (وأنا معهم يا رسول الله؟! قال: أنت على مكانك، وأنت على خير) فهي على خير وهي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قوله: (أنت على مكانك) أي: لا تدخلي معنا تحت الكساء، فلا ينبغي أن تكون هي مع من ليس محرماً لها تحت كساء واحد.(274/5)
ليس من أهل البيت من مات كافراً
وبنو هاشم كذلك من آل بيته عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفاً له، وليس معنى ذلك: أن يكون من أهل بيته عليه الصلاة والسلام من مات كافراً، مثلما مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلما مات أبو لهب قبل ذلك، فهنا الخطاب للمؤمنين من آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، أن الله يريد أن يطهرهم تطهيراً وأن يذهب عنهم الرجس.(274/6)
نفي العصمة عن أهل البيت
وهل معنى ذلك: أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يكونون معصومين؟! ليسوا معصومين، إنما المعصوم من كان نبياً لله سبحانه وتعالى، يعصمه الله بمرتبة النبوة، ومرتبة الرسالة، وهذه هي العصمة من الله عز وجل لمن يشاء من خلقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
إذاً: لا يقال إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم معصومون، هذا خطأ وليس بصواب، فليس أحد معصوماً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا بأنبياء، إنما هو وحده فقط صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، يريد الله ذلك، وإذا أراد الله شيئاً لابد أن يكون، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وجعل نساءه القدوة الحسنة للأمة، فكل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلغت دين ربها، فأحسنت ووفت بما عاهدت ربها سبحانه وتعالى عليه، وبلغت ما بلغها النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت الأمة، وعمِّر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده سنين طويلة، حدثن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة تعلمتها الأمة منهن ومن أصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.(274/7)
تفسير قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)
قال سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34].
فهنا أمرهن بالعبادة اللازمة والعبادة المتعدية، والعبادة اللازمة كالصلاة، وكل طاعة الله سبحانه من العبادات هي عبادة لازمة؛ لأن الثواب لصاحبه، والعبادة المتعدية كتبليغ العلم، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
فالآيات: القرآن، والحكمة: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكله من عند الله سبحانه وتعالى، فالله نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الذكر ليبين للناس ما نزل إليهم، وبين صلوات الله وسلامه عليه للناس ما نزل عليه من عند ربه سبحانه، فالكتاب والسنة كلاهما من عند الله سبحانه، بلغهما النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعها أصحابه رضوان الله عليهم ومنهم نساء النبي عليه الصلاة والسلام، فبلغن وذكرن.
إذاً: أمرهن الله عز وجل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله سبحانه ورسوله، وعلل فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، يريد الله سبحانه وتعالى ذلك، فافعلن ذلك حتى يطهركن الله عز وجل تطهيراً عظيماً، فكن على ما أراد الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو في بيت هذه آيات، وفي بيت هذه آيات، فتعرف هذه أحكاماً، وهذه أحكاماً، ويبلغن ذلك عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه من الحكمة في تعدد أزواج النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]، الله سبحانه وتعالى في علمه اللطف، وهو العلم الدقيق، والعلم بالخفايا، والله سبحانه لطيف في قضائه وقدره، فهو الذي يقدر الشيء ويكون لطيفاً بعباده سبحانه وتعالى في تشريعه وفيما قدره لعباده وقدره عليهم.
ولما ذكر الله اللطف والخبرة فالمقصود بها دقة علم الله سبحانه وعلمه بكل شيء دقيق وجليل، عظيم وصغير، قريب وبعيد، جلي وخفي، فالله يعلم كل شيء.
كذلك من لطفه سبحانه أن أراد بهن الخير العظيم، وأمرهن بالحجاب، وأن تلزم الواحدة منهن بيتها ولا تخرج من بيتها إلا لضرورة من الضرورات، ليقتدي نساء الأمة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم.
لو كان الخطاب لنساء الأمة فقط دون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لقال نساء الأمة: لا نستطيع ذلك، لكن وجدن القدوة الحسنة في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تخرج الواحدة من بيتها إلا إذا كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ونحو ذلك، أو للحج أو للعمرة، وبعد وفاته التزمن البيوت، فكن لا يخرجن إلا لحج أو لعمرة، إلا ما كان من عائشة رضي الله عنها لما خرجت للإصلاح بين الناس بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وكان ما كان مما حدث يوم الجمل، وإنما أرادت أن يراها الناس فيوقرون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويلتزمون أحكام الله سبحانه وتعالى وتخمد الفتنة، ولكن أرادت شيئاً، وأراد الله عز وجل شيئاً آخر.
فكان الأصل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم المكث في بيوتهن، فلكي تقتدي نساء الأمة جعل الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لهن وأمرهن بما في هذه الآيات، وجعل لهن الأجر العظيم إذا أطعن، وجعل عليهن العقوبة الأليمة إذا عصين، فصرن قدوة للنساء في التزام حكم الله سبحانه وتعالى.(274/8)
تفسير قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)
قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر ما ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر أنه أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
روى الإمام الترمذي من حديث أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما أرى كل شيء إلا للرجال) يعني: تقصد أن الآيات التي تنزل في القرآن: أن الله أعد للمؤمنين المغفرة والأجر العظيم، فيذكر المؤمنين بصيغة جمع المذكر السالم، ويذكر المسلمين ويذكر المحسنين، وكل شيء مذكور فيها بجمع المذكر السالم، فيقصد به الرجال، والنساء لم يذكرن؟ لكن في اللغة العربية إذا اشترك الرجال والنساء في شيء، فالخطاب يكون للرجال، ويدخل معهم النساء، لكن إذا كان الخطاب للنساء فلا يدخل معهن رجل واحد، فهنا إذا اجتمع مجموعة من النساء ومعهم رجل واحد، وأردت أن توجه الخطاب يكون الخطاب بصيغة جمع المذكر، فإذا كن كلهن نساءً فالخطاب بصيغة جمع المؤنث.
فإذا خوطب النساء وحدهن يكون الخطاب بصيغة المؤنث، وإذا ذكر الرجال وحدهم يكون بصيغة المذكر، وإذا ذكر الرجال والنساء أو رجل ومجموعة من النساء يكون الخطاب بصيغة المذكر.
فهذه المرأة الأنصارية قالت: (وما أرى النساء يذكرن بشيء) فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، وهذا حديث صحيح رواه الإمام الترمذي رحمه الله.
ذكر الله عز وجل عشر صفات في هذه الآية، أول هذه الصفات قال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ} [الأحزاب:35] وحتى قوله سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
فالإسلام هو الأصل هنا، والإسلام دين رب العالمين سبحانه، وهو عبادات ظاهرة وباطنة، فإذا ذكر الإيمان فالمقصد ما هو أعظم وأعلى درجة، وإذا جاء الإسلام وحده، وتكلم عن الإسلام يدخل فيه الإيمان ويدخل فيه خصائص الإسلام والإيمان والإسلام والإحسان، وإذا ذكر الإيمان وحده كان كذلك، وإذا ذكر الإحسان كان كذلك، لكن إذا جمع الجميع فهي مراتب بعضها فوق بعض.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت) أي: العبادات الظاهرة.
قال: (قال: صدقت، فما الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: صدقت).
فلما اجتمع الإيمان والإسلام كان الإسلام العبادات الظاهرة، والإيمان ما كان في قلب الإنسان، فإذا قال: المسلم، فيقصد به من جمع كل شيء في الإسلام، وإذا قال: المؤمن، فيقصد به من جمع كل شيء في الإسلام، كما يقولون: إذا اجتمعا انفردا وإذا انفردا اجتمعا، فعلى ذلك الإسلام يدخل فيه الدين كله، والإيمان كذلك، وإذا اجتمع الاثنان يكون المقصود بالإسلام الأعمال الظاهرة، وبالإيمان الأعمال الباطنة، والأعلى من ذلك الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فهنا بدأ بما يشترك فيه الجميع: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، فلهن كما للرجال من المغفرة والأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35]، القنوت: الخضوع والإذعان والذل لله سبحانه والخشوع والطاعة، وكل إنسان قانت لله سبحانه خاشع، ومطيع لله، وقائم في الصلاة لله سبحانه وتعالى، ومقبل على الله سبحانه لا يلتفت عنه.
قال تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35]، أي: صدقوا في سرهم وصدقوا في جهرهم، يتكلم فيصدق، ويعاهد ربه سبحانه فيصدقه، ويعد فيفي، ويبايع فيصدق في بيعته، فالمؤمن صادق؛ لأنه يخاف الله سبحانه، والله أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، فالزم الصادقين تتعلم منهم الصدق، وتتعلم منهم الوفاء، وتكن معهم في الدنيا؛ فتحشر معهم يوم القيامة، قال تعالى: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: صدقوا في كلامهم وحديثهم.
قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35]، والصبر على ثلاثة أشياء: يصبر الإنسان على طاعة الله، فيلتزم ما أمر الله عز وجل به ويفعله، فيصبر على الطاعة.
ويصبر الإنسان عن المعصية: ينهاه الله، لا تقع في الفواحش، لا تقع في الزنا، لا تسرق، لا تزن، فيستجيب لله مهما وجد أمامه من مغريات.
فالمؤمن صابر على طاعة الله، صابر عن المعصية، إذا رأى شيئاً حراماً غض بصره وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر مهما كانت الفتن داعية للإنسان، ومهما كان الشيطان يحركه ويدفعه إلى الخطأ، فالمؤمن يخاف من الله ويصبر على طاعة الله، ويصبر نفسه كما قال الله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
إذاً: صبر على الطاعة، صبر عن المعصية.
كذلك يصبر على قضاء الله وقدره: فالمؤمن يصبر على البلاء، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فالله يفتن المؤمن، ويختبره بشيء من البلاء ويذيقه، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، تنزل به المصيبة فلا يلطم خده، ولا يشق ثيابه ويحلق شعره، ولكنه يصبر ويتصبر ويقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، فهو يفوض الأمر لله ويتسلى بذلك.
ويقول: (إنا لله) أخذ مني مالي وسيأخذني، والمال مال لله، وأنا عبد لله سبحانه، فأنا لله وأنا راجع إليه، فهو يذكر نفسه، فالمؤمن يتصبر بذلك ويقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، فيأتي الجزاء العاجل من الله سبحانه، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، فالله يصلي عليهم ويرحمهم، ويثني عليهم سبحانه وتعالى ويمدحهم، ويجعلهم من الفائزين عنده، وأولئك هم المفلحون عند الله سبحانه وأهل التقوى.
فالصدق مع الله سبحانه والصبر على قضاء الله وقدره وعلى أوامره وعلى نواهيه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(274/9)
تفسير سورة الأحزاب الآية [35]
ذكر الله سبحانه في سورة الأحزاب عشرة أصناف وعد الله بدخولهم الجنة ومغفرة ذنوبهم، ومنهم المتصدقون والمنفقون في سبيل الله، وقد حث الإسلام على الإحسان إلى الفقراء والمساكين ومراعاة أحوالهم.(275/1)
ذكر عشرة أصناف وعد الله سبحانه بدخولهم الجنة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفات ينبغي أن يتحلى بها كل إنسان مؤمن، وهي طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، والاتصاف بهذه الأوصاف العشرة التي ذكرها الله عز وجل في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35] إلى قوله سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] والناظر في هذه الآية يجد صفات بعضها أعلى من بعض، والمفترض أن تكون جميعها في كل إنسان مؤمن يخاف الله سبحانه ويرجو رحمته.
فمن يرد جنة الله فليتصف بذلك، أو ليكن فيه قدر عظيم من كل صفة.(275/2)
الصنف الأول والثاني المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات
فهو المسلم الذي دخل في دين الله وأظهر شعائره سبحانه، وهو المؤمن الذي في قلبه الإيمان الذي يحركه، ويدفعه إلى أن يأتي جميع وجوه الخير والبر والإحسان.(275/3)
الصنف الثالث القانتون والقانتات
وهو القانت لله سبحانه المذعن الخاشع له، وهو الذي يقوم في الصلاة باستقامة، فيتصل بربه سبحانه في صلاته، كما قال الله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].(275/4)
الصنف الرابع الصادقون والصادقات
الصادق مع نفسه، والصادق مع ربه، والصادق مع الخلق، فالصدق من الأمور الواجبة في دين الله سبحانه وتعالى، ومن صحة إيمان الإنسان أن يكون صادقاً في إيمانه، وصادقاً في قوله: (لا إله إلا الله)، وصادقاً في حبه لله سبحانه وفي حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك من الصدق أن يكون صادقاً مع نفسه وصادقاً مع الخلق، فلا يرائي ولا ينافق ولا يسمع بهتاناً ولا يقول شيئاً ويقصد شيئاً آخر إلا أن يكون في حرب ونحوه، كذلك لا يجادل الناس، فإذا أخطأ رجع على نفسه باللوم، ورجع إلى ربه سبحانه وتعالى بالتوبة، واعتذر لمن أخطأ في حقه.
والمؤمن الصادق لا يظهر شيئاً ويبطن خلافه؛ لأن صدق الكلام وصدق النية وصدق الإخلاص من علامات إيمان الإنسان الصادق مع ربه سبحانه.(275/5)
الصنف الخامس الصابرون والصابرات
قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35] فهم صبروا على قضاء الله وقدره، وصبروا على أوامر الله فأطاعوه، وصبروا عن نواهي الله سبحانه فاجتنبوها، وانزجروا عنها وتركوها؛ لأنهم يخافون الله سبحانه وتعالى، وإيمانهم ولد في قلوبهم الخشية التي تدفعهم للرضا بقضاء الله سبحانه وقدره، فالإنسان قد يحزن لنزول بلاء به ولا مانع من ذلك، وقد يبكي من ذلك ولا مانع من ذلك أيضاً، لكن أن يتضجر أو أن يتسخط على الله أو أن يتلفظ بما لا يليق فهذا الذي يمنع منه.
ومعلوم أن عين الإنسان تدمع، وقلبه يحزن، ولكن لسانه لا يتكلم إلا بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مات ابنه إبراهيم وهو ينظر إليه: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا سبحانه وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
فقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35] أي: أن يصبر المؤمن وأن تصبر المؤمنة على البلاء إذا نزل، فلا تصرخ المرأة المؤمنة ولا تنوح، ولا تشق الجيب من شدة المصيبة التي نزلت بها، بل تصبر وتتصبر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
فمن صفات الإنسان الخاشع أن يرجع إلى الله في مصيبته ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا يتكلم إلا بخير، فإذا وجد في نفسه شيء سكت عن الكلام وانتظر حتى يذهب عنه بعض ما هو فيه، ويشكر الله سبحانه ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
والصابر إن صبر على فقد قريب فله عند الله عز وجل الأجر العظيم على صبره فقد يوفقه الله للقائه، فهو لا يدري متى يموت، وكم من إنسان فقد من يحبه ثم مات والتقى بمن يحبه؛ توفيقاً منه سبحانه؛ لذلك فالإنسان المؤمن يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى.
وقد علم الإمام الشافعي رحمه الله أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله توفي ابن له، وعلم أنه حزن على فراق ابنه، فأرسل الإمام الشافعي إليه يعزيه ويقول له رحمه الله: إني معزيك لا أني على طمع من البقاء ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد صاحبه ولا المعزي وإن عاشا إلى حين فالإنسان إذا حزن على فراق حبيب له قد يموت بعده، والفرقة لن تكون طويلة جداً، وإن عاش في الدنيا وصبر فله الأجر عند الله سبحانه.
ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، ومات الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم، فلابد أن نجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، ونقتدي به صلى الله عليه وسلم، فقد مات كل أولاده في حياته صلى الله عليه وسلم عدا فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ماتت بعده، فكانت من أعظم الصابرين بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه، كيف لا وهي التي فقدت أمها وجميع أخواتها وإخوتها في حياتها رضي الله عنها، وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وكان لا يجرؤ أحد أن يقرب منه وهو يؤذى من أهل مكة إلا فاطمة رضي الله عنها، فكانت تخرج لترفع عن أبيها صلوات الله وسلامه عليه ما ألقاه عليه الكفار من سلا بعير ونحوه، وترد عليهم وتشتمهم رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فأي صبر أعظم من صبر السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها؟! هذه امرأة تقتدي النساء بها رضي الله عنها، لأنها اقتدت برسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك يصبر على الفتن التي يراها أمامه، ويواسي نفسه أنه غداً يلقى الله سبحانه وتعالى، كما كان الصحابة يقولون: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
وكل مصيبة لا بد أن تنقضي، فليس هناك شيء يدوم، فإما أن تزول المصيبة وإما أن يموت الإنسان ويستريح من الدنيا وما فيها، كذلك يستعين الإنسان على الصبر بكثرة قراءته لكتاب الله سبحانه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.(275/6)
الصنف السادس الخاشعون والخاشعات
قوله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35] فيتعلم الإنسان الخشوع إذا قرأ القرآن، ويستحضر المعاني العظيمة والجليلة في كتاب الله عز وجل، وإذا قرأ القرآن بكى، فإن لم يبك تباك ويقتدي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يقرأ القرآن ويسمع لصدره أزيز صلوات الله وسلامه عليه من بكائه وخوفه من الله سبحانه وتعالى.
ويفعل الإنسان ذلك شيئاً فشيئاً حتى يرق قلبه؛ بكثرة قراءته للقرآن، وقراءته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته الطيبة العظيمة، وبكثرة استغفاره ربه سبحانه وتعالى، فبذكر الله تطمئن القلوب وترق.
وإذا أراد الإنسان أن يخشع ويرق قلبه فليستشعر جلال الله سبحانه، وعظمته سبحانه، وينظر إلى الفقراء وإلى الأيتام ويمسح على رءوسهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أردت أن يرق قلبك فاربت على رأس اليتيم).
والذي لا ينهر المسكين، ولا الأرملة، ولا ينهر الذي يطلب منه شيئاً من معونة ونحوها يرق قلبه، ويخشع لله سبحانه وتعالى.
والإسلام دين عمل وتطبيق، فتطبق ما يقوله الله سبحانه، ليس كلاماً فقط، فكم من إنسان يتكلم عن الرقة وعن الخشوع ولا يرق قلبه ولا يبكي من خشية الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان يتكلم عن المساكين وعن الأيتام وعن الأرامل، فإذا جاءه المسكين أو اليتيم أو الأرملة نهره ولم يعطه شيئاً وقد يكون المال معه.
وأبأس من هذا البائس من يكون لديه مال لغيره فيبخل به عن اليتيم وعن المسكين وعن الأرملة وعمن يحتاج، بل محروم من خير الله سبحانه من يأتيه مسكين يطلب منه شيئاً وهو يقدر أن يعينه ويعلم أنه مسكين ويحرمه ولا يعطيه.
وأبأس من هذا من معه مال لغيره قد وكله في توزيعه على الفقراء، فيأتيه الفقير والمسكين فلا يعطيه شيئاً.
إن الخشوع والخوف من الله عز وجل شيئان لا يقالان باللسان وإنما يخرجان من القلب ويصدقهما عمل الإنسان.
لقد أوقفتني هذه الآية مع شيء حدث، وهو أن جاءت امرأة مسكينة إلى المسجد وابنها محتاج إلى نقل دم وتقول: إن ابنها في القاهرة يريد أن يعمل عملية في القلب، وهي تحتاج إلى مال، فلم يعطها أحد شيئاً، وبعد أيام أعطاها أحد الإخوة مالاً لذلك، فلما جاء إليها مات ابنها، وجاءت تطلب كفناً من أحد يعينها.
فلم تجد أحداً في المسجد، ومن الناس من يقول لها: الأكفان في المخزن، لكن الأكفان كبيرة، فلم تجد كفناً على مقاسه؛ فحزنت جداً مما حدث، هذه امرأة وابنها ميت وتريد كفناً، فيقال لها: إن الأكفان الموجودة في المسجد كبيرة، وهذه مأساة، فقد كان بإمكانها أن تأخذ كفناً كبيراً وتقصه وترمي ما بقي منه بعيداً أو تتصدق به.
فلابد للإنسان أن ينظر للفقير ويضع نفسه مكانه، فالطبيب الجراح قد تعود على أن يعمل عمليات جراحية؛ لذلك فإن قلبه شديد.
وكذلك الإنسان الذي يتعامل مع الفقراء والمساكين فمن كثرة تعوده على أن يأتي الفقراء والمساكين إليه يصبح الأمر بالنسبة له سهلاً، فأين رقة القلب؟ وأين الخوف من الله سبحانه.
لكن إذا جاء الفقير أو المسكين الذي يكذب على الناس فجزاء أمثال هؤلاء أن لا أحد يعطيهم شيئاً، لكن الإنسان الذي ابنه في المستشفى وهو مريض محتاج ولا يسأل الناس فهذا الذي يستحق أن يعطى.
وإذا مات إنسان فإن تكفينه ودفنه فرض كفاية، وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع، وإذا لم يكن هناك مقبرة فلابد أن يتعاون الجميع على دفنه وإلا يأثم الجميع على ذلك؛ لأن هذه من فروض الكفاية التي تدرس في أحكام الجنائز.
ولا يستحق الإعانة من يقف على باب المسجد، فهم كذابون وأدعياء، وقد يكونون خاطفين للأطفال، فمثل هؤلاء لا نساعدهم.
ومن الناس من يدافع عنهم، وهل يدافع عن إنسان تارك للصلاة؟! حيث إن الناس يصلون وهو واقف خارج المسجد لا يصلي، وينتظر الناس حتى إذا أتموا الصلاة أخذ يطلب منهم، فليس هذا المسكين الذي نقصده، إنما المسكين والفقير هو الإنسان المحتاج الذي تعرفه، قال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] ولقد رأيت امرأة مسكينة جاءت تطلب وهي تحكي قصتها، وبجوارها أحد الإخوة الأفاضل يسمع قصتها ويبكي لبكائها.
فأنت تتقرب إلى الله عز وجل بإعانة هؤلاء، وتطلب الجنة من الله بهم فلا يكن قلبك قاسياً، إذا جاءك الفقير لا تعطيه شيئاً، فإن هذا لا يليق أبداً ولا نحب أن نسمع مثل هذا أبداً.
وكم من إنسان كان يطلب من الناس وصار مليونيراً بعد ذلك، والله أعلم متى تتقلب الموازين؛ لذلك فإن رقة القلب وخشوعه يدفع الإنسان للعمل، ويدفعه إلى أن يشفق على المحتاج.(275/7)
الصنف السابع المتصدقون والمتصدقات
فقوله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35] عقبها الله بقوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب:35] فلن يتصدق الإنسان إلا إذا كان في قلبه الخشوع لله سبحانه والخوف من العذاب ومن العقوبة ومن السؤال يوم القيامة.
ومن الأسئلة يوم القيامة: جاءك فلان يطلب منك كذا فلم تعطه، وطلب فلان منك كذا فلم تعطه، ومرض عبدي فلان فلم تعده، ومات فلان فلم تصل عليه، فماذا يكون الجواب على ذلك؟ فأعدوا للسؤال جواباً واحذروا من غضب الله سبحانه وتعالى، واخشعوا لله كما أمر.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(275/8)
تفسير سورة الأحزاب [36 - 37]
كان التبني عادة جارية في أوساط المجتمع الجاهلي، وقد استمرت حتى بزغ نور الإسلام، وما إن نزل تحريم التبني حتى امتثل الرسول والصحابة لأمر ربهم جل في علاه، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب التي كانت زوجاً لزيد بن حارثة، والذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه.(276/1)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(276/2)
تقديم اختيار الله ورسوله على اختيار العبد لنفسه
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:36 - 37].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين من سورة الأحزاب: أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
فالله أعلم بخلقه سبحانه، ويختار لهم الخير، فلا اختيار للعبد على ما اختاره الله سبحانه.
كذلك: النبي صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى وإنما يتكلم بوحي من الله تبارك وتعالى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم لمؤمن أو لمؤمنة أمراً من الأمور لم يكن لهم أن يختاروا بعد اختياره صلوات الله وسلامه عليه.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، ووصفهم في هذه الآية بالإيمان لتهييج باعث الإيمان في قلب الإنسان.
فالإنسان المؤمن هو الذي يستجيب لله وللرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أن ما اختاره الله واختاره الرسول عليه الصلاة والسلام له خير مما اختاره هو لنفسه.
فذكر الله عز وجل المؤمن والمؤمنة وكان من الممكن أن يقول: (وما كان لمؤمن إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة) ويكون ذكر المؤمن مغنياً عن ذكر المؤمنة، ولكن حتى لا يظن أن هذا للمؤمن الذكر دون الأنثى، فنص على الاثنين كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ…} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية.
فالله سبحانه وتعالى ويذكرنا بأن ما اختاره لنا خير مما اخترناه لأنفسنا، وما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لنا خير مما نختاره لأنفسنا إن كنا مؤمنين.
قال تعالى: {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ} [الأحزاب:36] وهذه قراءة الجمهور.
أما نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكذلك ابن ذكوان عن ابن عامر فيقرءون: (أن تكون لهم الخيرة من أمرهم).
يعني: ليس لهم اختيار في أمرهم بعد اختيار الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.(276/3)
سبب نزول الآية
نزلت هذه الآية في سببين: في السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
والسيدة زينب بنت جحش أراد النبي صلى الله عليه وسلم تزويجها من زيد بن ثابت، فكرهت ذلك وكره أخوها ذلك، فقد نظرت إلى نفسها أنها بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمها هي عمة النبي صلى الله عليه وسلم فهي شريفة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تتزوج من زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولى.
وقد كان عبداً عند السيدة خديجة أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه النبي صلى الله عليه وسلم ومنّ عليه بالعتق ثم تبناه صلوات الله وسلامه عليه قبل أن يحرم الله عز وجل التبني؟ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيداً من زينب بنت جحش رضي الله عنها، فأبت زينب ذلك وجاء القرآن يخبر أنه إذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا بد وأن يكون ما اختاره عليه الصلاة والسلام، هذا سبب من أسباب نزولها.
السبب الآخر هو في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ليتزوجها، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لها غيره، فإذا بها لا تريد ذلك وكرهت وكره أخوها أيضاً أن تتزوج غير النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت الآية تعلمهم أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهم هو خير من اختيارهم لأنفسهم، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فإن كان سبب النزول خاصاً في أمر النكاح ولكنه عام، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فعموم اللفظ: أي اختيار يختاره النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في أمر حياتهم، أو في أمر جهادهم ومغازيهم، أو في أمر عملهم، وفي أي أمر من الأمور، فالخير للناس أن يتبعوه عليه الصلاة والسلام.(276/4)
معنى قوله: (ومن يعص الله ورسوله)
قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
{إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب:36] أي: إذا أمر بأمر من الأوامر.
{وَمَنْ يَعْصِ} [الأحزاب:36] فدل على أنه لا يجوز عصيانه، وهذه قاعدة يضعها الكثير من الأصوليين: أن الأمر على الوجوب، فإذا أمر الله والرسول صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يختاروا، بل إنه من اللازم عليهم أن ينفذوا الأمر فإنهم إذا لم ينفذوا فقد عصوا.
قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فالذي يعصي أمر الله وأمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه فقد عصى، وهذا دليل على أن الأمر يدل على الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراً فالأصل فيه أنه واجب التنفيذ إلا أن تأتي قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب، كأن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعل شيء ثم يخالفه أحياناً، فهذه قرينة تدل على أن الأمر على الاستحباب، وإلا لما خالفه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أحياناً.(276/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك)(276/6)
قصة زواج زيد من زينب بنت جحش
قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
(إذ تقول) أي: اذكر إذ تقول.
{لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] وهو زيد بن حارثة رضي الله تبارك وتعالى عنه وهو الاسم الوحيد الذي ذكر في القرآن من أسماء غير الأنبياء، وكأنه ذكر مكافأة لـ زيد رضي الله تبارك وتعالى على صبره وعلى تنفيذه أمر الله سبحانه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أنه أخذ منه شيء فعوض بما هو خير منه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وزيد كما ذكرنا كان عبداً أعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه في قصة ذكرناها قبل ذلك.
وبعد أن حرم الله التبني رجع نسبه إلى آبائه رضي الله عنه، فـ زيد أنعم الله عليه بنعمة الإيمان، وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة العتق، وأنه تبناه عليه الصلاة والسلام، فحصل على نعمة من الله سبحانه.
قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] فزوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً من زينب بنت جحش، وعلم الله سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ورضي الله تبارك وتعالى عن ذلك، فأبت وتضايقت من ذلك فنزلت الآية تؤدب وتهذب الجميع فرضيت، ولكن في معيشتها معه كانت لا تحب عشرته، فكانت تتعالى عليه وتعيره أنه كان عبداً، فضايقه هذا الأمر حتى كاد أن يطلقها، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه؛ لأنه هو الذي زوجها إياه، فأوحى الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون ذلك، وأن زيداً سيطلق امرأته وستكون زوجتك.
فاستحيا النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يخبر زيداً أنه سيطلقها في يوم من الأيام وسيتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فكتم عليه الصلاة والسلام هذا الشيء في نفسه، فهو لم يكتم أمراً أمر بتبليغه، وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كتم شيئاً يخصه هو، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لـ زيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] وهذا من حيائه عليه الصلاة والسلام.
فإذا بالقرآن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم يقول له: لا تستحي، فهذا أمر ليس فيه حياء وإحراج لك، فقد أبحنا لك ذلك، والأمر الذي يحرجك أن تخالف أمر الله سبحانه وتعالى، وأنت لم تخالف فلا حرج عليك في هذا الشيء، فهو سيطلقها وأنت ستتزوجها.
فجاءه زيد فقال له عليه الصلاة والسلام: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] فإنه يسن لنا من السنن: أن الإنسان إذا جاءه آخر يشكو إليه امرأته يريد طلاقها، أن نقول له: اصبر، واتق الله، وأمسك عليك زوجك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لـ زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه وسن للناس أن يذكر بعضهم بعضاً، وألّا يعين بعضهم بعضاً على الطلاق من أول مرة.
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه بذلك ونزل في القرآن هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] وانظر كيف يخاطب الله عز وجل نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
فالله له فضل عليكم جميعاً، وأنت لك فضل على هذا الإنسان، فبدأ يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويعاتبه ويبدأ بذكر نعمة النبي صلى الله عليه وسلم على زيد رضي الله تبارك وتعالى بعد نعمة الله عليه.(276/7)
عتاب الله لنبيه في إخفاء أمر الزواج من زينب
قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] أي: أخفى أن الله أوحى إليه أن زيداً سيطلقها، وأنت ستتزوجها، وجاءه زيد يقول: أنا أريد أطلقها، فقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]، وهو في نفسه يعلم أنه سيطلقها وستكون زوجة للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
وبين الله عز وجل سبب إخفاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ قال الله عز وجل: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب:37] فيعلمه ويعلم المسلمين أنه لا حرج عليك في ما أباحه الله عز وجل لك، حتى وإن كان الناس ينتقصونك في ذلك، فالأمر الذي يجب أن يضايقك ويضرك هو الذي يكون في غضب الله سبحانه.
أما إذا كان في طاعة الله فلا حرج فيه ولا تحرج أبداً من تنفيذ أمر الله سبحانه.
قال تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] أي: أن الله أحق أن تستحيي منه، فلا تستحي من الخلق في طاعة الله سبحانه، وأطع ربك تبارك وتعالى ولا تتحرج من الناس فلا قيمة لرأي الناس إن خالفوا الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:37] أي: تزوجها ودخل بها وقضى منها حاجته ثم تعالت عليه فكره البقاء معها، قال: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37].
فأصبح الأمر بالزواج بالسيدة زينب بنت جحش من عند الله تبارك وتعالى، وعوض زيداً عن فقدانه امرأته بهذه الآية الكريمة أن ذكر اسمه فيها، بل وفيها بشارة لـ زيد بأنه من أهل الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد قتل شهيداً في غزوة مؤتة رضي الله تبارك وتعالى عنه مع جعفر بن أبي طالب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم ومع عبد الله بن رواحة شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(276/8)
جواز زواج الرجل بزوجة متبناه إذا طلقها
قال الله عز وجل: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37].
وفي هذه الآية تعليل آخر وبيان سنة من سنن الله تبارك وتعالى، فقد كانوا يدعون في الجاهلية التبني، كأن يتبنى الرجل إنساناً ويقول: أنت ابني وأنا أبوك ترثني وأرثك، أنت مني وأنا منك، مع أنه ليس منه، فلم يزل هذا الشيء حتى جاء الإسلام.
فكان من حكمة الله سبحانه أن يتبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، ثم تنزل الآية تنهى عن ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من نفذ ذلك، على الرغم من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب زيداً حباً شديداً وزيد فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعلى أخيه وعلى عمه، فقد جاء أهله يبحثون عنه وعلموا أنه في مكة عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا يطلبون ابنهم وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ندفع لك الذي تريد وتعطينا ابننا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو خيراً من ذلك؟) أي: أعطيكم خيراً من ذلك؟ (فقالوا: وما هو؟ قال: يختار زيد، فإن اختاركم فخذوه، وإن اختارني فما أنا بالذي يختار على من اختاره) فجاء زيد وأبوه يبكي عليه وعمه يطلبه وأخوه كذلك وزيد يقول: لا أختار على النبي.
وأهله كانوا كفاراً ومع ذلك فرحوا بأن زيداً طلب النبي صلى الله عليه وسلم ومكث عنده ورجعوا مسرورين بذلك، فصار ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم بالتبني، فنزل القرآن يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فلا يجوز لكم التبني، فأول من ترك ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع زيد إلى اسمه، فقد كان يطلق عليه زيد بن محمد فرجع إلى زيد بن حارثة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض: أن الله سبحانه ذكر في هذه الآية: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] قال: أدعيائهم، ولم يقل: أبناءهم لأنههم ليسوا أبناءهم، فكان الكفار إذا حدث منهم مثل هذا الشيء يعيرون من يحدث له ذلك ويقولون: تزوج زوجة ابنه أو دعيه، فلما نزلت هذه الآية إذا بالله عز وجل يقول: لا حرج في أن يتزوج الإنسان زوجة من كان قد تبناه إذا طلقها، كما جاز للنبي صلوات الله وسلامه عليه أن يتزوج من السيدة زينب {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37] أي: إذا قضى الله شيئاً لا بد وأن يكون.
ونرى في هذه الآية: أن الله سبحانه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج من السيدة زينب كان السفير بينه وبينها زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه، فصارت عظيمة في نظر زيد، وكان يقول زيد رضي الله عنه: ما أجد في نفسي، قال: فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخاطبتها ففرحت، وإذا بها ترد الفضل إلى الله سبحانه وتقول: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فأصلي لله وهو يأمرني بما يشاء سبحانه، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها.
فصنعوا وليمة الزفاف وصارت زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم وأماً للمؤمنين بما فيهم زيد الذي كان زوجها يوماً من الأيام وعوضه الله عز وجل عن ذلك بأن ذكره في القرآن وذكر نعمته عليه.
نسأل الله عز وجل من فضله ونعمه العظيمة إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(276/9)
تفسير سورة الأحزاب الآية [41]
رغب الإسلام في المداومة على الذكر، فالذاكر يتحصن بالذكر من الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، وكلما ازداد الإنسان ذكراً ازداد قرباً من الله فيأنس بربه سبحانه، وذكر الله يكون في الرخاء والشدة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر.(277/1)
فضل الذكر(277/2)
ذكر الله سبب للقرب من الله
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:41 - 44].
يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه الآيات بأن يكثروا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله فيما سبق من الآيات عشر صفات للمؤمنين والمؤمنات بدأها بقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وانتهى بأعلى الدرجات فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
فكلما ازداد الإنسان ذكراً لله، ازداد قرباً من الله سبحانه، فإذا كان ذكر الإنسان ربه قليلاً ابتعد شيئاً فشيئاً حتى ينسى الذكر وحتى يأتيه الشيطان فيتسلط عليه.
إن ذكر الله يطرد الشيطان، وذكر الله عز وجل يجعل الإنسان يخاف من الله، فيخاف من المعاصي، فإذا وقع في معصية سارع وبادر إلى التوبة إلى الله سبحانه.
وإذا أراد أن يقع في فاحشة ذكر الله فاستغفر، وتاب، ورجع، وأناب، وامتنع من الوقوع في المعصية، وفيما يغضب الله سبحانه وتعالى.
وقد أمرنا الله سبحانه بذكره كثيرا، فذكر الله سبحانه هو الأنيس للإنسان المؤمن، فلا يجعله يستوحش أبدا ما دام مع الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان الذي يركن إلى الناس، ويستأنس بهم، سرعان ما يفارقونه، لسبب أو لغير سبب، فيستوحش، أما الذي يأنس إلى الله سبحانه وتعالى فلا يهتم لذلك، سواء كان الناس كثيرين معه أو كانوا قليلين، فهو لا يهتم لأمر الناس، إنما يهتم لأمر دينه ولأمر ربه سبحانه.(277/3)
قراءة القرآن ذكر لله
والقرآن كتاب الله أعظم ذكر، وخير جليس لا يمل حديثه، والإنسان الذي يجالس القرآن لا يمل أبداً من ذكر الله سبحانه، ومن تلاوة كتابه الذي فيه نبأ من قبلنا وخبر ما بعدنا، وفيه قصص يقصها الله سبحانه وتعالى علينا؛ لتكون لنا عبرة وذكرى، وفيه أحكام الله سبحانه، وفيه ذكر الجنة، وذكر النار، وذكر الأنبياء، وصبرهم عليهم الصلاة والسلام، وفيه شريعة الله تبارك وتعالى، والحرف منه بعشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء من فضله سبحانه.
فهذا القرآن العظيم لا يمل الإنسان من ترداده، ومن ذكره، ومن قراءته ومن سماعه، فهنا يأمرنا الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] أي: تذكره بكل وجه من وجوه ذكر الله تبارك وتعالى، فإذا كنت في الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر.
ونحن نعلم أن الله فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، ولكن ذكر الله يكون في الصلاة وفي غير الصلاة، فهو يستوعب اليوم كله، فالذاكر ربه سبحانه مستحيل أن يترك الصلاة، فهو عندما يصلي يذكر الله، وعندما يخرج من الصلاة فيختم صلاته يذكر الله، وعندما يخرج من بيته إلى الطريق يذكر الله، وعندما يدخل بيته يذكر الله، وعندما يقوم أو ينام، يذكر الله سبحانه، فهو لا يمل من ذكر الله، بل يستمتع ويستعذب ذكر الله سبحانه وتعالى، يستعذب ذكر الله حين يأكل ويشرب، وحين ينام أو يستيقظ من نومه، وحين يذهب إلى السوق، وحين يقضي حاجته، وحين يلقى أخاه المسلم فيسأله عن حاله مع ربه سبحانه، فالإنسان المؤمن ذاكر لله أبداً، وهو مستمتع بذلك.(277/4)
ذكر الله لمن يذكره
والله سبحانه يذكر ذاكره، قال الله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه) فتذكر الله سبحانه في نفسك كي يذكرك، ولا ينسى ربك أحداً، وتذكر الله إذا كنت في ملأ، كأن تكون في حديث مع قوم فتقول: تعالوا نذكر الله عز وجل، ونتدارس آيات من كتابه، أو تعالوا نتكلم عن أمر من أمور ديننا، نتفقه فيه، فإذا ذكرت الله في مجموعة ذكرك الله عز وجل في ملأ من الملائكة خير من الذين أنت فيهم، وكلما زادت الجماعة زاد الله عز وجل من خيره ومن فضله.
وإذا تذكرت الله فإنه يعصمك سبحانه وتعالى، فالذي يكثر من ذكر الله، وسؤاله، ودعائه في السراء وفي الرخاء، هذا جدير أن يستجيب الله له في وقت البلاء والضراء؛ لأنه اعتاد أن يذكر الله، فهو لا يذكر الله في وقت البلاء فقط، بل هو في وقت الرخاء ذاكر لله، ومستأنس بذكره، فهو متشبه بأهل الجنة، فهم يستعذبون بالتسبيح والتحميد وذكر الله، ويلهمون ذلك كما يلهم الإنسان النفس، انظر إلى نفسك الذي يتردد في داخلك، فأنت تستمتع بأنك تتنفس، وانظر حينما يصيبك زكام وأنفك ينسد كيف يكون حالك؟ فأهل الجنة يلهمون ذكر الله، ويلهمون التسبيح والتحميد كما نلهم نحن في الدنيا النفس، حيث إن النفس يتردد، ويمكن أنك لا تنتبه للنفس الذي يخرج ويدخل إلا عندما يكتم عنك النفس.
فأنت مستمتع بأن تشم رائحة طيبة، وتستمتع بالنفس الذي يملأ صدرك، كذلك أهل الجنة يستمتعون بذكر الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن في الدنيا يتشبه بأهل الجنة، وقد قال الله النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، أي: وهو معهم، فذاكر الله يتشبه بأهل الجنة في الإكثار من ذكر الله سبحانه: مسبحاً، حامدا، مهللاً، مكبراً، فيذكر الله فيقرأ القرآن، ويذكره فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويذكره في كل حال.(277/5)
ندم المرء على مجلس لم يذكر الله فيه
فذكر الله أعظم من أي شيء، قال الله سبحانه آمراً المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا} [الأحزاب:41] أي: أكثروا من الذكر، فجاء بالمفعول المطلق للتأكيد، ووصفه للتبيين ولشدة التأكيد على ذلك، حتى تهتم لذكر الله سبحانه، وحتى لا تضيع الوقت في غير ذكر الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مجلس يجلسه اثنان فأكثر لا يذكرون الله فيه ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة يوم القيامة) أي: كان عليهم حسرة، فكل مجلس يجلس فيه الناس لا يذكرون الله سبحانه وتعالى كان عليهم حسرة يوم القيامة، فإذا كان الشخص يقول: تعال نتحدث عن الكرة، أو نتحدث عن المباراة، أو نتحدث عن الممثلين، أو نتحدث عن الأغاني، أو عن دنيا، فإذا جاءوا يوم القيامة فيتذكرون هذا المجلس، كان عليهم هذا المجلس حسرة، كأنهم قاموا عن قتيل قتل لهم، فانظر إلى حزن الإنسان حين يصل إليه خبر قتل فلان، فإنه يصاب بالحسرة والكمد والغيظ، كذلك هذا حاله مع نفسه يوم القيامة حين يتذكر: ما الذي جعلني أجلس مجلساً لا أذكر الله فيه، لو كنت أذكر الله من قبل لنفعني هذا الذكر لله سبحانه وتعالى.
وأيضاً في الحديث الآخر: (ما من قوم يجلسون في مجلس ثم يقومون عنه ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد قاموا عن مثل جيفة حمار) كأنهم جلسوا على وليمة، والوليمة التي جلسوا عليها يأكلون منها حماراً ميتاً منتناً.
فإذا ذكر الإنسان المؤمن ذلك كان الشاغل الأكبر له هو ذكر الله سبحانه وتعالى، فيذكره في كل حاله، فإذا ذكرت الله فالله معك، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
فالله سبحانه مع المؤمن التقي، فهو يذكره سبحانه، وينصره، ويؤيده، قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
فأنت إذا ذكرت الله ذكرك الله، فإذا ذكرك الله كان الخير كله لك من فضله سبحانه وتعالى، والذي يذكر الله ربه سبحانه فلا يستوحش من الدنيا طالما أن الله معه، يذكر الله سبحانه، ولا يحب أن يضيع وقته في غير ذكر الله سبحانه وفي غير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كنت تمشي في الطريق وستصل إلى بيتك في خمس دقائق أو في عشر دقائق، فمن الممكن لك أن تقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات أو أكثر فتبني لك قصراً في الجنة؛ لأن من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، عشر مرات يبنى له بيت في الجنة، فعندما تقرأ سورة الإخلاص مرة أخرى عشر مرات يبنى لك بيت في الجنة، أليس من الخسارة أن نضيع الوقت في اللهو وفي الكلام الذي لا ينفع، وفي الغيبة، والنميمة، وقول الزور، ولا نستغل وقتنا في ذكر الله تبارك وتعالى.(277/6)
الفرق بين صلاة الله وصلاة المؤمن وصلاة الملائكة(277/7)
مضاعفة الأجر لمن صلى على رسول الله
إن من الفضائل التي حث عليها الإسلام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا) >والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فإذا صليت واستمتعت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل يصلي عليك بكل مرة عشر مرات، أي: يرحمك، ويثني عليك سبحانه وتعالى عشر مرات، فإذا أكثرت كان من الله عز وجل أكثر وأكثر، ويبلغ نبيه صلى الله عليه وسلم أن فلاناً يصلي عليه، فتكون كلما أكثرت من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قريباً منه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنك أكثرت من الصلاة عليه.
وجاء في الحديث أن أبي بن كعب سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أكثر من الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي؟ -أي: الدعاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شئت، وما زدت فهو خير لك، فقال له: أجعل لك الربع من دعائي؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك دعائي كله، فقال صلى الله عليه وسلم: إذاً يغفر لك ذنبك، وتكفى ما أهمك) أي: يكفيك الله سبحانه وتعالى كل هم من الهموم، ويغفر لك ذنبك أيضاً بهذا الفعل.
فانظروا إلى عظمة الله وكرمه سبحانه على عباده الذين يذكرونه، ويصلون على النبي صلوات الله وسلامه عليه.(277/8)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لله عز وجل
إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي ذكر لله عز وجل، فإذا قلت: اللهم يا رب صل على نبيك صلى الله عليه وسلم! سألت الله فذكرته، ودعوت لنبيك صلى الله عليه وسلم بأن يصلي عليه ربه سبحانه، فكان ذكراً لله، وعندما تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم تحصل على الأجر العظيم، وكذلك عندما تسبح الله وتحمده وتهلله وتكبره يكون لك الأجر العظيم، وكلما عرفت الثواب في ذكر الله سبحانه ازددت حرصاً على ألا تفرط وألا تضيع ذلك، وألا تتلهى عنه بشيء كائناً ما كان.
وإن من ذكر الله عقب الصلاة أنك إذا قرأت آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعك من دخول الجنة إلا أن تموت، فإذا مت على ذلك، فهو فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى لك.
وإن كنت تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة، يكتب الله لك مائة حسنة، ويمح عنك مائة سيئة، ويكن لك عدل عشر رقاب، أي: كأنك أعتقت عشرة من العبيد، ويكن لك حرزاً من الشيطان يومك حتى تمسي.
وإذا كنت ذاهباً إلى السوق، فقلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وكل ذلك في نصف دقيقة، فإن لك أجر مليون حسنة، أي: ألف ألف حسنة عند الله سبحانه وتعالى في هذا الذكر.
فلو كان على لسانك ذكر الله حين تذهب إلى السوق وحين ترجع منه، حين تمر على الناس، وحين تسلم على المسلمين، وحين توقظهم من غفلتهم لكان لك الأجر العظيم من الله سبحانه، فلا تتكبر على الخلق، إذا مررت على الناس فسلم عليهم، وقل: السلام عليكم ورحمة الله، سواء ردوا عليك أو لم يردوا عليك، فقد تمر على أناس لا يردون السلام، فلا تمتنع من إلقاء السلام، بل ذكرهم، وأيقظهم من غفلتهم، فإذا ردوا عليك كان الأجر لك ولهم، وإذا لم يردوا عليك السلام فالملائكة ترد عليك، وفضل الله عظيم، وكرمه واسع سبحانه وتعالى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41].
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42] البكور: أول النهار، والعشي: آخر النهار، والآصال: قبل دخول الليل وعند دخول الليل، والمعنى: أنك دائماً تذكر الله في أول النهار، وفي آخر النهار، وبين الاثنين، أي: اذكروا الله دائما، {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، وسبحوه سبحانه، أي: قولوا: سبحان الله، نزهوه عن كل عيب وعن كل نقص، سبحانه وتعالى.
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:43]؛ لأنه هو سبحانه المستحق لذلك، فاذكروه يذكركم سبحانه وتعالى، واشكروه يزدكم من فضله، ولا تنسوا أنه هو الذي يثيبكم وهو الذي يرحمكم سبحانه، وهو الذي يثني عليكم عند ملائكته، وهو الذي يصلي عليكم، وكذلك ملائكته سبحانه.(277/9)
الفرق بين صلاة الله وصلاة المؤمن وصلاة الملائكة
فالمؤمن يصلي، والله يصلي، والملائكة تصلي، وفرق بين الصلوات: فالمؤمن يصلي أي: يدعو ربه سبحانه، ويعبد ربه بصلاته هذه.
والملائكة تصلي أي: تدعو للمؤمنين أن يغفر الله لهم، فصلاة الملائكة الدعاء، {((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] هذه هي صلاة الملائكة عليكم، تستغفر لكم ربكم سبحانه، وتدعو لكم بالرحمة.
والله يصلي أي: يستجيب لهذا الدعاء ويثني على المؤمن، ويعطيه من فضله.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(277/10)
تفسير سورة الأحزاب [41 - 44]
أمر الله عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن؛ لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب، ولأنه تعالى أخرجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين، ويوم القيامة أعد لهم الأجور العظيمة، وأسكنهم جناته جنات النعيم، ورحمهم في الدنيا بالهداية، وفي الآخرة بأن أمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.(278/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41].
أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه الآية أن يذكروا الله سبحانه وتعالى ذكراً كثيراً، فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)).
والمؤمن يذكر الله حتى يذكره الله.
لا تنس ربك، لا تنس ذكر الله، تذكر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقك، وهو الذي يرزقك، وهو الذي يتوفاك ويحاسبك، فأكثر من ذكره سبحانه وتعالى.
فقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)).
ذكر الله يكون في الصلاة وفي غير الصلاة، تذكر الله سبحانه في كل أحوالك، وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقوم ويصلي من الليل ويقول: (يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، جاء الموت بما فيه، وأزفت الآزفة، جاءت الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه) فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الثلث الأخير من الليل بذكر الله سبحانه وتعالى، ويخبرهم أن الموت آتيكم، كما قال الله سبحانه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] فأخبر بالماضي على الشيء الذي سيكون؛ لتأكيد مجيئه وإتيانه، فالموت آت آت.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكر في سعة إلا ضيقها، ولا ذكر في ضيق إلا وسعه).
الموت عجيب أمره، الموت قدره الله سبحانه وتعالى على العباد، ولابد أن يكون في بال كل إنسان وفي قلبه، فيذكر الله سبحانه ويذكر أنه راجع إليه فذكره ربه سبحانه ينفعه، وصلاته وصومه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ينفعه.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
فالإنسان الذي يعتاد ذكر الله سبحانه يثبته في وقت وفاته، ويجعله يقول: لا إله إلا الله ويثبت عليها، ويبشره الله سبحانه حتى يتوفاه على هذه الكلمة الطيبة.
لذلك ينظر المؤمن أمامه وينظر في غده، وينظر أنه سيلقى الله يوماً من الأيام، فليعمل لهذا اليوم من الآن ولا يسوف، ويقول: غداً أفعل غداً أفعل، لعل الغد لا يأتي عليه، ولعله يأتي عليه وهو غير قادر على العمل، فلذلك هنا نكثر من ذكر الله، فإن ذكر الله يعين على فعل الطاعات، وذكر الله يعين على اجتناب المحرمات.(278/2)
تفسير قوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلاً)
قال الله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42] يعني: دائماً، في أول النهار وآخر النهار، يعني: إذا ذكرنا ربنا في أول النهار لا نكتفي، بل نذكره سبحانه ونسبحه في أول النهار وفي آخره.
وأكثر من ذكر الله في كل أحوالك، وقد عرفنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كيف أنه كان يجلس في المجلس الواحد ويستغفر الله سبعين مرة ومائة مرة وكان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من الاستغفار، ويسأل ربه الجنة ويتعوذ بالله من النار.
ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الإنسان إذا كان في مجلس وذكر الله وقال: اللهم إني أسألك الجنة ثلاث مرات، وقال: اللهم أجرني من النار ثلاث مرات، قالت الجنة لربها: اللهم أدخله الجنة، وقالت النار لربها: اللهم أعذه مني)، هذا إذا قال ذلك في مجلس واحد ثلاث مرات، فإذا أكثر من ذلك في يومه وقال سبع مرات في كل يوم: (اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار) ويكرر، فإن الجنة تطلب من ربها أن يدخل الله عز وجل هذا العبد الجنة؛ لأنه يسأل الجنة، وكذلك إذا تعوذ بالله من النار سبع مرات، فالنار تقول لربها سبحانه: اللهم أجره من النار.
لذلك ينبغي للمؤمن أن يكثر من الدعاء ومن ذكر الله، ويكثر من سؤال الله عز وجل الجنة والتعوذ بالله من النار.
قوله: ((وَسَبِّحُوهُ)) أي: نزهوا الله سبحانه وتعالى وقدسوه بلفظ التسبيح (سبحان الله)، (فسبحان) مصدر، وأصلها أسبح الله تسبيحاً، أي: تقول لربك: أسبحك يا ربي وأنزهك عن أي نقص، وأقدسك.
والتسبيح يأتي بمعنى الذكر، بقول: سبحان الله، ويأتي بمعنى صلاة النافلة، ومنه صلاة السبحة، أي: صلاة النافلة.
فإذاً: أكثر من ذكر الله في فريضتك وفي نافلتك وفي غير الصلاة، أكثر من ذكره سبحانه في الغدوة وهي أول النهار، والأصيل والعشي أي: آخر النهار، فلا تترك وقتاً من يومك ولا من ليلك إلا وتذكر الله سبحانه وتعالى فيه.(278/3)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته)
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب:43] أي: يرحمكم سبحانه ويستجيب دعاء الملائكة الذين يستغفرون لكم ويدعون لكم، فالله يصلي عليكم، وصلاة الله عز وجل على عباده بمعنى رحمة منه سبحانه ومغفرة، وبمعنى الثناء، وهو أن يثني على العبد ويذكره في ملأ خير من الملأ الذي هو فيه.
وملائكته يصلون عليكم بمعنى يستغفرون لكم ويدعون الله عز وجل أن يرحمكم.
قوله: ((لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) أي: من رحمته أن أرسل إلينا رسولاً كريماً صلوات الله وسلامه عليه، وأن نزل عليه هذا القرآن العظيم ليخرج العباد من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان واليقين.
قوله: ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)) أي: الله هو الرحيم وهو الرحمن، وهو المعبود سبحانه، فهو رحيم ورحمن وكلاهما صيغة مبالغة من الرحمة، فهو ذو الرحمة العظيمة الواسعة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:156 - 157] أي: هؤلاء الذين يستحقون الرحمة هم الذين اتبعوا النبي صلوات الله وسلامه عليه على دين الإسلام، دين رب العالمين سبحانه.
الفرق بين الرحيم والرحمن أن الرحمة في الرحمن تعم جميع خلقه مسلمهم وكافرهم، فمن رحمته أن أرسل الرسل لهداية الخلق فهو الرحمن سبحانه وتنزل المصيبة بكل مخلوق سواء كان مؤمناً أو كان كافراً، ويخففها الله سبحانه ويزيلها عن الجميع، فهي من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى.
وتنزل النازلة العظيمة بالعبد في الدنيا فيدعو ربه سبحانه سواء كان مؤمناً أو كان كافراً، ويقول: يا رب يا رب.
وقد يكون الكافر مظلوماً ويدعو ربه فتصعد دعوته إلى الله عز وجل، فيستجيب الله له وينصره ممن ظلمه فهو الرحمن سبحانه.
وقال هنا: ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)) إذاً: فالرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين فقط، وهي الرحمة التي تكون يوم القيامة، فهو يرحمهم في الدنيا ويرحمهم في الآخرة، ولا يرحم الكفار يوم القيامة، بل من مات مشركاً بالله كافراً فقد كتب الله عز وجل عليه أنه محروم من الجنة ومحروم من رحمة الله، وأنه مستوجب للنار، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالله لا يغفر لمن مات وهو مشرك بالله سبحانه، كذلك من مات على كفره لا يغفر له، أما في الدنيا قبل أن تبلغ الروح الحلقوم فإنه إذا تاب إلى الله عز وجل من أي ذنب كان كبيرة من الكبائر حتى من الشرك أو صغيرة من الصغائر فالله عز وجل يتوب عليه.
إذاً: هنا يقول: ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)) أي: هذه الرحمة العظيمة الخاصة بالمؤمنين، قال عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156]، الذين يتبعون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذه رحمة الرحيم وهو أرحم الراحمين سبحانه.
إذاً: الرحمن رحمته واسعة تعم جميع خلقه سبحانه وتعالى، فيرحم في الدنيا جميع عباده بأن يبين لهم ويدلهم على الحق، وأن يقيم عليهم حجته سبحانه وتعالى، ولا يدع لهم شبهة من الشبه، بل يبين سبحانه الرحمة التي تختص باسمه الرحمن، والرحمة الخاصة بالمؤمنين في الآخرة، فهو سبحانه يرحمهم ويدخلهم جنته سبحانه وتعالى، وفي الدنيا يهديهم فيدلهم سبحانه وتعالى، ويحولهم من شك إلى يقين، ومن ضلال إلى هدى، ومن كفر إلى إيمان، ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] قال: إذا بالمؤمنين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: هنيئاً لك يا رسول الله وليس لنا فيها شيء -يعني: هذه الآية خاصة بك- فأنزل الله هذه الآية: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]) يعني: أمركم أن تصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فالفائدة تعود عليكم أنتم.
فالرسول حبيب رب العالمين وخليل رب العالمين سبحانه، سواء صلى عليه الناس أو لم يصلوا، فله أجره العظيم الوافر عند ربه سبحانه، ولكن أن تصلي عليه أيها المسلم فأنت المنتفع بذلك؛ لأنه كلما صليت عليه صلى عليك ربك سبحانه ورحمك، فأكثروا من الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه.(278/4)
تفسير قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً)
قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44] قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:43] هذا أقرب مذكور، وقوله: ((تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)) أي: يوم يلقون الله سبحانه، ويدخلهم جنته سبحانه ويريهم وجهه الكريم سبحانه، والتحية التي تكون بين المؤمنين في الجنة سلام، أي: يسلم بعضهم على بعض ويدعو بعضهم لبعض بالسلام؛ لأنه نجا من النار، وأن الله سلمه حتى يعيش في هذه الجنة دائماً أبداً مسلماً سالماً من الآفات ومن السوء ومن كل كرب ومن كل شر؛ لأن الدنيا فيها الكدور وفيها الشرور، وفيها التعب والنصب، أما الجنة فهي خالية من كل ما يكدر الصفو، وهي دار السلام، فيحييهم ربهم سبحانه وتعالى، ويسلم عليهم ربهم بالسلام، {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:23] يقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].
إذاً: تحيتهم فيما بينهم السلام، بحيث يسلم بعضهم على بعض ويدعو بعضهم لبعض بالسلامة والأمن والطمأنينة والنجاة من كل الشرور، كذلك ربهم يسلم عليهم سبحانه، فيستجيب سبحانه دعاءهم، ويجعلهم في سلام وفي أمن في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
فقوله: (تحيتهم) أي: ويحيي بعضهم بعضاً، والتحية أصلها الدعاء بالحياة، أي: أدعو له بالحياة، هذا أصل التحية، فيكون المعنى: يدعو بعضهم لبعض بالحياة التي فيها سلام والتي فيها طمأنينة، والتي يسلم فيها العبد من الأمراض والأنكاد والشرور والآثام، ومن الكدر والتعب والنصب.
قوله: ((تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)) أي: يوم القيامة عند دخولهم الجنة تحيتهم فيها سلام.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: ((وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)) أي: أعد لهم الله سبحانه أجراً، وهو سبحانه إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.
فهنا الإعداد دليل على العناية من الرب سبحانه للعبد، فهو لا يحتاج إلى أن يعد وأن يجهز سبحانه، ولكن العناية بالمؤمنين أن الله سبحانه جهز لهم جنة من قبل أن يخلقهم، وجعل لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ويخبر سبحانه وتعالى أنه بكرمه هو الذي أعد لهم هذه الجنة، وأعد لهم أجراً على ما عملوه، والعبد إذا عمل استحق من الله سبحانه الأجر الكريم والأجر العظيم، ففي الدنيا تقول: هذا يعطيني أجراً عظيماً وذاك يعطيني أجراً لئيماً؛ لأن اللؤم من طباع الإنسان فهو في عطائه يعطي الشيء الرديء، مع أن الحاجة موجودة عنده، ويبخس الإنسان حقه، ولكن الله عز وجل يعطي العطاء الكريم الذي يليق به سبحانه وتعالى، والعبد لم يفعل شيئاً يستحق عليه هذا الأجر، ولكن رحمة رب العالمين سبحانه.
فالإنسان يأخذ بالأسباب ويعبد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله خلقه وهو مهما عبد الله لم يوف الله حقه في شكر نعمه عليه سبحانه، فكيف بأن الله يعطيه هذه الجنة العظيمة، فهذا فضل من الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) فقوله: ((وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)) فالإنسان المؤمن ينتظر من الله عز وجل الخير والكرم، فإذا كنت تنتظر كرمه فابدأ أنت بالعمل وابدأ بالتوبة إلى الله سبحانه، ولا تقل: غداً أتوب، غداً أعمل كذا، لعله لا يأتي الغد؛ لأن الموت أمامنا، فنحن نرى الموت يأخذ الصغار ويأخذ الشيوخ ويأخذ الشباب ولا يترك أحداً، فكم من إنسان يسوف ويقول: غداً أتوب، غداً أفعل كذا، أنا لا زلت صغيراً، وعندما أكبر سأفعل كذا ولا يأتي عليه هذا السن الذي يتمنى أن يأتيه.
لذلك بادر بالتوبة وبادر بالعمل من قبل أن يأتي اليوم الذي قد وعد الله عز وجل عباده به، الموت الذي لا يؤخر، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(278/5)
تفسير سورة الأحزاب [45 - 46]
النبي صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، به انقشع ظلام الكفر والغواية، وولى غبار الجاهلية الجهلاء، ابتعثه الله ليكون داعياً إلى توحيد الله، وليكون شاهداً على جميع أفراد الأمة ومبشراً ونذيراً، وليكون سراجاً منيراً يضيء الله به العقول والقلوب، وتحيا به الأفئدة.(279/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].
يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] فالله الذي أرسله صلوات الله وسلامه عليه وليس أحداً غيره.
وعبر بنون العظمة بياناً لعظمة الرب سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] فالإرسال من الله العظيم سبحانه أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم برسالة يبلغها؛ ليكون على الخلق شاهداً ومبشراً ونذيراً.
وقد أرسل لهذه الوظيفة وهي تبليغ رسالة الله تبارك وتعالى، وأن يكون شاهداً على هذه الأمة، وأن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم أجراً حسناً، وأن ينذر الكفار الذين يعصون الله سبحانه من عذاب الله ومن عذاب النار، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] فهو الشاهد والمبشر والمنذر عليه الصلاة والسلام.
وذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث قال: (لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب) صلوات الله وسلامه عليه، فهو العاقب آخر الأنبياء ولا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه.
وهو نبي التوبة، وهو نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فالله حين يذكر أنه الشاهد وأنه المبشر وأنه النذير يبين لنا وظيفته، فلما بلغ الأمة رسالة ربه صلوات الله وسلامه عليه قبضه ربه بعد ذلك ولم يستمتع من الدنيا بشيء.
فقد بدأ الإسلام بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وبدأ الإسلام غريباً، فدعا وحده، وأوذي وحده صلوات الله وسلامه عليه حتى دخل الناس في دين الله وأوذوا معه صلوات الله وسلامه عليه، ثم نصر الله عز وجل دينه، ونشر هذا الدين العظيم فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وبدأت الفتوح من الله عز وجل يفتح للمؤمنين، وبدءوا يرون زهرة الحياة الدنيا ولم يكن هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
فبلغ رسالة الله تبارك وتعالى وقال له: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] أي لتشهد على هذه الأمة، ومبشراً للمؤمنين، ونذيراً للكفار وللعصاة.
فلما بلغ رسالة الله صلوات الله وسلامه عليه وبشر المؤمنين وأنذر الكافرين قبض صلوات الله وسلامه عليه بعدما أشهد الناس على أنفسهم وقال لهم: (ألا هل بلغت؟) فأجاب الجميع أنه قد بلغ وشهدوا له، قال: (اللهم فاشهد).
صلوات الله وسلامه عليه.
فهو شاهد يشهد على هذه الأمة، ويشهد على الأمم جميعها، وقال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
فيوم القيامة يؤتى من كل أمة بشهيد، والشهيد هو نبي كل أمة فيؤتى به يوم القيامة ويسأل: هل بلغت؟ فيقول: بلغت.
وتسأل الأمة فتكذب نبيها ويقولون: لا، لم يبلغنا.
فيقال للأنبياء: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه، فتشهد أمتنا للأنبياء أنهم بلغوا رسالة الله سبحانه، وأمتنا لم تر هؤلاء الأنبياء، ولكن الله أخبرنا بالخبر الصدق في كتابه الكريم سبحانه، فنخبر ونشهد تصديقاً لما قاله الله سبحانه يوم القيامة، فالله عز وجل يشهد على هذه الأمة النبي صلوات الله وسلامه عليه ويقول: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فهو شهيد على هذه الأمة وعلى غيرها من الأمم عليه الصلاة والسلام.
وهو المبشر صلوات الله وسلامه عليه للمؤمنين، والبشارة: هي الإخبار بخبر سار، وهذا الغالب في البشارة، وقد تأتي كلمة البشارة بالخبر الضار الغير سار مثل قوله سبحانه: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] وهذا لأهل النار، ولكن هذا يكون بقيود، فالغالب في البشارة أنها في الشيء الذي يسر الإنسان أن يسمعه، فقال الله عز وجل: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] أي: مبشراً للمؤمنين، فيبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ويبشرهم بالنعيم المقيم، ويبشرهم ربهم بمغفرة منه وفضل ورحمة وجنات لهم فيها نعيم مقيم.
ونذيراً للعصاة، أي يخبر بالذي سيضرهم جزاء بما فعلوا.
فالبشارة يخبر بالذي يسرهم على ما صنعوا، والنذارة عكسها، فأنذرهم النبي صلوات الله وسلامه عليه من عذاب الله، ومن جهنم والعياذ بالله.(279/2)
تفسير قوله تعالى: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً)
قال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب:46] فهو أول المسلمين عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة، وهو الداعي إلى ربه تبارك وتعالى، فقد دعا الناس آحاداً وجماعات، دعا إلى الله عز وجل ليلاً ونهاراً، دعا وجاهد في سبيل الله حق جهاده فقال له ربه سبحانه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب:46].
وذكر فضله سبحانه أنه داع إلى الله بإذن الله، قد أذن له بالدعوة إليه، وقد أعانه ووفقه، فالفضل من الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] فهو السراج المنير عليه الصلاة والسلام، والمصباح الذي يضيء، فالله عز وجل جعل القمر فيهن نوراً، والشمس سراجاً مضيئاً تضيء للخلق فيأتيهم النهار مع ضوء الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم السراج العظيم المنير الذي أضاء الله عز وجل به لهذه الأمة وللخلق جميعهم ظلمات الكفر والشك والضياع بنور الإيمان ونور اليقين به صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {وَسِرَاجًا} [الأحزاب:46]، وأكد ذلك أنه {مُنِيراً} [الأحزاب:46].
ولاحظ الفرق بين سراج مضيء وسراج منير، فالسراج المضيء الذي فيه وهج، والذي فيه لهب، والذي فيه نار فقد يحرق الإنسان الذي يقترب منه، ولكن النور فيه برودة وإنارة، فالإنسان يجد النور فيمشي، والقمر نور، والشمس سراج، والشمس تحرق وتلهب في الصيف، بينما الإنسان يمشي في نور القمر ولا يتأذى منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سراج وهاج منير عليه الصلاة والسلام، فالذي يكون معه صلوات الله وسلامه عليه يجد الطيب من النبي صلى الله عليه وسلم، والطيب من القول ومن الهدى من رحمة رب العالمين سبحانه بهذه الأمة.
وهنا قد يقال: ذكر الله عز وجل أنه سراج والسراج العادة أنه يضيء فلم قال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]؟
و
الجواب
أن هذا تأكيد من الله سبحانه وتعالى، وقد ينير السراج للإنسان فعلاً ولكن إنارة بسيطة، ونور خافت، فأكد الله عز وجل أن النبي عليه الصلاة والسلام السراج المنير أضاء الله عز وجل وأنار به الكون كله، وليس سراجاً فاتراً.
ويأتي الأنبياء يوم القيامة إلى ربهم سبحانه والنبي قد دعا أمة ولم يستجب له أحد، ونبي استجاب له واحد، ونبي استجاب له عشرة، ونبي استجاب له أمة كبيرة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس في قدر من استجاب له صلوات الله وسلامه عليه فهو السراج المنير العظيم عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ومعاذاً فقال: انطلقا فبشرا ولا تعسرا.
فإنه قد نزل علي الليلة آية، وذكر لهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]).
فأمرهما أن يذهبا إلى اليمن ليبشرا الناس وقال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا).
فالداعي إلى الله سبحانه وتعالى يكون على الأمر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فييسر للناس ولا يعسر عليهم.
(بشرا ولا تنفرا)، التبشير بجنة الله سبحانه ومرضاة الله عمن يطيعه.
(ولا تنفرا) الإنسان قد يدعو إلى الله سبحانه ولكنه شديد، وفي أسلوبه غلظة فينفر أكثر مما يدعو، وقد يقول النصيحة اثنان، فالذي يرفق بالناس يستجيبون له ويطيعونه، والذي يتشدد على الناس ويغلظ عليهم لا يستجيب له أحد، ويمكن أن يتعارك مع أحد المنصوحين أو يشتمه.
فالإنسان الذي يدعو إلى الله عز وجل يكون رفيقاً بالناس رحيماً بهم، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة) ولكن الله يعطي فهذا قد يرفق بالناس فيستجيب الكثيرون، وهذا يغلظ مع الناس فلا يستجيب له أحد، مع أن هذا يدعو إلى الله وهذا يدعو إلى الله، وهذا مخلص وهذا مخلص، ولكن الفرق في الأسلوب في التعامل مع الخلق، فلذلك يتعلم الإنسان المؤمن من النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، ويتعلم منه الرفق، والتبشير والتيسير كما قال صلى الله عليه وسلم: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا).
فيبشر وييسر على الخلق حتى يستجيبوا لله سبحانه.
الناصح في دعوته الخلق لابد أن يكون أهم شيء عنده أن يستجيب الذي ينصحه، وأن يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة والمعاصي إلى طاعة الله قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس).
فالتيسير والتبشير من دين ربنا سبحانه الذي أمر به نبينا صلوات الله وسلامه عليه، قال له ربه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: بأي رحمة عظيمة من الله قد أعطاكها، برحمة عظيمة جليلة من الله جعلها في قلبك.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وهذه الآية العظيمة التي في قرآننا نجد مثلها في التوراة وشهد بذلك من أسلم كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار فقالوا: في التوراة هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] نبياً للأميين ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يدفع السيئة بالحسنة صلوات الله وسلامه عليه.
شهد شاهد من أهلها، أهل التوراة كـ كعب الأحبار وكـ عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد دخلا في الإسلام وكانا يهوديين، أما عبد الله بن سلام فتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى رؤيا أنه يمسك بعروة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتمسك بالإسلام حتى يموت عليه، فكانت بشارة من الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
وأما كعب الأحبار فلم ينل هذا الحظ العظيم؛ لأنه لم يسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسلم في زمن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكلاهما أخبر عن هذه الآية أنها في التوراة قرآها في التوراة وحفظاها بشارة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] فذكر النبوة والرسالة، يا أيها المنبأ بأخبار من الغيب من الله سبحانه، يا أيها النبي الذي يوحى إليك بغيب من الله تبارك وتعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] أي: جعلناك رسولاً لتبلغ رسالة من عندنا، وهو هذا القرآن العظيم والوحي من عند رب العالمين سبحانه، ومبشراً لمن آمن ومنذراً لمن كفر.
وداعياً إلى الله بفضل الله فقد أذن لك بالدعوة إليه.
{وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] أي: نوراً عظيماً، مصباحاً تضيء للخلق وتنير لهم، فدلهم على كل خير حتى تغيظت اليهود من النبي صلوات الله وسلامه عليه من كثرة اهتمامه بأمته واهتمامه بتبليغهم كل شيء، حتى إن قائلهم ليقول للمسلمين: ما يفعل بكم هذا النبي عليه الصلاة والسلام؟ ما ترك من شيء إلا علمكم حتى الخراءة، يعني: أدب الخلاء، يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت الخلاء تدخل برجلك اليسرى تقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
إذا خرجت قلت: غفرانك.
إذا استنجيت فلا تستنج بيدك اليمنى ولكن بيدك اليسرى، وليكن ثلاثاً واستجمر وتراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيتغيظ اليهود ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء كما حسدتكم على السلام، والتأمين خلف الإمام).
فالنبي صلى الله عليه وسلم علمكم فليسلم بعضكم على بعض، كما أمر الله سبحانه وتعالى، بقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61].
فعلمهم أن يقولوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأن في كل كلمة من هذه الكلمات عشر حسنات، وعلمهم أن يسلم بعضهم على بعض حتى لو التقوا مراراً فليسلموا مراراً، فحسدتهم اليهود؛ لأنهم علموا أن السلام يزيد المحبة بين المؤمنين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وحسدوا المسلمين على التأمين خلف الإمام، والدعاء الذي يحصل عندما يقرأ المصلي الفاتحة يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فيقول الله عز وجل: حمدني عبدي.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فيقول: أثنى علي عبدي.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيقول: مجدني عبدي.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يقول: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] هذا طلب الإمام، فأما المأمومون فيقولون: آمين بمعنى: اللهم استجب، فالله يستجيب لعباده، ومن المستحيل أن يدعو كل هؤلاء المؤمنون في كل الأرض يقولون: {(279/3)
تفسير سورة الأحزاب [45 - 48]
بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس بالبشارة للمؤمنين والهداية لهم، والنذارة للكافرين وإعلان الوعيد لهم في الدنيا والآخرة، ونهاه سبحانه عن طاعة الكافرين والمنافقين، وأن يتوكل عليه سبحانه حتى لا يضره كيدهم.(280/1)
النبي صلى الله عليه وسلم هو الهادي والمهدي(280/2)
هداية النبي صلى الله عليه وسلم للناس
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:45 - 49].
يخبر الله تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن وظيفته في هذه الدنيا أنه رسول وأنه نبي عليه الصلاة والسلام، وأنه الشاهد والمبشر والنذير، والداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير.
فهو يهدي به الله عز وجل من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم، وفرق بين هداية الله عز وجل لخلقه وهداية النبي صلى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته الخلق إلى الله عز وجل.
فالنبي يهدي، بمعنى: يدل ويبين عليه الصلاة والسلام، فهو هاد يهدي الخلق عليه الصلاة والسلام بالبيان، وينير لهم صلوات الله وسلامه عليه طريقهم، فيعرفون الحق من الباطل، فقد يسلكون طريق الحق وقد يتنكبونه.
أما الذي يحول من حال إلى حال فهو الله عز وجل، وعندما يقول لنا: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران:73]، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120] فالهدى ينسب إلى الله عز وجل، فيهدي من يشاء من خلقه.
وحين يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهذا صحيح، وحين يقول له صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فهو أيضاً صحيح، فهو صلوات الله وسلامه عليه وظيفته أن يبين للخلق، فهو لا يملك قلوبهم، ولا يملك أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ويحولهم من طريق إلى طريق، إنما يملك الدلالة عليه الصلاة والسلام.
إذاً: قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: أنت تبين أن هذا صراط الله عز وجل وكتابه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا طريق الجنة، وهذا طريق النار، إذاً: هو مبين عليه الصلاة والسلام، والناس يسمعون ويرون منه صلى الله عليه وسلم هذه الآيات، فمنهم من يؤمن فينجو، ومنهم من يصر على كفره وجحوده فيهلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يهديهم بالبيان عليه الصلاة والسلام.
والله يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: لا تحول ولا تغير قلب إنسان ولا تملك ذلك.
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63].
إذاً: هو عليه الصلاة والسلام يدلهم على الخير حتى يتحابوا وحتى يؤلف بين القلوب، ولكن هو لا يملك التحويل والتغيير، والذي يملك ذلك هو الله تبارك وتعالى.
إذاً الهدى له معنيان: هدى الدلالة، فهذا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ويملكه.
هدى التغيير والتحويل للقلوب: وهذا لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ولذا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: لا تملك أن تغير، فلو كان يملك لغير قلب أبي طالب ولأدخله في الإيمان، ولكن ليست هذه وظيفته صلى الله عليه وسلم.
إذاً: محمد صلى الله عليه وسلم هو الشاهد على الأمم، والشاهد على هذه الأمة، والمبشر الذي يبشرهم بما يسرهم عند الله عز وجل من جنات ونعيم مقيم، وهو المنذر يخوفهم بما أعد الله عز وجل للكافرين والعصاة من عذاب، وهو الداعي إلى الله يدعو الخلق ويناديهم: تعالوا فادخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، يدلهم على الحق وعلى طريقه، ويدعو إلى الله بإذنه، وليس من عنده عليه الصلاة والسلام، بل قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7].
والضال: التائه عن طريق الله سبحانه، لم يكن يعرف شريعة ربه سبحانه، إنما كان يتعبد لله عليه الصلاة والسلام، وما كان ينتظر أن ينزل عليه وحي.
ولكنه يعبد ربه سبحانه ليشكر نعم الله سبحانه، ويعرف أن الله الذي خلقه هو وحده الذي يستحق العبادة، ويعرف أن هذه الأصنام لا تستحق أن تعبد من دون الله.(280/3)
هداية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإرساله هادياً للناس
ولم يكن يعرف شريعة صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك قال الله سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: فهداك إلى شريعته تبارك وتعالى.
كان لا يعرف من هو جبريل الذي ينزل من السماء! وما هو الناموس الذي عند الله تبارك وتعالى! فلما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فزع فزعاً عظيماً، وهرب إلى بيته صلى الله عليه وسلم وهو يرتجف ويقول: زملوني زملوني! دثروني دثروني! ولم يعرف من هذا الرسول الذي جاء من السماء حتى طمأنته خديجة رضي الله عنها وأخذته إلى ورقة بن نوفل؛ فأخبره أن هذا هو الناموس الأعظم الذي كان ينزل على موسى، فأنت ستكون نبي هذه الأمة، ولو أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً، وإن قومك سيخرجونك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما بعث نبي من الأنبياء بمثل ما بعثت به إلا عودي.
إذاً: ورقة بن نوفل لم يكن يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف شيئاً من ذلك صلى الله عليه وسلم.
ورقة كان على دين النصرانية، ولكن كان على الحق، عرف الحق رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ فعرف أن نبياً سيبعث في هذا الزمان، وهذه علامات نبوته صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: لو أدركني يومك عندما تهاجر من مكة إلى المدينة سأنصرك نصراً مؤزراً.
إذاً عرف ورقة أنهم سيخرجونه، وسيهاجر صلوات الله وسلامه عليه، لكن ولم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن قد أوحي إليه بشيء، فهذا من معاني قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7].
أي: لم تكن تعرف شيئاً عن هذه الشريعة فهداك ودلك، لم يعلمك أحد من البشر قراءة ولا كتابة، ولا درست نصرانية ولا يهودية، وإنما كان على الفطرة السليمة صلوات الله وسلامه عليه، يتعبد لله سبحانه الليالي ذوات العدد في غار حراء، ثم يتزود لمثلها ويذهب مرة ثانية وثالثة حتى جاءه الحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى وهو في حراء.
فهو الداعي إلى الله بإذن الله سبحانه، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] فأمر صلوات الله وسلامه عليه أن يجهر بالحق بإذن الله سبحانه.
آذاه قومه ولم يقدر أن يخرج من مكة إلى المدينة إلا بإذن الله؛ فانتظر أن يؤذن له، فخرج بعدما أذن الله عز وجل له، وكان أبو بكر قد أوذي فأراد أن يهاجر، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصبره ويقول: إني أنتظر أن يؤذن لي، فانتظر أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء الإذن من الله.
إذاً: هو لا يدعو من عند نفسه وإنما بأمر الله ولأمر الله، وبوحي من الله، ولذلك قال الله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] لا ينطق عن هواه ولا عن شيء في نفسه، وإنما قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:4 - 6].
لم يعلمه أحد من البشر، وإنما جاءه جبريل من عند رب العالمين بالوحي آية آية! وحديثاً وراء حديث! يتعلم صلى الله عليه وسلم من جبريل ويبلغ الناس، فهو الداعي إلى الله بإذن الله سبحانه، وهو السراج المنير صلوات الله وسلامه عليه بما جاء من هذه الشريعة العظيمة.(280/4)
تفسير قوله تعالى: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً)
قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47].
هنا البشارة للمؤمنين، والنذارة للكافرين والعصاة، بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً أي: يتفضل عليهم التفضل العظيم، ويعطيهم الفضل والزيادة العظيمة من فضله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فتعبد ربك أفضل العبادة وأحسنها، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فإن أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
فإذا أحسن العبد كان الله معه، وأحبه الله سبحانه وأعطاه الجزاء الذي هو أحسن وأفضل، إذاً: يوجد حسن ويوجد أحسن، ويوجد ما هو أحسن من ذلك وهو الزيادة فوق الأحسن، وهو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين ومن المحسنين الذين لهم الحسنى وزيادة.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47] أي: فضلاً كبيراً لا يقدر أحد قدر هذا الفضل من الله سبحانه، والله يكلمنا بما يليق به سبحانه، فيعطي الثواب من فضله، وفضله عظيم، وخزائنه ملأى لا تغيض أبداً، سحاء الليل والنهار، فعندما يقول: لكم من الله الفضل الكبير، إذاً: هنا أمل عظيم فيما عند الله تبارك وتعالى، الأمل العظيم في فضله ورضوانه وجناته وعطائه سبحانه وتعالى العطاء غير المجذوذ.(280/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم)
قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47].
هنا البشارة للمؤمنين، والنذارة للكافرين والعصاة، بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً أي: يتفضل عليهم التفضل العظيم، ويعطيهم الفضل والزيادة العظيمة من فضله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فتعبد ربك أفضل العبادة وأحسنها، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فإن أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
فإذا أحسن العبد كان الله معه، وأحبه الله سبحانه وأعطاه الجزاء الذي هو أحسن وأفضل، إذاً: يوجد حسن ويوجد أحسن، ويوجد ما هو أحسن من ذلك وهو الزيادة فوق الأحسن، وهو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين ومن المحسنين الذين لهم الحسنى وزيادة.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47] أي: فضلاً كبيراً لا يقدر أحد قدر هذا الفضل من الله سبحانه، والله يكلمنا بما يليق به سبحانه، فيعطي الثواب من فضله، وفضله عظيم، وخزائنه ملأى لا تغيض أبداً، سحاء الليل والنهار، فعندما يقول: لكم من الله الفضل الكبير، إذاً: هنا أمل عظيم فيما عند الله تبارك وتعالى، الأمل العظيم في فضله ورضوانه وجناته وعطائه سبحانه وتعالى العطاء غير المجذوذ.(280/6)
نهي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الكافرين والمنافقين
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:48].
وهذا كرر ما ذكره في أول السورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]، فقال في أول السورة {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] فالكفار يداهنون، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
فهم يدهنون ويلينون معك شيئاً، ويودون لو أنك ملت ولنت لهم في شيء، فيحذره الله سبحانه: احذر من الكفار! كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر آلهتنا بخير ولو مرة واحدة ونحن ندخل معك في الإسلام، فلما أبى صلى الله عليه وسلم قالوا: اسكت عن آلهتنا، لا تتكلم عن آلهتنا بخير ولا بشر، وحاشا له أن يسكت صلوات الله وسلامه عليه على باطل، بل لابد أن يبين أن هذه الأصنام وهذه الآلهة من دون الله عز وجل لا تنفع شيئاً ولا تضر بشيء، وإنما الذي ينفع ويضر هو الله تبارك وتعالى.
فكان كفار قريش يمنون النبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: اجعل لنا يوماً نجلس معك ولا نجلس مع هؤلاء الفقراء، فيقول له ربه سبحانه: احذر من ذلك ولا تطع الكافرين.
كذلك المنافقون يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، فالمنافق يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وهم يتولون غير الله سبحانه وغير رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس له أن يعطيهم إياه، كـ عبد الله بن أبي وطعمة بن أبيرق وغيرهم كانوا يحثون النبي صلى الله عليه وسلم على إجابتهم فيطلبون أشياء لا يجوز له أن يفعلها صلى الله عليه وسلم، ويتعللون بالمصلحة، فيريدون أن يوالوا اليهود للمصلحة، يقولون: اليهود هؤلاء كانوا حلفاءنا في الجاهلية، وكانوا يحبوننا، وكانوا يدافعون عنا، فدعنا مع هؤلاء اليهود لا نتركهم، فيطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ويشفعون عنده في اليهود، كـ عبد الله بن أبي لما شفع في بني النضير، وتركهم النبي صلى الله عليه وسلم له في النهاية.
فالله عز وجل يحذره: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:48] هؤلاء إذا أطعتهم أضلوك وأخرجوك عما أراده الله عز وجل بك.(280/7)
معنى أمر الله لنبيه بأن يدع أذى الكفار والمنافقين
{وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48] فهم عندما يطلبون منه شيئاً فيرفض أن يجيبهم يؤذونه صلى الله عليه وسلم بالقول، ويؤذونه بالفعل عليه الصلاة والسلام، فهم قاعدون للأذى فقط، فيقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: دعك من هذا الذي يفعلونه معك، وأعرض عن هؤلاء، ودع أذاهم حتى يؤذن لك من الله سبحانه وتعالى، فأذن له صلوات الله وسلامه عليه في أمر الكفار أن يقاتلهم.
إذاً: هنا دع هؤلاء واصبر عليهم قليلاً حتى يأتي أمر الله، فجاء أمر الله عز وجل في الكفار، قال الله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].
فبعدما أنزل الله عز وجل سورة براءة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الكفار وأن يجاهدهم في الله تبارك وتعالى.
فإذا كان أذى هؤلاء أنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، ويلحون في السؤال ليتعلموا لعلهم يدخلون في الدين، فهنا يلزمه أن يصبر صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يدلهم على الحق، وحتى يدخلوا في الدين، وقد جاء في في سورة براءة نفسها وهي من آخر ما نزل من القرآن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً أمره فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6].
إذاً: أمر صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين كافة، وأن يبدأهم بالغزو عليه الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك لو أن أحداً من هؤلاء الكفار كان في جبهة المحاربين لك ثم طلب أن يسمع الدين وقال: أريد أن آتي لكم وأسمع ما الذي تقولونه في هذا الدين، فالله عز وجل لكرمه سبحانه يقول: أسمعه، بلغه هذا الدين: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة:6] فهو طلب الجوار، وقال: سنأتي نجاورك ونسمع منك فأجرني ولا تؤذني بشيء حتى أسمع هذا الدين، فقد أدخل في الدين وقد لا أدخل! فهنا قال الله سبحانه: {فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] إلى متى؟ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] إلى أن يأتي عندك ولا أحد يتعرض له بشيء، فإذا جاء وسمع فلا تقول: ادخل في الإسلام لأنك سمعت وإلا نقتلك! ولكن بلغه دين الله سبحانه، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] كما جاء آمناً في القوم فارجعه إليهم على حاله التي كان عليها قبل ذلك.
هذا الدين العظيم من الله سبحانه فيه الأمن والأمان والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى ولو كان في ساعة الجهاد في سبيل الله سبحانه، والكفار في مكان والمسلمون في مكان، وجاء أحد الكفار يريد أن يسمع هذا الدين، فأجره إلى أن يأتي إليك، وأسمعه كلام الله سبحانه إلى أن يعقل ويفهم، ثم أرجعه مرة أخرى إلى قومه آمناً، وإذا أراد أن يدخل في هذا الدين فليفعل.
فهنا ربنا تبارك وتعالى يأمر نبيه البشير النذير، الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، بأن يبشر المؤمنين ويبلغهم بأن لهم من الله الفضل الكبير.
قال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48].
أي: لا تنشغل بما يؤذونك به، ولا تنشغل بالمعاقبة عن الأمر الذي أرسلت لأجله، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس.(280/8)
أمر الله لنبيه بالتوكل عليه
ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب:48].
وهو سيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة) وإذا قال هذا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو المتوكل على الله فإن المراد أن يداوم على ذلك.
وهو خطاب للمؤمنين بالتبع، أي: تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم حسن التوكل على الله تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3].
فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل، والثقة بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون جاعلاً ربه سبحانه وكيله في كل شيء، يثق في أن الله يدبر الأمر كله سبحانه، فالإنسان يتوكل على الله سبحانه.
هنا عندما تقول: أنا وكلت فلاناً بالأمر الفلاني، أي: أقمته مقامي في هذا الشيء، فأنا لا أستطيع فعل هذا الشيء، سأوكل محامياً يفعل لي هذا الشيء، فجعلته وكيلاً أي: ينوب عني في أن يقوم مقامي في هذا الشيء؛ لكي يعمل الذي أنا لا أعرفه.
فالله عز وجل يقول: أنا وكيلك، أنا أجعلك تفعل ما لم تكن تقدر عليه قبل ذلك، فالذي يصير ولياً لله سبحانه كان الله سبحانه له كما قال: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه).
فالله وكيلك، ومدبر أمرك؛ وذلك إذا توكلت عليه سبحانه وجعلته وكيلك ووثقت به تبارك وتعالى، وطلبت منه أن يقضي لك حوائجك، وعملت بطاعته سبحانه، فالله عز وجل يدبر لك كل أمرك، ويعينك، ويفرج عنك كل همك.
قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى} [الأحزاب:48] أي: يكفيك الله تبارك وتعالى كل شيء، فهو مدبر لأمرك، وناصر لك على عدوك، فالله عز وجل القائم على كل أمر سبحانه.
قال: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48] وفيه وعد من الله سبحانه وتعالى بأن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو وكيله أي: حافظه عليه الصلاة والسلام، قائم بأمره، ناصره على عدوه.
وهو للمؤمنين كذلك {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48].
وذكر لنا سبحانه قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] إذا تولى عنك الناس، وتركوك وانصرفوا، فقل: حسبي الله، يعني: كافي الله سبحانه وتعالى.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:129] لا أعبد إلا هو سبحانه.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] فوضت إليه أمري كله، فهو يفعل ما يشاء سبحانه، وأنا أرضى بحكمه وبفعله سبحانه، فهو وكيلي وكفيلي وحسيبي، وهو الحافظ لي القائم بأمري سبحانه: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتوكلين عليه حق التوكل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(280/9)
تفسير سورة الأحزاب الآية [49]
إن عظمة هذا الدين تتجلى للمتأمل في تفاصيل تعاليم شرعه، ومن هذه الأحكام العظيمة ما شرع لتنظيم حياة الزوجين من أحكام الطلاق والعدة وغيرها من الأحكام المتعلقة بالحياة الزوجية.(281/1)
تفسير قوله تعهالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات)(281/2)
حق الرجعة في الطلاق الرجعي لمن دخل بها زوجها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49].
يقول الله سبحانه وتعالى للمؤمنين معلماً ومرشداً وآمراً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، وهذه صورة من صور النكاح ثم الطلاق بعده.
فالإنسان قد يتزوج، ثم بعد ذلك يدخل بامرأته، ولعله بعد ذلك يطلقها فتكون مدخولاً بها، والمدخول بها لابد أن تعتد إذا طلقها، فإذا طلقها مرة يجوز له أن يراجعها في خلال عدتها، ثم لعله يطلقها بعدما يراجعها فيكون طلاقاً رجعياً، وتعتد المرأة من هذا الطلاق، ثم لعله يراجعها ثم لعله يطلقها بعد ذلك وهنا تكون ثلاث تطليقات، فبالطلقة الثالثة تبين المرأة من الرجل بينونة كبرى فلا يجوز له أن يراجعها حتى تتزوج زوجاً غيره، ثم إذا طلقها زوجها الآخر وانتهت عدتها فللأول أن يتزوجها مرة ثانية ويرجع إليها بثلاث تطليقات.
لكن إذا تزوج بالمرأة حدث بينهما شيء وطلق المرأة قبل أن يدخل بها فإنها تبين منه بهذه الطلقة بينونة صغرى، وليس له أن يراجعها، لأنه لا عدة له عليها.
إذاً: المراجعة تكون في المطلقة المدخول بها فقط، أما الغير مدخول بها فليس له عليها رجعة، فإذا طلقها كذلك بانت واستحقت على هذا الإنسان نصف المهر، وله أن يرجع في النصف الآخر إن كان دفع لها المهر كاملاً.(281/3)
المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره
وهنا يذكر لنا ربنا تبارك وتعالى أمر العدة، فقد ذكر لنا الطلاق في سورة البقرة وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فالذي يطلق مرة إما أن يمسك بمعروف في خلال عدة المرأة أو أن يفارقها بإحسان، فإذا طلق للمرة الثالثة فقد قال عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، إذاً: بعد التطليقة الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
والنكاح بمعنى العقد والوطء، فقوله: (حتى تنكح زوجاً غيره)، أي: حتى يعقد عليها إنسان آخر ويدخل بها، ولذلك جاء في حديث المرأة التي طلقها زوجها ثم تزوجت من رجل آخر وذهبت تشكو للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجامعها ولا يمسها وليس له في أمر النكاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة) أي: زوجها الأول، (قالت: نعم، قال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) يعني: أن الزوج الثاني إذا كان لم يدخل بك فليس لك أن ترجعي للرجل الأول.
فكأن المرأة كذبت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن هذا ليس له حاجة في النكاح لكي يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها ثم ترجع لزوجها الأول، فالنبي صلى الله عليه وسلم وجد من علامات كذب المرأة أن هذا الرجل التي تزعم أنه ليس معه إلا مثل الهدبة: أنه كان متزوجاً قبل ذلك وله أولاد من الزوجة السابقة، وهم أشبه بأبيهم من الغراب بأبيه، فكيف يكون هذا الإنسان الذي كان متزوجاً وله أولاد من زوجته السابقة لا يقدر على النكاح؟!(281/4)
ما يجب على المطلقة المدخول بها
فذكر الله عز وجل في سورة البقرة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فهنا المقصود المدخول بهن، فالمرأة المطلقة التي دخل بها زوجها تتربص ثلاثة قروء.
{وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228]، فلا يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها من حيض أو حمل، فلعل المرأة أن تكذب وتقول: انتهت الثلاث حيضات، حتى تبين من زوجها فلا يراجعها، فالله عز وجل جعلها مؤتمنة على رحمها، فلا تكذب في أمر الحيض وتقول: انتهى الحيض.
ولعل المرأة تكون حاملاً وتريد أن تبين من زوجها فتقول: إنها ليست حاملاً وإنها انتهت حيضاتها، فليس لها ذلك أيضاً، فهي مؤتمنة على رحمها.
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]، البعل هو الزوج، وهو أحق برد المرأة في وقت عدتها الرجعية، فهنا المرأة المعتدة هي التي دخل بها زوجها.
فالشريعة العظيمة راعت حق الزوج وأن ماءه إذا كان في رحمها لا تدخل ماءً آخر على الماء الأول، فلابد أن تستبرئ المرأة، ولا بد أن تنتهي علقة النكاح الأول بانتهاء الثلاث الحيضات، فتطهر المرأة من الحيضة الثالثة، ثم بعد ذلك لها أن تتزوج من تشاء.(281/5)
ما يجب على المطلقة قبل الدخول والمتوفى عنها قبل الدخول
وفي هذه الآية يذكر لنا نوعاً آخر وهي المرأة التي تطلق ولم يدخل بها زوجها، فلا عدة عليها، بسبب عدم وجود الوطء.
وقد تجب عليها العدة بسبب الموت، فهناك إنسان تزوج امرأة ثم طلقها، وإنسان تزوج امرأة فمات عنها، فالفرق بين الاثنين في أمر العدة أنه إذا تزوج المرأة ودخل بها فطلقها فيراعى براءة الرحم في ذلك؛ حتى لا ينشغل رحم المرأة بمائين: ماء الرجل الأول وماء الرجل الثاني، لكن في أمر المفارقة بالوفاة، فعليها مراعاة أشياء أخر بغض النظر عن أنه دخل بها أو لم يدخل بها، فهذا زوج وله حق على زوجته التي مات عنها أن تحزن عليه، فالحزن عليه ينافي أن تتزوج المرأة في اليوم الثاني بإنسان آخر، وهو إذا مات عنها فإنها ترثه في هذه الحالة، فكيف ترث ماله اليوم، وتتزوج غيره غداً؟! فأمرت الشريعة بأن تنتظر هذه المرأة أربعة أشهر وعشراً، سواء دخل بها هذا الزوج أو لم يدخل بها؛ لأن الذي مات كان زوجاً لها، فتحزن المرأة على زوجها الذي توفي مراعاة لأهله، والشريعة راعت شعور الناس في ذلك فمنعت أن تتزوج المرأة حتى تنتهي فترة العدة، وهي تبدأ من الوفاة فتمكث أربعة أشهر وعشراً.
ونلاحظ في عدة الوفاة أنه لم يقل: (قروء) أي: حيضات، ولكن أربعة أشهر وعشراً، فيستوي فيها المرأة الصغيرة والكبيرة، والتي تحيض والتي لا تحيض، والتي دخل بها والتي لم يدخل بها، ففي كل الأحوال لا بد من هذه العدة، مراعاة لحق الزوج على هذه المرأة، ولحق أهل الزوج وأنها سترث من قريبهم، فلا يصح أن تأخذ ماله اليوم إرثاً وتتزوج غداً من إنسان آخر.
لكن أمر الطلاق قبل الدخول يختلف عن أمر الوفاة، فإذا طلقها قبل الدخول، فمن حقها في اليوم الثاني أن تتزوج غيره، ولا يوجد مراعاة لأمر هذا الرجل؛ لأنه هو الذي طلقها وفارقها ولم يدخل بها، فعلى ذلك لن يجتمع ماءان في رحمها، وليس له عليها حق أن تعتد، ولكن إن كان قد دفع لها مهراً كاملاً، فله أن يرجع بنصف هذا المهر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49]، النكاح هنا المقصود به: العقد.(281/6)
معنى قوله: (من قبل أن تمسوهن)
قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وفيه إشارة إلى أن النكاح في أصل معناه: الوطء والدخول، فيكون عقداً مع وطء، ولكن قد يكون النكاح مجرد عقد فقط، فلذلك احترز وذكر: {نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49].
وهنا القرآن فيه غاية الأدب في التعبير عن الجماع بهذه الألفاظ التي هي مهذبة جميلة، فيقول: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فيكني عن الجماع بالمس.
وذكر هنا: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، أي: تطئوهن، ولذلك أخذ ابن عباس رضي الله عنه من ذلك أن المس الذي ذكره الله عز وجل في: {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، معناه أيضاً: الوطء، وليس معناه أن يمسها بيده، فإذا أمر الإنسان بالغسل من لمس النساء فمعناه الجماع.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، هذه قراءة الجمهور.
وقراءة حمزة والكسائي وخلف: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُماَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فجعلها من المساس، وكأنه يمسها وهي تمسه، في أمر الجماع.
{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ} [الأحزاب:49]، وهذه قراءة الجمهور بكسر الهاء.
وقراءة يعقوب: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهُنَّ} [الأحزاب:49]، فإذا وقف عليها يقول: (عَلَيْهُنْ).(281/7)
حالات البينونة من الطلاق
قوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، والعدة هي: الحيضات المعدودة، فهذه المرأة الغير مدخول بها، ليس عليها أن تعتد إذا طلقها زوجها، وهذه التطليقة تعتبر تطليقة دائمة ويسمونها: بينونة صغرى.
والبينونة بمعنى: المفارقة والبعد، بان الشيء بمعنى: بعد، فإما أن تكون المرأة بائنة بينونة صغرى، أي: لهذا الذي طلقها أن يتزوجها مرة ثانية، بعقد جديد وشهود وولي، وإما أن تكون المرأة بائنة بينونة كبرى، أي: ليس له مراجعتها، فالبينونة الكبرى تكون إذا طلق الرجل المرأة التطليقة الثالثة أو حدثت المفارقة بالملاعنة، كأن يتهم الرجل امرأته بالزنا وحدث بينهما ملاعنة وشهد عليها أربع شهادات أنها وقعت في هذه الجريمة، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] وهي ردت وشهدت أربع مرات عليه بالكذب في ذلك وأنها صادقة فيما تقول، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]، وإذا تم اللعان عند القاضي فيفرق بين الاثنين فرقة كبرى لا مراجعة فيها، حتى ولو تزوجت بغيره، وهذه بينونة كبرى.
والتطليقات الثلاث تعتبر بينونة كبرى، ولكن إذا تزوجت غيره ثم طلقها الآخر، فللأول أن يتزوجها بعد ذلك، ولا يجوز للمرأة أن تذهب لإنسان يحلها للزوج الأول، فقد لعنه النبي صلى الله عليه وسلم وسماه التيس المستعار، فقد ورد: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّل، والمحلَّل له) وإذا اتفقوا وتواطئوا على ذلك، كما لو اتفقوا مع إنسان محلل يتزوجها يوماً وبعد ذلك يفارقها ثم ترجع لزوجها الأول، فهذا ملعون وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم التيس المستعار، وقال: (لعن الله المحلل، والمحلل له) أي: الزوج الجديد والزوج الذي يريد أن يرجع المرأة على هذه الصورة.
والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى أن البينونة الكبرى ليس له أن يراجعها، والصغرى له أن يراجعها كما لو ذهب إلى وليها وكان خاطباً من الخطاب، ثم وافقوا عليه، فله أنه يعيد العقد من جديد ويتزوجها من جديد، وهذا في البينونة الصغرى، وهذا فيما إذا طلق المرأة قبل الدخول.
وتكون أيضاً في حالة أخرى، وهي ما إذا طلق المرأة طلاقاً رجعياً وانقضت الثلاث الحيضات فإنها تبين منه بينونة صغرى، فله أن يتزوجها إن أراد بعد ذلك، لكن يذهب إلى وليها ويخطبها ويتزوجها بعقد جديد.
وكذلك إذا خالع الرجل المرأة بلفظ الطلاق فإنها تبين منه بينونة صغرى، وإذا خالعها بغير لفظ الطلاق تبين منه بمجرد أخذه المال، وقوله: خلعتك، فتبين المرأة بذلك، فالمرأة التي تذهب إلى القاضي وتخلع زوجها والقاضي يأمر بالمال، فتدفع المرأة مالاً لهذا الزوج، ويفرق القاضي بينهما، تصير بائناً منه وليس له أن يراجعها، إلا إن رضيت به بعقد ومهر جديدين.
فعلى ذلك هذه صورة من الصور التي لا يستطيع الإنسان رد المرأة.
ففي البينونة الصغرى له أنه يتزوجها بعقد جديد ومهر جديد، لكن إذا طلقها بعدما دخل بها، فخلال فترة الحيضات له أن يراجعها.
{فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، يعني: ادفعوا لهن المتعة.
ففي هذه الآية ذكر الله عز وجل المتعة واختلف العلماء هل المتعة لكل مطلقة، وقد قال الله سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241]، لعموم المطلقات، وهذا صحيح، وأنه لعموم المطلقات متاع بالمعروف.
ولكن هذا المتاع بالمعروف يكون فرضاً في حالة معينة ونافلة في باقي الأحوال، والحالة الوحيدة الذي تكون المتعة فرضاً للمرأة، هي عندما يطلقها الزوج قبل الدخول ولم يكن قد سمى لها مهراً، كأن يتزوج إنسان امرأة ولم يتفقوا على مهر، فالمهر قد أمر الله عز وجل به في كتابه، فليس من حق إنسان أن يلغي المهر الذي أمر الله عز وجل به، في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، فإذا تزوج ولم يتفقوا على مهر، وطلقها قبل أن يدخل بها، فلها المتعة بالمعروف.
فإذا كان قد سمى لها مهراً وطلق قبل الدخول فلها نصف المهر المسمى، وتستحب المتعة لعموم قوله سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241]، لكن لا تجب إلا في صورة واحدة كما ذكرنا.
قال سبحانه: {وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب:49] يعني: طلقوهن.
{سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]، أي: طلاقاً جميلاً.
وهو الطلاق الذي يكون على السنة، وأن يطلق بالمعروف فلا يؤذي ولا يغاضب ولا يعضل المرأة حتى تفتدي نفسها، وأن يطلق المرأة وهي في طهرها وليست حائضاً، وإذا كانت في طهر فلا يكون قد جامعها فيه، ولكن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، أو يطلقها وهي حامل؛ فهذا هو الطلاق الذي ذكر الله عز وجل، {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(281/8)
تفسير سورة الأحزاب [49 - 50]
ذكر الله تعالى في سورة الأحزاب بعض مسائل طلاق المرأة، فإذا طلق الرجل المرأة وقد دخل عليها كان الطلاق رجعياً إلا أن يكون خلعها على مال، وكذلك يكون الطلاق رجعياً في خلال العدة، وطلاق المرأة قبل الدخول عليها طلاق بائن، فلا هزل في أمر الطلاق، والطلاق لا يقع حتى يكون النكاح على قول جمهور العلماء، وقد أحل الله لنبيه أزواجه منة منه سبحانه، وكافأ الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم زواجه عليهن، ثم أحله له بعد ذلك، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه من غير زواج مكافأة منه لهن.(282/1)
أحكام الطلاق(282/2)
طلاق المرأة قبل الدخول عليها وبعد الدخول عليها
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:49 - 50].
يقول الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في أمر النكاح: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].
وقد ذكرنا أن الإنسان إذا تزوج إما أنه يدخل بالمرأة أو أنه لا يدخل بها، فإذا دخل بها وطلقها كان الطلاق رجعياً، إلا إن خالعها على مال فيكون الطلاق بينونة صغرى، أو يكون القاضي هو الذي طلق على الرجل فتكون أيضاً بينونة صغرى، لا مراجعة له، فإذا أراد أن يتزوج يكون الزواج بعقد من جديد.
وإذا طلق الرجل المرأة وانقضت العدة في طلقة رجعية، فتكون قد بانت منه أيضاً بينونة صغرى، فلا رجوع له، إلا إذا أراد أن يعقد من جديد بمهر جديد، وولي وشهود.
لكن إذا أراد الرجوع في خلال عدة المرأة وكان الطلاق رجعياً، فله أن يراجعها من غير ولي، وتصح المراجعة من غير شهود، ويجب عليه أن يشهد في المراجعة.
وإذا طلق الإنسان المرأة قبل أن يدخل بها، فإنها تبين منه بهذه التطليقة.
وليس هناك هزل في أمر الطلاق، فقد ورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة).
فإذا كان الرجل يمزح مع المرأة وقال لها: أنت طالق، فقد وقع الطلاق، سواء كان يقول: أنا كنت أنوي طلاقاً أو لم أنو طلاقاً؛ لأن اللفظة لفظة طلاق، يقع بها، ولا هزل في ذلك.
كذلك لو أن الرجل طلق المرأة، ثم قال: راجعتك، فقد رجعت له المرأة بذلك، ولو أنه قال: أنا أمزح لم أراجعك، وأنت طالق، وقعت طلقة ثانية، لأن لفظ الطلاق ليس فيه هزل ولا مزاح، فتجد الذي يلعب بالطلاق تقع منه طلقة أولى، وطلقة ثانية، فيأتي متحسراً، ويقول: طلقت المرأة، ولم أكن أقصد، إنما كانت نيتي كذا وكذا، فنقول: الطلاق يقع بلفظ الإيقاع أي: إذا قال: أنت طالق يقع الطلاق منه.
وكثير من الناس يقول لزوجته: أنت طالق! ثم يقول: كنت أهددها، وليس هناك تهديد في كلمة: أنت طالق، هذا إيقاع للطلاق.
إنما التهديد قد يقبل من الرجل إذا كان يحلف بالطلاق، كأن يقول لها: لا تفعلي كذا، وافعلي كذا، فهنا قد يقبل منه أن يقول: كنت أهدد، وقد يحمل على اليمين، وفيه كفارة يمين إذا لم يقصد الطلاق، لكن إيقاع الطلاق: أنت طالق! ليس فيه كلام، بل يقع الطلاق بنية أو بغير نية في ذلك.
وفي هذه المسألة يذكر الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فذكر سبحانه: أن الرجل إذا نكح ثم طلق، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فلا يوجد عدة، إذاً: الطلقة وقعت، وليس لك مراجعتها.
وكثير من الشباب يكون قد عقد، ثم تأخذه العزة أحياناً، ويغضب على المرأة، فيقول: أنت طالق، ثم بعد ذلك يخاف أن يذهب إلى أبيها وقد طلقها، فيأبى أبوها أن يرجعها له، فيقول لها: تعالي أرجعك عند القاضي.
فلا ترجع إليه بذلك، فإذا تزوجها على ذلك، فهو نكاح باطل، وليس صحيحاً، ولا بد من تزويج الولي، لأن هذا الرجل لم يدخل بها، والذي له أن يراجع المرأة من غير ولي هو الذي دخل بها فطلقها، ففي خلال فترة العدة له المراجعة.(282/3)
طلاق المرأة قبل الزواج بها
في هذه الآية وهي قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] لاحظ الترتيب: {نَكَحْتُمُ} [الأحزاب:49] فذكر النكاح.
{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فأخذ منها العلماء مسألة من هؤلاء العلماء: علي بن الحسين فإنه سئل عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، أي: إذا غضب شخص من امرأة وقال لها: إن تزوجتك فأنت طالق! فقد علق الطلاق على الزواج، قال علي بن الحسين: ليس بشيء، فقد ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق، وهذا فقه دقيق، وهو أنه لا يقع الطلاق حتى يكون النكاح، فإذا قال الإنسان لامرأة غريبة عنه لا يعرفها: أنت طالق! ولم يتزوجها بعد لا يقع الطلاق بهذا الشيء؛ لأنها ليست امرأته.
كذلك لو قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق! فلو تزوجها لا يقع الطلاق، وإن كان هناك قول في مذهب الإمام مالك وهو الراجح عندهم، أن الإنسان إذا قال ذلك للمرأة، وكان محصوراً بفترة معينة، أو بزمن معين، أو بامرأة معينة، أو بعدد من النساء معينات، يقع هذا الطلاق، فإذا تزوج هذه المرأة التي قال فيها ذلك يقع الطلاق.
أو يكون شائعاً كأن يقول الإنسان: إن تزوجت فكل امرأة أتزوجها هي طالق، قالوا: هذا تضيق على نفسه، فهنا يكون قد حرم ما أحل الله سبحانه، فجعلوا إذا قال ذلك على العموم لا يقع شيء، وإذا خصص وقع الطلاق.
والصواب: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم: أن الطلاق لا يقع حتى يكون النكاح، يعني: ينكح أولاً ثم بعد ذلك إذا طلق وقع هذا الطلاق.
ولذلك جاء في حديث المسور بن مخرمة الذي رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك) أي: لو أن إنساناً قال لامرأة: إذا تزوجتك فأنت طالق، ثم تزوجها، لا يقع؛ لأن هذا التطليق كان قبل أن ينكح هذه المرأة، فلا يقع هذا الطلاق.
كذلك لا عتق قبل ملك، فإذا قال إنسان لعبد: لو اشتريتك فأنت حر، لا يقع التحرير حتى يشتريه ثم يتلفظ بلفظ التحرير بعد ذلك.
وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث أيضاً عن ابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب (لا طلاق قبل نكاح).
وروى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك) والمقصود هنا: أن الإنسان لا يقع منه عتق على من لا يملكه، ولا يقع منه طلاق على من لم يتزوجها أصلاً، وكذلك لا نذر له فيما لا يملك، كأن يقول: لله علي نذر إذا حدث كذا أني أذبح ناقة فلان، وليست الناقة ملكه حتى يذبحها، فليس له أن ينذر هذا النذر، وهناك تفصيل لأهل العلم في ذلك، لكن الغرض مسألة الطلاق، أنه لا يقع طلاق حتى يتم النكاح، والشاهد هذه الآية، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فرتب التطليق على وجود النكاح.(282/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك)(282/5)
نسخ تحريم زواج النبي على أزواجه اللاتي كن معه
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] هذا إخبار للنبي صلوات الله وسلامه عليه بأن الله عز وجل أحل له أزواجه عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهن.
(إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) هذه الآية ذكر بعض أهل العلم أنها ناسخة لآية أخرى تليها وليست قبلها.
فقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] قالوا: أحل الله له ذلك، وهو متزوج أصلاً صلى الله عليه وسلم، قالوا: فلا بد أن يكون هناك شيء قد حرمه الله عز وجل عليه ثم أحله له بعد ذلك، فذكروا قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52] فهذا الذي لا يحل جعله مغيباً حتى يأتي حكم آخر، قالوا: هذا الحكم هو قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، وكأنهم ذهبوا إلى أن الآية الناسخة متقدمة في التلاوة على الآية المنسوخة، كالتي في سورة البقرة في أمر العدة، حيث إن الله عز وجل ذكر: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] في المرأة التي توفي عنها الرجل، وفي آية قبلها ذكر الله سبحانه وتعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] فكانت الناسخة في التلاوة قبل المنسوخة، وإن كان في الحكم أن ينزل الحكم المنسوخ أولاً ثم بعد ذلك الحكم الناسخ.
لكن الأكثر من أهل العلم قالوا: إن هذه الآية يمن فيها الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وليست هذه الآية التي نسخت الحكم، ولكن ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أحل الله عز وجل له النكاح، فكأن الله سبحانه وتعالى أحل له أن يتزوج، وبين له من هذه المرأة أو من هؤلاء النساء اللاتي تزوج منهن صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نزل التخيير، بأن خير الله نساءه إذا كن يردن النبي أو يردن الحياة الدنيا وزينتها، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فجاءت المكافأة من الله عز وجل أنه قال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] فكانت مكافأة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك أباح له سبحانه وتعالى بوحي من السنة أن يتزوج، فكان منه صلى الله عليه وسلم المكافأة لنسائه أنه لم يتزوج بعد ذلك عليهن صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] هي ابتداء حكم من الله سبحانه، وإخبار عن حل كل من تزوجتها بهذه القيود والشروط.(282/6)
معنى قوله: (أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك)
{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] الأزواج: جمع زوج وجمع زوجة، فيطلق على المرأة زوجة بتاء التأنيث، ويطلق عليها أيضاً بغير تاء، وأزواجك هنا: جمع زوج.
{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] إذاً: تزوج صلى الله عليه وسلم ودفع مهوراً.
قال: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50] أي: أباح له أيضاً ملك اليمين، وهي: الأمة، يملكها النبي صلى الله عليه وسلم ويطؤها، فيجوز له صلى الله عليه وسلم ويجوز للمؤمنين أيضاً ملك اليمين إذا وجد الإماء.
{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ} [الأحزاب:50] مما أرجع الله عز وجل إليك في الغنيمة أو في الفيء، ومما غنمت في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا حلال لك.(282/7)
معنى قوله: (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك)
كذلك أباح الله له فقال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50] ففي هذه الآية قيد، فكل إنسان يجوز له أن يتزوج من بنت عمه أو من بنت خاله، أو من بنت عمته، أو من بنت خالته، لكن الله سبحانه قيد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا تزوج بواحدة منهن لا بد أن تكون هذه التي تزوجها مهاجرة، فإذا لم تكن مهاجرة فليس له أن يتزوجها، وكأنه مكافأة لقريبات النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرات.
وقوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب:50]، لاحظ أنه وحد هنا، فقال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب:50]، ولما ذكر العمات جمع فقال: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50] مع أن له أعماماً وله عمات صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] وله أخوال وله خالات، فأفرد في العم وفي الخال؛ لأن العادة عند العرب، أنه يطلق العم على الأعمام، والخال على الأخوال، بخلاف الخالة، تطلق على الواحدة، فهذا عرف لغوي كان موجوداً عند العرب، فلذلك راعى القرآن العرف اللغوي الذي عند العرب.
ولما قال أيضاً: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ) [الأحزاب:50] معناه: جميع الأعمام، فلما ذكر الله العمات راعى العرف اللغوي عندهم، فلو أنه قال: وبنات عمتك، تكون عمة واحدة فقط، لكنه قال: ((عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50]؛ لرفع الإشكال هنا.
أما ذكر الخال فليس فيه إشكال عندهم، فالله يقول: {وَبَنَاتِ خَالِكَ} [الأحزاب:50] أي: أي خال من أخوالك تتزوج من بناته، لكن لما قال: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] كان عندهم الخالة على الواحدة، فراعى هذا العرف فجمع الخالة، وأفرد الخال.
قال تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] وكل هؤلاء بشرط الهجرة، {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50].(282/8)
معنى قوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)
كذلك أباح الله له فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فأباح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج امرأة وهبت نفسها للنبي وهذا خاص له وحده عليه الصلاة والسلام، ليس لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لامرأة أن تهب نفسها لرجل، تقول: وهبتك نفسي، وإنما هذا للنبي عليه الصلاة والسلام فقط، وهذه خصوصية من خصوصياته؛ لأن الله عز وجل ذكر أن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو أولى بأي امرأة من وليها، فإذا كان لها ولي يزوجها وليها، فلا أحد من الأولياء يرفض نكاح ابنته من النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مؤمنة.
فالله عز وجل أباح للنبي صلى الله عليه وسلم إذا وهبت له امرأة نفسها، أن يتزوجها سواء كان وليها هو الذي أتى بها، أو هي التي أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(282/9)
اختلاف العلماء في وقوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة التي وهبت نفسها له
لكن هل وقع ذلك، هل وهبت امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها، فالآية أباحت، واختلف العلماء في الوقوع، فالكثيرون على أنه لم يقع أن امرأة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها.
والبعض ذكروا أن ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، السيدة: ميمونة بنت الحارث، والبعض ذكر السيدة: زينب بنت خزيمة التي تكنى بأم المساكين الأنصارية.
وجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل؟) أي: أن السيدة عائشة كانت تغار من ذلك، وكانت تقول ذلك، (حتى أنزل الله عز وجل {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، فقالت السيدة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي: أن الله يحب الذي تحبه أنت، صحيح أن عائشة تغار، ولكن الحكم الشرعي: أن تلتزم السيدة عائشة وغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الله سبحانه وتعالى فيما أباحه لنبيه صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم لو كن يعرفن حيلة يمنعنه بها من الزواج لفعلن.
يقول الله عز وجل: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] أي: أن مسألة أن تهب المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم مسألة خالصة له، أي: أن هذا الحكم خاص به صلى الله عليه وسلم.
{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] أي: يتزوجها، يستنكح وينكح بمعنى واحد، أي: يتزوجها صلوات الله وسلامه عليه.
قال سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب:50].
إذاً: هذا بيان للمؤمنين أنه لا أحد يعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يخبرهم أنه لا يسأل عما يفعل.
وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب:50] أي: فرضنا عليهم شيئاً، وفرضنا عليك أشياء غير ما فرضنا عليهم، وفرضنا عليك وعليهم أشياء أخر، أي: علمنا الأمر والفرق بينك وبينهم، فليس لأحد أن يعترض على حكم الله سبحانه.
قال: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50]، أي: أحل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء، ونزل قرآناً يتلى حتى لا يكون عليه حرج صلى الله عليه وسلم في أن يتزوج أكثر من أربع نسوة، ويمنع المؤمنين من النكاح بأكثر من أربع.
قال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50] فالله هو الغفور الرحيم، كان ولم يزل سبحانه وتعالى، فهذه اللفظة تفيد الأبدية، أي: أنه شيء أبدي دائم سرمدي، أي: أن لفظة: كان الله غفوراً رحيما، فمعناها: أنه في الماضي: غفور رحيم، وفي الحاضر: غفور رحيم، وفي المستقبل: غفور رحيم سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(282/10)
تفسير سورة الأحزاب الآية [50]
لقد شرف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، ولذا كان ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمراً لأمته وما نهي عنه نهياً لأمته، واستثنى الشرع أشياء أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وأشياء فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وأشياء حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وهذا فيه زيادة فضل وشرف لحبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(283/1)
ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم وما حرم عليه من النساء(283/2)
مهر أمهات المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:50 - 51].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه أحل له أزواجه اللاتي آتى أجورهن قال تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] فأحل له أن يتزوج المرأة التي يخطبها صلوات الله وسلامه عليه، ويدفع مهرها عليه الصلاة والسلام ويتزوجها.
وذكر هنا {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج ويدفع مهراً، وكان مهر نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حدود اثنتي عشرة أوقية ونش يعني: ونصف أوقية، أي: حوالي خمسمائة درهم، والدرهم حوالي خمسة جرامات من الفضة، يعني: كأن مهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدفعه لنسائه حوالي ألف وخمسمائة جرام من الفضة، فهذا مقدار مهره صلى الله عليه وسلم.
وهنا بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفع المهر لنسائه عليه الصلاة والسلام، ومهر أم حبيبة دفعه عنه النجاشي ملك الحبشة، كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان مهاجرة إلى الحبشة مع زوجها وتوفي زوجها هناك، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قام بهذا العقد للنبي صلى الله عليه وسلم كان النجاشي ملك الحبشة، وكان رجلاً مسلماً رضي الله عنه، اسمه: أصحمة النجاشي، ودفع مهر النبي صلى الله عليه وسلم من عنده أربعمائة دينار، حوالي نصف كيلو ذهب فهو مهر يليق به لأنه ملك، فدفع هذا المهر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما ما دفعه النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه فكان حوالي اثنتي عشرة أوقية ونش، والأوقية تساوي حوالي اثني عشر درهماً تقريباً، فحسب العلماء ذلك بحوالي خمسمائة درهم مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه.
ذكر هنا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] أي: مهورهن، فكان يتزوج ويدفع المهر، وربنا ذكر في النساء قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] يعني: مهور النساء عطية وفريضة من الله سبحانه وتعالى، فلو أن إنساناً تزوج امرأة على أنها ليس لها مهر فهذا شرط باطل لاغ؛ لأن الله عز وجل أمر بالمهر، ولو أن إنساناً تزوج امرأة على مهر بسيط فهذا شرط صحيح ويصح النكاح ولو على مهر بسيط.
لكن أحياناً بعض الناس يقول: إن السنة أن تتزوج على خمسة وعشرين قرشاً وهذا كذب؛ لأن مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والأوقية حوالي اثني عشر درهماً، فكان مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه حوالي خمسمائة درهم تقريباً.
فالذي يقول: مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان أقل من ذلك، أو كان خمسة وعشرين قرشاً، ويزعم أن هذا سنة، فهذا ليس بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما السنة ما ذكرنا.(283/3)
جواز زواج النبي من بنات أعمامه وأخواله
أخبر هنا ربنا سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بمن أحلهن له عليه الصلاة والسلام فقال: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:50]، كذلك ملك اليمين، أي: من اشترى من ماله صلى الله عليه وسلم من الإماء، كذلك ما أفاء الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم أو من الفيء.
قال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] فقيد هنا بنت العم وبنت الخال وبنت العمة وبنت الخالة بأنها تكون مهاجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم.(283/4)
اختصاص النبي بزواج الهبة
قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] وهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عز وجل قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
إذاً: أن تهب المرأة نفسها لغير النبي صلى الله عليه وسلم غير جائز.
وقد خصه الله عز وجل ببعض الأحكام كما سنذكر بعد ذلك، منها ما فرضه عليه صلى الله عليه وسلم، ومنها ما حرم عليه صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس.
فهذه المسألة من الأشياء التي أباحها له صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس.
قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] وكلمة يستنكحها بمعنى: يتزوجها.
{إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] وكلمة النبي في كل القرآن تأتي في قراءة نافع مهموزة: النبيء، والأصل فيه النبأ يعني: له نبوءة إخبار وإعلام بالغيب من الله سبحانه تبارك وتعالى، وباقي القراءة يقرءونها في القرآن كله النبي بعدم الهمز وبتشديد الياء الأخيرة.
نافع له راويان هما: قالون وورش، في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا} [الأحزاب:50] نافع يقرؤها: (يا أيها النبيء انا) فيمد الياء ويظهر الهمزة ويسهل الثانية، فإذا جاء إلى قوله: {لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} [الأحزاب:50] فهنا يخفف قالون ويقرؤها كغيره من القراء: {لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} [الأحزاب:50]، ويقرؤها ورش: (للنبيء إن اراد) فإذا وصل فسيقرأ ورش هذه الكلمة: (للنبيء ين اراد) ويقلب الهمزة الثانية لكي يجعلها ياءً وقد يمدها وقد يكسرها.(283/5)
تخصيص النبي بالتخفيف عنه في بعض الأحكام
يقول الله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:50] فرضنا على المؤمنين أشياء وقد نخفف عنك أنت في هذه الأشياء، فللمؤمن أن يتزوج: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] أما النبي صلى الله عليه وسلم فله أكثر من ذلك عليه الصلاة والسلام، أحل الله عز وجل له ذلك للحكم التي ذكرنا من قبل، ومن أهمها: الدعوة إلى الله سبحانه، فإن امرأة واحدة لا تكفي أن تبلغ ما ينزل في بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية من كتاب ومن سنة، فامرأة واحدة لا تكفي، إذا كان رجل واحد لا يكفي كيف بالمرأة الواحدة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لكونه معصوماً، ولكون الله تبارك وتعالى أعطاه القوة والقدرة على ذلك فقد بلغ واستطاع أن يبلغ، أما غيره فلا يقدر على ذلك فكيف بالنساء، فلذلك جعل الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء، فتبلغ كل واحدة ما نزل في بيتها وما علمته من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية للخلق.
قال الله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] يتزوج الرجل وله أن يتسرى، فيشتري أمة ويطأ بملك اليمين، قال تعالى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50] فإن الذي أحل لك هو الله عز وجل، فلا حرج عليك، وليس من حق أحد أن يعترض على ربه سبحانه.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50] يغفر لك وللمؤمنين، ويرحمك والمؤمنين.
الإمام القرطبي يذكر لنا في هذه الآية أن الله تبارك وتعالى قد خص النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية بمعان لم يشاركه فيها أحد صلى الله عليه وسلم، ففرض عليه أشياء جعلها فريضة، وحرم عليه أشياء جعلها محرمة، ولا تكون هذه فريضة على غيره، ولا هذه محرمة على غيره عليه الصلاة والسلام.(283/6)
ذكر بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم(283/7)
ما وجب عليه من العبادات دون أمته
فذكر العلماء أشياء في بعضها خلاف، من ذلك: أن الله عز وجل فرض عليه صلى الله عليه وسلم التهجد بالليل، ثم خفف الله عز وجل عنه فلم يخفف هو عن نفسه عليه الصلاة والسلام، واستمر في ذلك وقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) صلوات الله وسلامه عليه، فكان قيام الليل فريضة عليه صلى الله عليه وسلم، ثم خفف الله عز وجل عنه، واستمر هو صلى الله عليه وسلم ولم يخفف على نفسه، وكان يقوم حتى تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، وقد يرجع وينام ثم يقوم مرة أخرى ويصلي، ثم يرجع وينام، ثم يقوم ثالثة ويصلي عليه الصلاة والسلام فتذكر السيدة عائشة رضي الله عنها أنه: (كان يصلي إحدى عشرة ركعة من الليل، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) صلاة طويلة حسنة جميلة يقومها صلى الله عليه وسلم! كان إذا قرب الصباح يقوم يغمز نساءه بيده صلى الله عليه وسلم فتقوم هي تصلي أيضاً وتوتر، لكن لا يأمرها أن تقوم الليل كله مثلما يقوم هو صلى الله عليه وسلم.
وكان يحتاج أن يستريح قبل الفجر، فكان يصلي سنة الفجر ثم يضطجع عليه الصلاة والسلام، ففي الفترة ما بين سنة الفجر حتى تقام الصلاة إن كان بعض نسائه قائمة يكلمها وإلا اضطجع على جنبه فيستريح قليلاً من القيام، ثم يقوم ويصلي بالناس الفجر صلوات الله وسلامه عليه.
فكان قيام الليل فرضاً عليه بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] فكان الفرض بها.
أيضاً مما ذكروا أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، وصلاة الضحى ليست فريضة على الناس، والظاهر أنها كانت فرضاً عليه لفترة، ثم بعد ذلك أصبحت نافلة له ولغيره عليه الصلاة والسلام، ولكنه واظب على صلاة الضحى عليه الصلاة والسلام، وأحياناً كان يتركها ليبين للناس أنها ليست فريضة.
كذلك ذكروا من الأشياء التي فرضت عليه الأضحية، فضحى صلى الله عليه وسلم عن نفسه فذبح كبشاً وقال: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم) ورفع الحرج عن أمته عليه الصلاة والسلام بكرمه صلى الله عليه وسلم فذبح كبشاً آخر وقال: (وهذا عمن لم يضح من أمتي) فرفع الحرج عن الأمة في أمر الأضحية الواجبة، وصارت الأضحية على الناس سنة.
كذلك مما كان فرضاً عليه أن يصلي الوتر، وهذا داخل في التهجد؛ لأنه كان فريضة في وقت من الأوقات، ثم بعد ذلك صار الوتر نافلة له ولغيره، وواظب هو عليه صلوات الله وسلامه عليه.
وأيضاً: مما أمر به السواك، فكان يستاك صلى الله عليه وسلم كثيراً حتى يقول عن نفسه: (حتى خشيت أن أدرد) يعني: من كثرة استخدام السواك خشي على أسنانه أن تدرد، وهذا معلوم فإن الإنسان عندما يستخدم الفرشاة على أسنانه بطريقة قاسية جداً بشكل دائم تذهب وتتساقط في النهاية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستخدم السواك بشكل دائم، كان يأمره جبريل بذلك صلى الله عليه وسلم، فأول ما يقوم من النوم يستخدم السواك، وكان إذا دخل بيته أول شيء يستخدمه السواك، وإذا توضأ استخدم السواك، وإذا دخل في الصلاة يستخدم السواك، فكان فمه أطهر وأطيب فم صلوات الله وسلامه عليه، فكان يستخدم السواك ويقول: (إني أناجي من لا تناجون) يعني: أنا أكلم الملائكة والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فكان يشدد عليه في ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
من ذلك أيضاً قضاء دين من مات معسراً، لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك كلاً أو ديناً فإلي وعلي) فكان كأنه فريضة عليه صلى الله عليه وسلم أو هو اختار أن يقضي ديون من مات وعليه دين بعدما فتح الله عز وجل عليه، وإن كان قبل ذلك لا يصلي على من مات وعليه دين، فلما فتح له صلى الله عليه وسلم كان يقضي دين الميت من عنده ويصلي عليه.
من ذلك أيضاً أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم أن يشاور في غير الأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية لا مشاورة لأحد فيها، إنما هي أحكام من عند الله عز وجل يأمر بها فينفذها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في غير ذلك من أمر القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل، والسفر ونحو ذلك، كان يشاور كما قال له ربه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
كذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا عمل عملاً أثبته، فمرة من المرات ترك سنة الظهر القبلية حيث جاء له وفد من الوفود، فجلس يكلمهم ففاتته سنة الظهر ولم يصلها بعد الظهر حتى دخل وقت العصر، فلما صلى العصر قام وصلى ركعتين، فأرسلت أم سلمة إليه تسأله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه عن ذلك؟ فأشار إليها وبعد أن أكمل الصلاة بين لها أنه جاءه وفد فشغله عن هاتين الركعتين، فصلاها بعد العصر ثم أثبتها، إذاً: كل يوم يصلي هاتين الركعتين، فهذا خاص له صلى الله عليه وسلم أنه إذا عمل عملاً أثبت هذا العمل وواظب عليه صلوات الله وسلامه عليه.
أيضاً من ذلك: تخيير نسائه: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] على ما سبق في ذلك.
إذاً: هنا هذه من الأشياء التي فرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعضها والبعض الآخر هو اختاره وأثبته وواظب عليه فكان له خاصة عليه الصلاة والسلام.(283/8)
ما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم ومنع منه
حرمت عليه أشياء دون غيره عليه الصلاة والسلام: من ذلك تحريم الزكاة عليه وعلى آله، فيحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ شيئاً من زكوات الناس، وذلك إلى قيام الساعة، فليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب أن يأخذوا من الصدقات شيئاً ولا من الزكوات، فيحرم عليه صلى الله عليه وسلم الزكاة وكذلك على آل بيته.
كذلك يحرم عليه صدقة التطوع، فكان يؤتى بالشيء من تمر ونحوه فيسأل: ما هذا؟ فإذا قالوا: هذا صدقة قال لأصحابه: كلوا، وإذا قالوا: هدية أكل وأمرهم أن يأكلوا عليه الصلاة والسلام، فكان يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة لنفسه عليه الصلاة والسلام.
أيضاً من ذلك: خائنة الأعين، يعني: أن يغمز لأحد على شيء، فيجوز لغيره إذا كان في حاجة غمز فيها، أما هو فليس له ذلك صلى الله عليه وسلم.
وهنا قصة رواها الإمام أبو داود ورواها النسائي من حديث مصعب بن سعد عن أبيه يوضح هذا الأمر أنه ما كان لنبي أن يكون له خائنة أعين عليه الصلاة والسلام.
يقول سعد بن أبي وقاص: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين).
وهذا في فتح مكة صلى الله عليه وسلم حين قال للناس: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) إلا أربعة لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا من الخونة ومن أشد الناس إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فبعضهم قتل، وبعضهم أفلت ثم أسلم بعد ذلك.
فهؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) وهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، هؤلاء الأربعة من الرجال، وامرأتان كانتا تغنيان بشتم النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وهجائه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء.
فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن كريز وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه.
وأما عكرمة فركب البحر فأصابته ريح عاصف وهم في البحر، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، يعني: انظر العرب في الجاهلية يعرفون أن الذي يعبدونه باطل لا ينفع ولا يضر، فلما ركبوا السفينة -وكلهم كفار- جاءت ريح عاصف عليهم فقال أصحاب السفينة: ارجعوا إلى الإخلاص واتركوا العبادة التي أنتم فيها، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ففكر عكرمة وقال: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص فلا ينجي في البر غيره، فقال: اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاءه فأسلم بعد ذلك رضي الله عنه.
أما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فاختبأ عند عثمان وكان أخاً لـ عثمان من أمه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به عثمان، ووقف به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، يعني: لم يرض أن يبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في المرة الرابعة بايعه صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه بعد أن مشى الرجل فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟)، يعني: لا بيعة بيننا وبينه، وهذا إنسان كان على الكفر وعمل عملاً قبل ذلك، فتفهمون أنني لا أريد أصلاً هذا الإنسان فيقوم له أحد ليقتله، فقالوا: (وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟) أي: تغمز لأحد منا يقوم له فيقتله، قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)، مع أنه يريد قتل هذا الإنسان.
وعبد الله بن سعد بن أبي السرح هذا كان كاتباً يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن، ثم ارتد ورجع إلى الكفار وقال: أنا كنت أملي على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتب من عند نفسي، فافترى وفتن الناس في ذلك، يعني يقول: أنا كنت أؤلف القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوافقني، فكانت تنزل الآية فيها شيء، ثم ختام الآية: وكان الله غفوراً رحيما، كان الله عليماً حكيماً، فالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب عليماً حكيماً فينزل القرآن من عند الله عز وجل، يقول: اكتب عليماً حكيماً، فهو كان يفتري ويقول للناس: أنا الذي كنت أؤلف هذه الأشياء، وأنا الذي كنت أجعلها؛ ففتن الناس فاستحق أن يقتل، ولكن رحمة الله عظيمة وواسعة، لم يقتل هذا الإنسان وأفلت، وصار بعد ذلك أميراً على مصر في أيام الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قتله وأراد الله عز وجل شيئاً آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يغمز للناس، لو غمز لهم لقاموا إليه وقتلوه، ولكن من خصوصياته أنه ليس من حقه أن يغمز على أحد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(283/9)
تفسير سورة الأحزاب (تابع) الآية [50]
محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد البشر، وخاتم الرسل وأفضلهم، وقد خصه الله بخصائص كثيرة تشريفاً له وتكريماً، وبياناً لرفعة مكانته وعلو منزلته، ومعرفة هذه الخصائص تزيد المؤمنين إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له وتوقيراً.(284/1)
خصائص النبي عليه الصلاة والسلام التي حرمت عليه دون غيره(284/2)
تحريم الصدقة على الرسول وآله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا في الحديث السابق قول الله سبحانه لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50]، فخص الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأحكام منها ما جاء في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم إن وهبت امرأة نفسها له فمن حقه أن يتزوجها صلوات الله وسلامه عليه.
وذكرنا أن هذا ليس الحكم الوحيد الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هناك أحكام اختصت به في الفرائض وفي المحرمات، فحرم عليه أشياء أحلها الله عز وجل لغيره، ولكن تشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم حرمها الله عز وجل عليه كأخذ الزكاة، فلا يحل له أن يأكل من الزكاة ولا أن يأخذ صدقة صلوات الله وسلامه عليه، مهما كان نوع الصدقة، فليس له أن يأكل ولا حتى تمرة من تمر الصدقة.
ولذلك لما وجد تمرة من تمر الصدقة في فم الحسن أخرجها من فمه وقال: (كخ كخ! أما علمت أنا لا نأكل الصدقة!) فمنع الصبي الصغير من أكل الزكاة مع أنه ليس مكلفاً، ولكن ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته أنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأهل بيته أن يأكلوا من الصدقة.(284/3)
عدم جواز تبديل أزواجه ثم نسخ هذا الحكم
أيضاً من الأشياء التي حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه في أزواجه {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] فحرم الله عليه أن يبدل بهؤلاء الأزواج بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فمنع أن يتزوج عليهن أو يتزوج غيرهن، ثم أباح له الله عز وجل ذلك بعد ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا مكافأة لأزواجه اللاتي اخترن الله ورسوله.(284/4)
عدم جواز التزوج بمن لا تحب صحبته
كذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم أنه لا يتزوج بامرأة لا تحب صحبته صلى الله عليه وسلم، وغيره قد يتزوج امرأة تطمع في ماله أو في منصبه ولكن لا تحب صحبته، ويحل له أن يبقى معها، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولذلك المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يدخل عليها: أعوذ بالله منك، قال: (لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك)، وقوله: (عذت بمعاذ) يعني الله عز وجل يعيذك ويعصمك، فلن أقربك، وطلقها وفارقها صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء ليدخل بها بسط يده إليها فإذا بالمرأة تستنكف وتستكبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبا أسيد أن يرجعها لأهلها وقال: (متعها برازقيين وأرجعها إلى أهلها)، وكانت قد قالت له: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة! تقول هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان جزاؤها أنها لا تستحق أن تكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فظلت تندب حظها حتى ماتت.
فهذه المرأة بعد ذلك علمت أنها فرطت في أمر عظيم وشرف عظيم، وهو أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم.(284/5)
عدم جواز التزوج بالكتابية
كذلك يحرم عليه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بالحرة الكتابية، ويجوز للمسلمين أن يتزوجوا من المحصنات من أهل الكتاب، أما النبي عليه الصلاة والسلام فلا يجوز له أن تكون امرأته كتابية يهودية أو نصرانية، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، فكيف يقال عن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم: هذه نصرانية أو يهودية؟ هذا لا يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم.
ومارية القبطية لم تكن زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت أم ولد ثم أسلمت، وهي من أهل مصر، وأهل مصر كان يطلق عليهم أقباط، أرسلها المقوقس عظيم مصر هدية للنبي صلى الله عليه وسلم هي وأختها سيرين، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم واحدة وأعطى حسان بن ثابت الأخرى، فكانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له منها إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه السلام.
ويوجد فرق بين الأمة والزوجة، الأمة ملك يمين يملكها الإنسان بأن يشتريها أو توهب له، أما الزوجة فلا تشترى، بل يخطبها الرجل من أهلها، فشرفت بذلك لأنها حرة، والأخرى أمة تباع وتشترى.
وهاجر أم إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام كانت أمة لإبراهيم، بخلاف سارة فهي زوجة لإبراهيم، وهاجر كانت أمة تملكها سارة أهداها لـ سارة ملك مصر الذي أراد أن يأخذ سارة من إبراهيم، فسأله: من هذه؟ قال: أختي، خاف أن يقول: زوجتي فيقتله ويأخذها فقال: أختي! فأخذها منه وأراد أن يأتيها فدعا إبراهيم ربه ودعت سارة ربها فأنقذها الله عز وجل من الرجل وشلت يده وسقط ولم يقدر أن يقوم، وكان يصرع كلما أراد أن يمسها، ثم قال: إنما جئتموني بشيطان، وأرسلها إلى إبراهيم وأهدى لها أمة هدية، وهي هاجر، فـ هاجر هي من أهل مصر.
فـ سارة أخذت هاجر ثم وهبتها لإبراهيم، فكانت أمة لإبراهيم وليست زوجة له، وكثير من الناس حتى بعض المشايخ لا يفرق بين الأمة أم الولد وبين الزوجة، فيقول: هاجر زوجة إبراهيم.
وهي لم تكن زوجة له، وإنما كانت سرية وأمة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والزوجة ليس للرجل أن يتزوج ويتركها في مكان وينصرف عنها، الزوجة لها حقوق شرعية، إذا كان يريد أن يتركها فليطلقها ولا يتركها في مكان وينصرف عنها، أما الأمة فيجوز له ذلك، وقد أمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ هاجر أم إسماعيل ويتركها في مكة في القصة العظيمة المعروفة.
فـ سارة كانت زوجة وأما هاجر فلم تكن زوجة، بل كانت أم ولد لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما كانت مارية القبطية أم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي ولم يبلغ العامين، وتوفي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر قليلة.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يطأ الكتابيات بملك اليمين، ومارية كانت كتابية ثم أسلمت عند النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجوز أن يتزوج صلى الله عليه وسلم بامرأة كتابية يهودية أو نصرانية، حتى لا تكون أم المؤمنين كافرة يهودية أو نصرانية.(284/6)
عدم جواز نكاح الأمة
أيضاً يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم نكاح الأمة، ونكاح الأمة بمعنى زواج الأمة ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً ليس للمسلمين الأغنياء، وإنما يجوز في حالة أن يخشى إنسان على نفسه العنت، ولا يجد مالاً يتزوج به حرة؛ فيرخص له أن يتزوج الأمة.
وإذا تزوج الرجل الحر الأمة ولم يشترط على سيدها أن الأولاد يكونون أحراراً فسيصير الأولاد عبيداً؛ لذلك منع المسلمون من الزواج بالإماء إلا بشروط، وضيق عليهم في ذلك حتى لا يتسع الأمر فيكون أولاد المسلمين عبيداً، فمنع الله عز وجل من نكاح الإماء إلا أن يكون الإنسان فقيراً ويخاف على نفسه العنت، وبعد أن رخص الله قال عز وجل: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25].
لكن من وطأ بملك اليمين فأولاده منها أحرار؛ لأنه اشتراها فهي ملكه، فإذا توفي صارت حرة يعتقها أولادها، ولا يجوز لهم أن يملكوها.(284/7)
منع النبي من الكتابة والقراءة قدراً
وحرم الله سبحانه وتعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم أشياء تنزيهاً له صلى الله عليه وسلم وتطهيراً، وبياناً لهذا الإعجاز الذي في هذه الشريعة، ومن ذلك أنه منع الكتابة تحريماً قدرياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعلم القراءة والكتابة.
ولا يشكل على ذلك أنه كتب مرة اسمه، فأي إنسان لا يكتب قد يكتب اسمه خاصة إذا رآه كثيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم كتب مرة واحدة، وكانت كأنها معجزة من الله عز وجل له، وذلك في الحديبية عندما عقد الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصحيفة، فلما كتب: (محمد رسول الله) قال سهيل بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (امح رسول الله واكتب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فرفض علي وقال: والله لا أمحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم محاها بيده، وكتب اسمه في الصحيفة صلوات الله وسلامه عليه)، وهذه هي المرة الوحيدة، وأما غير ذلك فلم يكتب أبداً صلوات الله وسلامه عليه، ولا قرأ كتاباً، قال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
فلو كان يقرأ ويكتب لقالوا: ذهب وتعلم من أهل الكتاب، وجاء يكتب لنا كلامهم، ويقول لنا: هذا القرآن من عند الله؛ فلذلك حفظه الله عز وجل، فلم يطلع على صحيفة قبل ذلك، ولم يقرأ التوراة، ولم يقرأ الإنجيل، ولم يقرأ أساطير الأولين، وكل الناس يعرفون ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.(284/8)
منع النبي من نظم الشعر قدراً
كانت العادة عند العرب أن الإنسان فصيح اللسان يجيد الشعر ويجيد الخطابة، ويعتبرون هذا من فروسية الإنسان، فيكون بطلاً يقاتل بالسيف وبالرمح وأيضاً يخطب باللسان ويقول الشعر.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فمنع من الشعر قدراً، بل لعله إذا أراد أن ينشد شعر بعض الناس يبدل شيئاً مكان شيء، فكان من يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نشهد أنك رسول الله.
قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69]، فمثلاً قال بعض المشركين من المؤلفة قلوبهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فهذا الشعر موزون له نغمة الوزن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: أأنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فضحك الناس وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بل يقول: بين عيينة والأقرع، فصدق الله إذ يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69] مع أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون الشعر، فهذا عمه أبو طالب قال قصيدة عظيمة في مدح النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال شعراً وغيرهما، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الكلام بالشعر.
والله ذكر الشعراء فقال عنهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224 - 227]، فالذين يقولون الشعر من المؤمنين قليل، والأكثرون من الشعراء تراهم في كل واد يهيمون، ولذلك يقولون: أعذب الشعر أكذبه، يعني الذي فيه مبالغات ومحسنات بديعية كثيرة، فكلما يزداد الشعر كذباً يزداد جمالاً عند من يسمعه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يتكلم بذلك عليه الصلاة والسلام.
فمنعه الله سبحانه قدراً من الشعر، مع أن الشعر في حق غيره يكون مدحاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يتكلم بالشعر.(284/9)
عدم جواز النظر في زينة الحياة الدنيا
أيضاً حرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، وغيره من الناس له أن ينظر إلى حديقة جميلة ويقول: ليت لي مثل هذه الحديقة، أو يرى قصراً جميلاً ويتمنى مثله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له ذلك، قال الله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131].
فيحرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطلع إلى الغنى، وأن يتطلع إلى الدنيا؛ ولذلك كان يذكر أنه ما يسره صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده مثل جبل أحد ذهباً يبقى عنده منه شيء بعد ثلاثة أيام، فينفقه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أيام إلا أن يدخر شيئاً لقضاء دين عليه، أو لنفقة أهله.(284/10)
أحل الله خمس الغنائم لرسوله عليه الصلاة والسلام
أحل الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أشياء ليست لغيره، فمن ذلك خمس المغانم، فجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الخمس فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41].
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لي من المغانم شيء إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)، حتى الخمس سيتكرم عليه الصلاة والسلام ويعطي منه للضيف ولابن السبيل وللأرملة وللمسكين، ومنه يأخذ رزقه صلى الله عليه وسلم وطعامه وطعام أهل بيته عليهم السلام.(284/11)
جواز الزيادة على أربع في الزواج والزواج بمن وهبت نفسها له والزواج بغير ولي
كان للنبي صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة عليه الصلاة والسلام لحكمة التشريع وتبليغ الشريعة.
وكان له أيضاً صلوات الله وسلامه عليه أن يتزوج بمن وهبت نفسها له.
كان له أيضاً أن يتزوج بغير ولي، وهذا لا يجوز للمسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).
والله عز وجل قال عنه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6]، فأي ولي امرأة فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى منه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك تزوج بـ زينب بنت جحش من غير ولي، بل بأمر الله تبارك وتعالى.(284/12)
أحل الله مكة لرسوله يوم الفتح
كذلك مما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة مقاتلاً وقال: (إنما أحلت لي ساعة من نهار، ولا تحل لأحد بعدي)، فكان حلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة ويخرج أهلها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن يقاتل فيها ساعة من نهار، وبعد ذلك حرمت عليه وعلى غيره صلوات الله وسلامه عليه.(284/13)
النبي لا يورث
مما يختص به أيضاً عليه الصلاة والسلام أنه لا يورث، وكل إنسان إذا مات يرثه أهله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، فقد كان له نصيب من فدك وخيبر، وكان له الصفي من المغانم، وله خمس الخمس من الفيء، وله خمس المغانم، ومع ذلك لما مات لم يرثه أحد من أهله، لم ترثه السيدة فاطمة رضي الله عنها ولا علي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة).(284/14)
عدم فسخ نكاح نسائه بوفاته عليه الصلاة والسلام
من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم أن نكاحه لنسائه لا ينفسخ بالوفاة.
فإذا مات النبي صلوات الله وسلامه عليه فلا يحل لامرأة من نسائه أن تتزوج غيره عليه الصلاة والسلام، بل هي زوجته في الدنيا وزوجته في الآخرة، فليس لها أن تتزوج من غير النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد صارت أماً للمؤمنين.(284/15)
جعل الله له الأرض مسجداً وطهوراً
من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام أن الله جعل له الأرض ولأمته مسجداً وطهوراً، وهذا مما ميزت به هذه الأمة على الأمم السابقة، فمن لم يجد الماء ليتوضأ منه تيمم من الأرض، وإن لم يجد المسجد ليصلي فيه صلى في الطريق، فالأرض كلها مسجد وطهور يجوز للإنسان أن يصلي عليها، والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبته أجمعين.(284/16)
تفسير سورة الأحزاب الآية [51]
لقد خص الله رسوله بخصائص كثيرة، ومن ذلك ما وسع عليه في أمر النساء، وهذا يدل على إكرام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر الله في كتابه بذلك، حتى ترضى أمهات المؤمنين بما آتاهن الله وتقر أعينهن ولا يحزن.(285/1)
تفسير قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)(285/2)
تخيير النبي في القسم بين نسائه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب لنبيه صلى الله عليه وسلم: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا * لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:51 - 52].
ذكر الله تبارك وتعالى قبل هاتين الآيتين أنه أحل لنبيه أزواجه اللاتي آتى أجورهن وكذلك ملك يمينه، وذكر له أصنافاً ممن أحلهن له، ثم قال في آخر الآية: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50] علم الله سبحانه ما الذي فرضه للنبي صلى الله عليه وسلم وأحله له، وأعلم المؤمنين بذلك، وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع في نفسه حرج من أن الله أباح له ما لم يبحه لغيره عليه الصلاة السلام.
ثم قال في هؤلاء النساء اللاتي تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، فمن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم جعل الله سبحانه له أن يقسم بينهن بحسب ما يرى عليه الصلاة والسلام، فالقسم على النبي صلى الله عليه وسلم ليس واجباً، وعلى غيره من الناس واجب، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي آتاهن أجورهن فتزوجهن قال له سبحانه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، وكذلك من وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم إن شاء تزوجها وإن شاء أرجأها صلوات الله وسلامه عليه فلم يتزوجها وأخر هذا الأمر.
هنا قراءة الجمهور: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء).
وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وابن عامر وشعبة عن عاصم: (ترجئ) من الإرجاء، وهو نفس المعنى: أي: تؤخر، فكأنه أباح للنبي صلى الله عليه وسلم إذا شاء تزوج، وإذا شاء ترك صلى الله عليه وسلم، ومن تزوجها صلوات الله وسلامه عليه له أن يقسم بينها وبين غيرها، وله ألا يفعل ذلك فيؤخر قسمها لحاجة أو لعذر.
كذلك من وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يرجئها فيؤخرها، وله أن يتزوجها وهذا التخيير من الله تبارك وتعالى.
قال: (إنا أحللنا لك)، وفي هذا الإحلال للنبي صلوات الله وسلامه عليه تيسير من الله سبحانه على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفيه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم قرة عين، إذا علمن أن هذا ليس منه عليه الصلاة والسلام ولكن من الله، فلو أن الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم لعل الواحدة يكون في نفسها شيء من الضيق، وتقول: لماذا يفعل بي كذا؟ لماذا لا يقصدني؟ لماذا أخرني النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيكون في صدرها حرج، ولكن إذا كان الله أباح له ذلك ولا حرج على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فالمرأة تسكت وترضى بأمر الله سبحانه.(285/3)
الحكمة من تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في القسم بين النساء
وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي} [الأحزاب:51] أي: تضم إليك من شئت {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] أي: إذا أخر فلم يتزوج ثم ابتغاها بعد ذلك، فله أن يتزوجها صلى الله عليه وسلم، أو تزوج ومعه نساء، فقسم لفلانة ولفلانة ولم يقسم لفلانة ثم أراد أن يغير بعد ذلك فيقسم لفلانة مع هؤلاء؛ فهذا من حقه عليه الصلاة والسلام.
ولعل الواحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد تضايق النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، مثلما حدث من السيدة حفصة رضي الله تبارك وتعالى عنها من شدة غيرتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فضايقت النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأفعال فطلقها صلوات الله وسلامه عليه، ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (راجع حفصة فإنها صوامة قوامة)، أي: لها فضيلة عند ربها سبحانه، فهي كثيرة الصيام والقيام، فردها النبي صلوات الله وسلامه عليه وأرجعها.
فهنا ربنا يقول له صلى الله عليه وسلم: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب:51] أي: من عزلها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم لها، أو طلقها ثم راجعها صلوات الله وسلامه عليه؛ فلا حرج عليه في ذلك، حتى تعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أبيح له ذلك من عند الله سبحانه، ولا حرج عليه في ذلك، فتطمئن الواحدة أن هذا أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس من حقها أن تعترض، واعتراضها ليس على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون على ربها سبحانه، فهذا قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51].
ذلك أي: ما أخبر به سبحانه وتعالى، قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] أي: هذا منا نحن مننا عليك به، وأحللنا لك ذلك، وجعلنا لك أن ترجئ وأن تؤوي، وهذا من حقك فلا جناح عليك.
فإذا علمت المرأة أن هذا تشريع من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم اطمأن قلبها إذ هو صلى الله عليه وسلم لا يفعل هذا من عند نفسه، وإنما بإباحة الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] كأنه إشارة إلى أن الأفضل له ألا يطلق أحداً من نسائه عليه الصلاة والسلام، وقد كاد أن يطلق السيدة سودة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فعلمت سودة بذلك، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لي في الرجال، ولكن أحب أن أكون زوجتك في الجنة).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفارقها، ووهبت يومها للسيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم السيدة سودة للسيدة عائشة رضي الله عنها.
قال الله عز وجل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب:51] أي: إذا عرفت الواحدة منهن أنها بالصبر على ذلك تكون زوجتك في الدنيا، وتكون زوجتك في الآخرة؛ تقر عينها بذلك، والعين القارة هي المستقرة، والقارة الباردة، والإنسان إما أن يكون حزيناً خائفاً، وإما أن يكون مسروراً مستقراً.
فالإنسان الخائف الحزين غير الإنسان المسرور المطمئن المستقرة عينه، فمعنى (تقر أعينهن) أي: تستقر العين بالطمأنينة التي في القلب، وكذلك تقر العين أي تبرد العين، والإنسان الحزين عينه حارة ودمعته حارة، والإنسان المسرور عينه قارة، ودمعته باردة.
إذا بكى من الفرح.
إذاً: تنفيذ أمهات المؤمنين أمر الله تبارك وتعالى، وعلمهن أن هذا من عند الله سبحانه أباح لرسوله ما شاء، وله أن يؤوي إليه من عزل؛ هذا كله أدنى أن تقر أعينهن.
{وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51].
أي: يرضين كلهن بما أعطيتهن، فترضى كل واحدة وتعلم أن هذا القسم من عند الله سبحانه، وأن التخيير للنبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، فترضى كل واحدة، فهذا أمر الله، فيصبرن ويرضين بأمر الله سبحانه وتعالى.(285/4)
علم الله بما في القلوب
قال الله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51] كل إنسان قد يظهر شيئاً بلسانه ويخفي ويضمر شيئاً في قلبه، فالله عز وجل أعلم بما في هذه القلوب.
قال الله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:51] في هذا إشارة إلى أن الإنسان قد ينطق بالشيء الذي لا يوافقه قلبه عليه، فيقول: أنا راض، وهو ليس براض في القلب، والله أعلم بما في القلب.
والله حليم سبحانه وتعالى، يحلم عليكم، فالإنسان في حال التهور قد لا يرضى بشيء، ثم بعد ذلك يراجع نفسه، والله تبارك وتعالى يعلم من هذا الإنسان ذلك، ويعلم ما أضمر في قلبه، ويعلم أنه سيرجع إلى الحق ثانياً، فيحلم عليه من فضله ويكرمه سبحانه، ولا يعاجله بالعقوبة.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51] فيه إشارة لجميع المؤمنين أن الله أباح للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ومنع المؤمنين من هذا الشيء، فأباح له أن يجمع أكثر من أربع من النسوة، أما المؤمنون فليس لهم إلا أربع لا يزيد الرجل على ذلك.
والإنسان يلزمه أن يعدل بين النساء، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل له ربه سبحانه من حقه أن يؤوي من يشاء أي: يضم من يشاء ويعزل من يشاء، لكن غيره من المؤمنين ليس له ذلك، فإذا تزوج بامرأتين فليس من حقه عزل هذه وضم هذه، وإذا كان لا يريدها فليطلقها، ولا يعضل هذه المرأة، فلا بد من القسم بينهما، ولا بد من العدالة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل صلوات الله وسلامه عليه، مع تخيير الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤوي من يشاء ويضم من يشاء ويعزل من يشاء، وكان صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الليلة الواحدة.
وغير النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يقسم ويعدل بين النساء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وغيره: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل).
فالإنسان يقوم يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى في موقف طويل جداً، فالله يصبر من يشاء، ويضيق على من يشاء، فالإنسان الظالم لنسائه يأتي يوم القيامة وشقه مائل، يعني: يأتي وهو مفلوج، أي مشلول، لأنه مال إلى إحدى نسائه على الباقيات.
والميل نوعان: ميل قلبي وهذا لا يملكه العبد، فيحب فلانة أكثر من فلانة، وجاء في حديث رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، وكان يقول: (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) فهو قسم بين النساء في النفقة من الطعام والشراب والكسوة، وهذا فيما يملك، أما ما لا يملكه وهو أنه كان يحب السيدة عائشة أكثر من غيرها، فهذا لا يملكه صلى الله عليه وسلم، والله هو الذي يملك ذلك سبحانه وتعالى.
فالزوج قد يميل لإحدى زوجاته أكثر من غيرها، وهذا لا يملكه العبد، فالله عز وجل يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51]، فهذا الميل خلقه الله عز وجل في القلب، فالإنسان لا حرج عليه في ذلك.
والميل الآخر: أن يبيت مثلاً عند هذه أسابيع والثانية لا يأتيها كل أسبوع إلا مرة، أو ينفق على هذه ويسرف وهذه لا يعطيها شيئاً، فهذا هو الجور، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، فالإنسان لا يجمع اثنتين إذا كان لا يقدر على العدل بينهما.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(285/5)
تفسير سورة الأحزاب [52 - 53]
لما اختار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله ورسوله والدار الآخرة أكرمهن الله عز وجل بأن حرم على نبيه أن يتزوج عليهن، ثم أباح له ذلك ليريهن كرامته صلى الله عليه وسلم عنده، ثم بين الله عز وجل الآداب التي ينبغي للضيف أن يراعيها تجاه المضيف، وبين مدى خلق النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر على ضيوفه وتحمل أذاهم.(286/1)
إكرام الله سبحانه لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبيان فضل النبي عليهن رضي الله عنهن
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:52 - 53].
في هذه الآيات يقول الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يحل له النساء من بعد ما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فكافأ الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على اختيارهن للآخرة بأن حرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عليهن صلوات الله وسلامه عليه.
قال سبحانه: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب:52]، يعني: وحتى لو طلق واحدة من هؤلاء التسع وأراد أن يتزوج واحدة مكانها فلا يحل له ذلك.
قال: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، حتى ولو أعجبك حسن امرأة فليس لك أن تتزوجها مكافأة من الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم على حسن اختيارهن فيما خيرهن الله سبحانه وتعالى فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب:52]، أي: جميع النساء، وهنا بالياء.
والقراءة الأخرى: قراءة البصريين وقراءة أبي عمرو ويعقوب: (لا تحل لك النساء)، فجاء بضمير المؤنث للدلالة على جماعة النساء، والمعنى: لا يحل لك جميع النساء، ولا تحل لك جماعة النساء من بعد هذا التخيير واختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة.
قال: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب:52]، وهذه قراءة الجمهور.
وقرأ البزي عن ابن كثير: (ولا أن تَّبدل بهن)، بتشديد التاء فيها، فإن النون تخفى في التاء وتشدد التاء فيها، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، فإذا وقف يعقوب عليها قال: (ولو أعجبك حسنهنه).
ثم قال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] فأجاز الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ملك اليمين، فإذا ملك من الإماء فله أن يطأهن صلوات الله وسلامه عليه، لكنه لا يتزوج الحرائر على أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وقد استمر هذا التحريم إلى وقت معين، ثم أبيح له بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، فامتنع هو نفسه صلوات الله وسلامه عليه ولم يتزوج عليهن.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء عليه الصلاة والسلام.
فالله أحل له ذلك ليظهر فضله على نسائه عليه الصلاة والسلام، في كونه لا يختار بعدهن أن يتزوج عليهن صلوات الله وسلامه عليه.(286/2)
جواز النظر إلى المخطوبة وبيان ضابطه وشروطه
وفي قوله سبحانه: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، فيه إشارة إلى نظر الإنسان إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها فإن أعجبه حسنها ودلها وسمتها فليتزوجها، وقد تعجب المرأة الإنسان ولا تعجب غيره، فالجمال شيء نسبي، ولكل إنسان اختيار معين، فقد يرضيك ما لا يرضي غيرك، ويرضي غيرك ما لا يرضيك.
فالله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، وقد جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، وأن للرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها، وإلا فالأصل: أن الإنسان يغض بصره، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل إلا للضرورة والحاجة.
جاء في سنن الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة: أنه أراد أن يتزوج امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما).
وهذا من محاسن الشريعة العظيمة، فلا يجوز أن يضيق على الإنسان الذي يريد أن يتزوج امرأة بألا ينظر إليها أصلاً، وإنما يبعث أحداً ليراها بدلاً عنه، ولربما بعث امرأة لتنظر إلى زوجته فلما رجعت وصفتها له على حسب ما رأتها، فيكتشف عند الدخول بها أنها على خلاف ما وصفت، وقد ذكرنا بأن الجمال نسبي متفاوت؛ فلذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم هنا أن ينظر إليها، وذلك لأجل أن تدوم الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة، فلا تحصل نفرة لأنه لم يرها إلا يوم الفرح.
وبعض الناس عندهم من التقاليد أن الرجل لا يرى المرأة إلا يوم الدخلة كما هو في الصعيد وغيره، وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر المغيرة أن ينظر إليها قبل ذلك إذا أراد أن يخطبها.
وجاء في حديث آخر: أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً)، فالمهاجري هذا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار وهو لا يعرف هذه المرأة ولم يرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين له أن في أعين الأنصار شيئاً، ولعل هذا الشيء صغر أو نحوه، ولم يكن المهاجرون متعودين على ذلك في مكة.
قال له: (انظر إليها قبل أن تتزوجها فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وهذا الأمر ليس على الوجوب، وليس معناه أن الإنسان يأثم إذا لم ينظر إلى المرأة، ولكن هذا الأمر إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعله سبباً في دوام الحياة، وحتى تكون في وفاق مع هذه المرأة التي تريد أن تتزوجها.
روى الإمام أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)، أي: فإن استطاع أن يذهب إلى بيتها ليراها وهي مع أبيها أو أخيها مثلاً فليفعل؛ لأن الخطبة مشروعة في الإسلام، مع أن الخطبة ليست عقداً وليست زواجاً، ولكنها مقدمة حتى ينظر الرجل وتنظر المرأة، فيذهب إليها وهي مع محارمها فينظر إليها.
وجاء عن محمد بن مسلمة في سنن الإمام ابن ماجه ومسند الإمام أحمد أنه قال: خطبت امرأة فجعلت أتحيل لها حتى نظرت إليها، يعني: رأى الوقت المناسب الذي يمكنه فيه أن ينظر إليها ولم يشأ أن يحرجها، فكانت هي تذهب إلى حقلها وهو يختبئ لها، فنظر إليها فرأى وجهها فتقدم لها وتزوجها، فرآه بعضهم فقال له: أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه: نعم، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها).
بقيت هنا مسألة: وهي متى ينظر إليها؟ فلا يختبئ للنساء لينظر إليهن وهو لا يريد الخطبة أو الزواج فهذا لا يحل له، بل إذا أراد خطبتها فليذهب إليها عند أهلها وينظر إليها، ولو فرضنا أنه لم يتيسر له ذلك وتيسر في مكان آخر فله أن ينظر إليها، لكنه لا يحل له أن ينظر إليها وهي عارية مثلاً، ولكن ينظر إلى الوجه وإلى الكفين فقط، فهذه هي الأشياء التي أباحت الشريعة للإنسان أن ينظر إليها في المرأة.(286/3)
عدم اشتراط الإذن في النظر إلى المخطوبة
قال الإمام مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها، هذا اختيار الإمام مالك: أنه لا ينظر إلى المرأة إلا أن تكون المرأة آذنةً له في ذلك فينظر إليها بإذنها.
وذهب الشافعي وأحمد: إلى أنه ينظر إليها بإذنها وبغير إذنها، سواء أذنت أم لم تأذن، فقد يذهب الإنسان إلى بيت إنسان يريد خطبة ابنته ويكون متفقاً مع وليها أن ينظر إليها، وقد لا يقول لها هذا الشيء حتى لا يحرجها إذا رفض الرجل أن يتزوجها، فيستدعي البنت لشيء معين فينظر إليها الضيف الذي يريد خطبتها من غير أن تعرف أنه يريدها، حتى إذا لم يرد زواجها لم يحدث في قلبها شيء من الحزن.
وقد يجوز النظر بالاتفاق مع أهلها: كأن يخطب الإنسان في النهار فتحضر البنت فينظر إلى وجهها وينظر إلى كفيها بالاتفاق المسبق مع أهلها، وذلك قول الشافعي وأحمد.
وقالوا: بشرط أن تكون مستترة، فلا تدخل عارية أو بملابس البيت بحيث إنه ينظر إلى أكثر من ذلك، ولكن ينظر إلى الوجه والكفين فقط.
قال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم منها، هذا اختيار الإمام الأوزاعي رحمه الله.
فالشاهد: أنه يجوز للإنسان أن ينظر من مخطوبته إلى وجهها وكفيها، فإذا رأى منها ما يدعوه إلى أن يتزوجها فليتزوجها، لكن لا يجوز أن ينظر إليها كل مرة، ولا أن يقف في الشارع لينظر إلى بنات الناس ويقول: إني أريد أن أخطب، ولكن إذا ألقي في قلب أحدكم خطبة امرأة فله أن ينظر إليها، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.(286/4)
حكم تسري النبي لأمة كافرة
هنا يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52]، فلم يحرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطأ بملك اليمين، وهنا اختلف العلماء: هل ملك اليمين للنبي صلى الله عليه وسلم عام في المسلمة والكافرة، أم أنه خاص بالمسلمة فقط؟ والناظر في حياته صلى الله عليه وسلم يجد أنه لم يحدث أنه وطأ بملك يمينه إلا امرأة مسلمة، وقد فعل ذلك يوم أن أهديت إليه امرأة قبطية فأسلمت عنده صلى الله عليه وسلم ووطئها صلوات الله وسلامه عليه، وبناءً على ذلك يقول بعض العلماء: إنه لم يحل له ذلك أصلاً.
ويقول البعض الآخر: إنه يحل له كما يحل لغيره، ولكن لم يحدث ذلك، فالخلاف محصور في الحلية أو الحرمة فقط، ولكنهم اتفقوا على أنه لم يحدث ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه.
والذين قالوا: بأنه منع من ذلك، قالوا: تنزيهاً لقدره صلى الله عليه وسلم عن مباشرة امرأة كافرة، وقد قال الله عز وجل للمؤمنين: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، فإذا كان المؤمن لا يمسك بعصمة امرأة كافرة فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟!(286/5)
بيان وقت نزول آية الحجاب، وما يجب على الضيف تجاه مضيفه
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53].
في هذه الآية أدب جم للمؤمنين يؤدبهم الله سبحانه وتعالى به في أمر الطعام وأمر الجلوس في الضيافة، فيجب على الإنسان أن يلتزم بأدب الضيافة.
ويجب على المضيف أن يدعو الأتقياء لطعامه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأكل طعامك إلا تقي)، والراجح في هذا النهي أنه للإرشاد لا للتحريم، فيجوز للإنسان أن يطعم إنساناً شقياً أو مسلماً أو كافراً، سواء على وجه الهدية أو على وجه الصدقة، ولكن لا يكون هذا هو الغالب على أمر الإنسان أنه لا يطعم إلا الإنسان الشقي الفاجر، بل إذا دعا شقياً ليطعمه فليكن على وجه الدعوة له إلى دين الله عز وجل، وعلى وجه تحبيبه في دين الله سبحانه، فلابد أن توجد علة من وراء دعوتك له.
أما أن يدعو إنساناً شقياً بعيداً عن الله سبحانه للصحبة فقط فلا، لأنه قد تتعدى الأخلاق السيئة إليه؛ لأن الطباع معدية أشد من المرض، فحين يعتاد الإنسان أن يجلس مع إنسان رديء فيأكل معه ويشرب معه يتعلم منه ما هو عليه من أخلاق بذلة سافلة، والطيور على أشكالها تقع، فالإنسان الذي يود إنساناً غير سوي فيتخلق بأخلاقه لابد وأن يكون هناك شيء جمع بينهما ليصاحب هذا الإنسان.
ولذلك جاء في الحديث: (المرء مرآة قرينه)، فالإنسان مرآة لقرينه، فصورة قرينه تنطبع عليه، فالأخلاق هي التي تجمع بينهما، فلذلك نقول: إنه إذا دعا مثل هذا فليكن على وجه الندرة، وليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى ويحببه في دين الله سبحانه ويدله على الطريق السوي، لكن يجب أن تكون العادة أنه لا يأكل طعامك إلا الإنسان التقي؛ لأن التقي إذا دخل بيتك غض بصره، وإذا أكل طعامك دعا لك، وإذا أكل شيئاً قليلاً شكر لك ولم يعترض عليك ولم يذمك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53].
وسبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها أولم عليها فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبيت النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن غرفة واحدة، فامرأته في الغرفة وهو يسدل الحجاب بينه وبين الناس، وهنا أكل الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخرجوا، والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر خروجهم.
وهذا لا يليق أبداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم الآن معه امرأته وهي ليلة زفافه صلى الله عليه وسلم، وما زال الناس قاعدين في البيت! فجلسوا يتحدثون ولم يخطر ببال أحدهم أنهم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج صلى الله عليه وسلم ورجع لعلهم يستحون ويمشون فلم يخرجوا، وخرج مرة ثانية ورجع فوجدهم جالسين، فكان هذا ثقيلاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول أنس بن مالك: إن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مولية وجهها إلى الحائط، فهي غرفة واحدة موجود فيها النبي صلى الله عليه وسلم وامرأته، وذلك قبل نزول آيات الحجاب، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم معطية للناس ظهرها، ووجهها إلى الحائط، والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر خروج هؤلاء، فأخذ يخرج ويرجع حتى فهموا منه ذلك فتحرجوا في النهاية.
قال أنس: فما أدري! أنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني، قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه ونزل الحجاب.
فنزول آيات الحجاب كان بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل هذه الآية: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، فمنع الناس من دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يدخلوا إلا إذا دعوا لذلك وإلا فلا.
وحتى لو دعاك للدخول إلى بيته فلا تدخل من أول النهار، ولكن إذا نضج الطعام فاذهب وكل، فإذا أكلت فانصرف ولا تجلس في بيته؛ لأن ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذي أهل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب:53]، بشرط: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، وإناء الشيء، أي: نضجه، فلا تنتظر الطعام في بيته إلى أن ينضج، ولكن اذهب وقت نضجه فقط.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، أي: إذا دعيتم للطعام فادخلوا، فإذا أكلتم فانصرفوا ولا تجلسوا للحديث بعده، وهذا أدب عظيم للضيف يجب أن يعلمه جيداً.
يقول ابن أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(286/6)
تفسير سورة الأحزاب الآية [53]
لقد حرم الله على المؤمنين دخول بيت نبيه عليه الصلاة والسلام إلا إذا أذن لهم إلى طعام، ويكون هذا الدخول بآداب، حتى لا يؤذوا النبي بالدخول عليه في وقت لا يحب دخولهم عليه، لاسيما وبيوته كانت صغيرة.(287/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي)(287/2)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:53 - 55].
في هذه الآيات من سورة الأحزاب يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بمراعاة الأدب العظيم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] وثبت في نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها أولم، وكانت النساء إلى ذلك الحين لا يحتجبن من الرجال، وكان الرجال يدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وتكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، وبيته هو غرفة، فكان الضيف عندما يدخل معه صلى الله عليه وسلم فالمرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تولي ظهرها للضيف ووجهها للحائط.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أولم على السيدة زينب رضي الله عنها ودخل الناس يأكلون ووجهها للحائط وظهرها للناس، والناس يدخلون فيأكلون وينصرفون، ومكث مجموعة منهم أكلوا ولم ينصرفوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم ساءه هذا الشيء، فخرج صلى الله عليه وسلم ورجع لعلهم يفهمون، فلم ينصرفوا وبقوا يؤانس بعضهم بعضاً بالحديث، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج، ففي النهاية انتبهوا فخرجوا، وأنزل الله عز وجل هذه الآية يؤدب المؤمنين أن هذا لا ينبغي أبداً، وعلى الإنسان ألا يكون ضيفاً ثقيلاً على من ينزل عليه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53].
إذاً: الأصل حرمة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل استثنى حالة واحدة وهي أن يدعوكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، واستثنى من هذا الاستثناء أنه حتى ولو دعاكم إلى بيته لا تدخلوا إلا في وقت نضج الطعام فقط، لتأكلوا ثم تنصرفوا، فإذا طعمتم لا يجوز لكم الجلوس مستأنسين لحديث، بل انصرفوا.
وهذا أدب عظيم للضيف في كيفية التعامل مع صاحب البيت، وخاصة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيقول الله تبارك وتعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب:53].
قوله: (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، يعني: غير منتظرين إناه، والمقصود هنا: وقت نضجه، فإذا دعا رجل إنساناً إلى طعام ليتغدى عنده فلا يذهب من الصبح وينتظر مائدة الأكل، بل لا يذهب حتى ينضج الطبيخ، فإذا أكل انصرف.(287/3)
أهمية الحرص على الوقت وعدم تضييع وقت الآخرين
على الإنسان إذا دعي إلى طعام ألا يكون ضيفاً ثقيلاً على من يذهب إليه، فإذا دعاك إنسان إلى طعام تذهب في وقت الدعوة الذي حدده المضيف وليس قبل هذا الوقت.
وعلى الإنسان أن يفي بوعده، وأن يلتزم بالمواعيد، فوقت المسلم غال، يقضي وقته في ذكر الله عز وجل، يقضيه في قضاء حوائجه، يقضيه في عمله، يقضيه مع أهله وأولاده، يقضيه في صلاة، يقضيه في عبادة، فعلى كل إنسان أن يراعي وقت الآخر، وإذا كان يريدك لحاجة لا تقل: دعوه ينتظر! وبعض الناس قد يزور آخر في وقت متأخر من الليل، فيضيع عليه عمل اليوم التالي أو يضيع عليه صلاة الليل، فهذا ما عرف قيمة الوقت.
فانظروا إلى هذه الآية كيف تؤدب الصحابة إذا دعوا إلى طعام، حتى لا يضيعوا وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أكلوا ينصرفون ولا يستأنسون لحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان طيب العشرة، وكان لا يواجه أحداً بما يكره، دخل عليه رجل فقال وهو داخل: (بئس أخو العشيرة)، فعندما جلس إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم معه ويتبسط معه ويضحك معه، صلوات الله وسلامه عليه.
فربنا يؤدب المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يؤانسك بالحديث ليس معنى هذا أنك تجلس وتأخذ راحتك وتضايق النبي صلى الله عليه وسلم، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53]، فعلى الضيف إذا دعي إلى الطعام أن يذهب في الموعد الذي حدد له، لا بعده ولا قبله، فإذا فرغ من الطعام فلينصرف ولا يجلس إلا أن يمسك به صاحب البيت، ويصر على مكثه فهذا أمر آخر، ولكن دائماً عود نفسك إذا دعاك إنسان ألا تمكث بعد الطعام كثيراً، حتى لا تضايق صاحب البيت، ولا تضطره أن يقول لك: ورائي شغل، ورائي كذا، أريد أن أنام، فتحرج صاحب البيت في ذلك.
قال ربنا سبحانه: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} [الأحزاب:53] أي: أكلتم {فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ} [الأحزاب:53] من الأنس، والأنس: ضد الوحشة، فالأنس يكون بالمحادثة اللطيفة، وبطيب المجلس، وبطيب المعاشرة.
فالمعنى: حتى لو بدا لك من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا تستأنس بحديث، وتعود لتسأله عن شيء وراء شيء، وتتكلم وتطيل المجلس، وهذا أدب للصحابة وغيرهم أولى بهذا الأدب.
فعلى الإنسان أن يتأدب بهذا الأدب، فإذا أدخلك إنسان بيته لطعام فلا تطل في الكلام معه، فهو قد يريد أن يقوم من الليل، يريد أن يصلي الفجر، يريد أن يحضر الدروس، يحترم بعضنا وقت بعض، فالوقت عظيم جداً، الوقت فرصة عمرك ولن يعوض مرة ثانية، فلا تضيع وقتك ولا وقت غيرك، فالوقت غال جداً، الوقت هو عمرك، الوقت كالذهب، الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، الوقت عظيم، إذا ذهب لا يعوض أبداً، فلا تضيع وقتك ولا وقت غيرك.
فعلينا أن نراعي هذا الأدب الذي علمناه الله تبارك وتعالى، وهو أدب الضيافة، وأدب الحديث، وعدم الإكثار من السؤال، وعدم تضييع أوقات الناس، إذا رأيت أخاك في المسجد يقرأ القرآن لا تقل له: تعال نتكلم قليلاً وتشغله عن القرآن، فالقرآن أعظم الأشياء، دعه يقرأ القرآن ويتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
وإذا رأيت إنساناً جالساً في المسجد من الفجر إلى الشروق من أجل أن يذكر الله، ويعمل بحديث: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر عمرة تامة تامة تامة)، فلا تجلس لتكلمه وتضيع عليه أجر العمرة التامة.
عود نفسك أن تستأنس بالله تبارك وتعالى، كثير من الناس لا يعرف هذا الشيء؛ فإذا جلس وحده لذكر الله يمل بسرعة؛ لكن إذا جلس يتكلم مع غيره فقد يجلس ساعات، فعود نفسك على الأنس بالله سبحانه، وأن تجلس وتتفكر في الله سبحانه، إذا سبحت تتأمل في معنى التسبيح، إذا حمدت الله سبحانه تتفكر في معنى الحمد، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
عود نفسك على الخلوة مع الله تبارك وتعالى، وسيأتي رمضان وكثير منكم سيعتكف، لكن قد تجد الاعتكاف يتحول إلى سمرة، تراهم ساهرين يتكلمون، والنهار يضيعونه في النوم، وهكذا تضيع الأيام من غير فائدة كبيرة.
فلنعود أنفسنا على الخلوة مع الله تبارك وتعالى، ونكثر من ذلك، وأهل الجنة يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، فأهل الجنة متعتهم تسبيح الله تبارك وتعالى، فالذاكر يستمتع في الدنيا بذكر الله سبحانه فيمتعه الله عز وجل به في الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.(287/4)
حرمة إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام
يقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53].
أي أن الإطالة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت تؤذيه وتضايقه، وكذلك كثرة السؤال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فلا تضيعوا الوقت في كثرة السؤال، وتعلموا ما يقوله لكم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا داعي للإكثار من الأسئلة.
فلم يزالوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضايقوه، فيجيء القرآن يؤدبهم: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12]، فالآن تصدق ثم اسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأشفقوا من تقديم الصدقات، فلما أبيح لهم بعد ذلك أن يسألوا بلا تقديم صدقة استحيوا من أنفسهم، فلم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبهم أن يأتي الأعرابي فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيستفيدون من ذلك، ولا يسألونه إلا لحاجة أو ضرورة.
وفي هذه الآية يقول الله عز وجل: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53]، كان حياء النبي صلى الله عليه وسلم يمنعه أن يأخذ حظ نفسه صلى الله عليه وسلم فيستحيي، ولكن الله لا يضيع ذلك؛ فإذا بالله عز وجل يعلم المؤمنين ألا يؤذوا النبي صلوات الله وسلامه عليه فيدفعونه إلى أن يستحيي ولا يبين لهم ذلك.(287/5)
إثبات صفة الحياء لله تعالى
قوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
الله تبارك وتعالى يستحيي، ولكن لا يستحيي من الحق، فالله حيي كريم سبحانه، وفي الحديث: (يستحيي إذا رفع عبده يديه أن يردهما صفراً)، فإذا رفع العبد يديه فالله يستحيي أن ينزل العبد يديه من غير أن يأخذ حاجة، فيعطيه ربنا سبحانه بكرمه وفضله.
إذاً: الله يستحيي أن يسأل فلا يعطي، فمن سأله أعطاه سبحانه بفضله وبكرمه، ولكن لا يستحيي من الحق: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فالله لا يستحيي من الحق حتى ولو كان الأمر أن يضرب لكم المثل بالبعوضة، والبعوضة خلق من خلق الله لا تقدر أن تخلق مثلها، فالله الذي خلقها، وهو يضرب المثل بالشيء الذي خلقه، وكل خلق الله سبحانه وتعالى عظيم.
إذا تفكرتم وتدبرتم وتأملتم علمتم لم ضرب الله عز وجل المثل بالبعوضة أو بالذبابة، والمتأمل يعرف أن ذكر هذا الشيء فيه معجزة من المعجزات، فمثلاً قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، الطالب: الذي يطلب الذباب ضعيف، والمطلوب: وهو الذباب أضعف منه، فإذا أخذ الذباب شيئاً بفمه فإنه ينزل منه سائل يحوله إلى شيء آخر، فمستحيل أن ترجع ما أخذه الذباب.
وضرب الله المثل بالبعوضة، وفيها آيات من آيات الله، تدخل إبرتها في جسم الإنسان وتسحب منه الدم، وترى في الظلام، فمعها أشعة فوق بنفسجية أو تحت الحمراء ترى بها في الظلام العرق الذي تسحب منه الدم، فالبعوضة أنت لا تهتم بشأنها، والله لا يستحيي أن يضربها مثلاً، فالبعوضة شيء عظيم من خلق الله سبحانه وتعالى، فهي تفعل هذا الشيء الذي لا تقدر أنت على مثله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].
إذاً: ربنا في أمر الحق في الإرشاد في الدعوة إليه لا يستحيي، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الحق ولا يستحيي من ذلك، ولما استحيا مرة عاتبه الله عز وجل، قال الله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37]، فالله أوحى إلى نبيه أن زينب رضي الله عنها زوجة زيد بن حارثة سيطلقها زوجها، ثم أنت ستتزوجها، وزيد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أريد أن أفارقها، فقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] وهو يعلم أن الله قد ذكر له أنه سيطلقها.(287/6)
معنى قوله تعالى (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)
قال الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
أمر الله زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون من وراء الستر، ويأتي من يريد أن يسأل شيئاً من وراء حجاب، ولا تكون أمامه بحجابها، بل تخاطبه من وراء ساتر.
وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب:53] يعني: متاعاً من متاع البيت، أو إنسان يسألها سؤالاً في من الأحكام الشرعية.
فقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب:53] أي: ما يتمتع به من العواري، وقيل: الفتوى.
وقوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أي: هذا الحجاب الذي يضرب بينكم وبين نساء النبي صلى الله عليه وسلم أطهر لقلوب المؤمنين، فلا يحدث أحد نفسه بشيء، ولا يمنيها بشيء، وكذلك أطهر لقلوب نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهن اللاتي طهرهن الله، قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، فإذا كانت الطاهرات المطهرات أمرن بذلك، فغيرهن من باب أولى أن يأمرن بالتحجب والاستتار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(287/7)
تفسير سورة الأحزاب [53 - 55]
لقد أنزل الله آية الحجاب، وبين الحكمة منه، وأن فيه طهارة للقلوب، وصوناً للأعراض، وبين من يجوز للنساء أن يظهرن عليه من محارمهن ونسائهن وما ملكت أيمانهن.(288/1)
أدب التعامل مع البيت النبوي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:53 - 54].
يذكر الله تبارك تعالى في هاتين الآيتين من سورة الأحزاب للمؤمنين أدباً من الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره أيضاً، فهو أدب الدعوة إلى الطعام، فإذا دعي إنسان إلى بيت للطعام سواء عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند غير النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتأدب بهذه الآداب.
قال الله هنا: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، وقال في آية أخرى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
فأمر الله المؤمن ألا يدخل بيت النبي حتى يدعى إلى طعام، وبيت النبي صلى الله عليه وسلم بيت صغير، وكان له تسعة بيوت هي تسع غرف، لكل امرأة من نسائه بيت من البيوت، فيصعب أن يدعو أناساً فيدخلون ويضيقون على النبي صلى الله عليه وسلم المكان الذي هو فيه، ويضيقون على زوجه عليه الصلاة والسلام، فأمرهم الله أن يلتزموا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا دعوا إلى طعام فليأتوا في وقت الإطعام ليأكلوا، ولا يمكثون عند النبي صلى الله عليه وسلم لا لسؤال ولا لحديث ولا لغيره.
قال: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] والاستئناس للحديث أن الإنسان يستشعر الانبساط من صاحب البيت فيستأنس منه، وهذا من أدب صاحب البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عظيم اللطف بأصحابه، ولعل لطفه هذا صلوات الله وسلامه عليه كان يطمعهم في المكث وفي الكلام معه، فربنا أدبهم ألا يطمعوا في هذا الشيء، فلا يطيلوا الجلوس في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فإذا طعمت فاخرج وانصرف.
وكذلك في الدخول إلى بيوت غير بيوتكم، {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] فتدخل إلى البيت بإذن، فتستشعر الأنس من صاحب البيت وأنه راض بدخولك عنده، فإذا سلمت واستأذنت وشعرت بالأنس من صاحب البيت دخلت، فإذا طعمت وانتهت الضيافة فاخرج ولا تمكث، فمن أدب الضيف أنه لا يحل له أن يمكث في بيت مضيفه حتى يؤثمه أو حتى يحرجه.
قال الله سبحانه: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53].
(إناه) بمعنى: وقت النضج، أي: لا تنتظروا إلى أن يطبخ الطعام، ولكن ادخلوا في وقت الأكل وليس في وقت طبيخه.
{وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب:53] يعني: بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أذن لكم فادخلوا.
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] أي: لا تمكثوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] يعني: لا تستأنسوا بالكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حديثه الطيب الجميل يطمعك أن تمكث عنده، وهذا من أدبه عليه الصلاة والسلام، لكن على الضيف أن ينصرف بعد الأكل.
{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53] يعني: المكث عنده في بيته صلى الله عليه وسلم، فالإطالة والسؤال والكلام والاستئناس كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يضيق عليه مكانه.
{فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53] أي: يستحيي أن يقول للناس: اخرجوا، ففي عرسه صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب، دعا الناس وليس له إلا غرفة واحدة، وجلست فيها السيدة زينب مقبلة بوجهها إلى الجدار، وهذا قبل نزول الحجاب، فبقي أناس بعد الأكل يتكلمون عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تضجر صلى الله عليه وسلم، فقام وخرج خارج الحجرة لعلهم يستشعرون ذلك ويخرجون، فما فهموا بل بقوا قاعدين، فرجع ودخل ثم خرج صلى الله عليه وسلم حتى يخطر ببالهم، فلم يفهموا، ثم مرة ثالثة، وفي الأخيرة انتبهوا فقاموا وانصرفوا، وأرخي النبي صلى الله عليه وسلم الستر بينه وبين أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان صغيراً.
وهنا جاء كلام الله سبحانه تأديباً للجميع، فقال الله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، يعني: من ساعة نزول آية الحجاب إذا أردتم سؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم حاجة أو معونة من المعونات، فليكن هذا من وراء حجاب، وليس لكم أن تتكلموا معهن مباشرة، ولكن لا بد من وراء ساتر.
قال: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ} [الأحزاب:53] وهذا الأمر العظيم الذي أمركم الله سبحانه وتعالى، وهذا الأدب الجم الذي فيه هذه الآية: {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
لاحظ أن الله سبحانه يتكلم عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم التي قال الله عز وجل لهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يريد الله أن يطهرهن، وأن يذهب عنهن الرجس سبحانه وتعالى بهذه الآداب حين يلتزمنها، فيؤدبهن الله سبحانه ويطهرهن، وقد فعل ذلك سبحانه، فهن الطاهرات المطهرات رضي الله تبارك وتعالى عنهن.
ومع ذلك أمر الناس فقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لأن الإنسان عند كلامه المباشر مع المرأة قد يطمع فيها، وقد تطمع المرأة في الرجل، فإذا كان هذا مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي عصمهن الله سبحانه، وحفظهن بسبب أنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمع غيرهن اللاتي فيهن مطمع من باب أولى.
فنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا طمع لأحد أن يتزوج واحدة منهن، فالمرأة التي يطمع الإنسان في الزواج بها من باب أولى أن تؤمر بالتستر عنه، ويتكلم معها من وراء حجاب، حتى لا يطمع الرجل في المرأة.
قال الله سبحانه: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ذلكم أطهر لقلوب الرجال، وأطهر لقلوب النساء.(288/2)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم وعصم نساءه أن يؤذى فيهن صلوات الله وسلامه عليه.
قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] فحرم الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوج أحدهم زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الآية نزلت في سبب تحديث بعض المنافقين نفسه بذلك، وقد حدث بعضهم غيره بذلك، فقال بعض المنافقين: ما بال محمد يتزوج من نسائنا، والله لئن مات محمد لنتزوجن نساءه! فهذا المنافق -لعنة الله على المنافقين- يمني نفسه أنه عندما يموت النبي عليه الصلاة والسلام فسيتزوج من نسائه، فنزلت هذه الآية تفضح هذا المنافق، وتحذر المؤمنين بأن هؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين، وليس لإنسان أن يتزوج أمه.
قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] بأن يتكلم أحدكم أو يحدث نفسه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتزوج واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم.
{وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] هذه حرمة مؤبدة، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها فهي محرمة أبداً على جميع المؤمنين.
{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53] يعني: لو حدث ذلك وحاشا نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حدث منهن ذلك.
قوله سبحانه: {إِنَّ ذَلِكُمْ} [الأحزاب:53] يعني: أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].(288/3)
تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً)
قال الله سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54].
هذا تحذير من الله لعباده، فأين تذهب من الله سبحانه وتعالى؟ فمن أبدى ما في ضميره وما في قلبه فتكلم به، أو أخفى هذا الشيء وأكنه كهذا المنافق الذي تكلم بهذا الشيء وأسره لمن حوله، فإن الله قادر أن يفضحه، ويحذر الله المؤمنين أن يقولوا كما قال.
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} [الأحزاب:54] إذا أبديتم ما في النفس، أو أخفيتم ما في النفس وأسررتموه، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54] ما قال: إن الله كان بهذا الذي أخفيتموه أو هذا الذي أعلنتموه، بل هو عليم بكل ما أخفيتم وما أعلنتم، ما أسررتم وما جهرتم، من صوت من كلام من حديث نفس من نية من شيء مرئي أو شيء مخفي كل شيء الله عز وجل عليم به سبحانه وتعالى، ففيها المدح لله سبحانه بأنه يعلم كل شيء، وفيها التحذير والتخويف للخلق من النية السيئة، ومن حديث النفس الذي يمني الإنسان بما لا يجوز له أن يفعله، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54].(288/4)
تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن)(288/5)
معنى قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن)
ذكر الله سبحانه الحجاب في هذه الآيات، بأن تحتجب المرأة فتستتر بثيابها من رأسها إلى أخمص قدميها، وحجاب زائد على هذا وهو أن تحجب شخصها حتى لا يرى، فتكون ستارة بينها وبين الناس، فهذا الحجاب الثاني خاص بنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه زيادة في الحيطة وزيادة في الاحتراز والتفضيل لهن، وكأن أقرباء نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: وهل نحن كذلك؟ يعني: الخطاب هو لأمهات المؤمنين، فمنع الله عز وجل المؤمنين أن يسألوا نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا من وراء حجاب، أما الأقارب من الآباء والأبناء والإخوة؟ فأنزل الله سبحانه فيهم: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55].
فلا جناح على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن أولى، فالآباء، والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات وكذلك النساء اللاتي يدخلن عليهن وملك اليمين لا جناح عليهن في ذلك.
والله عز وجل ذكر الأب، والمقصود الأب وإن علا، فيدخل الجد وأبوه وهكذا، سواء كان الجد من ناحية الأب، أو من ناحية الأم، فهؤلاء يجوز لهم أن يدخلوا على النساء ويجلسوا معهن، والمرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تحتجب بشخصها من غير هؤلاء، وغير نساء النبي صلى الله عليه وسلم تحتجب باللباس من غير هؤلاء.
فالأب يرى ابنته وهي في ثياب مهنتها أو في ثياب البيت، فيجوز أن يرى وجهها وشعرها ورقبتها وذراعها ورجليها، لكن عليها أن تستر منه صدرها، وبطنها، وركبتيها، ونحو ذلك، ومثل الأب مع ابنته الابن والأخ وغيرهما من محارمها.
قوله: {وَلا أَبْنَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] والمقصود الابن وإن نزل، أي: الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن وبنت البنت وابن البنت وهكذا إن نزلوا، فهؤلاء كلهم أبناء، فلا جناح عليهن في ذلك.(288/6)
معنى قوله: (ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن)
قوله: {وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55] فالأخ يدخل على أخته ويجلس معها وهي في ثياب بيتها ولا شيء في ذلك، لا جناح يعني: لا حرج ولا إثم.
{وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} [الأحزاب:55] فأبناء الإخوة وأبناء الأخوات يجوز لهم أن يجلسوا معها وهي في ثياب مهنتها وفي ثياب بيتها.
وفي الآية إشارة إلى جواز جلوس المرأة مع عمها وخالها وهي بثياب بيتها ومهنتها، وهذا قول جمهور العلماء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة تستتر أمام غير من ذكر الله عز وجل هنا، فقالوا: تستتر من عمها، وخالها، وعللوا ذلك بعلة ضعيفة، فقالوا: العم والخال قد يصف هذه البنت لابنه، وابنه لا يجوز له أنه ينظر إليها.
وهذه العلة منتقضة بما ذكره الله عز وجل هنا من ابن الأخ وابن الأخت.
فالصواب: أن العم والخال يجوز له أن يجلس مع بنت أخته أو مع ابنة أخيه ولا شيء في ذلك، والآية فيها إشارة إلى هذا الشيء.
وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عم الرجل صنو أبيه)، فالعم منزلته منزلة الأب، فهو من أولياء المرأة، والخال هو أخو الأم، وقد يكون وارثاً في بعض الأحوال ففي الحديث: (والخال وارث من لا وارث له)، فهو رحم للمرأة، والخالة بمنزلة الأم للمرأة، فالقول بأن الخال لا يجوز له أن ينظر إلى ابنة أخته، أو العم لا يجوز له أن ينظر إلى ابنة أخيه، هذا قول ضعيف.
وفي القرآن ما يدل على أن العم بمنزلة الأب، وذلك في وصية يعقوب: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، فقالوا: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] أي: آباء يعقوب، والمقصود: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام، فإبراهيم جده، ووصفه بأنه أب، وإسماعيل عمه وليس أباه، وجعله من الآباء، وإسحاق هو أبو يعقوب.(288/7)
معنى قوله تعالى (ولا نسائهن)
قال سبحانه: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أي: النساء المؤمنات.
فإذا كانت المرأة فاسقة يخشى منها عند دخولها أن تتطلع وتخرج فتحدث، فيجب أن تستتر المرأة منها، فالمرأة المؤمنة هي التي تدخل على المرأة؛ فإذا كانت المرأة التي تدخل عليها مشهورة بالفجور، أو مشهورة بالكلام في ذلك، وأنها تطلع على العورات وتخرج فتحدث بما رأت؛ فهذه لا تجلس معها، بل تستتر منها حتى لا تصفها، لكن الأصل أن المرأة تدخل مع المرأة وتجلس معها، ويجوز أن تنظر إلى ما عدا العورة منها، وهي من السرة إلى الركبة بالنسبة للمرأة مع المرأة.
وأخذ بعض أهل العلم من قوله سبحانه: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أن المقصود نساء المؤمنات، وأنه احتراز من نساء الكافرات، فقالوا: لا يجوز للمرأة المؤمنة أن تجلس مع المرأة الكافرة، بل تستتر وتحتجب منها.
وهذا القول فيه نظر، والصواب خلافه؛ لأن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تدخل إليها امرأة يهودية، ولم يذكر الرواة في الحديث أن السيدة عائشة كانت تحتجب منها، ولو كانت تحتجب منها لعلمنا ذلك من رواة هذا الخبر.
وفي الحديث أن امرأة يهودية دخلت على عائشة وقالت لها: (تعوذي بالله من عذاب القبر)، فقالت: أو في القبر عذاب؟ وكان إلى ذلك الحين لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم أن في القبر عذاباً، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما تعذب اليهود) ثم أوحى الله عز وجل إليه يعلمه بأن في القبر عذاباً، وأنه يكون حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وعلم أمته.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لـ عائشة: احتجبي منها، فيكون قوله تبارك وتعالى: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] على الغالب، فإنه في الغالب لا يدخل على المؤمنة من النساء إلا النساء المؤمنات، لكن إذا كانت المرأة مشهورة بالفجور ومعروفة بكثرة الكلام، وأنها تدخل وتنظر وتخرج فتحدث الرجال، فلا تدخل هذه المرأة على النساء لئلا تكشف عوراتهن.(288/8)
معنى قوله (ولا ما ملكت أيمانهن)
قوله تعالى: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب:55].
قوله: (ما ملكت) هذه من ألفاظ العموم، يعني: كل ما ملكت المرأة من رجال أو من نساء.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بنته السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها وكانت هي وعلي بن أبي طالب وعبد للسيدة فاطمة، وكانت السيدة فاطمة في ثوب لا يستر جميعها، فإذا رفعت الثوب لتستر وجهها انكشفت قدماها، وإذا أرادت أن تستر قدميها انكشف وجهها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (لا حرج عليك، إنما هو أبوك وزوجك وعبدك).
فدل على ما في هذه الآية أن المرأة إذا ملكت عبداً جاز لهذا العبد أن يدخل على سيدته؛ لأنه صار من أهل البيت، فيأخذ منها ويعطيها، وتحدثه، ويجوز له أن يرى وجهها وما بدا منها كأنه من أهل البيت.
لكن لا يجوز لها أن تمكن هذا العبد أن يطأها بملك اليمين، وهذا بإجماع أهل العلم.(288/9)
أمر الله لنساء نبيه بتقواه
قال الله عز وجل: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55].
أمر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم -وغيرهن من باب أولى- بتقوى الله سبحانه في أمر الاستتار؛ لأن المرأة قد تتنزل في هذا الشيء، وتستسهل أن ينكشف منها شيء، والمرأة إذا لم تذكر لعلها تتغافل عن هذا الشيء، ولعلها تلبس الحجاب ولا تستتر به الاستتار الذي أمر الله؛ فقال الله عز وجل: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55].
أي: احذرن من غضب الله سبحانه وتعالى، فالمرأة تستسهل الأمر إن لم يكن عليها رقيب، وإن لم يكن عليها من يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر.
قال الله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55]، وقال في الآية التي قبلها: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54]، فالله يشاهد كل شيء، ويشهد على كل شيء، وكفى بالله شهيداً؛ فإذا كان هو الشهيد وهو الحكم سبحانه وتعالى فهو يحكم على عبده ولا يقدر العبد أن ينكر شيئاً.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(288/10)
تفسير سورة الأحزاب الآية [56]
للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضل عظيم، وقد أمر الله تعالى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المواطن التي تجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: التشهد، وفي غير ذلك تكون الصلاة مستحبة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور أعياداً وموالد؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك بالله تعالى.(289/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي)(289/2)
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:56 - 58].
يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه، ويخبر أنه سبحانه يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، وأن ملائكة الله كذلك يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرنا أن نقتدي بذلك، وأن نصلي عليه وأن نسلم تسليماً صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا قال الله تعالى وأخبر عن نفسه: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)).
وإن صلاة الله سبحانه وتعالى على نبيه صلوات الله وسلامه عليه بمعنى الرحمة وبمعنى الثناء الحسن الجميل، فالله يمدح نبيه صلى الله عليه وسلم ويثني عليه ويرحمه سبحانه وتعالى.
فإذا كان الله جل جلاله صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى أحد أن يصلي عليه، ويكفيه صلاة ربه سبحانه عليه، وإخباره سبحانه بأن الملائكة أيضاً تصلي عليه صلى الله عليه وسلم تشريف له صلى الله عليه وسلم.
والملائكة لا يعلم عددهم إلا الله فهم أعداد كثيرة جداً، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عمن يزورون البيت المعمور في السماء كل يوم، إذ يحج إلى هذا البيت المعمور سبعون ألفاً ولا يرجعون إليه، وذلك منذ خلقه الله سبحانه وتعالى حتى تقوم الساعة.
فالملائكة أعداد لا تحصى، ولا يستطيع الإنسان أن يتخيل عدد الملائكة، وكل ملائكة الله عز وجل يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى صلاة البشر عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان حين يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يثاب على ذلك، فعندما يصلي مرة يصلي الله عز وجل عليه عشراً كما سيأتي في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيستحق شفاعته عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.(289/3)
مواطن وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومواطن استحبابها
أمرنا الله عز وجل أن نصلي عليه لننتفع نحن، والأمر على الوجوب، فتجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً.
وتنفيذاً لهذه الآية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ذكر العلماء أنه تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة.
ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في الصلاة، وذلك عندما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد).
فعلمهم كيف يصلون، ولما سألوه كيف نصلي؟ قال: (قولوا)، والله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
إذاً: هذا أمر من الله وأمر من نبيه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه.
إذاً: إجمالاً يجب على المؤمنين أن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيل: أي المواطن التي تجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف
الجواب
في الصلاة، فالإنسان في التشهد يقرأ التشهد ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي غير ذلك تكون الصلاة عليه مستحبة، ويكفي ذم النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر عنده فلم يصل عليه، قال: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي) صلوات الله وسلامه عليه.(289/4)
ذكر أحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
والأحاديث التي وردت في فضل الصلاة عليه قد ذكرناها في كتاب الدعوات، وهي أحاديث كثيرة وعظيمة وجليلة، والذي يقرأ الأحاديث يشتاق للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لما في الصلاة عليه من ثواب عظيم عند الله.
فمن الأحاديث التي وردت ما رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله فقد جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه).
فقوله: إذا ذهب ثلث الليل، أي: إذا ذهب الثلثان وبقي الثلث الأخير من الليل.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم يصلي من الليل ما شاء، وينادي في الناس ليصلوا من الليل قال أبي بن كعب: (قلت يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك -عليه الصلاة والسلام- فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت.
قال: قلت الربع؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك.
قال: قلت النصف؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك.
قال: قلت فالثلثين؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك).
ومعنى ذلك أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: (كم أجعل لك من صلاتي)، أي: كم أجعل لك من دعائي، عندما أجلس أدعو لنفسي وأدعو لفلان وأدعو لفلان، وأدعو للناس وأصلي عليك، وأجعل قدراً من الدعاء لك أنت يا رسول الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما شئت حتى وصل إلى الثلثين فقال: (أجعل لك صلاتي كلها؟) إذاً: كل دعائي صلاة عليك! فقال صلى الله عليه وسلم: (إذاً: تكفى همك ويغفر لك ذنبك).
وكأن أبي رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أنشغل عن الدعاء بكثرة الصلاة عليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً: تكفى همك).
إن الإنسان إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يكشف الله عنه الهم، ويغفر له ذنبه، فإذا كان جل أو كل دعائه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله عز وجل ما أهمه وغفر له ذنبه.
ومن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حديث لـ عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله).
إذاً: هي درجة عالية في الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة) أي: أن أكون صاحب هذه المنزلة العظيمة عند الله سبحانه.
قال: (وأرجو أن أكون أنا هو) أي: أرجو أن أكون أنا هذا العبد الذي له هذه المنزلة، وسيكون هو صلوات الله وسلامه عليه قال: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) أي: من سأل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة العظيمة التي لا تكون إلا لعبد واحد من عباد الله من بين خلقه جميعاً حلت له شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم).
(ما جلس قوم) أي: قوم من المسلمين لم يجلس هؤلاء القوم (مجلساً) أي: مجلس بيع أو مجلس شراء، أو مجلساً في المسجد، أو في بيت، أو مجلس في طريق، أي مجلس جلس فيه الناس.
(ولم يذكروا الله عز وجل فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلا كان عليهم ترة) أي: كان حسرة عليهم يوم القيامة.
قال: (فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) فانظر إلى اجتماع الناس في مجلس من المجالس، إما أن يجتمعوا على ذكر الله وإما على اللهو واللعب، فإذا كان اجتماعهم ليس فيه ذكر لله وليس فيه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا المجلس يستحقون أن يلاموا عليه.
والغالب أن هذه المجالس تخلو من ذكر الله، فإذا خلت من ذكر الله سبحانه كان فيها ذكر الشياطين، وكان فيها ذكر اللهو واللغو واللعب، وكان فيها الغيبة والنميمة والبهتان والزور، فإذا كان كذلك استحقوا عذاب الله سبحانه وتعالى، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ومن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حديث رواه الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي) عليه الصلاة والسلام.
(رغم) من الرغام، والرغام: التراب، وكأنه يدعو على الإنسان أن أنفه تكون في أذل ما يكون، تكون أنفه في التراب، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالذل، وهذا دعاء على الإنسان الذي يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له) نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان وأن يغفر لنا سبحانه.
(ورغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخلاه الجنة) فهؤلاء جميعاً رغمت أنوفهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم بالذل في الحياة الدنيا.
فإذا كان الإنسان يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينشرح صدره ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فهو إنسان بخيل يستحق أن يذله الله سبحانه وتعالى.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث رواه الترمذي أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي) عليه الصلاة والسلام.
كذلك حديث رواه أبو داود عن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء) فهذا فضالة بن عبيد يذكر: أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فذكر أنه قال: (إذا صلى أحدكم) أي: إذا بدأ أحدكم يدعو فليتمهل في الدعاء، بأن يحمد الله سبحانه في البداية، ثم يثني عليه، ثم يمجده، وبعد ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله عز وجل ما شاء من طلب.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام).
(إن لله ملائكة سياحين) يسيحون في الأرض شمالاً ويميناً، ويسمعون من الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغون النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة.
وورد في حديث رواه الإمام النسائي من حديث أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ملك فقال: يا محمد إن ربك يقول: أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشراً) وهذا فضل عظيم في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
وكل ما ذكرناه أحاديث صحيحة.
ومنها حديث رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات) فصلاة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذا الفضل كله: أن الله عز وجل يصلي عليه ويرحمه عشر مرات، ويحط عنه عشر خطيئات، ويرفع له عشر درجات.
حديث آخر رواه أبو داود عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة قال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي).
إذاً: يوم الجمعة بالأخص تعرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام).
وهذه فضيلة عظيمة جداً، فالذي يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم تبلغ الملائكة النبي صلى الله عليه وسلم سلامه، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه سلامه عليه.
كذلك في حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم).
(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تجعلوها كالقبور خالية من الصلاة، فقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في القبور، ولا يجوز لإنسان أن يذهب إلى المقبرة فيصلي فيها صلاة الظهر أو صلاة العصر، فإذا ترك صلاة النافلة في البيت كأنه جعل البيت كالمقبرة، وكما أن المقبرة لا يصلى فيها فكذلك البيت الذي لا يصلى فيه صار كالمقبرة.(289/5)
النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن اتخاذ القبور أعياداً وموالد
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً) نهى أن يجعل القبر عيداً من العادة والاعتياد على الشيء، كأن الإنسان يذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيجتمع الناس حوله للجلوس حول القبر للدعاء هنالك، وبذلك يعظم الناس القبر فيرجعون لأمر الجاهلية من تعظيم للقبور ومن تعظيم للأحجار وغير ذلك، فقال: (لا تجعلوا قبري عيداً)، فإذا كان هذا قبره صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (لا تجعلوا قبري عيداً) فكيف بقبر غيره؟! والناس في هذا الزمان يعملون الموالد للقبور، كمولد أبي العباس، ومولد البدوي، ومولد كذا ومولد كذا، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجعل قبره عيداً عليه الصلاة والسلام، فقال: (لا تجعلوا قبري عيداً) فغيره محظور عليه ذلك من باب أولى.
قال: (وصلوا علي) أي: أكثروا من الصلاة علي.
إذاً: ينبغي للإنسان أن لا ينشغل بأمر القبر، ولا يتوجه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو: يا رب يا رب، فإن هذا غير جائز، ولكن إذا أراد أن يدعو يتوجه إلى القبلة ويدعو ربه سبحانه وتعالى، ولا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات وإنما يسأل الله عز وجل الحي الذي لا يموت.
قال: (وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم).
إذاً: لا تنشغل بأن تذهب إلى قبره صلى الله عليه وسلم حتى تصلي عليه، ولكن في أي مكان أنت فيه صل عليه فصلاتك تبلغه، وليس المعنى: أنه لا يذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل الزيارة مشروعة لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إليه، فيذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عليه، فإذا أراد أن يدعو توجه إلى القبلة وليس إلى القبر.
كذلك حديث رواه ابن ماجة عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما صلى علي) وهذه فضيلة أخرى؛ أنه مهما كنت تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فالملائكة تصلي عليك وتدعو لك.
قال: (فليقل العبد من ذلك أو ليكثر) أي: إذا أردت أن تُقِلَّ فأقل، وإذا أردت أن تكثر فأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.(289/6)
حكم المتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
إذا قال قائل: ما حكم الإنسان الذي يتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف
الجواب
حكمه كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة).
فبعض الناس يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه ويتشاغل عن ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الإنسان: إن الله عز وجل يؤاخذ العبد على نسيانه، ولكن التغافل هذا كأنه نسيان متعمد.
فمن الناس من تقول له: صل على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: دائماً تقول لنا ذلك، فهذا الإنسان الذي يتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كأنه نسيها فيخطئ طريقه إلى الجنة كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما ذكر في الحديث الآخر: (من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله) إن الإنسان الذي كان يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصلي عليه إذا كان حظه أنه دخل النار بسبب ذنوبه، فأبعده الله، فلا هو الذي في الدنيا عمل صالحاً يدخله الجنة، ولا هو الذي أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتنفعه شفاعته إذا دخل النار أن يخرجه الله من النار إلى الجنة.
كذلك ما جاء عن عمر رضي الله عنه قال: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم) فالإنسان إذا دعا لا يتعجل الإجابة، فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعائه وفي آخر دعائه وليكثر من ذلك، وهذا الدعاء جدير بأن يستجيبه الله سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويسلم تسليماً كثيراً، وأن يستجيب دعاءنا، وأن يجعلنا من مرافقيه في الجنة صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(289/7)
تفسير سورة سبأ [1 - 2]
الله سبحانه وتعالى يستحق الحمد والثناء الجميل لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأفعال العظيمة، فهو مالك لما في السماوات والأرض وما بينهما، وهو واسع العلم، يعلم كل شيء يلج في الأرض أو يعرج منها، يعلم قدره ومستقره ومآله، وكذلك يعلم ما يعرج في السماوات من ملائكة وأعمال وما ينزل منها من ملائكة وغيث مدرار.(290/1)
مقدمة بين يدي سورة سبأ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
هذه السورة الرابعة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي من السور المكية التي من خصائصها: التذكير بتوحيد الله سبحانه وتعالى، والتذكير بالبعث والنشور والكلام عن اليوم الآخر وما يكون فيه، والتذكير بآيات الله سبحانه التي أنزلها على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وما فيها من حكم ومواعظ.
كذلك فيها إثبات علم الله عز وجل المحيط، وأسباب صدق النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما يخبر به من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشهد له بذلك الذين أوتوا العلم سواء من أهل الكتاب أو من المؤمنين الذين دخلوا في هذا الدين العظيم.
كذلك يضرب الله عز وجل فيها الأمثال للناس لعلهم يتذكرون بما ذكر الله سبحانه وتعالى فيها من أسماء.
هذه السورة في ترتيب المصحف هي الرابعة والثلاثون، وبحسب النزول ذكروا أنها نزلت بعد سورة الإسراء، فقد ذكر الله سبحانه في سورة الإسراء أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات فقال عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء:90 - 91].
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92] فقالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فرد الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم في هذه السورة فقال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9] يعني: إن نشأ فعلنا بهم هذا الشيء الذي يطلبون على وجه الاستبعاد أنه لا يكون، ويظنون أنه لا يقدر عليه الصلاة والسلام، ويكذبونه ويجحدون بآيات الله عز وجل.
وربنا يخبر أنه أخر عنهم ذلك حلماً ورحمة، لعل هؤلاء يتوبون إلى الله سبحانه وتعالى.
وهي على ترتيب النزول السورة الثامنة والخمسون من كتاب الله عز وجل، وعدد آياتها أربع وخمسون عند جمهور من عد هذه السورة، وفي مصحف أهل الشام خمس وخمسون آية، وليس الخلاف في زيادة الآيات ونقصانها إنما الخلاف في موضع الوقف، فالعد الشامي اعتبر قول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15] آية، أما باقي القراء فأكملوا الآية على أنها آية واحدة وليست آيتين، وهكذا في كل ما جاء فيه خلاف في عد الآيات فهو في موضع الوقف وهل هو رأس آية أم لا؟(290/2)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)
هذه السورة العظيمة بدأها الله سبحانه وتعالى بحمد نفسه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالحمد، وليست السورة الوحيدة التي بدأها بذلك، فقد بدأ الفاتحة بحمد نفسه فقال: ((الحمد لله رب العالمين)).
وفي سورة الأنعام قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
وفي سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1].
وفي سورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] فهذه خمس سور في كتاب الله عز وجل بدأها بحمد نفسه، وكلها نزلت في مكة حين كان الكفار يدعون إلى كتاب الله فلا يستجيبون، ويذكرون بحكم الله سبحانه وأحكام الله، وما في كتابه من آيات ويعظهم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحمدون ربهم ولا يشكرون، فقال: (الحمد لله) فحمد نفسه وهو مستغني عن حمد الخلق.
هذه السورة اسمها سورة سبأ، وتسمى السورة عادة إما بشيء يذكر فيها، أو بما جاء في أولها، أو نحو ذلك.
فسميت بسورة سبأ باعتبار ذكر سبأ فيها، لكن من سبأ هذا؟ جاء في حديث عند الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم) يقول: إن قومي من بني مراد فيهم المسلمون، وفيهم الكفار فهل يجمع المسلمين ويقاتل بهم الكفار فقوله: (ألا أقاتل من أدبر من قومي) يعني: أعرض عن الإسلام.
وقال: (بمن أقبل منهم) يعني: إلى دين الله عز وجل.
قال: (فأذن لي في قتالهم) أي: وافقه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له في قتال الكفار.
قال: (وأمّرني) أي: جعلني أميراً.
قال: (فلما خرجت من عنده سأل عني: ما فعل الغطيفي؟ فأخبر أني قد سرت) يعني: سار من أجل أن يجمع قومه المؤمنين؛ ليقاتلوا الكفار.
قال الرجل: (فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: ادع القوم) يعني: قبل أن تبدأ بالقتال ادعهم إلى دين الله سبحانه وتعالى.
قال: (فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك) وهذا من رحمة النبي صلوات الله وسلامه عليه ألاَّ تتعجل في القتال، إذ ليس هو الغرض، وإنما القتال حتى يدخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى، فالكفار قد يمنعون الناس من دخول دين الله فلا يصلح معهم إلا القتال.
ولكن لعل المناسب لقومك الدعوة بالرفق؛ لذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه) والذي لم يسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تعجل حتى أحدث إليك) قال الرجل: (وأنزل في سبأ ما أنزل) يعني: نزلت سورة سبأ ونزل فيها ما نزل.
وسورة سبأ عند جماهير المفسرين سورة مكية وهو الراجح وإن كان هذا الحديث يدل على نزولها في المدينة؛ لأن الرجل جاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة.
لكن الراجح أن الرجل يخبر عن سماعه وليس عن إنزال هذه السورة، يعني: كأنه سمعها في هذا الوقت من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ؟) أي: هل سبأ أرض أم امرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس بأرض ولا مرأة ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب) يعني: كان أبا عشر قبائل من العرب قال: (فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة) تيامن: اتجه يميناً، وتشاءم: اتجه شمالاً، يعني: ذهب إلى أرض اليمن ستة، وإلى أرض الشام أربعة من أولاد سبأ، قال: (فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة) يعني: أربع قبائل من القبائل الموجودة في بلاد الشام وهي لخم وغسان وجذام وعاملة فهؤلاء من أولاد سبأ، فيكون أبا لعشر قبائل من العرب.
قال: (وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكنده ومذحج وأنمار) فهؤلاء الذين ذهبوا إلى بلاد اليمن فهو أبوهم.
فقال الرجل: (وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة) فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سبأ ليست أرضاً ولا امرأةً اسمها سبأ، ولكنه رجل أبو عشر قبائل من العرب جعل الله عز وجل في أولاده آية وعبرة كما سيأتي.
وهذه السورة كعادة السور المكية فيها ذكر قصص القرآن للعظة والعبرة.
فذكر لنا كيف أنه مكن لداود عليه الصلاة والسلام وآتى داود من عنده علماً، وكيف سخر لسليمان عليه السلام الريح، وكيف مات سليمان وقد سخر الله له الجن، وزعمت الجن أنها تعلم الغيب وكذبوا في ذلك، فلما مات سليمان لم يعرفوا موته، وظلوا مسخرين خائفين من سليمان وقد مات عليه الصلاة والسلام، وكان واقفاً على عصاه فترة طويلة وهم لا يعلمون موته.
ثم أرسل الله عز وجل الأرضة تأكل عصاه فسقط سليمان فعلموا أنه كان ميتاً وتبين للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
فهذه حكمة من الله عز وجل أن يري عباده من آياته أنه يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، وهو علام الغيوب سبحانه كما ذكر لنا في أول هذه السورة.
كذلك ذكر قصة سبأ وكيف أغناهم الله وأعطاهم.
وانظر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، وإلى سبأ وقصته: سليمان آتاه الله عز وجل العلم، وآتاه الملك والنبوة؛ فحمد الله سبحانه وتعالى وسخر له ربه ما يشاء فما ازداد إلا حمداً لله وشكراً وتواضعاً له سبحانه.
أما قوم سبأ فأعطاهم الله عز وجل الجنات وأعطاهم العيون والبساتين والثمار حتى إنهم ليخرجون من أرضهم مسافرين إلى أرض أخرى، فيمر المسافر بقرية بعد أخرى فيجد عندهم طعامه وشرابه والدلالة على الطريق، وهذا من فضل الله عز وجل العظيم عليهم.
فسليمان حمد الله سبحانه وأمر العباد بطاعة ربه، وهؤلاء كفروا وجحدوا نعمة الله ووصل بهم الأمر إلى البطر والغرور حتى قالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، يعني نحن نريد سفراً نتعب فيه ونشقى فيه لكي نحس أنا قد سافرنا، فلما عصوا ربهم سبحانه وتعالى أرسل عليهم سيل العرم فدمر هذا كله، ولم يبق لهم من الجنات والبساتين شيئاً، وأبدلهم بالجنات أشجاراً ذوات أكل خمط مر وأثل وشيء من سدر قليل، قال سبحانه: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] فلما كفروا ربهم سبحانه استحقوا ذلك وهي إشارة إلى هؤلاء الكفار إن أسلمتم فاقتديتم بسليمان وبنبينا صلوات الله وسلامه عليه كان لكم الخير من الله سبحانه وتعالى، وإذا أعرضتم فكنتم كقوم سبأ كانت عليكم العقوبة، ولن تعجزوا الله سبحانه وتعالى.(290/3)
معنى قوله: (الحمد لله)
بدأ الله عز وجل السورة بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [سبأ:1]، الألف واللام للجنس يعني: جنس الحمد وكل الحمد له سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق الحمد على أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله العظيمة الجميلة.
والحمد بمعنى: الثناء الجميل على الله سبحانه لكماله وجلاله وجماله.
كذلك الحمد يدخل تحته الشكر؛ لأنك تحمده سبحانه لأنه يستحق، وتحمده لأنه يعطي وينعم.
فالحمد أعم من الشكر وأخص منه، فالحمد له سبحانه وتعالى والشكر يكون له ولغيره، فهو الذي يستحق الحمد على ما فيه من صفات جليلة وعظيمة وجميلة، وعلى ما أعطى خلقه من نعم.
قال تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) اللام في (لله) للملك، يعني: الله يستحق هذا الحمد ويملكه وحده.
ثم قال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات)).
يبين استحقاقه سبحانه للحمد بأنه هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض فيكون الحمد له وحده.
أما غيره فلا يملك شيئاً إلا عرضاً من الدنيا وليس ملكاً حقيقاً، وكل مخلوق يملكه الله عز وجل شيئاً يغتر بهذا الشيء، وذلك ليس ملكاً أبدياً، فإذا جاءت الوفاة انتقل إلى غيره، فكان مستخلفاً في الأرض، ويخلف الناس بعضهم بعضاً في هذه الأموال.
قال سبحانه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) أي: السماوات وما فوقها وما تحويها، والأرض وما فوقها وما تحتها وما فيها وكل ما بينهما يملكه الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَة} [سبأ:1] هذا من التفنن الجميل في كتاب الله عز وجل، فلم يكرر الحمد لله بنفس الصيغة، فلم يقل: الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والحمد لله الذي له ما في الآخرة، ولكن أتى بصيغة أخرى هي في موضعها غاية في الجمال، وتأمل في معناها، فالله سبحانه يستحق الحمد في الدنيا وفي الآخرة: في الدنيا قد يحمد المخلوق ربه سبحانه، وقد يثني على غيره كأن يكون إنسان أعطاه شيئاً فيشكره عليه ويحمده على ما فيه من صفات جميلة مثلاً.
ولكن إذا جاءت الآخرة فلا يحمد أحداً، ولا يذكر أحد أحداً، فكل إنسان يقول: نفسي نفسي.
قال تعالى: (وله الحمد) فقدم الجار والمجرور على الاسم للاختصاص، أي: أن هذا الحمد في الآخرة ليس له ولغيره بل له وحده لا شريك له، فيعرف الجميع المسلمون والكفار، الإنس والجان أنه وحده سبحانه الذي يستحق الحمد وأنه وحده الإله الذي لا شريك له.
له الحمد في الآخرة فأهل الجنة يقولون: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء.
كذلك إذا دخلوا الجنة كان آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وكلما أنعم عليهم بنعمة كان آخر ما يفرغون من نعمه العظيمة يقولون: الحمد لله رب العالمين.(290/4)
معنى قوله: (الحكيم الخبير)
قال تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] هذان اسمان من أسماء الله الحسنى عظيمان، وكل أسمائه عظيمة سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) أي: لله عز وجل من الأسماء تسعة وتسعون اسماً اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة، وليس ذلك كل أسمائه سبحانه، بل له أسماء كثيرة، ولذلك جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فله أسماء عظيمة كثيرة جليلة، ومن ضمن هذه الأسماء ما جاء في كتابه سبحانه تبارك وتعالى تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة.
وأحصاها بمعنى: حفظها وفهم معانيها ودعا الله عز وجل وسأله بمقتضى ما يعرف من أسمائه سبحانه، ففي كل نازلة تنزل بالعبد يسأل الله عز وجل بالاسم المناسب لهذه النازلة، فإذا أخطأ سأل ربه سبحانه أن يغفر له فهو الغفور، وسأله أن يعفو عنه فهو العفو، وإذا وقع في ضيق سأل ربه أن يفرج عنه ذلك فهو الرحيم الحنان المنان سبحانه، وهو الكريم فيطلب منه أن يرزقه ويعطيه من كرمه وفضله.
والمقصود أن يستعمل أسماء الله عز وجل في كل مناسبة ما يليق بها من أسماء الله عز وجل، وهذا من معاني من أحصاها دخل الجنة.
فذكر اسماً من أسمائه وهو الحكيم، أي: ذو الحكمة، فلا يخرج شيء عن علمه وحكمته، قدر كل شيء بعلمه، وكل شيء في موضعه بحكمته سبحانه وتعالى.
وهو الحكيم لا يدخل في نظام كونه خلل ولا فساد.
وهو الحكيم الذي كمل في حكمته، والحكيم صيغة مبالغة من الحكم فهو الحاكم والحكيم الذي يمضي حكمه ولا معقب لحكمه سبحانه.
ومن معاني الحكيم: المحكم اسم فاعل، أي: المتقن الذي يحكم كل شيء يقوله أو يفعله، فهذا القرآن كتاب حكيم أحكمه الله تبارك وتعالى وأتقن فيه كل شيء، والكون أتقن الله صنعه فهو المحكم لكونه لا شيء يخرج عن حكمته.
وأصل الحَكَمة الحديدة التي توضع في فم الفرس لشد اللجام فيها، ويقاد بها، فكأن الحكمة تقود صاحبها إلى ما يريده الله سبحانه وتعالى، ولا يخرج الشيء عن إرادة الله أبداً، فهو الحكيم الحاكم المحكم سبحانه وتعالى في صنعه.
والحكيم أيضاً: المانع من الفساد الذي لا يدخل في تدبيره خلل، ولا في صنعه زلل.
والخبير: اسم آخر من أسماء الله عز وجل يدل على علم الله سبحانه، فالعليم يدخل تحت الخبير، ويدخل تحته أنه الشهيد الذي هو علينا رقيب سبحانه وتعالى، والعلم أعم من الخبرة، فالله يعلم كل شيء، فإذا اختص العلم ببواطن الأشياء فهي الخبرة، فإذا اختص علم الله تعالى بما يبطنه الخلق فهو سبحانه الخبير، وإذا اختص علمه بما يظهره الإنسان فهو الشهيد سبحانه، وإذا اختص ذلك بأن يجازيه عليه فهو الرقيب سبحانه.
فالكل عائد إلى صفة العلم منه سبحانه وتعالى، وهو الحكيم الخبير الذي يعلم مصالح الأشياء ومضارها ولا تخفى عليه عواقب الأمور وبواديها والذي لا يقع في تدبيره سبحانه وتعالى خلل ولا زلل.(290/5)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها)
قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:2]، الله هو الحكيم الخبير الذي يعلم العلم الشامل المحيط ما يلج في الأرض، وقد كان الكفار يظنون أن الله عز وجل لا يعلم ما يسرونه، واجتمع ثلاثة نفر عند الكعبة في يوم من الأيام ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي عظيمة شحوم بطونهم، قليلة أفهام عقولهم، فقال بعض هؤلاء الحمقاء لبعض: أترون الله يعلم ما نقول؟ فرد بعضهم: نظن أنه إذا أعلنا سمعنا، وإذا أسررنا لم يسمعنا! يقولون ذلك من غبائهم وعدم تفكيرهم فقاسوا الخالق على المخلوق، فظنوا أن الله لا يعلم إلا ما يجهرون به أما ما يسرون فإنه لا يعلمه، فقال رجل: إن كان يعلم ما نعلن؛ فهو يعلم ما نسر.
قال الله عز وجل يرد على هؤلاء وأمثالهم: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} [سبأ:2] الولوج: الدخول والتغيب، يقال: ولج في الشيء بمعنى: دخل وغاب فيه، فما يلج في الأرض أي: ينزل بداخلها ويختفي فيها فالله سبحانه تبارك وتعالى يعلمه.
قال الله: ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا)) أي: ما يخرج منها يعلمه أيضاً.
وقال: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] أي: يعلم ما يسقط من الأشجار من ورق، ومصير هذا الورق أين يذهب، هل يأكله إنسان أو حيوان أو أنه يتحلل ويغوص في باطن الأرض فينتفع به ما بداخل الأرض من دواب أو ينتفع به النبات بعد ذلك؟ فالله يعلم الحبة حين تسقط من السنبلة على الأرض هل تنزرع أم تكون رزقاً لنملة في الأرض أم تكون رزقاً لإنسان أو حيوان؟ والله يعلم ما يلج في الأرض من أشياء فتختفي بداخلها من أجساد ومن زروع وثمار ونحو ذلك.
وما يخرج من الأرض من أشجار وثمار ومعادن وغير ذلك.
ويعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها من ملائكة تنزل من السماء، ومن مطر ينزل منها، ومن بلاء ينزل على العباد وقضاء وقدر، ويعلم ما يعرج إلى السماء من الملائكة (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، فإذا صعد الذين باتوا فيكم إلى ربهم، سألهم ربهم سبحانه: كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون).(290/6)
معنى قوله: (الرحيم الغفور)
قال تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:2] هذان اسمان من أسماء الله الحسنى العظيمة، فالرحيم: ذو الرحمة العظيمة البالغة التي لا نظير له فيها.
فالرحمن الرحيم صيغتا مبالغة، فالرحمن عظيم الرحمة، والرحيم عظيم الرحمة، لكن ما هو الفرق بينها؟ ذكر الله أنه كان بالمؤمنين رحيماً فكأنه يخص برحمته المؤمنين، والرحمن ذو الرحمة العظيمة البالغة التي تكون لجميع خلقه، فرحمته وسعت كل شيء سبحانه وتعالى.
وفي الدنيا جزء من رحمة رب العالمين سبحانه بها يرحم الإنسان أخاه، ويرحم الحيوان الحيوان، وترفع الدابة حافرها عن ولدها؛ لئلا تؤذيه.
قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] فيرحم المؤمنين يوم القيامة، ويدخلهم الجنة بفضله وبرحمته سبحانه.
والغفور: اسم آخر من أسماء الله عز وجل، وقد جاء في القرآن الغفور والغفار وغافر الذنب.
فالغفور والغفار من صيغ المبالغة فهو عظيم المغفرة، وأصل الغفر: الستر والتغطية، فكأنه سمي بذلك لأنه يستر الذنوب ويمحوها ولا يفضح عباده المؤمنين، فيستر زلاتهم ويغفر لهم ذنوبهم.
فالغفور: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وأصلها التغطية، ومنها المغفر: وهو حلقات من حديد يلبسها المقاتل حتى لا تؤثر فيه ضربات السيوف فيستتر تحتها.
وقد قال الله تعالى في عباد الرحمن: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] فلا يغفر فقط، لكن أيضاً من رحمته أنه قد يقلب السيئة التي وقع فيها العبد إلى حسنة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن يدنيه الله عز وجل في كنفه يوم القيامة ثم يأمر الملائكة أن يروه صحائف ذنوبه ويستر عنه ذنوباً كثيرة ويريه أشياء صغيرة من ذنوبه) فيقر بها ويخاف أن يريه الذنوب الأخرى التي فعلها، والله بكرمه يستره ويريه بعض ذنوبه ويقول: (قد سترناها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك) ثم يقول: (وسأبدلها لك حسنات) أي: مكان كل ذنب مما غفرناه سنبدله حسنات.
فينظر العبد في صحيفته ويتذكر الذنوب الأخرى ويقول: (يا رب! هناك ذنوب لا أراها هنا، فضحك النبي صلوات الله وسلامه عليه) لما نظر العبد لرحمة الله سبحانه فتطاول إلى أعظم مما رحمه الله سبحانه، فطلب منه أن يبدل الذنوب التي سترها وغفرها حسنات والله على كل شيء قدير.
نسأل الله بفضله ورحمته أن يغفر لنا ويتجاوز عنا إنه هو الغفور الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(290/7)
تفسير سورة سبأ [3 - 9]
توعد الله جل وعلا أولئك الذين سلكوا سبيل العناد، وأبوا أن يسلكوا سبيل الرشاد، مع معرفتهم اليقينية بصدق رسالة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وكذبوا بالساعة متناسين أن الله أوجدهم من العدم، وأعرضوا عن آيات الله الكونية والشرعية.(291/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:3 - 8].
في هذه الآيات من سورة سبأ يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن تكذيب المشركين بالساعة، وعن رد الله سبحانه تبارك وتعالى على هؤلاء في تكذيبهم بقيام الساعة.
قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ:3] قال بعضهم ذلك وصدقهم الباقون، وممن قال ذلك أبو سفيان قبل إسلامه وهو في مكة، وإسلامه كان متأخراً في العام الثامن من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قبيل فتح مكة، وقد كان قبل ذلك من أشد المعادين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
فكان أبو سفيان يقسم للكفار أن الساعة لا تقوم، فيقول لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً، ولا نبعث.
فكذب الله عز وجل ما قال، وكذب الكفار في دعواهم أن الساعة لا تأتي، فقال الله عز وجل: {قُلْ بَلَى} [سبأ:3] هم قالوا: {لا تَأْتِينَا} [سبأ:3] فكان
الجواب
(( بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) ستأتي هذه الساعة، هم نفوا ذلك، فأثبت الله عز وجل بهذا اللفظ: ((بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ))، فهم أقسوا بآلهتهم التي لا تنفع ولا تضر، وأقسم الله عز وجل بنفسه سبحانه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم لهم بالله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3].
ستأتيكم ساعتكم وستقوم عليكم قيامتكم، وستأتي ساعة كل إنسان، وستأتي القيامة الكبرى بعد ذلك.
((قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ)) وهذا من أسماء الله سبحانه تبارك وتعالى: علام الغيوب، عالم الغيب، وهو العليم سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: ((عَالِمِ الْغَيْبِ)) هذه قراءة ابن كثير وقراءة أبي عمرو وقراءة عاصم وقراءة الكسائي.
وقرأها غيرهم من القراء بالضم: (عالمُ) وهم ابن عامر ونافع وأبو جعفر: ورويس.
قرأها حمزة والكسائي: (علام الغيب) سبحانه تبارك وتعالى، فهو (عالم الغيب) و (علام الغيب) أيضاً.
((قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) فالوصف لله سبحانه العائد على هذا القسم، (وربي عالمِ الغيب) و (ربي علام الغيب) وصف للمقسم به، وهو: الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقراءة حمزة والكسائي: (علام الغيب) الوصف أيضاً مجرور على الأصل فيها: (وربي) معطوف عليه، فهو مجرور مثله.
(عالمُ الغيب) قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر ورويس ورُفعت؛ لأنها خبر لمبتدأ محذوف.
فالله سبحانه تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، والله علام الغيوب، يعلم ما خفي، ويعلم كل شيء، ويعلم ما يبدو وما يخفى، وما ينويه الإنسان، بل وما لم ينوه بعد، فهو يعلم ما كان وما سيكون.
قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ:3].
(يَعْزُبُ) بمعنى: يغيب، فلا يغيب عن علم الله سبحانه، مثقال ذرة، والذرة: هي النملة الصغيرة جداً، والتي لا يكاد الإنسان يراها، فإذا كان الله عز وجل لا يغيب عنه قدر الذرة، فكيف بما هو أكبر من ذلك؟! لا يغيب عن الله عز وجل شيء في خلقه ولا في كونه سبحانه.
(لا يَعْزُبُ) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها الكسائي: (لا يعزِب) والمعنى واحد.
{لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ} [سبأ:3] والمثقال: القدر أو الجزء، إذاً الجزء من هذه الذرة، يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى، سواء كان في السموات أو في كان في الأرض.
قال تعالى: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3] إذاً الذرة التي هي أقل الأشياء الله عز وجل يخبر أنه يوجد أصغر منها، وما كان أصغر منها فالله عز وجل يعلمه سبحانه تبارك وتعالى، وما كان أكبر من ذلك فالله عز وجل يعلمه، فهو يعلم كل شيء سبحانه.
{وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3] فهو عند الله سبحانه تبارك وتعالى في كتاب مكتوب، يحدث كذا في يوم كذا، ويخلق فلاناً وفلاناً، وفلان يعصي، وفلان يطيع، وفلان يستحق الجنة، وفلان يستحق النار، وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه تبارك وتعالى في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ عنده سبحانه تبارك وتعالى.(291/2)
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال الله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ:4]، ((لِيَجْزِيَ)) اللام تعليلية، فقد علم الله سبحانه تبارك وتعالى، وكتب عنده في لوح محفوظ؛ ليري الناس يوم القيامة أعمالهم ويجازون عليها.
إذاً الساعة آتية ليجزي الله هؤلاء، وكتب عنده ما يفعلون، فلابد من إتيان الساعة للجزاء، وكتب الله عز وجل عنده أعمال العباد للجزاء أيضاً.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ:4] والله عز وجل يذكر لنا الإيمان مقروناً بالعمل الصالح غالباً؛ حتى لا يتوهم إنسان أن يقول: آمنت، ثم يترك العمل ولا يعمل شيئاً، فالعمل الصالح من واجبات الإيمان لا بد منه، فالله عز وجل يجزي المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة، والذين لا يعملون الصالحات يعذبهم الله سبحانه تبارك وتعالى أو يغفر لمن يشاء سبحانه، أما الكفار فمأواهم النار ولا مخرج ولا منجى لهم منها أبداً.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ:4] يعني: بالجزاء العظيم، وبالأجر قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ:4] لهم مغفرة من الله، وفوق هذه المغفرة محو الخطايا، ومحو الذنوب، ويبدل الله سيئاتهم حسنات من فضله سبحانه، وأيضاً لهم الرزق العظيم، والرزق الكريم، فالله عز وجل من صفاته أنه كريم سبحانه تبارك وتعالى.
يجزي عباده بكرمه جزاء يليق به، فهو الإله وهو الرب، وصفته الكرم، فالرزق منه رزق كريم، رزق لا ينقطع عن عباده في الدنيا.(291/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5].
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} وهؤلاء عكس المؤمنين، فهم أعرضوا عن ربهم سبحانه، وجحدوا دينه، وكذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
وآيات الله سبحانه تبارك وتعالى أي: معجزات الله سبحانه، والآيات التي يريهم في الكون لا يقدر إنسان على أن يأتي بآية من هذه الآيات، قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] هذه آيات من آيات الله سبحانه.
ويأتي القرآن وهو الآية العظمى من الله سبحانه تبارك وتعالى، لنريك آيات الله عز وجل أكبر الآيات: الآية الكبرى آية رب العالمين، هذا القرآن الكريم.
فهؤلاء الكفار يسعون في آيات الله معاجزين، ومعجزين، المعاجز والمعجز: الذي يريد أن يعجز خصمه، يريد أن يعجزه ويعجّزه، فالكفار يظنون أن الله لا يقدر عليهم، ويقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82].
ويأتي أبي بن خلف الجمحي للنبي صلى الله عليه وسلم بقحف رأس ويفتته بيده ويقول: تزعم أن إلهك يبعث هذا؟! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ويدخلك النار) الله عز وجل يبعث هذا مرة ثانية ليجزيه، ويدخل هذا الكافر النار.
فالغرض أن ربنا سبحانه يخبر عن الكفار وأنهم يسعون، يعني: يحاولون جاهدين إبطال آيات الله عز وجل، ويحاولون التشكيك في آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، وهم بذلك معاجزين يعني: يظن الكافر أنه يعجز ربه، وأنه يفلت من الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [سبأ:5] ومحاولين أن يشككوا الناس في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ظانين أنهم يفلتون من الله سبحانه.
(مُعَاجِزِينَ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو: (معجزين) يعني: في ظنهم، فيظنون أنهم يعجزون ربهم ويعجزونه، فيهربون في الأرض، ولا يقدر أن يبعثهم مرة ثانية! (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا) مريدين إبطالها، معجزين ومعاجزين، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5] أولئك لهم عذاب من عند الله سبحانه، عذاب عظيم وعقوبة من الله سبحانه تبارك وتعالى لهؤلاء.
((مِنْ رِجْزٍ)) الرجز هو: أشد العذاب، فلهم عذاب من الرجز، وهذا العذاب عذاب أليم أيضاً.
ووردت قراءتان لكلمة أليم: (أَلِيمٌ) و (أليمٍ)، (أَلِيمٌ) قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ويعقوب، وهي وصف للعذاب، وكأنه يقول: أولئك لهم عذاب أليمٌ، فصفة العذاب أنه أليم.
وباقي القراء يقرءونها (أليمٍ) وهذا يكون عند الوصل، عندما يصل القارئ الآية بالآية التالية، إما أن يرفع على قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم وقراءة يعقوب، أو يجر على قراءة باقي القراء.
وكأن على قراءة الجر أن الرجز أليم، إذاً هذا وصف للرجز للذي هو أشد العذاب عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو مؤلم، فهي صفة للرجز أنه مؤلم، بل غاية في الألم لهؤلاء الذين يعذبون به، نسأل الله العفو والعافية.
إذاً هؤلاء يريدون التعجيز، ويثبطون الناس عند دين الله سبحانه، ويبعدونهم عن دين الإسلام، ويعاجزون ظناً منهم أنهم يفلتون من الله سبحانه تبارك وتعالى.(291/4)
تفسير قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)
قال الله سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ:6] نحن ذكرنا أن سورة سبأ سورة مكية، واختلف العلماء في آية واحدة فقط منها وهي هذه الآية، فبعض أهل العلم قالوا: هذه الآية مدنية بناء على تفسيرها، وباقي السورة مكية إلا هذه الآية.
((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)) يعني: أهل الكتاب، وعلموا أن هذا هو الحق من عند الله، فدخلوا في دين الله عز وجل، كـ عبد الله بن سلام وغيرهم ممن دخلوا في دين الله سبحانه.
فقالوا: عبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتاب لم يكونوا في مكة، والسورة نزلت في مكة، فدل أن هذه الآية نزلت في المدينة، ولكن أكثر المفسرين على أن الذين أوتوا العلم هم: المؤمنون، والقرآن أعظم العلوم، فهم الذين أوتوه، يعني: المؤمنون الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فتعلموا منه وعلموا، فهؤلاء أهل العلم، فالسورة كلها مكية.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [سبأ:6] أي: يرون ما نزل عليك من عند ربك سبحانه، يرون أنه ((هُوَ الْحَقَّ))، (أُنزل) هذا المفعول، (ويرى) بمعنى: يعلمون ويعتقدون ذلك، فيرى هنا تنصب مفعولين، فالمفعول الثاني هو الحق، و (هو) للتوكيد فيها، وفي غير القرآن يجوز (هو الحقُّ)، وهي قراءة شاذة، لكن القراءة التي في المصحف، وهي قراءة القراء كلهم: (هو الحقَّ)، فيرون القرآن هذا حقاً من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
((وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))، الصراط: طريق الإسلام الذي يقود إلى الجنة، فهو الصراط المستقيم الذي يدعو المؤمن ربه في كل صلاة، وفي كل ركعة من صلاته بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
إذاً: يرى أهل العلم أن هذا القرآن حق من عند الله سبحانه، ويهدي أي: يدل على طريق الله سبحانه تبارك وتعالى.
((وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ)) فهو الغالب الذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، والذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، ومستحيل أن يكون على غير ما أراد الله سبحانه، فهو العزيز الغالب القاهر، الذي لا يغالب ولا يمانع أبداً، إذا أمر أمراً لا يستطيع أحد أن يمنع قضاءه سبحانه وقدره.
((الْحَمِيدِ)) أي: المحمود، المستحق للحمد العظيم، وهو: الثناء الجميل على الله سبحانه تبارك وتعالى بما هو أهل له.
(ويهدي إلى صراط) الصاد هنا فيها قراءات، فيقرأ قنبل عن ابن كثير، ويقرأ رويس أيضاً عن يعقوب، بإبدال الصاد سيناً (سراط)، ويقرأ باقي القراء (صراط) بالصاد، ما عدا خلف عن حمزة فيقرأ بإشمام الصاد زاياً، والمعنى واحد، فالصراط بمعنى: الطريق الذي يدل عليه هذا القرآن والذي يهدي إلى طريق ربنا سبحانه تبارك وتعالى.(291/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق)
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7].
((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: مستهزئين بالنبي صلوات الله وسلامه عليه كعادتهم فهم يستهزؤون بالحق، وهم يعرفون أنه الحق لجهلهم ولحماقتهم وتفاهتهم ولصغر عقولهم، فهم يتكلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم بكلام كاذب، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7].
((هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ)) والعادة عندما تقول لشخص: دعني أدلك على رجل يفعل كذا وكذا، أن هذا الرجل مجهول، فلو كان الرجل معلوماً لقلت له: أدلك على فلان يفعل كذا، فكيف هذا وهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم تماماً؟! ويعرفون أهله صلوات الله وسلامه عليه، ولا يجهلونه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقولون هذا الكلام، هل ندلكم على رجل؟! تعالوا نريكم رجلاً، فقالوها هنا على وجه السخرية والتحقير لأمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكأنهم يجهلونه عليه الصلاة والسلام! فتعرف جهل هؤلاء وحماقتهم حين يدعو أحدهم ربهم سبحانه ويقول: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32] فتعرف أنهم الجهلة، وأنهم أغبياء، وأنهم لا يفهمون ما يقولون، وهل هناك شخص عاقل يقول هذا الشيء؟! وهل يوجد شخص عاقل يقول لربه: يا رب! لو كان هذا الحق فأسقط علي حجارة من السماء، فأمتني؟! فالعاقل لا يقول هذا أبداً، العاقل يقول: يا رب! لو كان هذا الحق من عندك فاهدني إليه، ودلني عليه، وخذ بيدي إليه، أما الذي يقول: يا رب! لو كان هذا حقاً فأمطر علي حجارة، فهذا جاهل مغفل، لا يفهم ما يقوله.
وهؤلاء الكفار يقولون ذلك، ويدعون على أنفسهم، ويقول قائلهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، والقط: صحيفة العذاب، يعني: هات لنا العذاب من الآن، لن ننتظر حتى يوم الحساب! في عقولهم غباء عجيب، وإذا دخلوا في الإسلام إذا بالله عز وجل يكشف عنهم ذلك، فينظرون إلى أنفسهم ويضحكون على أنفسهم.
فقد كان الصحابة يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر في المسجد، وقد أخبرهم عن فضل الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتى يصلي ركعتي الضحى، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم مكث في مصلاه يذكر الله حتى طلعت الشمس ثم صلى ركعتين، كتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة).
فكان الصحابة يحرصون على ذلك، فيجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم يذكرون الله عز وجل، فإذا أشرقت الشمس، فليس وقتاً للصلاة عند شروق الشمس، فيتكلم بعضهم مع بعض، ويتحدثون عما كانوا يفعلون في الجاهلية، قال قائلهم: فكنا نتحدث بما كنا نصنع في الجاهلية، فنضحك ويسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيتبسم صلوات الله وسلامه عليه، يعني: كان يحكون الجهالات والحماقات التي كانوا عليها قبل دخولهم في دين الله سبحانه.
أليس الله يقول لنا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]؟ أليس هؤلاء الذي كانوا يئدون بناتهم في الجاهلية، يسلم أحدهم ويحدث النبي صلى الله عليه وسلم بما صنع في جاهليته، وأنه أخذ ابنته وحملها وذهب بها وحفر لها حفرة في الأرض، وكان التراب يصعد على وجهه وابنته تمسح لحيته من التراب، وهو يحضر قبرها، ثم يدفنها في قبرها ويفرغ فوقها التراب! هذا في الجاهلية، ويذكر الرجل ذلك في الإسلام فيبكي على حاله، ويبكي على ما صنع في جاهليته، ولولا أن الله سبحانه تبارك وتعالى جعل الإسلام يجب ما قبله، لكان أمره عظيماً عند الله سبحانه.
يقول الله سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] ما هو الذنب الذي فعلته هذه الفتاة التي يئدها والدها؟! وقد تكون قد كبرت فيئدها، ويدفنها وهي حية، وهذا فعل أهل الجاهلية، وفعل الكفار، فيستحقون عقوبة رب العالمين سبحانه على كفرهم وعلى تكذيبهم، وهذه عقولهم التي أضلهم الله عز وجل، فلم يعرفوا الحق، فاتبعوا الهوى، وفعلوا هذا فسخروا من النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا عنه: مجنون، وهذا شيء يقوله بعضهم لبعض، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7] يقول لكم: إنكم عندما تموتون وتتمزقون في الأرض وتذهب العظام، ويذهب اللحم، ويذهب الجسم كله؛ سترجعون مرة ثانية، حتى يحاسبكم ربكم، فهل هذا الشيء معقول؟! يكذبون ويقول بعضهم لبعض على وجه السخرية والتهكم.(291/6)
تفسير قوله تعالى: (أفترى على الله كذباً أم به جنة)
{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] هذا من قولهم الذي ينكر الله عز وجل عليهم، يقولون: هل قد افترى على الله كذباً؟ ومن أين لكم أن تعرفوا أنه افترى على الله كذباً؟ هل حدثكم الله أنه لم يبعث رسولاً، بل أنزل كتابه، وأعجزكم هذا الكتاب، والواجب عليهم: أن ينظروا في هذا الكتاب.
إذاً خاطب عقولهم، والرسول غايته أن ينظروا في صدقه من كذبه، هل هو صادق أو كاذب فيما يقول؟ رسولاً، هرقل عظيم الروم لما جاءه خطاب النبي صلوات الله وسلامه عليه ما الذي صنعه؟ بدأ باستخدام عقله، فأتى بـ أبي سفيان مع جماعة من العرب فجعل أبا سفيان أمامهم وجعل وراءه الناس من العرب وقال: إذا كذب فأخبروني، وما المانع أن يكذب أبو سفيان؟ يقول هو بعدما أسلم ويحدث بهذا الحديث: لولا أن يؤثروا علي كذباً، فيعرفون أني كذبت كذبة لكذبت، وكان من أشد أعداء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يؤلب عليه العرب، ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لقتاله، هذا أبو سفيان من الله عز وجل عليه في النهاية بأن أسلم بعد عداء مع النبي صلى الله عليه وسلم دام إحدى وعشرين سنة ثم أسلم في آخر سنة ثمانية من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فيسأله هرقل: هذا الرجل الذي بعث فيكم أو الذي يزعم أنه بعث فيكم هل عهدتم عليه كذباً قط؟ هل كذب من قبل؟ قال: لا، ثم قال: هل كان أحد آبائه ملكاً في يوم من الأيام؟ أبو سفيان يجيب: لا، إذاً كيف هو فيكم؟ يقول: هو من أشرفنا ومن أفضلنا نسباً، فبعدما سأله نحو عشرة أسئلة، تبين له أنه رسول فقال: لو كان يترك الكذب على الناس فهل يكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؟ ففي حياتكم لم تسمعوا عليه كذباً قبل ذلك، أيدعي الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؟! لا يكون هذا من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، أتى الآن لكي يطلب ملك أبيه، وقلت إن هذا الرجل من أشرفكم، وكذلك الأنبياء يبعثون في أشراف قومهم.
في نهاية أسئلته يجمع كبراء قومه في قصره، وأغلق عليهم الباب، وقال لهم: ألا أدلكم على شيء تطلبون به خير الدنيا والآخرة؟ فقالوا: بلى، قال: اتبعوا هذا الرجل، إنه رسول حق.
فنخروا جميعهم نخرة واحدة، وجروا إلى الأبواب ليخرجوا، فدعاهم أن ارجعوا، وقال: إنما أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم، فقاموا وخروا ساجدين لـ هرقل، ولم يدخل في دين الله مع معرفة أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! وقال ذلك هرقل فدخل في قلب أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ومع ذلك ظلت المعاندة على كفره إلى سنة ثمانٍ من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكل نبي يبعثه الله عز وجل بآية من الآيات، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الآيات وهي القرآن العظيم الذي تحدى الله عز وجل به العرب أساطين الفصاحة والبلاغة والشعر على أن يأتوا بكتاب مثله، فلم يستطيعوا فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] لم يستطيعوا، وقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلما لم يقدروا على ذلك، وكان من المفترض أن يدخلوا في دين الله؛ لأنهم قد غلبوا وعجزوا ولكنهم ظلوا على تكذيبهم واستهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلوا بعد ذلك يوماً من الأيام في دين الله، بعدما دخل غيرهم، وتأخروا هم عن الدخول في دين الله سبحانه.
فالقائل الذي يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7] ألم يروا إلى أنفسهم كيف خلقهم الله سبحانه تبارك وتعالى؟! فقد كانوا نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم صاروا عظاماً ولحماً، وصاروا أجنة في بطون أمهاتهم، وخلقوا هذا الخلق الآخر، فنزلوا إلى هذه الدنيا على هذه الهيئة.
أليس الذي بدأهم من النطفة الحقيرة القذرة، والتي يستقذرها الإنسان بقادر على أن يعيدهم مرة أخرى؟! بلى، ولكنهم يكذبون على الله، ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله عز وجل: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] أي: أم به مس من الجن، وهم يزعمون ذلك، قال تعالى: {بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8] لهم عذاب عند ربهم سبحانه، تراهم في ضلال بعيد، وهم تائهين متحيرين، لا يعرفون الحق ولا يهتدون إليه مع وضوحه وبيانه.(291/7)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم)
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9].
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سبأ:9] أفلم ينظروا في السموات، ما بين يديك أمامك وأعلاك وتنظر خلفك، وأسفلك، انظر إلى السماء وإلى الأرض، انظر إلى ما أمامك وما خلفك، تعرف قدرة الله، وما صنع سبحانه تبارك وتعالى في السموات وما خلق في الأرض.
قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9]، إن نشأ نفعل ذلك، وهم قد استعجلوا عذاب الله سبحانه، وقالوا: اطلب من ربك أن يسقط علينا كسفاً من السماء، اجعل ربك أو اطلب من ربك أن يجعل لك قصراً من ذهب، أو اطلب من ربك أن يجعل لنا هذا الجبل ذهباً، فطلبوا أشياء وتعنتوا، وقالوا بعد تعنتهم: ولو فعلت ذلك ما نظن أننا سنؤمن بك! قال تعالى يخبر عن حالهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] حتى لو رقيت في السماء {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} [الإسراء:93] وحتى لو أتيت بهذه الأشياء لن ندخل في دينك، إذاً لماذا لا يدخلون مع معرفتهم أنه رسول رب العالمين، وكل ذلك بسبب الحسد والحقد الذي في القلوب، وقالوا: لست أغنى شخص فينا، نحن فينا أغنياء، وفينا من هو أكبر منك سناً، وفينا من كان يتعبد في الجاهلية، فلماذا لا يكون الرسول غيرك؟! فيتعنتون ويرفضون الدخول في دين الله عز وجل.
ويقول قائلهم: كنا نحن وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وفعلوا كذا ففعلنا، ثم يقولون: منا نبي، وأنى لنا بنبي؟ والله! لا ندخل في دينه أبداً! فيرفضون الدخول حسداً وحقداً على النبي صلى الله عليه وسلم أن اصطفاه ربه سبحانه، وجعله رسولاً له سبحانه تبارك وتعالى.
((أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (أيديهُم) وهذا على أن الأصل في الضمير الضم: هم.
قال الله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9]، ((إِنْ نَشَأْ)) هذه نون العظمة، وهذه قراءة الجمهور، فالله عز وجل يعبر عن نفسه بالنون التي تفيد التعظيم، ويقرؤها حمزة والكسائي وخلف بالفرد وإبدال النون بياء المضارعة: (إن يشأ يخسف بهمِ الأرض أو يسقط عليهم كسْفاً من السماء).
و (كسفاً) يقرؤها حفص فقط عن عاصم بفتح السين بمعنى: السحب الكثيفة، والأصل هنا أن معناها: الظلل من العذاب، وما يتكسف بعضه على بعض فيكون ظله عظيمة في السماء من نار تهوي على الناس، تحرقهم وتهلكهم، فالجمهور يقرءون: (كسْفاً من السماء)، وحفص عن عاصم يقرؤها: (كسَفاً من السماء) بالجمع فيها.
إذاً هنا: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9] والمانع من ذلك رحمة الله سبحانه، وحلم الله سبحانه، فهو الحليم الذي يحلم عن عباده لعلهم يؤمنون، وقد آمن منهم الكثيرون.
قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9] فما يرونه في السماوات، وما يرونه في الأرض، وما يرونه أمامهم وخلفهم؛ فهذا كله من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، يفقهها ويفهمها العبد المنيب الذي يرجع إلى ربه بالتوبة، والذي يدخل في دين الله سبحانه، فيفقه ويعلم، ويعلمه الله سبحانه من فضله.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(291/8)
تفسير سورة سبأ [10 - 12]
أخبر الله عن فضله وتكرمه على بني إسرائيل حيث جعل فيهم الملك والنبوة، وقد جمعهما لنبيين من أنبيائهم، وهما: داود وسليمان عليهما السلام، وألان الحديد لداود، وعلمه صنع الدروع، وسخر له الطير والجبال يسبحن معه، وسخر لسليمان الريح والجن والإنس يعملون بين يديه بإذن الله سبحانه وتعالى.(292/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:10 - 12].
ذكرنا أن هذه السورة مكية يذكر الله سبحانه وتعالى فيها الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون، ويذكر نعمه التي ينعم بها على عباده، وقليل من عباد ربنا الشكور، فمن العباد من يشكر النعم فيستحق المزيد منها، ويستحق الجنة دار الخلود، ومنهم من يكفر بالنعم فيستحق في الدنيا الهوان والذل، وفي الآخرة العذاب الشديد.
فهنا: ذكر الله سبحانه وتعالى داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهما من عباد الله الصالحين، أنعم الله عليهما بالنبوة والعلم والحكمة والفهم، وأنعم عليهما بالملك أيضاً، فأعطاهما ملكاً عظيماً، وذكر الله سبحانه بعد ذلك بقليل قصة سبأ وكيف أنعم عليهم في الدنيا وأعطاهم فإذا بهم يكفرون بنعم الله سبحانه، ويتبعون الشيطان: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] فإبليس يأتي للإنسان على أن يغويه ظناً منه، وقد قال الله سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فصدق ظنه عليهم، فأغوى منهم من شاء الله عز وجل له الغواية، وثبت الله عز وجل من شاء له الهداية، فهذا داود النبي وهذا سليمان ابنه، وننظر في القصة التي ذكرها الله عز وجل هنا.
وقد تكرر في كتاب الله سبحانه وتعالى في مواضع ذكر داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وسليمان أيضاً، فذكر الله سبحانه وتعالى أنه آتى داود زبوراً، قال: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163]، وقال في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55] وذكر داود وسليمان {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا} [الأنبياء:78 - 79] داود وسليمان {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] فآتى الله عز وجل كلاً من الاثنين الحكم والعلم، آتاه النبوة من فضله سبحانه.
وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79]، فسخر الله عز وجل لداود الجبال تؤوب معه وتسبح، وكذلك الطير كما سيذكر لنا في هذه السورة.
كذلك قال سبحانه في سورة النمل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] فذكر أنه اختصهما بعلم لم يعطه لغيرهما في زمانهما.
كذلك قال لنبينا صلوات الله وسلامه عليه في سورة (ص): {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] ذا القوة {إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:17 - 20] فهذا مما ذكره الله عز وجل عن داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فداود نبي من أنبياء الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أبناء يعقوب، ويعقوب له اثنا عشر سبطاً، ومن أسباط يعقوب يهوذا بن يعقوب ولاوي بن يعقوب، فجعل الله عز وجل في سبط لاوي من أبنائه الأنبياء من بني إسرائيل، وجعل في سبط يهوذا الملوك من بني إسرائيل، فبنو إسرائيل يقودهم اثنان: نبي يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى، ويعلمهم ويربيهم ويؤدبهم، وملك يكون من أبناء يعقوب يسوسهم ويأمرهم، ويجهز جيوشهم ويقاتل معهم، فكان فيهم الأنبياء والملوك، الأنبياء من سبط، والملوك من سبط آخر من أسباط يعقوب.(292/2)
قصة تتويج داود الملك والنبوة
يذكر الله سبحانه وتعالى أنه آتى داود فضلاً، وقد فصل شيئاً طويلاً من هذا الفضل في سورة البقرة وفي هذه السورة الكريمة، قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، ((إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً)) فهنا: فيهم الملوك والأنبياء، النبي مختص بالشريعة يعلم ويؤدب ويربي، ويأتيه الوحي من الله عز وجل، والملك يقاتل ويسوس أمرهم، والنبي من سبط لاوي فيقولون لهذا النبي: ((ابعث لنا ملكاً)) عين لنا ملكاً من السبط الآخر الذي هو سبط يهوذا يكون ملكاً علينا.
قوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] كانوا مغلوبين مقهورين، قهرهم العمالقة الذين يعيشون في فلسطين، وهي قبيلة تسمى بذلك، فهم قهروا بني إسرائيل وأخذوا أبناءهم وأخذوا نساءهم، وأذلوهم غاية الذل، وكان هذا التحكم فيهم بسبب كفرانهم نعم الله سبحانه وتعالى عليهم، فكلما أعطاهم نعمة كفروا بهذه النعمة وتفرقوا، وحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله عز وجل من فضله، فسلط الله عز وجل عليهم غيرهم.
فهؤلاء لما وجدوا أنفسهم صاروا أذلة في الأرض قالوا لنبي لهم اسمه (شمويل) أو (شمعون): {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] أي: أنتم كعادتكم، كلما ربنا يفرض عليكم القتال تفرون منه وتتركونه قال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] يعني: بعد هذا الذل الذي نحن فيه هل سنترك القتال أيضاً؟! لا، بل سنقاتل في سبيل الله فابعث لنا ملكاً، قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247].
وطالوت كان من سبط بنيامين، وليس من سبط الذين فيهم الأنبياء، ولا من السبط الذين فيهم الملوك، وإنما كان من سبط بنيامين أخي يوسف النبي لأمه وأبيه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فبعث لهم طالوت ملكاً فرفضوا، حيث كان طالوت دباغاً، وقيل: كان سقاء، يعني: كانت مهنته عندهم مهنة حقيرة، فكيف يكون هذا ملكاً علينا بعد أن كان دباغاً وسقاء؟! فقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] يعني: هم يطلبون ومع ذلك يتكبرون ويرفضون! أنتم مهزومون وأذلاء والآن ترفضون ما أمر الله عز وجل به نبيكم أن يعين عليكم هذا؟! {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، فربنا اصطفاه عليكم أنتم، فهو أفضل منكم ((وزاده بسطة)) فأعطاه علماً كثيراً، ولكن لم يعطه النبوة، وأعطاه جسماً عظيماً، فكان طويلاً عريضاً يصلح للقتال في سببل الله عز وجل، وجعل له آية: فقال تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] فإذا بهم يجدون التابوت الذي قد ضاع منهم، وفيه التوراة وبقية {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة:248] كان قد أخذه أهل فلسطين منهم، وكانوا عباد أصنام.
فبنو إسرائيل كانوا إذا حاربوا قدموا التابوت فنصرهم الله عز وجل ببركة ما فيه، فلما ضاع منهم التابوت كانوا مهزومين أذلاء أمام أعدائهم، فإذا بالله عز وجل يجعل البركة لهذا الإنسان الذي يتولى قيادتهم بأن يظهر التابوت ويرجع إليه مرة أخرى، والملائكة تحمله وتأتيهم بهذا التابوت، فلما رأوا التابوت عرفوا أن طالوت هو الذي يستحق أن يكون ملكاً فرضوا بذلك، وجهزهم لقتال أعدائهم، ولما خرجوا لقتال الأعداء، ومروا بنهرٍ منعهم أن يشربوا من هذا النهر {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، احذروا! لا أحد يشرب من هذا النهر، وهذا أمر من الأوامر التي يأمرهم بها، فهو ينفذ أمر النبي الذي أمره بذلك، لا أحد يشرب من هذا النهر إلا أن يغترف غرفة بيده، والغرفة: ملء الكف، يغرف بيده ويشرب، لكن أن يأخذ ماءً كثيراً من النهر فلا: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ} [البقرة:249]، أكثرهم شربوا {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249]، كانوا ألوفاً مؤلفة في الجيش الذي مع طالوت، وجاء في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عندما ذكر عدد أهل بدر قال: (كنا نُحدث: أن عددهم كعدد جنود طالوت)، أي: كعدد المؤمنين مع طالوت، فالذي بقي من الألوف المؤلفة مع طالوت الملك حوالى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ} [البقرة:249] قال هؤلاء: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، جالوت هو قائد أعدائهم، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، فكان هذا القتال بأمر الله عز وجل، والنصر بيد الله سبحانه، وكم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] وهنا يقدر الله عز وجل أمراً من الأمور ليظهر داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
داود كان راعي غنم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأراد الله عز وجل أن يصطفيه ويجعله نبياً، وأن يجعله ملكاً، ويسبب الأسباب سبحانه وتعالى، فـ طالوت هو القائد والملك على بني إسرائيل، وعدد بني إسرائيل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً يقاتلون، فإذا بـ جالوت ومن معه من جنود الكفار عباد الأصنام يأتون ويتواجه الفريقان، فطلب جالوت أحداً يبارزه، فخاف جميع بني إسرائيل، فقال طالوت: من يخرج إليه ليقتله وسأزوجه ابنتي ويكون شريكاً لي في الملك؟! فإذا بداود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول: أنا أخرج، فاستصغروه لسنه، وأيضاً كان داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قصيراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فاستصغروه ونظروا إليه فاحتقروه، أهذا يقتله؟! قال: أنا قاتله بإذن الله، وكان يجيد الرمي بالمقلاع، والمقلاع: هو الحجر يلف على الخيط ثم يحذف، فكان يصيب بالمقلاع، وكان رميه عظيماً به، وإذا بالله عز وجل يعينه، فيخرج بمقلاعه إلى جالوت، فيستصغره جالوت ويحتقره ويقول: ارجع فإني لا أريد أن أقتلك، قال: ولكني أريد أن أقتلك، فرماه بالمقلاع، فشجه فقتله، وفر جميع الألوف الذين كانوا مع جالوت، وانتصر بنو إسرائيل بفضل الله سبحانه وتعالى، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.
ثم ظهر أمر داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجعله طالوت شريكاً له في الملك، فصار ملكاً على بني إسرائيل مع طالوت، وزوجه بابنته، وإذا بالله عز وجل يصطفيه فيجعله نبياً من أنبيائه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فصارت له النبوة والملك، وانتهى أمر طالوت، ومالت بنو إسرائيل إلى داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام في قصة طويلة جداً، لكن الغرض أن الله عز وجل مكن له بذلك بعد أن كان راعي غنم، فقتل قائد جيش الكفار، فإذا ببني إسرائيل يجعلونه ملكاً عليهم، والله عز وجل يجعل له النبوة، وكان داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من سبط يهوذا الذين فيهم الملك، فصار لهم الآن الملك، وصار له الآن أيضاً النبوة، وفضله الله سبحانه وتعالى، فهذا مختصر بدء أمر داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ:10] هذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى، حيث كان راعي غنم فجعله الله عز وجل نبياً وملكاً، فمنّ عليه بالفضل العظيم منه، وأنزل عليه الزبور، وكان كتاباً عظيماً يقرؤه ويتلوه، وأعطاه الله من جمال الصوت ما ذكر سبحانه أن الجبال تؤوب معه، وأن الطير تقف فوقه فتسمع لجمال صوته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(292/3)
معنى قوله تعالى: (يا جبال أوبي معه والطير)
قال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فهذا من فضل الله سبحانه وتعالى عليه، وكأنه قال: نادينا الجبال: يا جبال ونادينا الطير {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] والأوبة بمعنى: الرجعة، آب بمعنى: رجع، كأنه يقول: يا جبال رجعي معه صوته الجميل، هو يقول بصوت جميل مسبحاً ربه سبحانه، والجبال تردد معه ذلك، وهذه معجزة لهذا النبي الكريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10] ونادينا الطير كذلك أن تؤوب معه وأن ترفرف فوقه، وتقف لتستمع لمزامير داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو يترنم بالزبور، أو يترنم بما يقوله من توبة لله عز وجل، وتسبيح وذكر لله سبحانه وتعالى.
قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] هذه إجابة لدعاء دعا داود به ربه سبحانه وتعالى، فأكرمه بأن جعل رزقه من عمل يده، كان ملكاً على بني إسرائيل فملك تحت يده أموال الناس، وتحت يده أموال المملكة، وكان غاية في العدل عليه الصلاة السلام فإذا به في يوم من الأيام يخرج بالليل متخفياً في الليل فيسأل الناس عن نفسه: كيف تجدون داود عليكم؟ كيف صنع داود بكم؟ فالناس يمدحونه ولا يعرفونه بالليل، وهو يستخفي عنهم ويسألهم عن نفسه حتى ينظر في نصح الناس له، وينظر في أمر الناس هل يحبون منه سيرته وعدله أم أنهم يبغضون منه خصلة من الخصال؟! فإذا بالله عز وجل ييسر له ملكاً أو واحداً من الرعية، يقول لداود على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل داود لولا أنه لا يأكل من عمل يده) نعم الرجل! هو رجل جيد لكنه لا يعمل بيده، ما يتكسب بصنع اليد، فإذا بداود يرجع إلى بيته ويسأل ربه سبحانه وتعالى أن يعلمه سبحانه، فعلمه بكرمه وفضله فأعطاه الكثير قال: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فداود يلين الحديد في يديه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يمسك بالحديد فيصير كالعجين في يده، فيلوي الحديد كيفما يشاء: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] هذه معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى، يُري عباده أنه على كل شيء قدير، وأنه يسخر لمن يشاء من عباده ما يشاؤه سبحانه وتعالى منة من الله سبحانه وتفضلاً منه على من يشاء من خلقه، فقال سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10].(292/4)
تفسير قوله تعالى: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد)
قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11] أمره الله سبحانه وتعالى أن يعمل بيده الآن فعمل، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صيام وصلاة داود النبي عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصيام صيام داود، وأفضل الصلاة صلاة داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، ولا يفر إذا لاقى).
فهذه خصال اجتمعت في داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه كان يكثر من الصيام فيصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم لله عز وجل فينام بالليل نصفه، ثم يقوم الثلث الذي يليه، ثم ينام السدس ليستريح وليقوم الفجر وهو قادر على أن يقوم بواجباته الشرعية عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان لا يفر إذا لاقى) كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر أبداً، وواضح من القصة التي ذكرناها أنه هو وحده الذي تقدم لـ جالوت فقتله.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يأكل إلا من عمل يده)، ما هو عمل يده؟ علمه الله سبحانه وتعالى صنعة الدروع، قال الله له سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:10 - 11] سبغ الشيء بمعنى: غطى وأفاض، ومنه قولهم: لبست ثوباً سابغاً بمعنى: ثوباً يكفيني ويفضل عني، أي: ثوب واسع فضفاض يزيد ويسبغ هذا الإسباغ، فقال الله سبحانه {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] أي: دروعاً سابغات، يلبسها المجاهد المقاتل فتحميه من ضربات السيوف، فكانوا قبل ذلك يتقون بأن يأخذ المقاتل صفيحة كاملة ويضعها أمامه وأخرى خلفه درعاً يتقي بهما، فكانتا ثقيلتين عليه، لكن الله عز وجل علم داود أن يصنع الحلق، فيصنع حلقة في حلقة في حلقة ويربط الحلق بعضها ببعض، فيصنع منها الدرع الذي يلبسه الإنسان، فيكون سابغاً عليه يقيه من ضربات عدوه، فهذه هي السابغات {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11]، وكان التعليم من الله عز وجل: اصنع هذا الدرع السابغ واعمل فيه كذا؟ {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] الإنسان عندما يقول: أقدر كذا، يعني: يعمل شيئاً على مقاس مضبوط.
قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] سرد الشيء بمعنى: أنه يجعل بعضه إلى بعض، فيضع بعضه على بعض حتى يجعله ثوباً واحداً كأنه النسج، ينسج الدرع من هذه الحلقات فيجعل حلقة من حديد وحلقة أخرى، ويجعل بينهما مسماراً فيربط الحلقتين إحداهما في الأخرى، وهكذا، فيقول: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: اجعل الفتحة التي في الحديد على قدر المسمار الذي يدخل فيها، فليست ضيقة فيفصمها المسمار، ولا واسعة فيسقط منها المسمار، وإنما هي مضبوطة، فالله عز وجل علم داود فكان يصنع هذا الدرع العجيب الذي ما رأوا مثله قبله، ويبيعه لهم بأثمان عالية، فيأكل منها ويتصدق منها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فشرف الله عز وجل أنبياءه، فجعلهم يعملون بأيديهم، وشرف نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وجعل رزقه في الجهاد في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، يجاهد في سبيل الله فيكون له خمس الخمس من الغنيمة وخمس الفيء صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله عز وجل لداود ولآله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:11] اصنع هذه الأشياء التي علمناك إياها، واعمل عملاً صالحاً تتقرب به إلى الله عز وجل: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11] أبصر ما تصنعونه وأجازيكم عليه {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11].(292/5)
تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)
تنزل الآية كاملة: ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ))، هذا سليمان بن داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، سخر الله لداود أشياء، وسخر لسليمان غيرها، وقبل ما نذكر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من معجزات داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه خفف عليه الزبور، وكان كتاباً عظيماً كبيراً، فكان داود صلوات الله وسلامه عليه يقرأ الزبور مع جمال صوته، والجبال ترجع معه، والطير تقف مشدوهة من جمال صوته، ومن كلامه الجميل، ومن مناشدته ربه سبحانه، ومن استغفاره وتسبيحه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خفف على داود القرآن فكان يأمر بدابته فتسرج) أي: أنه لا يوجد شأن لداود في ذلك، وإنما هو فضل من الله سبحانه وتعالى، فيخفف على من يشاء، فهذه معجزة، وانظر إلى حالك وأنت تقرأ سورة كم ستأخذ من الوقت؟! ربما تأخذ منك عشر دقائق أو ربع ساعة إذا كنت تتقن القراءة، وداود كان يقرأ الزبور كله متقناً له في وقت يسير، قال صلى الله عليه وسلم: (فكان يأمر بدابته فتسرج) يعني: سيأخذ منه التجهيز قدر ربع ساعة أو نصف ساعة فيكون هو قد قرأ الزبور كله في خلال هذه الفترة! هذا الحديث في صحيح البخاري، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته فتسرج، فكان يقرأ القرآن قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يده).
وذكر الله عز وجل من فضله على داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] كل هذا ليشد الله سبحانه وتعالى ملك داود، فكان بنو إسرائيل مع أنبيائهم وملوكهم في غاية الروغان وعدم الاتفاق والائتلاف، فكانوا يختلفون ويحسد بعضهم بعضاً، ويكيد بعضهم لبعض، فشد الله عز وجل ملكه بما أراهم من الآيات فخافوا منه هيبة؛ لأنه الملك، وأيضاً لأنه نبي، والله ينبئُه بالغيب.
من ذلك: ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما: أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر، ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه، يعني: رجل يدعي أن فلاناً اغتصب مني بقري، فالآخر أنكر ذلك، فأرجأ أمرهما إلى الليل، فالأمر خاف عليه، ولا يوجد شهود ولا أحد يوضح ذلك، فداود أرجأ أمرهما إلى الليل حتى يدعو ربه سبحانه أن يبين له ذلك، فلما كان الليل أوحى الله عز وجل إلى داود أن يقتل المدعي، وهذا قضاء عجيب جداً، الوحي من الله عز وجل لداود: أن هذا الذي جاء ليقول: فلان أخذ بقري اقتله، فقام داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أصبح وقال له داود: إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك أيها المدعي! يعني: هو في الظاهر مظلوم، فلماذا أمر الله عز وجل بقتله؟ قال: فإني قاتلك لا محالة فما خبرك؟ يعني: أنت ستقتل ستقتل، لكن اعترف بالصواب؛ لأن الله أوحى إليّ بذلك، قال: فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟ قال: والله يا نبي الله! إني لمحق -يعني: فعلاً هو أخذ بقري وأنا محق- ولكني كنت قتلت أباه قبل ذلك! انظر إلى حكمة الله سبحانه وعدله! جاء الانتقام والقصاص يوماً من الأيام، وهو ليس على باله، وإنما جاء ليشتكي ويقول: أنا مظلوم، حتى يأتي له بالقصاص الأليم، أنت في يوم من الأيام قتلت أَبَا هذا الإنسان، قال: فأمر به داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقتل، فَعَظُم أمر داود في بني إسرائيل جداً، وخضعوا له خضوعاً عظيماً، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20]، فشد الله عز وجل ملكه أي: قوى ملكه بمثل هذه الأحكام العظيمة منه سبحانه وتعالى التي من سمعها عرف أنه نبي، وأنه يوحى إليه من عند الله عز وجل، وأن الذي أوحى إليه بذلك لا يمكن أن يتركه سبحانه وتعالى، ويتعلم منه الإنسان أن الله الحكم العدل سبحانه وتعالى، ومهما ظلم الإنسان وبغى فلن يفلت من الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يقتص من الظالم يوماً من الأيام، ولا يحسبن الذين ظلموا أنهم يعجزون ربهم سبحانه، بل ربنا إذا أخرهم إنما يؤخرهم إلى أجل ثم يأتي القصاص منه، ويأتي حكمه وعدله.
نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفار والكافرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(292/6)
تفسير سورة سبأ [12 - 14]
منن الله تعالى على عباده كثيرة، ومما من به على نبيه سليمان أن سخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث يشاء، وأسال له النحاس وجعله مذاباً سائلاً، وسخر له من الجن من يعمل بين يديه بأمره، وأضفى عليه نعمة الفهم والقضاء.(293/1)
تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:12 - 14].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى شيئاً من قصة داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف من عليه سبحانه وأعطاه ملكاً، وسخر معه الجبال يسبحن معه والطير، أمر داود أن يشكره عليها فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فالذين يشكرون الله عز وجل من خلقه هم القليلون، والذين يكفرون نعم الله عز وجل كثيرون، فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فهذا داود ذكر الله لنا شيئاً مما جاء من قصصه عليه الصلاة والسلام، وهذا سليمان ابنه ذكر لنا ربنا كيف أنعم على هذا وذاك، إذ أنعم عليهما الابن بالعلم والفهم والملك والنبوة.
فمن نعم الله عز وجل على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما حكاه الله بقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] وهذا من تسخير الله عز وجل الكائنات لسليمان عليه الصلاة والسلام، فالريح سخرها له، فقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء:81] أي: سخر لسليمان الريح، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (ولسليمان الرياح) أي: سخرنا الرياح له، وقراءة شعبة عن عاصم: (ولسليمان الريحُ) أي والريح لسليمان مسخرة، كأنها مبتدأ مؤخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن هذه الرياح سخرها لسليمان، إذاً الريح لسليمان مسخرة بفضل الله وبقوته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] فهذا تسخير عجيب، حيث إن الريح تطيع أمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والريح خلق من خلق الله سبحانه وتعالى يرسلها فيجعلها نسيماً بارداً على قوم، ويجعلها حارة شديدة على قوم، ويجعلها عاصفة على قوم، ويجعلها قاصفة على قوم، فالله يصرف في كونه ما يشاء سبحانه وتعالى.
فالله سخر لسليمان الريح، وسرعتها عظيمة جداً إذ إن غدوها شهر، والغدو: هو الخروج مع أول النهار، فكأن سليمان عليه الصلاة والسلام يسخر له ربه هذه الريح فتحمله مسيرة شهر في غدوة واحدة، فهو ينتقل من مكان إلى مكان، لو أنه ركب على فرسه لسار شهراً كاملاً حتى يصل إليه، ولكن الريح تحمله بأمر الله سبحانه هو ومن يريد أن يحمله معه في مقدار الضحى من النهار، ولو أن غيرها الذي سارها لسار مسيرة شهر، والرواح: هو العود بالعشي، والريح رواحها شهر! إذاً كأنه يذهب إلى مكان ويرجع إليه في غدو ورواح يذهب ويقضي حاجة ويرجع فيما لو ركب على الفرس وجرى إلى هذا المكان ورجع منه في شهرين، فالريح تذهب وترجع به في غدو ورواح في ذلك الوقت القليل! قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] ذكر بعض أهل العلم منهم الثعالبي أن الريح إذا ذكرت في القرآن فلا تأتي إلا في الخير، والرياح لا تأتي إلا في الشر، وهذا فيه نظر؛ لأن ما من كلمة ريح جاءت إلا وفيها قراءة أخرى الرياح، فعلى هذا يكون الكلام غير مطرد إلا إن كان يقصد في اللغة، يعني: عند أهل اللغة ذلك، أما في القرآن فهو غير مطرد، فكأنه بنا على قراءة واحدة التفرقة بين الريح والرياح.(293/2)
إذابة النحاس لنبي الله سليمان
قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12] هذه من نعم الله سبحانه وتعالى على سليمان حيث أسال له عين القطر، والقطر: هو النحاس، فكما سخر الله لأبيه الحديد وألانه له، جعل لسليمان النحاس مذاباً منصهراً يشكل منه ما يشاء، ويصنع منه ما يريد بأمر الله سبحانه، نعمة أخرى من نعم الله سبحانه، جعله عيناً كما تنظر أنت عين ماء، كذلك النحاس مذاب منصهر في عين من العيون يأخذه وينتفع به وينتفع به الناس، فجعله الله عز وجل له سائلاً، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل عليه لم تكن لأحد آخر غير سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإنما كان الناس إذا أرادوا النحاس وجدوه معدناً صلباً قوياً، فيصهروه ويسيلوه ثم يستخدمونه فيما يشاءون.(293/3)
تسخير الله الجن لسليمان
قال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] هذا شيء آخر سخره الله عز وجل لسليمان عليه الصلاة والسلام.
فالجنة هم الشياطين، يسخرهم الله عز وجل له فيخافون منه، ويهابونه، وأذلهم الله عز وجل له ولسلطانه بأمره سبحانه وتعالى، فيعملون مسخرين لسليمان عليه الصلاة والسلام.
وذكر الله تعالى تسخير الرياح لسليمان في سورة الأنبياء فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:81] فجعل الرياح تجري بأمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81] أي: أن الله عز وجل أعلم بمن يستحق ذلك فأعطاه.
وسليمان كان قد دعا ربه سبحانه فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] وكان من صغره قد فطنه الله عز وجل وأعطاه الحكمة العظيمة، حتى إنه ليقضي بقضاء من يفهم بتفهيم الله عز وجل له، ويحتاج إليه أبوه فيأخذ بقول ابنه وهو صبي صغير، وقالوا: إنه تولى الخلافة بعد أبيه وله سبع عشرة سنة، وقيل: بل وله ثلاث عشرة سنة، مما يدل على أنه كان صغيراً، فقد كان خليفة بعد أبيه من بعد وفاته بأمر من الله سبحانه وتعالى، وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من حكمة، وقدرته على الفصل في الخصومات؛ فلذلك أحب الناس أن يكون هو الذي عليهم، فكان بأمر الله سبحانه وتعالى هو الخليفة والملك بعد أبيه داود.
ولقد من الله على داود بالملك وكان قبل ذلك راعي غنم، وما من نبي إلا ورعى الغنم، ثم صار بعد ذلك في هذا الملك العظيم، أما ابنه سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى خيلاً عظيمة فنظر إليها يوماً من الأيام وهي تجري أمامه فأعجبه منظرها، فجاء عليه وقت صلاة فنسي الصلاة من جمال الخيل، فلما تذكر الصلاة قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] وعلم أن الخيل التي نظر إليها فأعجبته ضيعت عليه الصلاة، فقال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33].
قيل: طفق مسحاً أي: قتلاً، وكان ذلك جائزاً له ففعل ذلك، وقيل: بل كان يمسح عليها فالله أعلم بذلك، ولكنه رجع إلى ربه سبحانه وتعالى تائباً إليه، ودعا ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ذلك.
وأراد أن يكون له مائة من الولد، قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة فيكون لي من كل واحدة ولداً فيكون لي مائة من الولد يجاهدون معي في سبيل الله، وهذه نية عظيمة وجميلة وطلب حسن، وإذا بالملك بجواره يقول: قل: إن شاء الله، فلم يقل، وكأنه نظر إلى أن النية الصالحة تغني عن ذلك، أو أنه غفل عن ذلك، فلم يقل: إن شاء الله، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة فقط من المائة، ووضعت شق غلام أي: نصف غلام غير مكتمل في بطن أمه لا يصلح لشيء، ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34] أي: رجع إلى ربه فتذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فأناب إلى ربه ودعا ربه تائباً إليه وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فسأل ربه فأعطاه الله سبحانه وتعالى ملكاً لا يكون لأحد بعد سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والله عز وجل سخر لسليمان الجن يعملون بين يديه بإذن ربه سبحانه كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] إذ ليس هو المالك المتصرف، ولكن بإذن الله، فالله هو مالك الملك سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ:12] أي: لقد أمرنا الجن بطاعة سليمان ومن ينحرف عن طاعة الله سبحانه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] فجعل له العذاب يوم القيامة على ذلك.
كذلك في الدنيا يؤدبه ربه سبحانه بأن سخر لسليمان ما يؤدب الجن به، فسليمان يؤدب الإنس والجن بتسخير من الله سبحانه وتعالى، ومن ينحرف عما يقوله سليمان ولا يطيع بل يعصي فجزاؤه: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] أي: من عذاب النار المستعرة.(293/4)
تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)
قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: أن الله يسخرهم وهم يصنعون له ما يريد، سواء أشياء لنفسه أم أمور ينتفع بها الناس.
قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ:13] المحراب: هو المكان الشريف والمقدم في أي مكان، ويطلق المحراب على المسجد، وعلى مقدم المسجد، وعلى الغرفة العالية، وعلى البناء العالي جداً، وعلى القصر العالي، كل هذا يطلق عليه المحراب، فكأن الله عز وجل سخرهم يبنون له ما يشاء من مساجد، وقصور، وأبنية عالية، وعلامات في الطريق، فيصنعون ذلك.
قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ)) أي: يعملون له تماثيل، وهذا كان جائزاً في شريعته ولا يحل لنا في ديننا، فقد حرمه الله عز وجل علينا، ومن صور صورة من هذه الأمة يأمره الله عز وجل يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، ويعذبهم في نار جهنم سبحانه وتعالى حتى يفعل ذلك وما هو بفاعل، فجعل لسليمان عليه الصلاة والسلام الجن يصنعون له ذلك لحكمة منها أن تكون كعلامات للمكان، كأن يصور صور أناس ويريد بها شيئاً فالله أعلم بها، ولكن كان ذلك جائزاً في شريعة سليمان عليه الصلاة والسلام وليس جائزاً في شريعتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين، وذكر أن من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، يعني لا يقدر على ذلك.
قال سبحانه: {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13].
الجواب والجوابي: جمع جابية، وفي قراءة يعقوب: (وجفان كالجوابي)، ومثلها قراءة ورش عند الوصل وكذلك أبي عمرو: (كالجوابي وقدور راسيات) في الوصل فقط، فإذا وقف عليها يقول: (كالجواب).
والجوابي جمع جابية، ومنها الجوبة: وهو المكان أو الشيء المقعر، فهي الحياض العظيمة التي تجتمع فيها الماء، فالجن يصنعون له الجفان: وهي جمع جفنة، والجفنة القدر الضخم جداً، يقول تعالى: ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) يعني: جفنة عظيمة جداً مثل الحوض الذي تأتي الإبل لكي تشرب منه، فيصنعونها في الأرض على الصخر حتى يصير كهيئة الوعاء الضخم، والجفنة: هي التي يوضع فيها الطعام، فكأنهم يصنعون له كهيئة الحوض العظيم الضخم، وليس حوضاً واحداً، بل حياضاً كثيرة لأجل أن يأكل منها جند سليمان وضيوفه.
وكل جفنة تسع عدداً كبيراً من الرجال، ومما ذكره المفسرون في ذلك أنها تسع ألف رجل يجلسون عليها، وهذا شيء عظيم وواسع جداً مما يصنعون فالله أعلم، ولكن الله عز وجل ذكر ضخامتها بهذه الصورة، فقال: ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) يعني: كالحوض والحياض العظيمة الواسعة، تصنعها الجن لسليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) القدر: هو الحلة والإناء الذي يطبخ فيه، والقدر الذي عندنا نحمله فنذهب ونأتي به، لكن القدور التي يصنعها الجن قدور عظيمة جداً راسية على الأرض لا تتحرك من ثقلها، ومن عظيم هيئتها، فكونهم يصنعون له الحياض العظيمة أو الجفان التي كالجوابي، والقدور التي يطبخ فيها لأجل أن يوضع في هذه الحياض الأكل ليأكل الناس، يدل على وجود عدد كبير جداً من الناس يطعمون عند سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا مما أعطاه الله عز وجل وجل من الملك، وهذا من الشيء الذي يمدح عليه الإنسان، ويوصف بأنه كريم، إذ إن جفنته عظيمة وملآنة وضخمة جداً، وكان العرب فيهم ذلك، فلقد كان عبد الله بن جدعان له قدر عظيم يصعد إليه بسلم، وهذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يملؤها للحجيج، فيضع فيها لحماً كثيراً جداً، ومن أراد اللحم صعد على القدر بسلم لكي يأخذ منه.
إذاً الجفنة العظيمة دليل على كرم صاحبها، وكون سليمان عليه الصلاة والسلام يصنع هذه الجفان العظيمة أو يأمر بصنعها لإطعام الخلق من محتاجين وضيوف وغيرهم دليل على الكرم العظيم الذي كان عليه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(293/5)
معنى قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكراً)
قال الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] أمرهم الله تعالى بالعمل وهو الشكر، وأهل الإعراب يقولون: هو مفعول به، والتقدير: اعملوا العمل الذي هو شكر.
إذاً الشكر يكون عملاً وليس بالقول فقط، وكذا كل مؤمن مأمور بأن يشكر الله سبحانه وتعالى بلسانه وقلبه وعمله.
وشكراً في قوله تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) يحتمل أن تكون تمييزاً لهذا العمل، ويحتمل أن تكون مفعولاً لهذا الفعل، فكأن العمل الذي تعملونه هو الشكر لله سبحانه أو يكون شكراً لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يعمل لله عز وجل شاكراً نعم الله عز وجل عليه، فيعمل ويجتهد ويصلي ويصوم ويقوم لله سبحانه وتعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم قياماً طويلاً، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: حتى ترم قدماه صلوات الله وسلامه عليه، أي: تتورم قدماه، فتقول: (يا رسول الله! ألم يغفر الله عز وجل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام.
فالعبد الشكور هو الذي يعرف نعمة الله فيشكر بلسانه وبقلبه وبعمله.
قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] فكان داود يعمل العمل العظيم من التسبيح الذي كان تتجاوب معه الجبال والطير، ويقوم في ثلث الليل مصلياً لله سبحانه وتعالى، ويحكم بين الناس بالحق، ويطيع الله سبحانه في أمره وحكمه بين الناس، وكان ذا استغفار وتسبيح كثير، كذلك سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما قال الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] قاموا بذلك ونفذوه، وهذا كله تهيئة وتوطئة ليبين لنا بعد ذلك أن الذين شكروا الله عز وجل على نعمه أعطاهم الفضل العظيم، وأن من لم يشكر الله سبحانه يستحق نقمة الله عليه جزاء وفاقاً.
قال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: أن قليلاً من عباد الله عز وجل من يشكر، فيمكن لكل إنسان أن يقول: الحمد لله، ولكن هل هذه الكلمة تخرج من قلب هذا الإنسان وهو يقول: الحمد لله أم هو يستقل نعمة الله عز وجل عليه، ويستكثر نعمة الله على غيره، فيحسد الغير ويحقد عليه؟! العبد الذي يشكر لله سبحانه يعرف أن مبدأ النعم منه سبحانه، وأنه يعطي ما يشاء لمن يشاء سبحانه، يعطي ليس لاستحقاق العبد ولكن فضلاً منه سبحانه، فيعطي بفضله من يشاء، فإذا أعطاك الله عز وجل شيئاً فاحمد ربك على ما أعطاك، واعلم أنك مهما بالغت من شكر فإن النفع لنفسك، كما قال ربنا: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، فشكرك يرجع إليك بنعم من الله، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فإذا شكر العبد ربه سبحانه زاده الله من الخير، وزاده من النعم كما فعل بداود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فذكر أنه أنعم عليهما وأنه أمر آل داود -وهم: داود وأبناؤه وذريته- أن يعملوا لله عز وجل شاكرين له سبحانه.(293/6)
تفسير قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت)
قال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] المنسأة: هي العصا التي يتوكأ عليها ويقف عليها كالعكاز التي في يده، ودابة الأرض هي الأرضة التي تأكل الخشب، فهذه أكلت الخشب الذي في المنسأة إلى أن سقط سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقوله: (مِنسَأَتَهُ) فيها قراءات: قراءة الجمهور: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] وقراءة هشام بخلفه، وقراءة ابن ذكون: (تأكل منسأْته) بتسكين الهمزة، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: (تأكل منساته).
قوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ} [سبأ:14] أي: وقع سليمان، وكأنه ما بين أن بدأت الأرضة في أكل العصا إلى أن أكلت جزءاً من العصا فتحرك وسقط سليمان أخذت وقتاً طويلاً، قالوا: عاماً كاملاً وهو على هذا الحال واقف يصلي، وكان قد سأل ربه سبحانه أن يعمي عليهم موته، لحكمة منه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقيل: إن الحكمة هي أن الجن كانوا يزعمون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون للإنس ذلك، فأراد سليمان أن يظهر للإنس أن الجن لا تعلم شيئاً من الغيب، وقيل: إنه سخر الجن في إكمال ما بدأه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من بناء بيت المقدس، وكان قد أوصى سليمان بأن يكمله، فسخر سليمان الجن لذلك، فكانوا يحملون الحجارة ويقومون بالبنيان، وخشي أن تعلم الجن بموته فلا تكمل ذلك.
والغرض أن سليمان عليه الصلاة والسلام مر عليه وقت طويل، وذكروا أنه سنة وهو على هذا الحال، فأجساد الأموات تبلى، ولكن أجساد الأنبياء لا يأكلها شيء، ولا تبلى، والله عز وجل يحفظها بحفظه سبحانه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يصلي علي إلا وبلغني الملك فرددت عليه السلام -أو ما من أحد سلم علي إلا بلغني الملك فرددت عليه- فقالوا: يا رسول الله! كيف ترد عليه وقد أرمت؟) (أرم) يعني أكلتك الأرض ولم يبق منك شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) إذاً ليس النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كل الأنبياء حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل شيئاً منهم، فلا يتغيرون بموتهم عليهم الصلاة والسلام.
فالغرض أن نبي الله سليمان ظل قائماً في مصلاه يصلي وفي يده منسأته، ومات وهو على هذا الحال، وقدرة الله سبحانه وتعالى حفظته فلم يسقط، والجن تعمل فيما أمر به سليمان، ويتعبون ويذهبون ينظرون إليه وهو في مصلاه قائم يصلي، فيرجعون مسخرين في العمل ذاهبين راجعين وسليمان على حاله إلى أن شاء الله عز وجل أن تأكل الأرضة هذه العصا فيسقط سليمان عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} [سبأ:14] أي: ظهر كذبهم فيما يدعونه من معرفة الغيب.
{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فلقد كانوا مسخرين عاماً كاملاً يعملون وهم يخافون من سليمان أن يعاقبهم ويعذبهم فيعملون بأمره وهو ميت عليه الصلاة والسلام، فتبينت الجن أي ظهر لهم أنهم كذبوا وأنهم لا يعرفون شيئاً من أمر الغيب.
وقوله: (تَبَيَّنَتِ) هي قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب (تبينت) على البناء للمفعول، بمعنى: ظهر أمر الجن للناس، فكأنه تبين للناس أن الجن لا يعرفون شيئاً من الغيب، فهذا راجع إلى الناس.
فهذه هي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(293/7)
بناء بيت المقدس وإتمامه
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بنا سليمان بيت المقدس سأل ربه سبحانه وتعالى أنه لا يأتيه أحد إلا ويغفر الله عز وجل له، نسأل الله عز وجل أن يحرره وأن يمكن المسلمين من الذهاب إليه، وأن يغفر لنا وللمسلمين، فهذا كان من دعائه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل على سليمان أنه أتم بناء بيت المقدس، وأن سخر له ما ذكر من أشياء في هذه الآية وفي غيرها من القرآن.
لما أعطى الله عز وجل لداود وسليمان الحكم والملك أمر الله عز وجل بالحكم بالعدل فقال لداود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] وهذه مقولة قالها الله لنبي من أنبيائه عليه الصلاة والسلام، فغيره من باب أولى، إذ على من تولى أمر الناس ألا يتبع الهوى حتى لا يضل، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تولى أمر الناس ورفق بهم ويدعو على من تولى أمر الناس فشق عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليهم، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به).
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يتولى أمور الناس فيعنفهم ويشق عليهم ويقسو عليهم بأن يعامله الله بمعاملته، ومن تولى أمر الناس فرفق بهم أن يرفق الله عز وجل به.(293/8)
نماذج من براعة نبي الله سليمان وفطنته في القضاء
قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79] من منن الله عز وجل وفضله العظيم أن آتى داود حكماً وعلماً وآتى سليمان حكماً وعلماً، ولكن الله عز وجل يقضي بما يشاء فعلم سليمان أشياء لم يعلمها داود مع صغر سليمان في السن وكبر داود في السن عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وهذه قصة ذكرها ربنا عز وجل في كتابه، فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] وذكر أنه ذهب اثنان يختصمان إلى داود النبي، وكان أحد الاثنين صاحب حرث ومزرعة، والآخر عنده غنم، فخرجت غنمه على مزرعة هذا الآخر فأكلت ما فيه من حرث، فقضى داود بقضاء، وسليمان قضى بقضاء آخر، فكان القضاء من داود أن المزرعة تساوي مبلغ كذا، والغنم تساوي كذا، بنفس قيمة الزرع، فحكم بأن صاحب المزرعة يأخذ الغنم، وهذا قضاء صحيح له وجهة من النظر، حيث غرمه قيمة ما أفسده.
أما سليمان فحكم بشيء آخر حيث قال: هلا غير ذلك؟! أي: شيء آخر غير ذلك، قال: وما ذاك؟ قال: تعطي الغنم لصاحب الحرث فينتفع بها حتى يزرع له الآخر أرضه حتى تعود كما كانت ثم يرجع الغنم لصاحبها، فرفق بالاثنين، فهذا صاحب الحرث ليس عنده ما يأكله ولا يشربه، فحكم له أن يأخذ الغنم فينتفع بها إلى أن يصلح هذا الآخر له أرضه، فيزرعها مرة أخرى إلى أن ينمو الزرع فيأخذ هذا غنمه وهذا يأخذ زرعه، فيكون هذا فيه رحمة بالاثنين، فلا هذا فقد الغنم بالكل، ولا هذا فقد زرعه ولم يأخذ بدله شيئاً، فكان حكم سليمان أقرب إلى الحكم الذي هو أرفق بالناس من حكم داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال الله عز وجل: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم آخر أيضاً عن سليمان مما فهمه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كانت امرأتان معهما ابناهما، وجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت إحداهما لصاحبتها: ذهب بابنك).
أي: أن امرأتين كان مع كل منهما طفل رضيع، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين فقتله، فإذا بالمرأة تقول للأخرى: أخذ ولدك أنت، وهذه تقول: أخذ ولدك.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاحتكما إلى داود النبي عليه الصلاة والسلام، فكأنه رأى أمارة من الأمارات تدل على أن هذه الكبيرة هي الصادقة فحكم بالصبي للكبرى، فلما خرجتا وجدتا سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقضى بينهما بحكم آخر، قال: هاتوا الصبي، وقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما؛ لكي نعدل بين الاثنتين، فبداهة أم الصبي تخاف على ابنها، والأخرى لا يهمها ذلك، فقالت أم الصبي: دعوه لها هو ابنها، فعرف أنها أمه فأعطى الصبي لأمه).
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: فقال سليمان: (ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله! هو ابنها، فقضى به للصغرى) فذكر الله عز وجل أنه فهم سليمان حكماً فقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(293/9)
تفسير سورة سبأ [15 - 19]
قصة سبأ فيها عبرة وعظة لكل من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، فبعد العز الرفيع، والراحة العظيمة، والنعم الجليلة صاروا إلى ما صاروا إليه من تفرق وتشتت، حتى ضربت بهم الأمثال، وسارت بحديثهم الركبان، وما حصل لهم ما حصل إلا بسبب كفرهم وإعراضهم عن الله، فعلى المسلم أن يشكر نعم الله عز وجل ليحافظ عليها من أن تسلب منه فالشكر قيد النعم.(294/1)
نعم الله عز وجل على عبديه داود وسليمان عليهما السلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15 - 19].
يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات قصة سبأ وما صنع الله عز وجل بهم، فقد كان في قصتهم عبرة عظيمة وآية كبيرة لمن يعتبر.
وقد ساق الله عز وجل لنا قبل ذلك إشارات إلى ملك سليمان وإلى ملك داود عليهما السلام، وكيف أنه أنعم عليهما فعبداه سبحانه تبارك وتعالى حق العبادة، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام نبياً وملكاً، وقد آتاه الله من الملك أشياء عظيمة من فضله سبحانه تبارك وتعالى، فقد سخر له الجبال يسبحن، والطير يجتمعن حوله وفوقه إذا قرأ الزبور، وسهل له الزبور فكان يقرؤه في فترة وجيزة جداً، حتى إنهم ليسرجون له فرسه فيقرأ الزبور كله خلال هذا الوقت، وهذا من نعم الله عز وجل عليه، وسخر له الحديد، كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:10 - 11].
وقد أمر الله آل داود أن يعملوا لله شكراً، فقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
ومن آل داود عليه الصلاة والسلام سليمان عليه الصلاة والسلام الذي دعا ربه أن يؤتيه ملكاً لا يكون لأحد من بعده، فقال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فأعطاه الله عز وجل سؤاله، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:36 - 39].
أي: هذا عطاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، يرينا بذلك كيف يعطي العبد في الدنيا ليتخيل ما الذي يفعله في الآخرة سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا كان هذا الملك كله جعله لعبد من عباده في الدنيا التي لا تساوي شيئاً، فكيف يعطي في الآخرة سبحانه تبارك وتعالى؟! فقد سخر له في الدنيا من الجن من يغوصون له، ويعملون عملاً دون ذلك.
فكانت الجن تعمل له في البر وفي البحر، كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37] أي: منهم من يبني له البيوت العالية والقصور والمحاريب، ومنهم من يغوص في البحر ليأتيه بما في البحر من درر، ومن أشياء جعلها الله عز وجل فيها، كالطعام البحري.
وهم يفعلون بأمره ما يشاء.
قال تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12].
وقال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:38] أي: منهم من قرنهم الله عز وجل في الأصفاد؛ تخويفاً لغيرهم، وجعل لسليمان أن يعذب من يشاء منهم.
قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] أي: لن نحاسبك على ذلك، ولا شيء عليك لأنك تعمل بأمرنا في ذلك.
فشكر ربه سبحانه، وعمل له سبحانه، وصلى وصام له سبحانه، فكان من أحسن الناس عبادة، وضربت بعبادة داود وببكائه وبأوبته إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى الأمثال.
وقد ذكر لنا ذلك سبحانه لنتعظ ونعتبر بأن الإنسان مهما أوتي ملكاً في الدنيا فإن الملك الحقيقي لله.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1].(294/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية)
ثم ساق الله لنا بعد ذلك قصة أخرى لنرى ما في آيات الله من عجائب، وما في تدبير كونه من ابتلاء لخلقه وفتن.
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
فيبتلي الله سبحانه تبارك وتعالى عباده بالخير، فينعم عليهم نعماً عظيمة طائلة، فيعطيهم البساتين والجنات والعيون والأنهار والأبناء والعبيد والأموال، ابتلاءً منه سبحانه، كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: من يشكر نعمة الله سبحانه ويعرفها فيؤتيها حقها، ومن يكفر بنعم الله سبحانه فيكذب ويظن أن الله ما أعطاه إلا لفضله، كما يقول البعض من هؤلاء، وقد أرانا الله عز وجل آية من الآيات، فقد أعطى هذه النعم لقوم فلما لم يشكروها استجلبوا على أنفسهم النقم، فجعلهم آية، وفرقهم بعد اجتماعهم وصاروا مثلاً وعبرة للناس، يضرب بهم الأمثال، فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ.
أي: كما تفرق أهل سبأ يميناً وشمالاً، ويقولون: فلان تفرق شذر مذر كأيدي سبأ.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
فقوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ:15] هذه قراءة الجمهور على أنها: مصروفة مجرورة.
وقرأ قنبل عن ابن كثير: (لقد كان لسبأْ في مسكنهم آية) بالتسكين فيها.
وقرأ البزي عن ابن كثير وهي قراءة أبي عمرو: (لقد كان لسبأَ في مسكنهم آية) على أنها: ممنوعة من الصرف، وكأنها اسم للقبلية.
وسبأ أبوهم وسميت القبيلة بعده باسمه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عندما سأله رجل: (يا رسول الله! ما سبأ؟ أرض أم امرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا هي أرض ولا هي امرأة، ولكنه رجل ولد له من الولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير، وأما الشامية فلخم وجذام وغسان وعاملة).
فـ سبأ هو أبوهم، وكأن سبأ لقب له، قالوا واسمه: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فهو قحطاني من أبناء يعرب بن قحطان.
وكان أول من سبى من العرب، أي: أول من أسر وأخذ السبي، فلقب سبأ للأسر الذي كان يصنعه، وقيل: إن الرجل كان مؤمناً، فالله أعلم بأمره.
لكن الغرض أن هذا كان قبل الإسلام بفترة طويلة.
قال الله سبحانه: (فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) فيها ثلاث قراءات: الأولى: (فِي مَسْكَنِهِمْ)، وهي قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة.
والثانية: (في مسكِنهم)، وهي قراءة الكسائي بكسر الكاف فيها.
والثالثة: (في مساكنهم)، وهي قراءة باقي القراء، على تعدد المساكن والبيوت التي كانوا فيها.
قال تعالى: (آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) أي: كان لهم في مساكنهم آية عظيمة.
وكان لهم جنتان، فإذا نظر الناظر عن يمينه وجد الجنات -والجنة: البستان العظيم- وإذا نظر عن شماله وجد الجنات.
أي: بساتين عن اليمين وبساتين عن الشمال.
وكلما مر الإنسان من هناك رأى عن اليمين وعن الشمال هذه البساتين.(294/3)
نبذة وجيزة عن دولة سبأ
كانت سبأ دولة من الدول قبل الإسلام بأكثر من ألف عام، واستمر الملك للتبابعة فيهم بعد ذلك إلى قبل الإسلام بفترة وجيزة تصل إلى مائة وخمسة عشر عاماً، ثم حدثت أشياء ذكرها أهل التواريخ، والله أعلم بما كان فيها.
فالغرض أن ملك التبابعة كان موجوداً هناك إلى قبل الإسلام.
والتبابعة من أحفاد سبأ أيضاً.
ويطلق لقب (تبع) على كل من ملك اليمن وحضرموت يقول الحافظ ابن كثير: كانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت (تبعاً)، كما يسمون ملك الشام مع الجزيرة (قيصراً)، ومن ملك الفرس يسمونه بـ (كسرى)، ومن ملك مصر يسمونه (فرعون)، ومن ملك السودان والحبشة يسمونه (النجاشي)، ومن ملك الهند يطلقون عليه (بطليموس)، فهذه ألقاب يطلقونها على الملوك التي كانت تملك هذه الأماكن، ولهم أسماء غيرها.
ومن جملة الملوك الذين ملكوا أرض سبأ في يوم من الأيام الملكة بلقيس، فقد ملكتها في عهد سليمان النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقد رجع الهدهد بعدما تأخر عن سليمان وأخبره أنه وجد هؤلاء القوم يسجدون للشمس من دون الله، وأنه وجدهم تملكهم امرأة ولها عرش عظيم.
قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24].
ثم أسلمت بلقيس مع سليمان لله رب العالمين.
وأما هؤلاء القوم فقد كانوا قبل ذلك.
وقد ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في أمرهم أنه قال لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] أي: هذا رزق عظيم دار عليهم، فكلوا من هذا الرزق الذي أعطاكم الله، واشكروا له سبحانه تبارك وتعالى.
فالرزق من الله ليس منكم أنتم، فاشكروا له، فهو الرزاق سبحانه، فقد أعطاكم هذه البلدة الطيبة، وهو الرب العظيم الغفور.
فقد كانت بلدتهم بلدة طيبة، ليست أرضاً طينية ولا أرضاً رملية، وفيها ما شاء الله عز وجل من الثمار والنبات، وقد أعطاهم الله فيها خيراً عظيماً وفيراً، فكانوا يأكلون ويشربون ويتنعمون، وقد كان هواؤها هواء طيباً، حتى إنهم ليقولون: إن الهوام كانت لا تعيش في هذه الأماكن من طيب هوائها، ومن طيب منبتها، فكانت من طيب هوائها لا توجد فيها العقارب والأشياء الخبيثة التي تؤذي.
قال الله عز وجل: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15]، وهذه نعمة عظيمة جداً من الله سبحانه، فكان المفترض في هؤلاء أن يشكروا نعم الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يعبدوه حق العبادة.(294/4)
تفسير قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم)
قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16].
فقوله: {فَأَعْرَضُوا}، أي: أعرضوا عن هذه النعمة التي أعطاهم الله سبحانه، وأعرضوا عن عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16].
فلما كفروا النعمة عجل الله عز وجل بذكر العذاب قبل أن يذكر السبب، وذلك أنهم لما كفروا بنعمة الله استحقوا العذاب.
فقد أعرضوا عن شكر الله سبحانه، وجحدوا نعمته سبحانه.
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] أي: السد العالي الذي وراءه الماء العظيم، فهذا السد هدمه الله سبحانه تبارك وتعالى لأسباب عجيبة جداً، فسال عليهم الماء كالجيش العرمرم الشديد الصعب، فأغرق كل شيء وأتلف كل ما أتى عليه، والمقصود بالعرم السد أو السيل، أي: السيل الصعب الذي لا يقدر أحد على منعه ولا على صده، وقد كانت المياه تسيل عندهم بين جبلين، ففكروا ببناء سد للاستفادة من هذه المياه، فبنوا سداً اسمه سد مأرب، ومأرب اسم القرية التي كانت هناك.
وكأن مأرب بمعنى: المياه، أي: سد المياه الذي تجمع المياه خلفه، فبنوا بين الجبلين الذي كان يسيل بينهما الماء سداً، حتى وصلوا بالسد إلى الأعلى قمم الجبال، وهذه من نعم الله عليهم، أن سخر لهم ما يبنون به هذا السد، فارتفع الماء خلف السد حتى بلغ الجبال، فزرعوا الجبال واستفادوا منها أعظم الاستفادة.
فاجتمع لهم الهواء الطيب والنبات العظيم والبساتين المثمرة، فلم يشكروا ربهم سبحانه تبارك وتعالى أن سخر لهم هذا الجبل، وهذا السد، وهذا الماء، فاستحقوا سلب هذه النعمة، فسلط الله عز وجل عليهم من يهدم عليهم هذا السد المرتفع.
فسخر شيئاً عجيباً جداً وهو الجرذ (الفأر)، سخره الله سبحانه تبارك وتعالى وسلطه على هذا السد، فأكل أسفله فانهار السد فإذا بالمياه تغرق كل شيء أمامها.
قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ:16] أي: جنتين أخريين بدل البستانين اللذين كانا فيهما من كل الثمرات، ومن كل نعم الله العظيمة.
قال تعالى: {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] والأكل والأكُل يعني: الجنا.
قرأها نافع وابن كثير: (أُكْل)، بتسكين الكاف.
وقرأها الجمهور: (أكُلٍ).
وقرأها أبو عمرو ويعقوب: (ذواتي أُكُلِ خمطٍ)، بالإضافة إليها.
و (الخمط) كأنه الحامض، يقال: لبن خامط أي: ابتدأ يتغير ولم يصل إلى درجة الحموضة التي لا يقبل معها.
وكذلك الثمار بعدما كانت ثماراً يانعة عظيمة جميلة في طعمها تحولت إلى هذا الشيء العجيب، وأصبح الثمر ثمراً خامطاً أي: فيه طعم الحموضة، فلا يصلح للأكل إلا بمرارته وحموضته وملوحته.
وقوله تعالى: {وَأَثْلٍ} هي: شجر الطرفاء، وهو شجر فيه الشوك.
فبعد الجنات العظيمة أصبحت الأشجار تنبت لهم الشوك، وأصبح طعم النبات والثمار مالحاً وحامضاً بكفرهم وببغيهم.
قال تعالى: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] والسدر: النبق.
أي: شجر النبق، فحتى يحصلوا على هذا النبق كانوا يصعدون شجرته العالية حتى يحصلوا على قليل منه، ولا ينفعهم شيئاً.
كما يقال: هذا لحم جملٍ غث على رأس جبل وعر، لا سمين فينتقى ولا سهل فيرتقى.
أي: لا اللحم سمين حتى نذهب إليه، ولا الجبل سهل فنرتقي عليه.
وكذلك هؤلاء أبدلهم الله عز وجل بهذا بعد الثمار الطيبة التي كانوا فيها قبل ذلك.
فضاع كل ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه بكفرهم.(294/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا)
قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] أي: ذلك الجزاء العظيم الفضيع من الله سبحانه بكفرهم، فقد كفروا وعبدوا غير الله، وكفروا بنعم الله سبحانه فلم يشكروها.
قال تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة حمزة والكسائي وخلف ويعقوب.
وقرأها الباقون: (وهل يُجازى إلا الكفور)، وليس المقصود بأن الكفور فقط هو الذي يجازى، وإنما المقصود: إنما يجازى مثل هذا الجزاء الصعب الشديد من كفر بالله، وكفر بنعمه سبحانه، فاستحق أن يباد وأن تسلب منه النعم، وكذلك استحق نار جهنم يوم القيامة، ولا ينفعه شيء.
وفي الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من نوقش الحساب عذب)، وفي رواية: (من حوسب هلك، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: أليس الله يقول في المؤمن: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس ذاك، ولكنه العرض) أي: أن المؤمن يعرض الله عز وجل عليه كتابه، ويقول له: فعلت كذا يوم كذا، ثم يعفو عنه ويتجاوز سبحانه تبارك وتعالى.
وأما الإنسان الكافر فالله عز وجل يناقشه الحساب، وكل من نوقش الحساب عذب، سواء كان كافراً أو عاصياً صاحب كبائر أو فاسقاً أو فاجراً فمن نوقش الحساب أهلكه الله وعذبه يوم القيامة.
وهنا يذكر لنا ربنا سبحانه أنه لا يجازى الجزاء الذي لا ينفع معه شيء إلا الإنسان الكافر، حتى ولو كان له عمل صالح في الدنيا، ولكن كفره جعل عمله غير مقبول، فلا ينفعه عمله، قال الله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: أخذنا أعمالهم وبعثرناها فلا تنفع أصحابها يوم القيامة لكفرهم.
فهل يجازى إلا الكفور؟! أي: الجزاء الأوفى، والمعنى: أن الكافر يجازى أشنع الجزاء على كفره، ويوفيه الله عز وجل على كل شيء فعله، ولذلك حين يقال لأهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:42 - 47].
فجوزوا على كفرهم، وعلى بقية الأعمال التي لا تصل إلى هذه الدرجة، فيحاسبهم الله على كل شيء.
إذاً: فكأنه يقول في الآية: هل يجازى الجزاء الوافي على كل عمل يعمله إلا من كفر بالله فاستحق ذلك؟!(294/6)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)
ثم بعد أن ذكر سبحانه عذابهم وإبادتهم وإهلاك أرضهم ذكر سبحانه الأسباب التي عملها هؤلاء، وهي أنهم أعرضوا عن الله سبحانه، وكأن الله أرسل إليهم أنبياء يدعونهم فلم يؤمنوا بالله سبحانه ولم يذكروا ربهم بل كفروا ولم يشكروا، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18] هنا يذكر سبحانه باقي نعمه على هؤلاء، فقال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18]، والقرى المباركة هي قرى الشام.
فهم كانوا في اليمن، فإن سبأ ومأرب بجوار صنعاء.
فجعل الله عز وجل من صنعاء إلى الشام قرىً، كل قرية تتلو قرية، ووراء كل قرية قرية، حتى إن المسافر للتجارة من اليمن إلى الشام كان لا يحتاج إلى زاد ولا إلى ماء في الطريق.
ويجد الجنات والعيون من خروجه حتى يصل، ومن هناك حتى يرجع إلى أرضه! قال تعالى: {قُرًى ظَاهِرَةً}، أي: ليست باطنة ومختفية.
وأنت إذا سافرت في الطريق البري من الإسكندرية للعمرة أو للحج فإنك تمر على صحار شاسعة، ولا تجد قرية إلا بعد تعب ومشقة ولا تجدها على الطريق.
وتحتاج إلى من يدلك عليها.
وأما قوم سبأ فقد جعل الله عز وجل لهم القرى ظاهرة ليست مختفية، ولا يحتاجون إلى من يدلهم عليها، وجعل الله عز وجل لهم الأرض كلها بساتين وجنات وعيون في الطرق جميعها، فكانوا يصبحون في ذلك ويمسون فيه.
فإذا سافروا وانتقلوا من مكان إلى مكان، أو من قرية إلى قرية لا يحتاجون إلى حمل شيء من الأمتعة معهم في الطريق.
قال تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [سبأ:18] وأتى فيها بنون العظمة سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا قدر الله سبحانه فمن المستحيل أن يأتي الشيء على خلاف تقديره سبحانه.
فقدر سبحانه الوقت الذي يستغرقونه في المشي في القرى، حتى إذا أمسوا أمسوا في قرية، وإذا أصبحوا ومشوا قليلاً رأوا القرية الأخرى، ويبيتون في قرية أخرى، حتى لا يتعبون.(294/7)
نعمة الله بالأمن والأمان على قوم سبأ
قال تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18] أي: سيروا ما شئتم من الأيام والليالي في خلال هذه القرى آمنين.
والإنسان إذا سار من قرية إلى قرية أخرى بعيدة فإنه يسير خائفاً من اللصوص وقطاع الطريق، وأما إذا مشى في قرى متقاربة فلا يخرج من قرية حتى يدخل قرية أخرى، وكان الناس في كل طريقه فلا يخاف من قطاع الطرق.
فجعل الله عز وجل بلدة هؤلاء القوم بلدة طيبة، وهواءها نقياً، ولا توجد فيها الهوام، وفيها من الثمار والأشياء التي يحتاجونها الشيء الوفير والنعم الكثيرة، وفيها الأمن والأمان.
وقد جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
فإذا كان الإنسان في أمان وهو في بيته وعنده طعامه وشرابه ولا يوجد أحد يسأله أي دين فهو ملك في مكانه، فماذا يريد أكثر من هذا؟ فهؤلاء كانت عندهم الدنيا كلها وكفروا بالله عز وجل ولم يحمدوه ولم يشكروه.(294/8)
تفسير قوله تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا)
قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: هؤلاء كفروا بالله عز وجل وهم يعلمون أنه الرب.
والكافر يعرف أن الرب هو الذي يخلق ويرزق، ولكن لا يتوجه له بالعبادة بل يشرك به غيره سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19]، وهذه قراءة الجمهور.
وقرأها يعقوب: (فقالوا ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا)، على صيغة الإخبار، أي: أن ربنا قد باعد بين أسفارنا.
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو وهشام: (ربَّنا بعِّد بين أسفارنا).
وكل قراءة يقصد بها معنى.
ولكن مجمل الكلام ومضمونه أنهم ملوا من الراحة وتعبوا منها، وبطروا، فاستحقوا الشقاء، مثل بني إسرائيل عندما لم يعجبهم المن والسلوى ضرب الله عز وجل عليهم التيه، يتيهون في الأرض أربعين سنة، ولا يصلون إلى بيت المقدس.
فكانوا يقطعون الطريق في متاهة ولا يعرفون كيف يصلون إلى بيت المقدس، فلما جاعوا سألوا ربهم الطعام وهم في العقوبة، فأنزل الله عليهم الطعام المن والسلوى، وهما عسل من الشجر وطائر السمانى، يأكلون ما شاءوا ولا يدخرون شيئاً، ثم اشتاقوا إلى البقل، فقالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] أي: كل الوقت ونحن نأكل عسلاً ولحماً، فنريد أن نأكل ثوماً وبصلاً وجرجيراً وبقلاً من الأرض.
فتعنتوا ورفضوا هذه النعمة العظيمة وطلبوا هذه الأشياء.
فقال لهم: انزلوا أي قرية من القرى، {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] أي: اذهبوا وكلوا الثوم والفول والعدس، واتركوا هذه النعم العظيمة التي تأتيكم بغير تعب.
فالإنسان الذي يبطر من نعم الله سبحانه يستحق أن يحرم.
فهؤلاء قالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19].
وكأن قولهم هذا على وجه التهكم.
أي: أسفارنا قليلة جداً، فنريد سفراً طويلاً، وطلبوا ذلك من الله سبحانه تبارك وتعالى الذي لم يشكروه ولم يعبدوه سبحانه، بل وجهوا العبادة إلى غيره.
وعلى قراءة يعقوب: (ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا) أي: كأنهم قالوا مستهزئين: انظروا كيف أن ربنا باعد بين أسفارنا، فبين كل قرية وقرية قرية في الوسط.
يقولون ذلك على وجه التهكم.
وأما على قراءة: (ربَّنا بعِّد بين أسفارنا) أي: اجعل سفرنا بعيداً.
لماذا جعلته قريباً؟(294/9)
عقاب الله لأهل سبأ
فلما قالوا ذلك وظلموا أنفسهم بذلك قال الله سبحانه: {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:19] أي: جعلنا حديثهم على كل لسان.
وكل أحد يقول: هل رأيتم كيف فعل الله بأبناء سبأ؟ أرأيتم كيف فرقهم الله يميناً وشمالاً؟ أرأيتم ربنا كيف بددهم؟ فصار يضرب بهم الأمثال على خيبة الحال وعلى ما آل إليهم هذا المآل بكفرهم وببغيهم وبخروجهم عن طاعة ربهم سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19] أي: فرقناهم بعدما كانوا مجتمعين في بلدة واحدة، فتفرقوا في البلدان، فأصبح هؤلاء هنا وهؤلاء هنا، وذهبوا إلى كل مكان.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: لا يعتبر بذلك إلا من عرف نعم الله سبحانه، وصبر عن المعاصي، وتأسى بأفعال الصالحين، كنبينا صلى الله عليه وسلم وكداود وسليمان وغيرهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين يعتبرون بالآيات، وأما من ترك الاعتبار بالآيات فقد وقع فيما وقع فيه هؤلاء الناس الذين فرقهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: لم يخرج من اليمن جميع قبائل سبأ، فست قبائل بقوا في اليمن يأكلون من هذه الثمار الرديئة، وأربع قبائل خرجوا إلى الشام فتفرقوا هنالك.
والذين بقوا: الأزد ومذحج وكندة والأنمار والأشعريون وحمير.
وتفرق الآخرون فذهبوا إلى الشام، ومنهم من توجه إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من ذريتهم بعد ذلك الأوس والخزرج، ونزلت عليهم اليهود وحصلت محالفات بينهم، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأدخل الله عز وجل الإسلام المدينة وطيبها سبحانه تبارك وتعالى.
فالغرض: أن الله سبحانه جعل هؤلاء عبرة وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: كثير الصبر على قضاء الله وقدره.
{شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: يشكر نعم الله سبحانه، ويصبر عن المعاصي فلا يقع فيها، ويصبر لأمر الله، ويشكر الله سبحانه إذا أعطاه النعم.
فيمن الله عليه بالعلم والمعرفة ويمن عليه بالإيمان وبالصبر، فيصبره على قضائه وقدره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(294/10)
تفسير سورة سبأ [20 - 23]
ذكر الله سبحانه قصة قوم سبأ، وكيف أغدق عليهم نعمه العظيمة، فجحدوا نعم الله عليهم، وصدق عليهم إبليس ظنه فأغواهم كما أغوى غيرهم من الناس، إلا المؤمنين الذين اعتصموا بالله فإنه لم يقدر على إغوائهم، وقد جعل الله إبليس فتنة للناس ليعلم المؤمن الصادق من غيره.(295/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وهو العلي الكبير)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: يقول الله عز وجل في سورة سبأ عن قوم سبأ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:20 - 23].
لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ:15]، وذكرنا أنه أعطاهم جنتين من فضله سبحانه وتعالى عن يمين وشمال، وجعل لهم البساتين والأنهار والعيون، وجعل لهم من فضله سبحانه وتعالى بين كل قرية وقرية قرية أخرى، فلا يرحلون من قرية إلا وينزلون في قرية أخرى، فكان هذا فضلاً من الله سبحانه وتعالى عليهم.
وكان الواجب عليهم أن يشكروا نعمة الله سبحانه، وقد قال لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
أي: هواؤها طيب، وأرضها طيبة، وثمارها عظيمة طيبة، فلا هوام فيها مؤذية للناس، ولا شيء ينغص عليهم حياتهم، وإنما فيها أمان من الله سبحانه وتعالى لهم، قال سبحانه: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]، وهذه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وهي نعمة الأمن والأمان، فقد كانوا يسيرون مرتحلين من اليمن إلى بلاد الشام في أمن وأمان، يرحلون من قرية إلى قرية فلا يحتاجون إلى حمل زاد، بل ورد أن المرأة كانت تخرج إلى القرية تحمل مكتلها فوق رأسها وتسير تحت الأشجار والثمار فتتساقط الثمار في مكتلها من غزارتها فلا تخرج من البستان إلا وقد امتلئ مكتلها من غير أن تتعب نفسها في أخذ هذه الثمار! وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، فاشكروا نعمة الله سبحانه فالبلدة طيبة والرب رب غفور سبحانه وتعالى.
فلما رأوا هذه النعم العظيمة ازدادوا طغياناً، وأشراً، وبطراً، وقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] أي: نحن نريد أن نستمتع بأسفار بعيدة، فلا نريد أسفاراً قريبة، نريد مفاوز، ونريد صحاري، ونريد طرقاً بعيدة، وقال بعضهم: (ربُنا باعَدَ بين أسفارنا) أي: ربنا قد باعد بين أسفارنا على وجه السخرية والاستهزاء بذلك.
والنعمة إذا أتت للإنسان فلم يصنها استحق الحرمان، واستحق أن تضيع منه هذه النعمة، ومن فرط في النعمة، واستهزأ بها، وضيعها، وأتلفها، ضاعت منه النعمة ولم ترجع إليه مرة ثانية، فهؤلاء القوم كانوا أهل حضارة، فأهل التاريخ يقولون عن قوم سبأ: كانت لهم دولة عظيمة استمرت فترة طويلة جداً، وكانت دولة ذات حضارة عريقة، قامت في اليمن، قبل ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأكثر من ألف عام، وكانت دولة عظيمة قوية.
وهنا نقول: مدينة بمعنى بلد، ولكن حين يقولون: دولة، يعني لهم حضارة، وسمعة مشهورة بين الدول التي بجوارها، ويحتاجون إليها، فكانت مثل دولة الفرس، ودولة الروم، فلما طغوا وبطروا نعم الله سبحانه، دمرهم وأهلكهم سبحانه وتعالى بأشياء عجيبة جداً، لأنه هو الذي منحهم نعمة الماء، ونعمة الهواء، والجبال العالية التي كانوا فيها، يسيل الماء بينها، وهو الذي منحهم عقولاً تفكر كيف تستغل هذه المياه لزراعة هذه الجبال العالية، ومعلوم أن المزارع التي في مستوى عال عن الأرض هي من أخصب ما يكون، وأن هواءها أفضل الهواء، فالله عز وجل أعطاهم تفكيراً يفكرون به كيف يرفعون هذا الماء إلى هذا العلو، فبنوا سد مأرب بين جبلين عظيمين، وغرسوا فوق الجبال، وزرعوا، وأنبت الله عز وجل نباتاً حسناً عظيماً، لا يوجد في أي بلد مثله، وقد امتن الله عز وجل عليهم به، فكان الواجب عليهم أن يعرفوا نعمة الله عليهم فيعبدوه، ويشكروه سبحانه، ولكنهم أبوا إلا الكفر والتكذيب، وصدق عليهم إبليس ظنه.
وإبليس ظن في آدم أنه مخلوق ضعيف، فإن الله لما خلق آدم جعل إبليس يطوف به، فيجده مخلوقاً من طين، ويجده أجوفاً، وذلك قبل أن يخلق الله عز وجل فيه الروح، فعلم إبليس: أنه مخلوق ضعيف فقال: لئن سلطت عليه لأغوينه.
لقد ظن ظناً في نفسه وهو لا يعلم الغيب، وعلم الله عز وجل من إبليس أن هذا تفكيره، لذلك كان تدبير الله عز وجل في كونه أن يهبطه إلى الأرض، وأن يجعله عدواً لبني آدم، وأن ينزل آدم إلى الأرض بخطيئة وقع فيها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما هو معروف في كتاب الله سبحانه وتعالى.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] فقد قال لربه سبحانه: لئن سلطتني على هؤلاء، لأغوينهم، {وَلَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فإبليس لم يطلع على الغيب، وإنما قالها ظناً من عند نفسه، وقال لله عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] أي: أنا لن أترك هؤلاء، وهذا القول قاله بظنه، فلقد صدق إبليس على هؤلاء القوم وعلى غيرهم ظنه، وهذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، أما قراءة المدنيين والمكيين والبصريين والدمشقيين فيقرءونها: (ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ظنه) أي: أن ظن إبليس صدق على هؤلاء فيما ظنه أنه يغوي ذرية آدم، فسلط عليهم وأغواهم: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20]، فلما قال إبليس لربه: لأغوينهم أجمعين، قال الله عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، فعباد الله المؤمنون الصالحون المقربون، ليس لإبليس سلطان عليهم، بل يهديهم الله سبحانه وتعالى، ويدلهم على الخير، ويعينهم عليه، وينصرهم على عدوهم الشيطان، فيجتنبوا مكره وكيده، ويعتصموا بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم الذين ينجيهم الله سبحانه وتعالى.
فالبعض وهم القلة من المؤمنين الذين عبدوا الله سبحانه، ولم يتبعوا الشيطان، {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ:21] أي: إبليس حين أضل هؤلاء وأغواهم لم يكن يملك أن يحولهم من شيء إلى شيء، ولذلك حين يدخل إبليس النار مع عصاة بني آدم يختصمون ويستغيثون ويسألون من يخرجهم من النار، فيقول لهم إبليس: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22]، أي: لا أنا سأستجيب لصراخكم وأخرجكم، ولا أنتم ستستجيبون لصراخي وتخرجوني من النار، فكلنا فيها والعياذ بالله، ثم يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] أي: لم تكن لي عليكم حجة، فالحجة لله عز وجل، الذين نزل عليكم الكتاب، وأرسل إليكم الرسل، أما أنا فليس لي أي حجة عليكم، فلم أرسل إليكم أحداً وإنما وسوست لكم فصدقتموني، واتبعتموني، فيتبرأ إبليس منهم ويتبرءون منه، كما يقول الضعفاء للكبراء: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]، فيقول المتبعون الكبراء لهؤلاء الأتباع الأصغار: أنحن أضللناكم وأزغناكم عن هدى الله بعد إذ جاءكم؟ لا، بل أنتم كنتم مضلين: {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:32]، ثم إن المتبوعين يتبرءون من التابعين لهم، قال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [البقرة:166 - 167] أي يقول: التابعون الصغار يوم القيامة حين يرون أسيادهم تبرءوا منهم: لو أنا نعود إلى الدنيا مرة ثانية من أجل أن نتبرأ منهم كما تبرءوا منا! يقول الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، فالذي ضل في الدنيا قد عرف الحق، والله سبحانه وتعالى قد أعذر إلى خلقه، وأنذرهم وأنزل إليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وجعل الفطرة في قلوبهم، وجعل لهم عقولاً بحيث يعرفون بها الخطأ من الصواب، وهذه منه من الله الحكيم سبحانه.(295/2)
تفسير قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان)
إبليس لم يأتهم بأي حجة: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ:21]، لذلك يقول إبليس وهو في النار: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] أي: أنتم كنتم تعبدونني من دون الله، وأنا كفرت بعبادتكم: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
قال الله عز وجل في هذه الآية: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ:21].
إلا هنا للاستثناء ويسمونه: الاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن الشيطان فعل بهم ذلك، لنعلم علم شهادة، {مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ:21].
إذاً: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} معناها: ولكن لنعلم، وهل لم يكن يعلم قبل ذلك سبحانه وتعالى؟! حاشا له سبحانه، فالله يعلم كل شيء.
وعلم الله علمان: علم غيب: فقبل أن يوجد الخلق علم كل شيء سبحانه وتعالى، وعلم شهادة: وهو الذي يحاسب الله عز وجل العباد عليه، ومستحيل أن يختلف علم الشهادة عن علم الغيب، فعلم الغيب: هو قبل أن يوجد الإنسان، فلما أوجد الإنسان وفعل الأشياء رآها الله سبحانه، وسمعها وعلمها فسمي علم شهادة.
فالله عز وجل لا يحاسب الإنسان على علمه الغيبي به، بل يحاسبه على علم الشهادة، لتكون الحجة لله سبحانه.
وعلم الشهادة هو الذي يذكره الله عز وجل هنا، يقول: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [سبأ:21] أي علم شهادة: {مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ} [سبأ:21]، أي: من يؤمن فيعمل: {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ:21]، والذي يشك في الآخرة كافر بعذاب الله سبحانه وتعالى، وبحسابه، والذي يشكك لا يعمل، كالمنافقين الذين قالوا: آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، قال الله سبحانه، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ:21] أي: يحفظ عليك كل ما تفعله.
وذكرنا قبل ذلك أن الله سبحانه إذا ذكر اسمه العليم فإنه يدل على أنه قد علم بكل شيء ظاهراً وباطناً أولاً وآخراً، وأنه قد علم ما يجهر به الإنسان وما يسره ويخفيه سبحانه وتعالى، فإذا قيد بصفة من صفاته كصفة الخبير، فإن المقصود منها علم الشيء الخفي الذي لا يظهر.
فإذا ذكر أنه الشهيد سبحانه بمعنى العليم بالشيء المشاهد فإنه يدل على علم الله سبحانه بما هو مشاهد وما هو ظاهر.
فإذاً: للعلم الخفي الخبير، وللعلم الظاهر الشهيد، فإذا كان يعلم ويحصي عليك، فهو الحفيظ سبحانه وتعالى، فإنه يحفظك، ويحفظ ملائكته، ويحفظ جميع خلقه، كما أنه جعل للإنسان معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، فإذا نزل القضاء والقدر من السماء، أصاب ما أراده الله ولم ينفع صاحبه بشيء، فالله يحفظ خلقه سبحانه، ويحصي عليهم أعمالهم فهو الحفيظ وهو المحصي سبحانه وتعالى.(295/3)
تفسير قوله تعالى: (قيل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)
قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] أي: هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله وهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، والخطاب لجميع الكفار وخصوصاً كفار قريش الذين نزل القرآن وهم يسمعونه من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيه هذه القصة، قصة سبأ، وقصة سليمان، وقصة داود، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ليتعظوا ويتدبروا ويعتبروا بأمر هؤلاء فيكونوا مؤمنين، ولا يكونوا مع الكافرين، فلما أصروا على كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قال لهم الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] بكسر اللام وهي قراءة عاصم وقراءة حمزة وقراءة يعقوب: وباقي القراء يقرءونها: (قُلُ ادعوا) بالضم.
(لا يملكون مثقال ذرة) أي: هل يملكون مثقال ذرة أي: قدر نملة؟ وهنا يمكن للإنسان أن يدعي ويقول: أنا أملك مالاً، وأملك كذا، وعندي بيت، وعندي كذا، فنقول له: هل تستطيع أن تحتفظ بهذا الشيء إلى أن تموت ولا أحد يأخذه؟ وهل تستطيع أن تخلد نفسك؟ لا، إذاً: فليس ملكك ملكاً حقيقياً، وإنما هو استخلاف من الله عز وجل استخلفك عليه، وستزول ويبقى الشيء ثم ينتقل إلى غيرك بعد ذلك، فلا يزعم إنسان أنه يقدر أن يخلق نملة، فلن يستطيع مهما أوتي من علم، ومهما أوتي من قوة، فلن يقدر على ذلك.
فإذا تبجح إنسان وقال: أنا أستطيع أن أفعل، قلنا بقول الله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، فما قدروا ولا استطاعوا ولا يستطيعون أبداً على ذلك.
{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] أي: ليس لهذه الأصنام التي تعبد من دون الله سبحانه شرك يعني جزء، تقول: فلان شريكي في هذه الأرض، أي: أنت تملك جزءاً وهو يملك جزءاً آخر، فهم لا يدعون أنهم يملكون ذلك، وإن ادعوا ذلك علمنا بالضرورة كذبهم.
قال: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا} [سبأ:22] يعني: في السموات ولا في الأرض، يعني: ليس لهم نصيب في السموات ولا في الأرض، ولا يقدرون على تدبير أمر السموات ولا أمر الأرض، ولا يقدرون أن يأتوا بالشمس من المغرب بدلاً من أن يأتي بها الله عز وجل من المشرق، فهم لا يقدرون على شيء ولا يزعمون ذلك.
قال سبحانه: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] أي: ليس لهم مقاسمة مع الله، ولا شرك لهم مع الله سبحانه في ذلك، وليس لله عز وجل من خلقه ظهير، والظهير: هو المظاهر والمعين، فلا يحتاج ربك إلى أحد سبحانه وتعالى يتظاهر به، أي: يتقوى به حاشا له سبحانه وتعالى، فالكل يحتاج إلى الله، والله لا يحتاج إلى أحد من خلقه سبحانه، ما له منهم من ظهير.(295/4)
تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، ونفي الشفاعة، وكرر الله ذكره في كتابه: {منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} [البقرة:255]، {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87].
والشفاعة من الشفع، والشفع عكس الوتر، الوتر الفرد الواحد، والشفع فرد آخر يأتي بجواره، حتى ينتفع هذا بهذا، فإذاً: صار الفرد شفعاً لما انضم إليه آخر، والشفاعة فيها هذا المعنى، فالإنسان يأتي يوم القيامة وحده منفرداً إلى الله سبحانه وتعالى، ويهيئ الله من يشاء من خلقه أن يشفع لهذا الإنسان المؤمن، فيشفع رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وتشفع ملائكة الله، فيقفون بجوار هذا ويقولون لله: كان يفعل كذا وكذا، يا رب ارحمه، يا رب أخرجه من النار، وشفع الرسول للخلق، بمعنى: وقف بجوارهم، ودعا ربه سبحانه، أن ينجيهم مما هم فيه، فهذه هي الشفاعة يوم القيامة.
يقول الله عز وجل مؤكداً على المعنى الذي في هذه الآية، وأنه لا أحد يجرؤ على الشفاعة إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، لا ملك مقرب، ولا رسول مرسل، ولا أحد من خلق الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، أي: إلا أن يأذن الله، ولذلك الشفاعة العظمى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، -نسال الله عز وجل أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه الصلاة السلام-، هي أنه يأتي تحت عرش الرحمن سبحانه، ويخر لله ساجداً، ويفتح الله عز وجل عليه من المحامد يعلمها إياه في ذلك الموقف العظيم، ويتركه ما شاء سبحانه وتعالى، إثباتاً لربوبيته سبحانه، وإلهيته، وإثباتاً لعبودية كل خلقه، فهذا رسوله وخليله وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه، يظل ساجداً حتى يأذن الله له ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع.
فإذاً: لا تكون الشفاعة إلا بعد أن يأذن رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي وخلف: (إلا لمن أُذن له) فإذاً: هنا أَذن وأُذن، أذن الله سبحانه وتعالى بمعنى أعلم، وأُذن يعني جاء الإذن من عند الله سبحانه وتعلى للشافعين أن يشفعوا.
ويوم القيامة فيه شفاعات، وهذا من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فيشفع المؤمنون بعضهم في بعض، بإذن الله سبحانه، فيخرجون من شاء الله عز وجل من النار من عصاة الموحدين.(295/5)
معنى قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم)
يقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] أي: إذا تكلم الله سبحانه أخذت الخلق الهيبة من الله سبحانه وتعالى، حتى كأنهم يغشى عليهم أو يصعقون من الخوف من الله سبحانه وتعالى، فيفزع عن قلوبهم، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} [سبأ:23] للبناء للمجهول، وهذه قراءة الجمهور: وقراءة ابن عامر ويعقوب، (حتى إذا فَزَعَ) أي: أزال الفزع عن قلوبهم، و {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} [سبأ:23] أي: أزيل الفزع عن قلوبهم.
فهم فزعوا حين تكلم رب العزة سبحانه وخافوا منه وأخذتهم هيبته، ففزع عن قلوبهم، وكشف عنها الخوف، وأذن لهم أن يشفعوا فيمن أذن الله عز وجل له بالشفاعة، فيقول بعضهم لبعض: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] أي: فيقولون: {قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23]، أذن لنا سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].
وهل هذا يوم القيامة فقط فزع عن قلوبهم، أو في كل وقت؟ الظاهر من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا في كل وقت يحدث من ملائكة الله عز وجل الذين هم في السماء، وقد جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة وهو صحيح، قال: (إذا قضى الله في السماء أمراً).
أي: إذا أراد الله شيئاً نادى سبحانه وتعالى بذلك الشيء: فيفزع جميع من في السماء لما قضاه الله سبحانه، ويظنون أن الساعة قد قامت، ويخافون من عذاب الله سبحانه وتعالى، فيصعقون، فأول من يفيق جبريل فيأمره الله سبحانه وتعالى أن افعل كذا وكذا، فينزل جبريل على الملائكة، ويفزع عن قلوبهم، أي: يصرف الفزع عن قلوبهم، فيسألون جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول جبريل: قال الحق يعني: قضى ربنا بالحق، يقول أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله في السماء أمراً، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنها سلسلة على صفوان) أي: أنه من شدة فزع الملائكة من ربها سبحانه وتعالى، تضرب بأجنحتها، فيحدث صوت فضيع، مثل ضرب السلاسل على الحجر أو على الحديد.
وذكر في هذا الحديث أن الشياطين يكون بعضها فوق بعض، تسترق خبر السماء، فإذا وصل أمر الله إلى السماء الدنيا، يشاء الله عز وجل أن تسمع بعض الشياطين ما تقول الملائكة، فتخطف الخبر من السماء، ويرسل الله عليهم شهاباً يحرق من يشاء الله سبحانه، ويشاء الله أن يصل الخبر إلى الأرض، فتلقيه الشياطين إلى الكهنة من الإنس، فإذا بالكاهن يحدث ويقول: سيحدث في يوم كذا كذا بما أخبره به الشيطان، ويزيد الشيطان على ذلك مائة كذبة، فيخبر بها الكاهن أيضاً، فيجد الناس ما ذكره الكاهن من أنه سيحصل في اليوم الفلاني كذا، فيزعمون أن الكهنة يعلمون الغيب، وهذه من الفتن والابتلاءات التي يبتلي الله عز وجل بها عباده.
ثم يقولون: ألم يخبركم أنه سيحصل يوم كذا وكذا، وقد صدق فيه، فصدقوه، فيصدقون الكهان، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الكاهن لا يعلم شيئاً من الغيب، وأنه لا يجوز لأحد أن يصدق الكاهن قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد).
ولو أن كلام الكهنة كله كذب، ما احتاج الناس أن يقول لهم رسول الله: كلام الكهنة كذب، ولكن الله عز وجل يشاء أن يقولوا بالشيء من الصدق، ابتلاءً للعباد، هل سيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقول أم سيتبعون الكهنة ويصدقوهم فيما يقولون؟ فلابد من هذا الابتلاء للخلق، وهو لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى.
ولما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أمر جبريل أن يذهب وينظر، فنظر إلى الجنة فقال: والله لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ويخلق الله عز وجل النار ويقول: اذهب فانظر، فينظر جبريل إلى النار فيقول: والله لو سمعوا بها ما دخلها أحد.
ثم إن الله أحاط الجنة بالأشياء المكروهة التي يكرهها الإنسان، فهو يكره أن يجاهد في سبيل الله، ويكره أن يؤذى، ويكره أن يصبر على المخاطر التي حفت بها الجنة؛ لأن الأعمال التي تدخل الجنة هي الأعمال الشاقة الصعبة، ويأمر جبريل أن ينظر فيقول: والله أخشى أن لا يدخلها أحد! أي: لأنها حفت بما يكرهه الناس، ثم يقول لجبريل: اذهب وانظر إلى النار، وقد أحاطها بالشهوات، فيذهب وينظر، ويرجع إلى ربه ويقول: يا رب! أخشى أن يدخلوها كلهم.
إن دخول الجنة ليس بالأمر السهل، فمن أراد أن يدخل الجنة فعليه أن يؤمن ويصدق ويبتلى فيصبر، فيرى الشهوات أمامه، ويتركها خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ويرى أعمال الخير وهي شاقة صعبة عليه فيعملها، فيصوم في اليوم الحار، ويتذكر الجنة ونعيم الجنة، والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وحين تدنو الشمس من الرءوس، فهذه الشمس البعيدة عنا، التي تحرق الرءوس في الصيف، تدنو من رءوس الناس يوم القيامة، ويسيل العرق من الإنسان حتى يغطي من بعض الناس رءوسهم، لأنهم لم يبذلوه في الدنيا خوفاً من الله وطاعة لله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الموقف يظل الله عز وجل من شاء من خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، شاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد -إذا خرج منها حتى يرجع إليها-، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، وإمام عادل)، فالإنسان حين يتذكر ذلك، يهون عليه أن يصوم في يوم حار؛ لأنه سيلقى ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة، فيؤجره على ذلك، ويكون حقاً على الله أن يسقيه في يوم العطش الأكبر؛ لأنه أظمأ نفسه لله عز وجل في يوم حار، فالله سبحانه وتعالى يبتلي العبد بالأعمال الصالحة، فيجدها صعبة عليه، ولا يجد الذين يعينونه على الخير إلا قليلاً، والذين يمنعونه من الخير كثير، فهل تصبر على الخير وتعمله أم أنك تبتعد عنه وتتركه؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7].
والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا كيف تخاف الملائكة من أجل أن نتعظ، فالملائكة لم تعص الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يوم القيامة وأفاقت الملائكة قالوا لله عز وجل: ((سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك))، فكيف بنا نحن الذين نخطئ أحياناً ونصيب أحياناً، نحن الذين نعصي الله سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وأن يرحمنا، وأن يجعلنا من عباده المقربين.(295/6)
تفسير سورة سبأ [23 - 27]
لقد استخدم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أساليب عدة في دعوته، ومن هذه الأساليب: استثاره عقول المشركين واستنهاض أفكارهم؛ وذلك بسؤالهم أسئلة يقرون في إجابتها بألوهية الله تبارك وتعالى، وهذا الأسلوب ذكره الله في سورة سبأ، فينبغي للدعاة مراعاة هذا الأسلوب الحكيم في دعوتهم.(296/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:23 - 26].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ذلك، والله عز وجل ذكر في مواضع في كتابه أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
فالله سبحانه تبارك وتعالى لا يأذن لأحد أن يشفع إلا إذا أراد الله في وقت بعينه سبحانه تبارك وتعالى؛ ولذلك ذكر في حديث الشفاعة: (أن النبي صلوات الله وسلامه عليه يخر تحت العرش ساجداً فيدعو لله عز وجل ويثني عليه ثم يأذن له بعد ذلك سبحانه تبارك وتعالى بالشفاعة العظمى).
قال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] أي: إلا لمن أُذن له أن يشفع فيه.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23] فالخبر ينزل من السماء فتأتي به الملائكة يحملون خبر الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، وينزل به جبريل ومن يسمع من الله سبحانه والله سبحانه تبارك وتعالى، ويبعث إلى من يشاء من خلقه بأمره سبحانه، فإذا بأمر الله ينزل، والملائكة تسمع أمر الله وتخر لله سبحانه تبارك وتعالى من هيبته ومن خشيته ويصعقون إذا سمعوا نداء الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فزعين يظنون أن القيامة على وشك أن تقوم، فإذا به يفزع عن قلوبهم أي: يذهب الفزع عن القلوب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] أي: أزال الفزع عن قلوبهم سبحانه، وقالت الملائكة تسأل جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق، أي: قضى بالحق سبحانه تبارك وتعالى، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، العلي الكبير المتعال سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي وعلوه علو ذات وعلو شأن وعلو في مقداره، وعلوه فوق سماواته على عرشه استوى كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وكما قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، وكما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي لطمها سيدها وأراد أن يعتقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم ليتبين له إيمانها، فقال لها: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله)، قال: (أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعتقها فإنها مؤمنة).
ولو أخطأت في قولها وإشارة يدها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقرها على خطأ، فالقرآن والسنة يدلان على أن الله سبحانه فوق السماوات مستو على عرشه بائن من خلقه سبحانه تبارك وتعالى.
وكذلك في رفع الأيدي إلى السماء أثناء الدعاء دليل على علو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه أحاديث كثيرة أنه رفع يديه إلى السماء ودعا ربه صلوات الله وسلامه عليه، فالغرض أن الله هو العلي، فهو علي بذاته سبحانه فوق سماواته، وعلي بقهره فوق خلقه، قهر جميع خلقه سبحانه فلا أحد يعترض على الله سبحانه على أمره الكوني القدري، أما إذا جاء قضاؤه وقدره فلا يقدرون أن يفروا من قضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي الغالب سبحانه، غلبهم بقضائه وقدره، وغلبهم بحكمه وحكمته سبحانه تبارك وتعالى، وهو العلي في شأنه، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
وهو الكبير، أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أرانا في خلقه الأشياء الكبيرة فأرانا الجبال وقال لنا سبحانه تبارك وتعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33].
أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأشياء؟ فالإنسان ينظر إلى الأرض من حوله، وإلى السماوات ولكنها لا تساوي شيئاً مقارنة بهذا الكون الكبير، والله سبحانه فوق ذلك، فهو العلي الكبير سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا عرف الإنسان أن هذا الكون كبير فإن الذي خلقه سبحانه تبارك وتعالى أكبر منه وأكبر من كل شيء، فهو العلي سبحانه وتعالى أن يدرك، فهو أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.(296/2)
تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض)
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى مؤنباً المشركين: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض ِوَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] أي: من الذي يرزقكم؟ هل يرزقكم أحد إلا الله؟! فالله عز وجل يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، ويقول سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] سبحانه تبارك وتعالى.
فالله هو الخلاق العظيم، وقد أقر المشركين بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم فيستجيرون ويستغيثون به سبحانه أن يعطيهم، وانظر إلى فرعون كيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى أرسل إليه موسى يدعوه إلى الله سبحانه فأبى وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
فكان جزاؤه ما قال الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فذهبوا إلى موسى يهرعون إليه يقولون: يا موسى! {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49] أي: ادع لنا ربك مثلما أتى لنا هذا البلاء يكشف عنا هذا البلاء.
فعلموا أن الله سبحانه هو الذي يحكم ولا معقب لحكمه، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، قال هذا فرعون وقومه لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد أرسل الله عليهم الطوفان لما وجدوا الماء يغرق كل شيء فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك ونحن سنؤمن معك.
فانتهى الطوفان بدعاء موسى وبدأت الأرض تزرع فرجعوا إلى كفرهم ولم يصدقوا فيما وعدوا موسى وكفروا به، فأرسل عليهم الجراد فأكلت زروعهم جميعها، فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك حتى يكشف عنا ما نحن فيه، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134].
فذهب عنهم الجراد بدعاء موسى فزرعوا وجمعوا حصادهم وجعلوه في خزائنهم ثم لم يؤمنوا بموسى فأرسل الله عليهم أنواعاً مختلفة من العذاب ولكنهم لم يؤمنوا بما يدعو إليه موسى.
فحل العذاب على فرعون فأغرقه سبحانه تبارك وتعالى بذنبه وظلمه وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
فالله سبحانه يقول لهؤلاء الكفار: من يرزقكم؟ فإذا بهم يقولون: الله، فهم لا يقدرون أن ينكروا ذلك وقد أراهم الله عز وجل آية من الآيات فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، وكان هذا لما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أشد الأذى، فإذا به يستغيث بربه، وإذا بالله عز وجل يمنع عنهم المطر، وإذا بهم لا يجدون نباتاً ولا طعاماً ولا ماءً يشربونه إلا الشيء القليل، فإذا بهم يجأرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكلوا الجلود وأكلوا الميتة، ثم ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم.
فعرفوا أن الله هو الذي يرزق سبحانه، فذكر هؤلاء الذين ينكرون ألوهية الله سبحانه تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الذي يستحق العبادة، والذين يقولون بالشرك كاذبين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، قل لهؤلاء: من يرزقكم من السماوات والأرض؟
و
الجواب
هو الله سبحانه الذي يرزق في السماوات والأرض، وينزل الرزق بقضائه وقدره من السماء فيرسل السحاب وينزل المطر وينزل ما يشاء من رحمته من السماء، وينبت لهم من الأرض ما يشاء سبحانه من بساتين وجنات ويخرج لهم الحبوب والثمار.
قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ} [سبأ:24] إن لم يجيبوا وإذا تعنتوا فقل لهم: إن الله هو الذي يفعل ذلك.
فالرب الصانع هو الذي يفعل ذلك سبحانه، وهم لم ينكروا ذلك، ولكن أنكروا أن يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] ولكن الله قال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [سبأ:24] فإذا قالوا: الله هو الذي يرزقنا، فأليس الإله الذي يرزق هو وحده الذي يستحق العبادة؟! وهل أصنامكم هذه ترزقكم أو تعطيكم؟! وكانوا مستيقنين أن أصنامهم لا تعطيهم شيئاً ولا تدفع عنهم ولا عن أنفسها شيئاً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولكنهم كانوا مصرين على طغيانهم.
سورة سبأ مكية كما ذكرنا قبل ذلك، وتخاطب عقول المشركين وتدعوهم بلطف وبرحمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيخاطب عقولهم وكأنه يقول لهم: فكروا من الذي يرزقكم؟ فإذا كان الله هو الذي يرزقكم ألا تعبدونه وحده سبحانه تبارك وتعالى؟! وهلا عبدتموه وتركتم ما تشركون من دونه سبحانه تبارك وتعالى؟! فأجاب عنهم وقال: {قُلِ اللَّهُ} [سبأ:24].
ثم خاطبهم وقال لهم هذه المقالة اللطيفة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، وفي هذا تلطف في المخاطبة وفي الدعوة إلى الله سبحانه، أي: أحدنا على هدى وأحدنا على ضلال، ويقيناً نحن على هدى وأنتم على ضلال، ولكن لم يقل لهم ذلك على وجه التنزل في المناظرة مع الخصم.
والإنسان إذا ناظر خصمه وأراد أن يكسبه يقول له: هب أن كلامك كان صواباً، أليس يكون كذا وكذا، وهو يعلم أن كلامه خطأ مائة في المائة.
فيقول سبحانه أمراً نبيه أن يقول لهؤلاء: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، على هدى إن عرفنا من الذي خلق السماوات والأرض فعرفنا حقه وقدرنا قدره فعبدناه سبحانه، أو في ضلال مبين إن عرفنا أنه الخالق الرزاق الكريم سبحانه فعبدنا غيره سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا كان الإنسان لا يقبل من عبده أن يذهب إلى غيره فكيف يقبل لربه سبحانه أن يذهب هذا الإنسان العبد عن ربه إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ضرب يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه لهم المثل في الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد ذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يحيى بن زكريا أمره الله عز وجل بخمس كلمات أن يأمر بهن بني إسرائيل ويأمرهم أن يعملوا بهن، فكأنه تأخر يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام، فقال له عيسى ابن خالته: إن الله أمرك بخمس تأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تقوم وإما أن أقوم أنا.
فقال: لا بل أقوم أنا، فقام يحيى بن زكريا وقال لهم هذه الأشياء الخمس التي أمره عز وجل أن يقولها، أولها وهو الشاهد- قال لهم في توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ومثل من يشرك بالله كمثل رجل ابتنى داراً واشترى عبداً وقال لعبده: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إلي، أي: اجمع الأجر وضعه في داري، فكان العبد يأخذ المال ويعطيه لغير سيده! فأيكم يحب أن يكون عبده كذلك؟! فلا أحد يقبل ذلك، فكيف يقبلون أن يوجهوا العبادة لغير الله الذي خلقهم ورزقهم وسخر لهم الأرض ليعملوا وقال: اعبدوني وكلوا واشربوا ولا تشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، بل اشكروا لله سبحانه تبارك وتعالى.
فقال لهم هنا: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] أي: بين واضح وأصلها مبين.(296/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا)
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25] أي: قل لهؤلاء لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ولا حجة بيننا وبينكم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وأنتم ستسألون عما تفعلون ونحن نسأل عما نعمل.
{قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} [سبأ:25] أجرم الإنسان: وأصله من الجرم، والجرم هو الجريمة أو الذنب، وقد يأتي الجرم بمعنى: الكسب، ومنه قول الله عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
(لا يجرمنكم) أي: لا يدفعنكم هذا لعمل الخطأ، فلا يدفعنكم لكسب شيء تخطئون فيه، فأجرم في كذا واجترم بمعنى: كسب، وكثيراً ما تكون في الشر بمعنى اكتساب الذنب، وهنا تفنن القرآن في ذكر المعنيين، قال تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} [سبأ:25] أي: عما كسبنا في زعمكم من شر، وعما فعلناه من شرور فلا تسألون عن ذنوبنا.
قال تعالى: {وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25] ويظهر فيها التلطف فلم يقل: عما تجرمون وإنما قال: {وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25]، ولو أنه قال لهم: عما أجرمتم فسيعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم ذلك تلطفاً لعلهم يدخلون في دين الله.
وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، وهو يتلطف لهم في القول صلوات الله وسلامه عليه، ويزدادون تعنتاً، وقام بواجبه على أكمل وجه، ولم يؤمن معه من هؤلاء من أهل مكة إلا العدد القليل من أهل مكة، فلما هاجر إلى المدينة فتح الله عز وجل له القلوب والعقول ودخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعلموا العلوم العظيمة من دين رب العالمين، فصار للإسلام قوة بعد ذلك، فلم ينفع مع المشركين إلا القوة بعد ذلك، والجهاد في سبيل الله سبحانه.
فقد عاملهم بالرأفة والرحمة واللطف والدعوة إلى الله سبحانه، ولكنهم تعنتوا معه صلى الله عليه وسلم ولم يدخلوا في دينه، بل منعوا الناس عن الدخول مع النبي صلوات الله وسلامه وتهددوه وخوفوه، فأخبر ربنا سبحانه تبارك وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار أنكم مسئولون عن أفعالكم ونحن مسئولون عن أعمالنا أيضاً، ما اكتسبناه فهو لنا وما اكتسبتموه فهو عليكم، لا نسأل عن أعمالكم ولا تسألون عن أعمالنا.(296/4)
قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق)
قال الله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26] أي: يوم القيامة، فلابد وأن نجتمع في يوم من الأيام، ونختصم معكم بين يدي الفتاح بمعنى: القاضي الحاكم سبحانه تبارك وتعالى.
{ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ:26] أي: يفصل بيننا في الخصومة.
والله عز وجل يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، ثم يفتح أي: يفصل في الخصومة ويقضي ويحكم سبحانه تبارك وتعالى بالحق سبحانه، وهو الفتاح الذي يقضي الحكم العدل سبحانه، فهو الفتاح الذي يقضي بين عباده سبحانه ويحكم بينهم يوم القيامة بعلم.
وكم من قاض في الدنيا من الناس يقضي على شيء من العلم والبينات، وكم من قاض يقضي على جهل في الدنيا، فالله سبحانه تبارك وتعالى عندما يذكر أنه سيقضي فهو العلام العليم، عالم الغيب والشهادة.
قال: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26] أي: في قضائه سبحانه وفي الفصل بين الخصومات.
والله عز وجل يوم القيامة منهم من يخفف حسابه ومنهم من يشدد عليه في الحساب، ومنهم من يكون الموقف بالنسبة إليه كوقت ما بين الفجر إلى الظهر ومنهم من يكون وقتاً طويلاً يستشعر الخمسين ألف سنة بين يدي الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يخفف عنا وأن يدخلنا الجنة بغير حساب.
قال سبحانه: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ} [سبأ:26] الذي يفتح بين خلقه بعلمه سبحانه تبارك وتعالى وهذا بمعنى أنه هو القاضي الذي يقضي بين الخلق سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان الفتاح بمعنى الذي يفتح لعباده أبواب الرزق أيضاً فهو يفتح أبواب الرزق لعباده، ولكن المقصود هنا الذي يختم به الآية: {يَفْتَحُ بَيْنَنَا} [سبأ:26] بمعنى: يفصل بيننا.
وهذا معنى من معاني الفتاح وهو: القاضي الذي يحكم بيننا يوم القيامة ويقضي بيننا بالحق سبحانه بعلم سبحانه ولا يحتاج إلى أحد.(296/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء)
قال تعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ:27] وهنا المخاطبة لعقول المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله: أروني هؤلاء: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} [سبأ:27].
قال: {أَرُونِيَ} [سبأ:27] أي: أرني أيها المشرك! {الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ} [سبأ:27] أي: الأصنام كيف هم شركاء لله سبحانه تبارك وتعالى؟! وكيف ينازعون الله سبحانه تبارك وتعالى في ملكه وفي خلقه وفي عباده وفي عمله سبحانه؟! هذا مستحيل ولا يكون أبداً! وكأنهم لو قالوا: تعالوا نريك، يقول: لا تقدروا على هذا وإنكم تزعمون وتكذبون، فهذا على معنى الرؤية القلبية.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ:27] الله وحده الذي يستحق العبادة العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب والذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، {الْحَكِيمُ} [سبأ:27] الذي له الحكمة البالغة.
وذكرنا قبل ذلك أن (الحكيم) له معان، وكلها ترجع إلى حكمة الله وإلى حكم الله سبحانه وإلى إتقان الله سبحانه تبارك وتعالى في خلقه، فهو الحكيم الذي له الحكمة البالغة، فلا خلل في كونه سبحانه، خلق المؤمن وخلق الكافر ولا خلل في ذلك، بل أراد سائر ذلك سبحانه، وهذه حكمة منه سبحانه تبارك وتعالى.
وخلق السماوات وخلق الأرض، وخلق الليل وخلق النهار؛ وكل شيء خلقه بحكمة، فلا خلل في شيء من خلقه سبحانه تبارك وتعالى، فهو الحكيم الذي لا يدخل في صنعه وفي خلقه سبحانه خلل.
وهو الحكيم بمعنى: المتقن الذي أتقن كل شيء خلقه سبحانه تبارك وتعالى.
وهو الحكيم بمعنى: الحاكم بصيغة المبالغة، الحاكم الذي يقضي بين عباده سبحانه، والذي ينزل الكتب تشريعاً لخلقه ليعملوا بحكمه سبحانه تبارك وتعالى، فهو الحكيم بمعنى: المحكم، وبمعنى الحاكم، وبمعنى: المتقن، وبمعنى: ذو الحكمة سبحانه الذي لا يدخل في خلقه ولا في صنعه سبحانه خلل ولا زيغ.
ففتح الله عز وجل له ما شاء وسيفتح له ما شاء يوماً من الأيام فإن وعد الله حق.
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(296/6)
تفسير سورة سبأ [34 - 39]
من سنن الله عز وجل أن جعل في الأرض مسلمين وكافرين، وجعل الصراع بين الحق والباطل قائماً إلى قيام الساعة، وبين سبحانه أن الميزان عنده هو الإيمان والعمل الصالح، وليس الدنيا والجاه والأولاد، فإنه سبحانه يعطي المؤمن والكافر، ولكنه يجازي المؤمن بإحسانه ويجازي الكافر بكفره.(297/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:34 - 38].
أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين أن سنته في خلقه أنه سبحانه ما أرسل في قرية من نذير إلا واستكبر المترفون فيها، وكذبوا وأعرضوا وقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون.
فليس ما يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة بالشيء الجديد، وليس فعلهم بالشيء الغريب عن إخوانهم المشركين الكافرين الذين كانوا من قبلهم.
فكل الكفار حين يأتيهم رسول من عند ربهم أول ما يواجهونه به أنهم يقولون: أنت كذاب، ويقولون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34]، ويقيسون الدار الآخرة على الدنيا، فيقولون: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} [سبأ:35] ويقولون: لماذا بعثك ربك أنت؟ لماذا لم يبعثنا نحن؟ نحن أعطانا الأموال وأعطانا الأولاد فنحن نستحق الدنيا فكذلك نستحق الآخرة، وبدل ما يبعثك أنت يبعث واحداً منا!(297/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)
قال عز وجل: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] بمعنى: أن ربنا أكرمنا في الدنيا بالمال والولد فكيف سيعذبنا يوم القيامة؟ فلو أن هناك يوم قيامة فأيضاً سيعطينا الكثير كما أعطانا في هذه الدنيا.(297/3)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
قال الله عز وجل مجيباً لهؤلاء آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ:36] لا يبسط الرزق للمؤمنين فقط، ولا يبسط الرزق للكافرين فقط، لا يبسط الرزق لهؤلاء لأنه يحبهم ولا لهؤلاء لأنه لا يحبهم، ولكن الله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء، فمن شاء بسط له في الرزق وأعطاه المال الوفير والرزق الكثير، ومن شاء ضيق عليه وأعطاه المال القليل والرزق القليل، فالله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يقدر ويضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى.
والله سبحانه عليم حكيم يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف:33] أي: لولا أن يصير الناس أمة واحدة على الكفر وأن يكونوا كلهم كفاراً لجعل الله عز وجل الدنيا كلها للكفار.
ولولا أن تكون فتنة عظيمة للمؤمنين فإذا بالجميع يصيرون كفاراً: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا} [الزخرف:33 - 35] أي: ذهباً، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35] ما الذي منع الله سبحانه تبارك وتعالى أن يفعل ذلك؟ من حكمته سبحانه أنه يعلم أن هؤلاء الخلق سيصلون كلهم إلى الكفر؛ لأنهم سيرون فتنة شديدة لا يقدرون عليها، فلولا ذلك لأعطى للكفار الدنيا كلها ومنع المؤمنين منها، فالدنيا ابتلاء ومحن، والدنيا لا قيمة لها عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك جاء في الحديث: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فالدنيا لا تسوى عند الله ولا حتى جناح بعوضة، لذلك لا ينبغي للمؤمن أن يأخذ الكثير من هذه الدنيا.
فلولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعل الله هذه الدنيا للكفار ولحرم المؤمنين منها؛ فإنها لا قيمة لها، ولكن حكمة الله عز وجل أبت إلا أن يعطي هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك في هذه الدنيا، كما قال عز وجل: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] فهو الكريم يعطي سبحانه تبارك وتعالى، ولكن العطاء الأعظم هو عطاء الآخرة التي يعطيها الله عز وجل للمؤمنين ويمنعها من الكفار، قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:36].
إذاً: فالله عز وجل يعطي الدنيا للمؤمنين ولغيرهم، فالمؤمن يعطيه في الدنيا الرزق الحسن، ويعطيه المال الصالح، ويختبره هل يتصدق؟ هل يخرج الزكاة؟ هل يتواضع بهذا المال الذي أعطاه الله سبحانه أم أنه يغتر بهذه الدنيا؟ فالله عز وجل يعطي للمؤمن الصالح مالاً صالحاً يصلح لمثله، فينتفع به ويؤدي حق الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤجر عليه عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك جاء في حديث رواه الإمام أحمد من حديث عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ عليك سلاحك وثيابك ثم ائتني.
قال: فأتيته وهو يتوضأ).
وعمرو بن العاص رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعن أخيه: (عمرو وأخوه مؤمنان) فشهد له صلوات الله وسلامه عليه بالإيمان.
وعمرو فرح بذلك، فجاء ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان عمرو بن العاص في جاهليته من رجال قريش ومن دهاتهم رضي الله تبارك وتعالى، ثم أسلم عمرو بن العاص بعد ذلك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده فقبض عمرو يده وقال: أشترط.
فقال: (وما تشترط؟ قال: أشترط أن يغفر لي) أي: أن ربنا يغفر لي الذنوب التي عملتها قبل ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله؟) أي: إذا دخلت في الإسلام غفر الله عز وجل لك ما كان قبل ذلك، فأسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم علم مقدرته على القتال وأنه يصلح للقيادة فقال له: (خذ عليك ثيابك) يعني: اذهب بيتك، والبس ثيابك وخذ سلاحك وتعال فقال: (ثم ائتني، فأتيته، وهو يتوضأ، فصعد فيّ النظر ثم طأطأ) يعني: نظر إليه من أعلاه إلى أسفله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك) أي: أنا أريد أن أبعثك قائداً على جيش، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اذهب خذ عليك ثيابك وسلاحك) فلما جاء نظر إليه من أعلاه إلى أسفله فرآه مكتمل العدة، لابس السلاح ولابس الثياب التي تصلح للحرب وللقيادة، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة) يعني: أنا أرغب لك أن يكون عندك شيء من المال، رغبة صالحة، فماذا كان جواب عمرو بن العاص؟ قال: قلت: (يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال) قال ذلك خشية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتألفه بذلك، وأنه أسلم من أجل المال، فهنا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرغب لك من المال رغبة صالحة) يعني: أنا لست داخلاً في الإسلام من أجل المال، قال: (يا رسول الله! إنما أسلمت لأكون معك، لم أسلم من أجل المال) يعني: ولكني أسلمت رغبة في الإسلام وأن أكون معك يا رسول الله.
وهذا جواب جميل من عمرو رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح).
إذاً: الإنسان المؤمن حيث يكون معه مال هذا شيء ليس سيئاً، وليس خبيثاً، ومن أعظم المال وأصلح المال وأطيب المال ما كان من رزق حلال، ومن أعظم الرزق الحلال الرزق في الجهاد، والغنيمة في الجهاد في سبيل الله التي جعل الله سبحانه رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: رزقه من جهاده في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا ظهر لنا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن المؤمن قد يكون له مال صالح ومال حلال، ولا مانع من ذلك، فمهما وجد مالاً كثيراً صالحاً فإن المؤمن يستعمله في مرضاة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ربنا سبحانه لم يحرم المؤمنين من ماله في الدنيا.(297/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم لا وأولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)
قال الله عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37] يعني: إذا أعطيناكم مالاً وأعطيناكم ولداً فليس معنى هذا أن لكم منزلة عند الله سبحانه، ولذلك أعطيناكم المال والولد ويوم القيامة نعطيكم أيضاً الجنة؛ لأنكم تستحقون ذلك، ليس الأمر كذلك، فليس كونك غنياً يصير لك منزلة كبيرة عند الله؛ فالمال ليس هو الذي يقربك عند الله زلفى، وزلفى: قربى، وكأنه يقول: يقربكم تقريباً، وتقريباً: مفعول مطلق، فزلفى كأنها هنا على غير الفعل، والمفعول لغير الفعل، فهنا قال: {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وأصلها: تقربكم عندنا تقريباً، يعني: تتقربون قربة عظيمة إلينا بأننا أعطيناكم هذه الأموال؛ لتقربكم هذه الأموال عند الله، إنما الذي يقربكم أن تستعملوها في طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالذي يقربكم هو العبادة وحب الله وحب هذا الدين العظيم، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
فالمال لا يقرب العبد عند الله إلا أن يكون هذا العبد مؤمناً فيستعمل هذا المال في طاعة الله، فيقربه من الله سبحانه.
فالله عز وجل هنا كأنه يخاطب الكفار والفجار وغيرهم: أنه لم نعطكم المال لأنكم تستحقون، ولم نعطكم المال لأن المال هذا يقربكم، فأنتم لا تستحقون ذلك؛ لأنكم تستخدمون هذا المال في طاعته.
وقوله: ((إِلَّا مَنْ آمَنَ)) المؤمن هو الذي نعطيه المال فينفق في سبيل الله فيستحق عند الله الأجر، ويستحق عند الله الثواب العظيم.
وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37] يعني: ولكن من آمن وعمل صالحاً، فهنا (إلا) كأنه استثناء منقطع أو أنه على الاستثناء المتصل والمعنى: ما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم أنتم أيها الكفار! إلا من كان مؤمناً فهذا تقربه؛ لأنه يستعملها في مرضاة الله سبحانه.
وقوله: ((لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ)) يعني: الجزاء المضاعف عند الله سبحانه، وقد عرفنا من الأحاديث أن الحسنة بعشر أمثالها، وأن النفقة في سبيل الله تبلغ إلى سبعمائة ضعف، ويزيد الله لمن يشاء من فضله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا لهم جزاء الضعف بما عملوا: بأعمال الخير، بإيمانهم، بصدقاتهم، بإنفاقهم في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى.
وضعف الواحد اثنين، وهنا ذكر تعالى أن لهم جزاء الضعف، وقال في السورة الأخرى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] فعرفنا بذلك أن الحسنة تضاعف عند الله سبحانه أضعافاً مضاعفة وليست ضعفاً واحداً.
وقال عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] فضاعف سبحانه ذلك إلى سبعمائة.
فقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] دلت الآية على أن الله يكثر ويزيد من ثواب المنفق في سبيله سبحانه، وذكر في الآية الأخرى أنه يضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم فكان له أجر عند الله، وآخر تصدق بمائة ألف فكان له أجر، ولكن أجر صاحب الدرهم أعظم من أجر صاحب المائة ألف، فتعجب الصحابة لذلك! فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم: أن هذا رجل يملك درهمين فتصدق بأحدهما، تصدق بنصف ماله، وهذا له مال كثير أخذ من عرض ماله مائة ألف، فسبق الدرهم المائة الألف عند الله سبحانه تبارك وتعالى، والله يضاعف لمن يشاء.
فالله عز وجل يعطي من عنده وهو الرزاق الكريم سبحانه تبارك وتعالى، ويفضل بعض الناس على بعض بما يشاء سبحانه.
وقوله سبحانه: ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا)) هذه قراءة الجمهور.
وقراءة رويس عن يعقوب: (فأولئك لهم جزاءً الضعفُ بما عملوا) فنصب (جزاءً) على التمييز، أي: أن لهم الضعف جزاء من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فميز لهم هذا الثواب وأنه جزاء من عند الله سبحانه، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالله عز وجل يجزي الثواب العظيم، وعطاء الله سبحانه عطاء غير مجذوذ.
قال: ((وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) هذه قراءة الجمهور: ((فِي الْغُرُفَاتِ)) بالجمع، وقراءة حمزة: (في الغرفة) على الإفراد.
وكأن الغرفة هنا جنس، فإذا جاءت بلفظ الإفراد فيعني الإفراد ويعني التثنية ويعني الجمع.
والغرفة هي أعلى ما يكون، أو هي المكان العالي الذي يحب الإنسان أن يجلس فيه، وهي أشرف المواضع، وهي أعلى الجنات عند الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإنها أعلى الجنة وأوسطها وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة).
فالفردوس الأعلى هو أعلى الجنة، ولا نتخيل أن الغرفة بمعنى الغرفة التي نتكلم عنها في الدنيا؛ لأنه لا تقاس الآخرة على الدنيا، ولكن الغرف في أعالي الجنات، وفيها بساتين عالية جداً، وفيها قصور للمؤمنين لا يعلم حقيقتها وما فيها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى.
فقوله: ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) أي: أنهم يدخلون الجنة وأعلى الجنة، ولهم من الله عز وجل الأمن والأمان، ولذلك يقال لأهل الجنة: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49].
وهذه نعمة عظيمة جداً، فمن يدخل الجنة يمنع الله عز وجل عنه الخوف، ويمنع عنه الحزن؛ فلا خوف ولا حزن.
والخوف الغالب أنه يكون من المستقبل، فأنت خائف من الذي قدامك من المستقبل.
والحزن يكون على الماضي، فربما حصل كذا وحصل كذا فأنت حزين عليه، لكن في الجنة لا توجد حاجة تهمك في الماضي وتسبب لك الهم والحزن، ولا شيء يخشى في المستقبل فيخوفك، فربنا سيأمنك، ويعطيك الأمان في الجنة، ويقول لأهل الجنة كما في الحديث القدسي (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً) فيطمئنون وهم في جنة الخلود؛ لأنهم يعلمون أن هذا نعيم مقيم لا يزول عنهم أبداً، ولا يتحولون عنه أبداً؛ فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم سبحانه.(297/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون)
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38].
قوله: ((وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ)) السعي: العمل الدائم، ((فِي آيَاتِنَا)) في حجج الله سبحانه، يعني: يدأبون في إبطالها، ويريدون إبطال حجج الله سبحانه وسنن النبي صلى الله عليه وسلم بالتشكيك في ذلك، وبالنظر إلى أن هذه الأشياء ليست بشيء، وأن هذا القرآن ليس بمعجز، ونحن نقدر أن نأتي بمثله، فيقولون كلاماً كذباً على كتاب الله سبحانه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساعين دائبين في ذلك معاجزين؛ يريدون أن يفوتوا ويسبقوا ربهم سبحانه تبارك وتعالى.
فهم يريدون أن يسبقوا ويفوتوا الله سبحانه، ويظنون أنهم يعجزونه فلا يجمعهم يوم القيامة، فهم يسعون في آيات الله سبحانه معاجزين مصرين معاندين يريدون إبطالها، ظانين أنهم يسبقون ويفلتون من الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38] يعني: يحضرهم الله ويجمعهم يوم القيامة بقول (كن) فيكون، قال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيجمعهم الله يوم القيامة، فكل إنسان يأتي وحده إلى ربه سبحانه؛ ليسأله عما عمل؛ فإنه ظن أنه يعجز ربه، ولكن كيف يقدر، والله أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون.(297/6)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] كأن الله سبحانه تبارك وتعالى في الآية الأولى أجاب عن هؤلاء الكفار فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وهنا قال: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ:36] قالها لهؤلاء الكفار الذين قالوا: إن الله أعطانا في الدنيا أموالاً فسيعطينا يوم القيامة، فإنه فضلنا في الدنيا وهذا دليل على أنه سيفضلنا يوم القيامة، فالله عز وجل رد عليهم وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، وبين أنه ليست أموالكم هذه ولا أولادكم التي تقربكم عندنا، ولكن المؤمنين تقربهم؛ لأنهم آمنوا بالله سبحانه، ولأنهم تقربوا إلى الله بالإنفاق في سبيل الله، وبالصدقة على من يستحق ذلك، فأخرجوا أموالهم لربهم سبحانه، فاستحقوا من الله الجزاء العظيم.
ثم قال لهؤلاء المؤمنين مكرراً هذا المعنى العظيم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [سبأ:39] فمن المؤمنين من يعطيه الله سبحانه مالاً ويعطيه من الدنيا متاعاً، ومنهم من يحرمه منها، والله عليم خبير، والله لطيف بعباده، فهو سبحانه تبارك وتعالى يعطي إنساناً ويعلم أن هذا الإنسان لن يغره المال فيعطيه الله سبحانه منه.
وإنسان آخر من المؤمنين الله عز وجل بعلمه وحكمته يعلم أن فلاناً هذا لو فتح له باب الرزق فسيطغى، وسيستكبر، وسيترك العبادة، وسيموت كافراً أو فاجراً أو فاسقاً، فيمنع برحمته سبحانه تبارك وتعالى عنه شيئاً، ولعل هذا الإنسان أن يكون قدامه باب رزق أوشك أن يأخذه، وأن يصير في يده، وإذا بالله عز وجل يمنعه ويأخذه غيره.
فيغضب الإنسان ويحزن ويتضايق في نفسه، لماذا منعت من شيء كان في يدي، لكن الإنسان المؤمن يعلم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ويضيق على من يشاء؛ لحكمة منه سبحانه.
وحين يحرم شيئاً من الرزق يقول: لعله لو أتاني هذا الرزق لعل الله كان قدر لي مصيبة وراء هذا الشيء، ولعلي لو أخذت هذا الرزق سوف أطغى وأستكبر، ولعلي أقع في معصية الله، فربنا منع عني المعصية بمنع ذلك، فيصير هذا من رحمة الله بي، فالحمد لله سبحانه.
وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه إذا أعطاه الله سبحانه من رحمته وفتح له قال: (الحمد لله رب العالمين) فحمد الله.
وإذا منع وابتلى بشيء من ابتلائه سبحانه قال: (الحمد لله على كل حال) فنحمد الله إن أعطانا، ونحمد الله إن منعنا؛ لأنه إن منعنا فقد أعطانا سبحانه تبارك وتعالى، فإن منعك شيئاً من الدنيا أعطاك مكانه في الآخرة، وأعطاك شكراً وأعطاك صبراً وأعطاك حمداً له سبحانه، وإن منعك شيئاً أعطاك ما هو أعظم منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فليس كل الناس يعلمون هذا الشيء، فإن الله عز وجل يفتح على الإنسان المؤمن فيعلم حكمة الله سبحانه تبارك وتعالى.
والمؤمن يعلم ويفهم فيحمد ربه سبحانه على عطائه وعلى منعه سبحانه تبارك وتعالى.
والله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، والكل عبيد لله سبحانه تبارك وتعالى، وكأنه في الآية الأولى ذكر الجميع، وهنا اختص المؤمنين، وكأنه يقول: أنتم يا مؤمنون! منكم من يعبد ويعطيه الله في الدنيا، ومنكم من يعبد ويضيق الله عز وجل عليه في الدنيا؛ ليس لأن هذا أفضل من هذا، ولكن الله أعطى كل إنسان ما يريد سبحانه وما يصلح لهذا الإنسان.
فهناك إنسان لا يصلحه إلا الغنى؛ لأن الله عز وجل جعل في نفسه الكرم، وجعله يحب الإنفاق فلا يصلح مع هذا إلا الغنى، فيعطيه الله عز وجل المال فتظهر أثر النعمة عليه، فيعطي يميناً وشمالاً، وينفق لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا خلقه الله عز وجل لذلك.
وقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه من الكرماء في المدينة، ومن المشهورين بالجود والكرم، فكان له جفنة عظيمة تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته صلى الله عليه وسلم.
وبيت النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه الضيوف، ويأتي إليه الناس الذين يريدون أن يتعلموا الإسلام، فيأتون فيطعمهم، فجفنة سعد تساعد في هذا الشيء.
وكان سعد يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى ويقول: (اللهم إنك أعطيتني هذا الإنفاق، اللهم ارزقني الغنى) يعني: أنا أحب الإنفاق وهذا لا يصلح إلا بغنى، فيسأل ربه الغنى، فيعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى.
وابنه قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تبارك وتعالى عنه تعلم من أبيه الكرم، فكان ينفق كثيراً جداً، فقد خرج قيس في سرية فيها أبو بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وأصابتهم مجاعة، فـ قيس بدأ يستلف ويستدين، فكان يستلف الجمل من الرجل وينحره ليأكل الجيش، وجعل يفعل ذلك إلى أن خشي عمر ومنعه وقال له: ليس عندك مال، المال مال أبيك، فطلب عمر من أبي بكر أن يمنعه من هذا الشيء، فمنعه.
فلما رجع إلى المدينة كلم أباه سعداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال: أصابتنا مجاعة، قال: انحر لهم.
قال: فعلت.
ففرح أبوه، وانظر كيف يأمر ابنه على شيء قد مضى، فقال له: ثم أصابتنا مخمصة.
قال: انحر لهم.
قال: فعلت.
ثم قال: منعني أبو بكر ومنعني عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فتحسر أبوه على ذلك وقال له: لو نحرت كذا وكذا لأعطيت أنا، أي: كنت سأدفع هذا كله.
فانظر إلى الكرم، فناس لا يصلح معهم إلا الكرم، والله أعلم سبحانه تبارك وتعالى بعباده، فيعلم أن هذا يتصدق، ويزكي، ويعطي لله ولا يمن على خلق الله فيعطيه الله تبارك وتعالى.
وهناك إنسان آخر هو مؤمن، ولكن الله يعلم أنه لو أعطى هذا لعله يعطي وينفق ويمن على صاحبه، فيضيع صدقته كلها، ولعله يمنع ويشح ويبخل، كما قال عز وجل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فليس كل إنسان يكون في قلبه إيمان يكون على درجة عظيمة من البذل والعطاء، ولكن فيهم وفيهم، فالله يعلم أن هذا يصلح له المال فيعطيه، وأن هذا لا يصلح له المال فيمنعه، وأن هذا يصلح للمال لاختباره فيختبره، والله أعلم بعباده سبحانه، لذلك انظر إلى نفسك في الوضع الذي أنت عليه واعلم أنه خير الأوضاع لك؛ لأنه هو الذي أراده الله عز وجل لك.
فالإنسان قد يشتغل شغلاً، ثم يتركه ويشتغل شغلاً ثانياً، ثم يتركه ويبحث عن ثالث؛ لأنه يبحث عن الرزق الكثير، فهنا لا تعجز ولكن احمد ربك سبحانه؛ فهو أعلم بما يصلح لك، وهذا الذي يصلح لك، وهذا الذي يصلحك لعله لو أعطاك غيره لأطغاك ولأفسدك، فهذه من نعم الله عز وجل عليك.(297/7)
معنى قوله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)
قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ:39] يا أيها المؤمنون! ما أنفقتم لله عز وجل من شيء فهو يخلفه سبحانه تبارك وتعالى، ويعطي مكانه.
والحسنة بعشرة أمثالها عنده، والرزق يزيد في الدنيا، وهذا شيء عجيب جداً! وعد من الله عز وجل، والله لا يخلف الميعاد أبداً، ومستحيل أن يكون إنسان كريماً ويعطي ويتصدق والله يضيق على هذا الإنسان، بل الله يعطيه، فإن ضيق فلحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى ولسبب معين، ولكن العادة أن الإنسان الذي ينفق الله يزيد له ماله، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ثلاث أقسم عليهن - وذكر منها - ما نقص مال عبد من صدقة).
فالإنسان الذي يتصدق الله وعده هنا في كتابه بالخلف فقال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] وهنا نكر الشيء، أي: ولو كان شيئاً قليلاً فإن الله سبحانه يخلف مكانه ويزيده سبحانه، ويبارك لك في رزقك وفي مالك.
قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] كان علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه يقول لأهل الأموال: أنفقوا فإني سمعت الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فكيف تريدون أن يخلف عليكم وأنتم لا تنفقون؟ أنفق من أجل أن ربنا يخلف عليك ويعطي لك غيره أما أنك لا تنفق وتريد أن يخلف عليك فلا.
وجاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أحاديث جميلة في ذلك، منها: ما كان يقوله لـ بلال رضي الله تبارك وتعالى الصحابي الفاضل الذي عذب عذاباً شديداً في الله فهانت عليه نفسه مع شدة عذابهم له، فقد كانوا يأخذونه ويجرجرونه على الصخر في اليوم الحار الشديد القيض، ويجعلون على صدره صخرة، ويجرجرونه على الصخر؛ حتى يكفر بالله سبحانه، ويضربونه ويسلطون عليه الصبيان ليضربوه، وهو يقول: أحد أحد، يعبد الله وحده لا شريك له، هذا الصحابي الفاضل رضي الله عنه كان عبداً فاشتراه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه وأعتقه وجعله لله سبحانه تبارك وتعالى.
فكان بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم كصاحب نفقته، وكأنه المسئول عن الإنفاق مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحب أن يأخذ معه مالاً ولا يدخر عليه الصلاة والسلام شيئاً، بل ما كان معه من مال أنفقه صلى الله عليه وسلم وأخرجه إلا أن يدخر شيئاً يكون لدين عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو كان لي مثل أحد ذهباً لم يسرني أن يمر علي ثلاث إلا وقلت هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن أمامه ومن خلفه، إلا مالاً أرصده لدين) أي: إلا أن يكون علي دين فأخرجه لصاحبه حتى يأتي.
هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه كان بلال معه كصاحب النفقة، يعني: كان بلال هو الذي يأخذ مال النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي بطعام النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بشراب النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بغير ذلك، وكان يقول له: هات يا بلال، اعط لفلان كذا، واعط لفلان كذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالاً فيعطي، ولعل بلال خاف أن المال سينتهي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفق يا بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) لا تخف، فإن ربنا هو الذي يرزقنا، وليس أنا الذي أعطيك، ولا الناس هم الذين يعطونا، بل يعطينا ربنا، فربنا الرزاق الكريم سبحانه تبارك وتعالى.
فينفق بلال بأمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يخاف نقصان النفقة، فإن الذي يخلف عليهم هو الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهنا حديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء، وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) يعني: أنه ينزل ملكان من السماء، حين تطلع الشمس من عند الأفق، ويكونان بجنبتيها عند طلوعها، أحدهما عن يمين الشمس والآخر عن شمال الشمس وهي تطلع.
قال: (يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) أي: كل من على الأرض يسمع إلا الثقلين: الإنس والجن، فلا يسمعون ذلك.
قال: (ينادي الملكان: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً).
هذا الدعاء من الملكين دعاء مستجاب عند الله، ولن يبعث الله ملكين يدعوان ولا يستجيب سبحانه لهما، فإن ربنا كريم عظيم يبعث ملكين يدعوان ليستجيب سبحانه تبارك وتعالى لهما.
وتسمع الخلائق الملكين وهما يدعوان: (يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) أي: قوموا اعبدوا ربكم سبحانه وتعالى.
قوله: (فإنما قل وكفى) اذهبوا إلى أرزاقكم، واطلبوا رزق الله سبحانه، ولا تطلبوه بمعصية الله، ولا تطلبوه من الحرام.
قوله: (فإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى) إذا أعطاك الله الرزق ولو كان قليلاً طالما أنه يكفيك فهو خير لك مما كثر فأطغاك وألهاك عن الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت الشمس إلا ويقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً) في هذا الحديث الدعاء للإنسان الكريم المؤمن الذي ينفق بأن الله يخلف عليه، ويعطيه مكان ما أنفق، ولن ينفق درهماً ويعطيه درهماً مكانه، ولكن الله أكرم سبحانه يعطي العطاء الكثير سبحانه.
يقول: (وأعط ممسكاً تلفاً) أي: الذي يمسك ماله ويشح على الناس ويبخل يعطيه التلف، فيتلف له ماله، أو أنه يجعل فقره في قلبه، والإنسان الذي ينفق يجعل الله غناه في قلبه، فقد يكون فقيراً قليل المال، ولكن يستشعر أنه أغنى الخلق، وأنه إنسان غني غير محتاج لأحد، وتراه يأكل ويشرب مثل غيره ولا يحتاج إلى أحد، فيجعل الله غناه في قلبه، فهذا المؤمن وإن أفقرت يده ولم يكن فيها الكثير فإنه غني في قلبه.
وتجد إنساناً معه مال كثير والله جعل في قلبه الشح والفقر، يظن أن ماله سينتهي، وتراه يقول: ربما أن ربنا يبتليني بمرض وأحتاج إلى فلوس كثيرة، وربما أدخل مستشفى في يوم من الأيام فأحتاج كذا، فتراه خائفاً أنه سيحصل له في يوم من الأيام كذا، فلم يحصل له شيء، ومات والمال ذهب لغيره ولم يأخذ منه شيئاً! ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالغنى غنى القلب.(297/8)
معنى قوله تعالى: (وهو خير الرازقين)
قال الله سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
(وَهُوَ) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها قالون وأبو جعفر وأبو عمرو والكسائي: (وَهْوَ خير الرازقين).
وقوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] هو سبحانه تبارك وتعالى خير الرازقين، فمن الذي يرزق غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ الرزاق هو الله سبحانه وحده لا شريك له، ولكن تعارف الناس في الدنيا على أن الواحد منهم يأخذ رزقه من بيت المال، ويأخذ أجرته من فلان، فكأن الناس يرزق بعضهم بعضاً على معنى من المعاني، والله هو الرزاق سبحانه، والعبد يرزق أخاه، يقول: رزقته اليوم، أي: أعطيته مالاً اليوم، لكنه يعطي من مال ينفد، والله سبحانه يعطي من مال لا ينفد، والعبد يعطي من مال غيره، فإن المال الذي في يده مال الله وليس ملكاً له حقيقة، والله يعطي من ماله الذي خلقه والذي يرزق به عباده سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا قلنا: فلان يرزق فلاناً، وفلان يرزق فلاناً، فهذا كله لا شيء؛ فإن الله هو خير الرازقين سبحانه تبارك وتعالى، فهو الرزاق الكريم ينفق ويقول للشيء: كن، فيكون، وخزائن الله ملأى لا تغيظها نفقة، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات إلى أن تقوم الساعة؟ فإنه لم يغض مما في يده سبحانه وتعالى شيئاً).
وهو الذي يقول لعباده كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا أدخل البحر).
فإذا وضعت الإبرة في البحر وأخرجتها فإنها لا تنقصه شيئاً، ولو أن إنساناً يقول: نقصت منه شيئاً، فيقال عنه: إنه مجنون لا يفهم، فالإبرة تدخل البحر وتخرج من البحر وهو أمامنا مثلما هو، كذلك خزائن الله عظيمة واسعة مهما أنفق منها لا ينقص منها شيء، فهو سبحانه تبارك وتعالى خير الرازقين.
نسأله من رزقه وفضله ورحمته سبحانه، ونسأله الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(297/9)
تفسير سورة سبأ [40 - 47]
يحشر الله سبحانه وتعالى الخلق جميعاً يوم القيامة، فيتبرأ كل معبود ممن عبده، فتتبرأ الملائكة ممن عبدها، وقد كان بعض أهل الجاهلية يعبدون الجن ظناً منهم أنهم الملائكة، ويوم القيامة يدخلون جميعاً النار؛ لأنهم كذبوا برسل الله سبحانه وعبدوا غيره.(298/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:40 - 43].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن موقف من مواقف القيامة، قال تعالى: {َيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [سبأ:40] أي: اذكر هذا اليوم يوم يحشر الله الناس، فيبعثون من قبورهم وينشرون ثم يحشرون ويجمع بعضهم إلى بعض إلى الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] يسأل الله الله سبحانه الملائكة: هل كان هؤلاء يعبدونكم من دون الله سبحانه؟ والملائكة لم توافق على هذه العبادة أبداً، ولم تكن لترضى أن تعبد من دون الله سبحانه، وهم الذين خلقهم الله، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولكن هذا السؤال تبكيت لهؤلاء الكفار، وتوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم بإدخالهم النار والعياذ بالله.
وكان هؤلاء الكفار في الدنيا يعبدون الجن، ويزعمون أن هؤلاء الجنة الذي يعبدونهم هم الملائكة، وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى، فذكروا أن قبيلة من العرب من خزاعة كانوا يعبدون الجنة، ويزعمون أن الجِنة تتراءى لهم، ويزعمون أن الجن هؤلاء ملائكة، وأنهم بنات الله، حاشا لله سبحانه وتعالى، فهو قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158].
والكافر لا يستحيي من ربه سبحانه وتعالى أن يفتري عليه، بل يقول ما لا يعرفه فيتكلم بالكلام العجيب، ويتعجب من الكلام الصحيح الذي لا يتعجب من مثله، فيقولون: الملائكة بنات الله، وليس عندهم أثارة من علم على ذلك، فإذا أخبروا أن الإله إله واحد لا شريك له، أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فيعجبون أن يكون المعبود واحداً، والعقل إذا نظر وتفكر لم ينكر هذا المعنى أبداً، بل هو المعنى الذي لا يقبل العقل غيره، فما الاستحالة وما وجه العجب حتى يقولوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]؟! فإن الإله الواحد الذي يستحق العبادة: هو الذي يخلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يملك النفع والضر سبحانه وتعالى، وقد علموا أن ما يعبدون من دون الله لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً، لكنهم عبدوهم من دون الله، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [سبأ:40] قراءة حفص عن عاصم ويعقوب أيضاً: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ} [سبأ:40] أما باقي القراء فيقرءونها بنون العظمة: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون).
فالله عز وجل يسأل الملائكة توبيخاً لهؤلاء المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وأنهم يعبدون الملائكة من دون الله سبحانه تبارك وتعالى كما يسأل الله المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، وقد علم الله يقيناً أن المسيح لم يقل ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ليبين لهؤلاء الكذابين الذين زعموا أن المسيح دعاهم إلى أن يعبدوه من دون الله، أنت قلت كذا؟ فيكذبهم ويقول: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] ما قلت لهم إلا هذه الكلمة: أن يعبدوا الله، ما قلت لهم إلا ما أمرتني أنت به أن يعبدوا الله، فهنا أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.(298/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم)
يسأل الله الملائكة في الموقف العظيم توبيخاً لهؤلاء الذين عبدوهم، وحتى يعذبهم الله سبحانه، ويعلمون أن الله ما ظلمهم سبحانه، أأنتم قلتم لهم: اعبدونا من دون الله؟ تقول الملائكة: حاشا لله ما قلنا لهم ذلك، قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [سبأ:41] أي: تنزيهاً لك، وتقديساً لك، فالله سبحانه المنزه عن كل عيب وعن كل نقص سبحانه وتعالى، والمنزه أن تكون له الصاحبة أو يحتاج إلى الولد، أو يكون له الولد سبحانه، فقالوا: سبحانك أي: تنزيهاً لك، وتسبيحاً لك، نسبحك ونقدسك، وننزهك عن أي عيب ونقص، وننزهك عن أن يكون لك الولد أو لك الصاحبة.
قال سبحانه: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ:41] أي: أنت الذي تتولى أمورنا من هؤلاء، توليناك وعبدناك أنت، فأنت ولينا الذي تتولى أمرنا، فالذي يتولى ربه سبحانه يتولاه الله عز وجل بمعونته وبنصره وبحمايته، فهي هداية منه سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} [سبأ:41] أي: فولاؤنا لربنا سبحانه وتعالى من دون هؤلاء، ونتبرأ إليك من هؤلاء ولا ولاية بيننا وبينهم.
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] أي: هؤلاء الكذابون لم يكونوا يعبدوننا، إنهم لم يرونا حتى يعبدونا، بل كانوا يعبدون الجن، هؤلاء كما ذكرنا قبيلة من قبائل خزاعة عبدوا الجن من دون الله، وزعموا أن الجن كانت تتراءى لهم فعبدوهم، وزعموا أن هؤلاء الجن ملائكة، وأنهم بنات الله؛ لذلك فإن الملائكة تكذبهم، ويقولون لله عز وجل: لم يعبدونا، وإنما عبدوا الجن من دونك، قالوا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] أي: أكثرهم بالجن مؤمنون مصدقون، والجن يكذبون عليهم وهم يصدقونهم في ذلك، والجني يفرح أن الإنسان يعبده من دون الله، فهو شيطان يكذب على الإنسان، وإذا بالإنسان يتولاه من دون الله، وكان للجن أمور مع هؤلاء الكفار في الجاهلية، إذ كان الواحد منهم يخاف ويمشي في الصحراء وحده، فإذا مشى ينادي في الصحراء من خوفه ويقول: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: أستجير وأستغيث برب هذا الوادي، وإذا لم يقل ذلك فإن الجن تلعب به، تناديه وتزعجه وتخيفه وهو في الطريق، فكان يكفر بالله عز وجل ويقول: إنه يستغيث ويستجير برب الوادي، يعني: بالشيطان الذي في هذا الوادي، فتفرح الجن بذلك؛ لأنهم عبدوهم من دون الله فيتركونهم, وإذا لم يفعلوا ذلك تتلاعب بهم الجن.
فقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] يعني: مصدقون أن الجن ينفعونهم ويضرونهم من دون الله سبحانه، ومعتقدون في الجن أنهم يعلمون الغيب، ولذلك قدم لنا ربنا سبحانه قبل أن يذكر كلام هؤلاء المشركين قصة سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أنه من عادة الجن إذا صادقهم البشر أنهم يتطاولون عليهم، ويظهرون أنهم أحسن منهم، وأنهم يعلمون الغيب، والبشر لا يعلمون شيئاً، فقد كان الجن في عهد سليمان عليه الصلاة والسلام يزعمون ذلك، ولذلك جعل الله عز وجل موت سليمان آية من الآيات، إذ جعله متكئاً على منسأته، وتوفاه الله وهو على هذه الهيئة، متكئاً على منسأته واستمرت الجن مسخرة لأمر سليمان سنةً كاملةً وهو على هذا الحال، حتى جاء أمر الله سبحانه؛ فإذا بدابة الأرض تأكل منسأته فسقط سليمان، فلما سقط {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] تبينت الجن: اتضحت الجن وتبينت الجن للناس وظهر أمرهم وافتضحوا أمام الناس أنهم لا يعلمون شيئاً من الغيب، وأنهم كذابون في ادعائهم علم الغيب، فعادة من هو صادق من الجن أن يكذب الجن عليه، وقد يكون الجن جناً مؤمنين وجناً كافرين، فالجني المؤمن لا دخل بالبشر، ولا علاقة له بالبشر، ولا يتعرض لهم، لكن الجني الكافر والفاسق يتعرض للإنسان ليغويه، ويبعده عن طريق الرحمن سبحانه وتعالى، كما فعل الجن بهؤلاء الكفار الذين عبدوهم من دون الله فأضلوهم، وأوهموهم أنهم ملائكة، وأنهم بنات الله، فعبدوهم من دون الله، فالله عز وجل يحشرهم يوم القيامة، ويظهر كذب الجن الذين زعموا ذلك، والإنس الذين صدقوهم في ذلك، وقد أمرهم ربنا سبحانه ألا يصدقوهم، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يحذرهم الله سبحانه، فهؤلاء رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، أي: يتعوذون ويستغيثون بالجن؛ لينفعوهم من دون الله، فزادوهم رهقاً وأتعبوهم، وزادوهم مرضاً فوق أمراضهم؛ لفعلهم ذلك.(298/3)
تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً)
قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42].
ففي يوم القيامة يحشرهم الله سبحانه، ويأمر بهم إلى النار ولا يملك بعضهم لبعض نفعاً ولا ضراً، إذ كان الجني يضحك على الإنسان في الدنيا ويقول له: سننفعك، ونعمل لك كذا، وندلك على كذا، فيوم القيامة لا يملك أحد لأحد نفعاً ولا ضراً.
فقوله تعالى: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [سبأ:42] أي: ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42] ذوقوا عذاب الهوان، عذاب نار جهنم، وكلمة النار هنا: تقرأ بالفتح النار، وتقرأ بالتقليل، وتقرأ بالإمالة، فيقللها الأزرق عن ورش، ويميلها أبو عمرو وحمزة أيضاً، ويميلها دون الكسائي، وكذلك ابن ذكوان يميلها، وباقي القراء يقرءونها بالفتح.
فقوله تعالى: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42] أي: كذبوا بالنار، وكذبوا بالعذاب، فذوقوا العذاب الذي كذبتم به الآن.(298/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا)
يقول الله سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] كان الكفار يتعاملون مع النبي صلى الله عليه وسلم بالغيرة والحسد فإذا تكلم وقرأ عليهم آيات كتاب الله سبحانه فإن هذا جوابهم.
قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [سبأ:43] بكسر الهاء قراءة الجمهور، وبضمها قراءة حمزة ويعقوب: (عليهُم آياتنا بينات) أي: ظاهرة جلية بينة مبصرة {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] وهذا نوع من التحريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يحرش بعضهم بعضاً عليه أنه رجل يريد أن يصدكم عما كان عليه آباؤكم، فقد كان عند العرب احترام للآباء، فكان أحدهم إذا تكلم عن أبيه يتكلم عنه بفخر واعتزاز، ولذلك ظنوا أنهم يغلبون النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، فقد جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أأنت أهدى أم عبد المطلب؟) فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: (أنت أهدى أم عبد الله أبوه؟) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن كلام الله هو الهدى وليس الذي يقولونه.
قال تعالى: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] من أجل إثارة بعضهم بعضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان القائل منهم يقول: هذا يريد أن يبعدك عما كان عليه أبوك وعما كان عليه جدك، فهل يرضيك ذلك؟ فيقول له: لا، بل آباؤنا، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] لذلك الكفار كان يدخل بعضهم لبعض من هذا المدخل، وأن هذا يسب آلهتنا ويسفه آباءنا، فيقول بعضهم لبعض: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} [سبأ:43]، ويقولون عن القرآن الكريم: هذا إفك، والإفك: حديث الكذب.
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} [سبأ:43] أي: عن الحق {لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] هذا كلامهم، إذاً: رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فقالوا: إن الكلام الذي جاء به إفك مفترى، وهذا الذي يقوله سحر مبين، يعني: سحر واضح جداً، والذي جعلهم يقولون: إنه سحر هو قولهم: ما سمعناه يقول كذباً قط، ولكنهم عرفوا السحر وطرقه، فقالوا عنه: كاهن، ولكنهم عرفوا سجع الكهان وكلامهم فهو ليس بكاهن، فأقنع بعضهم بعضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وأنه سفه آلهتهم، وشتم آباءهم، وليس عندهم رد غير ذلك، فاجتمعوا بكفرهم على أن يكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(298/5)
تفسير قوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها)
قال الله سبحانه مجيباً ومبيناً كذبهم: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] فهم قالوا: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فلا آثار عندهم على ذلك، ولا أدلة لهم على أنهم كانوا على حق، هل معهم كتاب من عند الله سبحانه يبين لهم هذا الذي يدعونه؟ قال سبحانه:: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} [سبأ:44] أي: من عندنا، لم ننزل عليهم قبل ذلك كتاباً من الكتب ويقولون: عندنا آثار من علم، فائتوا بهذه الكتب إن كنتم صادقين.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] أي: لم نرسل في هؤلاء العرب قبلك من نذير، كان في الماضي إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام في العراق، ثم رحل إلى الشام على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم ذهب إلى مكة فبنى هذه الكعبة ورجع إلى الشام، وكان إسماعيل في مكة على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان على الملة وعلى الدين، أما هؤلاء العرب أهل الفترة لم يكن فيهم نذير قبلك، فأنت أول من جاء إليهم.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] قراءة حمزة ويعقوب: (إليهُم)، مثل (عليهُم) (إليهُم) (لديهُم) وباقي القراء يقرءون: (إليهِم) (لديهِم) (عليهِم).
قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] أي: منذر ينذرهم، ونبي ينذرهم ويخوفهم بعقوبة الله سبحانه على شركهم.(298/6)
تفسير قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم)
قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45].
قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم) يعني: تكذيب هؤلاء ليس بجديد فالذين من قبلهم كذبوا وأعرضوا، قال تعالى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] يعني: هؤلاء القوم القرشيون المغرورون، كذبوا ما جئت به من عند الله، كذلك كذب الذين من قبلهم، ولكن الذين من قبلهم كانوا أقوى منهم أبداناً، وكانوا أكثر منهم عدداً، ومكنا لهم أشياء كثيرة لم نمكن لهؤلاء مثلها، وما بلغ هؤلاء معشار -أي: عشر- ما أوتي الذين من قبلهم، فقد آتيناهم أموالاً كثيرة، وأعطيناهم جنات وعيوناً وحدائق، أما هؤلاء فهم في الصحارى ليس فيها إلا القليل من هذه الأشياء، لكن السابقين أعطيناهم فكذبوا، وكانوا أغنياء أقوياء طوالاً في الأجسام عراضاً فيها، فهؤلاء أهلكناهم، ودمرناهم، وأغرقناهم، فكيف نصنع بهؤلاء الضعفاء؟ فإنهم لم يؤتوا معشار ما آتيناهم، قالوا: معشار بمعنى: العشر، يقال: العشر والعشير، وقيل: بل معشار بمعنى: عشر العشر والمعنى: آتينا هؤلاء القليل من الدنيا، ولم نؤتهم كما آتينا الذين من قبلهم، وقد كذب الذين من قبلهم فأهلكناهم، ألا يتعظ هؤلاء بالذين من قبلهم؟! قال: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] إذا وقفت عليها قلت: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] هذه قراءة الجمهور، وإذا وصلها الجمهور أيضاً فيقولون: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:45 - 46] بالكسر فيها، أما ورش عن نافع إذا وصلها قرأ: (فكيف كان نكيرِي قل إنما أعظكم بواحدة)، ويعقوب يثبت الياء وصلاً ووقفاً: (نكيري)، ومعناها: إنكاري على هؤلاء كيف كان؟ وكيف كانت عقوبتي لهؤلاء؟ وكيف كان توقيفي لهم؟ وكيف كان عذابي لهؤلاء؟ إذاً: الإنكار هو العقوبة من الله سبحانه وتعالى، فقد كان إنكاره شديداً، إذ أهلكهم الله سبحانه وتعالى فلم يبق منهم أحداً، كيف صنع بقوم نوح؟ كيف صنع بعاد؟ كيف صنع بثمود؟ كيف صنع بأصحاب الأيكة وبقوم لوط؟ كيف صنع بفرعون وهامان وجنودهما؟ فالله عز وجل أنكر عليهم ما هم فيه إنكاراً عظيماً بعقوبة منه سبحانه، جعلتهم أمام الأمم التي تليهم عظة ومثلاً من الأمثال.(298/7)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة)
قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ} [سبأ:46] يعني: لهؤلاء {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] أي: كلمة واحدة أقولها لكم، موعظة أعظكم بها، خصلة واحدة أدعوكم إليها لتتعظوا، ولتأخذوا حذركم من ربكم سبحانه وتعالى، بأن تؤمنوا وأن تطيعوا، والكلمة الواحدة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم هي: قولوا: لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة العظيمة مفتاح الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) هذه الكلمة العظيمة التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى أن يقولها، (قل: لا إله إلا الله كلمة واحدة أحاج لك بها عند ربك).
هذه الكلمة العظيمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: أعظكم بها أن تقولوها، هذه الكلمة إذا تأملت معناها عرفت أن هؤلاء القوم كانوا يفهمون معنى هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فهم عرب، وهذه الكلمة عربية، فعرفوا الكلمة وعرفوا ما ينبني عليها، ولذلك رفضوا هذه الكلمة.
فقوله: (قل إنما أعظكم بواحدة)، أي: قولوا: لا إله إلا الله، معناها: لا أتوجه بعبادة لغيره إذا كان الإله إلهاً واحداً، ولكن الكفار لا يريدون أن يكون الصلة بينهم وبين الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يرفضون ذلك، يرفضون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصغر منهم سناً، وهناك من هو أقوى منه، وأكبر منه سناً، وأكثر منه مالاً، فلماذا يخصه الله بالرسالة حسب زعمهم؟ فهم لا يقبلون منه أمراً لهذه الأسباب، وإنما الأمر لله وحده سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] صلوات الله وسلامه عليه، إنما الوحي من ربه سبحانه.
فقال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] أي: أذكركم وأحذركم من سوء العاقبة بخصلة واحدة فقط: أن تتفكروا في هذه الخصلة الواحدة، قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46]، في هذه الموعظة التي أقولها لكم، أدعوكم إلى طاعة الله عز وجل، هذه هي الخصلة الواحدة والأمر الواحد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اعبدوا الله وحده، وهذه دعوة كل الأنبياء والرسل من قبله، دعوا قومهم: أن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] أي: قولوا: لا إله إلا الله لا نعبد إلا الله، والكفار كانوا يقرون بربوبية الله أنه الخالق وأنه الرازق، وأنه الذي ينفع ويضر سبحانه، لكنهم يعبدون معه غيره، ويقولون: نعبد هذه الأصنام لأنها تقربنا إلى الله، وسبب عبادتهم للأصنام كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] لذلك الذي كان يسلم منهم بعد ذلك كان يضحك على نفسه كثيراً عندما يذكر جهله وغباءه وكيف عبد هؤلاء الأصنام! وكيف يصنع التمثال من الحجر هو ويخته بيده ويطؤه بقدمه ثم يضربه بفأسه، ثم يعبده من دون الله! وأعجب من ذلك: أنه إذا لم يلق حجراً يصنع إلهاً من التمر فيعبده من دون الله حتى إذا جاع أكله، وكانوا يفعلون ذلك في السفر، أو يأخذ الشاة ويحلبها فيأخذ الحليب ويخلطه مع رملٍ من الأرض حتى يجعلها عجينة ثم يجعلها تمثالاً ثم يجففه بالشمس ويعبده من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا عاد من سفره ترك هذا التمثال، وعاد إلى صنمه الذي في بيته يعبده من دون الله! قال الله عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] فعبدوا هذه الأشياء من دون الله سبحانه، فلا يعقلون ولا يفهمون.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] خذوا هذه الخصلة الواحدة التي آمركم بها وتفكروا فيها، أنا دعوتكم أن تقولوا لا إله إلا الله فكذبتموني وقلتم عني: مجنون، وقلتم عني: ساحر، وقلتم: الكتاب هذا مفترى، إذاً: تفكروا في ذلك، قال: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، أن تقوموا لله مثنى، أي: اثنين اثنين (وفرادى) أي: كل واحد بنفسه حتى تصلوا إلى الأمر السليم، فالأمر المشكل لا يكون إلا كذلك، إذا أشكل الأمر على إنسان بدأ يزن الأمر في رأسه حتى يصل إلى شيء، أو أنه يأتي بإنسان عاقلٍ آخر ويجلس معه، فيكون كل واحد مرآة للآخر.
إذاً: التفكير السليم يحتاج الإنسان فيه إلى أن يكون وحده يفكر، وبعد ذلك يجلس مع غيره ليستعين به، لم يقل: لأن المجموعات لا يصلون إلى حل أبداً حين يفكرون، ولكن يصلون إلى حل عن طريق الشورى، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تستخير الله سبحانه وتعالى ونطلب منه الخير في الأمور، وصلاة الاستخارة ركعتان، من غير الفريضة يسأل فيها العبد ربه سبحانه وتعالى، يقول: (اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كان شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به)، فتستخير ربك وتفكر في هذا الأمر ثم تشاور مع غيرك فيه، فإذا فعلت ذلك فإن الله عز وجل يوفقك للصواب؛ لذلك فإن التفكير الجماعي لا يجدي؛ لأنهم كلهم كفرة، والكبراء يمنعون الصغار من التفكير لذلك لا يصلح التفكير في جماعة من الناس، إنما التفكير إذا أردت الاهتداء والوصول إلى الصواب أن تفكر وحدك لتكون منصفاً، ثم تشاور إنساناً آخر عاقلاً مثنى وفرادى فتصلون إلى الصواب يوماً من الأيام.
قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] هذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: (ثم تَّفكروا ما بصاحبكم من جنة) والوقف على (ثم تتفكروا) وقف تام عليها، وقيل: بل الوقف على ما بعدها (ما بصاحبكم من جنة)، وكلاهما له معنى؛ فإذا وقفنا {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] تمت هنا، إذاً: هنا أمرهم أن يقوموا لله مثنى وفرادى، ثم يقومون مخلصين يبتغون بقيامهم أن يوصلهم الله سبحانه إلى الحق، فيتفكرون في قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: قولوا: لا إله إلا الله، ثم تتفكروا، ثم قال لهم: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] أي: ليس بصاحبكم من جنة، هذا إذا كان على الابتداء بذلك: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] أما على الوصل فيها والوقف على (جنة) فيقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] هذه الجنة التي تزعمون أنها فيه، تفكروا هل فيه من جنة؟ وعلى ذلك تكون (ما) هنا موصولة بمعنى: الذي، أي: ثم تتفكروا في الذي زعمتم أن بصاحبكم جنة، وصاحبكم هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، هل فيه فعلاً جنون كما تقولون؟ إذاً: على الأولى نفي من الله عز وجل: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] أما على الثانية فهي وصل أي: تفكروا في الذي زعمتم ورميتموه به من جنون هل هو فعلاً كما تقولون.
قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} [سبأ:46] أي: ما هو إلا نذير لكم صلوات الله وسلامه عليه بين يدي عذاب شديد، وما هو إلا رسول، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، هذه وظيفته صلوات الله وسلامه عليه في هذه الدنيا، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144].
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46]، والمعنى: أنتم المحتاجون، فأمامكم عذاب أنتم لا ترونه، فأرسلنا إليكم هذا النبي الكريم الرسول البشير عليه الصلاة والسلام ليحذركم من هذا العذاب، وكان من الممكن ألا نرسل إليكم شيئاً، ونجازيكم ونعذبكم، ولكن الله سبحانه وتعالى رءوف بعباده، لطيف بهم حليم كريم سبحانه، يأبى أن يعذب حتى يقيم العذر والحجة على هؤلاء، فقال لهم سبحانه: (ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير) أي: منذر يخوفكم مما أمامكم من عذاب يستقبلكم عند الله سبحانه.
قال الله سبحانه في سورة الشورى للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] إذاً: هو لا يسأل أجراً أصلاً، ولكن إن سألتكم شيئاً أسألكم أن تراعوا المودة، فإن بيني وبينكم مودة، بيني وبينكم قرابة، فلا تقطعوا الأرحام، إما أن تدخلوا في الدين, وإما أن تتركوني أدعو غيركم، ولا داعي لأن تدخلوا طالما أنتم على ذلك، ولعل الله يهديكم في يوم من الأيام، ولكن راعوا المودة في القربى.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خلوا أموالكم؛ لأنهم قالوا له: إن كنت جئت بهذا الأمر تبتغي به ما لاً جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، فقال لهم: لا، ما أنا طالب منكم شيئاً من المال، إنما أدعوكم إلى الله سبحانه وتعالى.(298/8)
تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم)
قال الله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] أي: إن كنت طلبت منكم مالاً فخذوه، ولو أني سألتكم مالاً فهو لكم، وفي سورة الشورى قال سبحانه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] يعني: لا أسألكم عليه من أموالكم شيئاً، ولكن أطلب منكم أن تراعوا المودة التي بيني وبينكم، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:72].
إذاً: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وهذه قراءة الجمهور كما ذكرنا قبل ذلك، والقراءة الأخرى لـ قالون، وأبي جعفر، وأبي عمرو، والكسائي: (فهْو لكم) وقراءة نافع وأبي جعفر، وقراءة أبي عمرو، وقراءة ابن عامر، وحفص عن عاصم: (إن أجريَ إلا على الله) وباقي القراء يقرءونها: (إن أجريْ إلا على الله) منهم من يمد ومنهم من يقصر.
والمعنى: لا أطلب الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء شهيد، فهو شهيد علي فيما أطلب وفيما أقول، وشهيد عليكم سبحانه، وكلمة شهيد على صيغة مبالغة من الشاهد وهو سبحانه الذي يعلم ما يقولونه، ويشهد عليهم سبحانه وتعالى، والشهيد: الرقيب العالم الحاضر الذي يراقب أفعالكم وأقوالكم، والذي يراقبني ويراقبكم.
فلذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه لا يحتاج إلى أموالهم، فالله هو الرزاق الكريم الذي يرزقهم سبحانه، فيطلب منهم أن يستجيبوا، وإن لم يستجيبوا فليفكروا في أنفسهم هل في صاحبهم من جنة؟ هل صاحبهم هذا طلب منهم أشياء من دنياهم؟ إنما طلب منهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص وكلمة التوحيد، وأن يحيينا عليها وأن يتوفانا عليها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(298/9)
تفسير سورة سبأ [47 - 54]
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: أنا لا أريد منكم جعلاً ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم، ونصحي إياكم، وأمركم بعبادة الله، وإنما أطلب ثواب ذلك من عند الله العالم بجميع الأمور، وهو الذي جاء بالحق والشرع العظيم الذي به يكون زهوق الباطل واضمحلاله، وأخبر تعالى عن مآل هؤلاء المكذبين بالوحي وبالرسول، وأنه لا ينفعهم الإيمان يوم القيامة، فهذا شيء بعيد عنهم ومستحيل في حقهم.(299/1)
تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: الله سبحانه وتعالى شاهد يشهد على الناس؛ لأنه يعلم ما يظهرون ويعلم ما يسرون، فهو الشهيد سبحانه عليهم، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] فأعظم شهادة شهادة الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء، ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ)) أي: قل لهؤلاء الكفار: لا أطلب منكم أجراً على تبليغ رسالة الله سبحانه، وإنما أطلب من الله لا من أحد من خلقه كما قال سبحانه: ((إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)) وهو الشهيد على ذلك، يشهد عما أقول وأفعل، ويشهد عما تستجيبون أو تكذبون وتفعلون، قال: ((وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)).(299/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ:48] أي: ينزل الله سبحانه الحق من السماء، والحق هو الوحي والقرآن الذي أتانا من عند رب العالمين سبحانه، والحق خلاف الباطل.
فالله عز وجل يأتي بالحق ينزله على النبي صلوات الله وسلامه عليه، والتعبير هنا تعبير عظيم فقد قال: (يقذف) والقذف يكون بالحجر، تقول: فلان قذاف، يعني: يمسك الحجر ويحذف بها، ويمسك الرمح ويقذف به، فإذا رمى بالشيء اليسير فهذا هو الحذف، كأن يحذف بالحصا إذا حذفها بأصابعه، أما رميه بالشيء الكبير فهذا هو القذف، كأن يقذف بالصخر، فالله سبحانه وتعالى يشبه نزول الحق من السماء بهذا الحجر الذي يقذف به المضل الباطل، فالله عز وجل ينزل هذا القرآن من السماء، يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، فالقرآن نزل ليقضي على الباطل وليس ليتلطف به؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما كادت له قريش كيداً عظيماً، وأتعبوا النبي صلى الله عليه وسلم فقام لهم صلوات الله وسلامه عليه وقال: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح) فهؤلاء الكفار كانوا يتطاولون عليه صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا كلما طاف بالكعبة ومر بهؤلاء الكفار شتموه وسبوه صلوات الله وسلامه عليه، ثم وقف لهم فقال: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح، فهم لما قال ذلك خافوا وقالوا: اذهب يا أبا القاسم ما عهدناك جهولاً) يعني: لا تقلدنا بجهلنا، فلسنا متعودين منك الجهالة؛ ولذلك قال ربنا للمؤمنين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فهؤلاء الكفار لا ينفع معهم اللين؛ لأنهم متكبرون، ولكن أعد لهم القوة التي يخافون منها، وإذا كنت من أهل القوة فتلطف معهم لعلهم يدخلون في دينك، وإذا ظلوا على العناد وعلى العداوة وأظهروا ذلك فقاتلهم وأخفهم بذلك.
قوله: ((قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)) أي: ينزل الحق من السماء وحياً على النبي صلى الله عليه وسلم ليفضح الكفار ويقذف به الباطل، والقذيفة: هي الشيء الذي يرمى به، فكأن الوحي ينزل من السماء كالقذائف على الباطل وأهله فيدمغهم ويهلكهم ويمحوهم، فهو يقذف بالحق علام الغيوب سبحانه، فالذي يقذف هو الله سبحانه وتعالى، وهو علام الغيوب يعلم كل شيء سبحانه وما يستحقه هؤلاء، وأنت لا تعلم ولكن الله يعلم أنه لا يصلح معهم إلا قتالهم، لذلك أمرك بقتالهم وبالإعداد لهم، وأنزل عليك القرآن ليدمغ باطلهم وليشدخه ويزيله، ليهلك الباطل ويحق الحق بكلماته سبحانه.
فقوله: ((قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)) أي: أن الحق قوة والذي على الحق معهم قوة، معه قوة كتاب الله سبحانه ومعونة الله سبحانه؛ لأنه على الحق.
قوله: {الْغُيُوبِ} [سبأ:48] هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة (علام الغِيوب)، والغيوب جمع غيب، والله عز وجل يعلم ما خفي من الأشياء وما ظهر سبحانه.(299/3)
تفسير قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)
قال الله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] أي: جاء القرآن العظيم من عند ربنا، جاء الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالحق من عند الله سبحانه، قل يا محمد: جاء الحق الذي يعادي الباطل، والله سبحانه حق وكتابه حق ورسوله حق، ولذلك ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق) فهنا كل هذه الأشياء أثبتها الله سبحانه فهي الحق، وكل ما يقوله الله عز وجل فهو الحق.
قوله: ((قُلْ جَاءَ الْحَقُّ)) أي: من عند الله سبحانه ((وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) قال المفسرون: الباطل المقصود به في هذه الآية الشيطان، فالله عز وجل أتانا من عنده بهذا الكتاب العظيم، والشيطان يلقي في النفوس التكذيب والعناد والاستكبار والبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكفر بما جاء به، وهذا الباطل الذي اتبعتموه من دون الله هو الشيطان، فهل هذا الشيطان يخلق شيئاً؟ وهل يقدر على إعادة هذا الشيء؟ ((مَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) أي: لا يقدر أن يبدأ خلقاً ولا يقدر على إعادة خلق؛ لأنه عاجز ولا يملك شيئاً، وإنما الله هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده سبحانه وتعالى، فخلق الإنسان من عدم من لا شيء من تراب من ماء، وأوجد هذا الإنسان ثم يميته ويفنيه سبحانه وتعالى، ثم يعيده مرة ثانية.
أما ما يعبدون من دون الله كالشيطان والأصنام والهوى وغير ذلك من عبادة غير الله سبحانه، فهل هذه المعبودات تقدر على أن تبدأ خلقاً؟ لا تقدر، وقد بدأ الله الخلق ثم أفناه، فهل تقدر هذه الأشياء على إعادته؟ مستحيل، لا الشيطان يقدر ولا هذه المعبودات من دون الله عز وجل تقدر؛ لأن كل هذه الأشياء من الباطل وقد قال الله: ((وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)).(299/4)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50].
هم يتهمونه بأنه على الضلال صلوات الله وسلامه عليه، وأنه جاء بما لا يعرفونه، وجعل الآلهة إلهاً واحداً وقالوا: إن هذا لشيء عجاب، فالله عز وجل يأمره أن يخاطب عقولهم ويقول لهم: انظروا وتدبروا وتأملوا في هذا الذي جئتكم به هل هو باطل؟ هل فكرتم فيه حتى تعرفوا أنه حق أم باطل؟ وقد وعظهم قبل ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] فهو أمرهم بالتفكر، ثم تنزل معهم وقال: فرضنا أن هذا الشيء الذي جئتكم به باطل، أليس عندكم عقول تتبينون بها الباطل من الحق؟ إن كان باطلاً كما تزعمون فضلالي على نفسي وأنا أضر نفسي بهذا الشيء، وهل إنسان عاقل يريد أن يضر نفسه أو يضلها؟ إن ضللت كما تقولون فضلالي على نفسي، وأنا أحمل هذا الذنب عند الله سبحانه، وأنا الذي أقول لكم بكتاب الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] أي: لا أحد سيحمل عني ذنبي، وأنا الذي أحمل الذنب، أفأمنعكم من الذنب وأقع فيه؟ هل يعقل هذا الشيء؟ فقوله تعالى: ((قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ)) هذه هي الحقيقة، أي: إن كنت على ضلال فسأضر نفسي وسأقع في عذاب الله سبحانه، وإن كنت على هدى فبما يوحي إلي ربي، والهدى ليس من عندي، فأنا عشت معكم، ولم أقرأ كتباً لأهل الكتاب ولا سافرت خارج هذه البلدة حتى أتعلم من أناس خارجها، بل في سفراته المعدودة كانوا هم معه صلوات الله وسلامه عليه، فعلموا أنه لن يتلقى علماً من أحد من البشر، فمن أين أوتي بهذا العلم العظيم؟ يقول: ((وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)) أي: بالوحي من الله سبحانه وتعالى قد هداني.
وقوله: ((إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)) أي: الله سبحانه سميع يسمع كل شيء فيحاسب عما سمعه سبحانه، فهو سميع يسمع سبحانه الأصوات ما ظهر منها وما خفي منها، يسمع كل شيء، فهو قريب منكم أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد، وإن كان هو فوق سماواته سبحانه وتعالى، ولكنه قريب من عباده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فالله عز وجل قبل أن يتحرك إنسان لنجدتك ينقذك وينصرك سبحانه وتعالى، وقبل أن يتحرك أقرب الموجودين إليك ليؤذيك فالله أقرب منه يمنعه سبحانه وتعالى.(299/5)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب)
قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51].
(ولو ترى) هنا الصيغة صغية تعظيم لهذا الشيء، يعني: لو ترى هذا الشيء العظيم الذي نكلمك ونحدثك عنه، ((وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا)) يعني: لو ترى إذ فزعوا حين جاءت القيامة من عند الله سبحانه، وحين جاء الموت على هؤلاء فأفزعهم الله سبحانه وتعالى، وما استطاعوا هرباً ولا فكاكاً.
قوله: ((فَلا فَوْتَ)) أي: لا يفوتوننا ولا يهربون منا ولا يعجزوننا، فأين يذهبون من الله وهو أقرب إليهم من حبل الوريد؟ فلا يفوتون الله سبحانه؛ لأنه مستحيل أن يفلت أحد من قضاء الله وقدره، ويفلت من عقوبة الله سبحانه ومن الموت الذي ينزل، بله من حضور القيامة بين يدي الله عز وجل.
والفزع الكثير، يكون عند الموت، فالإنسان الكافر يرى مالم يكن في حسبانه فيفزع، وإذا دخل قبره فزع وقد جاءت الملائكة تسأله: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: لا أدري ولا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كذب به عليه الصلاة والسلام، وإذا قاموا من قبورهم في صيحة البعث والنشور يقومون مفزوعين يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] وإذا قاموا في الموقف العظيم وقيل: ادخلوا النار، فزعوا وطلبوا العود والتوبة.
وقوله تعالى: ((فَلا فوت)) أي: لا يفوتوننا أبداً، وهنا يقرؤها حمزة بالمد: ((فَلا فَوْتَ)) ويتوسط في المد فيها في قراءة له، كأن هذا تأكيد النفي، فيمدها كما يمد قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وإن كان العادة في المد أنه يستقبل بهمزة أو بساكن، ولكن هنا لـ حمزة قاعدة في ذلك وهي: أنه إذا كان يريد تأكيد النفي مد الألف فيها أو مد حرف المد فيها، فيقرأ: ((وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلآ فوت))، يعني: مستحيل أن يفوتوا من الله سبحانه وتعالى، و (ترى) يميلها.
قال سبحانه: ((وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)) أي: كل مكان في هذا الكون قريب من الله عز وجل، فالله عز وجل يأمر كوناً فيكون بأمره سبحانه، وكل أفعاله تصيب من يريد سبحانه وتعالى، ولا يفلت أحد فما هو آت من عند الله فهو قريب، وعباده لا يعجزونه ولا يهربون منه فهو أقرب إليهم من حبل وريدهم.(299/6)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)
قال الله تعالى {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52].
يعني: بالقرآن، متى قالوا هذا الشيء؟ قالوه لما بعثوا يوم القيامة ورأوا العذاب، حينما قالوا: آمنا وصدقنا ربنا، فأرجعنا مرة أخرى إلى الدنيا، فإن عدنا فإنا ظالمون، فيقول الله سبحانه وتعالى: ((وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ)) أي: آمنا بالوحي وآمنا بالقرآن وآمنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنى لهم تناول الإيمان من مكان بعيد؟ الآخرة بعيدة جداً، انتهى أمر الدنيا فلا رجعة مرة ثانية، فهم يقولون حين يعاينون العذاب: آمنا يا ربنا، و (أنى) أي: كيف، ومن يأتيهم بذلك؟ قوله: ((وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف (التناؤش) بالهمزة فيها، والتناوش بمعنى التناول، وكأنه يضرب مثلاً لشيء نراه في الدنيا، لو أن إنساناً أدلى حبلاً من عمارة عالية جداً فوصل نصف المسافة ويوجد إنسان على الأرض يريد أن يتناول هذا الحبل فهو يقفز حتى يمسك بهذا الحبل ولا يقدر، فأين الآخرة من هذه الدنيا؟ ((أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ)) أي: كيف لهم تناول الإيمان والرجوع إلى هذه الدنيا مرة ثانية وقد بعدوا؟ مستحيل أن يعودوا إلى الدنيا مرة ثانية، ومستحيل أن يقبل منهم ذلك من مكان بعيد.(299/7)
تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:53] الآن في الآخرة يريدون الرجوع إلى الدنيا، ولكن لا رجوع إليها مرة ثانية، وهم حينها يطلبون الإيمان وقد أعذر الله لهم وأنزل عليهم القرآن وأرسل إليهم رسولاً، فلا يقبل منهم ذلك.
فقوله: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)) أي: كفروا بالله عز وجل، وكفروا بالرجوع إلى الله بالبعث والنشور.
قوله: ((وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)) يعني: أنهم الآن صاروا في الآخرة ولا رجوع إلى الدنيا فهم يعذبون؛ لأنهم قد كفروا من قبل وهم في الدنيا، وقذفوا بالغيب، وهناك فرق بين قذف الله عز وجل كما قال: {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ:48]، وهم يقذفون بالغيب من مكان بعيد، وهذا مثل مأخوذ من البيئة التي هم فيها ويشاهدونها، وهذا مثلما يقال: قذف بالغيب من مكان بعيد، يعني: أراد أن يرمي بحجرة، ويريد أن يصيب بها وهو بعيد جداً لا يصل إلى هذا المكان، فهؤلاء يقذفون بالغيب من مكان بعيد، فالمعنى: أنهم رموا النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، ورموا هذا القرآن بما لا ينبغي، فقالوا عن هذا القرآن: هذا سحر من عنده، وقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، وكاذب وساحر وكاهن، فهذا من الرجم بالغيب، وكأنه الرمي بالظن، فهم يرجمون بالظنون وبالكلام الباطل الذي لا يفكرون فيه، فهؤلاء مثل إنسان أغمض عينيه وأخذ طوبة يريد أن يرمي بها إنساناً بعيداً عنه، فهل يصيب بها؟ لا، هذا رجم بالغيب؛ لأنه رجم وهو لا يرى الذي يريد أن يرجمه، كذلك هؤلاء، لم يتدبروا فيما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يفكروا في هذا القرآن، بل ظلوا يؤلفون من رءوسهم ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر وكذاب وكاهن، فيرجمون بالغيب من بعيد، فلا يريدون أن يتقربوا من النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه وينظروا ويتأملوا فيما جاء به من القرآن العظيم.
قال الله سبحانه: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)) أي: كفروا بالقرآن وكفروا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وكم قد قال لهم الله سبحانه: أفلا يعقلون؟ أفلا يتدبرون القرآن؟ فيأمرهم بالتفكر ويقول لهم: تدبروا في هذا القرآن، فلم يتدبروا ولم يتفكروا، بل أعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكتفوا بذلك بل إن هؤلاء الكفار كان إذا جاء إنسان من خارج مكة استقبلوه وقالوا له: احذر من هذا الرجل أن يسحرك، فهو الذي فرق بين الرجل وابنه، وفرق بين المرء وأهله، فهذا الذي يدخل مكة يخاف أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع في أذنيه كرسفاً إذا اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم ويغمض عينيه، فيتقرب من النبي صلى الله عليه وسلم شخص من هؤلاء ويقول: ما أتيتك حتى أخذ عليّ هؤلاء الكفار العهود وحلفوني عشر مرات ألا آتيك، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يفتح قلبه فيذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويسمع منه هذا الحق العظيم الذي جاء به، بل هم أنفسهم عرفوا أن هذا الحق هو من عند الله سبحانه وتعالى، فقد كان الكفار يتصنتون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن عند الكعبة بالليل حين يصلي صلوات الله وسلامه عليه، وهم الوليد بن المغيرة وأبو الجهل عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم من الكفار، فكان يسمعون نغمة القرآن ورصانته وبلاغته وفصاحته، وما فيه من حكم عظيمة وأحكام جميلة، وكان كل واحد منهم يختفي من الثاني، فيقفون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وقبل أن يظهر النور والضوء ينصرفون فتجمعهم الطريق الثلاثة، فيسأل بعضهم بعضاً أين كنت؟ فيقول: كنت أسمع محمداً، فيتواعدون ويتحالفون ألا يأتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بهم بعد أيام يرجعون، ومع ذلك لا يؤمنون به، والقرآن عجيب ومحير ومعجز، فقد أعجزهم وأتى بهم مرة ثانية لكي يستمعوا لهذا القرآن مرة ومرتين وثلاثاً، وفي الأخير يقولون: سنفتن الناس، فيتحالفون ألا يأتوا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقالوا للوليد بن المغيرة قل شيئاً في هذا القرآن، فقال: أسمع قليلاً منه ثم أقول ما فيه، فلما سمع القرآن قال لهم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فقالوا: أنت تقول هذا الشيء، فقال الوليد: نعم أنا الذي أقول هذا الشيء، فقام أبو جهل والثاني والثالث وقالوا: لقد سحرك محمد، وبعد ذلك قام أبو جهل الملعون بحيلة، فقام بجمع أموال من قريش وذهب بها إلى الوليد وقال: خذ هذه الأموال، فقال الوليد: لقد علمت أني أغناهم، فقال أبو جهل: أنت ما ذهبت لمحمد وسمعت منه إلا لكي يعطيك أموالاً، فخذ هذه الأموال فقد أتينا بها لك، فتأخذ الوليد النعرة والعصبية ويقوم ويقول كما يقولون: إنه ساحر، فقال الله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16] فهو بعدما سمع هذه الآيات عاند.
فهو بعدما قال: وما هو بقول البشر، قالوا له: ضحك عليك محمد وقال بأنه سيعطيك مالاً، فقال لهم: أنا سأفكر قليلاً، فذكر الله عز وجل لنا صورة هذا الإنسان وهو يفكر، وكيف أنه يريد أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف أن هذا من عند الله وما هو بقول البشر، فقال الله عز وجل يصور الصورة التي كان بها: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ} أي: لعن، لعنه الله سبحانه في تفكيره وتقدير هذا الذي يقوله، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19] يعني: كيف أعمل عقله وفكره ليقدر أشياء مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:20 - 21] أي: قعد يتلفت شمالاً ويميناً، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:22] كهيئة الإنسان الذي أخذه التفكير العميق فيعبث في هيئته، وبعد ذلك {أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:23 - 26] هذا الذي يستحقه، وسقر أسفل النار والعياذ بالله في قعر جهنم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29] سقر تهلك من يدخلها وتفنيه؛ فهي لا تبقي ولا تذر، ولكن الله سبحانه كتب لهم أن يخلدوا ويظلوا فيها فلا تفنيهم، وإنما تعذبهم العذاب الشديد، ثم قال: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] أي: تلوح أبشارهم وتحيلها وتذهب ألوانها الناضرة إلى ألوان سوداء فظيعة كالحة.
هذا واحد من هؤلاء الكفار فكيف بجميعهم؟!.
كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقرأ القرآن ويبكي، فيسمعه المشركون وخاصة نساء المشركين كن يسمعنه وهو في داره فيتقاذفن عليه كل واحدة تريد أن تسمع أبا بكر وهو يقرأ، كان يعجبهن ذلك ولعلهن يبكين لبكاء أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فتضايق المشركون من هذا الشيء، وقالوا: ستفتن نساءنا، وتجعلهن يدخلن في هذا الدين الذي أنت فيه، فيقولون: إما أن تترك هذا الذي أنت عليه، وإما ألا تجاورنا، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكر في الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يبقى، ثم بعد ذلك يخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه من مكة ويترك هؤلاء، ويدخل مرة ثانية في جوار ابن الدغنة في قصة طويلة.
إذاً: فالقرآن عجيب، وإذا سمعه أي إنسان يحن إليه ويميل بأذنه، يريد أن يسمعه مرة ومرتين وثلاثاً من حبه لهذا القرآن العظيم، فالكفار استمعوا للقرآن وأعجبهم، ولكن منعهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا في هذا الدين العظيم، والقرآن يشد الإنسان ويجذبه إليه حين يتجرد عن الهوى، فيهديه الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في هؤلاء الكفار -الذين تمنوا يوم القيامة العودة إلى الدنيا-: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)).(299/8)
تفسير قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)
قال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
قوله: (حيل بينهم) أي: حال بينهم حائل يستحيل أن يتجاوزوه؛ لأن الله قضى أنهم لن يعودوا مرة ثانية إلى هذه الدنيا.
قوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال: (يشتهون) ولم يقل: يريدون؛ لأن في ذلك الموطن يريدون الشهوة، وأشد أمنية الإنسان أن يشتهي شيئاً، فالواحد منهم يوم القيامة يشتهي أن يرجع إلى الدنيا؛ فيؤمن ويصدق ويصلي لله عز وجل ويوحده، لكن يقول هنا: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ)).
قوله: ((وَحِيلَ)) هنا الفعل مبني للمجهول، والجمهور على هذه القراءة ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ)) وقراءة ابن عامر والكسائي ورويس عن يعقوب بإشمام كسر الحاء ضمة؛ لبيان أن الفعل مبني للمجهول، فالله عز وجل يحيل بينهم وبينما يشتهون، لكن الصيغة للمجهول (حيل) وأصلها حويل، أي: بينهم وبينه، وبذلك يقرؤها هؤلاء القراء: ابن عامر والكسائي ورويس عن يعقوب.
قوله: ((كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)) أشياع جمع شيع، والشيع جمع شيعة، وشيعة الإنسان أقاربه ومن يحيطون به، وهنا ليس المقصود بها أقاربهم وإنما أشباههم وأمثالهم الذين تشبه هؤلاء بهم، فقد تشبهوا بقوم نوح بقوم عاد وبقوم ثمود، فهؤلاء أشياعهم وأشباههم في الباطل وفي الكفر، وكما فعل بالسابقين فحيل بينهم وبينما يتمنونه وما يشتهونه من إيمان ودخول في الدين، فهم لما جاءهم الموت تمنوا الرجوع، لكن لا تنفع نفس إيمانها في ذلك الوقت، أي: وقت الغرغرة، فكما حيل بينهم وبين الإيمان حيل بين هؤلاء وبينما يشتهون كما فعل بأشياعهم وأشباههم من قبل؛ لأنهم كانوا في الدنيا في شك مريب وفي شك عظيم، والريب بمعنى الشك، وكأن الكلمة {فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] يعني في شك عظيم جداً مثل ما تقول: هذا شيء عجيب، أي: غاية في العجب، كذلك هذا شك غاية في الشك والإرابة والبعد عن الحق.(299/9)
المناسبة بين أول سورة سبأ وبين آخرها
انظر كيف بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة العظيمة الجميلة بالحمد له سبحانه وكيف ختمها سبحانه وتعالى، فهي بدايتها بدأ بحمده سبحانه وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] وكأن هؤلاء المشركين يرفضون أن يعبدوا الله حامدين شاكرين له سبحانه متوجهين إليه بأفعالهم، فالله لا يحتاج إليهم سبحانه فهو الغني وهو يحمد نفسه جل في علاه.
فلله الحمد الذي يعلم ما يلج في الأرض، ويعلم ما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها سبحانه وتعالى، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، الغفور الذي يغفر لمن تاب وأناب إليه سبحانه.
ثم قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ:3] أي: بدأ بذكر قصة هؤلاء الكفار الذين قالوا: ليس هناك ساعة ولا قيامة، فقال الله سبحانه: إنهم قد سعوا في آيتنا معاجزين يريدون إبطال هذه الآيات، وقد قال لهم الذين أوتوا العلم: إن هذا هو الحق الذي جاء من عند الله سبحانه، فإذا بهم يتهكمون على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:7 - 8] وساق أفعال هؤلاء، وكيف أنهم اتبعوا الشيطان من دون الله، وكيف اتبعوا الهوى، وضرب لهم الأمثلة وذكر لهم قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف عبد ربه هو وأبوه داود عليه السلام، كذلك الجبال والطير يعبدون الله سبحانه، والكفار يأبون إلا الكفر الذي هم فيه، وغير ذلك مما ذكره الله عز وجل في أول السورة، فختم بالجزاء: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)) فهؤلاء يستحقون كل الذي فعله ربنا بهم؛ لأنهم في الدنيا لا يريدون أن يشكروا الله ولا أن يحمدوه سبحانه، ولا يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءوا يوم القيامة يقولون: أرجعنا، فأنى لهم التناوش والتناول في ذلك الموقف؟ فمستحيل أن يرجعوا إلى الدنيا ويخرجوا من النار.
فإذاً: قد أعذر من أنذر، فالله عز جل جاءهم بالحق فرفضوا ذلك، وساق لك كيف صنعوا مع ربهم، فهم يستحقون هذا الجزاء ولم يظلمهم الله سبحانه وتعالى، إذ حال بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل؛ لأنهم كانوا في شك مريب.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونسأل الله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(299/10)
تفسير سورة فاطر [1 - 2]
سورة فاطر من السور المكية، وفيها إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته على ما يلاقيه من قومه، وفيها تذكير الناس بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، كما أن فيها كشف نوايا الكفار وبيان غلطهم في عبادتهم غير الله، وفيها إنذارهم وتخويفهم من عذاب الله عز وجل، وغير ذلك مما بين وذكر في هذه السورة العظيمة.(300/1)
ترتيب سورة فاطر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:1 - 2].
هذه السورة الخامسة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى وهي من السور المكية التي كان نزولها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بزمن.
وسورة فاطر في ترتيب سور النزول هي الثالثة والأربعون من كتاب الله عز وجل، نزلت بعد نزول سورة الفرقان، وقبل نزول سورة مريم، فهي من السور المكية التي نزلت في أوائل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه.(300/2)
عدد آيات سورة فاطر
وهذه السورة عدد آياتها ستة وأربعون آية حسب العد المدني الأخير وحسب العد الدمشقي أيضاً، وحسب المصاحف الدمشقية، وأربعة وأربعون آية حسب العد في المصحف الحمصي، وخمسة وأربعون آية في باقي المصاحف.
وكما ذكرنا قبل ذلك: أن الخلاف في عد الآي يرجع إلى الوقف، أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد يكون بعض القراء عدوا آية واحدة عدها البعض الآخر آيتين، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في وسط هذه الآية، هذا هو سبب الاختلاف في العد، وليس زيادة آية أو نقصانها.(300/3)
أسماء سورة فاطر
وهذه السورة اسمها سورة فاطر؛ لأنه بدأها سبحانه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، وتسمى أيضاً بسورة الملائكة، لقوله سبحانه: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، فذكر الله عز وجل الملائكة مثنى وثلاث ورباع، فتسمى بسورة الملائكة؛ لذلك تجد بعض المفسرين يذكرون أنها سورة الملائكة، والأكثرون على أنها سورة فاطر، وهذه التسمية سواء كانت سورة الملائكة أو سورة فاطر لا تغير ما تحويه السورة.(300/4)
خصائص سورة فاطر
هذه السورة سورة مكية فيها خصائص السور المكية، مثل الاهتمام بأمر العقيدة وأمر توحيد الله سبحانه، والتركيز على الحساب والجزاء، وعلى ذكر يوم القيامة والبعث والنشور، والجنة والنار، وذكر أهل الجنة، وذكر أهل النار، وفيها إثبات تفرد الله سبحانه وتعالى بالإلهية، وأنه الإله وحده الذي يستحق أن يعبد دون غيره، فبدأها بقوله: ((الحمد لله)) يعني: كل الحمد له وحده لا شريك له سبحانه وتعالى، وجاء التأكيد على هذا المعنى في ثنايا السورة، فإنه مستحق للحمد على ما أبدع من الكائنات وخلقها سبحانه وتعالى، وهذه الكائنات فيها دلالة على أنه متفرد بالخلق والأمر وحده لا شريك له.(300/5)
أغراض سورة فاطر
هذه السورة من أغراضها إثبات صدق النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما جاء به من عند الله سبحانه، وأنه جاء بالذي جاء به الرسل من قبله عليهم الصلاة والسلام.
وفيها أيضاً: إثبات البعث وإثبات الدار الآخرة.
وفيها: تذكير الناس بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، كنعمة الإيجاد، فإنه أوجدكم سبحانه، ونعمة الإمداد؛ فإنه يمدكم ويعطيكم من فضله سبحانه وتعالى.
وما يعبد المشركون من دون الله لا يملكون من قطمير، كما قال سبحانه: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
أيضاً فيها: تثبيت النبي صلوات الله وسلامه عليه على ما يلاقيه من قومه، فيصبره ربه سبحانه وتعالى بما في هذه السورة من ذكر ذلك.
كذلك فيها كشف نوايا هؤلاء الكفار في إعراضهم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن ما منعهم من ذلك إلا أنهم تعززوا، وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو فيه من رسالة من عند الله، فحسدوه وأخذتهم العزة بالإثم.
وكذلك فيها الإنذار لهؤلاء وتخويفهم بأن ما حل بالسابقين قد يحل بهم كذلك.
وفيها أيضاً: الثناء على الذين تلقوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وتلقوا هذا الإسلام العظيم بالتصديق، وبضد ذلك حال المكذبين.
كذلك فيها تذكير الناس بأنهم يودون أن يرسل الله عز وجل إليهم رسولاً، فلما جاءهم رسول من عند رب العالمين كفروا به، وكذبوا وأعرضوا، فيذكرهم: ألم تكونوا تسألون الله سبحانه أن يرسل إليكم رسولاً؟ كذلك فيها أنه لا مفر لهم من حلول العذاب بهم على تكذيبهم، وقد شاهدوا آثار الأمم السابقة كيف فعل الله عز وجل بهم، فلا يغتر هؤلاء بإمهال الله سبحانه وتعالى، ولا يغتروا بالشيطان، قال سبحانه: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
هذه مجمل أغراض هذه السورة، وهي كلها من خصائص السور المكية.(300/6)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً)
هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله: {3الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] وقدمنا أنه في كتاب الله عز وجل خمس سور افتتحها الله سبحانه وتعالى بهذا الحمد العظيم له وحده، وهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وكذلك هذه السورة سورة فاطر، وكلها سور مكية، وكأن الخطاب موجه للخلق: (اعبدوا الله)، فرفض الكفار أن يعبدوه، وأن يشكروه سبحانه، وأن يحمدوه، فقال: (الحمد لله) أي: هو مستغنٍ عن حمدكم، ومستغنٍ عن شكركم وعبادتكم، فهو سبحانه وتعالى جعل له عباداً يعبدونه من الملائكة، عبدهم لنفسه سبحانه وتعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وخلق من الإنس ومن الجن من هم أولى بعبادته سبحانه وتعالى، وهو غني عن الخلق جميعهم.
وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] الحمد كما قدمنا هو بمعنى: الثناء الجميل والحسن على الله سبحانه وتعالى بأفعاله العظيمة الحسنة الجميلة، فهو يحمد بما يستحقه وبما هو أهل له، ويثنى عليه بجميل فعله سبحانه وتعالى.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، في هذه السورة اسمان له عز وجل: اسمه (الله)، واسمه (الفاطر) و (الله) بمعنى: المألوه، فالله هو المعبود الذي يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، فالخلق يعبدونه وحده لا شريك له، فقد أمرهم بعبادته فقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32].
وفطر الشيء بمعنى: خلقه، وبمعنى: أوجده على غير مثال سابق، وبمعنى: اخترعه وابتدعه.
فقوله: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، أي: أوجدهما ولم يكن قبل ذلك مثال لهما عمل على شكله وعادة الناس في الاختراعات أنهم يقلد بعضهم بعضاً، فهذا صنع شيئاً والثاني طور هذا الشيء، والثالث طوره إلى شيء آخر، فالطائرة التي تطير كيف وصلوا إلى صناعتها؟ بدءوا يفكرون كيف تطير هذه الطيور، والطيور من خلق الله سبحانه وتعالى، فجاء العباس بن فرناس وعمل له جناحين، وحاول أنه يطير من على الجبل بالجناحين، فوقع على الأرض، والذي بعده طور هذا الشيء، والثاني يطور ويطور، إلى أن اخترعوا الطائرة والصاروخ.
فالإنسان يخترع، لكنه يقلد من كان قبله أو يقلد خلقاً خلقه الله سبحانه وتعالى، لكن الله حين أوجد السماوات والأرض لم يكن قبلها سماء يخلق مثلها، ولم يكن قبل الأرض أرض أخرى يخلق مثلها، ولكن هو الذي فطرها، أي: أنشأها أول مرة ولم يكن لها مثال سابق قبل ذلك.
فالله عز وجل فاطر السماوات والأرض، أي: خلقها على غير مثال سابق، وابتدع إنشاءها، وأتقن صنعها، فهو فاطر، أي: خالق هذه الأشياء التي ليست على مثال سابق قبل ذلك.
يقول عبد الله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، أي: ما معنى فاطر السماوات الأرض؟ لأن فاطر معناه: خالق، وخالق تحتمل معنى الخلق، وتحتمل معنى التقدير، لكن هناك فرق بين فاطر وخالق.
فهنا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ما كنت أعرف معنى هذه الكلمة إلى أن جاء أعرابيان يختصمان إليه في بئر، فقال أحد الأعرابيين: أنا فطرتها.
فتبين لـ ابن عباس الآن معنى فطرها، أي: أنا حفرتها وأوجدتها قبل أن تكون قبل ذلك.
فقول الأعرابي: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها، وعلى هذا فمعنى: (فاطر السماوات والأرض)، أي: الذي ابتدأ خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق.
وقوله: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، الله عز وجل يذكر الآيات العظيمة، مثل خلق السماوات وخلق الإبل وغيرها، كما قال سبحانه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18]، فتتفكر في هذه السماء العظيمة، وتتفكر في الكون وفي الخلق الذي أمامك، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
ولما نزلت هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] التي في آخر سورة آل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلم في صبيحة نزولها: (لقد أنزل عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها)، فلما يقرأ الإنسان: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران:190] لا يجعل الآيات تمر هكذا على أذنه كأي شيء يسمعه، ولكن عليه أن يتدبر ويتفكر في خلق هذه السماوات، ويتفكر في السماء التي لا يصل إليها أحد أبداً، وفي النجوم التي في السماء، يقولون: إن أقرب نجم من هذه المجموعة إلينا يبعد عنا أربعة ونصف مليون سنة ضوئية، فمن يستطيع أن يصل إلى هذه المسافة؟ وكيف يصل إلى هذه المسافة بشر؟ مستحيل أن يصل إنسان إلى نجم من هذه النجوم، فإنه يريد أعماراً حتى يصل إليها، والبشر إنما وصلوا إلى ما حوال الأرض في فلك الأرض نفسها، والمجموعة الشمسية التي حول الشمس منها الأرض، ومنها الزهرة ومنها القمر ومنها المريخ وغيرها من المجموعة التي تدور في فلك واحد قريبة من بعضها، فقد يصل الإنسان إلى ذلك، أما أنه يصل إلى نجم من النجوم فلا، بل مستحيل أن يصل إليه.
وهذه النجوم البعيدة جداً في السماء جعلها الله سبحانه زينة للسماء الدنيا تحت السماء الدنيا، والإنسان لا يصل إلى هذه السماء، والسماء فيها مجرات، وفيها كواكب وشموس وأقمار، والمجرة التي نحن فيها تسمى بمجرة درب التبانة؛ ويشبهونها بالتبن، لأن منظرها مثل التبن وهذه المجرة عدد الكواكب التي فيها والأقمار والشموس مليارات، والأرض كوكب من الكواكب التي فيها، وهي أصغر الكواكب فيها، وهناك كواكب أخرى كثيرة أكبر منها بكثير.
هذه المجرة التي نحن فيها التي اطلع العلماء على وجه واحد فقط منها، وهو الوجه المواجه للأرض فقط، أما الذي خلفها والذي تحتها فإلى الآن لم يعرفوا عنه شيئا، يقولون: الذي قدرنا أن نحصي منها كذا وكذا مليار من الشموس ومن الأقمار، أي: في هذا الجزء الذي أطلعهم عليه ربنا، وكل يوم يخترعون شيئاً ينظرون به إلى هذه الأشياء، فتجدهم يقولون: اكتشفنا اليوم أن هذا نجم على بعد كذا سنة ضوئية، واكتشفنا نجماً آخر على بعد كذا، بل نقرأ في الجرائد أنهم عملوا في أمريكا تلسكوباً جديداً المرآة التي تتبعه تبلغ حوالي أربعين متراً أو نحو ذلك، وفيها أشياء يستطيع الشخص أن ينظر بها على بعد مئات الكيلو مترات، ولو أن شمعة تحترق على بعد كذا مليون كيلو متر لرأوها وهي تحترق بهذا التلسكوب، هذا التلسكوب صنعوه من أجل أن ينظروا به في خلق الله سبحانه وتعالى، ويجدون العجب العجاب، يجدون الكون الذي لا يتناهى، ويجدون أن الكون ممتلئ بالشموس والأقمار والنجوم، وكل شيء في فلكه يدور ويجري ليس فيها شيء يصطدم في شيء آخر، بل يسيرها الله سبحانه وتعالى في دقة متناهية، ويجدون أشياء عجيبة جداً، فالإنسان يتفكر في هذه الأشياء العظيمة، من الذي دبر أمرها؟ ومن الذي أوجدها؟ ومن الذي جعلها في هذا المدار التي هي فيه تدور ولا يرتطم بعضها ببعض؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
فالله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض وجعلها للإنسان، وعمرها له، وجعلها صالحة لأن يعيش عليها، وخلق له فيها الماء، وأخرج له فيها المرعى، وجعل له طعامه منها، وجعل له حيوانات يحمله عليها، ودبر أمرها، وما من شيء إلا والله عز وجل يعلم عنه كل شيء، كما قال عز وجل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8 - 9]، وقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فكل شيء عند الله في كتاب مبين، فعندما تتفكر في النمل الذي يسير في الأرض تقول: كم نملة يا ترى في هذه الأرض؟ ولماذا خلقها الله سبحانه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل هذا النمل الذي أوجده الله سبحانه على الأرض.
فالإنسان يتفكر، وتفكير الإنسان قاصر؛ لأنه ينظر من جهة واحدة فقط، لكن لم يحط بكل شيء علماً.
فالله بديع السماوات والأرض، وفاطر السماوات والأرض، جعل لكل شيء سبباً من الأسباب، فتجد النمل الذي تتأذى منه يحبه أناس آخرون، ويبحثون عنه، ففي بعض الأماكن مثلاً: يذهبون إلى الغابة ليأتوا بالنمل، ويقطعون أشجاراً من الغابة ممتلئة نملاً فيأخذونها فوق الجمال ويبيعونها في السوق، فيشتريها أناس من أصحاب البساتين التي فيها الموالح فتتسلط على فطريات معينة ومكروبات معينة، والنمل فقط هو الذي يقدر أن يقضي عليها، ولم لم يستخدموا النمل لهلك محصولهم، وهذا شيء عجيب جداً! لقد خلق الله النمل، وعرفه كيف يجمع غذاءه، فترى كل نملة من النمل تأتي إلى الحبة الموجودة في الأرض، فتخاف أن يأتي عليها الشتاء وتخاف أن تزرع هذه الحبة، فتأكلها من المكان الذي تنبت منه؛ من أجل أن تفسد الحبة ولا تزرع بعد ذلك، فالله سبحانه هو الذي أعطاها هذا التفكير لكي تصنع ذلك، قال عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ(300/7)
عظم خلق الملائكة
قال الله سبحانه عن نفسه: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، أخبرك الله عز وجل عما ترى في السماء من العجب، وأخبرك أن الأرض فيها العجب، فأنت نظرت فوجدت ما قاله الله حقاً.
والآن يخبرك عز وجل عما لا تراه، فتصدق كما صدقت في الأول، فالملائكة خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، جعلهم الله عباداً له مطيعين، كما قال عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فمنذ أن خلقت الملائكة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى وهم يعبدون الله ولا يعصون لله أمراً، هؤلاء الملائكة أخبر سبحانه أنه خلقهم: {أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر:1].
وقوله: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر:1] أي: رسلاً بين الله عز وجل وبين من شاء ممن اصطفاه الله من خلقه، من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فينزل الملك بالوحي من السماء إلى الأرض، والعادة أن الذي ينزل هو جبريل، وقد ينزل الله عز وجل غيره، فمن الملائكة الرسل بين السماء والأرض جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فإن ملك الموت رسول رب العالمين ليقبض أرواح الخلق، فجعل الله عز وجل من الملائكة رسلاً ينزلون إلى هذه الأرض، لما يشاءه الله سبحانه.
ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا)، يعني: أنت تنزل علينا في أوقات معينة فلماذا لا تأتي أكثر من ذلك؟ وجبريل عليه السلام يحب النبي صلوات الله وسلامه عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64])، فلا تشغل نفسك بذلك، واشغل نفسك بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي يرسل الملائكة، واشغل نفسك بالمرسِل وهو الله سبحانه وتعالى عن هذا المرسَل الذي يأتي إليك بأمر الله سبحانه.
وهؤلاء الملائكة العظام عليهم السلام جعل الله عز وجل لهم أجنحة، وأنت تتفكر: لماذا الأجنحة؟ هل هي ليطيروا بها؟ فالمسافة التي بين السماء والأرض مستحيل أن يقطعها صاروخ، أو تقطعها طائرة أو نحو ذلك، لكن الملك يقطعها في وقت قليل جداً، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، ونزول الملك إلى هذه الأرض يكون في وقت يسير جداً، فقد كان ينزل من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشياً في الصباح وفي المساء، والوقت الذي ينزل فيه لا يقدر مخلوق أن يصل إليه إلا في هذا القدر: ألف سنة، فلذلك خلق لهم الأجنحة ((مثنى))، كلمة (مثنى) معناها: اثنين اثنين، ((وثلاث)) يعني: ثلاثة ثلاثة، ((ورباع)) يعني: أربعة أربعة، يعني: من الملائكة من لهم جناحان جناحان، ومنهم -من الملائكة- من له ثلاثة ثلاثة، ومنهم من له أربعة أجنحة، فيقضون أمر الله سبحانه وتعالى بحسب ما يأمرهم سبحانه وتعالى.
وقوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] هل هذا أكبر عدد؟ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى جبريل على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها مرتين له ستمائة جناح)، فكان له هذا العدد الضخم من الأجنحة التي خلقها الله عز وجل له.
وأما كيف تكون؟ فلا ندري، فهذا خلق الله، وهو خلق عظيم جداً رآه بين السماء والأرض على هذه الهيئة العظيمة، ولما صعد بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ووصل إلى سدرة المنتهى إذا به يتواضع، إلى أن صار كالحلس البالي، والحلس هو: الشيء الذي تضعه فوق الجمل حتى تقعد عليه، هذا الملك العظيم الذي سدت أجنحته ما بين المشرق والمغرب لما وصل إلى سدرة المنتهى تواضع، فإذا به كالحلس البالي من تواضعه للرب سبحانه وتعالى.
وجاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح)، وحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما رآه في الملائكة فقال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وإذا كان طول عنقه على هذه الهيئة، فكيف بباقي جسده؟(300/8)
تفسير قوله تعالى (يزيد في الخلق ما يشاء)
قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] أي: يزيد زيادة عددية وزيادة كيفية في هذا الخلق، وفيما يعطيه من الوصف، فالله عز وجل يزيد في الخلق ما يشاء، فيفنى خلقاً خلقه سبحانه، ويخلق خلقاً آخر جديداً، ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
فعدد خلقه يزيد، فالبشر كانوا مليوناً ثم صاروا خمسة مليون ولا زالوا يزيدون وهكذا يزيد الجن والملائكة، والله يزيد ما يشاء في العدد وفي كيفية هذا الخلق، فيخلق خلقاً كالخلق الأول، ويخلق خلقاً آخر ليس كالذي خلقه من قبل، وإنما يخلقه بكيفية أخرى جديدة، فالله يفطر الأشياء ويبتدع ما يشاء سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يقول: ((يزيد في الخلق ما يشاء))، ويدخل فيها أي شيء يزيده الله سبحانه وتعالى في الخلق من طول في قامة الإنسان أو الحيوان أو غيره، ومن اعتدال في الصور، ومن تمام في الأعضاء، وقوة في البطش ويعطي الحصافة في العقل، ويعطي الصحة في البدن، ويعطي الجزالة في الرأي، ويعطي الجرأة في القلب، ويعطي السماحة في النفس، ويعطي بعداً عن الآفات، ويعطي ذلاقة في اللسان وفي التعبير وفي البيان والفصاحة، ويعطي اللباقة في تكلم الإنسان، ويعطي حسن الهيئة وحسن مزاولة الأمور وما أشبه ذلك، فيزيد ما يشاء سبحانه وتعالى لمن يشاء من خلقه، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]، أي: يفعل ما يشاء سبحانه، ولا شيء يعجزه سبحانه.(300/9)
تفسير قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)
قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2] ففي الآية الأولى قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] فلا تعجب، فالله على كل شيء قدير، وهنا يقول: ((وهو العزيز)) أي: الغالب الذي لا يمانع، ((إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون))، ومستحيل أن يعترض أحد على ما يريده الله، فيمنع ما يريده الله، وليس هذا ممكن أبداً.
فالله سبحانه وتعالى هو العزيز الغالب القاهر سبحانه وتعالى.
((الحكيم)) الذي يحكم كل شيء، ويخلق كل شيء بإتقان وبحكمة، فلا يدخل في خلقه خلل، وهو الحاكم على كل شيء، يحكم بأمره ما يريد، المحكم للأشياء سبحانه وتعالى.
فالله هو الغالب ذو الحكمة سبحانه، القاهر الذي له حكمة في كل أمر من أموره، ويحكم كل أمر من أموره.
وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فاطر:2] أي: برحمته وبقوته سبحانه وتعالى وبحكمته: ((فلا ممسك لها))، أي: لا أحد يمسك رحمة الله سبحانه إذا فتحها؛ فهو العزيز الذي لا يغالب، ولا يقدر أحد أن يمنع رحمته عن أحد من خلقه سبحانه؛ لأنه العزيز سبحانه.
فإذا أراد أن تمطر السماء فمستحيل أن يمنع الخلق هذا المطر، ولن يستطيعوا أن يمنعوا المطر، فإذا أمسك الله ذلك، وأقحط عليهم دنياهم، فهل يقدرون أن يأتوا بسحابة وينزلوا المطر منها؟ لا يقدرون.
وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، لا يقدر أحد أن يرسل ما يمسكه الله، فإذا منع الله فليس لأحد أن يقف ويقول: أنا أرسل هذا الذي منعه الله، لا يقدر أبداً، فإذا منع الله أحداً من خلقه رزقاً فلا يقدر أحد أن يأتيه بهذا الرزق ولا بغيره؛ لأن الله هو العزيز الغالب حين أعطى وحين منع سبحانه وتعالى، الحكيم في عطائه وفي منعه.
قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر:2] أي: لهذا الذي أمسكه ومنعه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].
نسأل الله من فضله ورحمته؛ فإنه لا يملكها إلا هو، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(300/10)
تفسير سورة فاطر [2 - 8]
يذكر الله سبحانه عباده المؤمنين بفضله عليهم، وأنه هو القادر الوحيد على أن ينزل على عباده من رحماته، وأنه لا يستطيع أي مخلوق كان أن يمسك رحمة الله إذا أرسلها سبحانه، ثم يخاطب سبحانه خليله عليه الصلاة والسلام بكلمات هي ألطف ما تكون ليبين له أن عمله مقتصر في الدعوة، وأن الهداية خاصة برب العزة والجلال.(301/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم وهو العزيز الحكيم)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:2 - 8].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن رحمته العظيمة التي يفتحها لمن يشاء من خلقه، ولا يقدر أحد على ردها أو على إمساكها، فقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ} [فاطر:2]، فمن ذا الذي يمسك رحمة الله إن فتحها لأحد من خلقه؟! وكذلك إن أمسك سبحانه تبارك وتعالى عن الخلق شيئاً وحجزه ومنعه، من الذي يستطيع أن يرسله بعد الله سبحانه؟! لا إله إلا هو سبحانه، فهو العزيز الحكيم، والغالب القاهر الذي إذا قضى شيئاً لا يقدر أحد أن يمنعه، وهو الحكيم، يقدر ما يشاء وقت ما يشاء سبحانه.
ثم يقول الله سبحانه للناس جميعهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر:3].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [فاطر:3]، ففي الخطاب المكي دائماً ينادي: يا أيها الناس! فالقليل من أهل مكة هم المؤمنون، والكثير منهم مشركون، فيجمع بندائه جميع الناس، بخلاف الخطاب المدني أن فالعادة في الخطاب المدني يقول: يا أيها الذين آمنوا؛ لأن الأكثر في المدينة هم المؤمنون.
{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [فاطر:3]، أي: اذكر ولا تنسى هذه النعمة ولا تسكت عنها، ولا تكتمها، وقل للخلق: قد أنعم الله عز وجل علينا بنعم عظيمة.
ولفظ: نعمة جنس، ولذلك لم يجمعها، فلم يقل: نعمات، فإذا جاء الجنس دخل فيه الواحد والاثنان والجمع والقليل والكثير.
فإذا قال: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [فاطر:3]، أي: جميع النعم العظيمة من الله عز وجل التي أنعم بها على خلقه، فكل نعمة أنعم الله عز وجل بها على أحد من خلقه داخلة تحت هذه اللفظة، فاذكروا كيف أعطاكم السمع والبصر والفؤاد، وكيف أعطاكم اليد والرجل وأعطاكم العقل والعمل، والرزق، وخلق لكم السماوات، والأرضين والجبال، وأرسل الرياح، فاذكروا هذه النعم تعرفوا من الذي خلقها ومن الذي أنعم بها عليكم، فهو جدير أن تعبدوه وأن تشكروه وحده لا شريك له.
(ونعمة)، كتبت في أكثر المصاحف بالتاء، فإذا وقفت عليها فتقف بالتاء، والجمهور على ذلك.
ولكن ابن كثير وكذلك أبا عمرو ويعقوب البصريين، والكسائي يقرءونها بالهاء فيقولون: (اذكروا نعمة).
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، {غَيْرُ} [فاطر:3]، بالضم وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي وخلف: (هل من خالق غيِرِ الله يرزقكم من السماء والأرض)، بالكسر على أنها وصف لما قبلها، والأصل في خالق، أنه مرفوع.
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]،
و
الجواب
لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو سأل هؤلاء الكفار من الذي خلقكم؟ يقولون: الله، ولو لم ينطقوا هذا، فقد شهد الله عليهم أنهم يقرون بذلك في قلوبهم ويقرون أن الله وحده هو الذي يخلق، وأنه وحده هو الذي يرزق وأنه وحده الذي ينعم سبحانه تبارك وتعالى.
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]، أي: هل يوجد أحد آخر غير الله يرزقكم من السماء فيفتح عليكم البركات من السماء وينزل عليكم من السماء ماء فيسقيكم ويطعمكم ويرزقكم ويخرج لكم الثمرات من الأرض فيطعمكم؟ والجوب: لا خالق غير الله سبحانه وتعالى، فالمشركون يعرفون هذا الجواب؛ لأنهم لم يشركوا في ربوبيته سبحانه، فلا أحد من المشركين يقول: إن الرب اثنان ولكنهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الرب واحد، فقد جاء عمران بن حصين عندما كان كافراً، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد اليوم يا حصين؟! قال: سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض، فقال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء)، فهو الذي يرجوه لنفعه وضره وهو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويحيي ويميت وينفع ويضر، ويعبدون هذه الآلهة، بسبب: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فالشيطان زين لهم هذا الكلام الذي لا قيمة له، ولا معنى له، وقالوا: نحن أحقر من أن نعبد الله مباشرة، يقولون هذا كذباً وبهتاناً وزوراً، فيفترون على الله الكذب، ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فيقول الله عز وجل مجيباً: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163] يعني لا يستحق العبادة إلا هو، فلا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3]، الإفك بمعنى: الصرف: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3] أي: فكيف تصرفون عن توحيده سبحانه، و (أنى يؤفكون) من الإفك وهو الافتراء وكيف يفترون عليه سبحانه تبارك وتعالى فيصرفهم كذبهم عن الله سبحانه تبارك وتعالى؟ فإذاً كيف صرفوا عن توحيد الله سبحانه، هل هؤلاء لهم عقول، وهل هم ينظرون ويتفكرون ويعقلون؟ إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون لعبدوا الله وحده لا شريك له، فانظر وتعجب كيف صرفوا عن توحيد الله وقد عرفوا أنه هو الرب وحده، فعبدوا غير الله تبارك وتعالى.(301/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك)
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4]، أي: إذا دعوتهم إلى ربك فكذبوك فليس هذا بالشيء الجديد: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر:4]، كقوم قوم نوح من قبل فقد كذبوا نبيهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124].
وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141 - 142].
وقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، أي: فلست أول نبي يكذب، ولكن كذب قبلك أنبياء ورسل عليهم الصلاة والسلام.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4]، أي: الأمور كلها راجعة إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ليجازي العباد على ما صنعوا، والذي يرجعها هو الله سبحانه وتعالى، وفي الآية قراءتان: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم جميعهم يقرءون: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4] وباقي القراء يقرءون: (وإلى الله تَرجِعُ الأمور).
فكل أمر يحدث راجع إلى الله ليسأل صاحبه، لم فعلت هذا؟ ليجازي بذلك كل عامل بما عمل.
فأي قول يقال وأي فعل يفعل، وكل تدبير يكون فهو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء راجع إليه فإلى الله تصير الأمور، أي مصيرها إليه، والجزاء عليه سبحانه وتعالى.(301/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، كرر النداء مرة ثانية.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:5]، وقد وعد الله سبحانه بالثواب على الإيمان والطاعة، ووعد بالعقوبة على الكفر والمعصية، ووعدكم بأنكم ترجعون إلى الله سبحانه، فوعده حق ولا يخلف الميعاد، وأمره آت حتى وإن نظرنا أنه بعيد، فلا شيء بعيد على الله سبحانه وتعالى فكل شيء قريب، ولذلك يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، أي: سيأتي ولكونه يقيناً فهو في حكم أنه قد أتى، فالجنة آتية والنار آتية، والجزاء آت والعقوبة آتية، والله عز وجل حسابه آت، والموت آت لا مفر منه.
{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:5]، أي: لا تغتروا بهذه الدنيا فإن الدنيا تغر الإنسان وإذا تزخرفت له وتزينت له نسي نفسه، ونسي ربه سبحانه، ونسي دينه، وطمع فيها وكأنه سيعيش فيها ويخلد فيها أبداً، والإنسان نهم بطبيعته يريد المزيد، فكلما أعطي من الدنيا طلب الأكثر، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى له ثانياً، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
وهذه كانت آية في كتاب الله عز وجل فنسخت تلاوتها، وبقي حكمها، وهنا يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم، إن ابن آدم طماع فلو أعطاه الله عز وجل وادياً من ذهب، لتمنى وادياً ثانياً، ولو أعطاه الثاني لتمنى ثالثاً، وهو لا يدري ماذا سيعمل به؛ لأنه لا يفكر كيف يصنع في هذا الشيء، فيطلب ما لا يقدر عليه، ويطلب ما لا ينتفع به، ويطلب الكثير وهو موقن أنه سيموت، وأنه سيترك الذي جمعه، ولكنه طمع الإنسان ولو طمعت فيما عند الله سبحانه لكان خيراً لك وأبقى عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من طلب العلم، كلما ازداد علماً، ازداد علماً بجهله، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: كلما زدت علماً زادني ذلك علماً بجهلي، هذا يقول ذلك، وهو من هو؟! فالإنسان كلما ازداد علماً عرف أن فوقه من هو أعلم منه، وأنه تعلم من أهل العلم الذين كانوا أعلم منه بذلك، فيتواضع بطلب العلم؛ لأنه يزداد تواضعاً، فكلما فتحت له أبواب العلم فتح عليه أن يعرف قدر نفسه، وأن علام الغيوب هو الله سبحانه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فيتواضع العبد لله سبحانه، ويزداد تواضعاً، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وكذلك في أمر الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على أحد صار نهماً جشعاً، يطلب الدنيا، ولا يستكفي بما عنده، ولا يقنع بالشيء القليل الذي كان يأخذه بل يطلب الكثير حتى يشيب ولا يزال قلبه شاباً على حب الدنيا، فيصير الإنسان شيخاً كبيراً هرماً عجوزاً، وهو يطلب الدنيا، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، (يشيب الشيخ وقلبه شاب على حب الدنيا)، كما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
أي: لا تغتروا بالدنيا وزخرفها وزينتها، ولا تغتروا بما يزينه لكم الشيطان من شهوات ومن شبهات، فحذرنا من الدنيا وغرور الدنيا.
فالدنيا إما أن تكون لإنسان داراً يستمتع فيها بطاعة الله كما قال بعض الحكماء: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وجنة الدنيا هي جنة الطاعة، وجنة حب الله سبحانه، فالإنسان المؤمن يطيع الله ويرضى عن الله، فيرضيه الله تبارك وتعالى.
{الْغَرُورُ} [فاطر:5]، جاء في القرآن بالضم: (الغُرُور)، وجاء في القرآن بالفتح: {الْغَرُورُ} [فاطر:5]، فالغَرور هو صاحب الغُرور، أي: الشيطان، والغُرور: الباطل والزخارف التي في الدنيا، فإذاً لا تغتروا بما يقوله لكم الشيطان ويخدعكم به، والغرور هنا هو الشيطان لعنة الله عليه.(301/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً)
قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، أي: احذروا أن يغركم بالله سبحانه تبارك وتعالى وأن يزين لكم الباطل، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فالشياطين يوحون إلى أشياعهم، وأوليائهم، ويوسوسون إليهم حتى يجادلوا المؤمنين بإيقاع الشبهات في قلوبهم، ويلبسون عليهم ليلبسوا عليهم دينهم، فأولياء الشيطان يسول ويزين لهم القول الباطل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:137]، ولكنه ترك للشيطان أن يوسوس حتى يجازيه ويجازي أتباعه وأشياعه يوم القيامة.
فحذر المؤمنين وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، فالشيطان يوسوس للإنسان، ويدفع أولياءه ليجادلوا المؤمنين، ولا يملك أكثر من الجدل وأكثر من الوسوسة في القلوب، ولكن الله أنزل الكتاب وأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ووهب الناس القلوب والعقول حتى يفهموا عن الله سبحانه، فأعذر إليهم وحذرهم، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6].
وبين لنا أنه لما خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في الجنة كان الشيطان سبب خروجه من الجنة، وأنه وسوس إليه وإلى زوجه حواء حتى أكلا من الشجرة: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122].
فالشيطان سبب بلاء الإنسان، وسبب خروج آدم من الجنة، فهو عدو لأبيك آدم أفلا يكون عدواً لك؟! وهو الذي قال لربه سبحانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فتوعد ابن آدم بأنه سيصنع به ذلك، وقال لربه سبحانه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء:62]، {لَأَحْتَنِكَنَّ} [الإسراء:62]، يعني سأزين للذرية وأحتال لها الحيل، حتى أخرجهم عن الدين وأضلهم وأدخلهم النار والعياذ بالله، فهو يريد أن يأخذ ذرية آدم معه إلى النار، أو من استطاع أن يأخذه منهم معه إلى النار.
فلذلك قال لربه سبحانه تبارك وتعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، وكأنه يقول: لن يتجاوزه إنسان إلا وفتنته وأغويته.
قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، أي: عادوا الشيطان ولا تصادقوه، ولا تسمعوا لوسوسته، وتزيينه، {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فالشيطان يدعو أتباعه وأشياعه ليكونوا معه في أصحاب السعير، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله ينادى على الإنسان الذي يكذب ويفتري ويترك ربه ويتبع الشيطان: يا كذاب يا مفتري! اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر.
وكل إنسان من أهل المعاصي يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول: الشيطان الذي عمل لي كذا والشيطان هو الذي وسوس، ولكن أنت الذي اخترت، وأنت الذي اكتسبت، والله عز وجل يحاسبك على كسبك أنت: لم أطعت الشيطان، وقد حذرك الله سبحانه وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]؟ يقول ابن السماك: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! فالعجب ممن عرف الله سبحانه الذي أحسن إليه ومن عليه وأعطاه من كل النعم، وإذا به يعصي ربه سبحانه، ويطيع الشيطان الذي قد عرف عداوته، وعرف كيف عادى آدم، وبني آدم، وكيف جعل ابن آدم يقتل أخاه بغير ذنب وجرم، وكيف جعل الناس يكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فإذا بالإنسان يستمع للشيطان ويتبعه ويترك ربه سبحانه تبارك وتعالى.
السعير أي: النار، والنار أسماؤها كثيرة، وأوصاف هذه الأسماء عجيبة تدل على منظرها القبيح، وهناك فرق بين نار الدنيا ونار الآخرة، فنار الآخرة نار سوداء مظلمة والعياذ بالله، ونار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فالله تبارك وتعالى خففها لينتفع بها البشر، وإلا لأحرقت كل شيء، أما نار الآخرة فوقودها الناس والحجارة، ونحن ما رأينا ناراً في الدنيا توقدها الحجارة، وهذا يدل على أن حرها قد بلغ أقصى ما يكون من درجات الحرارة، ومن أسماء النار جهنم، وهي مأخوذة من الجهومة، وفيها معنى الغضب ومعنى العبوس ومعنى الظلمة.
ومن أسمائها: السعير، وهي مأخوذة من الاستعارة، فهي نار مستعرة كالمجنونة، تقول: فلان مسعور، وفلان به سعار، أي: به جنون، أصابه داء الكلب فصار كالمجنون، فهي نار مستعرة عظيمة، تفور وتجذب من جاء إليها، أو من وكلت به، وهي مضطرمة أشد اضطرام، مشتعلة أعظم الاشتعال والاستعار.(301/5)
تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا لهم عذاب شديد)
قال الله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7]، {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر:7]، أي: الذين كفروا فتابعوا الشيطان وقد حذرهم الله سبحانه، فكفروا بالله، وأنكروا نعم الله سبحانه، وجحدوا ربهم سبحانه، وأشركوا معه غيره فعبدوا غير الله، وجعلوا آلهة مع الله سبحانه، فلهم عذاب شديد.
وإذا قال الله عذاباً شديداً، فمهما تخيلت فلن يصل بك خيالك لشدة هذا العذاب، قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]، ومعنى أمه: ما يؤمه ويقصده، فيؤم ويقصد ويدخل إلى الهاوية التي تهوي به في نار جهنم والعياذ بالله، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، لم تر أنت هذه الهاوية من قبل، {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11]، أي: مشتعلة مستعرة قد بلغت أقصى درجات الحرارة والعياذ بالله.
وهؤلاء هم الذين يأتون يوم القيامة ويذكرهم ربهم قائلاً: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107].
وحالهم في النار أنهم عابسوا الوجوه: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42]، وقد كلحت وجوههم: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، أي: كلحتهم النار وشوتهم والعياذ بالله، فإذا نظر الإنسان إلى صورة إنسان قد احترقت فتجد أن شفته العلوية تقلصت إلى أعلى، وشفته السفلى إلى أسفل وبدت أسنانه، ولعل هذا يموت في الدنيا فيستريح مما هو فيه، لكن أما أهل النار فلا يستريحون.
أما المؤمنون، فبرحمة الله العظيمة الواسعة يدخلهم جنته، وهم فيها ينعمون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} [فاطر:7]، وليس المقصود بالإيمان الإيمان بالقول فقط، ولكن المؤمن من آمن بالقول وعمل الأعمال الصالحة فأتى بأركان الإسلام، وأتى بما فرضه الله عز وجل عليه، فلا بد من العمل، ولا يغتر الشخص بقوله: أنا مسلم ويترك العمل.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فاطر:7]، فآمن بقلبه وظهر أثر إيمان القلب على اللسان بذكر الله عز وجل، وعلى الجوارح بأعمال الطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، والخوف من الله سبحانه، والرغبة والرجاء في الله سبحانه، وحب الله وأولياء الله، وبغض أعداء الله من الكفرة والمشركين والمنافقين.
قال تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [فاطر:7]، أي: يغفر الذنوب ويمحوها تبارك وتعالى، ويسترها ويكفرها، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11]، وأعظم الأجر جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.(301/6)
تفسير قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله)
قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، ذكر الله السؤال ولم يذكر الجواب؛ لأن الجواب معروف، وهو أن من زين له سوء عمله، مصيبته عظيمة عند الله سبحانه، قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف:103]، أي: هل تعرف من أخسر الناس عملاً؟ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، أي: أنهم يظنون أنهم محسنون، وأقسى ما يكون على الإنسان إذا ظن بنفسه أنه يعمل شيئاً جيداً، وهو لا قيمة له، فإذا جاء يوم القيامة كان أشد ما يكون عليه أن ينظر إلى أعماله التي كان يعملها وهي تطير أمامه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف:104]، فقد كان الكفار يطعمون ويسقون الحجيج، ويكرمون من يأتي إلى بيت الله، ولكن اعتقادهم باطل وقلوبهم خربة، فهم يعبدون غير الله سبحانه، وإذا قدموا يوم القيامة وجدوا كل هذا ذهب هباءً منثوراً، ولا يستحقون عليه شيئاً؛ لأنك لكي تستحق الأجر لا بد وأن تأتي بأصل من أصول الإيمان بالله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، فلا وزن لهم يوم القيامة عند الله سبحانه ولا قيمة لأعمالهم الصالحة التي عملوها، وهم على الكفر.
إذاً: فمن زين لهم الأعمال الباطلة فعملوها وظنوها حسنة، لا تحزن عليهم.
قال الله سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8].
أي: الهدى بيد الله، والضلال بيده سبحانه تبارك وتعالى، يهدي من يشاء، ويخذل من يشاء.
وإذا خذل إنساناً فثق أن هذا عدل من الله سبحانه، وأنه لا يستحق إلا ذلك، ومن هداه الله فقد تفضل عليه سبحانه، فهو يتفضل على عبده بأن يهديه، وأن يعينه على طاعته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8].
فالكل يرجع إلى مشيئة الله وإلى حكمته وإلى عدله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، أي: احذر أن تقتل نفسك على هؤلاء كما قال في الآية الأخرى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فهل تقتل نفسك من شدة الحزن على هؤلاء لكونهم لا يؤمنون؟ إنهم لا يستحقون ذلك.
{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وقراءة أبي جعفر: (فلا تُذهِب نفسك عليهم حسرات)، ولا تضيع نفسك حسرة على هؤلاء.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، إن الله عليم بصنع هؤلاء وبما يفعلونه، ويجازيهم عليه يوم القيامة سبحانه وتعالى.
فالنبي صلوات الله وسلامه عليه كان أرحم الناس بخلق الله سبحانه، وكان يحب أن يدخل الجميع في دين الله، وكان يدعو إلى الله سبحانه بثقته بربه سبحانه، فإذا أجابوه بالأجوبة السخيفة السفيهة يحزن صلوات الله وسلامه عليه، ويشتد حزنه.
حتى كاد يموت من شدة الحزن فأخبره ربه أن الأمر ليس كذلك؛ فإن الهدى بيد الله، والضلال بيده سبحانه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وما على الرسول إلا البلاغ، وعليك أن تأخذ بالأسباب ودع النتيجة لله سبحانه، فهي ليست إليك.
وكرر الله سبحانه تبارك وتعالى ذلك في كتابه مخاطباً نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه، كقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، أي: لن نحاسبك على عدم هداية هؤلاء وإنما سيحاسبهم الله عز وجل على أفعالهم، وأنت تحاسب على أنك بلغت رسالة ربك سبحانه تبارك وتعالى.
وقال سبحانه: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:176]، أي: لا تحزن على الذين يسارعون في الكفر فهم لن يضروا ربهم، وإنما يضرون أنفسهم، وقال له سبحانه {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
وفي كل ذلك يخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما مضمونه: لا تحزن على عدم إيمان الكفار، وادعهم إلى دين الله سبحانه، واغضب لله سبحانه، ولكن لا تصل بك الحسرة إلى أن تقتل نفسك من شدة الحزن على هؤلاء، فهم لا يستحقون ذلك، وفيه التنبيه على أن الإنسان الذي يدعو إلى الله يدعو بقلبه، ويحرص على أن يدخل الناس في دين الله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس).
وإذا فرضنا أن المدعو لم يستجب للذي دعاه، فليس المعنى أن الدعوة ضاعت؛ لأنه لم يستجب، ولكن ادع هذا وادع غيره وهكذا، وثق أن الهدى بيد الله، إن شاء هداه، وإن شاء تركه على ضلاله فأرداه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
نسأل الله من فضله ومن رحمته، إنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(301/7)
تفسير سورة فاطر الآية [9]
الرياح جند من جنود الله تعالى، وقد جعل الله تعالى منها رياح رحمة ورزق وحياة للناس، ورياح عذاب وهدم ودمار، وقد جعل الله الرياح سبباً في نزول الأمطار، حيث إنها ترفع المياه المتبخرة وتسير السحاب إلى أماكن بعيدة؛ ليستفيد منها العباد والبلاد.(302/1)
تصرف الله تعالى بالرياح
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبد هـ ورسوله, اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9].
في هذه الآيات من سورة فاطر يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى بعظيم قدرته وبديع فعله في الرياح التي يخلقها ويسيرها كما يشاء، ويرسلها ويقبضها كما يشاء سبحانه وتعالى، فقال هنا عن إرسالها: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ)) فالله يرسلها، وهو الذي يمسكها ويقبضها كما يقول سبحانه {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:33] فهي بيد الله سبحانه، إن شاء أرسلها نسيماً خفيفاً طيباً، أو ريحاً عاصفة شديدة، أو ريحاً قاصفة مغرقة، والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فهو يخبرنا في هذه الآية عن آية من آياته في هذه الرياح العجيبة التي يسخرها سبحانه وتعالى، والتي هي جند من جنده سبحانه، تأتي العباد برزق الله سبحانه وتعالى, وتتحرك كما يشاء الله، فتأتي من المشرق والمغرب والشمال والجنوب كما يشاء الله عز وجل، وتأتي بالروح والرحمة من الله، وتأتي برزق الله سبحانه وتعالى, فالرياح تثير السحاب، ثم تنزل من السحاب أمطاراً، فينزل منها البرد، وينزل منها ما يشاء الله سبحانه وتعالى, وقد يجعلها تأتي على مكان من جميع الأماكن، فتأتي الرياح في منطقة من المناطق فتحرك الأمواج من مكان إلى مكان، وقد تحركها في مكانها فتصير دوامة في المكان نفسه، والله يفعل ما يشاء سبحانه فهذه الرياح جند لله سبحانه يسخرها كما يشاء.(302/2)
الجمال الفني في القرآن
قوله تعالى: (الرياح) هي قراءة الجمهور وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف الريح، وفي القرآن كله غالباً تأتي كلمة الرياح والريح وفيهما نفس القراءات، فقراءة للبعض الرياح، وقراءة للبعض الآخر الريح، ولذلك ما ذكره الثعالبي من أن الرياح لم تأت في القرآن إلا بمعنى الرحمة والرزق والعكس في الريح، فكذا هنا قال الله سبحانه: ((الله الذي أرسل الريح)) على قراءة، وقراءة أخرى الرياح، فالراجح أن الريح والرياح واحد, فالريح مفرد، والرياح جمع، فالله يرسل الرياح بالرحمة منه والرزق، وكذلك يرسل الريح بالرحمة منه والرزق، وقد يعكس ذلك سبحانه ويرسلها بالعذاب على من يشاء من خلقه, كما قال تعالى: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) فنلاحظ هنا أنه أخبر بفعل ماضٍ فقال: ((اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ))، ثم يجعلك تستحضر الحال فيعبر بالمضارع، فلم يقل بعدها فأثارت سحابة، حيث كان الأصل أن يعبر بالماضي إذ بدأ به، ولكن عبر بالمضارع؛ لاستحضار الحال وكأنك الآن مستحضر لهذه الصورة وتراها وهي تثير هذا السحاب، وهذا من التفنن القرآني، وهو أسلوب عربي معروف, فالقرآن عظيم، وفيه أساليب العرب الجميلة في البلاغة، فيأتي القرآن بهذه الأساليب التي يفهما العرب ويعرفون دقتها وجمالها، فيأتي أحياناً بصيغة الخطاب للمتكلم، وبعد ذلك يقلب الخطاب للغائب، فهنا يذكر الله سبحانه وتعالى أنه أرسل على صيغة الماضي، ثم بعدها يعبر بصيغة المضارع، فيقول العلماء: وهذا التعبير معروف عند العرب، ومن ذلك قول أحدهم وهو شاعر من الشعراء واسمه تأبط شراً حيث يصف نفسه بالشجاعة فيقول: بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان.
فأضربها بلا دهش فخرت صريعاً لليدين وللجران.
فيقول: إنه لقي الغول، والغول عفاريت، فهو يحدث عن شجاعته، وأنها وصلت إلى درجة عظيمة بالغة حيث أنه قابل الغول لوحده في الصحراء، وكان العرب يمرون في الصحراء فتتغول الغيلان والجن، وتستهزء وتلعب بهم، فيخافون ويرتعبون ثم يشركون بالله سبحانه فيقول أحدهم: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: استعيذ بسيد الجن في هذا الوادي، فتفرح الجن؛ لأن العرب أشركوا بالله سبحانه وعبدوهم وتعوذوا بهم من دون الله سبحانه فتتركهم يمرون، فهذا يقول: أنا قابلت الجن وحدي في الصحراء، فقال: بأني قد لقيت الغول تهوي, أي: آتية تجري نحوي , بسهب في الصحيفة صحصحان، وسهب هو الفلاة، يعني: في صحراء واسعة منبسطة مثل الكتاب الواسع، صحصحان أي: أرض مستوية واسعة، فأضربها بلا دهش فخرت.
فانتقل من بأني قد لقيت في الماضي إلى فأضربها بالمضارع، فكأنه يقول: استحضر الحال، وانظر إلي وأنا اضربها الآن ضربة شديدة، فيقول: فأضربها بلا دهش، أي: بلا خوف، فخرت صريعة لليدين وللجراني، يعني: لليدين وللفم أو للرقبة، بمعنى: سقطت على الأرض، فهذا من الأساليب البديعة عندهم أن يعبر بالماضي ثم يعبر بالمضارع, أو يعبر بضمير الغائب وبعد ذلك يعبر بضمير المتكلم أو ضمير المخاطب، وهنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) أي: أثارت السحاب وحركته، يقال: أثرت أرنباً من مكان، أي: أفزعته وحركته وجعلته يجري، فكذلك الريح تحرك السحاب من مكان إلى مكان.(302/3)
أنواع الرياح
الريح: من روح الله ورحمته سبحانه، وقد تكون من عذاب الله سبحانه وتعالى، فيرسل الريح بالرحمة على قوم، ويرسلها بالعذاب على قوم، وقد رأى قوم سحاباً في السماء أثارتها الرياح فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] ومن هذه الآية أخذوا أن كلمة الريح تأتي بالعذاب، ولكن هنا قال الله عز وجل: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ)) على قراءة الجمهور، وعلى قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف الريح، فهي هي الريح، إما برحمة من الله، وإما بعذاب من الله عز وجل، والرياح والريح واحد.
وقوله تعالى: (فسقناه): رجع إلى لفظ الماضي مرة ثانية وهذا من التفنن في الخطاب، فكأنك تنظر إلى عظمة الله سبحانه بالتدبر في آياته ومخلوقاته في هذا الكون، فانظر إلى هذه الريح التي أرسلها الله، فأنت لم تر إرسال الريح ولكن ترى السحاب وهي تجتمع في السماء سحابة مع سحابة، ثم تساق السحاب بواسطة الرياح، فعندما ترى السحاب تخمن نزول المطر، فكأنه يحضر لك الحال أمامك.
قوله تعالى: ((فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ)) قرأها ((بَلَدٍ مَيِّتٍ)) المدنيان نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي، وخلف، وباقي القراء يقرأون {إِلَى بَلَدٍ مَيْتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] والمعنى: جاءت الحياة إلى هذه الأرض الميتة من عند الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يريكم حاجتكم إليه سبحانه، فكل إنسان محتاج إلى ربه سبحانه، ومحتاج إلى هذه الرياح ومحتاج إلى المطر، ومحتاج إلى الماء، ومحتاج إلى الثمار والحبوب، ومحتاج إلى هذه الأرض، ومحتاج إلى رحمة الله سبحانه.(302/4)
كيفية تكوين السحاب ونزول المطر
يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] فالرياح تسببت في تكوين هذه السحاب، إذ تحرك الأمواج في البحر، لأن الماء لا يتحرك لوحده، ولكن الله يرسل الرياح فتحرك أمواجاً ظاهرة فوق الماء، وأمواجاً باطنة داخل الماء، فيتحرك الماء من مكان إلى مكان برحمة رب العالمين سبحانه, ولو بقي في مكانه لتعفن، ولكن شدة الريح تدفع هذه المياه إلى أن تتحرك وتفيض، ثم تأتي الشمس على هذه الأرض فتسخن ما على الأرض من ماء فيتبخر، ثم ترفعه الرياح إلى السماء، فالله سبحانه جعل لهذا الكون مقادير عجيبة، وآيات دقيقة من فضله سبحانه تبارك وتعالى، وتخيل حرارة هذه الشمس لو ظلت مسلطة على الماء كلما ارتفع إلى السماء حيث تشتد هذه الحرارة بالقرب من الشمس، لكانت المياه التي على الأرض قد تبخرت ولم ترجع مرة أخرى, فالله من فضله سبحانه تبارك وتعالى جعل حول هذه الأرض من خارجها في الغلاف الجوي أماكن باردة جداً، فكلما صعدت المياه قلت الحرارة ولم تزد رغم قربها أكثر من الشمس، وهذا صنع الله سبحانه تبارك وتعالى, فإذا بالمياه ترتفع مع الرياح إلى ارتفاع حوالي ستة عشر كيلو، أو من ثمانية إلى ستة عشر كيلو متر فوق سطح الأرض وهي المنطقة التي تتكون السحاب فيها أو فوقها بيسير، فالأرض أخرجت ماءها والشمس بخرته إلى هذا المكان، ثم يرسل الله الرياح فتحرك السحاب من مكان إلى مكان، فالرياح حركت الأمواج والمياه من مكان إلى مكان، والشمس سخنت فبخرت، ثم يرتفع الماء فتحركه الرياح إلى أعلى فتتكون السحاب هناك, ولو لم يكن هناك رياح وتبخر هذا الماء لبقى في السحاب، ولنزل في مكانه، فالمياه التي تبخرت من البحر ستنزل فوق البحر مرة ثانية، والتي تبخرت من النهر ستنزل فوق النهر، والتي من الأرض اليابسة مني عيونها وأنهارها ستنزل فوقها مرة ثانية، ولن ينتفع الناس بهذا الماء كثيرا إلا المكان الذي تبخر منه، ولكن الله الذي جعل لكل شيء قدراً شاء سبحانه أن هذه السحاب لا تقف في مكانها، ولكن يرسلها الله سبحانه فتتحرك من مكان إلى مكان.(302/5)
مصارف الأمطار
هناك إحصائية يقول فيها العلماء: إن ماء الأرض يتبخر منه سنوياً ثلاثمائة وثمانون ألف كيلو متر مكعب من المياه، وأغلب هذه المياه تخرج من المحيطات والأنهار والبحار وهي حوالي ثلاثمائة وعشرون ألف كيلو، أما ستون ألف كيلو متر فيخرج من سطح اليابسة من العيون والأنهار التي فوقها, ثم يتحرك السحاب إلى مكان آخر بحسب ما يشاء الله سبحانه, فيأمر المطر أن ينزل في مكان ويمنعه أن ينزل في مكان آخر، وهذا بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.
وقد اكتشف العلماء بأنه يصعد من البحار والمحيطات ثلاثمائة وثمانون ألف كيلو، والذي ينزل على البحار والمحيطات مائتان وأربعة وثمانون ألف كيلو، والباقي يتوجه إلى اليابسة وينزل فيها، فتنبت الحقول والبساتين كما يشاء الله سبحانه وتعالى، فنلاحظ أن الذي صعد من سطح اليابسة ستون ألف كيلو، والذي ينزل على اليابسة ستة وتسعون ألف كيلو، فالذي ينزل على الأرض من الماء أكثر مما يتبخر منها، فالقدر الذي يرتفع يحركه الله عز وجل كما يشاء لينبت للعباد الحبوب والثمار وما يشاء سبحانه، وينزل عليهم الأمطار يستقون منها ويسقون دوابهم منها والله يفعل ما يشاء.(302/6)
بعض آيات الله في الأمطار
من آيات الله سبحانه في هذه المياه أنه يبخر مياه المحيط الذي هو شديد الملوحة، ومياه البحر الذي هو أقل منه ملوحة، ومياه النهر الذي ليس فيه ملوحة، فإذا نزل الكل على هذه الأرض نزل ماءً عذباً فراتاً مباركاً من السماء, وهذه هي عملية تبخير الماء وإرجاعه بالتكثيف، والآن يحاول البشر أن يعملوا هذه العملية؛ لكي يحلو مياه البحر، فيأخذون في تكثيف المياه بأن يبخروها، ثم يستقبلوها على شيء.
ويكثفوها فتنزل مرة أخرى وطعمها حلو، ولكن عندما تشرب مياه محلاة من محطات تحلية وماء المطر تجد الفرق بين صنع الله سبحانه تبارك وتعالى وصنع البشر, فالمياه المحلاة ليس لها طعم، أما مياه المطر فهي طاهرة طيبة مباركة نزلت من السماء، وكان إذا نزل المطر يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليه حتى يأتي على وجهه ورأسه وذراعية صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: (إنه قريب عهد بربه) , وهذا لماء الذي خرج من الأرض واحتاج العباد إليه يصرفه الله كما يشاء، فقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يمشي في فلاة فسمع صوتاً في سحابة يقول: اسق حديقة فلان فتعجب الرجل ونظر إلى السحابة فلم ير أحداً ولكن سمع الاسم فتتبع السحابة، فتجمعت السحابة في مكان في السماء، وسارت السحابة ثم أمطرت مطراً على حديقة لإنسان، فيعجب الرجل لذلك وينادي على صاحب الحديقة يقول: ما اسمك يا عبد الله! فقال: أنا فلان بالاسم الذي سمعه في السحاب، فقال: لم تسألني عن اسمي؟) أي: لماذا تسألني هذا السؤال؟ فيقول: (أخبرني ما الذي تصنعه في حديقتك؟ فقال: لم السؤال؟ فقال له: إني سمعت صوتاً في السحابة الذي هذا ماءها يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فقال: أما إذ أخبرتني بذلك فإني إذا زرعت) أي: إذا حصدت هذا الذي زرعته (فإني آكل ثلثه وأتصدق بثلثه وأرد فيها ثلثها، قال: فهذا الذي بلغ بك ما سمعت في السحاب) هذا الرجل كان إذا أثمرت مزرعته تصدق بثلثها، ويأكل من تعبه وحصاده الثلث، ويرد فيها الثلث الآخر، فلما جعل هذا الشيء لله عز وجل لم يحرمه الله سبحانه، وجعل الله السحابة تأتي إليه وحده لتنزل بالماء على أرضه وحديقته {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48] فهذه الآية العظيمة التي تخبرنا عن رحمة الله سبحانه، وأنه يرسل السحاب وينزل المطر ويفعل ما يشاء في خلقه سبحانه تبارك وتعالى.(302/7)
التدليل على البعث والنشور بإحياء الأرض بعد موتها
قال تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] فيرى الناس كيف يحي الله الأرض بعد موتها، وكيف يحي الله الشيء الميت أمامهم، فالمزارع يزرع الشعير ويرمي ببذور القمح ثم ينتظر المطر؛ إذ ليس عنده نهر موجود، ولا مياه تأتي إليه، بل ينتظر المطر ينزل من السماء، فإذا بالله ينزل المطر، وإذا بالأرض الصحراء تهتز وتربي ويخرج فيها الزرع العظيم بفضل الله سبحانه، فترى أمامك الشيء الميت صار حياً بعد ذلك بفضل الله وبرحمته، وكذلك في كل مكان يرى الناس هذه الآية التي يقول لهم الله سبحانه فيها: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر:9] ويقول الله عز وجل: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] أي: هذا الشيء العظيم الذي رأيتموه من أحياء الله عز وجل الأرض بعد موتها كذلك سيحييكم وينشركم يوم القيامة، والأرواح والأجساد التي قد بليت وفنيت، فإن الله عز وجل ينشرها ويجعلها تحيا مرة ثانية، والنشر بمعنى: الرفع والإقامة، فالله عز وجل يرفع هذه الجثث البالية الميتة ويرد فيها أرواحها فيحييها مرة ثانية؛ ليجازي العباد ويحاسبهم يوم القيامة سبحانه تبارك وتعالى.(302/8)
لجوء الكافرين إلى الله في الضراء وتكبرهم وعنادهم في السراء
يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:22 - 23] وانظر إلى الأسلوب القرآني العظيم الجميل بقوله: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) فأسلوب الخطاب (إذا كنتم) يدل على المخاطب، ثم يقول: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فيدل على الغائب، فهذا من التفنن، حيث انتقل من الكلام للمخاطب إلى الكلام عن الغائب قال: (وَفَرِحُوا بِهَا) أي: اغتروا بذلك، ونسوا الله سبحانه وتعالى حتى جاءتهم ريح عاصف، فالريح يرسلها الله عز وجل ريحاً طيبة، أو يرسلها ريحاً عاصفة، فلما أمنوا واغتروا جاءتهم الريح العاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وهذا تعبير عجيب جداً، وتعبير حقيقي؛ لم يكن أحد يعرفه، ومن رأى هذا الشيء لم يرجع لكي يخبر به بل هلك ومات، فأخبر الله أنهم جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان، فتأتي ريح من هنا وريح من هنا حتى تصير دوامة من وصل إليها غرق لزاماً ولا يرجع من هذا المكان أحد، يقول تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، والصحابة لم يذهب أحد منهم إلى مثل هذا المكان، بل كانوا يخافون من البحر، ولذلك عمر رضي الله عنه لما كان يبعث البعوث والجيوش كان يقول لقائد الجيش: لا تجعل بيني وبينكم بحراً، بمعنى: اجعل بيني وبينكم يابسة حتى أستطيع على مدكم بالجيوش، فما كانوا يعرفون الخوض في البحار والوصول إلى هذه الأماكن في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه إلا الشيء اليسير القليل، والذي يصل إلى مثل هذه اللجة ويغرق فيها لن يرجع ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المكان كان الموج فيه يأتي من كل مكان، لكن العلم الحديث هو الذي اكتشف أن منطقة الدوامات هي منطقة وجود رياح عاصفة تأتي من كل مكان، وهذا هو الذي أخبر به ربنا سبحانه تبارك وتعالى منذ ألف وأربعمائة سنة على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم الدوامات، ولم يركب البحر صلى الله عليه وسلم حتى يخبر عن منطقة كهذه، لكن الذي صنعها هو الله سبحانه، وهو الذي أخبر عنها في كتابه سبحانه وتعالى، فالإنسان حين يجد نفسه موشكاً على الغرق يدعو ربه لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فينجي الله من يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، ويهلك من يشاء من خلقه سبحانه، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق، وبغي الإنسان إنما هو على نفسه، قال تعالى: {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ} [يونس:23] أي: تمتعوا متاع الحياة الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23] فربنا سبحانه أخبرنا عن إرسال الريح التي يسوق بها السحاب فينزل المطر من السماء لننتفع به، فالله الكريم سبحانه جعل لعباده الرزق كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] بركات من السماء بنزول المطر، ويأتي البرق وتأتي الرحمة من الله سبحانه، فالبرق الذي يراه الإنسان ويخاف منه فيه خير عظيم جداً، إذ تحصل شرارة كهربائية في السماء باتحاد النيتروجين مع الأكسجين وتتكون أسمده نيتروجينية تنزل في الأرض مع المطر فتخصب الأرض فينبت الزرع من الأرض بسماد جيد من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] فلو اتقى الناس ربهم سبحانه وتعالى لجاء الخير من كل مكان عليهم، ولفتح عليهم الرزق العظيم الواسع، وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في حدود الله عز وجل حيث يقول: (حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً) فإقامة الحدود التي نص عليها كتاب ربنا سبحانه كقطع يد السارق مثلاً تفيد الناس، إذ كل من رأى ذلك خاف أن تقطع يده وخاف من السرقة، فإذا طبقوا ذلك فسينتشر بين الناس الأمن والأمان، ولو طبق حد الله سبحانه وتعالى في الإنسان الزاني المحصن فرجم، وفي الزاني الغير المحصن بزواج فجلد، وفي القاذف فجلد، لصان الناس أعراض بعضهم البعض، ولما وقع أحد في عرض أخيه؛ لأنه يخاف من الجلد، فقد لا يخاف من التحذيرات التي في القرآن، لكن يخاف من أن يرجم؛ إذا وقع في الزنا والعياذ بالله, فالله عز وجل جعل الحدود رادعة للناس أن يقعوا في ظلم أو أن يقعوا في فاحشة من الفواحش التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فإذا أقيم حد من حدود الله سبحانه في الأرض فهو خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً, ولو أقيم حد الحراب كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] لوجدت الذين يفزعون الناس ويقطعون الطرق عليهم يرتدعون من جرمهم خوفاً من الحد.
فالله عز وجل يخيف هؤلاء بحده سبحانه، فمثل هذا الإنسان الذي يقطع الطريق على الناس بالسيف، ويقطع الطريق على الناس بالتخويف والتهديد، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، فالله عز وجل جعل الحكم عليه أن يقتل أو يصلب أو تقطع يداه ورجلاه من خلاف أو ينفى من الأرض، فهذا جزاؤه في هذه الحياة الدنيا، فإذا رأى الناس قاطع الطريق الذي كان يقطع على الناس الطريق، ويخيف الناس ويفزعهم، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، قد قتل وصلب أمامهم فإنهم سيخافون من ذلك، وإذا رأوا فلاناً الذي أخذ أموال الناس كرهاً قطعت يده ورجله فإن الشخص سيخاف أن يفعل به مثل هذا الشيء، فيأمن الناس في بلادهم، وينزل الله البركات من السماء، ويخرج البركات من الأرض، ففعلاً حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً.(302/9)
تكييف الجو عن طريق الماء والأشجار
المياه نعمة من الله سبحانه وتعالى يشربها الإنسان ويتطهر بها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] أي: لنطهركم به، وليثبت الله عز وجل به أقدام المؤمنين، وليحيي به الأرض بعد موتها.
فالله جعل من هذا الماء كل شيء حي، وجعل لك الماء لتغتسل به وأنزله من السماء لتشعر بالبرد، إذ لولم ينزل هذا الماء من السماء لوجدت الحر الشديد، ووجدت العطش الشديد، ولكن الله سبحانه تبارك برحمته يخزن لك هذا الماء في المياه الجوفية في باطن الأرض، وتخرج على الناس العيون والأنهار فيشربون منها، وانظر إلى رحمته سبحانه في تلطيف الجو الذي أنت فيه عن طريق الأشجار، حيث أن هذه الأشجار تأخذ المياه من الأرض، ثم يأتي حر الشمس فيجعل الماء يتبخر من الأشجار، وهو ما يسمى بعملية النتح، ويقول أهل العلم: إن شجرة واحدة قد تنتح في اليوم العادي ما يقارب من خمسمائة لتر من الماء، فربنا قد جعل لك تكييفاً في الأرض من الأشجار التي حولك عن طريق عملية النتح، حيث يخرج الماء من مسام في أوراق الشجر والنبات، ويجعل الله عز وجل هذا الماء بقدر، ولذلك لما نقارن بين النباتات الموجودة في البلدان والنباتات الموجودة في الصحراء نجد أن عدد المسام في الأوراق والنباتات الموجودة في البلد غير الموجودة في الصحراء، فالتي داخل البلد يكون عدد المسام فيها كبير ويخرج منها مياه أكثر من التي في الصحراء، إذ تخرج التي في الصحراء كمية أقل؛ لكي تعيش فترة أطول في مكانها التي هي فيه، فهذا الماء يصرفه الله عز وجل كيف يشاء في خلقه، ويجعل منه سبحانه وتعالى الروح والرحمة.(302/10)
جواز تشبيه الأمر المحسوس المشاهد بالأمر الغيبي لأجل التفهيم والتقريب
قال تعالى: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ)) وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني من حديث أبي رزين العقيلي قال: (قلت يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى) فأتاه الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (قال: أما مررت بوادي أهلك ممحل ثم مررت به يهتز خضرا) أي: ألم تنظر وأنت تمر بالوادي إلى أن الأرض ممحلة ليس فيها نبات، وبعد فترة أنزل الله عز وجل عليها المطر فرأيتها تهتز خضراً أي: أخرج النبات، فقال الرجل: (نعم يا رسول الله!) قال صلى الله عليه وسلم (فكذلك يحيي الله الموتى) فهذه آية من آيات الله سبحانه حيث يحيي الله عز وجل الموتى أمامك، فهذه البذور التي تراها ميتة ترميها على الأرض فينزل عليها المطر من السماء، ويأتي أمر الله فينبت منها نخل عظيم جداً صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، فعجيب أمر الله سبحانه وتعالى في خلقه، فأنت ترى هذه النواه وهذه النواه وهذه النواه تسقى كلها بماءٍ واحد، ثم يخرج من هذه النواه شجرة صنوان وغير صنوان، أصلها واحد ثم تتفرع جزءين فترى هنا رأس نخلة، وهنا رأس نخلة أخرى، والماء الذي سقى هذه وهذه ماء واحد.
فالله هو الذي خلق من الماء كل شيء حي، ويريكم آياته في خلقه لعلكم تشكرون.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(302/11)
تفسير سورة فاطر [10 - 11]
من أسماء الله الحسنى العزيز، ومن أراد العزة من الله أعزه الله، ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه، وأن يذل من يبتغي العزة بغيره، والأقوال الطيبة والأعمال الصالحة ترفع إلى الله سبحانه وتعالى فيثيب عليها صاحبها، وقد كتب الله سبحانه الخسارة والبوار على كل من يمكر بعباد الله ودينه، وقد خلق الله عز وجل الإنسان أطواراً، وهو أعلم به، فالأجدر بهذا الإنسان أن يتفكر في نفسه، وفيما خلقه الله تعالى منه، ففي ذلك آيات عظيمة لأولي الألباب والأفهام.(303/1)
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فاطر: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:10 - 11].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن العزة التي يطلب الإنسان أن يتعزز بها في الدنيا، يقول تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) والعزيز: هو القوي الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يمانع سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه مراراً، قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، وقال هنا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10] فمن أراد أن يتعزز في هذه الحياة الدنيا، ومن أراد أن يكون قوياً في حجته وفي بيانه، قوياً في نفسه قوياً في قلبه، قوياً في عدده وعدده فليتعزز بالله سبحانه وتعالى.
فمن طلب العزة عند غير الله سبحانه فقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ومن عصى الله سبحانه وابتعد عنه سبحانه فإن الذل في قلبه وفوق رأسه، يذله الله سبحانه ولا يعزه أبداً، حتى وإن كان قوياً في بدنه غنياً في ماله، ومعه أعوان وأنصار، فالله سبحانه أبى إلا أن يذل من عصاه، فيستشعر في نفسه الذل وفي قلبه، ويستشعر أنه بعيد عن الله سبحانه وتعالى، فلا تتعزز إلا بربك فله العزة جميعاً.
فالله هو العزيز، وقد جعل هذه العزة لعباده، وجعل لعباده المؤمنين عزة يتعززون بها، بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبدفاع الله عز وجل عنهم، وبنصر الله سبحانه وتأييده لهم.
والإنسان إذا تعزز بالله سبحانه وبدين الله كان الله عز وجل معه، فإذا تعزز بالدنيا أخذته العزة بالإثم فترك الله سبحانه، وسرعان ما يقع هذا الذي يتعزز بغير الله سبحانه وتعالى.
قال الله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:204 - 206]، فالعزة هنا: الحمية، والأنفة، والكبر، والغضب لغير الله سبحانه، يأخذه ذلك إلى أن يرفض أن يقال له: اتق الله، فإن قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، وقد تقول لإنسان: الله يهديك، فيقول لك: هل تنظر إليَّ أنني مجنون؟! فلا يرضى بأن تدعو له بخير، ولا يرضى إلا أن يستشعر أنه عزيز، وأنه غالب.
ومن نازع الله عز وجل في العزة وفي الكبرياء أكبه على وجهه في النار.
فالله هو العزيز وحده سبحانه، وعزة المؤمنين هذه بأن الله أعزهم، وبأن الله معهم، ولو أنهم بعيدون عن الله سبحانه فلا عزة لهم، فالعزة في القرب من الله، وفي الصلة بالله سبحانه وتعالى، وفي أن يدافع الله عز وجل عن عبده، فالله عز وجل هو العزيز الغالب القاهر الذي يقهر ولا يُقهر أبداً، والذي يقضي ولا يمنع قضاؤه أبداً، فالعزة لله عزة دائمة أبداً بدوامه سبحانه وتعالى وهي العزة الحقيقة.
أما من تعزز بغير الله سبحانه فليس له إلا الذل من الله، وأبى الله إلا أن يذل من عصاه.(303/2)
صعود الكلم الطيب وارتفاع العمل الصالح إلى الله تعالى
وقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي: إلى الله عز وجل يصعد الكلم الطيب، وأعلاه: لا إله إلا الله، وأعظم كلمة يقولها الإنسان: لا إله إلا الله، وأعظم الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون قبله في يوم عرفة: لا إله إلا الله، هذه الكلمة العظيمة التي تصعد إلى الله سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ) أي: يصير ذكرك لله عز وجل، ودعاؤك ربك سبحانه يصعد إليه، فالله هو الذي يرفعه سبحانه وتعالى.
فقوله: (إِلَيْهِ) أي: إلى الله سبحانه، وقوله: ((يَصْعَدُ)) أي: توحيدك له بذكرك له سبحانه، وتوكلك عليه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) أي: يرفعه الله سبحانه وتعالى، فالكلم الطيب والعمل الصالح يرفعهما الله سبحانه.
وفي قوله تعالى: ((يَصْعَدُ)) دليل على علو الله سبحانه وتعالى وارتفاعه فوق خلقه سبحانه، فهو العلي بذاته، والعلي بقهره لعباده، والعلي سبحانه وتعالى في مكانه وفي منزلته العظيمة، فله وحده سبحانه وتعالى علو المنزلة وعلو الشأن وعلو القهر وعلو الذات.
قال تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))، فالدعاء يصعد إلى الله عز وجل، وذكر الله يصعد إلى الله، والتقرب إلى الله بقول لا إله إلا الله وغيرها من ذكر الله كله يصعد إلى الله.
((وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ)) كذلك يرفعه الله سبحانه وتعالى، فإذا عمل إنسان عملاً طيباً يبتغي به وجه الله سبحانه رفع الله عز وجل إليه هذا العمل، وإذا عمل عملاً طيباً لا يقصد به وجه الله لم يرفع إلى الله سبحانه، وإذا عمل عملاً خبيثاً فمن باب أولى ألا يرفع إلى الله سبحانه؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
إذاً: قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) كله مرفوع إلى الله سبحانه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار فيحضرون في صلاة الفجر ويحضرون في صلاة العصر، ويصعدون إلى الله سبحانه).
فالذين يبيتون فيكم يحضرون معكم صلاة الفجر، والذين نزلوا من السماء أيضاً يحضرونها، قال صلى الله عليه وسلم: (ويصعد الذين باتوا فيكم إلى الله سبحانه فيسألهم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون).
أي: أتيناهم فكانوا في صلاة العصر وتركناهم وقد صلوا صلاة الفجر، وقوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار) أي: يرتفعون إلى الله ويخبرون الله وهو أعلم بكم منهم سبحانه وتعالى، فيصعد إليه الكلم الطيب، ويصعد إليه أيضاً العمل الصالح.
وقال بعض أهل التفسير في قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قالوا: الكلم لا يرفع إلا بعمل صالح، فالعمل يرفع الكلم، فإذا كان الكلم لا يوافقه عمل فلا يرفع إلى الله سبحانه.
وهذا وجه من المعاني، ولكن ليس معنى الآية: أنه لا يرفع كلم طيب إلى الله إلا بعمل، وإلا فإن كلام الناس وذكر الله سبحانه لا يرتفع منه إلا القليل ولا بد أن يكون معه عمل، والله سبحانه وتعالى كريم، فالله يرفع إليه الكلم الطيب ويقبله، ويرفع إليه أيضاً العمل الصالح ويقبله، فهذا شيء وهذا شيء.
ولكن إذا كان الكلم طيباً والقلب خبيثاً والعمل لغير الله فهذا كله لا يرفع إلى الله عز وجل، فالإنسان قد يتكلم بالموعظة الطيبة التي لا يصدقها قلبه ولا يوافقها عمله، ويكون العمل رياءً وعملاً خبيثاً ليس فيه لله عز وجل شيء، فلا يقبل منه قوله ولا يقبل منه عمله.
ولكن إذا ذكر الله سبحانه وتعالى فالله عز وجل يقبل منه ذلك، وقد يكون عصى الله في شيء آخر، فذكره لله عز وجل يرفعه الله إذا قصد به وجه الله سبحانه، وعمله الذي وقع فيه وهو سيئ يحاسبه الله عليه سبحانه وتعالى، ولا تعلق للقول بالعمل، فلا يرد هذا القول الذي كنت مخلصاً فيه لأنك عملت عملاً سيئاً أو وقعت في معصية الله، فالله أكرم من ذلك، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وهذا شيء يقبله الله وذاك شيء آخر لا يقبله الله، والعبد واحد إلا أن يكون القول رياء فهو قول لا يرفع إلى الله عز وجل.
أو يكون العمل رياءً وسمعة وعملاً خبيثاً فلا يرفع إلى الله سبحانه.
فقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي: الله سبحانه وتعالى يرفع العمل الصالح للعباد، وأنت كلما عملت عملاً صالحاً يرفعه الله ويدخره لك عنده يوم القيامة، وتجد نتيجة هذه الأعمال الصالحة أشياء عظيمة من ثواب الله ومن فضله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (والذين يمكرون السيئات)، المكر: هو الحيل، عمل الشيء على سبيل الاحتيال والخديعة، كإنسان يخدع، أو يخون، أو يغدر، يقول الشيء وهو ينوي ويضمر غير هذا الذي يقوله، ويسعى للإنسان حتى يوقعه في مهلكة بحيلة وبخبث، ولهذا قال الله سبحانه: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) أي: يعملون أعمالاً سيئة خبيثة فيها المكر بعباد الله سبحانه، وفيها الخديعة والاحتيال على عباد الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) فلهم أشد العذاب عند الله، (وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) البوار: الهلاك والضياع، فهؤلاء يمكرون بالمؤمنين، ويمكرون بدين الله عز وجل وبالله عز وجل، فقضى الله على مكرهم بالبوار والخسران والتلف والهلاك، وكل من يمكر بدين الله عز وجل أبى الله إلا أن يذله، وأن يعز دينه سبحانه وتعالى.(303/3)
تفسير قوله تعالى: (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة)
يخبرنا ربنا سبحانه عن خلق الإنسان فقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11] كل هذه الأشياء يسيرة وسهلة على الله سبحانه وتعالى، فبقول: كن يكون هذا كله.
وقد تكرر أن الله عز وجل خلق الإنسان من تراب في ستة مواضع من القرآن، ويخبر الله عز وجل الإنسان أنه مخلوق من تراب، فهذا أصل خلقته، من سلالة، أي: من خلاصة من طين، هذا هو بدء خلق الإنسان.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] فالله عز وجل خلقك من تراب ومن ماء، والاثنان يكونان الطين، وهذا الطين له صلصلة، فالله خلق الإنسان وأراه بدء خلقه كيف كان، وكيف صار هذا الإنسان.
وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بها عن خلق هذا الإنسان من هذا التراب، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك).
فالله عز وجل خلق آدم من تراب الأرض، من قبضة قبضها من جميع الأرض، والله على كل شيء قدير، فخلق آدم من أنواع من تراب الأرض، هذا أبيض وهذا أحمر وهذا أسود، فجاء آدم من هذا كله، فجاء بنو آدم من هذه الأنواع.
وآدم جاء من هذه الأرض وفيها الأرض السهلية، وفيها الأرض الوعرة المرتفعة الصعبة، وخلق آدم من جميع ترابها، فبنو آدم منهم السهل ومنهم الصعب، ومنهم الحزن، ومنهم الخبيث ومنهم الطيب، والله يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
وعناصر الإنسان من تراب الأرض كذلك؛ ولذلك يقول العلماء: إنهم وجدوا بالتحليل أن جسم الإنسان يتكون من مركبات وعناصر الأرض، فإذ قمنا بتحليل الإنسان فإن أكثره ماء، وفيه سكريات وبروتينات وفيتامينات وهرمونات وكلور، وأنواع من المعادن: كبريت، فسفور، مغنسيوم، كالسيوم، بوتاسيوم، صوديوم، حديد، نحاس، يود، ومعادن أخرى في خلق هذا الإنسان كلها موجودة في الأرض من عناصرها التي خلق الله عز وجل منها هذه الأرض.
ولذلك يقول العلماء: أن الإنسان يشترك في تركيبه مع الأرض في ثلاثةٍ وعشرين عنصراً من عناصر الأرض، وهو يطأ هذه العناصر بقدمه ويدوس عليها وهو مخلوق من هذه العناصر.
والأرض فيها ماء والإنسان أكثر جسده من ماء، وخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من ماء؛ ولذلك من خمسة وستين إلى سبعين في المائة من جسم الإنسان مخلوق من الماء، والماء في هذه الأرض.
فيخبر الله سبحانه وتعالى بذلك، والإنسان يعرف أنه حين يموت يوضع في التراب، وإذا فُتح القبر بعد ذلك فلن يجد إلا تراباً، فقد رجع إلى أصله مرة ثانية، فالله خلقه من تراب وأعاده إلى الأرض مرة ثانية تراباً.
فهذا التراب تكون الإنسان منه ومن المعادن التي في هذا التراب، فكونت عظام الإنسان، وعضلاته، وعدسة عينه، وشعره، وضروسه، ودمه، فإذا تحلل الإنسان بعد موته تحلل إلى مكونات هذا التراب العجيب بنسب عجيبة وثابتة في كل إنسان.
فالإنسان يغتر في الدنيا، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] ولو أخذت هذه العناصر المكونة للإنسان لكونت منها علبة طباشير، وعلبة كبريت، ومسماراً صغيراً، هذه تركيبة المعادن التي في جسدك أنت أيها الإنسان، قال تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]، فأنت من تراب، والذي كرمك هو الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7 - 8] فلم تتكبر على الله خالقك سبحانه وقد خلقك من هذا التراب الذي تطؤه أنت بقدمك؟! قال سبحانه وتعالى هنا: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) إذاً: أصل تركيب الإنسان من هذا التراب، ثم بعد ذلك يتكاثر الإنسان ويتناسل عن طريق هذه النطفة.(303/4)
مراحل وأطوار خلق الإنسان في بطن أمه
وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره.
أي: أنه قد علم الله عز وجل وقدر عنده أن هذا سيدخل النار يوماً من الأيام لأنه شقي، والسعيد أيضاً قدر الله عز وجل وعلم أن هذا الإنسان يكون سعيداً، ونفعته المواعظ في الدنيا، والسعيد من وعظ بغيره.
فلما سمع عامر بن واثلة ذلك من ابن مسعود ذهب إلى رجل آخر من الصحابة اسمه حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، فحدثه بقول ابن مسعود وقال: وكيف يشقى الرجل بغير عمل؟ فقد تعجب كيف أنه وهو في بطن أمه مكتوب أنه شقي، كأنه يقيس علم الله على علم البشر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالله علمه علم شامل ومحيط سبحانه، علم قبل أن يخلق الخلق ما هم عاملون، ومن أي شيء يكونون، وإلى أي شيء يصيرون، وهل سيعملون بعمل أهل الجنة أو بعمل أهل النار، وكتب عنده ذلك وقدر ما شاء من تقديره سبحانه وتعالى.
فلما سأل ابن واثلة حذيفة بن أسيد قال: أتعجب من ذلك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص).
فهذا الحديث العظيم عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا خلق هذا الإنسان، وهو حديث سبق الطب بألف وأربعمائة سنة، فمن كان يعرف أن هذا الإنسان يصور في بطن أمه على هذه الصورة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة) أي: ستة أسابيع، فالنطفة تخرج من الذكر وتدخل في الأنثى ويمر عليها ستة أسابيع، قال صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله عز وجل إليها ملكاً فصورها) فيكون تصوير الإنسان في هذا الوقت.
وفي الحديث الآخر: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعة أشهر) فذكر أربعة وأربعة وأربعة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم مائة وعشرين يوماً.
فهو في هذا الحديث أجمل: أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، لكن الحديث السابق يعطي تفصيلاً أكثر، فهو يخبرنا أنه في يوم الاثنين والأربعين يأتي الملك إلى هذه النطفة ويبدأ بتشكيلها؛ ولذلك يقول أهل الطب: يبدأ تشكيل الإنسان في الأسبوع السادس، أي: بعد اليوم الثامن والثلاثين، وفي الحديث الآخر: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك).
فالنطفة هي التي تصير إلى علقة، والعلقة تصير إلى مضغة، ففي ليلة ثنتين وأربعين يشكله الله عز وجل كما يشاء، كما يذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث.
ويأتي الملك ليكتب ما يريده الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها)، فيبدأ خلقه في يوم اثنين وأربعين وفيما يلي ذلك، ولا ينفخ فيه الروح في خلال هذه الفترة، حتى إذا أتم أربعة أشهر نفخ فيه الروح بعد ذلك، فيكون قد مكث أربعة أشهر وبعد ذلك أربعة أشهر أو خمسة ويولد هذا الإنسان، فيكون قضاؤه وقدره قد كتب في اليوم الثاني والأربعين، وإن كان عند الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق مكتوب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
ويحدد جنس الجنين بعد ذلك، ولذلك إذا سقط قبل ذلك فلا يعرف هل هو ذكر أم أنثى؟ حتى يشاء الله سبحانه وتعالى فيقضي بذكر أو أنثى، فيكون التحديد من الله سبحانه وتعالى في الوقت الذي يريده سبحانه وتعالى.(303/5)
تكون الجنين من ماء الرجل وماء المرأة
وهناك ماء للرجل وماء للمرأة، أي: أن النطفة من الرجل والبويضة من المرأة يتكون منها الإنسان، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا شيئاً من ذلك، فيذهل الإنسان حين يعرف ذلك.
ولو حدث في الماضي أن امرأة أسقطت وأنزلت مضغة، وأنزلت قطعة من اللحم، فإنهم لا يعرفون ما هي قطعة اللحم هذه، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن فيها تخليقاً، والملك صورها في هذا الوقت، والعلم يصدق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
روى الإمام مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد! -صلوات الله وسلامه عليه- قال ثوبان: فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي) عليه الصلاة والسلام.
فاليهودي جاء ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أو يختبره، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب: إن اسمي محمد، وإن كان ربنا سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
فأدب المؤمنين ألا ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه: يا محمد، ولكن يقولون: يا رسول الله! أو: يا نبي الله! صلوات الله وسلامه عليه، أما أن تناديه باسمه فهذا لا ينبغي؛ ولذلك ثوبان دفع اليهودي حين فعل ذلك.
فقال اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم: (جئت أسألك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ -يعني: أنت لست مؤمناً بي أصلاً، فهل ستنتفع بما سأقوله لك؟ - فقال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟) يعني: الله يقول في القرآن: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] فأين سيذهب الناس حين تبدل هذه الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر)، فالله عز وجل يجعل العباد في مكان آخر، ويغير هذه الأرض أرضاً أخرى، ويجعلهم عليها بعد ذلك.
قال اليهودي: (فمن أول الناس إجازة؟ -يعني: من أول الناس سيمرون على هذا الجسر؟ - قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت.
قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها.
قال: فما شرابهم عليها؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً.
قال: صدقت)، أي: أنا جئت أسأل عن هذه الأشياء فكل الذي تقوله هذا صحيح.
ثم قال: (وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال: أينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، جئت أسألك عن الولد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله، قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، وانصرف اليهودي، ولم يقل: لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به)، فهنا رد العلم إلى عالمه إلى الله سبحانه وتعالى، وفوق كل ذي علم عليم، فالله هو الذي علمني ذلك سبحانه فأجبته وما كنت أعرف هذا قبل ذلك.
والشاهد من هذا الحديث: أن اليهودي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يأتي الولد؟ كيف يكون ذكراً وكيف يكون أنثى؟ فقال: (ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر)، وماء الرجل هو المني، وماء المرأة هي البويضة، والعلماء حتى عصر قريب جداً ما كانوا يعرفون حقيقة ماء المرأة، فكانوا يقولون: الرجل له ماء، والمرأة ليس لها ماء.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وجهله هؤلاء إلى سنين قليلة ماضية، والآن يذكرون: أن المرأة يفرز منها ماء أصفر يكون مع المني، فقالوا: لقد تضمن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً لماء الرجل وماء المرأة، فإن ماء المهبل يميل إلى الصفرة، وكذلك الماء الذي في حويصلة (جراف) يخرج منها هذا الماء.
وعند خروج البويضة من حويصلة (جراف) يكون الماء أصفر، فتسمى بالجسم الأصفر، وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أن ماء المرأة أصفر، وهذا من الإعجاز.
ويقول العلماء: إفرازات المبيض في المرأة حمضية، وتقتل الحيوانات المنوية، لكن إفرازات عنق الرحم في المرأة قلوية، فالمني حين يدخل على إفرازات عنق الرحم فمن الممكن لهذا الحيوان المنوي أن يعيش، ولو دخل مباشرة على البويضة لهلك ولم يعش، فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا علا ماء الرجل ماء المرأة يكون ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله، وصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه ولم يعرف هذه الأشياء أكابر علماء الطب حتى اكتشفوا قريباً أن المرأة لها ماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من سنين.
وقد ذكر الشيخ الزنداني حفظه الله أنه ناقش بعض علماء الطب من المسلمين أن الحديث يذكر ماء المرأة، فسألهم: هل للمرأة ماء؟ فقالوا: لا، هذا الجواب من قبل علماء الطب المسلمين المتخصصين في النساء والولادة والمختصين في ذلك، فقال: إنه جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة لها ماء، فقال أحدهم: دعني أبحث، ورجع لمراجع حديثة ورجع للشيخ يقول له: وجدنا فعلاً أن المرأة لها ماء، والمراجع الحديثة تقول هذا الشيء، فسبحان الله العظيم! لقد كان يخفى على علماء من علماء الطب هذا حتى عصرنا الحالي، حتى قال الأجانب هذا الشيء واكتشفوه وصدقوا ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه عن ذلك، وعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.(303/6)
علم الله بما تحمل الأرحام وبأعمار البشر
يقول الله سبحانه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) أي: ذكوراً وإناثاً، يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49 - 50].
قال تعالى: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي أنثى كانت من إنسان أو من حيوان أو من غيره، ما تحمل ولا تضع حملها إلا بإذن الله وبعلم الله سبحانه وتعالى، وكل شيء في كتاب.
قال تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ).
فهناك إنسان يعيش حتى يصير معمراً، ويصير شيخاً كبيراً، وإنسان آخر يموت وهو صغير، فما يعمر من معمر من البشر، أو ينقص من عمر إنسان من البشر إلا بعلم الله سبحانه وتعالى، وقد يقضي لإنسان بعمر معين عنده، والعمر عند الله لا يزيد ولا ينقص، ويكتب في صحف الملائكة أن عمره ستون عاماً إن وصل رحمه، فإن لم يصل رحمه كتب عمره أربعين عاماً، وهذا في أيدي الملائكة، أما في اللوح المحفوظ فمكتوب عند الله عز وجل ما لا يغير وما لا يبدل.
فقوله تعالى: (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) محمولة على واحد من الناس أو محمولة على أصناف، فلا يزيد في عمر الإنسان ولا يموت إنسان ويتوفى في وقت معين إلا بعلم الله سبحانه وتعالى، وكله مكتوب عنده في كتاب.
وهذا الأمر لو نظرت فيه جيداً لوجدته كثيراً جداً وكبيراً وصعباً، فكم من إنسان موجود في هذه الدنيا، وكم من حيوان، وكم من حشرة، وكل شيء عند الله عز وجل مكتوب، والذي يكتب ذلك هو الله سبحانه وتعالى بعلمه، وهذا يسير على الله بقوله: كن فيكون، فهذا يسير على الله، إذ يريك قدرته وعظمته سبحانه وآياته في الكون.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتفكر في آياته، ويؤمن ويوقن بها، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(303/7)
تفسير سورة فاطر [12 - 14]
لقد خلق الله عز وجل هذا الخلق فأبدعه، وجعل هذا الخلق شاهداً لعظمته، وبديع صنعه سبحانه، وجعل في خلقه من العظمة والجمال ما تتحير منه فطن أولي الألباب، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على اللطيف الخبير؟ وهل تقود إلى عبادة غير القدير؟ فويل للمشركين عبدة الأوثان من شر يوم مستطير.(304/1)
تفسير قوله تعالى: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:12 - 14].
يذكر لنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات بعضاً من عظيم آياته في هذا الكون لنتدبر فيها، وكيف أن الله خلقها وسخرها لنفع عباده، وكيف أفادهم من هذه الأشياء.
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر:12]، وقال في سورة الرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:19 - 21]، أي: فبأي نعم الله سبحانه تكذبان؟! والبحر نعمة عظيمة للعباد، فمنه ما هو: {عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر:12]، ومنه الملح الأجاج، أي: شديد الملوحة، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، وسخر البحر كذلك: {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46].
وانظر إلى البحار والمحيطات التي تحيط بهذا الكون، فإنها تغمر أكثر سطح الأرض، ومع ذلك فقد جعل الله عز وجل للعباد رزقاً فيها، فالبحر مالح والمحيط أشد ملوحة منه، وماء عذب فرات يجري في الأنهار أو في العيون، وهذه نعم من الله سبحانه وتعالى على العباد، فهم يشربون من المياه العذبة الفرات التي خلقها الله عز وجل لهم، ويأكلون طعاماً من البحر ومن النهر ومن المحيط، ويستخرجون حلياً يلبسونه ليشكروا نعمة الله سبحانه.
((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، أفلا تشكرون نعم الله عز وجل عليكم؟ {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر:12]، أي: لا يستوي ماء البحر المالح وماء البحر العذب، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [فاطر:12] أي: شديد العذوبة تشربونه وتستسيغونه، كماء النهر، ومياه العيون والآبار، فهي مياه عذبة تشربونها وتستسيغونها، والفرات بمعنى: الحلو، سائغ شرابه، أي: أن الإنسان يقدر على ازدراده وابتلاعه، ومنه قولهم: أساغ اللقمة بالماء إذا أراد أن تنزل من حلقه بعد أن علقت به، أما الماء المالح فلا يقوى على استساغته، ولا يستطيع بلعه.
وانظر إلى شراب أهل النار، فقد ذكر الله عز وجل عنهم أن شرابهم الصديد في النار، وأنهم لا يستطيعون استساغته، فقال: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17]، أي: لا يقدر أن يبتلعه، وكيف يبتلعه وهو من النار والعياذ بالله، ولكن الماء الفرات البارد من نعم الله عز وجل على عباده، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد أكلوا تمراً أو بلحاً وشربوا ماءً عذباً: (هذا من النعيم الذي تسألون عليه).
والأجاج: هو الشديد الملوحة، وأيضاً: يطلق على مر المذاق، وكأنه يريد منك أن تقارن بين هذا وذاك، ومع ذلك جعل الله عز وجل لهذا مخلوقات تعيش فيه وتستسيغه، فهناك أسماك معينة للبحر العذب، وهناك أسماك معينة للبحر المالح.(304/2)
معنى البرزخ في قوله سبحانه: (بينهما برزخ لا يبغيان) والإعجاز العلمي فيه
لقد أخبرنا سبحانه عن اختلاط البحر بالنهر فقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19]، أي: النهر والبحر، والمارج: هو الشيء المختلط، فيحصل اختلاط بين البحر المالح والنهر العذب، ومع ذلك فلا يتأثر الملح بالعذب ولا العذب بالملح، فسبحان الله! {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20]، فمن قدرة الله عز وجل أن جعل بين البحرين برزخاً، أي: ماءً وسطاً بن الملح والعذب تعيش فيه أسماك معينة لا تقبل الماء المالح، أو الماء العذب، وفائدته: الفصل بين البحر المالح والنهر العذب، بحيث لا يختلطان، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، والبرزخ: هو المكان الفاصل بين الاثنين، {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، أي: مانعاً لمخلوقات هذا البحر أن تعيش في هذا النهر والعكس كذلك.(304/3)
الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (ومن كل تأكلون لحماً طرياً) وقوله: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
ثم قال سبحانه: {وَمِنْ كُلٍّ} [فاطر:12]، أي: من البحر العذب والبحر المالح، {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12]، أسماكاً وغيرها، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12] قال الله سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:18 - 22]، أي: يخرج من الاثنين، من الماء العذب ومن الماء المالح، وكان المفسرون يقولون: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22]، أي: على سبيل التغليب، وإلا فلا يخرج اللؤلؤ والمرجان إلا من الماء المالح فقط، وهذا هو المعروف عند العرب، وهذا من أدلة إعجاز القرآن العظيم الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، والذي كان عربياً مثلهم.
لكن العلم الحديث أثبت لنا بأن هناك أنهاراً موجودة يخرج منها اللؤلؤ والمرجان، ويخرج منها الحلي للناس، ولذلك لم تعرفها العرب، وتوجد هذه الأنهار في الهند وفي الصين وفي روسيا وفي أمريكا وفي ألمانيا وغيرها؛ ولذلك تأول المفسرون هذا الآية: أنه يخرج من أحدهما -وهو المالح- اللؤلؤ والمرجان.
قال سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وهناك قال: {وَمِنْ كُلٍّ} [فاطر:12]، أي: الاثنين: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12]، ومن كل أيضاً: {تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، وقد يكون هذا الشيء موجوداً عند العرب ولكنهم لم يكتشفوه في وقت نزول القرآن فيهم، والقرآن لم ينزل لزمانهم فقط، بل نزل لكل زمان إلى قيام الساعة.
ولذلك تجد الآن في بلاد العرب من يأخذ الرمل الموجود حول هذه الأنهار فيفتته ويحلله ويخرج منه الذهب؛ ولذلك يقولون: إن أنهار العرب فيها من الطين ما هو ممتلئ بالذهب، وهذا شيء لم يكن موجوداً في الماضي ووجد الآن، يقول سبحانه: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:12]، أي: ومن آياته: أنه يرسل هذه الرياح لتثير السحاب ولتجري الفلك في البحار والأنهار بأمر الله سبحانه، ليخرج الإنسان الصياد فيركب قاربه مبتغياً الرزق من الله سبحانه وتعالى، ((لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ))، ((وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ)) يعني: تمخر الأمواج، أي: تشقها وتشق أمواجه وتسير فيها بتسيير الله سبحانه لها وبتيسيره، لتبتغوا من فضل الله سبحانه ومن رزقه، فهو الذي سخر لكم ذلك ولن يغرقكم إلا حين يشاء سبحانه وتعالى.
ثم ترك لكم الخيار في الأكل من البر أو البحر وسخر لكم من فضله سبحانه، قال: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12]، أي: فإذا أخذتم وإذا لبستم حمدتم الله سبحانه وشكرتموه على نعمه، وهو القائل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].(304/4)
تفسير قوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجلٍ مسمى) والإعجاز العلمي فيها
قال سبحانه وتعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، والإيلاج: هو إدخال شيء في شيء، فالأرض كروية تدور حول نفسها، والشمس تجري لمستقر لها.
وقد اكتشف رواد الفضاء عندما خرجوا من العلاف الجوي للأرض: أن الظلام محيط بالأرض من كل جانب، وأن الله سبحانه وتعالى قد جعل حول الأرض شيئاً معيناً بحيث تنعكس عليه أشعة الشمس نحو الأرض فيظهر النهار، فالنهار هو الذي يجلي الشمس ويظهرها، فتراها وأنت في داخل الأرض؛ ولذا قال سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1 - 4]، فأقسم بالشمس، وبضحى هذه الشمس، وبالقمر، وبالنهار الذي يجلي هذه الشمس ويظهرها، وبالليل كذلك.
وقد كان المفهوم السائد الغالب في الماضي أن الشمس هي التي تجلي النهار وتظهره، حتى جاءت هذه الآية لتبين الحقيقة العجيبة، قال تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3]، أي: إذا أظهر الشمس.
ولذلك تحير العلماء في ماهية النهار وحقيقته، حتى قالوا: إنه الطبقات الترابية أو الغلاف الذي يحيط بالأرض، فإنه إذا واجه الشمس انعكست أشعتها عليه فظهر النهار وكأنه شيء بين الأرض وبين الشمس، فإذا تحركت الأرض ودارت حول نفسها ذهبت أشعة الشمس إلى المكان الذي كان مظلماً قبل ذلك، وأظلم هذا المكان الذي كانت فيه أشعة الشمس أولاً، وهكذا يتعاقب الليل والنهار.
وهذا دليل ظاهر على كروية الأرض، فإن الأرض لو كانت مسطحة لواجهت أشعة الشمس ولدام عليها النهار أبداً، وهو مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، فالنهار يكون على جزء منها، كما أن الليل يكون على الجزء الآخر، وهذا دليل ظاهر على كروية الأرض.
يقول العلماء: وقد كشف العلم الحديث: أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد، وهو بسيط جداً بالنظر إلى الليل الدامس الموجود في الكون ككل؛ ولذلك ذكر الله عز وجل انسلاخ الليل عن النهار فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37]، فإذا دارت الأرض سلخت هالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزيئات الموجودة في الهواء، فكأن الأرض كرة حولها غلاف من الهواء، فانعكست أشعة الشمس على هذا الغلاف، فأخذت فجوات في هذا الغلاف فظهر الضوء من خلالها في المكان، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37].
وهنا يقول عز وجل: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [فاطر:13] أي: يدخل هذا في ذاك، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر:13]، فكأن الاثنين معاً، وقال في موضع آخر: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، أي: يخلف الليل النهار والنهار الليل، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض كروية كما سبق، وسيستمر هذا الوضع إلى أن يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، فالشمس تقع على بعد معين من الأرض لا ينقص ولا يزيد.(304/5)
تجلي عظمة الله سبحانه في مخلوقاته
تبعد الشمس عن الأرض حوالي: (150) مليون كيلو متر، بينما تقطع أشعة الشمس هذه المسافة من الشمس إلى الأرض في (8) دقائق و (0.
3) جزء من الدقيقة، ولو أن الشمس اقتربت كيلو أو اثنين من الأرض لاحترقت الأرض بمن فيها، أو لتبخرت جبال الثلج الموجودة في الأرض ولمات الناس غرقا.
والإنسان في الصيف لا يستطيع أن يقف تحت الشمس لمدة طويلة، بل إن درجة الحرارة في الصيف في بعض البلدان تصل إلى (60) درجة مئوية، حتى إن بعض البلدان تعلن للناس حظراً يقضي بعدم الخروج من المنزل للوظائف وغيرها بسبب حرارة الشمس الشديدة، وتبلغ درجة حرارة الغلاف الخارجي للشمس فقط: ستة آلاف درجة مئوية، أما درجة الحرارة في داخل الشمس فقد تصل إلى ستة ملايين درجة مئوية، وتخيل كيف سيصبح حال الإنسان يوم أن تدنو الشمس من رأسه يوم القيامة مقدار ميل؟ والميل يساوي كيلو وسبعمائة متر تقريباً، أي: اثنين كيلو إلا يسيراً، وبعضهم قال: بل هو ميل المكحلة: وهو العود الذي يوضع داخل المكحلة من أجل التكحل، فمن يطيق هذا الدنو أو ذاك؟! وفي ذلك اليوم يخفف سبحانه عمن يشاء من عباده، ويظل من يشاء في ظله يوم لا ظل إلا ظله -نسأل الله عز وجل أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله- تدنو الشمس من الرءوس يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يغطي عرقه قدميه، ومنهم من يغطي ساقيه إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يغطي منكبيه، ومنهم من يغطي العرق رأسه، وهذا العرق الذي يصيب الإنسان إنما هو بسبب أنه لم يبذل في الدنيا، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى، ولم يؤد حق الله سبحانه وتعالى في الدنيا، وهذا العرق تعذيب من الله عز وجل للإنسان في هذا الوقت على ما قصر في عبادته لربه سبحانه وتعالى.
وهنا أخبرنا الله سبحانه عن الشمس فقال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، أي: جعل هذه الشمس المشرقة المحرقة المشتعلة المتوقدة، كما قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]، فجعل لنا ليلاً ونهاراً، فلو كان القمر مشتعلاً كالشمس لكانت الأرض كلها نهاراً، ولكن الله عز وجل جعل آية الليل القمر، وآية النهار الشمس، فالشمس تضيء للعباد، والقمر ينير، وقد كان القمر مشتعلاً يوماً من الأيام؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12].
أي: أن آية الليل -وهو القمر- كان كهذه الشمس آية مبصرة مشتعلة يخرج منه النور والنار، ولكن الله محاها وطمسها، قال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء:12] أي: لتنامون في الليل ولتبتغوا فضلاً من الله سبحانه وتعالى في النهار.
{وَلِتَعْلَمُوا} [الإسراء:12]، أي: بتعاقب الليل والنهار: {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]، فلو جعل الأرض نهاراً بأسرها لما عرفنا الفرق بين يوم وآخر، فالله عز وجل جعل هذه آية من الآيات العجيبة جداً.
وقد اكتشف العلماء أن القمر كان مشتعلاً يوماً من الأيام، وأنه الآن منطفئ، وإن كانوا يقولون: إن باطنه ما يزال مشتعلاً.
فالله عز وجل يقول: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [فاطر:13]، فإذا ظهرت الشمس للعباد أتى النهار مباشرة، وإذا غابت الشمس أتى الليل بعدها مباشرة، قال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:38 - 39]، وقد تحدث العلماء: أن القمر ينزل في برج من الأبراج كل ثلاثة عشر يوماً إلى أن يدور في العام كله في السنة الهجرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً، فتنتهي بذلك السنة القمرية، وهذا كله لتعلم عدد السنين والحساب الذي تحسب به الليل والنهار.
فالله سبحانه سخر لعباده هذا الكون كله للعبادة، وقد قال أهل العلم: إنه اكتشفت مجرات عديدة جداً غير هذه المجرة التي تضم الأرض، وقد تصل المجرات المكتشفة إلى الآن إلى أكثر من أربعمائة مليار مجرة في هذا الكون، وكل مجرة تساوي المجرة التي نحن فيها بل بعضها أعظم وأضخم، وهذه أرقام عجيبة جداً، في حين أن العلماء كانوا يعتقدون بأن عدد المجرات كلها هو: مائة مليار مجرة، أما المجرة التي تضم كوكب الأرض فيها والمسماة: بدرب التبانة، فإن كتلتها تصل إلى (230) مليار مرة قدر كتلة الشمس، فهي تكبر الشمس بـ (230) مليار مرة، وهذه مجرة واحدة فما بالك بأربعمائة مليار مجرة؟! أرقام فوق الخيال والعقل.
وإذا تفكرت في الكون فلا تتفكر في رب الكون سبحانه، فإذا كنت لا تستطيع تخيل المجرة، فكيف بتخيل خالقها؟ فلا يجوز ذلك، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، سبحانه وتعالى.
قال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [فاطر:13]، أي: وسخر هذه المجرات التي تجري في هذا الفضاء الواسع بشموسها وأقمارها ونجومها وما إلى ذلك من عظيم خلقه سبحانه، وهي تجري من مكان إلى مكان بحساب جعله الله سبحانه وتعالى لها، وكذلك النجوم التي تموت وتولد كالإنسان والحيوان والنبات وغيرهم، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، فالشمس تجري إلى أن يأتي الأجل المسمى، وإلى أن يوقفها الله ويفعل بها ما يشاء سبحانه، وكذلك القمر، قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر:13]، فهو الذي سخر هذا كله إلى أجل قد سماه الله وحدده عنده سبحانه، ذلكم العظيم القادر القاهر الذي يستحق العبودية وحده لا إله غيره سبحانه.(304/6)
المالك الحقيقي هو الله سبحانه
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر:13]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] سبحانه وتعالى!!.
وإذا تخيلت شيئاً من ملكوت الله سبحانه كهذه المجرات والشموس والأقمار التي هي في الدنيا، فتخيل السماء والسماوات التي لم يطلع عليها أحد.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن سمك السماء الواحدة مسيرة خمسمائة عام، وأن ما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام)، ثم فوق السماء السابعة ما يشاء الله عز وجل من خلق، ثم فوق ذلك سدرة المنتهى، ثم فوق هذا كله عرش الرحمن سبحانه وتعالى.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلى كحلقة في فلاة)، والكون هذا كله في السماوات كحلقة في فلاة أيضاً، وإذا قورن الكرسي بالعرش فهو لا شيء بالنسبة للعرش.
ثم قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، أي: لا يملكون شيئاً، فالملك الحقيقي هو لله حتى وإن أعطاك المال، وحتى لو زعمت أنك اكتسبته بعرق جبينك فلن تأخذه معك إلى القبر يوم وفاتك، فالملك هو الله عز وجل حقيقةً، وقد حاول الفراعنة في الماضي أن يدفنوا الذهب مع الأموات في القبور، فجاء من بعدهم من نبش هذه القبور وأخرج ما فيها من الذهب فلم يستطيعوا عمل شيء بها، والقطمير: هو الغلاف الرقيق الذي يغطي نواة التمرة، والنقير: هي النقرة وراء النواة، وأما الفتيل: فهو الخيط الرقيق الموجود وسط النواة، فخاطب الله العرب بشيء محسوس يعرفونه في طعامهم، ومعنى الآية: أن القطمير والفتيل والنقير لا تملكه أنت، بل يملكه الذي أوجده وهو الواحد القهار، بل ولو دعي الإنسان الضعيف إلى صنع نواة كهذه توضع في الأرض فتنبت شجرة باسقة لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، فالذي يملك هذا كله، هو الله سبحانه الذي خلق وأبدع وأوجد وجعله آية لخلقه.
وإذا نظرت إلى هذه الأصنام الآلهة المعبودة من دون الله سبحانه لعلمت أنها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولا الشيء اليسير، وحتى الغني في مرض موته لا يستطيع أن يتصرف بماله إلا بالثلث فقط، مع أنه قد يكون هو الذي تعب في جمعه، ولكن الله يأبى أن يكون الملك إلا له سبحانه وتعالى؛ ولذلك فعلى الإنسان أن ينتهز الفرصة فيتصدق لله عز وجل في صحته وعافيته؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ فكلهم قالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فمالك ما ادخرته عند الله سبحانه وتعالى)، أي: أنه يكون باقياً عند الله عز وجل: (ومال وارثك ما أبقيته لهم)، فما جمعته ونميته من ثروة هو مال الوارث في الحقيقة، أما مالك أنت فهو ما أنفقت لله سبحانه وتعالى.(304/7)
تفسير قوله تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)
قال الله سبحانه: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]، هذه الآية تبين حقيقة المدعوين من دون الله، فهم يدعون الأصنام من دون الله سبحانه، فمهما دعوتم فلن يستجيبوا لكم، والعجب أن المشركين يعرفون ذلك، وأن هذه الأصنام لا تنفع ولا تسمع ولا تضر، ومع ذلك يذهبون إليها يدعونها ويستشيرونها ويتكلمون عندها ابتغاء بركتها.
فهم يعتقدون أنها تنفعهم وتقربهم إلى الله مع أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنها لا تملك لنفسها أو لغيرها شيئاً: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]، وهذا فرض جدلي؛ لأنهم لا يسمعون أصلاً، فإذا افترضنا أن الله خلق في هذه الأصنام سمعاً تسمع وعقلاً تعقل به فلن تستجيب لكم.(304/8)
تبرؤ الآلهة ممن يدعونهم من دون الله يوم القيامة
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]، سواءٌ كانت هذه الآلهة أصناماً وأحجاراً، أم أناساً ميتين، أم كانت شمساً وقمراً وأشجاراً وأنهاراً وغيرها مما عبد الخلق، والكفار أغبياء جداً في فهمهم لمعنى الألوهية، فهو يذهب إلى الصنم بأسهمه إذا أراد أن يسافر، فيأخذ الأسهم ويقرع بينهن، فإذا خرج سهم السفر فرح بذلك، وإذا خرج سهم القعود وعدم السفر أقرع بينها مرةً ثانية، فهو يعلم أن هذا الصنم لا يملك لنفسه شيئاً قبل أن يملك لغيره، وهكذا هو عقل الكافر في كل زمان ومكان، وهذا الغباء هو ما يعرفه الكافر إذا دخل في دين الله وأسلم، فكيف يعطيك الله ويرزقك ثم تعبد من لا يملك لنفسه أو غيره شيئاً؟! ويوجد الآن من يعبد البقر مع أنها تذبح أمامه، ومع ذلك يسجد لها من دون الله سبحانه وتعالى.
وهناك من يصنع تماثيل عالية جداً كبوذا ويعبدها من دون الله تعالى، مع أنه صنعها بنفسه من الحجارة، وقد حدثني أحد الأساتذة في الطب وكان قد سافر إلى اليابان، فقال: إن الناس هناك يذهبون إلى بوذا في المعبد ومع كل واحد منهم جرس ليؤدوا طقوس العبادة له من دون الله سبحانه، فسأل أحدهم مرةً عن هذا الجرس ماذا يصنعون به؟ فأجابه أحدهم: أنهم يوقظون الإله ليعطيهم حاجياتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا هو حال الإنسان الذي لم يعرف الله تعالى، ففي قلبه ظلمة وفي عقله غباء، فهو يستدل بالباطل على الباطل، يجد نور الحق أمامه ومع ذلك لا يذهب إليه ولا يتبعه؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل الغشاوة على أبصارهم فعبدوا غيره سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، فهؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله يتبرءون يوم القيامة منكم ويكفرون بما أشركتم، حتى إن الشيطان يقول: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فأنا لا تعجبني عبادتكم، بل أنا كافر بعبادتكم إياي، ولست معترفاً ولا مقراً بأني إله من دون الله تعالى، قال سبحانه: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
ثم قال الله سبحانه: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، فهل تريد أن ينبئك غير ربك سبحانه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فلا ينبئك مثله سبحانه وتعالى، فهو الخبير بخبايا النفوس، وبما يكون في الغيب، فسترجع الأمور إلى الله سبحانه وتعالى وسيجازي عباده أجمعين: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(304/9)
تفسير سورة فاطر [15 - 18]
الله عز وجل هو خالق المخلوقات وهو رازقها وحده، ومن أسمائه سبحانه أنه الغني الوهاب المعطي الرازق اللطيف الكريم، فما من نعمة إلا وهي منه، وما من فضل إلا وجاء من عنده، فهو الغني سبحانه، والغنى وصف ذاتي له، كما أن الفقر وصف ذاتي للإنسان، ومع غناه سبحانه عن خلقه فهو حميد لمن شكره على نعمه، وحميد في أفعاله، ومن أفعاله الدالة على أنه حميد: أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره، وإنما يجازي كل إنسان على ما قدم؛ فالإنسان مسئول عن أفعاله مسئولية فردية أمام الله سبحانه.(305/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:15 - 18].
هنا ينادي الله سبحانه تبارك وتعالى الخلق جميعهم ويخبرهم سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
أي: يا أيها الناس! كلكم فقراء إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، والله وحده هو الغني وهو الحميد سبحانه تبارك وتعالى.
فالناس فقراء بأصل خلقتهم.
والإنسان بأصله فقير، والله هو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى.
وعقب بعد الغني بأنه الحميد سبحانه تبارك وتعالى؛ ليبين للناس أن من كان غنياً في الدنيا فليس بأصل خلقته وإنما أغناه الله، واغتنى بإعطاء الله له.
ومع ذلك يبخل على الخلق، فلا يستحق أن يحمد في صنيعه لأنه بخيل، مع أن الله سبحانه هو الذي أعطاه المال.(305/2)
بيان غنى الله سبحانه وتعالى
الله سبحانه هو الغني الحميد فهو الغني بذاته سبحانه، وعطاؤه إنما يكون بقوله: كن فيكون، وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أي: يعطي بالليل وبالنهار.
فيرفع العباد أيديهم إليه: يا رب يا رب، فيستحي أن يردهم صفراً بغير شيء بل يعطيهم سبحانه تبارك وتعالى ما سألوه وفوق ما سألوه، وإن منعهم سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا فيدخر لهم إلى يوم القيامة، فيعطيهم عطاء لم يكن على بال أحدهم، حتى إن العبد ليأتي يوم القيامة ويجد جبالاً من الحسنات لم يعملها فيسأل ربه سبحانه فيقال له: هذا دعاء لم نستجبه لك في الدنيا.
أي: سألتنا في الدنيا فادخرناه لك إلى الآخرة.
فيتمنى العبد لو أن كل دعائه لم يستجب له وأنه ادخر له إلى يوم القيامة.
والله عز وجل يستجيب الدعوات ويعطي صاحبها إحدى ثلاث: إما أن يعجل الإجابة له سبحانه، ويعطيه ما سأل، وإما أن يصرف عنه من الشر بقدر هذا الذي سأل؛ لأنه لو نال هذا العبد الخير الذي طلبه لأتته مصيبة من المصائب أو أتاه شر، فالله سبحانه من رحمته لا يعطيه ما سأل، وإنما يصرف عنه ما نزل، سبحانه تبارك وتعالى، أو أنه يدخر ذلك للعبد إلى يوم القيامة.
ولو تأمل العبد هذا لوجد هذا أفضل له.
فالعباد فقراء إلى الله سبحانه، والله هو الغني وهو الذي يعطي سبحانه تبارك وتعالى من فضله ومن غناه.
وهو الحميد المستحق للحمد على صفاته العظيمة، ومنها صفة الكرم، فهو الكريم سبحانه تبارك وتعالى، فإنه يعطي عباده عطاءً عظيماً، وكل عطائه عظيم سبحانه.
والناس فقراء إلى الله وإن كانوا يقولون: نحن أغنياء.
فقد يكون الإنسان مليونير، ويقول: أنا غني وحقيقته أنه مفتقر إلى الله؛ لأن المال مال الله وليس مال العبد، فالعبد وإن كان معه المال الكثير فهو فقير إلى الله.
والفقير: محتاج.
فلا يستغني أحد أبداً عن ربه سبحانه، وإن كان معه مال، فلعل الله يسلبه الصحة أو يبتليه بشيء، فيبقى فقيراً محتاجاً إلى الله مع أنه عنده المال والثروة وعنده كذا كذا.
إذاً: كل إنسان يستشعر الحاجة إلى الله والذل إليه سبحانه تبارك وتعالى ويدعو ربه بالليل وبالنهار، ويسأله ويطلب منه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [فاطر:15].(305/3)
شرح الحديث القدسي (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.
يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد أو كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فهذا الحديث العظيم فيه بيان ما ذكرنا من افتقار العباد إلى الله وحاجتهم إليه سبحانه.
فقوله: (يا عبادي! كلكم ضال)، أي: أنتم مفتقرون إلى الهداية.
(إلا من هديته)، أي: إلا من أنعمت عليه وتكرمت عليه فهديته إلى الصواب وإلى الدين الصحيح وإلى معرفة الرب سبحانه تبارك وتعالى، فنحن مفتقرون إلى هدى الله، ولذلك في كل صلاة نقرأ الفاتحة ونقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
وقوله: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته).
والذي يطعمنا هو الله سبحانه تبارك وتعالى.
فقد خلق لنا رزقنا من طعام وشراب، وخلق لنا الأعضاء التي ننتفع بواسطتها بهذا الطعام والشراب.
فعلى العبد أن يسأل ربه سبحانه: اللهم أطعمني.
فيطعمه سبحانه تبارك وتعالى.
فهو الذي خلق له هذا الرزق، وأتاه به، وهيأ له أسبابه، وجعله يأكل ويخرج، والله على كل شيء قدير.
وقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني)، أي: اطلبوا مني ولا تطلبوا من غيري، (فاستطعموني أطعمكم).
وقوله: (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته)، أي: لو شاء الله سبحانه لأذهب ما عندكم من كسوة، ولكنه بكرمه يعطي العباد ويكسوهم فاسألوه الكساء.
وقد قال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، أي: اتقوا الله سبحانه، فإنه يعلمكم ويطعمكم ويسقيكم ويكسوكم ويكفيكم ويؤويكم، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي.
يقول سبحانه في الحديث: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).
والعبد محتاج إلى ربه فهو خطاء بالليل وبالنهار، والله بكرمه يغفر بالليل وبالنهار لعباده.
(فاستغفروني أغفر لكم).
وقوله: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، أي: أن العبد مهما تقرب إلى الله فإن الله لا ينتفع من عمله بشيء، ومهما عصى ربه فلن يضر ربه شيئاً ولن يضر إلا نفسه.
فالله غني عن خلقه وعن عبادتهم وقد ذكر الله في لحوم الأضاحي والهدايا التي يذبحونها لله سبحانه تبارك وتعالى أنه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، أي: لن يأخذ الله اللحوم ولا الدماء لينتفع بها، ولكن الذي يريده الله سبحانه تبارك وتعالى ويصل إليه هو التقوى منكم.
فاتقوا الله ليفيض عليكم بفضله وغناه، ويعطيكم من رزقه سبحانه وينصركم ويكون معكم.
وقبل أن يخلق الله البشر خلق الملائكة، وقد كانوا أقوياء أتقياء لله سبحانه، لا يعصون الله شيئاً، ولكنه سبحانه أراد إظهار أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، من أنه الغفور الكريم الغني القادر القاهر فوق عباده النافع الضار المعز المذل، فخلق الخلق لتظهر آثار صفاته وأسمائه الحسنى سبحانه تبارك وتعالى.
فقال هنا لعباده: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فلو أن العباد كلهم كانوا فجاراً لما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، ولو أنهم كلهم كانوا أتقياء أبراراً لما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً.
وقوله: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد)، أي: لو أن الخلق جميعهم الذين سيجمعهم الله يوم القيامة من إنس وجن ومخلوقات قاموا بين يدي الله سبحانه فسألوه وطمعوا في كرمه سبحانه وطلب كل منهم كل ما شاء وتمنى من الله عز وجل فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عند الله إلا كما ينقص المخيط -أي: الإبرة- إذا أدخل البحر.
وهذه الإبرة لو غمست في البحر ثم أخرجت فإنها لا تنقص من ماء البحر شيئاً.
وكذلك لو أن الخلق كلهم سألوا الله عز وجل فأعطاهم ما سألوا لم ينقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً.
يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها)، أي: أعد عليكم أعمالكم ثم يوم القيامة أوفيكم إياها.
(فمن وجد خيراً) وهو من الله (فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فقد أعذر إليه ربه سبحانه ووعظه ونصحه وأنزل عليه كتابه وأرسل إليه رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ولا حجة للناس على الله بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام.
إذاً: فالإنسان فقير مهما أوتي من المال، وهو محتاج إلى ربه، فليدعوه ليل نهار، فهو الفقير بذاته إلى ربه، والله هو الغني بذاته سبحانه تبارك وتعالى.(305/4)
بيان كرمه سبحانه ونعمه على عباده
روى الإمام أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، -يعني: أخرج المنبر أو صنع منبر ووضع في المصلى- ووعد الناس يوماً يخرجون فيه).
قالت عائشة: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس)، يعني: خرج في أول وقت الضحى صلى الله عليه وسلم إلى المصلى ليصلي بالناس صلاة الاستسقاء، ويدعو ربه سبحانه أن يسقيهم، فقعد على المنبر صلوات الله وسلامه عليه، فكبر وحمد الله عز وجل، وهذا من أدب الدعاء وأدب الطلب من الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه)، أي: عن وقت زمانه عنكم.
(وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنت إله واحد لا معبود حق سواك، وأنت الغني تعطي من يحتاج إليك، وتعطي عبادك ما يسألونك، وتعطي بغير سؤال، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين، أنزل علينا الغيث).
ولم يقل أنزل علينا المطر؛ لأن المطر قد ينزل رذاذاً من السماء لا ينتفع به، ولكن الغيث مطر كثير عظيم غزير وفير من الرب سبحانه تبارك وتعالى، ينقذ به عباده ويغيثهم مما هم فيه.
ولما كان الغيث قد يكون ماءً كثيراً يغرق الناس قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: (واجعل ما أنزلت لنا قوة)، أي: اجعله يقوينا، فلا يضيعنا ولا يهلكنا.
وقوله: (وبلاغاً إلى حين).
أي: يبلغنا إلى حين أن يريد الله سبحانه تبارك وتعالى ويشاء.
قال: (ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه)، يعني: رفع يديه رفعاً شديداً إلى السماء، وقلب كفيه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، استبشاراً بأن ينزل الله المطر، وأيضاً بتحويل الحال، وقلب رداءه الذي يلبسه فوق منكبيه ظهراً لبطن أيضاً، استبشاراً بتغير الحال.
(ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت).
وقد كانت السماء صافية، فإذا بالله عز وجل ينشئ سحابة فخرجت أمام الناس، (فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، قال: فلم يأت مسجده حتى سالت السيول) وهذا من فضل الله واستجابته لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سرعتهم إلى الكن ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله).
ونحن نشهد أن الله على كل شيء قدير، وأنه عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا فضل الله سبحانه، وهذا دعاء نبيه الكريم يدعوه: أنت الغني ونحن الفقراء إليك.(305/5)
القراءات الواردة في الآية
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
وهنا همزتان همزة مضمومة والأخرى مكسورة.
وقد كان بعض العرب يصعب عليهم أن يقرأوا همزتين متتاليتين، ولذلك كانوا يخففونها.
وقد قال الخليل وغيره من أئمة اللغة: والتخفيف هو الأيسر أو الأصوب عند العرب.
فالقراء منهم نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب يقرءونها: (أنتم الفقراء الى الله)، وفي قراءة أخرى: (أنتم الفقراءُ لى الله) بالهمزة في الأولى والتخفيف في الثانية.
وباقي القراء يقرءونها بهمزتين: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15].
فعند التقاء الهمزتين كان العرب يحذفون إحدى الهمزتين تخفيفاً، ويعتبرون ذلك أجود في اللغة.
ومن ذلك قراءة حفص في قوله تعالى: (أآعجمي وعربي)، أصلها (أأعجمي وعربي)، ولكنه سهلها؛ لأنها أخف على ألسنة البعض من العرب.(305/6)
تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم وما ذلك على الله بعزيز)
يقول الله سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر:16].
أي: إن يشأ سبحانه تبارك وتعالى يهلك ويفني هؤلاء الموجودين الذين يعصون الله ويكفرون به، ويأتي بخلق آخرين يعبدون الله ولا يعصونه ولا يكفرون به سبحانه.
قال تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فالطر:17] أي: أن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وليس ذلك بممتنع عليه، وعزيز هنا بمعنى: ممتنع.
قال تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:17]، أي: وما ذلك على الله بالشيء الصعب والمتعذر، ولكنه من أسهل ما يكون، فإنه إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون.(305/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18].
والوزر بمعنى: الحمل.
والمقصود به: الحمل من الإثم، أي: ما يحمله من آثام وذنوب.
فقوله: ((وَازِرَةٌ))، يعني: نفس محملة بالذنوب.
وقوله: ((وَلا تَزِرُ))، يعني: لا تحمل عنها.
إذاً: فقوله: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))،يعني: أن النفس المحملة بالآثام لا تحمل إثماً من آثام نفس ثانية.
أي: أن أهل الإثم والمعاصي لا أحد يحمل شيئاً عن الثاني.
وقد كان الكفار يقول بعضهم لبعض ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12]، أي: نحن نحملها عنكم، فقد كانوا عجباً في الغباء.
وأحدهم عندما سمع قوله تعالى عن النار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] وكان يكنى بـ أبي الأشدين وكان من العرب الأقوياء جداً، وكان غباؤه على قدر قوته.
قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر.
وهذا من الغرور والغباء، وإلا فهو يتكلم عن ملائكة الله ولم يراهم.
ومثل هذا الكلام كان يعجب الحمقى والمغفلين من المشركين ويهون عليهم الأمر.
فيصدقونه في هذا التخريف الذي يقوله.
وكان بعضهم يقول لبعض: اعمل هذا الشيء وعلي ذنبه، أي: أنا سأحمل عنك الذنب، فيصدقه في هذا الأمر، ويعمل هذا العمل.
وإلى الآن موجود مثل هؤلاء الحمقى والمغفلين، يقول أحدهم للآخر: اعمل هذا العمل وعلى ذنبه ولا تخف.
وقد قال تعالى: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، أي: أنت تحمل ذنبك ومثل ذنبه، وأما ذنبه فهو يحمله، (فمن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً).
فكل واحد يحمل ذنبه فقط، ولكن هذا عليه عذاب ذنبه وعذاب مضاعف؛ لأنه سن للباقين، من غير أن يخفف عن الآخرين شيئاً.
فالناس الآثمة المحملة بالذنوب عليهم ذنوبهم وأمثال ذنوب من أضلوهم في هذه الحياة الدنيا.
ولذلك الضعفاء من أهل النار عندما يقولون لله سبحانه تبارك وتعالى عن الأقوياء الذين أضلوهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، أي: هؤلاء هم السبب فآتاهم عذاباً ضعفاً.
يقول الله عز وجل: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
أي: هؤلاء عذابهم مضاعف، وأيضاً أنتم عذابكم مضاعف، ولكن لا تعلمون ما الذي ادخره لكم الله عز وجل عنده من عذاب نسأل الله العفو والعافية.
قال عكرمة: بلغني أن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً؟ ألا ترى ما أنا فيه؟ فهب لي حسنة من حسناتك أو احمل عني سيئة.
فيقول الأب: إن الذي سألتني يسير، ولكني أخاف مثلما تخاف.
فكل إنسان خائف.
فالأب يهرب من ابنه، والابن يهرب من أبيه.
ويكون حال الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها نفس حال الابن مع أبيه.
فكل منهما يذهب للآخر ويقول: أعطني حسنة، فيقول: والله إن الأمر سهل، ولكن أخاف أنك لو أخذت الحسنة ينقص ميزاني وأدخل بسببها النار.
فيهرب كل منهم من الآخر ويقول: إني أخاف مما تخاف ثم تلا عكرمة قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18].
وأما الأم فقال الفضيل بن عياض: إن المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه.
فتقول: يا بني! قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنباً واحداً.
فيقول: إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول.
وكل إنسان يوم القيامة يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم يقول: نفسي نفسي.
إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (يا رب أمتي، يا رب أمتي).
فعلى كل إنسان أن يستعد لهذا اليوم الفظيع ويعمل له ويعد له.
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} [فاطر:18]، يعني: مثقلة بالذنوب، أي: أنها تحمل أحمالاً كالجبال يوم القيامة.(305/8)
شدة الحساب يوم القيامة
إن يوم القيامة يوم عظيم وعجيب.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الناس منه وقال لهم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له ثغاء أو بقرة لها ثغاء أو شاة تيعر).
وذكر أصنافاً من المال يحملها الإنسان على رقبته يوم القيامة.
وذكر صلى الله عليه وسلم الإنسان الذي يغتصب أرضاً وأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أراضين.
فكل إنسان يحمل جريمته يوم القيامة.
قال الله سبحانه: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر:18]، يعني: نفس مثقلة بالآثام والذنوب.
{إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌُ} [فاطر:18]، أي: لا أحد يحمل عنها هذا الحمل، ولا أحد يحمل منه شيئاً.
وإنما كل إنسان يحمل ما أخذه في الدنيا.
فلا يحمل أحد عن أحد شيئاًً ولو كان ذا قربى، ولو كان أباك أو أخاك أو أمك أو أختك أو عمك أو عمتك أو خالك أو خالتك.
قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر:18]، يعني: الذين ينفعهم الإنذار والتخويف هم الذين يخافون من الله سبحانه، ويخافونه بالغيب.
وأما غيرهم فلا يخافون إلا إذا جاءتهم القيامة ورأى كل منهم الجنة والنار أمامه فيخافون من أن يحرموا الجنة ويدخلوا النار.
قال الله سبحانه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر:18].
فعبر عنهم بأنهم يخشون ربهم ويقيمون الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فهم يخشون الله، وصلاتهم تزيدهم خشية من الله سبحانه، فيبتعدون عما حرمه سبحانه.
قال تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر:18].
وتزكى بمعنى: اهتدى.
وأصل التزكية: التطهر.
فزكى نفسه أي: طهرها.(305/9)
الأمر بتطهير النفوس
إن الله سبحانه تبارك وتعالى أمرنا بتزكية النفوس فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].
ونهانا عن التزكية فقال: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
ولا شك أن هذا غير هذا.
فقد أمرنا بالتزكية وأخبر عن الجزاء فيها فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].
فمن طهر نفسه من الشرك بالله سبحانه، ومن المعاصي والذنوب، وأقبل على الله سبحانه واتبع سبيله سبحانه تبارك وتعالى فقد أفلح.
وأما قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] فالمقصود به تزكية النفس بالمدح، والتكلم عن النفس، وكأن الإنسان هو الذي هدى نفسه ورزقها، فيتكلم ويمدح نفسه ويقول أنه: أفضل من فلان وأحسن من فلان وعنده أكثر من فلان.
قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وقد يقول الإنسان: إن إيمانه أكثر من إيمان فلان، وأنه يعمل كذا وهو لا يعمل هذا الشيء.
وقد نهي عن هذا.
قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32]، أي: لا تمدحوا أنفسكم.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من أن يمدح بعضهم بعضاً في وجهه، ويقول لمن فعل ذلك: (قصمت ظهر أخيك)؛ لأنه إذا مدحه في وجهه فقد يعمل بعد ذلك العمل يرائي به، فكأنه بهذا قصم ظهره.
وقال صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)؛ لأن المدح يغر الناس في أنفسهم ويغرهم في دينهم.
والتزكية التي مدحها الله هي: التطهر من الشرك والمعاصي والذنوب، والتقرب إلى الله.
هذه هي التي أمر الله عز وجل العبد بها وأخبر بأنه {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: من نجسها بالكفر وبالشرك وبأدران المعاصي وما فيها من قذر.
قال الله سبحانه: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18]، أي: أن الإنسان الذي يفعل الصالحات فجزاؤه لنفسه.
وعمله عائد إليه، ومنفعته ترجع إليه يوم القيامة.
وإلى الله المرجع فيجازي العباد على ما قدموا.
وقد جاء في سنن النسائي من حديث ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله! هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلاناً في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهتف بصوته: ألا لا تجني نفس على الأخرى)، يعني: ليس هؤلاء الذين قتلوه.
أي: لا تزر وازرة وزر أخرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يحمل الإنسان ما فعله غيره إلا أن يكون هو الذي سنه له، وهو الذي علمه أن يصنعه ويفعله.
فلا تجني نفس على الأخرى، فالقاتل هو الذي يقتل، فإذا لم يعف أهل القتيل فعليه القصاص الذي أخبر به الله سبحانه، أما أن يقتل غير القاتل لكونه من القبيلة نفسها فهذا من أفعال الجاهلية التي لا يقرها الإسلام ومنعها.
فالجاني عقوبته وإثمه على نفسه.
والسارق تقطع يده ولا تقطع يد غيره، من قريب ونحوه.
فلا أحد يحمل عن أحد شيئاً في كل الذنوب، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وروى أبو داود من حديث أبي رمثة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا معك؟ قال: ابني أشهد به) كأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يتشكك فيه فقال: ابني أشهد به.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك).
إذاً: فالمقصد من السؤال هو البيان له ولغيره أنه لا يحمل أحد عن الآخر إثمه، ولا تجني نفس على أخرى ولكن تجني على نفسها، ويحاسب كل الإنسان بذنبه لا بذنب غيره.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(305/10)
تفسير سورة فاطر [19 - 28]
إذا كان من الظلم والحيف التسوية بين متغايرين، فكيف يظن بالعدل سبحانه أن يسوي بين المؤمن والكافر، والعاصي والمطيع في الجزاء؟! إنه بلا شك لا يسوي من آمن بمن كفر، ولا صاحب القلب الحي والضمير اليقظ الذي يستلهم آيات الله في الكون ليستدل على الله، بصاحب القلب الميت والأذن الصماء عن سماع الهدى، والعين العمياء عن رؤية نور الآيات في الكون.(306/1)
أمثلة تضرب لبيان الفرق بين الكفر والإيمان
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:19 - 28].
يبين الله سبحانه تبارك وتعالى لعباده ما الكفار عليه من ظلم لأنفسهم وضلالة وظلمة وبعد عن الهدى، وما يصيرون إليه يوم القيامة من دخول النار، كما يبين ما عليه المؤمن من نور وإيمان وطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، بضرب هذه الأمثلة للناس فقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:20 - 22] أمثلة يضربها الله عز وجل لبيان الشيء ونقيضه، حتى يتبين لمن يعقل أن هناك فرقاً بين هذا وذاك، فكل من يبصر يفهم الفرق بينهما, وجملة الأمثلة التي ضربها لنا الله سبحانه تبارك وتعالى مسوقة لبيان أنه لا يستوي الإنسان المؤمن مع الإنسان الكافر؛ لأنه لا يستوي الإيمان مع الكفر، فإذا كان الله سبحانه تبارك وتعالى قد أمر العباد بالطاعة فأطاعه قوم وعصاه آخرون، فهل يستوي مآل الجميع بأن يصيروا تراباً ثم لا بعث ولا نشور، ولا قيام من القبور، ولا حساب يوم القيامة، ولا جنة ولا نار؟ هذا بعيد جداً، إن عقل الإنسان يقول: لا.
لا يستوي أبداً من عمل بالطاعة ومن عمل بالمعصية، لا يستوي من أسلم وآمن ومن كفر وترك دين الله سبحانه تبارك وتعالى، لا يستوون كما أنه لا يستوي الأعمى مع المبصر، لا يستوون كما لا تستوي الظلمة مع النور، ولا الظل مع الحرور، ولا الحي مع الميت، فكل عاقل يفهم ذلك فلا يستوي أبداً المؤمن الذي أطاع الله سبحانه مع الكافر الذي كفر بالله وعصى الله سبحانه تبارك وتعالى, قال سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19] والعمى هنا: عمى القلب كأنه يقول: الكافر كهذا الأعمى فهو أعمى عمى ضلالة لا يعرف الحق، وكأنه غشي على بصره فلا يريد أن يفهم أو يتفهم ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم يردف بمثل آخر وهو قوله سبحانه: {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:20] إذا وجد الإنسان طريقاً مظلماً فإنه يبتعد عنه وإذا وجد طريقاً منيرا فإنه يسير فيه، فلا يستوي هذا مع ذاك، إذ أن هذا طريق يعرض عنه كل من ينظر ويرى، وهذا طريق يسلكه كل من ينظر ويرى، فالإيمان طريق النور، ومن يعرف الحق فلا تستوي الظلمة مع النور.
ثم قال سبحانه مؤكداً: {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21] أي: لا يستوي المكان الظليل مع المكان الشديد الحر تحت وهج الشمس، وكأن في الآية إشارة إلى مصير هؤلاء فالمؤمن مصيره كما قال الله سبحانه: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57] والكافر مصيره إلى نار السموم وإلى عذاب أليم، فهل يستوي هذا مع ذاك فكأن الظل إشارة إلى مآل المؤمن وأنه إلى الظل الظليل في الجنة, وكأن الحرور إشارة إلى النار والسعير؛ لأنها مآل الكافر، فلا تستوي الجنة مع النار والمثال مسوق لبيان عدم استواء الإيمان مع الكفر، ومضرب المثل يقول: لو كنت في الفلاة ووجدت مكاناً فيه شمس حارة ومكاناً آخر ظليلاً، فهل تترك هذا المكان الظليل لتكون تحت الشمس؟ لا شك أنه لا عقل لمن يقول بهذا الشيء، الحرور: تطلق على الرياح الساخنة الشديدة، ويطلق على اليوم الحار شديد الحرارة وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قالت النار: ربي أكل بعضي بعضاً فأذن لي أن أتنفس فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير؛ فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور؛ فمن نفس جهنم)، وفي الحديث تذكرة للعباد، وبيان أن أشد يوم يكون على الناس برده؛ فإنه من نفس جهنم، وأن أشد يوم يكون على الناس حره؛ فإنه من نفس النار, وكما أن الحر الشديد لا يستوي مع البرد وكذلك المكان الظليل لا يستوي مع المكان الشديد الحر؛ فكذلك مصير المؤمن لا يستوي مع مصير الكافر.
ثم يتبعه بمثال آخر فيقول: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:22] الأحياء المراد بهم المؤمنون فهم أحياء يفهمون ويفقهون، وحياتهم لها قيمة، فيوم القيامة يجزون عليها أفضل الجزاء على الأعمال الصالحة, أما الكفار؛ فإن حياتهم موت لا قيمة لها، وإنما هي حياة تستجلب عليهم عذاب رب العالمين، لأنهم فيها أنكروا ربهم سبحانه وأنكروا عبادته ولم يتوجهوا إليه بل أشركوا معه غيره، فصدق عليهم أنهم أموات ضيعوا هذه الحياة ولم يستغلوها لتكون لهم الحياة الدائمة عند الله عز وجل في جنة الخلود، ولذلك لا يستوي الأحياء وهم المؤمنون مع الأموات وهم الذين كفروا بالله سبحانه تبارك وتعالى ولم يستمعوا إلى موعظة النبي صلى الله عليه وسلم.(306/2)
تفرد الله سبحانه بهداية البشر
أخبر تعالى عن مشيئته في هداية الخلق فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:22] قوله: يسمع، بمعنى: يهدي، أي: يسمع سمع إجابة، وفي الآية يبين الله سبحانه تبارك وتعالى أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمع أن الجميع سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هناك فرق بين من سمع فانتفع، ومن استمع لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه المعاندة والمشاقة والمحادة فلم ينتفع، فالله سبحانه هو الذي أسمع هذا فانتفع وهو الذي لم يسمع هذا فلم ينتفع، والمعنى: أن الله يهدي من يشاء إلى أن يأخذ بكتاب الله عز وجل ويعمل به, قال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول له: لست تسمع من في القبور، أي: الأموات؛ فالأموات لا يسمعون إلا أن يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، إذاً الأصل أن الميت لا يسمع كلام الأحياء! إلا أن يجعل الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم كرامة ومعجزة أن يسمع بعض هؤلاء الأموات، كأن ينادي عليهم فيسمعون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه, لكن الأصل قوله سبحانه {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] وقوله سبحانه {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] إشارة إلى أن هؤلاء الكفار صاروا إلى حال أهل القبور؛ لعدم الجدوى في سماعهم، فإنهم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم وهم متحيرون شاكون، كما أنهم لا يحاولون أن يفهموا ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكأنهم أموت في قبورهم.(306/3)
بيان عدم سماع الأموات كلام الأحياء
الأصل أن الميت انقطع عن هذه الدنيا فلا يسمع شيئاً من أمر الدنيا، وأن الأموات في قبورهم إذا جاء عليهم ميت جديد تلتقي أرواحهم عند الله سبحانه تبارك وتعالى في البرزخ، فيسألون هذا الذي جاء عليهم: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؛ لأن الأموات لا يعرفون شيئاً عن الدنيا إلا بما يخبرهم من ذهب إليهم من الأموات، فإذا كان الميت من أهل الإيمان؛ التقت روحه مع أرواح أهل الإيمان في وقت يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، فيسأل أهل القبور هذه الروح التي جاءت إليهم: ما فعل فلان؟ يقول: تزوج، ما فعلت فلانة؟ يقول: تزوجت، ما فعل فلان؟ فيقول أما جاءكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية، فما دام أن فلاناً مات ولم يأت إلينا في هذا المكان الذي فيه أرواح المؤمنين، فقد ذهب به إلى الجحيم والعياذ بالله, فقوله سبحانه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع الموتى ولا غيره يسمعهم، إلا أن يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أذن الله سبحانه تبارك وتعالى لنبي من أنبيائه في إحياء الموتى بإذن الله، وهو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يأذن له بإحياء كل الموتى ولكن بإحياء ميتٍ ليكون آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، فالأصل أن الميت لا يرجع إلى الدنيا أبدا ولكن الله سبحانه يجعل معجزة لأحد من خلقه في ذلك؛ لإثبات نبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام, وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعل الله عز وجل له معجزات كثيرة، من ضمن هذه المعجزات أنه أسمع الموتى في بدر، فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطوى بدر خبيث مخبث) أي: أن أربعة وعشرين رجلاً من قتلى الكفار، قتلوا في المعركة فأنتنوا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرموا في بئر من الآبار المفتوحة وطم البئر عليهم فقال: (قذفوا في طوي من أطوى بدر خبيث مخبث) أي: بئر ليس عليها سور ثم قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالي) والعرصة: هي الأرض المنبسطة يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتصر على قوم أقام بأرض المعركة ثلاثة أيام (فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته) يتساءلون أين يريد النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث وهو في مكان بدر؟ قال أنس: (فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على شفة الركي) أي: البئر التي ألقي فيها هؤلاء الكفار، (فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء أبائهم يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي عليهم وقد دفنوا قبل ثلاثة أيام فيقول: (يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها!) أي: أنت تكلم أجساداً ليس فيها أرواح فلن يسمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (والذي نفس محمدٍ بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) فدل على أن الله عز وجل في هذا الوقت وفي هذه الحالة أسمعهم نداء النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال قتادة الراوي عن أنس: أحياهم الله حتى أسمعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً وحسرة وندماً.
هذا لفظ الإمام البخاري، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نادى عليهم وعمر كأنه تعجب من ذلك فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله أسمعهم ما قاله) صلوات الله وسلامه عليه، وجاء في حديث آخر رواه الإمام البخاري ومسلم أيضاً من حديث هشام بن عروة عن أبيه أنه ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) فلما قالوا ذلك لـ عائشة رضي الله عنها قالت: وهل أي: لم يأخذ انتباهه، والوهل: أن يسرح الإنسان عن الأمر فيتكلم عن شيء بغير ما هو عليه، فكأن عبد الله بن عمر وهل أخطأ في حدسه وفي ظنه حيث ظن أن الكلام على شيء وهو على شيء آخر، وهذا قول عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ثم قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن قالت: وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق).
ثم قرأت {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسمع أهل القليب، واحتجت بقول الله سبحانه {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] وقوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] وخطأت عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، بمجرد الرأي وهذا فيه نظر؛ لأن ابن عمر رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ ابن عمر قد سمع هذا من أبيه عمر يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال أن ابن عمر سمع ذلك من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان صغيراً رضي الله عنه حين وقعت معركة بدر فلم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، وإنما حضرها عمر، وهو الذي تعجب من نداء النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء فسمع ابن عمر هذا الذي حدث به من أبيه عمر رضي الله وتبارك وتعالى عنه، كما أن القاعدة أنه إذا أثبت الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ونفى آخر فالمثبت مقدم على النافي؛ لأن المثبت حجة على النافي, كما أن النافي ليس معه علم بالأمر وغاية ما ظهر من نفيه أنه لا يعلم أما المثبت فمعه علم جديد، وهنا أنكرت عائشة رضي الله عنها وقالت: وهل ابن عمر رضي الله عنه وخطأته في حديثه، والظاهر أن الصواب مع ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه, وأن عائشة رضي الله عنها غاية مقالها أنها احتجت بالآية, حيث تقول: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] وهو استدلال صحيح، فإن النبي لا يسمع الموتى، ولكن لا مانع من أن يحيي الله عز وجل له بعضهم حتى يسمعوا منه صلوات الله وسلامه عليه, فيكون الأصل: أنه لا يسمع الموتى صلوات الله وسلامه عليه ولا يسمع من في القبور، ولكن أسمعهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذه الواقعة فحسب كما قال ابن عمر وجاء عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين ناداهم: (ما تسمع من أجساد قد جيفت؟ أو ما تسمع من أموات لا أرواح فيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) ففي الحديث أن عمر أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعه يكلم الموتى، وفي هذا دليل على أن عمر وعى وعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سمعوا كلامه، أما عائشة رضي الله عنها؛ فإنها لم تحضر الحدث، وإنما أنكرت احتجاجاً بالآية، والآية عامة، والعام يجوز تخصيصه فيكون المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] إلا أن يشاء الله عز وجل، فالله عز وجل أسمع له صلوات الله وسلامه عليه هؤلاء الكفار وهم في قبورهم.(306/4)
الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان من سنته
ومثل ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببعض بكاء أهله عليه) فإن عائشة رضي الله عنها قد خطأت الراوي أيضاً وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقالت له: الحديث ليس هكذا، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن) فالحديث يحتمل أن عائشة رضي الله عنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما يحتمل أنها لم تسمع، ولكن ابن عمر سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) وقد احتجت عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] وهو استدلال صحيح، ولكن لو أن الميت أوصى أهله بالبكاء عليه، أو علم من حال أهله أنهم في الجنائز يصوتون ويصرخون، ويندبون حظهم، ويتضجرون من قضاء الله سبحانه ولم ينكر عليهم ذلك؛ فإنه يعذب ببكائهم، وفيه أن الإنسان إذا مات وصرخت عليه النائحة فقالت: وا بعلاه فإن الملائكة يؤنبون هذا الإنسان ويقولون له: أنت كذلك! أنت كذلك! وكذا لو ندبت وقالت: يا من كان يطعمني! أو: يا من كان يسقيني، فإن الملائكة تنهر هذا الميت وتقوله: أنت كنت كذلك؟ أنت كنت كذلك؟ منكرين عليه؛ لأن الذي يطعم ويسقي هو الله سبحانه تبارك وتعالى وهو الرزاق ذو القوة المتين، وإنما يأخذ الإنسان حاجته من رزق الله سبحانه تبارك وتعالى كما أنه وإن صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، فإن الصحيح أن الميت لا يعذب بكل بكاء أهله عليه فقد جاء في الحديث: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين توفي ابنه إبراهيم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم فدل على أن البكاء على الميت جائز وأن الميت لا يعذب به، وإنما يعذب الإنسان بفلتات لسانه وما يقوله تضجراً على الله سبحانه تبارك وتعالى وتبرماً بقضاء الله وقدره سبحانه.
ولذا فإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا صرخوا وندبوا، أما البكاء الذي يسيل فيه الدمع من العين ويحزن ولا يصرخ فيه الإنسان ولا يندب حظه، ولا يشق ثوبه، ولا ينتف شعره؛ فإن الميت لا يعذب به، كما يجدر التنبيه على أن الحي الذي يفعل ذلك وهو الندب والشق، إن لم يتب إلى الله عز وجل فإنه يعذب يوم القيامة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب تأتي يوم القيامة وعليها سربال من جرب ورداء من قطران) أي أنها تعذب في نار جهنم، والعياذ بالله.(306/5)
مهمة الداعية الإنذار والتبشير
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] إن في الآية بمعنى ما النافية والمعنى: ما أنت إلا نذير، وهذا أسلوب قصر أي: إن وظيفتك الوحيدة أنك رسول منذر ومبشر قال تعالى في سورة البقرة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: أرسلناك لتنذر الذين يشركون بالله ويعبدون غيره، وتخوفهم من عذاب الله ونقمته، وتقيم عليهم الحجة من الله سبحانه، كما أن في قوله سبحانه: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] ليس بيدك يا محمد! أن تحول هؤلاء من كفر إلى إيمان فليس لك أن تهدي من تشاء بل الله يهدي من يشاء قال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، ثم قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:119] أي: بهذا القرآن العظيم الذي أنزلناه عليك من السماء، كما يحتمل المعنى أن يكون: إنا أرسلناك بالدين الحق ولا منافاة بين المعنيين، ثم قال: {بَشِيرًا} [البقرة:119] أي: لتبشر من آمن وعمل الصالحات بجنات الخلود قوله: {وَنَذِيرًا} [البقرة:119] أي: نذيراً للكفرة والمجرمين بنار لهم فيها عذاب السموم، ثم قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] أي: ما من أمة إلا وقد أرسل الله عز وجل فيهم من ينذرهم من عذاب الله ومن يبشرهم برحمة الله، وخلا في الآية بمعنى: سلف ومضى.(306/6)
الهلاك عاقبة التكذيب
قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فاطر:25] أي: لست أول رسول يكذب فقد كذبت الأمم السابقة لرسلنا إليهم المؤيدين بالبينات والحجج قال تعالى: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر:25]، البينات: هي الحجج الواضحات، سواء بينات عقلية يخاطبهم الله عز وجل بها، أو أشياء بصرية ينظرون إليها من معجزات حسية تدلهم على قدرة الله سبحانه، وتثبت لهم أن هذا رسول من عند الله، أو بكتب ينزلها على رسله يعرفون منها الحق من الباطل، قوله: {وَالزُّبُرِ} [آل عمران:184] هي: الكتب المزبورة المنزلة من عند الله على رسله ومعنى: مزبورة: أي: مكتوبة، وزبر الكتاب بمعنى: كتب الكتاب، فقوله: {وَبِالْكِتَابِ} [فاطر:25] أي: بجنس الكتاب وأل هنا هي الجنسية، والمعنى: الرسالة التي جاءت إلى هؤلاء الأنبياء من عند رب العالمين سبحانه واللفظ يشمل: كل كتاب قوله: {الْمُنِيرِ} [فاطر:25] نعت للكتاب والكتاب المنير: أي البين الواضح الذي يبصر ما فيه من الحق من هداه الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر:26] يخبرنا سبحانه تبارك وتعالى عن أخذه، وهو القائل عن نفسه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، وإذا أخذ الله الكفار فلن يفلت من عذابه أحد منهم، بل سيأخذهم جميعهم ولن يقدروا على الهرب من الله سبحانه، قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] , أي: فكيف كان إنكاري عليهم بعقوبتي إياهم، فهم حين فعلوا المنكرات أنكرت عليهم، فأرسلت إليهم الرسل؛ ليبينوا لهم ويوجهوهم ولكنهم أصروا على كفرهم وتكذيبهم، ثم أنكرت عليهم بالقول فأرسلت بالكتاب الرسول، فلم يؤمنوا بل ازدادوا تكذيباً وعتواً، ثم أنكرت عليهم بالفعل فأخذتهم فكيف كان نكيري وفي الآية قراءات منها: إذا وصلت هذه الآية بالتي تليها فقراءة ورش (فيكف كان نكيري ألم تر) وأما يعقوب فيقرأ بالياء وقفاً ووصلاً فيقرأ (نكيري) ونكيري: إنكاري، وباقي القراء يقرءونها وصلاً ووقفاً: (فكيف كان نكير) وإذا وقفوا يقفون بالسكون، وإذا وصلوا فينطقون بالكسرة فيقولون: (كيف كان نكير ألم تر) بالكسر من غير ياء.(306/7)
آيات الله في الكون تدل على عظمته
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27] أي: ألم تر بقلبك ما فعله الله سبحانه تبارك وتعالى حيث أنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفة الألوان والأشكال {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27] إن الله الخالق واحد لا شريك له، وهو الذي يستحق العبادة وحده فانظر إلى آياته سبحانه، فهو واحده الذي خلق: الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والجنة والنار، والكافر والمؤمن، والسموات والأرض، والجبال والبحار، والأشجار والأنهار، لا شريك له سبحانه يخلق ما يشاء، وينوع ما يشاء في خلقه سبحانه تبارك وتعالى، ففي قوله تعالى: ((اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) أمر بالتأمل كيف أن الماء ماء واحد، ينزل من السماء يجري في هذه الأرض؛ فيخرج الله عز وجل بهذا الماء الواحد ثمرات مختلفاً ألوانها، فمنها ما هو أحمر، ومنها ما هو أخضر وغير ذلك من الألوان، فمع أن الماء ماء واحد ينزل من السماء إلا أن الله عز وجل يخلق به ثماراً مختلفة في ألوانها، وفي أصنافها وفي طعومها، وفي أشكالها وأحجامها، على أن كل نبات أخرجه الله عز وجل بهذا الماء الواحد، يكون الماء هو أكثر محتوياته.
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27] فالله أنزل هذا الماء الواحد من السماء فسقاكم به، وسقى به مواشيكم وأنعامكم وزروعكم، وأخرج به ثمراتكم وحبوبكم، وهو الخلاق الواحد لا شريك له، فكيف تنكرون أن يعبد وحده لا شريك له؟ وكيف تنكرون أن يأمركم بعبادته وتتعجبون من ذلك؟ وهل من خالق غير الله يصنع ذلك ويرزقكم من السماء والأرض؟ لا إله إلا هو, ثم قال سبحانه: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27 - 28] أي: الذين يخشون الله هم العلماء الذين يتفكرون في هذه الآيات الباهرات، والعالم ينظر ويتأمل ويصل بعلمه إلى أن هذا الشيء مستحيل أن يوجده غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فعالم النبات يمسك ورقة النبات -عادة إذا أخذها الإنسان العادي لا يأبه بها ويلقيها في النفايات- ثم يقطعها إلى شرائح بسيطة ثم يضعها تحت الميكروسكوب ويتأمل في جوف هذه الشريحة ومحتوياتها، ويدرس تركيبها، وما تشابه فيه غيرها من النبات، وما هي الأمراض التي تبرأ بتناولها! ثم يدركون أن الله عز وجل خلقه لحكمة عظيمة ولم يخلقه هباءً أو سداً، والعلماء هم من يتأملون في هذا الخلق العظيم فيدركون عظمة الله عز وجل، ويكونون أشد خشية له، وقوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} [فاطر:27] أي: خلق هذه الجبال العالية الصعبة الوعرة، وجعل بينها طرقاً ومسالك، والجدد: الطرائق، وجدد: جمع جدة، والجدة: الطريق، فالله سبحانه برحمته جعل في الجبال العاليه الراسية الوعرة الصعبة طرقاً لمن يريد أن يسلكها، كما أن الله سبحانه تبارك وتعالى يلونها فمنها ما هو أبيض عظيم البياض، ومنها ما هو أكدر، ومنها ما هو أحمر شديد الحمرة، قد لونها ربها سبحانه تبارك وتعالى, فانظر وتأمل في بديع خلقه سبحانه تبارك وتعالى, قال سبحانه وتعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27] غرابيب سود أي: جبال من حجارة سوداء، ويقال: هذا أسود غربيب، أي: أسود شديد السواد، كما تقول: هذا أحمر قاني، أي: أحمر شديد الحمرة، وتقول: هذا أصفر فاقع لونه، أي: أصفر شديد الصفرة، وكذلك تقول: أسود غربيب وقد يعكس فيقال: غربيب أسود، والمعنى: شديد السواد، فالله سبحانه يخبرنا عن هذه الجبال التي نراها ويدعونا لتأمل عظمته فيها، فالمسافر الذي يركب الطائرة وينظر إلى الجبال من الأعلى يجد مناظراً عجيبة غاية في الجمال، تأسرك بألوانها فمنها جبال سوداء وجبال حمراء وجبال بيضاء، تبدي لك الأرض متعرجةً وأخرى مستوية، فلا تملك إلا أن تقول: سبحان الخلاق العظيم، وأكثر من ينظر إلى ذلك ويتأمل ويتعجب هم أهل العلم حيث يتأملون في بديع خلق الله، فلا يملك أحدهم إلا أن يقول: سبحانك ما خلقت هذا باطلا، بل كل من ينظر إليها يدرك أن الله خلق كل ذلك ليرينا من آيات جلاله وجماله سبحانه تبارك وتعالى في هذا الكون، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر:28] أي: الناس ألوان مختلفة، فمنها الأحمر ومنها الأبيض ومنها الأسمر، فالناس في أوربا بلون، وفي أمريكا بلون آخر، وفي أستراليا بلون ثالث، وفي الهند بلون وفي الصين بلون والسودان بلون، فمع أن الخالق واحد سبحانه إلا أنه عدد صفات مخلوقاته ليريكم من آياته، مع أنه كان قادراً على أن يجعل الجميع بلون واحد، ولكن الله سبحانه خلق ونوع في خلقه ليرينا قدرته وآياته سبحانه، قوله: ((وَالدَّوَابِّ)) أي: كل ما يدب على وجه الأرض، فإنها أنواع مختلفة ينظر المتأمل فيها ويتعجب من بديع صنع الله سبحانه فهو البديع سبحانه فاطر السموات والأرض، فقد تعددت الأشياء واختلفت ألوانها، مع أن الذي خلقها هو الخالق الواحد لا شريك له ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن تأمل في هذا الكون، وآتاه الله عز وجل العلم، فإنه سيصل في النهاية إلى معرفة الخالق سبحانه، وأنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا هو سبحانه تبارك وتعالى, والعلماء في الآية فاعل يخشون، فإن العلماء يخشون الله سبحانه أعظم الخشية، بل كلما ازداد العلم في قلب الإنسان، إما بدين الله سبحانه تبارك وتعالى، أو بخلق الله سبحانه، فإنه يصل بعلمه إلى أن يعرف الله سبحانه تبارك وتعالى، ويزداد خشية وخوفاً من الله سبحانه، وقولنا أن العلماء يخشون الله سبحانه لا يعني أن غيرهم لا يخافون من الله، بل هم يخافون الله ويخشونه، ولكن الأشد خشية هم من يجتمع فيهم العلم بالدين مع العلم بأمور خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم أردف الله آياته بنعوت جلاله فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] أي: الله عزيز غالب قاهر لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، يغفر سبحانه لمن تاب وأناب إليه إن الله عزيز غفور، وقد جاء في سنن الترمذي وهو حديث صحيح عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم) عابد أي: متعبد يكثر من الصلاة والصوم، والآخر عالم, قد عرف الشريعة وتعلم العلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) فبين أن العلم رفعة قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] أي: أن الله يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات فوق خلقه سبحانه تبارك وتعالى، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد) بيان أن العالم أفضل من العابد، والمراد بالعالم: العالم بالله سبحانه تبارك وتعالى، وبكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، التقي الذي يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيبين النبي أن فضله على العابد، كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأراضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) وهذه مزية العالم الذي يعلم الناس الخير، وصلاة الله عليه: أي أن الله يثني عليه ويرحمه سبحانه، وصلاة الملائكة عليه: أي أنها تدعو له ربها سبحانه تبارك وتعالى، وليس ذلك فحسب بل يصلي عليه من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت -السمك في الماء- فإنه يدعوا لمن يعلم الناس الخير، وما ذاك إلا لأن العالم يخشى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويصل بهذه الخشية إلى الإيمان بالله سبحانه وإلى اليقين به سبحانه، ونذكر هنا قصة جميلة ذكرها وحيد الدين خان في كتاب الإسلام يتحدا فقال: [واقعة رواها العالم الهندي الدكتور عناية الله المشرقي -هذا الرجل وصل إلى درجة عظيمة جداً في علم الفيزياء، وكان عالماً من العلماء وله نظريات في الرياضيات والفيزياء أبهرت العالم، كان هذا الرجل العالم المسلم عناية الله المشرقي في بريطانيا في جامعة كمبريدج يتعلم هنالك، وله أساتذته هناك في هذه الجامعة يقول: كان ذلك يوم أحد من أيام سنة 1909م وكانت السماء تمطر بغزارة يقول عناية الله المشرقي: خرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فإذا بي أرى الفلكي المشهور جيمس جنز، الأستاذ بجامعة كمبريدج ذاهب إلى الكنيسة، والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فدنوت منه وسلمت عليه فلم يرد عليّ وهو غارق في التفكير، فسلمت عليه مرة أخرى فسألني: ماذا تريد؟ فقال: قلت أمرين: الأول هو أن شمسيتك تحت إبطك والسماء تمطر بغزارة، فكيف تأخذ شمسية تحت إبطك والسماء تمطر عليك بغزارة، فانتبه الرجل ووضع الشمسية فوق رأسه، فعرفت أنه كان في تفكير عميق أفقده الإحساس ببرد الشتاء النازل على رأسه، قال والثاني: قال: ما الذي يدفع رجل ذائع الصيت في العالم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة فتوقف الرجل لحظة ثم قال عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي! قال: فوافقت فلما وصلت إلى داره في المساء خرجت زوجته في تمام الساعة الرابعة بالضبط وأخبرتني أنه ينتظرني، وعندما دخلت غرفته وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوع عليها أدوات الشاي، وكان البروفيسور منهمك في أفكاره، وعندما شعر بوجودي سألني م(306/8)
تفسير سورة فاطر [29 - 33]
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى ليلاً ونهاراً سراً وعلانية، وما ذلك إلا لقوة توكلهم على ربهم، فهم يتاجرون مع ربهم تجارة لن تبور ولن تخسر أبداً، فما أعظم المتاجرة مع رب العالمين الذي يضاعف الربح لمن تاجر معه.(307/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فاطر: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:29 - 33].
يخبر الله سبحانه وتعالى عن عباده الذين اصطفاهم وهداهم ووفقهم لطاعته، كيف يدخلهم جنته، ويعطيهم الأجر العظيم يوم القيامة، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [فاطر:29]، إيمان هؤلاء في قلوبهم يدفعهم إلى هذا العمل العظيم، العمل الصالح، فهم يتلون كتاب الله فينتفعون بتلاوته، ويؤجرون على ذلك، ويعملون به، فيقرءون القرآن، ويعملون بأحكامه، ويتعظون بمواعظه، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله.
ثم قال: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر:29]، وقد أخبرنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، قال: (وأقاموا الصلاة)، ولم يقل: وصلوا، ولكن أقاموا الصلاة، وإقامة الصلاة أن تقيمها مستوفاة الأركان والشروط، وتأتي بها خالصة لله سبحانه وتعالى، هذه إقامة الصلاة.
قال سبحانه: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [فاطر:29] جاء التأكيد على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، فهؤلاء أنفقوا؛ لأنهم علموا أن المال مال الله، وأن الرزق من عند الله يرزق من يشاء سبحانه وتعالى.
فهم يأخذون بالأسباب والله يرزقهم، وهم ينفقون من فضل الله ومن رزق الله سبحانه، ((وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ))، هذه النفقة التي ينفقونها سراً وعلانية، كأنهم ينفقون في كل أحوالهم، حين يحتاج المحتاج ويمد يده إليهم فلا يمنعونه، بل يعطونه مما رزقهم الله، ويخفون الإنفاق قدر المستطاع، ويظهرون إن لم يقدروا على الإخفاء، فينفقون مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، وأحياناً يكون الإظهار خيراً كإظهار زكاة المال حين يعطيها الإنسان خاصة في الزروع والثمار والمواشي ظاهرة أمام الفقراء، فإذا جاء الفقراء لا يخبئ عنهم هذه، ويقول: أنا أعطي في السر، ولكن يعطي من حضره من الفقراء من هذا المال، فيقتدي به غيره، فيعلم الفقراء أن فلاناً قد جدد حصاده في هذه الأيام، فيذهبون إليه فيأخذون من ماله الظاهر، ويعطي حتى لا يتهم بأنه مانع للزكاة، فيعطي ما أمر الله سبحانه، وأصحاب بهيمة الأنعام كذلك أموالهم أموال ظاهرة، فينفقون الزكاة التي أمر الله عز وجل ظاهراً، حتى يعرف الفقراء وقت دفعه لهذه الزكاة فيحضرون ليأخذوا منه، وإذا أراد أن يذبح أضحيته ويوزعها على الناس فليظهر ذلك؛ حتى يعرف الفقراء فيأتون ليأخذوا نصيبهم ورزق الله سبحانه وتعالى لهم، فهذه أشياء ظاهرة في الشريعة، فيظهر ما أظهرته هذه الشريعة في الأمر بالإنفاق من ذلك، فإذا كانت صدقة التطوع أخفى ذلك؛ لأنه يريد أن يعطي وأن يؤجر أعظم الأجر عند الله سبحانه.
فالأصل أنه يخفي النفقة، وقد علمنا من الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر من هؤلاء السبعة-: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، أخفى وأسر هذا الإعطاء، فهو أعطى للفقير بحيث لا يدري أحد ما الذي أعطاه، فأخفى صدقته احتساب ورجاء أجر الله سبحانه وتعالى، تعلم ذلك من كتاب الله سبحانه الذين ينفقون أموالهم {سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29].
فأنفق في السر وأنفق في العلانية، ومهما قدر على أن يسر نفقته أسرها وأعطى للفقير محافظة على شعوره، وأيضاً محافظة على ثوابه؛ لئلا يضيعه بالسمعة والرياء.
النفقة في السر حسنة، والنفقة في العلانية حسنة، ولكن صدقة السر أعظم من صدقة العلانية، إلا أن تكون زكاة ظاهرة كما ذكرنا، فقد استحب أهل العلم أن يظهر المرء زكاة الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام؛ لأنها أموال ظاهرة، فلو أخفى ذلك فالفقراء قد لا يعرفون أن فلاناً هذا يخرج زكاة ماله في هذا العام، ولا يذهب إليه أحد، ولعله هو لا يعرف كل أصحاب الحاجات، فيكون من أهل الحاجات من لم يعرف ميقات زكاة هذا فلم يأت إليه، وأعطى لغيره وهذا أولى.
فلذلك استحبوا أن يحدد اليوم الذي يخرج فيه زكاة حبوبه وثماره؛ حتى يأتي الفقراء فيأخذوا نصيبهم ورزقهم من ذلك، أما المال المخفي المستتر الذي لا يتطلع عليه الناس فإنه يسر نفقته ويسر صدقته، يبتغي أن يظله الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله.
إذاً: النفقة في العلانية حسنة، والنفقة في السر أحسن منها، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271]، أي: نعم الشيء أن تبدي الصدقات، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]، أي: خير لكم، يعني: أفضل وأخير لكم أن تخرجوا هذه الصدقة في السر.
والصدقة في السر تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، فأنت حين تعطي الصدقة للفقير في السر من غير أن تفضح هذا الفقير، فالله سبحانه وتعالى إن كان به غضب عليك فهذه النفقة تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى.(307/2)
التجارة مع الله ليس فيها خسارة أبداً
قال سبحانه: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، لماذا أنفقوا؟ من أجل رجاء الثواب من الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء يرجون تجارة مع الله سبحانه، وأي تجارة أعظم من هذه التجارة، وتجارة الإنسان في الدنيا قد يربح في الدرهم نصف درهم أو ربعه وقد يربح في الدرهم درهماً، أما التجارة مع الله فأقل ما يكون فيها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله سبحانه، فهؤلاء يرجون التجارة التي هي مع الله التي لا تبور، فهم لا يخافون كساد تجارتهم؛ لأنها تجارة مع الرب سبحانه وتعالى.
هم يرجون هذه التجارة التي حكم الله سبحانه أنها لا تضيع ولا تهلك ولا تكسد ولا تفسد ولا تخسر؛ لأنها تجارة مع الله.(307/3)
تفسير قوله تعالى: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله)
قال الله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30]، يؤكد الله سبحانه وتعالى ذلك وأنه سيعطيهم الأجر الوافي: ((لِيُوَفِّيَهُمْ)) وهناك فرق بين أعطى ووفى، أعطى الأجر تماماً ولعله نقص، أما وفى فقد يعطيك أجرك الذي تستحقه ويزيدك عليه أيضاً فوق ذلك، فيقول: أخذت منه مالي وافياً ما نقص منه شيء.
فالله عز وجل يوفي هؤلاء ليس مثل الذي أعطوا، وإنما يوفي أضعافاً مضاعفة من فضله سبحانه، {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30]، هذا الجزاء من الله سبحانه، فهؤلاء يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ وليعطيهم.
فقوله: (ليوفيهم) هنا لام السببية يعني أنهم أعطوا لذلك، أي: يرجون من الله الفضل، ويرجون منه أن يوفيهم أجورهم، فهم أنفقوا ليوفوا هذه الأجور، {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30].
وهذا وعد من الله سبحانه في كتابه أنه يعطي الحسنة بعشر أمثالها، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]، فهم صدقوا وعد الله سبحانه فأنفقوا ليعطيهم الله عز وجل ويوفيهم هذا الوعد الذي ذكره في كتابه سبحانه، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فيعطي الله عز وجل على الإحسان إحساناً وزيادة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى في جنة الخلود، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30]، غفور سبحانه.
ورد في القرآن هذا اللفظ (غفور)، و {غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر:3] و (غفار) فهو الغفار سبحانه، وهو الغفور، وهو غافر الذنب، والغفر يأتي بمعنى التغطية والستر.
والله يغفر أي يمحو الذنب ويستره، ويغطيه ولا يبديه، فلا يفضح صاحبه الذي يتوب إليه سبحانه وتعالى، وهو يغفر الذنوب جميعاً، {شَكُورٌ} [فاطر:30] أي: يشكر لعباده إحسانهم، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، فإحسان المرء لنفسه، فإذا أحسن فالله عز وجل يوفيه الجزاء على إحسانه، ويشكر له عمله.
وعلمنا كيف أن رجلاً كان في فلاة فوجد بئر ماء فنزل وشرب منها، ثم خرج فوجد كلباً يلهث من شدة العطش، فإذا به يملأ حذاءه من هذا الماء ويسقي الكلب، فيشكر الله له ذلك ويغفر له ويدخله الجنة بذلك.
وامرأة بغي تفعل مثل ما فعل هذا الرجل تسقي كلباً أصابه العطش الشديد فشكر الله عز وجل لها فغفر لها، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، من أحسن فالله يحسن إليه، ويعامله بفعله وبمعاملته، فالله غفور شكور.
إذاً: فهؤلاء المؤمنون يتلون كتاب الله، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ حتى يوفيهم الله سبحانه وتعالى أعمالهم.
فالله وعد في كتابه وأكد أنه يعطيهم أجورهم وزيادة منه وفضل منه سبحانه وتعالى؛ لأنه غفور شكور، يغفر الذنب، ويشكر الإحسان من العبد.(307/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه)
قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر:31].
قوله: ((وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)) كأنه عطف هذه الجملة على الجملة السابقة، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31] أي: هذا القرآن العظيم وحي من الله سبحانه وهو الحق، وليس كلامك أنت، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر:31] أي: أنه صدق الكتب السابقة، صدق صحف إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، وصدق كتاب موسى التوراة، وكتاب عيسى الإنجيل، وصدق المرسلين السابقين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ((مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)) يعني: ما تقدم وسبق وسلف قبل ذلك، ((إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)).
وذكرنا قبل ذلك أن الله عليم سبحانه، وخبير بمعنى عليم، فإذا جاءت مفردة فتكون بمعنى العلم، أي يعلم ما خفي من الأمور، فالله عز وجل عليم وهو علام الغيوب سبحانه وتعالى، كما أنه شهيد خبير.
فالعلم أن يحيط بهذا كله، والخبرة: هي العلم بالشيء الدقيق الخفي، أي: الذي يخفيه صاحبه ويسره في نيته وفي قلبه، فهو خبير بما في القلوب سبحانه، وهو شهيد على ما يظهره العباد.
فكأن الشهادة علم ما هو ظاهر، والخبرة علم ما هو خفي باطن، والعلم يحيط بهذا كله، فالله عليم خبير شهيد سبحانه، ((إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)) أي: يبصر كل ما يصنعه العباد، ما أبدوه وما أخفوه فالله يرى هذا كله.(307/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
أي: الكتب السماوية يورثها سبحانه لمن اصطفى من عباده، فينزل الله على رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام كتاباً، ويصطفي من يشاء من خلقه ليكونوا حواريين لهذا النبي أو الرسول عليه الصلاة والسلام، فاصطفاهم، وأورثهم هذا الكتاب فصاروا أهله المستحقين له.
وتوارثوا علمه وأحكامه، حتى جاء أقوام بعدوا عن الله سبحانه فحرفوا دينهم، فإذا بهم يتركون أحكام الله عز وجل ويعملون بغيرها، ويجعلون كتاب ربهم وراءهم ظهرياً، فلا يستحقون أن ينزل عليهم من السماء شيئاً، فيصطفي الله عز وجل من خلقه ما يشاء، وينزل كتاباً من السماء، وكان الأمر على ذلك حتى اصطفى من الخلق نبينا صلوات الله وسلامه عليه، واصطفى له أصحابه، واصطفى هذه الأمة أمة الإسلام، وأنزل هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله إرث هذه الأمة واختصها بأن تدعوا إلى هذا القرآن، فصارت الأمة المهتدية، والأمة الوسط التي تدعوا إلى كتاب الله عز وجل، فكان معهم ميراث الأنبياء السابقين، وهو: أحكام كتاب الله سبحانه، وشريعة الله التي يدعون إليها إلى أن تقوم الساعة، ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا))، فجعل هذه الأمة هي الأمة المصطفاة، وقربها إليه، قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فهي الأمة التي اجتباها الله سبحانه، قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] أي: تقيمون شرع الله سبحانه.(307/6)
حقيقة الأصناف الثلاثة الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات
قال سبحانه: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) فمن هؤلاء؟ قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ذكر المفسرون في هذا التفصيل كلاماً كثيراً جداً فيمن هو الظالم لنفسه؟ ومن هو المقتصد؟ ومن هو السابق بالخيرات؟ فقالوا: الظالم لنفسه هو الكافر أو المنافق أو غير ذلك.
ولكن الظاهر من الآية والحديث أن الثلاثة الأصناف كلهم من أهل الإسلام، ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) روى الإمام الترمذي، والإمام أحمد أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [فاطر:32] فقال صلى الله عليه وسلم: كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة)، هذا حديث عظيم صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه البشارة بأن الإنسان الظالم لنفسه من هذه الأمة المؤمن بالله سبحانه، ولكن غلبت ذنوبه على حسناته، فاستحق أن يعذب، فهذا إما أن يغفر الله عز وجل له، وإما أن يعذبه الله بهذه الذنوب التي غلبت حسناته، وإن دخل النار فعذب في النار، فالله يمن عليه ويشفع فيه من شاء من خلقه ويرحمه ويخرجه من النار ويدخله الجنة، وأما المنافق والكافر وغيرهما فهؤلاء مستحيل أن يدخلوا الجنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146] فإذا تابوا صاروا مع المؤمنين، ولم يكونوا منافقين، أما المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام ففي الدرك الأسفل من النار.
وقال تعالى عن الكفار: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذاً: الكفار في النار، والمنافقون في النار، لكن من ذكر الله عز وجل هنا بقوله: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))، فهؤلاء ممن اصطفاهم الله سبحانه، وممن اختارهم الله وقربهم وهم أمة الإسلام، فمن هذه الأمة الظالم لنفسه، وهو من غلبت ذنوبه حسناته، ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)) والمقتصد هو من استوت حسناته وسيئاته، أو هو من أتى بالفرائض ولم يأت بالنوافل، أو من أتى بما افترضه الله عز وجل عليه ووقع في الذنوب التي حرمها الله سبحانه وتعالى على خلقه، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال تعالى عن السابق: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
فالسابق بالخيرات لا يجد باباً من أبواب الخير والإحسان إلا واستبق إليه ينفق في سبيل الله سبحانه، ولذلك كان الخيران من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستبقان إلى الخير، عمر كان يتمنى أن يسبق أبا بكر يوماً من الأيام، وفي يوم من الأيام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فإذا بـ عمر يذهب إلى بيته ويأتي بنصف ماله ويقول: اليوم أسبق أبا بكر، فيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم فيجد أبا بكر قد تصدق بماله كله، فيقول: لا أسبقك أبداً.(307/7)
عظيم فضل الله تعالى على عباده بالمسابقة إلى الطاعات والتوبة من السيئات
إن المسابقة إلى الله عز وجل وإلى طريق الله سبحانه أمر مرغوب فيه شرعاً، فمنهم هؤلاء السابقون بالخيرات بِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، يمن على من يشاء من خلقه، يعطيه الرزق ويمن عليه بالهدى، ويعطيه سماحة النفس ويمنعه شحها، فينفق في سبيل الله، ويخلف الله عز وجل عليه، ويعطيه الأجر من عنده، وكذلك إذا تاب الله عز وجل على عبد من عبيده فالتوبة من الله سبحانه، تاب عليه فألهمه أن يتوب، فتاب العبد فقبل منه.
فانظر إلى فضل الله وكرمه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، هم عصوا الله سبحانه وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمرهم أن يخرجوا معه صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك، فإذا بهؤلاء الثلاثة يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، هؤلاء الثلاثة لما تخلفوا ظنوا أن الأمر واسع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتب من الذي خرج ومن الذي لم يخرج؛ لأن الجيش عدده كبير فتخلف هؤلاء، فعصوا الله سبحانه، وعصوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورجع من الغزو، جاء المنافقون يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم وكل منهم يبدي عذره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل بالظاهر ويدع السرائر لله سبحانه وتعالى.
وجاء هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وكل منهم يقول: (يا رسول الله لم يكن لي عذر، فقال: أما هذا فقد صدق)، إذاً: فهذا الذي صدق، من الذي ألهمه أن يصدق مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى الذي يلهم عباده أن يصدقوا وأن يتوبوا؟ هؤلاء الثلاثة صدقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخرهم، قال عن كعب: (أما هذا فقد صدق)، فأرجأه لأمر الله سبحانه وحكمه.
فهجره النبي صلى الله عليه وسلم، وهجره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً وليلة حتى جاءت التوبة من عند الله سبحانه وتعالى.
فهؤلاء الثلاثة ألهمهم الله التوبة فتابوا، فصدقوا في توبتهم، فإذا به يتوب عليهم سبحانه وتعالى، ويعبر في كتابه بهذا التعبير العظيم الجميل يقول: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، لم يقل: الذين تخلفوا مع أنهم تخلفوا حقيقة، ولكن الله عز وجل لا يعير بالذنب كرماً منه سبحانه وتعالى، ولكن قال: (خلفوا) فالنبي صلى الله عليه وسلم خلفهم وأرجأهم لحكم الله سبحانه، حتى يقضي فيهم الله سبحانه وتعالى، {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118]، الإنسان مع إخوانه يحبهم ويحبونه ويودهم ويودونه، لكن حين يهجره جميع إخوانه يصعب الأمر على نفسه، وتضيق عليه الدنيا، طالما أنه مؤمن فهو يحب صحبة المؤمنين.
أما الفاسق والكافر فإنه يستبدل بالمؤمنين الفجار والكفار والفسقة، لكن هؤلاء إيمانهم صادق، لذلك جلس كل منهم في بيته ينتظر أمر الله على ما فرطوا في دينهم، وما فرطوا في أمر الله سبحانه، فتابوا توبة نصوحاً، فإذا بالله عز وجل يقبل منهم ذلك؛ لأن في قلوبهم حب الله وحب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وانظر إلى كعب بن مالك وقد ذهب يبحث عن ابن عمه أبي قتادة حتى وجده في حائط له داخل بستان، قال: فتسورت البستان، كأن الرجل من شدة ما هو فيه من غم لم ير باب البستان فتسور البستان من فوق السور، ودخل إليه ثم قال: السلام عليكم فلم يرد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الكلام مع هؤلاء الثلاثة، فقال: ألا تعلم أني أحب الله ورسوله، فلم يرد عليه، فأقسم عليه قال: الله أعلم، ولم يزد على ذلك.
فكأن الدنيا قد أظلمت في عينيه فرجع إلى بيته وهو يتوسل إلى ربه ويتوب إليه سبحانه، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى التوبة على هؤلاء، فتاب عليهم وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم يبشرهم بتوبة الله عز وجل عليهم، فقرأ عليهم قول الله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] أي: ليس لهم ملجأ من الله سبحانه يفرون منه إلا إليه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118]، فالله سبحانه ألهمهم أن يتوبوا إليه، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] أي: ليظهروا توبتهم إلى الله عز وجل فيقبل منهم، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، سبحانه وتعالى.
فالله صاحب الفضل على عباده، يلهمهم الإحسان ثم يحسن إليهم، ويجازيهم على ذلك سبحانه وتعالى، قال: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، أي: إن فعلك الخير ليس من عند نفسك، ولكن بتوفيق الله سبحانه، وانظر إلى قول شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فهو يدعو الله أن يوفقه إلى رضوانه سبحانه.
وكذلك كل إنسان لا يوفقه إلا الله سبحانه وتعالى، فاعرف الفضل لصاحبه، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] أي: الفضل من الله عز وجل أن منَّ على هذه الأمة بأن أورثهم هذا القرآن العظيم وجعلهم من أهله، وجعلهم يعملون به، والفضل من الله أن يتوب عليهم وأن يدخلهم جنته، والفضل عليهم أن جعل منهم السابقين، والسابقون هم أعلى ما يكون عند رب العالمين سبحانه وتعالى.(307/8)
تفسير قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب)
قال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33].
هذا فضل الله سبحانه وتعالى، أدخلهم جناته: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} وقراءة الكل ((جَنَّاتُ)) بضمها، وإن كان في غير القرآن يجوز أن تكون مفعولاً مقدماً على الاشتغال تكون: (جناتِ عدن) لكن في القرآن ليس فيها إلا قراءة واحدة فقط: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) ((يَدْخُلُونَهَا)) أي: يدخلهم الله سبحانه وتعالى هذه الجنة.
يقول: ادخلوا الجنة جزاءً بما كنتم تعملون، فيدخلون الجنةَ، وقراءة الجمهور: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)) [فاطر:33]، وقراءة أبي عمرو: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يُدْخَلُونَهَا))، أي: يدخلهم الله سبحانه وتعالى هذه الجنات.
والجنة بمعنى البستان، والجنات عند الله سبحانه بساتين عظيمة جداً لأصحابها أهل الجنة، درجات بعضها فوق بعض، وعدن بمعنى إقامة دائمة، ومنها المعدن، لكونه مقيماً في داخل الأرض باستمرار: الذهب، والفضة، والحديد، وغير ذلك من معادن الأرض.
قال: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) أي: جنات إقامة دائمة لا يخرجون منها أبداً، ثم قال: ((يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ))، لقد حرم الله على الرجال الذهب في الدنيا فلم يلبسوه فاستحقوا أن يلبسوه في الجنة، وكذلك حرم على رجالهم الحرير في الدنيا فلم يلبسوه فلبسوه في الجنة.
فقوله: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ))، والذهب يسمى في الدنيا ذهباً وفي الجنة ذهباً، ولكن هناك فرق بين ذهب الدنيا وذهب الجنة، هذا ذهب يذهب، وذاك ذهب معدن باق عند الله سبحانه وتعالى.
هذا المعدن العظيم الذي ذكره لنا تبنى منه القصور في الجنة لأهل الجنة في الجنات، لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام، في هذه القصور غرف يرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، هذه الغرف مبنية من ذهب ومن فضة، ذهبها لم يغط ما بداخلها؛ لأنه غير ذهب الدنيا.
ثم قال: ((وَلُؤْلُؤًا))، أي: يلبسهم، ويحليهم الله سبحانه وتعالى اللؤلؤ، وهذه تقرأ بالنصب، وتقرأ بالجر، وتقرأ مهموزة وغير مهموزة، {َلُؤْلُؤًا} [فاطر:33]، فيقرؤها نافع، وأبو جعفر، وعاصم (لؤلؤاً) بالنصب فيها، على الخلاف في الهمزة التي فيها.
فيكون المعنى: ويحلون لؤلؤاً على أنها مفعول لهذا الفعل (يحلون) وباقي القراء يقرءونها: ((وَلُؤْلُؤٍ)) بالكسر يعني: يحلون من ذهب وَلُؤْلُؤٍ ونافع، وحفص عن عاصم يقرأان: ((وَلُؤْلُؤًا))، بالهمز وبالنصب فيها، أما شعبة عن عاصم وأبو جعفر أيضاً فيقرأانها: ((وَلُوْْلُؤًا))، بالنصب فيها، وبعدم الهمزة الأولى، يعني: بنقل الهمزة الأولى.
أما باقي القراء فيقرءونها بالكسر كما ذكرنا: ((وَلُؤْلُؤٍ)) ولكن أبا عمرو يحذف أيضاً الهمزة الأولى فيقرأ: ((وَلُوْلُؤٍ))، وإذا وقف عليها هشام فإنه يقرؤها: ((وَلُؤْلُو))، وإذا وقف عليها حمزة فإنه يقرؤها: (وَلُوْلُوْ).
فقوله: ((يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)) فالإنسان في الجنة يلبس الحرير ويحلى من أساور من ذهب، ويلبس اللؤلؤ، وينادى على أهل الجنة: (يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً).
فأهل الجنة في نعيم مقيم، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، كذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).
قوله تعالى: ((وَلِبَاسُهُمْ)) أي: ثيابهم، ((فِيهَا حَرِيرٌ)) من يصنع لهم ثياب في الجنة؟ لا توجد مصانع في الجنة تصنع، ولكن هناك شجرة تنبت في الجنة تخرج منها ثياب أهل الجنة.
فالله عز وجل يعطيهم ما لم يتخيلوا أبداً من فضله سبحانه وتعالى، ويعطيهم ما هو فوق ذلك، حيث ينادي على أهل الجنة: (يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا، فيقول: أفلا أعطيكم خيراً من ذلك؟ يقولون: وما خير من ذلك؟ فيقول: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً) فأعظم ما أعطاهم الله سبحانه أن رضي عنهم سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وأن يرضى عنا، وأن يجعلنا من عباده المصطفين الأخيار، أهل الإحسان الأبرار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(307/9)
تفسير سورة فاطر [32 - 37]
يحمد المؤمنون ربهم في الدنيا على ما أنعم عليهم من نعمة الهداية إلى صراطه المستقيم، وكذلك يوم القيامة حين يدخلهم ربهم الجنة فإنهم يحمدونه ويشكرونه على تفضله عليهم بدخول الجنة، وما رأوا من إكرامه لهم وإفضاله عليهم، فقد أحلهم دار المقامة من فضله ومنته ورحمته، بخلاف الكفار فإن مصيرهم إلى نار جهنم لا يحكم عليهم فيها بالموت فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها.(308/1)
اصطفاء الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:32 - 37].
ذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى يمتن على هذه الأمة الإسلامية بنعمة الاصطفاء والاجتباء والاختيار، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهذه الأمة خير الأمم وأفضل الأمم، وهي الأمة الوسط أهل العدالة الذين يشهدون على الأمم السابقة قبلهم، أورثهم الله عز وجل الكتاب، أي: أعطاهم الأحكام الشرعية في هذا القرآن العظيم، قال تعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ)) أي: أعطينا الميراث لهذه الأمة، فكأن الكتب السماوية هي الإرث الذي يتركه الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فإن استحق أتباعهم أن يأخذوا هذا الكتاب كان معهم حتى ينتهي أمرهم، وإن تركوا دين ربهم، فإن الله عز وجل يخلف غيرهم ويرسل رسولاً من عنده سبحانه وتعالى، وينزل عليهم شريعة من الشرائع، ويخلف هؤلاء الأمم من كانوا قبلهم، فالله تعالى جعلهم خلائف في الأرض، حتى جاءت أمتنا الأمة المصطفاة، وأنزل الله عليهم هذا القرآن فأورثهم أحكام كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وأعطاهم علم هذه الأحكام من شريعة وعقائد وغير ذلك، مما في كتاب الله عز وجل وفي هدي النبي صلوات الله وسلامه عليه.
الاصطفاء: هو مشتق من الصفوة، وهو الخلوص، فهي الأمة التي استخلصها الله عز وجل من الأمم، وجعلها الوارثة لعلم النبوة ولهذا الكتاب العظيم ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم.(308/2)
أقسام المسلمين ومراتبهم وأصنافهم
لقد قسم الله تعالى المسلمين من هذه الأمة أقساماً ثلاثة فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس، والذين أرسل إليهم جميعهم أمته عليه الصلاة والسلام، منهم أمة الدعوة، وهم الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من أسلم ومنهم من كفر، ممن حضر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من بعدهم إلى قيام الساعة، أما الذين استجابوا له فدخلوا حباً في دين الله عز وجل بإرادتهم فهؤلاء أمة الإجابة.
وأمة الإجابة هم المسلمون، خرج عنهم المنافقون، والكافرون، فأمة الإجابة هم من قالوا: لا إله إلا الله مستيقنين بذلك.
وهم من الأقسام الثلاثة الذين ذكر الله عز وجل في هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فالظالم لنفسه: هو الذي فرط في حق نفسه وفي حق دينه، فارتكب من المعاصي ما شاء الله سبحانه وتعالى، وترك بعض الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى عليه، فزادت سيئاته على حسناته، فكان ظالماً لنفسه فاستحق العقوبة، ولكن ينفعه قول لا إله إلا الله يوماً من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه.
الصنف الثاني: وهم المقتصدون الذين استوت حسناتهم مع سيئاتهم، وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات، وقد يحصل منهم التفريط في الأخذ بشيء من المكروهات، وترك شيء من المستحبات، ولكن حالهم على الاستقامة، قصروا في النوافل، ولكن غالب أحوالهم المحافظة على الفرائض، فعلى ذلك كانوا مقتصدين، فاستوى عملهم الحسن مع ما وقعوا فيه من أخطاء، فالله يتجاوز ويعفو سبحانه وتعالى عنهم.
الصنف الثالث: هم السابقون إلى الخيرات، (ومنهم سابق بالخيرات) فهؤلاء ما وجدوا وسيلة لفعل الخير إلا واستبقوا إليها، إلا وسنوا للناس السنة الحسنة فيها، فكانوا السابقين بالخيرات، قال الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 14].
فهؤلاء كانوا في قرون الخيرية الأولى التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قوله: (خير القرون قرني) وهم من أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، فهؤلاء خير القرون، وخير الناس.
قوله: (ثم الذين يلونهم) أي: الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءوا من بعده وشاهدوا أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، هؤلاء فيهم الخيرية بعد الصحابة.
قوله: (ثم الذين يلونهم)، وهم تابعو التابعين، وهؤلاء فيهم الخير أيضاً.
وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:10 - 13] أي: ثلة ممن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عصور الخيرية، والثلة: جماعة كبيرة من الناس نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم.
قوله: {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: من القرون المتأخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، فلا يتوقع أن يأتي عهد كعهد الصحابة، إلا أن يشاء الله عز وجل حين ينزل المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن الغالب في الناس أنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه وأشد منه في الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتأتي الفتن يرقق بعضها بعضاً، فتأتي فتنة في زمن من الأزمان، ثم تأتي فتنة بعد ذلك تليها، فإذا بالناس الذين يشهدون هذا الشيء الجديد يرققون ما تقدم، ويقولون: إن الذي فات ليس بشيء وهذا أصعب وأشد، ثم تأتي على الناس فتنة بعدها فترقق السابقة وهكذا، كلما يبتلى الناس بشيء من الفتن إذا بهم ينظرون فيها فيقولون: إن هذه أشد وأفحش مما تقدم من الفتن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالسابقون كانوا في القرون السابقة هم الأكثرية، ولكن في القرون المتأخرة هم الأقلون، كما قال الله سبحانه: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14] فما جزاؤهم عند ربهم سبحانه؟ قال: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: الأرائك التي يجلسون عليها، تقول: هذا سرير الملك، يعني: العرش الذي يجلس عليه الملك، فهؤلاء ملوك في الجنة، فهم على سرر في الجنة منعمين مرفهين، وهذه السرر مصنوعة من ذهب موضونة، وهم يأكلون ويشربون في جنات الخلود، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(308/3)
تكرم الله وتفضله على المؤمنين بدخول الجنة والتنعم فيها
لقد ذكر الله عز وجل عن هؤلاء المؤمنين في هذه السور العظيمة أنه سبحانه تكرم عليهم بفضله الكبير، قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا} [فاطر:33]، على قراءة (يُدخلونها) وهي قراءة أبي عمرو، أي: أن الله يدخلهم هذه الجنات العظيمة، وقراءة الجمهور {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33] ففي هذه الجنة يلبسون ما كان قد حرمه الله عز وجل عليهم في الدنيا، من حرير وذهب، فينعمون به في الجنة، قال سبحانه: ((يُحَلَّوْنَ فِيهَا)) أي: فلهم الحلية في الجنة، ((مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)) لا تنظر إلى ما في الدنيا من أساور فإنها لا تقارن بما في الجنة، فأساورهم في الجنة من ذهب ولؤلؤ.
((وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)) أي: يلبسون الثياب من الحرير وكما ذكرنا قبل ذلك أن شجرة في الجنة تخرج ثياب أهل الجنة، وهي شجرة طوبى، كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(308/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] هذه السورة بدأها الله عز وجل بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] وهنا يذكر حال أهل الجنة وأنهم يحمدون الله سبحانه، ويقولون: ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ))، والمؤمنون في الدنيا حمدوا ربهم سبحانه، وفي الجنة يحمدون الله على ما صاروا إليه.
((الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)) أي: الحزن الذي كان في الدنيا؛ لأن الدنيا دار الآفات ودار المحن ودار الفتن والبلاء والمصائب.
فالإنسان في الدنيا بين خوف وحزن، خائف من المستقبل، وحزين على الماضي، سواءً كان غنياً أو فقيراً فهو على هذا الحال، فالغني يجمع المال وينظر في أمره ويخاف أن يضيع منه، فهو بين الحزن والخوف، كذلك الإنسان الفقير، حزين على حاله أن الناس معهم مال وليس معه مال، وخائف أن يزداد فقره هذا حال الإنسان في الدنيا بين خوف وحزن، ولكن في الآخرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنهم عند ربهم سبحانه وتعالى، فهم يثنون الثناء الجميل على الله بما هو أهله، ويقولون: الحمد لله الذي أنعم علينا بأن أذهب عنا الحزن، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]، إن ربنا سبحانه غفور غفر لنا ذنوبنا، شكور يشكر ما قدمناه من عمل ولو كان شيئاً يسيراً، فجازانا على القليل وعلى الكثير بفضله وكرمه سبحانه وتعالى.
وقد بين لنا سبحانه في سورة الفرقان صفات عباد الرحمن، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] وذكر تعالى ما أنعم عليهم فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:75 - 76].
في هذه الآيات أخبر الله عز وجل عن عباد الرحمن أنهم يجزون الغرفة أي: أعالي الجنات، وعباد الرحمن هم الذين يتوبون إلى الله سبحانه من الذنوب، {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، فهؤلاء الذين تابوا إلى الله قال فيهم: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فإذا بأهل الجنة حين يدخلونها ينظرون إلى أن الله قد أكرمهم وأعطاهم ثواباً عظيماً لم يخطر على بالهم، حتى إنه حين يحاسبهم سبحانه يدني منه المؤمن بكرمه، ويضع عليه كنفه وستره يوم القيامة، ثم يقرره: عملت كذا يوم كذا، وعملت كذا يوم كذا، يقرره بذنوبه، قد ستره الله سبحانه وتعالى ولم يفضحه سبحانه وتعالى، يقول: (قد سترناها عليك في الدنيا واليوم نغفرها لك، ويأمر الملائكة أن يأتوه بصحيفة سيئاته لينظر فيها، ويقول: واروا عنه كبار سيئاته فيريه أشياء من صغائره التي وقع فيها، والعبد في شدة الخوف أن يرى ما هو أكبر من ذلك) فالله بكرمه يخفي عنه ذلك، فإذا قرره يقول له: (اليوم نبدلها حسنات) أي: هذا الذي رأيته أمامك في هذه الصحيفة سنبدله حسنات ونعطيك مكان كل واحدة تبت منها حسنة عندنا، فإذا بالعبد يفرح بذلك ويتبجح، ويقول لله: (هناك أشياء لا أراها هنا) يعني: من ذنوب قد أخفاها الله عز وجل عنه حتى لا يحرجه ولا يضيق عليه بكرمه وبفضله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
ويوم القيامة يقتص الله لعباده بعضهم من بعض، حتى يؤتى بإنسان مؤمن وقد أخذ من حسناته حتى لم يبق له إلا حسنة واحدة، فإذا به يخاف أن تضيع هذه الحسنة، والله بكرمه سبحانه ينميها له ويضاعفها له ويدخله بها الجنة سبحانه وتعالى.(308/5)
تفسير قوله تعالى: (الذي أحلنا دار المقامة من فضلة)
قال الله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35] أحلنا أي: أنزلنا وأدخلنا، ((دار المقامة)) أي: الدار التي فيها الإقامة الدائمة وهي الجنة.
فالله سبحانه بمنه وكرمه أنزلنا فيها وجعلنا أهلها وجعلها دارنا ننزل فيها ولا نظعن عنها، ولا نخرج منها أبداً، ((مِنْ فَضْلِهِ)) أي: تكرماً منه سبحانه وليس باستحقاقنا؛ لأن أعمالنا لا تساوي أن ندخل هذا المكان العظيم، ولكن بفضل الله أنزلنا فيه، ((لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ)) أي: لا يمسنا فيها تعب، ((وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) اللغوب هو الإعياء، فالإنسان إذا عمل عملاً يمسه النصب والتعب، وتكل أعضاؤه، فهو مع العمل بلغ به الجهد أقصاه حتى إنه صار كالمريض، فأهل الجنة لا يمسهم فيها تعب يسير ولا تعب شديد؛ لأنه لا تعب ولا إعياء في الجنة، فأهل الجنة يمرحون ويلعبون ويأكلون ويشربون، وهم في نعيم مقيم في جنات إقامة دائمة ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)).
فإذاً: أهل الجنة كانوا في الدنيا في دار عمل وفي دار عناء وتعب؛ لأن الدنيا دار التكليف، فالله عز وجل يكلف عباده ويلزمهم بأشياء فيها مشقة عليهم، فهو ألزمهم أن يصلوا وأن يصوموا وأن يجاهدوا في سبيل الله، فهذه تكاليف شرعية فيها شيء من المشقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فهو سبحانه لم يكلفنا مالا نطيق، لا، ولكن يكلفنا أقل مما نطيق، فقد كلفنا سبحانه وتعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة، ونحن نطيق أكثر من ذلك، بدليل أننا نصلي نوافل، وكان ربنا سبحانه قد فرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج خمسين صلاة، ومن فضل الله سبحانه وكرمه أن جعل موسى يراجع النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى خفف الله عن عباده وجعلها خمس صلوات، وقال: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هن خمس صلوات)، فإذا نظرنا في الخمسين صلاة متى نصلي هذه الخمسين، وكيف نقدر عليها، يقول سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فلم يكلفنا إلا ما نطيق سبحانه وتعالى، فكلفنا أقل مما نطيق فقد كلفنا خمس صلوات في اليوم والليلة.
ومن فضله سبحانه أن أمرنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رحمة من الله سبحانه وتعالى.
كذلك الصيام أول ما فرضه الله على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبدأ من العشاء ويظل المرء صائماً الليل كله والنهار كله إلى أن تغرب الشمس، فجعل في هذا الصيام مشقة؛ ليرينا سبحانه أنه لو شاء لأعنتنا، ولكن الله بالمؤمنين رءوف رحيم سبحانه وتعالى، وهو لطيف بعباده، فجعل ذلك فترة وجيزة ثم خفف سبحانه وجعل الصيام على الهيئة التي عليها الآن، نصوم من الفجر حتى غروب الشمس ونطعم الليل كله حتى الفجر، فضلاً وكرماً من الله سبحانه وتعالى.
لذلك أهل الجنة يذكرون ما كانوا عليه في الدنيا، فيقولون: عبدنا ربنا بفضله؛ فهو الذي دلنا على عبادته، وهو الذي أعاننا على عبادته، وهو الذي يسر لنا ذكره وشكره وحسن عبادته، فالفضل منه أولاً وآخراً، ذلك هو الفضل الكبير.
كذلك أهل الجنة يأكلون ويشربون ما شاءوا، أما الإنسان في الدنيا فإنه إذا أكل وزاد عن حده انقلب إلى ضده، ولم يقدر على الطعام، وتعب وذهب إلى المستشفى من التخمة التي يصاب بها.
كذلك الإنسان يأكل في الدنيا ويخرج ذلك غائطاً وبولاً، أما في الجنة فلا شيء من ذلك، لا قذارة فيها، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا بول ولا غائط ولا جشاء ولا حيض ولا نفاس؛ لأن الجنة دار طهرها الله سبحانه وطهر أهلها، فهم يأكلون ما يشاءون، فيخرج هذا منهم عرقاً يسيل من أبدانهم له رائحة المسك، لا يحتاج إلى وضع مسك.
وأهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، يرزقهم الله سبحانه التسبيح ويستمتعون بالتسبيح.
في الدنيا الإنسان المؤمن الذي يعرف ربه يستمتع بالتسبيح، يقول: سبحان الله، ويستشعر هذه الكلمة العظيمة، سبحانك ما أعظمك يا رب العالمين، فكأنه يتذوق حلاوة هذه الكلمة بلسانه، ويقول: لا إله إلا الله، فيستمتع بلسانه بذكر الله سبحانه، ويطمئن قلبه بذكر الله سبحانه، فإذا دخل المؤمنون الجنة فهم في غاية الاستمتاع بذلك، فهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس في الدنيا، وهم في جنة الخلود في نعيم يتذكرون الدنيا، وهم على سرر متقابلين قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28] أي: أهل الجنة يتحدثون وهم على الأسرة ملوكاً في الجنة يحدث بعضهم بعضاً: يقولون: تذكرون يوم أن كنا في الدنيا نعمل كذا وكذا، وكنا خائفين من ربنا سبحانه وتعالى، وعملنا الأعمال الصالحة بفضل ربنا علينا، ويتذكرون كيف كان الكفار يريدون إغواءهم في الدنيا، فأحد أهل الجنة يتذكر أنه عندما كان في هذه الدنيا كان له صاحب يريد أن يغويه، فقال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، وكان هذا المؤمن شريكاً لرجل من الكفار، فالكافر كان يأخذ ماله ويبني به القصور ويشتري البساتين ويعمل به أشياء كثيرة للدنيا، والمؤمن كان يأخذ ماله فيطعم ويشرب ببعضه، ويتصدق ببعضه، فإذا بشريكه الكافر يسخر منه، ويقول له: لماذا تتصدق بالمال؟ أمن أجل أننا مبعوثون يوم القيامة، يقول: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: سنبعث ونجازى يوم القيامة، فإذا بالله عز وجل يقول للمؤمنين: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] أي: انظروا ماذا حصل له؟ فاطلع هذا المؤمن فرأى هذا الكافر في سواء الجحيم، {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: كنت ستهلكني في الدنيا إن اتبعتك، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] معك في هذا العذاب، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:58 - 60] فيقول الله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] أي: اعملوا من الآن في الدنيا لمثل هذا الجزاء العظيم ولمثل هذا اليوم الكريم الذي يُكرَم فيه المؤمنون، أما الكفرة فيهينهم الله سبحانه وتعالى، ويدخلهم ناره، ويقول ربنا سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] أي: أهذا الذي هم فيه خير وإلا شجرة الزقوم التي هي في جهنم؟!(308/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، لما ذكر لنا حال أهل الجنة ونعيمهم المقيم -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجيرنا من ناره- ذكر أهل الكفر، وأنهم حين يدخلون النار يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبداً، ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ)) ونار الآخرة لا يطيقها إنسان أبداً، ونار الدنيا التي لا نطيقها يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة) فأقصى ما يكون من نار الدنيا وأشد ما يكون من لهيب الدنيا، إنما هو جزء من أجزاء نار الآخرة، فكيف تكون نار الآخرة، نسأل الله العفو والعافية.
وجهنم من أسماء النار، وكأنها مشتقة من الشيء البعيد القعر، يقولون: بئر جهنام بمعنى بئر بعيدة القعر، فنار جهنم هي النار البعيد القعر، يلقى بالحجر في النار فيهوي فيها سبعين خريفاً حتى يصل إلى قعر النار والعياذ بالله، فكأن جهنم أس النار وأصل النار وأساس النار، والدركة السفلى من النار التي فوقها الدركات الأخرى.
فالجنة درجات عالية، والنار دركات هاوية، فأهوى ما فيها وأسقط ما فيها وأسفل ما فيها جهنم والعياذ بالله.
وجهنم في أصلها شجرة الزقوم، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:43 - 49]، هذا يقال للكافر كـ أبي جهل وأتباعه، الذين كانوا يسخرون من النبي صلوات الله وسلامه عليه حين يذكرهم بالنار، وبهذه الشجرة التي في النار، فيقول أبو جهل: شجرة زقوم يخوفنا منها، وهل تنبت شجرة في النار؟ ما الزقوم؟ تعالوا نتزقم، فيأتي لهم بالتمر فيقول: إنما الزقوم تمر يخلط بالزبد تعالوا نتزقم.
يسخر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وكان يقول لما يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمثالك مصيرهم النار، يقول: أنا أدخل النار، أنا عزيز في قومي، تخوفني وأنا عزيز في قومي، وأنا أكرم على قومي من أن يتركوني، هذا الجاهل الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم وكناه بـ أبي جهل لعنة الله عليه، وقال عنه: (هذا فرعون هذه الأمة)، هذا المجرم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، أي: لـ أبي جهل هذا وأمثاله، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45]، المهل دردي الزيت، والدردي: هو ما يتبقى في الإناء من الزيت المغلي، وطعمه قبيح جداً لا يستساغ، فهذا هو المهل الذي يكون في بطونهم.
والمهل أيضاً: هو صديد أهل النار والعياذ بالله.
وقال سبحانه: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] وعتل الشيء، أي: أخذه أخذاً عنيفاً فحمله وألقاه في النار.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:48 - 49] أي: كنت في الدنيا تقول: أنا عزيز، ذق أيها العزيز، وكنت تقول: أنا كريم، فذق أيها الكريم، وهذا هو الهوان وهذا هو الذل الذي كنت تستهزئ به.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] أي: نار الدنيا إذا أحرقت إنساناً قضى الله عز وجل عليه ومات، أما نار الآخرة فليس فيها موت، وهذا أفظع ما يكون على أهل النار، فالله سبحانه وتعالى ييئسهم من الموت: (لما يدخل أهل النار من الكفار النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يؤتى بالموت بين الجنة والنار على هيئة كبش أملح، والله يخلق ما يشاء سبحانه، فينادى: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وينادى: يا أهل النار، فينظرون ويظنون أنهم سيخرجون من النار، فيقال للجميع: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
إنه الموت، فيأمر الله عز وجل بذبحه بين الجنة والنار، فيذبح الموت، ويقال لأهل الجنة: خلود بلا موت، ويقال لأهل النار: خلود بلا موت، فأهل الجنة يزدادون نعيماً وفرحاً بما أعطاهم الله، وأهل النار يزدادون غماً وبؤساً وشقاءً بأنه لا موت) {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] أي: في نار جهنم كلما نضجت واستوت جلودهم وتفحمت من النار يبدلهم جلوداً أخرى غيرها، {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، سبحانه وتعالى.
قال: ((لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)) أي: لا يموتون في النار، وإنما يعطي الله عز وجل لهم القدرة على الحياة فيها، يحيون ويتألمون ويقاسون من حرها ولا يموتون أبداً، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] أي: لا يخفف عنهم شيء من عذاب النار، {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] عبر بنون العظمة للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، أي: كذلك نجزي من كفر بنا، وابتعد عن ديننا، وعصى رسولنا صلوات وسلامه عليه.
وقراءة أبي عمرو: ((كَذَلِكَ يجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)) أي: كذلك الجزاء في نار جهنم خالدين فيها، وكل إنسان كفر بالله سبحانه وتعالى وجحد ربه سبحانه، وجحد نعم الله، وأشرك بالله، يجزى هذا الجزاء، فالكفار يدخلون النار ويعذبون عذاباً شديداً فيها، وقد أعذر الله سبحانه وتعالى إليهم، وينادون وهم في النار مالكاً خازن النار، قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، ما هو جوابه؟ {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] أي: إنكم مقيمون في النار ولن تخرجوا منها أبداً، قالوا: تعالوا: نصبر مثلما صبر أهل الدنيا في الدنيا على الدنيا فنالوا النعيم، نصبر قليلاًَ في النار، فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فقال بعضهم لبعض: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، قالوا: تعالوا: ننادي ربنا، فإنه كان رحيماً بنا في الدنيا، ولعله يرحمنا الآن، فنادوا ربهم، {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] أي: ربنا كنا أشقياء في الدنيا، وغلب علينا القدر، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] أي: كنا في الدنيا قوماً ضالين ظالمين، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وكلمة اخسأ تقال للكلب، يعني: إذا أردت أن تطرد الكلب إلى مكان بعيد فتقول: اخسأ، فيقال لأهل النار من الكفار ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:108 - 111].
أي: فاز أهل الجنة ونجاهم الله سبحانه وتعالى، وضاع أهل النار وخسروا بسبب ما كانوا يصنعون في الدنيا، وهذه الدنيا لا تساوي شيئاً، قال سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] أي: يقال ذلك للجميع، فما جوابهم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: اسأل الذين يعدون.
فأهل النار لا عذر لهم مقبول ولا هم يعتبون وهم في النار، وإنما يرون العذاب.(308/7)
تفسير قوله تعالى: (وهم يصطرخون فيها)
يقول الله سبحانه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] أي: وهم يصرخون، والإنسان إذا كان في مكان ويريد من أحد أن ينقذه يصرخ ويعلي صوته، فإذا بالغ في الصراخ فهو يصطرخ.
فالإنسان الصارخ: هو الذي يرفع صوته مستغيثاً، والصريخ المغيث الذي يغيثه، {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس:43] أي: لا أحد يغيثهم وهم في النار، ((وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا)) قائلين: ((رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)) أي: من الأعمال الطالحة، أخرجنا نعمل أعمالاً صالحة، فيقول لهم: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)) ألم تعيشوا في الدنيا، وأعطيناكم أعماراً؟ عشتم في الدنيا ثلاثين سنة، وأربعين سنة، وستين سنة، ومائة سنة، هل انتفعتم بهذه الحياة وبهذا العمر الذي عمرتموه؟ أولم نعمركم عمراً علمتم فيه الحق من الباطل، وخبرتم فيه نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعرفتم صدقه؟ أولم نعمركم عمراً يتذكر فيه وفي مثله من تذكر؟ فقد تذكر هؤلاء المؤمنون فدخلوا الجنة؛ لأنهم تذكروا واستحقوا جنة الخلود، ((وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) أي: الإنذار من عند الله سبحانه، والنذير هو كتاب ربنا القرآن العظيم، والرسول صلوات الله وسلامه عليه، والقرآن رأوا فيه عبر وعظات في هذه الدنيا، فيما حل بالأمم السابقة من نكبات، وما أحل الله عز وجل بهم من نقمات.
فجاءكم النذير ينذركم: احذروا أن تكونوا مثل قوم نوح أو قوم عاد أو قوم ثمود أو أصحاب الأيكة، أو قوم تبع أو غير ذلك ممن أهلكهم الله، ألم يأتكم نذير من عند الله سبحانه، ينذركم ويخوفكم من ذلك؟ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فلم تنتفعوا؟ ((فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) أي: لا أحد ينصر الظالمين يوم يحكم الله عز وجل بالعدل بين العباد فيدخل من يشاء جنته برحمته، ويدخل من يشاء النار بعدله وحكمته.
نسأل الله سبحانه أن يغفر لنا وأن يتوب علينا، وأن يدخلنا الجنة وأن ينجينا من النار بفضله ورحمته وهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(308/8)
تفسير سورة فاطر [38 - 45]
يخبر سبحانه أنه يعلم غيب السماوات والأرض، ومن باب الأولى أن يعلم ما يشاهد فيها، وأنه يعلم ذات القلوب المخفية وما يدور داخلها، كما يخبر سبحانه أنه جعل الناس خلائف في الأرض، أي: يخلف بعضهم بعضاً، يموت هذا فيجيء هذا، وأن من كفر به سبحانه فإن كفره سيعود عليه بالوبال يوم القيامة، وأن الكافر إذا ارتكب أعمالاً خبيثة زادته عند الله بغضاً، ومن الله بعداً، وأوردته جهنم، ثم يخاطب الله سبحانه الكفار بأن يروه المخلوقات التي خلقتها آلهتهم التي يعبدونها، وهيهات أن يفعلوا!(309/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله عالم غيب السموات والأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: يقول الله سبحانه وتعالى في سورة فاطر: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا * قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:38 - 45].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من آخر سورة فاطر بأنه سبحانه علام الغيوب فهو عالم غيب السماوات والأرض وهو عليم بذات الصدور سبحانه.
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:38]، فإذا علم ما غاب فمن باب أولى أن يعلم ما حضر وما شوهد فهو يعلم كل غائب في السماوات والأرض، وكل شيء اختفى في ظلمات الأرض سواء كانت حبة في رطب أو في يابس فإنه يعلمها ويعلم مصيرها، فهو يعلم ما في السماوات وما فوقهن، وما في الأرض وما تحتها وما بين ذلك.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد:9]، أي: ما غاب وما شوهد {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر:38]، أي: بخفايا النفوس وبما أخفوه في قلوبهم، وذات الصدر الخفية في صدر الإنسان يعلمها، فهو يعلم ما في داخلها مما أخفاه العبد من نية: خير أو غير ذلك.(309/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)
{هو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} [فاطر:39]، أي: خلفاً بعد خلف يخلف بعضكم بعضاً، فالله سبحانه جعل العباد خلفاء في الأرض، وخلائف فيها، يخلف بعضهم بعضاً، هذا يذهب وقد سلف ومضى، وذاك يخلفه ويجيء ويكون حاضراً، ثم يمضي عليه زمن فيزول كما زال غيره ويخلفه غيره، فالناس خلفاء في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، والناس خلائف في الأرض، أي: خلفاً بعد خلف يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن.
وكلمة الخلف تطلق على التالي للمتقدم، إذاً: إذا تقدم إنسان فنقول عنه مضى وسلف، والذي يأتي من بعده نقول له: هذا الخلف لهؤلاء السلف، والناس يخلف بعضهم بعضاً فهم خلفاء في الأرض، وليسوا خلفاء الله في الأرض، فليس الإنسان خليفة لله في الأرض، وإنما الإنسان يخلف غيره من الناس إذا ذهب إنسان جاء إنسان غيره، أما الله فهو حي لا يموت سبحانه، فهو يدبر أمر السماوات والأرض ويحكم فيهن سبحانه بحكمه.
وقد جاء عن أبي بكر الصديق أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال له البعض: يا خليفة الله! قال أبو بكر رضي الله عنه: لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فالناس يخلف بعضهم بعضاً ولا يخلفون الله في أرضه سبحانه، فالله يحكم في أرضه وفي سماواته ويشرع ما يشاء سبحانه، ولكن الإنسان خليفة في الأرض أي: يخلف بعد أن يمضي غيره، فيأتي هذا الإنسان خلفاً لسلف.
{فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [فاطر:39]، أي: من كفر فعليه وزر كفره وإثم كفره، فهو يحمل فوق كاهله هذا الكفر الذي جاء به في الدنيا يوم القيامة، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} [فاطر:39]، إن الله قد غضب عليه لكفره، فإذا عمل من أعمال الكفر شيئاً ازداد بها مقتاً عند الله، والمقت: هو أشد البغض فتقول: فلان أبغض فلاناً، وفلان مقت فلاناً، فالبغض هو الكراهية، أما المقت فهو أشد الكراهية، فهؤلاء يزدادون بمكرهم وخداعهم وكيدهم للمؤمنين من الله بعداً، ويزدادون عند الله مقتاً، فيمقتهم سبحانه ويغضب عليهم ويبغضهم ويكرههم هم وأفعالهم.
قال الله سبحانه: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر:39]، أي: مكروا بالمؤمنين كلما زاد عذابهم عند الله، فازدادوا خسراناً وهواناً عنده سبحانه، ولا يحيق مكرهم السيئ إلا بهم.(309/3)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله)
قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]، يخاطب الله سبحانه هؤلاء الكافرين المشركين الذين عبدوا غير الله سبحانه وكادوا للمؤمنين وأرادوا خداعهم وعمل الحيل لإهلاكهم وإن كانوا هم الذين يهلكون بكفرهم وبحيلهم وبمكرهم بالمؤمنين فإن الله يهلكهم يوماً من الأيام.
يقول لهؤلاء: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:40]، وشركاءكم منصوبة على المفعولية للفعل رأى ومعناه: أخبروني عن {شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:40].
وفيها قراءات: قراءة الجمهور {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر بالتسهيل، وذكرنا أن الأجود عند العرب كما يقول الخليل: أنهم إذا التقت همزتان يخففون إحداهما، ومن هذا الباب وقع التسهيل هنا، وكما ذكرنا أنه وجد التسهيل في قراءة حفص عند قوله: (أأعجمي وعربي) وهو من هذا الباب أيضاً؛ فإنه إذا التقت همزتان فإن العرب تحذف الثانية منهما أو تقلبها ألفاً كأن يقول: أعجمي أو آعجمي وعربي على قراءات فيها.
وكذلك هنا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، هذه قراءة نافع وأبو جعفر ويقرؤها الكسائي (قل أريتم) وإذا قرأ الأزرق وورش {قُلْ اَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، فإنه ينقل الهمزة الأولى على طريقته، وأيضاً هناك قراءة أخرى للأزرق يمد مداً طويلاً (قل ارآيتم شركاءكم) فيمدها وينقل الهمزة.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:40]، أي: أخبروني عن هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله وطلبتم منهم ما لا يطلب إلا من الله {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:40]، إذاً: {أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، الأولى معناها: أخبروني عن هؤلاء، و {أَرُونِي} [فاطر:40]، أي: اجعلوني أنظر وأبصر إلى هذا الشيء الذي خلقته هذه الآلهة من دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:40]، أي هل لهم شراكة في السماوات مع الله سبحانه أخبروني عن ذلك؟ وقد قال إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في محاجته ومناظرته للنمرود كلمة عظيمة أبهته بها حين قال لقومه: إنه الرب الذي يستحق العبادة من دون الله، قال الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] يعني: لكونه قد أوتي الملك {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258]، قال النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، أي: وأنا أيضاً أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام ومن ثم أعفو عن واحد وأقتل الثاني إذاً: أحييت هذا الإنسان، وأمت هذا الإنسان، وهذا كلام لا يقبله إنسان عاقل.
لذلك إبراهيم أضرب عن هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا الإنسان، وقال له شيئاً آخر لا يقدر أن يجادل فيه فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
فالله عز وجل لا شريك له سبحانه لا في الأرض ولا في السماء {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]، أم بمعنى: بل (ءآتيناهم) أي: أعطيناهم كتاباً من عندنا {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]، أي: فهم على ثقة من هذا الشيء، وعلى بصيرة فيما يقولون ويفعلون ويعبدون الأصنام والأحجار، فهل هم على بينة من هذا الذي يقولونه ويزعمونه؟ وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم وحمزة وخلف {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]، بالإفراد وباقي القراء يقرءون (فهم على بينات منه) بالجمع.
وإذا وقف ابن كثير وأبو عمرو عليها فإنهما يقفان بالهاء (فهم على بينه) وباقي من يقرؤها بالإفراد يقف بالتاء (فهم على بينة) ولذلك تجدها مكتوبة في المصحف بالتاء في آخرها.
{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]، أي: اضرب عن هذا الذي يقولون، فإن هؤلاء في غرور فهم يعد بعضهم بعضاً خداعاً وتمويهاً وغروراً زائلاً لا يدوم أبداً، فيقول بعضهم لبعض لا يوجد جنة ولا نار {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فهم في غرور، والغرور: هو الشيء الزائل، فكلامهم كلام فارغ لا قيمة له.
وهذا الأحمق الذي يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] أي: النار: فقال: أنا أدفع عشرة من هؤلاء وعليكم الباقي، فهذا المغرور الأحمق أين قوته التي يستطيع بها دفع ملك واحد حتى يقول: أدفع عشرة، وقد كان يلقب بأبي الأشدين ويقول: سأقف على باب النار أسده بكتفي حتى لا يدخل أحد النار، إنه يظن أن النار زنزانة كزنازين الدنيا سيضع يديه عليها فيمنع الناس من الدخول فيها ولم يدر أنها عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى.
فإنه سيؤتى بهذه النار لها سبعون ألف زمام، والزمام: هو المكان الذي يمسك به، على كل زمام سبعون ألف ملك من ملائكة الله عز وجل، فيأتون بها إلى حيث يشاء الله سبحانه وتعالى، (ويخرج عنق من النار)، ويقول: وكلت بالجبارين، وكلت بالمتكبرين، وكلت بالمصورين فيخطف هؤلاء من الموقف إلى نار الجحيم والعياذ بالله، وكذلك أبو جهل ذكرنا أنه كان يقول: إن محمداً -صلوات الله وسلامه عليه- يخوفنا بالزقوم، وهل تخرج شجرة في النار؟ فيسخر من شجرة الزقوم، والله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40].
وهكذا هم أهل الظلم في غرور وفي باطل وخيبة وفي خسران يمني بعضهم بعضاً، ويضحك بعضهم على بعض حتى تأتي الطامة الكبرى على الجميع فلا يقدرون على الهرب، ولذلك يقول الله عن المستكبرين هؤلاء وهم في النار: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس:54]، أي: خافوا من الضعفاء الذين خدعوهم في الدنيا أن يسمعوهم وهم يقولون: يا رب ندمنا، فيقولون لهم: لماذا أغريتمونا في الدنيا؟ فأسروا الندامة عن أتباعهم وقالوا بينهم وبين ربهم يا رب ندمنا فلم تنفعهم توبة، ولم ينفعهم ندم، وقد ضيعوا أعمارهم في كفر وغرور.
وقد كان رجل من هؤلاء الكفار إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، ثم يقوم يأتي هذا الرجل ويجلس في مكان النبي صلى الله عليه وسلم، ويحكي عن الأسكندر، وعن كسرى وقيصر، وعن الروم والفرس ثم يقول: أينا أحسن حديثاً أنا أم هو؟ يظن أنه بهذه الخيبة أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم كانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق وإن كانوا لا يتبعونه حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم، واغتراراً بالدنيا، ويعرفون أن هذا الرجل كذاب يقول كلاماً فارغاً، ويحكي حكايات وقصصاً لا غير، فهم يعتقدون أن ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم حق، ولكنهم يجحدون، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
{إِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، إن الله عز وجل يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ويخبره أنهم لا يعتقدون أنه كذاب، وأن مرادهم من قولهم كذاب شيء فظيع وهو جحد آيات الله سبحانه، وجحد الشيء هو الإقرار به في النفس مع جحده باللسان فيقره في نفسه، وينكره بلسانه، مثاله: أن يأخذ إنسان من آخر متاعاً أو نحوه، ثم يقول ما أخذت منك فالجاحد مستيقن في نفسه أنه كذاب ويعلم أنه أخذ الشيء ثم هو ينكر بلسانه، كذلك {الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، فهم مستيقنون بها في أنفسهم ولكن الذي يظهر على ألسنتهم هو الإنكار.
فقد قال بعض الظلمة لبعض سنغلب محمداً صلى الله عليه وسلم ونوثقه أو سننفيه خارج البلد أو نقتله، يعد بعضهم بعضاً بأشياء هي غرور في حقيقتها فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].(309/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض)
قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41]، هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وما أعظم آيات الله سبحانه فعلى المؤمن أن ينظر في هذه الآيات وأن يتدبر {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، أما الصنم الذي يعبده هؤلاء فهل يمسك السماوات؟ أو يمسك الأرض؟ وهل يصنع شيئاً؟ إذاً: الصنم لا يتصرف في هذا الكون {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فهم يزعمون أن الأصنام آلهة وها هي تزول وتتكسر وتذهب ومع ذلك تظل الدنيا باقية على ما هي عليه، لم يتغير مجيء الشمس من مشرقها يوماً لأجل أنه كسر صنم، فكيف تعبدونها من دون الله وهي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها شيئاً؟ فالله سبحانه هو الذي يمسك السماوات وعرفنا كيف يدبر الله سبحانه أمر هذا الكون فالشمس تطلع كل يوم من مشرقها، وتغرب من مغربها، والقمر يأتي في موعده ومن مكانه، ينير في أيام ويستتر في أيام، ويمحق في أيام، والله يقضي ما يشاء خلال العام سبحانه وتعالى.
وحين نتأمل مجرات الكون من الذي يمسكها؟ ومن الذي يأتي بها ويذهبها؟ ومن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة التي ينبهر الإنسان حين يتفكر فيها؟ إنه الله سبحانه فقد ثبت كل شيء في مكانه وفي مداره، فهو يجري ويدور وهو في موضعه الذي قضاه الله سبحانه وتعالى له، لا يخرج عنه إلى مكان آخر، فلو تخيلنا أن الشمس خرجت عن مدارها، أو القمر خرج عن مداره ما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث لنا ونحن على هذه الأرض العجيبة التي جعلها الله عز وجل مهيئة بسكنى أهلها بهذه الأبعاد السماوية؟ فلو كانت الشمس قريبة من الأرض لاحترقت هذه الأرض جميعها، ولو أن القمر قرب أكثر مما هو عليه من الأرض لزاد المد والجزر ولغرقت هذه الدنيا.
فالإنسان يتخيل هذا النظام الدقيق فالقمر يدور حول الأرض في مدار ثابت، ثم يجعله الله ينزل في منازل حولها، ويجعل {الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، في مكان وبعد ثابت بينها وبين الأرض، لا يختل نظام دوران الأرض، ولا جري الشمس عن مكانه منذ خلقها الله سبحانه إلى أن يشاء الله عز وجل، وشروق الشمس من مغربها من العلامات الكبرى لقيام الساعة، والله يمسك هذا كله ولو كان غير الله سبحانه يفعل شيئاً ومات هذا الغير؛ لانتهى هذا الشيء وزال وزالت السماوات والأرض ولكن الله وحده هو الذي يمسك هذا كله وغيره لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً.
{وَلَئِنْ زَالَتَا} [فاطر:41]، يعني: السماوات والأرض هل أحد يستطيع أن يثبتها؟ وانظر إلى آيات الله سبحانه حين يذكر القيامة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:1 - 9]، وقال سبحانه: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4].
هذا النظام الكوني حين يبعثره الله سبحانه وتعالى، ويقضي عليه بالاضمحلال والزوال هل يقدر أحد أن يثبته على غير ما أراد الله؟ لا أحد يقدر على ذلك، {وَلَئِنْ زَالَتَا} [فاطر:41]، بأمر الله سبحانه وتعالى {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]، أي: تكشط كما يكشط الذي يكون فوق الإناء {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37]، أي: صارت حمراء كالدهان فتكشط وتزول هذه السماء العظيمة وتتناثر الكواكب والنجوم، ويسقطها الله إلى حيث يشاء سبحانه وتعالى.
ومعنى قوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]، أي: لف بعضها ببعض ثم تجعل في النار زيادة في عذاب أهلها وكل من عبد الشمس فأنه يتبعها إلى النار، وكذلك القمر يخسف به يوم القيامة، والنجوم تتكور وتنكدر ويذهب بعباد هذه الكواكب إلى النار والعياذ بالله.
{إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر:41]، يعني: لا يمسكهما أحد بعد الله سبحانه وتعالى {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، الحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة مع القدرة عليها، والله عز وجل متصف بصفة الحلم، وصفة الحلم قريبة من صفة الصبر والصبر هو الانتظار والإمهال وعدم التعجل تقول فلان حليم يعني: لا يستخفه شيء أي: لا يستفزه ويجعله يندفع ويتهور هذا في الناس، والله سبحانه وتعالى رب الناس وهو حليم صبور سبحانه وتعالى.
إذاً: فصفة الحلم والصبر لله تدلان على رحمة رب العالمين وعلى أنه يتأنى على العبد ولا يتعجل عليه بعقوبته، ولكن هناك فرق بين الحليم والصبور: فالحليم قد تأمر عقوبته أما الصبور فهو الذي لا تأمن عقوبته وهو سبحانه الذي قضى أن رحمتي سبقت غضبي، فرحمة الله عز وجل تغلب غضبه وتسبقه.
فهو يحلم عن عباده إذا وقعوا في المعاصي فلا يبادرهم بالعقوبة ولكن يصبر عليهم سبحانه وتعالى لعلهم يتوبون، ولذلك جاء في الحديث، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الملكان: ملك عن يمينك، وملك عن شمالك، الذي عن يمينك يكتب عليك حسناتك والذي عن شمالك يكتب عليك سيئاتك، فجعل الله عز وجل الذي عن يمينك حاكم على الذي عن يسارك، فإذا بدر من الإنسان معصية أمره الذي عن اليمين اصبر عليه لعله يتوب، فيرفع عنه قيل ست ساعات لعله يتوب فإذا لم يتب كتب عليه الذي فعله والله أعلم.
فالغرض أن الله سبحانه يحب من عبده أن يتوب، فإذا بادر بالتوبة ورجع إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، وقد يبدل سيئاته حسنات، ولكن العبد الذي يصر على معصية الله سبحانه، هو الذي يستحق عقوبة رب العالمين سبحانه، {غَفُورًا} [فاطر:42] أي: يمحو الذنوب ويسترها، ويعطي للعبد الأجر يوم القيامة إن تاب إليه، وإن شاء الله سبحانه وتعالى تاب عليه بغير توبة.(309/5)
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)
قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [فاطر:42]، أي: وأقسم هؤلاء الكفار قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الأيمان المغلظة، وجهد في يمينه إذا بالغ في القسم {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر:42]، فهؤلاء الكفار قبل مجيء النبي صلوات الله وسلامه عليه لما رأوا حال أهل الكتاب، وكيف كذبوا رسلهم وغيروا وبدلوا في دينهم، ورأوا منهم أشياء إذا بهم يقولون: لو كان فينا نحن العرب نبي من الأنبياء، فنحن أول من نؤمن به، ولن نتركه أبداً، ولن نكذب كما كذب هؤلاء، وأقسموا على ذلك وكان عندهم من أهل الكتاب بعض الأخبار فإن اليهود كانوا في المدينة بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، وكانوا مستذلين، لا يعيشون إلا تحت حماية الأوس أو تحميهم الخزرج، فكانوا إذا غلبوا وقهروا واستذلوا يقولون: قد أظلكم زمن فيه نبي والله لنؤمنن به ولنقاتلنكم معه، وانتشرت مقالتهم، وعرف الكفار أن في هذا الزمان سيخرج نبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالبعض من الكفار كان يحلم أن يكون هو هذا النبي، فبدأ بعضهم مثل أبو عامر الفاسق الذي كان يلقب في الجاهلية الراهب بدأ يتعبد فترة طويلة يريد أن تنزل عليه الرسالة، ويكون هو الرسول، فلما لم تنزل عليه إذا به يكفر أشد الكفر! إذاً ما كانت عبادة الله لتهب لأحد النبوة فالله أعلم بخلقه والعابد الحقيقي هو: الذي يرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى نزلت الرسالة عليه أو نزلت على غيره، لا فرق عنده، وطالما أن الله يرضى عنه إذاً يتابع، لكن الله عز وجل أعلم الخلق أن فلاناً هذا الذي يصلي ويصوم في باطنه الشر، وأنه شرير، وأنه لن يزداد بهذا الدين إلا خبثاً على خبث، ويأتي أمر الله عز وجل وتجد هذا الإنسان بمجرد أن يبتلى يخرج عن دينه، ويخرج عن طوره، ويترك هذا الدين، كما فعل هذا الرجل الفاسق الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عامر الفاسق بعدما كان يلقب بالراهب من كثرة عبادته في الجاهلية فقد انقلب إلى النقيض في الإسلام حين وجد الرسالة لم تنزل عليه.
وبعض أهل الجاهلية سمعوا أن رسولاً سيخرج اسمه محمد، فبدأ البعض يسمي ابنه محمداً لعله يكون هو الرسول والأمر ليس بالكسب وإنما هو هبة من الله سبحانه وتعالى، فالرسالة هبة من الله يهبها من يشاء من خلقه، فهؤلاء الكفار كانوا ينتظرون متى يأتي هذا النبي، فلما جاء النبي صلوات الله وسلامه عليه وقد كانوا يقولون: أنهم سيكونون أهدى من اليهود، ومن النصارى الذين لم يتابعوا رسلهم عليهم الصلاة والسلام.
قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر:42]، أي: لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا بعداً عن دين الله سبحانه وتعالى، وما زادتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعداً عن الله ونفوراً ونفر بمعنى: فر فكأنهم اشمأزوا من ذلك، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر:45].
قال تعالى: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]، أي: يطعنون في النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويؤذونه ويؤذون المؤمنين ويستكبرون على دين رب العالمين {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر:43]، أي: ويمكرون المكر السيئ إذاً: زادهم نفوراً واستكباراً ومكراً سيئاً فهم يمكرون السوء بعباد الله المؤمنين، والمضاف هنا محذوف، والأصل مكر العمل السيئ فحلت الصفة محل الموصوف فقام النعت مقام المضاف هنا، قال {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وقراءة الجمهور {وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، هذا في الوصل وفي الوقف {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر:43]، لكن حمزة إذا وصلها يسكنها ويقول (ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيَّئُ إلا بأهله) تخفيفاً وهذا التخفيف لأجل توالي الكسرات مع الياءات فكأنه خفف بالتسكين.
والمكر بمعنى: الخديعة والكيد والحيلة، فهم يمكرون فيعملون أعمالاً رديئة وخبيثة وحيلاً يحتالون بها على المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم، فمكروا المكر السيئ {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
وهذا وعد من الله سبحانه وإخبار منه أن المكر السيئ يحيق بأهله و {يَحِيقُ} [فاطر:43]، بمعنى: يحيط وحاق به بمعنى: أحاط به على وجه الإهلاك، فيكون المعنى: نزل به هذا المكر الذي مكره والجزاء من جنس العمل، فقد مكرتم مكراً سيئاً حتى تخدعوا المؤمنين فتوقعوهم فيما تريدون من حيل ومكر فالله عز وجل يجعلكم أنتم الذين تقعون في ذلك ويحيق بكم مكركم ونزل بكم ما مكرتموه بالمؤمنين، ولذلك يقول الله سبحانه: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، ويقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]، ويقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، فالإنسان الذي يخدع تحيق به خديعته، والإنسان الذي ينكث في عهده ويغدر يتسبب في إصابة نفسه وهلاكه، كذلك الإنسان الذي يبغي فيظلم عقوبته على نفسه في النهاية وهذا في كتاب الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء أن بعض الصالحين قال: لا تمكر ولا تعن ماكراً جاء عن الزهري ورفع للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح مرفوعاً، ولكنها كلمة حكيمة، لا تمكر ولا تعن ماكراً فإن الله عز وجل يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، فلا تخدع أحداً لأن خداعك سيعود عليك، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، ولا تبغ ولا تعن باغياً ولا تظلم ولا تعن إنساناً ظالماً فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]، ويقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23].
فمن ظلم رجعت عليه العقوبة بسبب ظلمه، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) (والمكر والخديعة في النار) فالذي يغش المؤمنين ليس من المؤمنين وليس على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على طريقة أهل الإسلام، بل هو مقتد بالكفار، (والمكر والخديعة في النار) فالذي يمكر ويدبر الحيل والمكايد من أجل أن يوقع الناس فيها خداعه يحيق به، ويستحق بسببه أن يكون في النار، فاحذر أن تمكر بالمؤمنين يقول الله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ} [فاطر:43]، بمعنى: عادة الله في الأولين، والعادة عنهم أنهم يكذبون، والعادة من الله عز وجل فيهم أنه ينتقم منهم ويهلكهم {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} [فاطر:43]، أي: هل ينتظرون إلا عقوبات الأولين {إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ} [فاطر:43].
والجمهور إذا وقفوا على كلمة {سُنَّةَ} [فاطر:43]، يقفون بالتاء وهي مذكورة في المصحف بالتاء المفتوحة، وإذا وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب.
يقفون بالهاء سنة في الثلاثة المواضع {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [فاطر:43]، أي: أفعاله بالسابقين أنهم يكيدون بالمؤمنين والله يكيد لهم فيهلكهم هذه عادة مطردة في كل زمان، لا تبديل لها ولا تحويل.
فمن يستطيع إذا أنزل الله عقوبة على أحد أن يبدلها إلى رحمة مثلاً لا أحد يقدر على ذلك، وكذلك إذا أنزل الله العقوبة على فلان فمن يستطيع أن يحولها إلى آخر لا أحد يقدر على تبديل ما فعله الله، ولا على تحويله من مكانه إلى مكان آخر.(309/6)
تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض)
قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44].
أي: هلا ساروا في الأرض فنظروا كيف فعلنا بالذين من قبلهم، وهم يعرفون ذلك تماماً فهم يمرون بحجر ثمود في ذهابهم إلى الشام ويقولون هنا حجر ثمود، هنا أهلك الله عز وجل ثمود قوم صالح، ويمرون ذاهبين إلى اليمن بديار عاد فيقولون: هنا كان عاد في هذا المكان ويقولون: هنا الفراعنة أهلكهم الله وأغرقهم هذه آثارهم، فهم يعرفون ما الذي صنع الله عز وجل بهم {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر:44].
وأجسام العباد تقل حتى تصير إلى ما نحن عليه، وكانوا قبل ذلك أعظم أجساداً، وأقوى أبداناً، أعطاهم الله سبحانه وتعالى من القوة ما شاء، وقال عن هؤلاء {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45]، أي: ما بلغتم عشر الذي أتيناه أولئك من قوة وصحة ومن عدد ومال في جيوشهم وفي أنفسهم.
قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]، أي: لا شيء يعجز الله، تقول أمسكت فلاناً، أو أردت أن أمسك فلاناً فأعجزني فلم أقدر عليه، لكن لا شيء يفلت من الله سبحانه، ولا شيء يهرب من عقوبته، ولا شيء يعجزه سبحانه، لا في السماوات ولا في الأرض، فهو العليم بكل شيء، وهو القدير على كل شيء سبحانه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61]، وهذه تكررت في القرآن كثيراً.(309/7)
تفسير قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا)
يقول الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:45]، أي: بما اجترحوا من سيئات فلو أن الإنسان إذا أخطأ خطأً صغيراً عاجله الله بالعقوبة وإذا أخطأ خطأ كبيراً عاجله الله بالعقوبة لهلك.
كل من فوق الأرض؛ لأن كل بني آدم خطاء، ولكن الله برحمته يصبر ويعفو ويحلم سبحانه وتعالى، قال: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، والدابة كل ما يدب فوق الأرض من إنسان أو حيوان أو حشرة، فكأن الإنسان إذا أذنب تأتي العقوبة فتهلك الجميع.
فالطوفان في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لم يغرق الكفرة فقط، بل أغرق كل من فوق الأرض من حيوان وغيره، فكأن العقوبة التي تأتي على الإنسان تعم من فوق الأرض فهو سبحانه يتكرم ولا يؤاخذ العباد بكل ما اكتسبوا وإلا لأهلك جميع من فوق الأرض، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61]، أي: يؤخر كل إنسان إلى أجله ووفاته {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:34]، أي: جاء أجل كل إنسان {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45]، أي: بصير بالذي يخفيه والذي يبديه وبالذي صنعه فوق هذه الأرض فيجازيه الله سبحانه وتعالى عليه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(309/8)
تفسير سورة يس [1 - 6]
سورة يس لها خصائص ومميزات السور المكية، وهي إحدى السور التي بدأها الله بالحروف المقطعة، ليبين عظم بلاغة هذا القرآن، ويتحدى به المشركين أن يأتوا بآية مثله، ولسورة يس فضائل وإن كانت الأحاديث التي تدل على فضلها ضعيفة، وهي تركز على أمور العقيدة، والإيمان بالبعث والجزاء والحساب والجنة والنار.(310/1)
خصائص ومميزات سورة يس(310/2)
اختلاف العلماء في الآية المدنية من يس
واختلف العلماء في الآية التي قالوا فيها إنها مدنية فقالوا: قول الله عز وجل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] هذه آية مدنية.
وجاء فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خلت البقاع حول مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأرادت بنو سلمة أن تقرب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تخلو جوانب المدينة) فهم في أطراف المدينة حماية لها، فإن كان الجميع يتركون أطراف المدينة ويأتون إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأعداء يدخلون بسهولة على المدينة؛ والمنافقين ينشرون أخباراً في أطراف المدينة لا تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بسهولة (فذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم)، وحث على لزوم الديار، فيقول: الزموا دياركم تكتب آثاركم، فنهاهم أن يقربوا من المسجد وأمرهم أن يبقوا في أماكنهم، وبين لهم أن أثر مجيء الإنسان من بيته إلى بيت الله عز وجل يكتب فيه بكل خطوة يخطوها المرء حسنة، فذكروا أن هذه الآية في ذلك.
والصواب: أن معناها في ذلك، ولكن لم تنزل في ذلك، وليس نزول هذه الآية في المدينة، وإن كان الحديث الذي رواه الترمذي يوهم ذلك، فالصواب أنها نزلت مع باقي السورة حين أنزلها الله عز وجل في مكة، ولكن معنى الآية يوافق الحادثة فقالها لهم النبي صلى الله عليه وسلم.(310/3)
فضل سورة يس
ذكر المفسرون أحاديث كثيرة وآثاراً في فضل هذه السورة، ولكن أكثر ما ذكروه كان ضعيفاً، فمنها قولهم: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا على موتاكم يس) هذا الحديث رواه الإمام أحمد ورواه أبو داود ورواه ابن ماجة وغيرهم من حديث معقل بن يسار بإسناد ضعيف.
ولكن الظاهر أن هذه السورة مفيدة فعلاً في قراءتها على الموتى، فقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن صفوان قال: حدثني مشيخة: أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالي وكونه يذكر مشيخة معناها: عدد من التابعين، وهم وإن كانوا مجهولين ولكن بكثرة العدد ترتفع هذه الجهالة، ويغتفر فيها جهالة آحادهم بمجموعهم، فهم مجموعة من مشيخة التابعين رووا هذا عن غضيف بن الحارث الثمالي، وهو صحابي، فحين اشتد سوقه قال لمن حوله: هل منكم أحد يقرأ يس؟ وكان صالح بن شريح السكوني يحفظها فقرأها، فلما بلغ أربعين آية منها قبض غضيف بن الحارث رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فقراءة هذه السورة على الإنسان الذي في سياق الموت يخفف عليه خروج الروح، فكان المشيخة من التابعين يقولون: إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها، ففيها أنه يستحب أن تقرأ هذه السورة على الإنسان الذي يموت في سياق الموت، ولم يرد أنه بعدما يموت يقرأ عليه ذلك، وإن كان الراجح فيمن قرأ قرآناً وأهدى ثوابه لميت أنه يصل الثواب إليه.
فسورة يس ذكر في فضلها أحاديث ضعيفة، وهي من أفضل ومن أعظم سور القرآن، لكن الغرض هو بيان أن الأحاديث التي في الفضائل لابد من صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نذكر هذه الأحاديث وننبه فقط على ضعفها.
فومن الأحاديث التي جاءت في فضلها وهي أحاديث موضوعة: (إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات).
فعلى ذلك هي أفضل من: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ونحن نعلم أن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها أن من قرأها فكأنه قرأ القرآن عشر مرات.
كذلك سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] قد جاء أنها تعدل ثلث القرآن، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن، فإذا كانت سورة يس تعدل القرآن عشر مرات فهذا لا يصح، وهذا موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم.(310/4)
ما اشتملت عليه سورة يس
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: بسم الله الرحمن الرحيم.
{يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:1 - 10].
سورة يس هي السورة السادسة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة مكية وقيل: الآية الخامسة والأربعون مدنية.
وآيات هذه السورة بحسب العد الكوفي ثلاث وثمانون آية، وبحسب عد غيرهم اثنان وثمانون آية، والاختلاف في عدد آياتها بسبب الخلاف في (يس) هل هي آية منفصلة أم هي جزء من الآية التي تليها؟ فمن عدها منفصلة يعد آيات السورة ثلاثاً وثمانين آية، ومن يعدها متصلة مع ما بعدها يعد آيات السورة اثنتين وثمانين آية.
وسورة يس فيها من خصائص السور المكية ما هو معروف في قراءتك لهذه السورة، فتجد خصائص السور المكية واضحة في الرد على المشركين، وفي التأكيد على توحيد الله سبحانه، وعلى أمور العقيدة، والإيمان بالبعث والجزاء والحساب والجنة والنار، كذلك إثبات صفات الأنبياء وما يعتبر فيهم، وإثبات قضاء الله سبحانه وقدره، وإثبات علم الله سبحانه وتعالى، والكلام عن الحشر، وشكر الله سبحانه وتعالى والحث على ذلك، ومعجزة هذا القرآن وكيف أن هذا القرآن الحكيم من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وإثبات الجزاء على فعل الخير، والجزاء على فعل الشر مع ذكر الأدلة الكونية من الآفاق ومن أنفس الناس؛ ولذلك سميت هذه السورة بقلب القرآن، وجاء فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أغراض هذه السورة: فيها التحدي بإعجاز هذا القرآن العظيم، والتحدي بدأ بـ {يس} [يس:1] وهما حرفان من حروف المعجم اللغوي، يتحدى الله بهما الكفار ويقول: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] وصف الله سبحانه القرآن بأنه حكيم، ومن أسماء الله الحسنى الحكيم، والقرآن كتاب {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] فهو كتاب حكيم محكم.
فهو القرآن الذي أنقذ الله عز وجل به العرب من الكفر بالله ومن الشرك من الضلال إلى الإيمان والدخول في دين النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وضرب الله عز وجل في هذه السورة المثل للفريقين: فريق أهل الإيمان وفريق أهل الكفر والطغيان لعلهم يتعظون ولعلهم يتذكرون.
ضرب المثل بالأعم وهم القرون السابقة: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:31 - 32].
كذلك تخلص من ذلك إلى الاستدلال على تقرير البعث وإثباته بالاستقلال مدمجاً في آياته سبحانه من خلال ذلك الامتنان بنعمه سبحانه تبارك وتعالى، ويخرج من إثبات شيء إلى شيء آخر من غير أن تشعر بالخروج ويسمونه بحسن التخلص فتخرج من شيء إلى شيء، وأنت في سياق واحد عظيم جميل، وذهنك لا يذهب عن هذا السياق بل يشدك إليه.
وقد بدأ الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بالقسم بهذا القرآن العظيم، وأنه من جنس الحروف التي تتكلمون بها، فهو قد أعجزكم أن تأتوا بمثله وانتهى بالتذكرة بقضاء الله وقدره، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:82 - 83].
هذه السورة ذكرنا أنها سورة مكية نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وفي ترتيب نزول القرآن تعتبر الحادية والأربعين على ما ذكره جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الجن وقبل سورة الفرقان.(310/5)
تفسير قوله تعالى: (يس والقرآن الحكيم)(310/6)
اختلاف المفسرين في معنى (يس)
جاء حديث ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أن له عند ربه عشرة أسماء من ضمنها طه ويس) وهذا لا يصح عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصح أنها من أسمائه صلى الله عليه وسلم.
وذكر البعض أن ((يس)) كلمة عند العرب معناها: يا رجل! مثل كلمة (طه) ولكن الراجح فيها: أن {يس} [يس:1] حرفان مقطعان من حروف اللغة العربية يتحدى الله عز وجل بهما الكفار، بأن يأتوا بكتاب مثل هذا الكتاب العزيز من جنس هذه الحروف التي يقرءونها ويختمون بها، وما استطاع أحد من فحول بلغاء العرب وفصحائهم أن يأتي بمثل ذلك، ولن يقدروا أبداً أن يأتوا بمثل ذلك.
ومن الناس من يحاول أن يأتي بكلام يشبه كلام الله فيأتي بكلام سخيف يضحك منه الناس، ومن هؤلاء الكذابين مسيلمة الكذاب الذي يزعم أنه نزل عليه وحي من السماء وقال كلاماً سخيفاً شهده عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان ممن سمعه، وقال له: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، ومن يتبعه كانوا يقولون: ولكن كذاب اليمامة خير عندنا من صادق قريش.
والغرض أن ربنا سبحانه وتعالى يتحداهم بهذه الحروف التي في أول السور، وغالباً إذا جاءت هذه الحروف يذكر الله عز وجل القرآن أو إشارة إلى القرآن بعدها إلا في مواضع يسيرة، وقد أشار إلى القرآن بعدها بآية، فإذا قال: {الم} [البقرة:1] قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
{الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3].
فأي سورة فيها هذه الحروف المقطعة يشير بعدها إلى هذا القرآن، بياناً منه سبحانه أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف، ولكن لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله، إلا أن يكون إنساناً مفترياً كذاباً من كفرة أمريكا وغيرهم، أو رجلاً يهودياً من يهود فلسطين يأخذ من آيات الله ما أراد، فيأخذ من هذه الآيات كلاماً، ويضع بدلاً عنه كلاماً من كلامه السخيف، ويؤلف كلاماً جديداً ويقول: هذه سورة الإنجيل، وهذه سورة التوراة، وهذه سورة كذا، لعنة الله عليه وعلى أمثاله.
وقد أنزلوها مترجمة يوزعونها على أتباعهم هناك أو على من يأخذ منهم ذلك، والمسلمون في غفلة عن ذلك؛ لكن من يطلع على هذا الكلام وينظر إلى ركاكته يعرف أن هذا القرآن العظيم محفوظ من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه كلام الله الحكيم، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1].
هذا هو القرآن الذي أعجز الخلق برصانته ومتانته وبلاغته وفصاحته وشريعته، ومن يسمع كتاب الله يسمع نغماً عظيماً جميلاً، أعجز الأطباء الذين يعالجون الأمراض النفسية في أمريكا بالموسيقى، ويسمونه الطب بالسماع، فلما جربوا سماع القرآن وعالجوا به هؤلاء المرضى، وجوده أعلى ما يكون من تأثير إيجابي في نفسية المريض.
فعلى المؤمن أن يتعلم ويعرف ما في القرآن وما في السنة حتى يرد على هؤلاء الكفرة المجرمين الذين {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
قال الله عز وجل: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2].
أقسم الله عز وجل بهذا القرآن الحكيم، وكما ذكرنا قبل ذلك أن الحكيم من أسماء الله عز وجل، ووصف بها كتابه سبحانه وتعالى، فهو كلامه سبحانه، وهو كلام حكيم رصين، فيه الحكمة وفيه الحكم، وهو كلام محكم، أحكمه الله سبحانه وأتقنه، وأتانا بأحسن القصص فيه وأعظم الكلام وأعظم الموعظة وأعظم الشرائع.
و (حكيم) صيغة مبالغة من حاكم، فهو كتاب حاكم مصدق لما بين يديه من الكتاب، ومهيمن شاهد على الكتب السابقة، فهو حكيم بمعنى حاكم، يعني: يحكم بين العباد.
إذاً: هذا الذكر مصدقٌ لما بين يديه من الكتاب، ومهيمن عليه، ليحكم الرسول بين الناس به، فهو كتاب حكم وحاكم يحكم بين الناس ويحكم به.
إذاً: القرآن الحكيم: القرآن ذو الحكمة، والقرآن المحكم، والقرآن الحاكم، والقرآن الذي لا خلل فيه ولا زلل ولا خطأ، وما من كتاب إلا ويوجد فيه أخطاء مهما راجعه صاحبه، ولذلك الإمام الشافعي رحمه الله لما ألف كتاباً وأرسله إلى ابن مهدي قال: هذا كتابي وأعلم أن فيه أخطاء فصوبها، فإني لا أدري أين هي؟ فإن الله عز وجل ذكر في كتابه فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أي: فكل كتاب من عند غير الله لابد وأن يكون فيه الاختلاف، ولا بد وأن يكون فيه الخطأ، إلا كتاب الرب سبحانه وتعالى، فهو الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ} [يس:2] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير إذا وصل، وحمزة إذا وقف: (والقران).
وأيضاً عند بعض القراء أنهم يقفون على الساكن قبل الهمزة بخلفهم منهم حفص ومنهم حمزة ومنهم إدريس ومنهم ابن ذكوان فيقرءون (والقرآن الحكيم).(310/7)
تنوع قراءة القراء في (يس والقرآن الحكيم)
بدأ لنا ربنا سبحانه هذه السورة بقوله: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2].
وذكرنا أن {يس} [يس:1] آية عند الكوفيين فيقفون عليها، ويجوز أن توصل بما بعدها، وعند غيرهم هي جزء من التي تليها فلا بد من وصلها بما بعدها.
وإدغام نون {يس} [يس:1] بالواو التي في قوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] هي قراءة هشام عن ابن عامر والكسائي ويعقوب.
وقرأ قنبل عن ابن كثير، وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر بإظهارها.
وبعض القراء يجوز عندهم الإدغام ويجوز عندهم الإظهار منهم نافع والبزي عن ابن كثير، ومنهم حفص عن عاصم، وكذلك ابن ذكوان عن ابن عامر، والأشهر في قراءة حفص: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2] بالإظهار.
وكذلك الياء في قوله: {يس} [يس:1]، أكثر القراء يميلونها، والبعض منهم لا يميلونها، فالذين يقرءونها بالإمالة: شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف وروح عن يعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالفتح بغير إمالة.
ويقرؤها أبو جعفر بالسكت عليها؛ حتى يبين أن الياء حرف والسين حرف.
والراجح: أن {يس} [يس:1] حرفان كغيرها من حروف الكتاب العزيز: {الم}، ((الر))، {كهيعص} [مريم:1]، فهي حروف مقطعة في أوائل السور، كذلك {يس} [يس:1] حرفان، ويدل على ذلك قراءة أبي جعفر بالسكت على الياء.(310/8)
تفسير قوله تعالى: (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم)
قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3]، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم له سبحانه بكتابه الحكيم إنه لمن المرسلين.
وإذا قال له ربه سبحانه: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3] كفى، ولكن يقسم له سبحانه لإزالة أي شك وريب في قلوب الناس، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا شك في قلبه فإن جبريل يأتيه بهذا القرآن العظيم فلا يحتاج إلى التوكيد، وإنما يحتاج إلى التوكيد أتباع النبي صلى الله عليه وسلم والناس.
فقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3] أي: رسول ونبي صلوات الله وسلامه عليه، نبي نبئ بالغيب عليه الصلاة والسلام، ورسول نزلت عليه شريعة من عند الله رب العالمين، وكل رسول نبي، ولكن ليس كل نبي رسولاً، فالنبي أعم والرسول أخص.
الرسول صاحب شريعة يأتي بكتاب من عند الله يحكم الناس به، والنبي يحكم بشرع من كان قبله، فهو متابع منبأ بغيب من عند الله، ولكن لم يختص برسالة، ورسل الله عليهم الصلاة والسلام أقل عدداً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4] أي: يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر: ((إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ))، ويخبر بخبر ثان: إنك ((عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، والصراط: الطريق الذي يوصل بين شيئين والمعنى: إنك على طريق مستقيم من عند الله سبحانه.
والمعنى الآخر لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4] أي: من المرسلين الذين أرسلوا على صراط مستقيم، فكأن المعنى هنا: إنك يا محمد! على طريق الرسل الذين كانوا من قبلك، فهؤلاء على طريق الله وأنت على طريقهم، والكل يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
((عَلَى صِرَاطٍ)) تقرأ بالصاد وتقرأ بالسين وتقرأ بالزاي.
أفيقرؤها قنبل عن ابن كثير وكذلك رويس عن يعقوب: (عَلَى سِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بالسين.
ويقرؤها خلف عن حمزة: (على زراطٍ).
ويقرأ باقي القراء بالصاد المكسورة: ((عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).(310/9)
تفسير قوله تعالى (تنزيل العزيز الرحيم)
قوله تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5] يذكر الله سبحانه وتعالى أن هذا القرآن العظيم منزل من عنده سبحانه، وفي قوله تعالى: {تَنزِيلَ} [يس:5] قراءتان: فقراءة ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((تَنزِيلَ)) بالنصب فيها.
وباقي القراء يقرءونها: (تنزيلُ العزيز الرحيم) بالرفع.
قوله تعالى: ((تَنزِيلَ)) أي: نزله تنزيلاً، فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، أي: هذا القرآن نزله الله عز وجل تنزيلاً، وقراءة باقي القراء: (تنزيلُ العزيز الرحيم)؛لأنه خبر لما قبله، والتقدير: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4] هذا القرآن تنزيل العزيز الرحيم.
وقوله تعالى: {تَنزِيلَ} [يس:5] مصدر نزل تنزيلاً، فالقرآن منزل جاء من علو، أي: من عند الله سبحانه وتعالى.
وما أكثر الآيات التي تدل على علو الله سبحانه بذاته، فهو مستو فوق عرشه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهو عالٍ على خلقه بقهره وقدرته وجبروته سبحانه، وهو القاهر فوق عباده سبحانه وتعالى، كذلك شأنه عظيم، فله علو الشأن سبحانه، قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
ومن الآيات التي تفيد أن القرآن نزل من عند رب العالمين: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195].
قوله تعالى: ((الْعَزِيزِ))، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فالعزة صفة من صفاته، والعزيز اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.
والله عزيز، أي: لا يمانع ولا يغالب سبحانه، إذا قضى أمراً فلا يرد قضاءه أحد، فهو العزيز القوي الذي لا يغالب، القاهر الذي لا يمانع، الذي إذا قضى شيئاً فلابد أن يكون على ما أراد أن يكون.
قوله تعالى: (الرَّحِيمِ): اسم من أسمائه، والرحمة صفة من صفاته سبحانه وتعالى.
فالرحيم: ذو الرحمة العظيمة البالغة، وقد ذكر سبحانه أن رحمته سبقت غضبه والرحمن والرحيم صيغتها مبالغة، والرحمن: ذو الرحمة العظيمة التي تعم الخلق جميعهم، والرحيم: ذو الرحمة العظيمة التي خص الله بها المؤمنين في الآخرة، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فالرحيم: يرحم خلقه سبحانه فيهديهم ويدلهم على الصواب، وينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو بعباده رحمان رحيم، فإذا كان في الآخرة كان بالمؤمنين رحيماً.
والرحيم قد يوصف به خلق الله سبحانه، أما الرحمن فلا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى.(310/10)
تفسير قوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون)
لما نزل الله القرآن قال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6].
أي: لتنذر من هؤلاء العرب قوماً من الأقوام الذين أنت فيهم، وتنذر غيرهم، ولكن ابدأ بهؤلاء.
قال تعالى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص:46]، إذاً: لم يأت العرب من أنفسهم نذير، ولم يأتهم رسول من عند الله سبحانه، وإنما كان الأنبياء من ذرية أخرى ليسوا من هؤلاء العرب، فهذا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليس من العرب، إنما مولده في العراق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أبناء إبراهيم إسحاق وإسماعيل، وقد أخذ إبراهيم وإسماعيل وهو صغير وذهب به إلى مكة ووضعه هناك مع أمه هاجر، وتركه هنالك، وجاءت رفقة من جرهم كانوا عرباً، فتعلم منهم إسماعيل العربية وكان من أفضلهم فيها، فنافسهم فيها وغلبهم فكان إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام أبا هؤلاء العرب الذين جاءوا بعد ذلك، وكان أباً للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو ابن الذبيح إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ومن عهد إسماعيل إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، لم يكن هناك نبي من العرب، بل كل الأنبياء من ذرية إسحاق؛ لكن النبي الوحيد الذي جاء من العرب هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو من ذرية إسماعيل، فلذلك قال الله سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6] أي: ما جاءهم نبي منهم، وإن كانوا قد سمعوا عن الأنبياء الذين جاءوا إلى أممهم بالتواتر، فهم يسمعون عن قوم ثمود، ويسمعون عن قوم عاد، وعن سيدنا نوح وكيف أغرق الله الأرض في عهده لكن لم يكن لهم رسول من أنفسهم، ولذلك امتن الله عليهم وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
قوله تعالى: ((لِتُنذِرَ)) أي: تخوفهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، وتهددهم بما عند الله من عذاب ومن نقمة على من يشرك بالله ومن يكذب رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
قوله تعالى: ((مَا أُنذِرَ)) تحتمل أن تكون (ما) نافية، يعني: ما جاء نذير لآبائهم، أو موصولة فيكون المعنى: الذي أنذر به آباؤهم من قبل، يعني: من القرون الخالية السابقة، من جاءهم من الأنبياء، فقوم عاد جاءهم هود، وقوم ثمود جاءهم صالح، فتنذرهم أنت كما أنذر السابقون قبل ذلك.
وقوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6] أي: غافلون عن عذاب الله سبحانه، لا يستجيبون للأنبياء ولا يهتمون بعذاب ربهم سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليبشر المؤمنين، وينذر الكافرين.
قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].
أي: لقد حق القول من الله سبحانه وتعالى، وتحقق ما قضاه وقدره سبحانه أنه فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فحقت كلمة ربك سبحانه على الذين ظلموا أنهم أصحاب النار، وحق قول رب العالمين: {عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].
ومن كتب الله عز وجل له السعادة آمن ودخل في هذا الدين العظيم، ومن كتب عليه الشقاوة لم ينتفع بشيء.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من السعداء، وألا يجعلنا من الأشقياء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(310/11)
تفسير سورة يس [7 - 11]
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان العبد إلا به، وسورة يس إحدى السور التي تبين أن الله قدر كل شيء، والله غيب، وقضاؤه وقدره غيب لا يطلع أحد عليه إلا من شاء الله من خلقه، وللإنسان مشيئة واختيار، ومشيئة الله محيطة به، فعلم الله محيط وسابق لمشيئة الإنسان وأفعاله واختياره.(311/1)
أول رسول إلى العرب من عهد إسماعيل هو محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:6 - 12].
سورة يس من السور المكية التي تتميز بالخصائص المكية، فهي تركز على أمر العقيدة، وتوحيد الله سبحانه، وضرب الأمثلة للناس، وذكر الأمم السابقة كيف كذبوا، وكيف أهلكهم الله سبحانه وتعالى، وعلى صفات الله سبحانه، وأسمائه الحسنى.
كذلك إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول إلى الخلق، وأن الذين من قبله كذبوا فليس بجديد أن يكذبه الناس، أو أن يعرضوا عنه صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4]، أي على نفس الطريق الذي كان عليه الرسل قبل ذلك، وهو صراط الله القويم.
وهذا القرآن نزل من عند رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:5 - 6]، والإنذار: التخويف بالتهديد من عقوبة الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6]، يعني: لم يكن لآبائهم السابقين رسول من قبلك، وهم الآباء الأقدمون من أيام إبراهيم وإسماعيل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فهم لم يأتهم رسول، لكن عندهم بقية من آثار دين إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ولكن هؤلاء غافلون عن ما نزل من عند رب العالمين سبحانه، وإن كانوا عرفوا أن المسيح أرسل وكذبه قومه، وأن موسى أرسل وكذبه قومه، ولكن كان كل نبي يرسل إلى قومه خاصة، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه من خصائصه: أنه فضل على الأنبياء؛ لأنه أرسل إلى الخلق عامة صلوات الله وسلامه عليه.(311/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم)
قال الله سبحانه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس:7]، يعني: على أكثر هؤلاء الكفار حقت كلمة العذاب؛ لأنهم لا يؤمنون، ولا يدخلون في دين الله عز وجل فيستحقون العقوبة.
والله سبحانه خلق العباد منهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، العباد مخلوقون وقد علم الله عز وجل أن فريقاً منهم إلى الجنة، وفريقاً منهم إلى السعير.
والله كتب عنده مقادير كل شيء، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وأعطى العباد في هذه الدنيا عقولاً يفكرون بها، فعقل الإنسان يميز بين الجيد والرديء، وبين الطيب والخبيث، وبين الكفر والإيمان.
والإنسان يكتسب الشيء، ويكتسب الحسنة والسيئة، ولكن في النهاية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]، فالله عز وجل يقدر ما يشاء، وبعلمه وبحكمته سبحانه وبقدرته يكون كل شيء على ما يريده سبحانه وتعالى.
فأخبر سبحانه أن هؤلاء سيكون الأغلبية منهم كفاراً يستحقون عقوبته وهذا قضاء الله وقدره سبحانه، ولا حجة لهذا الإنسان إن دخل النار؛ لأنه حينما يكتسب المعصية يستشعر في نفسه أنه قادر على الفعل، وقادر على الترك، فهو يملك القدرة والاختيار، لكنه لا يشاء شيئاً إلا وقد شاءه الله سبحانه وتعالى.
ولذلك القضاء والقدر سر الله في خلقه، وقد أمرنا أن نؤمن به، ولم يطلب منا مناقشته وفهم كل شيء فيه؛ لأنها من أمور الإيمان، ومن أمور الغيب التي رتبها الله سبحانه وتعالى.
فلابد أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يحدث شيء في خلقه إلا بعلمه وحكمه وحكمته سبحانه وتعالى.
إذاً: أمر القضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فالإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره).
إذاً: القدر غيب، ولا يطلع الله سبحانه وتعالى أحداً على قدره، إلا أن يكون ملكاً من الملائكة اختصه الله عز وجل بشيء، أو يكون نبياً أو رسولاً، كما أعلم الخضر عن أشياء كما في سورة الكهف، لكن أن يعلم الإنسان علم القدر، ويحيط بما أراد الله سبحانه وتعالى فليس للإنسان ذلك.
وقال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29].
إذاً: لك مشيئة، ولن تغلب مشيئتك مشيئة الله سبحانه وتعالى، فمشيئة الله محيطة بكل شيء سبحانه، وهو الذي شاء أن يكون لك مشيئة، وأن يكون لك إرادة، وجعل لك اختياراً، وبين لك أن هذا خير وهذا شر، فابتعد عن الشر، وخذ الخير.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعلمك ذلك، وعلم الله علماً سابقاً أنك ستترك هذا وتأخذ هذا، وكتب عنده أنك تكون من أهل النار أو من أهل الجنة، ولكن لم يطلعك على هذا الشيء، إنما أمرك أن تعمل وتختار ما شئت، وسيحاسبك سبحانه على اختيارك؛ ولذلك يوم القيامة يقول الله سبحانه لأهل النار: ادخلوا النار جزاء بما كنتم تعملون، ولا يقول: أنا قدرت ذلك، أو علمت أنكم ستكونون من أصحاب النار فادخلوها.
ولذلك عندما يتحاج الضعفاء مع المستكبرين وهم بين يدي رب العالمين، يقول الضعفاء: {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، ولا يقولون: يا رب أنت كتبت علينا الضلال.
فيقول الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، وما الذي جعلكم تتبعونهم؟ ألم يكن عندكم عقول تفكرون بها؟ ألم يكن بين يديكم كتاب رب العالمين؟ وكان عندكم رسل رب العالمين يدعونكم إلى الله؟ إذاً: أمر القضاء والقدر سر من أسرار الله سبحانه، أمرنا أن نؤمن به، وأمرنا أن نؤمن أنه خالق كل شيء، خلق العباد وأفعالهم، وأنه له مشيئة عامة يحيط بكل شيء، وجعل لعباده مشيئة يختارون بها، وعلم الله عز وجل من عباده من يستحق النار وهو مخلوق لها، ومن يستحق الجنة فهو من أهلها، وأمرنا بالإيمان بذلك.
إذاً: الله عز وجل كتب عنده أن هؤلاء في النار، فلن يهتدوا أبداً، وما كتبه الله لن يبدل، يدخلون النار بأعمالهم، وباكتسابهم، وقد علم الله وشاء ذلك سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]، أي: مكتوبون عند الله من أهل الشقاوة وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
إذاً: الكتاب الذي عند الله سبحانه لم يطلعنا الله عليه، بل جعل ذلك غيباً عنده، وقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لم يناقشهم النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء والقدر؛ لأنه ليس محل مناقشة، إنما القضاء والقدر محل إيمان قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، فالله غيب، والجنة غيب، والنار غيب، والساعة غيب، والقضاء والقدر غيب.
فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤمن بذلك، فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فليس المطلوب منكم المناقشة في أمر القضاء والقدر، إنما المطلوب أن تؤمنوا به، فالإنسان يقول: قدر الله وما شاء فعل، ثم يعمل، ويجد نفسه مختاراً للشيء الذي يريده، ولا أحد يجبره على أن يمد يده على شيء فيأخذه أو يجبره أن يتركه؛ لأنه في كامل قدرته يستشعر أنه قادر على هذا الشيء.
وهنا يكون التكليف، وهنا يسألك الله عز وجل لماذا أخذت؟ ولماذا تركت؟ لأنك قادر على العمل.(311/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً)(311/4)
سبب نزول قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً)
قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] جاء في سبب نزول هذه الآية أن أبا جهل بن هشام ورجلين من بني مخزوم تواصوا فيما بينهم أنهم إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويسجد عند الكعبة أن يأخذ أحدهم حجراً ويرضخ به رأسه صلى الله عليه وسلم.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي إذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يأخذ حجراً ويجري إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبر بقسمه، فلما وصل فزع ورجع خاشعاً ذليلاً لعنة الله عليه وعلى أمثاله، إذ غلت يده إلى عنقه بالحجر الذي معه ورجع فزعاً إلى قومه.
فقال الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم ير أصحابه، فلما نادوه رآهم وقال: والله ما رأيته، ولقد سمعت صوته.
فإذا بالثالث يقول: والله لأشدخن رأسه، فلما انطلق وأخذ الحجر فإذا به يرجع القهقرى، ونكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشياً عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا بفحل يخطر بذنبه، ما رأيت فحلاً قط أعظم منه حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني.
فنزلت هذه الآية تبين شيئاً مما يصنعه الله عز وجل بهم في الدنيا، وما يصنعه بهم في الآخرة أشد وأعظم من ذلك، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]، أي: أرادوا رمي النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر فقيدت أيديهم إلى رقابهم ولم يقدروا على ذلك.
وهذه من معجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكم أراد الكفار أن يستهينوا ويستهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى يثبته ويزعزعهم فيخافون، فهذا أبو جهل لعنة الله عليه يأخذ شيئاً من رجل ولا يعطيه الثمن، فأراد الكفار أن يستهينوا ويستهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل منهم: اذهب إلى محمد فإنه سيأتي لك بحقك من أبي جهل.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة هو ومن معه من المؤمنين كانوا في حالة ضعف، فكيف سيأتي لهذا الرجل بحقه من فرعون هذه الأمة؟ ومع هذا يذهب الرجل إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويطرق عليه بابه ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ له حقه من أبي جهل.
ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع المظلوم لينصره صلوات الله وسلامه عليه، حتى ولو كان مستضعفاً في مكة والكفار ينظرون، فخرجوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم يتغامزون، ويضحكون، ووصل النبي صلى الله عليه وسلم بالرجل إلى بيت أبي جهل وطرق بابه، فخرج أبو جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعط الرجل حقه، فإذا به يرعب من النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: نعم يا أبا القاسم، ويرجع خاشعاً ذليلاً، ويأتي بالمال ويدفع للرجل حقه.
أرادوا أن يسخروا من النبي صلى الله عليه وسلم فيرد الله كيدهم في نحورهم! فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا أبا الحكم ويحك! ما الذي صنعت؟ قال: والله لقد رأيت فحلاً من الإبل أمامي فاغراً فاه، ولو لم أقل له: نعم لأكلني.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فهؤلاء الكفار يرون تأييد الله سبحانه وتعالى لنبيه بالمعجزات، ومع ذلك لم يؤمن منهم إلا القليل، قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].(311/5)
معنى جعل الأغلال في أعناق الكفار
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8].
إن من جمال القرآن في تعبيراته وبلاغته، احتماله للمعاني الكثيرة التي تكون كلها صحيحة، فيكون الاختلاف اختلاف تنوع، فالله سبحانه يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا} [يس:8]، إما أن يكون يوم القيامة وهم يحاسبون، أو وهم في النار، أو وهم في الدنيا جعل في أعناقهم ذلك دليلاً على المنع والحجز عن شيء أرادوه، فكل هذه المعاني صحيحة.
والقيد: الرباط الذي يوثق به الإنسان، سواء كان من حديد أو من غيره، توضع في رجله سلسلة يقيد بها في الأرض.
والغل: السلسلة التي تجمع يدي الإنسان إلى عنقه، فتكون اليدان مربوطتين إلى العنق في سلسلة، والرأس مرفوع إلى فوق، والذل عليه فنظره أسفل، فهو مقمح ذليل لا يقدر أن يحرك رأسه، قال تعالى: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]؛ بسبب هذا الوضع الذي يكونون عليه يوم القيامة.
قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:26 - 72]، هذا حالهم يوم القيامة.
ولذلك إذا رأى الإنسان في منامه الغل فإن ذلك يعني شيئاً سيئاً، وإذا رأى القيد في منامه كان شيئاً حسناً، فالقيد ثبات على الدين.
فقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} [يس:8]، يعني: أيديهم مغلولة تحت أذقانهم، مربوطة بسلاسل في أعناقهم.
وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]، أي: أن الوضع ضيق عليه، فلا يقدر أن يوطئ رأسه فيستريح؛ لأن رأسه مرفوعاً، وعينيه ذليلتان تنظران إلى أسفل.
فالإقماح: رفع الرأس وغض البصر، ورفع الرأس هنا ليس من عزته؛ لأنه مجبر على ذلك.
والمعنى الآخر لقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]، أن هذا تمثيل، لما جعلهم الله عز وجل في الدنيا كمثل هؤلاء الذين رءوسهم مرفوعة، وأبصارهم خاشعة ذليلة، لا يقدرون على النظر، ولا يقدرون على شيء.(311/6)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
في الآخرة أعماهم الله عز وجل في النار، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، أي: سود الوجوه زرق العيون، كأقبح ما يكون الإنسان على هيئة، يحشرون في النار وقد غلت أيديهم إلى أعناقهم، وقد كلحت وجوههم، وتقلصت شفاههم إلى أعينهم وإلى صدورهم من نار الجحيم والعياذ بالله، وجعل الله عز وجل سداً أمامهم وسداً خلفهم، فهم عمي لا يرون شيئاً.
وكذلك صنع بهؤلاء الكفار في الدنيا، لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبصروه، وتكرر ذلك حين خرج مهاجراً إلى المدينة، ومر على الكفار وقد جمعوا له أربعين رجلاً، كل منهم شاب قوي من قبيلة يحمل سيفاً، فأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بضربة رجل واحد.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى، وأخذ تراباً من الأرض وألقاه على رءوس الجميع فأعماهم الله فلم يروا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر من أمامهم حتى خرج صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك في يوم حنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، وإذا بالمسلمين يفرون من الكفار، ولم يبق سوى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعون من آل بيته وأصحابه، وينزل النبي صلى الله عليه وسلم للكفار ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، يقول ذلك في موطن يفر منه الأبطال.
ففي الحديث: (ثم يأخذ من الأرض تراباً ويلقيه عليهم ويقول: شاهت الوجوه)، فأعمى الله عز وجل الكفار، ولم يرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدأ هؤلاء السبعون في أسر الكفار، فر تسعة آلاف وتسعمائة وثلاثون ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وممن فر ألفان من مسلمة الفتح، ولم يبق إلا سبعون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه هوازن وغطفان وعددهم عشرة آلاف، يواجههم بسبعين وتراب من الأرض يأخذه ويلقيه على وجوههم، وهو يقول: (شاهت الوجوه) فيعميهم الله سبحانه، ويأسرهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، ولا يرجع المسلمون حتى تكون الدائرة على هؤلاء الكفار.
فالله عز وجل جعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشاهم فلم يبصروا، فنصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه في مواطن كما سمعنا.
أما يوم القيامة فالله عز وجل يحشرهم عمياً في النار والعياذ بالله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126].
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:9]، في رواية لهذا الأثر: أن أبا جهل ومعه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كانوا يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه السورة ومعه تراب، وقرأ الآية: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، فأطرقوا جميعاً حتى مر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدروا له على شيء.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [يس:9]، هذه قراءة حفص عن عاصم.
وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)، والمعنى واحد يقال: هذا سَد، وهذا سُد، كأنه يسد المكان بين الاثنين.
وقوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، أي: ما يغشى الإنسان، وهو شيء يجعل غشاوة على بصره فلا يرى، والغشى قريب من ذلك، مأخوذ من العشاوة على العين، والغشاوة بالغين: لا يبصر أو لا يرى، والأعشى هو الذي لا يبصر في وقت دون وقت آخر.(311/7)
قوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)
وقوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [يس:10].
أي: على هؤلاء الكفار.
وقوله تعالى: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10].
أي: سواء أنك أنذرتهم أم لم تنذرهم قد علم الله عز وجل ما في قلوبهم، وعلم الله سبحانه وتعالى أنه خلقهم للعذاب، فاستحقوا عذاب رب العالمين سبحانه، فلم يؤمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، ومن هؤلاء أبو جهل، وأبو لهب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وهؤلاء الكفار علموا ذلك، ومن أعجب ما يكون علم الكافر وكيده للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لو فكر في شيء وعلمه لكانت النتيجة: (لا يُؤْمِنُونَ).
وقد قال الله سبحانه عن أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3]، إذاً: أبو لهب سيموت كافراً؛ لأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فهذا أبو لهب كم كاد للنبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله لم يقلها.
لذلك قال الله سبحانه: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، إذاً: رءوس الكفار هؤلاء لن يؤمنوا كما قال الله سبحانه وتعالى.(311/8)
تفسير قوله تعالى: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب)
قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11].
أي: أن الذي ينتفع بالموعظة هو ذلك الإنسان المتواضع للرب سبحانه وتعالى، والذي يقبل كلام رب العالمين، ويعمر قلبه بما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى: (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، الذكر: ما ذكرته به، وما نزل من عند الله سبحانه.
وقوله: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ)، أي: المؤمن يخاف من ربه، والتعبير القرآني تعبير قوي، فمن المعتاد أن يقال: ويخشى الله شديد العقاب سبحانه وتعالى.
لكن الله قال: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ)؛ لأنهم مؤمنون، فالله لا يقنطهم من رحمته، أي: أنتم تخافون من الرحمن فلكم عند الرحمن الرحمة العظيمة الواسعة.
وقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي: فبشر هؤلاء بالمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وبشرهم بالأجر الكريم وهو الجنة العالية الغالية، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.(311/9)
ما يستفاد من قول الله سبحانه: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) في قضية الإيمان بالقدر
إذاً: قوله سبحانه: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، من مقاصده: أن الله عز وجل قضى عنده أن هؤلاء: (لا يُؤْمِنُونَ)، ولا يتغير قضاء الله وقدره، فلابد أن نؤمن بقضاء الله وقدره، فهو علم أن هذا الإنسان يستحق العذاب فجعله من أهل عذابه، وأن هذا الإنسان يستحق الرحمة فجعله من أهل رحمته سبحانه.
وبعض الناس دخلوا في أمر القدر بعقولهم فإذا بهم ينكرون القدر، والبعض الآخر ألزموا أنفسهم به، فسمي هؤلاء الذين ينكرون القدر بالقدرية، وسمي هؤلاء بالجبرية، يقولون: نحن مجبرون، وإذا كنا مجبرين مسيرين فلماذا يعذبنا الله؟ وقال أحد شعرائهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء إن هؤلاء لم يفهموا قضاء الله وقدره على ما أراد الله أن يعلمه عباده.
قلنا: إن القضاء والقدر من أمور الغيب، فلابد أن تؤمن بالقضاء والقدر، وتؤمن بأن الله عز وجل له المشيئة النافذة في كل شيء، وتؤمن أن الله أعطاك مشيئة بها تختار، وأنزل الكتاب، وأرسل الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فتكليفك حين عرفت من القرآن، وعرفت من السنة، وكذلك أعطاك الله العقل الذي تفكر به، وأعطاك الإرادة لتختار وتكتسب.
فعليك أن تقول: إن الله سبحانه جعل لي اختياراً، ولا أشاء شيئاً لم يشأه الله سبحانه، وما أشاؤه قد علمه الله عز وجل قبل ذلك وشاءه، وكل ما يكون في كون الله قد أراده وشاءه سبحانه، ولا شيء في كونه يكون عنوة وقهراً عليه، حاشا له سبحانه وتعالى.
إذاً: شعورك هذا محل اختيارك، ومحل كسبك، ومحل تكليفك، وجزاؤك عند الله سبحانه، فلا تقول: إن الله سبحانه هو الذي قدر علي هذا الذنب؛ لأنك عندما تفعل الذنب تستشعر أنك تختاره وتفعل هذا الشيء، فيحاسبك الله على ما اخترته.
والقدرية ينفون القدر ويقولون: لا مشيئة لله، المشيئة مشيئتنا نحن، ونحن نخلق أفعالنا ونفعل هذه الأشياء، ومن هؤلاء رجل يقال له: غيلان القدري، سمع به عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأرسل إليه وأتى به، وقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر! وعمر بن عبد العزيز هو أحد العلماء، ويقول عنه ابن شهاب الزهري: ما استصغرت نفسي عند أحد من العلماء إلا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
فلما أتي عمر بهذا الإنسان وقال له: بلغني أنك تتكلم في القدر، يعني: تنفي القدر، فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين، ثم سكت قليلاً، لكن صاحب البدعة لا يريد إلا أن يظهر بدعته، فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3]، قال: أي: دللناه على الطريق، فالله دلنا فقط، لكن الإنسان يكون إما شاكراً وإما كفوراً، يقول ذلك إشارة منه أن الإنسان هو الذي يفعل الشيء، وأن الله لا دخل له بهذا الشيء.
فلما قال ذلك قال له عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: اقرأ يا غيلان فيها، فقرأ حتى انتهى إلى قول الله عز وجل، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29].
وفي هذا إثبات مشيئة للعبد، ثم قال: اقرأ يا غيلان فقرأ وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فلما قرأها قال: والله يا أمير المؤمنين ما شعرت أن هذا في كتاب الله قط.
فأهل البدع يطمس الله عز وجل على عقولهم، وعلى أبصارهم، فيرى صاحب البدعة الشيء الذي يسول له عقله وتفكيره وبدعته فقط، ولا يرى غيره، فهو أعمى عن حجة الغير، لا يرى إلا ما يقول، فهو لما وصل لآخر السورة، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، عرف أنه كاذب فيما يدعيه، فقال: ما علمت بذلك إلا الآن، كأنه ما قرأها قبل ذلك.
فقال له: يا غيلان، اقرأ أول سورة يس، فقرأ حتى بلغ قول الله عز وجل: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قبل اليوم.
ثم قال: اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب، يعني: تائب عن القول بعدم القدر.
فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته، وإن كان كاذباً فسلط عليه ما لا يرحمه، واجعله آية للمؤمنين.
وغيلان كذب على عمر بن عبد العزيز في قوله إني تائب، فإنه لم يتب، ولكن لما غلبه عمر في الحجة ولم يستطع أن يتكلم أخبر بأنه تائب.
وتمر الأيام ويكون الخليفة هشام بن عبد الملك، وغيلان ما زال على بدعته، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه، قال ابن عون: لقد رأيت غيلان مصلوباً على باب دمشق، فقلت: ما شأنك يا غيلان؟ قال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
فهذا الإنسان ابتدع ونفى قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني وهو حديث حسنه الشيخ الألباني وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم).
فالذين يكذبون بالقدر جعلهم مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يؤمنون بالنور والظلام، بأن النور خالق وفاعل، والظلام خالق وفاعل، فينسبون كل خير إلى النور، ويقولون: النور هو الذي خلق الخير، وينسبون كل شر إلى الظلمة، ويقولون الظلمة هي التي خلقت هذا الشر.
فكذلك القدرية ينسبون الأفعال إلى أنفسهم يقولون: نحن الذين نكسبها، ونحن الذين نعملها، والله ليس له دخل في شيء، ولا يعلم هذا الشيء، وليس له تقدير في ذلك.
والله عز وجل يقول لعباده: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
وكل شيء في هذا الكون خلقه الله عز وجل، خلق المؤمن وهو خير، وخلق الكافر وهو شر، ولكن كل خلق له فيه حكمة، فبحكمته أوجد المؤمن، وأوجد الكافر وأوجد الخير، وأوجد غيره.
فالله على كل شيء قدير، وهنا في هذه الآية يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11]، أي: اتبع هذا القرآن الحكيم، واتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، وهذا الذي ينفعه عمله أنه يخاف الله، والله غيب.
أما الذي يخاف الله حين يرى الله فهذا لا ينفعه إيمانه؛ لأنه انتهى دار التكليف وهي الدنيا، فالإنسان المؤمن الذي خشي الرحمن بالغيب، وعمل صالحاً، واتبع الذكر، بشره ربه سبحانه بالمغفرة والأجر الكريم.
نسأل الله عز وجل عز وجل مغفرته وأجره الكريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(311/10)
تفسير سورة يس [12 - 27]
يذكر الله عز وجل في سورة يس بعض مظاهر قدرته العظيمة من إحياء الموتى، وكتابة ما يعمله الإنسان من أعمال في الحياة الدنيا سواء كانت حسنة أم سيئة، ويذكر الله عز وجل قصة أصحاب القرية الذين أرسل إليهم رسلاً يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته، فكذبوهم وتوعدوهم بالعذاب إن لم يكفوا عن ذلك، فجاء رجل منهم ينصر رسل الله ويدعو قومه فغضب منه قومه فقتلوه فمات شهيداً.(312/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)(312/2)
الذي بدأ الخلق قادر على إحياء الموتى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:12 - 19].
يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات: أنه سبحانه بقدرته العظيمة يحيي الموتى، ويكتب ما قدم الإنسان وما أخر بعده، وما ترك من آثار، وكل شيء قد أحصاه الله سبحانه وتعالى في كتاب عنده، {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، كان الكفار يعترضون على النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاهم إلى عبادة الله الذي يحيي ويميت، فقالوا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82] فقال الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس:12] {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم:11] بدأ الخلق من عدم، أليس الذي بدأه من عدم قادراً على أن يعيده مرة ثانية بعد أن يفنى؟ {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].
((إِنَّا نَحْنُ)) عبر هنا سبحانه تبارك وتعالى بنون العظمة لبيان عظيم فعله، وأنه الله الخالق العظيم الذي يحيي الموتى بقدرته سبحانه، وبغير حاجة إلى أحد من عباده، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، يحيي الموتى ويبعثهم يوم القيامة للجزاء والحساب.(312/3)
كتابة الآثار الحسنة والسيئة
قال الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12].
ما يقدمه الإنسان هو ما يفعله الآن، وأثره هو ما يتركه بعد وفاته، فيظل موجوداً باقياً، كالوقف الذي يحبسه، كمبنى يبنيه ويجعله مسجداً لله سبحانه وتعالى، هذا أثر للإنسان بعد ما يموت، حيث يظل الناس يصلون في هذا المكان، فيكون هذا أثراً من آثار هذا الإنسان يكتبه الله سبحانه وتعالى، فآثار المرء تبقى وتذكر بعده بخير أو بشر، ولو سن للناس سنة شر لكانت بعده في الناس يذكرونه بها.
من آثار الخير الحسنة التي يتركها الإنسان بعد وفاته: العلم الذي يعلمه، أو النهر الذي يجريه، أو البئر يحفرها للناس، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو مسجداً بناه، أو مصحفاً ورثه، أو ترك أولاداً صالحين يدعون له، كل هذا مما يكون أثراً لهذا الإنسان ينتفع به بعد وفاته.
أما الإنسان الذي يسن للناس سنة شر، فيصنع للناس أشياء فيقلده الناس عليها، كإنسان ظلم نوعاً من الظلم وسنه للناس، فصار عليه الناس بعده يسنون هذا الظلم ويتبعونه ويقلدونه، كفرضه على الناس أشياء لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان، فيأخذ بها الناس، أو يضرب الناس على أشياء لم يؤمر بها لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يتركه الإنسان ويسنه ويقلده من يليه بعد ذلك، فيأخذ من الناس أموالاً بغير حق، فيقلده الناس في ذلك، فهذا من المظالم.
ولذلك يذكر العلماء من ذلك وظيفة وظفها بعض الظلمة على المسلمين، فقلده الناس في ذلك، ثم مات هذا الذي صنع هذه الوظيفة للناس، وجاء من بعده وعملها ومشى عليها، فكانت مظالم من سنها يأخذ أوزار الباقين من غير ما ينقص من أوزارهم شيء.
كذلك لو أن إنساناً أحدث للناس بدعة من البدع فاتبعه الناس عليها، كمن أحدث للناس أنواعاً من الكهانة والعرافة وعلم النجوم والسحر والأبراج وغيره، ومات هذا وجاء من بعده يصنع ذلك، فهذا أثر سيئ، ولا يزال عليه اسمه ما وجد العمل بين الناس كما قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، وهذا نوع من أنواع الآثار.(312/4)
كتابة آثار خطوات العباد إلى المساجد
كذلك من أثر الإنسان آثار مشيه، كما جاء عن جابر في صحيح مسلم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أن بني سلمة كانت بيوتهم بعيدة عن مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وخلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد؛ لأن ديارهم بعيدة، وكانوا يحضرون مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات، فأحبوا أن ينتقلوا قرب المسجد ليهون الأمر عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم)، يعني: الزموا دياركم، وتكتب آثاركم، والآثار هي الخطوات التي تمشونها إلى بيت الله عز وجل، فهي تعد لكم وتؤجرون عليها.
روى هذا الحديث الإمام أحمد بلفظ آخر من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هممنا أن ننتقل من دورنا لقرب المسجد، فزجرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا تعروا المدينة)، يعني: أطراف المدينة يكون سكانها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وتبقى أطراف المدينة للمنافقين، ويجيء الكفار من هذه الأماكن، قال: (لا تعروا المدينة)، لا تتركوا أطراف المدينة عارية بحيث يقدم علينا أي أحد ولا ندري ما الذي يحدث فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا تعروا المدينة، فإن لكم فضيلة على من عند المسجد بكل خطوة درجة).(312/5)
كتابة آثار المكث في المسجد
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة أحدكم في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعاً وعشرين درجة).
فمن يصلي في مسجده صلاة الجماعة تزيد على صلاته لوحده في بيته ومحله وسوقه بعضاً وعشرين درجة.
ويعلل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة بقوله: (إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع بها درجة أو حطت عنه بها خطيئة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه).
هذا فضل عظيم من الله عز وجل، كل خطوة تخطوها إلى بيت الله سبحانه يمحو بها عنك خطيئة ويرفع لك بها درجة، وقال: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه).
أيضاً: وأنت آت للمسجد أنت في رحمة من الله سبحانه، ولك حكم المصلي كما جاء في الحديث: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون؛ ولا يزال أحدكم في صلاة ما دام متوجهاً إلى الصلاة)، فحكمك وأنت خارج من بيتك إلى المسجد كأنك في صلاة، وأنت بداخل المسجد جالس تنتظر الصلاة في صلاة، وإن انتهت الصلاة وأنت جالس تذكر الله عز وجل أنت أيضاً في صلاة، والملائكة تحوطك وتدعو لك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)، تدعو له الملائكة أن يثني الله عز وجل عليه، أن يصلي الله عز وجل عليه، أن يرحمه الله سبحانه (ما لم يحدث فيه)، يعني: ما دام على وضوء في بيت الله عز وجل فحكمه أنه كالذي يصلي، والملائكة تدعو له، قال: (ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه).
أي: له هذه الفضيلة وهو في المسجد، ولكن ليست له هذه الفضيلة إذا كان على غير وضوء، أو على وضوء لكن كان شغله الشاغل أذية الناس ومضايقتهم، فهو يشاغل هذا، ويرفع صوته على هذا، ويناوش هذا، فهذا لا يستحق أن تدعو له الملائكة.
لذا فإن أدب النبي صلوات الله وسلامه عليه في المسجد: أن نتذكر أن المسجد ممتلئ بملائكة الله سبحانه، والملائكة تدعو للمصلين: اللهم صل عليهم، اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، فهي تدعو لكم ما دمتم جالسين لذكر الله سبحانه على وضوء لا تؤذون أحداً في بيت الله تبارك وتعالى.
الغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث أن كل خطوة لك أجر فيها، يمحو الله عز وجل عنك بها سيئة، ويرفع لك درجة.(312/6)
كتابة آثار الماشين في الظلم إلى المساجد
جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) أي: الخارجين من البيت لصلاتي الفجر والعشاء في الظلمة.
فمن خرج إلى بيت الله سبحانه يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالنور التام يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله سبحانه بقوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12]، فنور المؤمن يترتب على ما عاناه في الدنيا من بذل لله سبحانه، ومن صبر على الطاعة، فيؤجر الأجر العظيم عند الله سبحانه.
ذكر العلماء أن هذه الآية مع الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان فضيلة من بيته بعيد عن المسجد، ويأتي إلى بيت الله سبحانه حرصاً على الصلاة ألا تفوته تكبيرة الإحرام، وقد ذكرنا قبل ذلك فضيلة حضور الصلاة، وحضور تكبيرة الإحرام مع الإمام، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من صلى لله أربعين صلاة في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق).
المؤمن يحرص دائماً على شهود الجماعة، وأن يكون موجوداً عند تكبيرة الإحرام أو قبلها، ولا يضيع النوافل، ويبدي اهتماماً بالصلاة، فالله عز وجل يعطيه براءتين بشرط أن يكمل أربعين يوماً وهو مواظب على الصلوات الخمس لا يضيع تكبيرة الإحرام: براءة من النفاق؛ لأن المنافق يصلي يوماً ويترك آخر، لكن الذي يواظب أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة، واعتاد أن يحضر مع تكبيرة الإحرام ولا يضيعها، فالله عز وجل يعطيه براءة من النفاق.
وبراءة أخرى من النار: فلا يدخل النار بفضل الله ورحمته سبحانه وتعالى.(312/7)
صلاة الرجل في مسجد الحي
من كان بيته بعيداً عن المسجد لا يحزن ولكن يفرح؛ لأن خطواته مكتوبة، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12].
أما إذا كان بيته قريباً من المسجد فهل يبحث عن مسجد بعيد يذهب إليه حتى تكتب الآثار؟
الجواب
ليس الأمر كذلك، طالما أنك قريب من المسجد فالله عز وجل رحمك بذلك، والذي تفعله هو أن تحضر مبكراً إلى بيت الله سبحانه، وتعوض آثار غيرك بالمكث في بيت الله سبحانه وتعالى، فعندما تسمع الأذان تأتي إلى بيت الله، أو تأتي قبل الأذان بفترة، فهذا يعوض لك وتنال من صلاة الملائكة عليك: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه.
وهذا أجر عظيم.
لكن أن يترك الإنسان المسجد الذي بقربه خاصة إذا كان مسجداً على السنة، ويهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقيمون فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى أن يترك ذلك وأن يتوجه إلى مسجد بعيد مثلاً وقد لا يكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون فيه بدعة من البدع، بدعوى تكثير الخطى، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن مثل ذلك، فقد روى الطبراني عن ابن عمر وصححه الشيخ الألباني رحمه الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليصل الرجل في المسجد الذي يليه ولا يتتبع المساجد)، يعني: لا يقول: أنا أبحث عن أبعد مسجد وأصلي فيه، بل يصلي في المسجد الذي يليه.
وهذه لها حكمة في هذا الدين العظيم، فأهل الحي عندما يصلون في مسجد الحي سيعرف من الذي يواظب على الصلاة؟ أهل التقوى والخير والطاعة الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فإذا كان هؤلاء المهتدون كل واحد ذاهب إلى مسجد، وهم في حي واحد، فلن يتعرف بعضهم على بعض، ولن يستطيع أحد أن يطلب من الآخر شيئاً، ولكن المسجد يجمع الناس، ويؤلف بين قلوب المسلمين، ويعرف المسلم أخاه المسلم، يعرف جاره وقريبه، يعرف من هو مثله مواظب على الصلاة، وتجد محبة عجيبة جداً تجمع قلوب الناس، وخاصة الذين يجتمعون في الصلاة يمشي بعضهم مع بعض، يذكر بعضهم بعضاً، إذا مرض أحدهم عاده الآخر، فيدعو لأخيه، ويسلم عليه، وإذا مات الإنسان فيؤتى به للمسجد، فيقال: فلان الذي كان يصلي معنا صلاة الفجر كل يوم توفي اليوم، فحينها يعرفه الجميع ويصلون عليه، ويمشون في جنازته، ويقفون عند قبره يدعون له.
إذاً: الصلاة قربت ما بين الناس، هذه هي الصلاة التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، والتي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها للمصلين: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فهنا إما أن تسوي الصفوف، وإما أن يفارق الله عز وجل بين القلوب والوجوه.
فالصلاة يقف المؤمن فيها بجوار أخيه، لا أحد أفضل من أحد، بل من جاء مبكراً صلى في الصف الأول، ومن جاء متأخراً يصلي حيث وصل به الصف مهما كانت وظيفة هذا الإنسان، فأكرمهم عند الله عز وجل أتقاهم له سبحانه وتعالى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
لذلك أهل العلم أن الإنسان لا ينبغي له أن يتتبع المساجد بدعوى أنه تكتب له الآثار، فمن وجد مسجداً قريباً من بيته فإنه يصلي فيه، وإن قام على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليحرص على حضور الصلاة، وأن يحضر مبكراً.
والبعض من الناس بيته قريب لكنه يتعمد التأخر حتى يدخل الإمام في الصلاة، وهذا فوت على نفسه خيراً كثيراًَ بتفويته لتكبيرة الإحرام، مع أن ربنا رحمه وجعله قريباً من بيته سبحانه وتعالى حتى يحرص على الصلاة، لكنه يضيع على نفسه ذلك، ولعل البعض في الشارع يتكلم ويسمع الإمام يصلي وهو يكمل كلامه في الشارع، ويضيع على نفسه صلاة الجماعة، أو تكبيرة الإحرام، فاحرصوا على حضور تكبيرة الإحرام، ولا تضيعوا على نفسكم هذا الفضل العظيم من الله، ليكون لأحدكم براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق.(312/8)
إحصاء أعمال العباد في اللوح المحفوط
قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
الإمام المبين هو اللوح المحفوظ، وهو عند الله عز وجل، مكتوب فيه كل شيء.
كذلك صحائف الأعمال للعباد، كل عبد صحيفته يراها يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، ففي يوم القيامة يجد كل إنسان كتاباً كتبت فيه أعماله من حسنات وسيئات، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13].
يجد هذا الكتاب منشوراً أمامه، وتتطاير الصحف، فالناس منهم آخذ باليمين ومنهم آخذ بالشمال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء:13]، أي: عمله: {فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} [الإسراء:13]، يتلقى هذا الكتاب إما بيمينه وإما بيساره مفتوحاً أمامه.
ويقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، هذه صحيفتك، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، هذا كتاب رب العالمين الذي كتب لكل إنسان ما فعل، وعد عليه كل شيء فعله، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، يعد ويحصي عليهم كل شيء يقولونه ويفعلونه فهل مكتوب عند الله تبارك وتعالى، ((فِي إِمَامٍ))، صحيفة أعمال، أو اللوح المحفوظ، وهذا الإمام للإنسان يوم القيامة، أي: الكتاب الذي عند الله سبحانه وتعالى، فهو الكتاب المقتدى به، وهو حجة على العباد.
قالوا أيضاً: معناه: صحائف أعمال العباد.
إذاً: {إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، هو اللوح المحفوظ، الذي ينسخ منه ما في أيدي الملائكة، والكتب التي يجد فيها العباد ما عملوا في الدنيا.(312/9)
قصة أصحاب القرية
يذكر القرآن قصة لأناس سبقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، كانوا في عهد المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:13].
وهم رسل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كانوا يدعون أقواماً إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه القرية قالوا هي قرية أنطاكيا، وهي في شمال سوريا قريبة من البحر المتوسط وليست عليه، فهذه القرية أرسل الله سبحانه وتعالى إليها ثلاثة من رسل المسيح عليه الصلاة والسلام، أمرهم أن يذهبوا فيدعوا أهل هذه القرية.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} [يس:13]، يعني: هذا من الأمثلة التي يتعجب لمثلها، فاحذروا أن تكونوا مثل أهل هذه القرية، كأنه يقول: قص عليهم هذه القصة لتكون لهم كالمثل وكالعظة وكالعبرة حتى لا يقعوا في ذلك، ولا يستحقوا عذابنا بكفرهم.
((إِذْ أَرْسَلْنَا))، الأمر من الله سبحانه، والذي ينفذ هذا الأمر المسيح عليه الصلاة والسلام، فأمر هؤلاء أن يتوجهوا إلى هذه القرية، وقيل: إنهم ذهبوا بعد رفع المسيح عليه الصلاة والسلام وقيل: بل في وجوده، والله أعلم بذلك؛ ولكن القصة هنا لم تذكر وجود أو عدم وجوده.
فتوجه اثنان منهما إلى هذه القرية يدعوان ملكها إلى دين الله سبحانه تبارك وتعالى، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:14]، فكذبوا هذين الاثنين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم: ((فَعَززْنَا بِثَالِثٍ))، والتعزيز بمعنى الشد والتقوية، يعني: شددنا الاثنين بثالث، يقويهما ويتكلم معهما، ويدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، قالوا لملك هذه القرية {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، أرسلنا المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة الله سبحانه تبارك وتعالى يدعوكم إلى عبادة الرب سبحانه.
وعادة أهل الكفر التكذيب والإعراض، فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:15]، من غير أن ينظروا لآية في أيديهم، ولبينة معهم، الكبراء من القوم يصدون خوفاً على الكراسي، فعندما يجيء هؤلاء يدعونهم إلى دين الله فيسلم الضعفاء يشعر الكبراء أن الرئاسة ضاعت منهم؛ لأن هؤلاء الرسل سيحكمون فيهم، فلذلك أول من يصد عن سبيل الله هم الكبراء من القوم الذين يرفضون ويعرضون، ويقولون: أنتم مجانين، أنتم كاذبون.
وقالوا هنا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:15]، وكأنهم دعوهم إلى الرحمن سبحانه، فقالوا: {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:15].
قالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس:16]، يعني: نحن صادقون فيما نقول، والله يشهد علينا بأنا صادقون فيما نقول: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17]، كما قال الله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، لا تملك أن تحول هؤلاء من كفر إلى إيمان، إنما تملك أن تدعوهم، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم والله يقص عليه مثل هذه القصة حتى يطمئن.
كذب الذين من قبله وأوذوا أذى شديداً وصبروا كما سننظر في هذه القصة، قال هؤلاء القوم للرسل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:15 - 17]، ما علينا إلا أن نبلغ رسالة الله سبحانه بلاغاً بيناً واضحاً، ونريكم آيات الله سبحانه وتعالى.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا} [يس:18]، أي: نحن تشاءمنا منكم.
وقيل: إنهم عندما لم يستجيبوا منع عنهم المطر ثلاث سنوات أو فترة طويلة، فقالوا للرسل بدلاً من الاستجابة: أنتم شؤم علينا.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18]، إما أن تنتهوا عن هذا الذي تدعوننا إليه، وتذهبوا بشؤمكم، أو نرجمكم.
والرجم هو القذف بالحجارة حتى القتل، كأنهم يهددونهم بأن يقتلوهم رمياً بالحجارة، سنعذبكم، سنفعل بكم ونفعل من ألوان العذاب، وإما أن تنتهوا عما أنتم فيه.
فقالت الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19]، شؤمكم معكم، شؤمكم منكم، أنتم سبب الكوارث والمصائب التي تحدث لنا.
((طَائِرُكُمْ)): صحف أعمالكم التي تعملونها معكم، كفركم بالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يجلب عليكم العذاب، والشؤم الحقيقي يوم القيامة حين دخول النار، أما في الدنيا فمهما حدث فهذه أشياء ليست بالأشياء الكبيرة إنما كفركم هو سبب بلائكم.
{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس:19]، أئن ذكرناكم بالله سبحانه تبارك وتعالى أعرضتم وقلتم مثل ذلك: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19].
أي: أسرفتم على أنفسكم بالكفر، أسرفتم على أنفسكم حين لم تنظروا فيما دعوناكم وتركتمونا وديننا، وفي كفركم الإسراف وتجاوز الحد، ولا تريدون أن تنظروا إلى الآيات التي معنا.
وقد جعل الله عز وجل لهم آيات يعلم بها الناس أن هؤلاء رسل الله، ومعهم معجزات من الله سبحانه وبينات، فلم ينظروا فيما معهم، وقالوا: أنتم قوم كاذبون، ولم يؤمنوا، ولم يصدقوا، قال الرسل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19]، أي: مفسدون في الأرض، أسرفتم على أنفسكم بالكفر، ولم تنظروا في آيات الله سبحانه وتعالى.(312/10)
قصة حبيب النجار
قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].
والقصص القرآني قصص عجيب جداً، فيه التشويق، والاختصار، وبيان الفائدة، فالقرآن يشير بإشارات لطيفة إلى مجمل الأحداث: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، يا ترى من هذا الرجل؟ وما حكايته، {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21].
هذا الرجل كان يسمى حبيب النجار، هذا الرجل آمن وكان قبل ذلك كافراً، وجاء عن ابن عباس أنه كان ينحت الأصنام قل ذلك، وأنه كان مريضاً مرضاً شديداً، قيل بالجذام وقيل بغير ذلك، وكان يصنع الأصنام ويدعوها من دون الله سبحانه سنين طويلة فما نفع دعاؤه، فمر به الرسل وهم آتون إلى هذه القرية فدعوه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعجب من كلامهم، ومن هو الله؟ فدعوه إلى الله سبحانه الذي خلقه، ورزقه، والذي يحيي ويميت، والذي يشفي المرضى، فقال: لو أنا دخلت في دينكم هل سيشفيني الله؟ قالوا: ندعو لك، والله إن شاء يشفيك.
فإذا به يتابعهم فيدعون له، فلما دعوا له شفاه الله، فعرف أن الحق هو ما عليه الرسل، فلما عرف ذلك آمن، وكان أهل القرية أهل ظلم وعدوان، فلذلك لم يشتهر عنه أنه آمن بهؤلاء الرسل، وتوجه الرسل إلى غيره يدعونهم إلى الله سبحانه من ضعفاء الناس، فمنهم من استجاب، ولكن الأغلب لم يستجيبوا لهم، وتوجهوا إلى ملك هذه القرية يدعونه إلى الله سبحانه، فلم يستجب لهم، وقيل: استجاب، فالله أعلم بذلك، لكن الأغلب من الكبراء وأهل هذه القرية أنهم لم يؤمنوا، وأصروا على قتل هؤلاء الرسل عليهم السلام.
فلما أصروا على القتل، واستفاض الخبر في المدينة أنهم سيقتلون جاء هذا الرجل العابد مسرعاً لينقذ هؤلاء، أو يحاول أن يدافع عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
قص الله عز وجل علينا قصته فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، جاء يجري من أقصى المدينة خائفاً على الرسل الذين أرسلهم ربنا سبحانه، وكانوا السبب في أن يرد الله عز وجل عليه صحته وعافيته، فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، هؤلاء أهل خير وليسوا أهل شر كما تزعمون، وليسوا كاذبين وإنما هم رسل من عند رب العالمين سبحانه.
{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]؛ لأنه جرب قبل ذلك، فقد مر عليه الرسل فدعوا له ولم يطلبوا منه أجراً، فهو يعلم أن هؤلاء يدعون إلى الله ولا يطلبون من الناس شيئاً.
ويلاحظ أن هذا الرجل جاء مسرعاً وأطال الكلام معهم كأنه يكسب وقتاً للرسل لكي يفلتوا، أو لعل الناس يتركونهم، أو يأتي من ينقذ هؤلاء الرسل، لذلك جادل كثيراً مع هؤلاء القوم: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، حتى الآن ما قال لهم: أنا آمنت، ولكن قال: (يا قومي!) أي: أنا منكم، اتركوهم واسمعوا لهم، فهو يحاول أن ينقذ هؤلاء الرسل بأي شيء يقوله لهؤلاء القوم.
{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]، فأنا خبرتهم من قبل، وسمعت كلامهم، وهم على هدى، ولم يقل: أنا آمنت معهم حتى الآن.
وحين لم يجد فائدة منهم قال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]، يتكلم عن نفسه: لماذا أنا لا أدخل في دين هؤلاء؟ لم لا أعبد الذي فطرني وهم يدعونني إليه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]، سوف نرجع إلى الله سبحانه وتعالى مرة ثانية.
{وَمَا لِيَ} [يس:22]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها هشام بخلفه: ((وَمَا لِيْ)) وقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: {وَإِلَيْهِ تَرْجَعُونَ} [يس:22]، وكذا في كل كلمة ترجع بمعنى الرجوع إلى الله سبحانه يقرؤها يعقوب: (تَرجع)، ويقرؤها الجمهور: (تُرجع).
قال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس:23]، وهم يعلمون أنه كان يصنع لهم الأصنام قبل ذلك.
وقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ} [يس:22]، يعجب من نفسه: كيف يتبين لي الحق ثم لا أعبد الله الذي فطرني؟ أي الذي خلقني تبارك وتعالى، وإليه المصير يوم القيامة.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23].
هل أعبد آلهة من دون الله سبحانه، وماذا تنفع هذه الآلهة؟ لقد صنعنا أصناماً قبل ذلك ولم تفدنا، كنت مجذوماً سنيناً من الدهر ولم تنفع هذه الأصنام، وإنما الذي نفعني الله سبحانه، وحسن عبادته تبارك وتعالى.
((أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً))، والتقاء همزتين هنا فيها قراءات، فيقرؤها البعض منهم بتسهيل الهمزة الثانية، ويقرأها البعض بتحقيق الاثنتين: فيقرأ ورش وابن كثير ورويس: {أَأَتَّخِذُ} [يس:23]، وقرأ الأزرق عن ورش: (آتخذ من دونه آلهة) بإبدال الهمزة مداً، وقرأها قالون وأبو عمرو ورواية عن هشام: (آاتخذ) بالمد همزة ممدودة وبعدها تسهيل الهمز الثانية، لصعوبة نطق الهمزتين مع بعض، والبعض يفصل بينهما بألف أو يسهل الهمزة الثانية سواء فصل بألف أو لم يفصل، فكأن هنا قالون يقرأها: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس:23]، ويقرؤها هشام: (آأتخذ من دونه آلهة) وله فيها ثلاث قراءات.
(يردن) هذه بالكسر، ويقرؤها أبو جعفر وصلاً ووقفاً بالياء، فإذا وقف يقرؤها: (إن يردنيْ) فإذا وصل يقرؤها: (إن يردنيَ الرحمن) ويقرؤها يعقوب وقفاً بالياء: (إن يردني) فإذا وصل قرأها كغيره: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23].
أيضاً قوله: (وَلا يُنقِذُونِ) يقرؤها يعقوب بالياء سواء وصل أو وقف، وورش يقرؤها بالياء وصلاً، ويقرؤها وقفاً كغيره: ((وَلا يُنقِذُونِ)).
{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23].
هذه الأصنام لا تشفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغني شيئاً، ولا تنقذني من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى.
{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24]، لو أني عبدت هذه الأصنام من دون الله سبحانه: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24]، والضلال بمعنى: التيه والبعد، ضل الإنسان الطريق بمعنى: تاه، دخل في صحراء وما عرف يرجع.
قراءة الجمهور: {إِنِّي إِذًا} [يس:24]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو: (إنيَ إذاً لفي ضلال مبين).
وقوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25] هذه أيضاً سيقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: (إنيَ آمنت بربكم فاسمعون).
قوله: {إِنِّي آمَنْتُ} [يس:25]، هو كان مؤمناً قبل ذلك، وكأنه يريد وقتاً يجادل فيه القوم، ولو بدأ بقوله: أنا مؤمن فسوف يقتلونه معهم، ولكن بدا بأنه يحاور ويجادل لعلهم يتركون هؤلاء وينظرون في المعجزات التي أيدهم الله عز وجل بها، ولكن لم ينفع ذلك مع هؤلاء، فلما وصل لذلك: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:25 - 26]، وكأن هنا شيئاً محذوفاً في السياق، وكأنه أول ما قال إنه مؤمن قاموا إليه فقتلوه.
وجاء عن ابن مسعود أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت قصبة دبره أي: معائه خرجت منه.
وقيل: بل رموه في بئر وسدوا عليه البئر ودفنوه حياً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا به شهيد عند الله سبحانه، فأدخله الله عز وجل الجنة.
ثم قال معبراً عن ذلك، وكأن الدنيا لا تستحق أن تذكر بما فيها من قتل وعذاب مقابل الجنة العظيمة التي عمل لها هذا، وعمل لها الرسل، ويعمل لها المؤمنون، قال الله سبحانه: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، قال له ربه أو قالت له الملائكة: ادخل الجنة، فهو شهيد، قال الله سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء أرواحهم في أجواف طير خضر تروح في الجنة وتسرح كيف تشاء)، هنا أرواح هؤلاء تدخل الجنة، أما اجتماع الروح في البدن فإنه يوم القيامة حين يوفى الإنسان حسابه يوم القيامة.
قال الله سبحانه وتعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها هشام والكسائي ورويس أيضاً: (قُيل) لبيان أنه مبني للمجهول.
{قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
هنا انتهت قصة هذا الرجل الفاضل الذي جعله الله عز وجل قدوة، وكيف أنه بدأ حياته بعبادة غير الله سبحانه، وفي النهاية عبد الله(312/11)
تفسير سورة يس [13 - 36]
لما كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة مستضعفين أنزل الله تعالى عليه قصة أصحاب قرية أنطاكية وما جرى لرسلهم على أيديهم من تعذيب، ثم كانت العاقبة لرسل الله، ليثبت نبيه وليطمئن قلبه، وقد رد الله شبهة المنكرين للبعث، ولفت أنظارهم إلى ما يستدل به عليه من التأمل في الأرض القاحلة الجرداء حين ينزل الله عليها الغيث فتحيا وتنبت الجنات من النخيل والأعناب، فكذلك نحيا بعد موتنا.(313/1)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية البلاغ المبين)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:13 - 36].
هذه القصة في سورة يس يذكر الله سبحانه وتعالى فيها كيف كذب السابقون أنبياءهم ورسلهم عليهم الصلاة والسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أول من كذب من الرسل، ولا قومه أول من كذبوا من الأقوام، بل كُذب الرسل السابقون، وصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى جاء أمر الله سبحانه وتعالى.
وفي هذه القصة يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13]، أي: اضرب لهم مثالاً من أمثلة صنيعنا بالأمم المكذبة.
فهذه قرية من القرى، أرسلنا إليها رسلنا، قال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14]، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولين من حواري المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى قرية أنطاكية في شمال سوريا، يدعوان القوم إلى الله سبحانه.
قال سبحانه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14] أي: لما كُذب الرسولان كما قدمنا قبل ذلك.
والتعزيز بمعنى: الشد، أي: شد وقوى الاثنين بالثالث، وجرى الحوار بينهم: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:14 - 15]، وعادة الأمم التكذيب وعدم النظر في الآيات والمعجزات التي جاء بها الرسل؛ فكذبوا الثلاثة.
قالت الرسل: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17]، أي: فنحن رسل الله إليكم، ولا نملك لكم إلا أن ندعوكم إلى الله والهداية بيد الله.
فتشاءم القوم بالرسل كعادة أهل الكبر والغرور، فنسبوا إليهم كل مصيبة تنزل عليهم، فهؤلاء لما منع عنهم المطر قالوا: أنتم السبب.
قال الرسل: هذا الشؤم الذي تزعمونه معلق بكم، وشؤمكم الحقيقي أعمالكم الخبيثة، وبعدكم عن الله سبحانه وتعالى.(313/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم)
قال تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس:19].
أي: عندما نذكركم بالله سبحانه وتعالى تقولون هذا الشيء.
وقوله: ((أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ)) يقرؤها أبو جعفر (ءائن ذكرتم) بالمد فيها وتسهيل الهمزة الثانية، وكأن المعنى: لأننا ذكرناكم بالله سبحانه وتعالى فعلتم ذلك، وأعرضتم عن التذكير ولم تؤمنوا ولم تستجيبوا.
قالوا: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19].(313/3)
تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى وجعلني من المكرمين)
فلما قال لهم الرسل ذلك، أرادوا إيذاء الرسل، وبلغ الخبر لرجل ممن آمن بهؤلاء الرسل، يسمى ب حبيب النجار وكان نجاراً، وقيل: كان إسكافياً صانع أحذية، وكان يصنع الأصنام للناس، وعبدها سنين طويلة من دون الله سبحانه، ثم جاءه رسل المسيح عليه الصلاة والسلام فدعوه إلى الله سبحانه، وكان مجذوماً، فدعوا له الله سبحانه فشفي.
فما سمع خبر إيذاء المرسلين، جرى إليهم مسرعاً، وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] فهؤلاء الرسل لم يطلبوا منكم مالاً، ولا مناصب، إنما جاءوا ليدعوكم إلى الرب سبحانه.
قال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]، قد ذكرنا أنه أطال معهم في الكلام لعلهم يستجيبون، ولعلهم يخففون عن الرسل فلا يقتلونهم.
فقالوا له: وأنت كاذب، ثم قتلوه.
قال الله تبارك وتعالى عن هذا الإنسان المؤمن: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:22 - 24].
وبعد هذا الحوار الطويل الذي لم يسفر عن فائدة قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25] فكشف عن حقيقة أمره، وأنه مؤمن مع هؤلاء الرسل.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، كأنه مجرد أن كشف عن حقيقة أمره أنه مؤمن قتلوه حالاً.
وقد جاء ابن مسعود رضي الله عنه أنهم داسوه بالأقدام حتى قتلوه.
فلما قتل إذا بالله عز وجل يدخل روحه الجنة ويكون شهيداً عند الله سبحانه، فلما رأى الجنة والنعيم الذي عند الله سبحانه تحسر على قومه، وقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
أي: يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، وكيف صنع بي في هذا النعيم المقيم، وهذه الجنات العالية العظيمة.(313/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء)
قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس:28].
يعني: هؤلاء أحقر من أن ننزل عليهم جنداً من السماء لإهلاكهم وما كنا لنفعل ذلك بهم.
فما كان الأمر إلا أن قال: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، من جبريل عليه السلام فهلكوا.
قوله تعالى: {صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، منصوبة على أنها خبر كان عند أكثر القراء.
وقرأها أبو جعفر: (إن كانت إلا صيحةٌ واحدةٌ فإذا هم خامدون)، فجعل (كان) تامة، و (صيحة) فاعل، والمعنى: ووقعت صيحة واحدة على هؤلاء فإذا هم خامدون.
والإنسان عندما تكون فيه النفس يكون حياً، فإذا خرج روحه من جسده همد وخمد، وذهبت منه الحياة.
فإذا بصيحة من جبريل على هؤلاء أخمدتهم جميعهم.
انظر كيف أخمدهم الله سبحانه وتعالى بصيحة واحدة، ولم ينزل عليهم ملائكة، كما قال تعالى: {إِنْمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة مكية حتى يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم أن الله ينصر رسله، وينصر دينه سبحانه وتعالى.
هؤلاء لا قيمة لهم عند الله، فلم ينزل عليهم جنداً من السماء، وفي يوم بدر أنزل الله سبحانه وتعالى ملائكة من السماء على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وطمأن المؤمنين بأنه ينزل عليهم من السماء ثلاثة آلاف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وينزل ِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، فهل يستحق هؤلاء الكفرة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم الملائكة؟ ف
الجواب
لا، فليس إنزال الملائكة تقديراً لهؤلاء الكفرة، وإنما ذلك لعظيم منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلو قدره، فأراد الله بذلك أن يري المؤمنين والأمم من بعدهم كيف جعل الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة أن يقاتل معه المؤمنون من الإنس والملائكة، ويشاهد الناس الكرامات والبركات ومعجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك عندما يسمع المؤمنون من يقول: أقدم حيزوم، ويخبرون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيقول (هذا جبريل) فيخبر عن جبريل عليه السلام أنه أتى ليقاتل مع المؤمنين، وكذلك أتى جبريل عليه السلام في يوم الخندق، ففرق الله الأحزاب عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأرسل عليهم جنداً من عنده وريحاً، وأتاهم الرعب والخوف فرحلوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وجعلها الله آية للنبي صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11].
فلما ابتلي المؤمنون وزلزلوا جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، فنصر الله عز وجل نبيه، وأنزل الملائكة فإذا به يرى جبريل، قال: (أتاني جبريل وعلى ثناياه النقع)، والثنية: السن الأمامية، و (النقع) الغبار والتراب.
ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (وضعت لأمتك، والله ما وضعت الملائكة أسلحتهم)، ثم أمره أن يتوجه إلى بني قريظة، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، والملائكة معه.
والله قادر على أن يفني اليهود جميعهم ويهلكهم، ولكن هذه سنة الله في الكون كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ} [التغابن:2]، فأراد أن يبتلي أحد الفريقين بالآخر: فالمؤمن يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً، ويكون قوياً صلباً في دينه.
ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت في غيره ولم تقاتل، ولكن لتكثر عدد المسلمين.
وفي يوم بدر كانت هناك معجزات عجيبة، من ذلك أن يقول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه رفع سيفه على الكافر، فطارت رقبته ولم يضربه.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيدك الله بملك كريم).
ومن ذلك أن العباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه أسره رجل من المسلمين ضعيف وليس في قوة العباس رضي الله عنه، فيقول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا أسرني.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعانك عليه ملك كريم).
قال العباس رضي الله عنه: أنا لست مع الكفار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ظاهرك علينا) وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، ففدى نفسه رضي الله عنه، وفدى عقيلاً أيضاً ابن أخيه، والله تبارك وتعالى أخلف عليه بعد ذلك كما قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] الآية.
فهنا لما أخبر الله سبحانه أنه ما أنزل من بعده على قومه من جند من السماء، إنما أرسل جبريل عليه السلام فصاح في القوم صيحة، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، فتحسروا على أنفسهم: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، وجاء التحسر على وجه النداء كأنه قال: يا حسرة أقبلي، والحسرة الندامة والتلهف على الشيء الذي يفوت، ففاتهم الإيمان.
و (حسرة) نكرة ولذلك نصب المنادى مع كونه مفرداً، وهذا كقول من وقع في بئر: يا إنساناً أنقذني، وهو لا يعرف المنادى.
قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، أي: تعجبوا لأمر هؤلاء العباد الذين يستحقون أن يتحسروا على أنفسهم وينادوا على الحسرة وعلى الندامة حين لا تنفعهم، فيكون جعلهم محل من يتحسر عليه.
أو أن الله سبحانه جعل الويل عليهم، فتكون الحسرة تعني: يا ويل أقبل لهؤلاء، أو يا عذاب أقبل على هؤلاء القوم؛ فإنهم يستحقون ذلك.
وفي قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس:30]، قراءتان: قراءة الجمهور (ما يأتِيهِم).
وقراءة يعقوب، (ما يأتيهُم من رسول).
فأي رسول يبعث إلى قوم لا بد أن سفهاء القوم يسخرون منه ويستهزئون به.(313/5)
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون)
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس:31].
الجواب
بلى، قد رأوا هذا الشيء كله، فقد ذهب آباؤهم وأجدادهم، والقرون السابقة الذين ما زالوا يفتخرون بهم، وكل إنسان منهم يقول: كان أبي، وكان جدي ويحفظ نسبه إلى الجد العاشر.
فكل هؤلاء ذهبوا، ولم يرجع أحد.
وهذا دليل من القرآن العظيم على أنه لا أحد يموت فيرجع إلى الدنيا مرة ثانية إلا أن تكون معجزة لنبي من الأنبياء، فيحيي ميتاً ثم يموت مرة ثانية، كما كانت للمسيح عليه الصلاة والسلام.
وما يذكره البعض من الناس من رجوع روح فلان وما أشبه ذلك كله من الكذب والخرافات، فمن مات قد ذهب إما إلى روضة من رياض الجنة، وإما إلى حفرة من حفر النيران في قبره، فهو منشغل بذلك عن أمر الدنيا.(313/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن كل لما جميع لدينا محضرون)
قال تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32].
في قوله: (لما) قراءتان: قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة، (إن كل لمّا) بالتشديد.
وباقي القراء: (إن كل لَمَاَ) بالتخفيف.
و (إن كل لما) مثل: (ما كل إلا كذا) فهذا أسلوب قصر، ويكون المعنى: أن الجميع راجع إلى الله، ولا يفلت أحد من الله سبحانه تعالى.
قال تعالى: ({وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32]، أي: أن الله يجمعهم ويحضرون بدون اختيارهم يوم الحشر، أما على قراءة الجمهور فالمعنى: إن كل راجع ومجموع إلينا، و (إن) هنا مخففة من الثقيلة، فلما خففت رفع ما بعدها؛ لأنها صارت لا تعمل.
وجاءت اللام في (لَمَا) من أجل أن تفرق بين (إن) التي بمعنى (ما) وبين (إن) التي تأتي لتأكيد الجملة بعدها.
وسواء كان الأسلوب أسلوب قصر، أو أسلوب تأكيد، فالمقصود أن الجميع محضرون إلى ربهم سبحانه، ليجازيهم على أعمالهم.
كان الكفار يكذبون بالعبث والنشور، ويقولون: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، أي: سنرجع مرة أخرى! فيقول الله عز وجل: انظروا فيما أمامكم من الآيات.(313/7)
تفسير قوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة)
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33].
في قوله تعالى: (الأرض الميتة) قراءتان: قراءة الجمهور: (الأرض الميتة).
وقراءة المدنيين نافع وأبي جعفر: (وآية لهم الأرض الميّتة أحييناها)، بالتشديد.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أحياها، وكل إنسان له عينان يرى الأرض جرداء، ثم ينزل عليها المطر، فإذا بها كما قال الله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، فأنبتت ما يأكل الناس والأنعام.
قال تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} [يس:33]، أي: جنس الحب، أي: حبوباً كثيرة أخرجناها فأطعمناكم إياها.(313/8)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا لهم فيها جنات)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس:34]، أتيناكم بأقواتكم من الحبوب، وبفاكهتكم من النخيل والأعناب، فإذا عندكم ما تقتاتون عليه وما تتفكهون به.
قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِيهَا} [يس:34]، أي: في هذه الأرض التي كانت ميتة.
{جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس:34] فيها النخل الباسقة، وفيها الأعناب العظيمة الجميلة.
{وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} [يس:34]، فجر الله في هذه الأرض من العيون أما الإنسان فيحفر البئر لعله يجد الماء، فقد يجد وقد لا يجد.
وفي قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ}، قراءتان: قراءة الجمهور: (من العُيون) بضم العين.
وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي: (من العِيون)، بكسر العين.
وكذلك في الكلمات التي على هذا الوزن كجيوب وبيوت، فتقرأ جُيوب وبُيوت، وجِيوب بِيوت، بالفتح والكسر في القراءات التي ذكرنا.(313/9)
تفسير قوله تعالى: (ليأكلوا من ثمره)
قال سبحانه: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس:35].
أي: ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه من الأرض، أو من ثمر العيون.
وفي قوله تعالى: (من ثمره) قراءتان: قراءة الجمهور: (من ثَمرَه) , بفتح الثاء.
وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ليأكلوا من ثُمره)، بضمها، وكأن الثَّمر تجمع على ثمار، ويجمع الجمع على ثُمر.
واللام في قوله: (ليأكلوا) إما أن تكون تعليلية أو للعاقبة أي: تكون العاقبة أن يأكلوا من الثمار.
قال تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس:35] قرأ الجمهور: (وما عملته أيديهم).
وقرأ شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وما عملت أيديهم).
قد تكون (ما) نافية، فيكون المعنى: أن الله سبحانه هو الذي أخرج ذلك والتقدير: لتأكلوا هذه الثمار ولم تعمل أيديكم هذه الثمار، إنما الذي خلقها وأوجدها الرب سبحانه وتعالى، الذي أنزل الماء من السماء، وأحيا هذه الأرض.
أو تكون (ما) بمعنى (الذي) فيكون قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس:35]، أو (وما علمت أيديهم).
والمعنى: أن الله خلق لك هذا القمح، ثم أخذته وطحنته ثم عجنته وأدخلته الفرن، فأخرجته خبزاً، فهذا الذي عملت يداك مما أخرجه الله سبحانه، وكلا المعنيين صحيح.
قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35] أي: هلا شكروا الله سبحانه على ما أخرج لهم، وعلى ما رزقهم من عقول فيصنعون ذلك.
وانظر إلى البهائم والحشرات والطيور كيف تأكل الثمرة كما هي، وتلتقط الحبة كما هي؛ لكن أنت أيها الإنسان أعطاك الثمار، وأعطاك الحبوب، وأعطاك العقل لتفكر، وألهمك كيف توقد النار وكيف تصنع الطبيخ، وكيف تصنع الحلوى، أفلا تشكر الله سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يحجب عنك ذلك، فتأكل الطعام كما يخرج من الأرض بدون طبخ وإصلاح.(313/10)
تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها)
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس:36].
أي: يقدس الله تعالى عن ألا يشكر، وينزه عن النقص والعيب، وعن أن يذكر معه غيره، وعن أن يكون له الصاحبة أو الولد، أو الشريك في ملكه، فهو الخلاق العظيم العليم وحده لا شريك له.
وقوله (سبحان) مصدر، والفعل سبح، أي: أسبح الله تسبيحاً وسبحاناً، فعبر بالمصدر نيابة عن جملة فيكون المعنى: سبحوا الله تسبيحاً عظيماً.
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس:36]، (الأزواج) هنا بمعنى: الأصناف والأنواع، فكلها خلقها الله سبحانه وتعالى، من أين؟ قال: {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} [يس:36]، فأخرج لكم من الأرض أزواجاً: {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} [يس:36] خلق الذكر والأنثى، وخلق لهم الأولاد والأحفاد والذريات {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(313/11)
تفسير سورة يس [36 - 44]
يذكر الله عز وجل أن من آياته العظيمة الباهرة في هذا الكون اختلاف الليل والنهار، وحركة الشمس والقمر، والشمس آية النهار والقمر آية الليل، ومن آياته أيضاً أنه هدى الإنسان أن يصنع السفن الضخمة العملاقة التي تسير على سطح البحار والمحيطات، والطائرات والمركبات الفضائية التي تخترق الجو، والسيارات والقطارات التي تقطع المسافات البعيدة الشاسعة، وهذا كله بفضل الله ورحمته، ولو شاء لحطم ذلك كله.(314/1)
عظم آيتي الليل والنهار
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:45 - 44].
يعدد الله سبحانه وتعالى لنا نعمه على عباده في هذه الآيات وما قبلها، ومما ذكره قبل ذلك أن قال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]، آية وعبرة وعظة للخلق ومعجزة تدل على قدرة الخالق تبارك وتعالى، أرض ميتة ينزل الله عز وجل عليها المطر فيحيي هذه الأرض بعد موتها، ويخلق فيها ما يشاء سبحانه وتعالى من بساتين وحقول، وأصناف الزروع وثمار الحبوب، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير، فيذكر ذلك ثم يقول: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35] أي: هلا شكروا الله سبحانه على نعمه التي خلقها وسخرها لهم وصنعوا منها بعقولهم وبقوتهم التي أعطاهم الله سبحانه ما يشاءون.
قال سبحانه: ((لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ))، ليأكلوا من الثمار التي خلقها الله سبحانه ومما يصنعونه هم بأيديهم، ((وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ)) هذا المعنى الآخر: أنها لم تعمل أيديهم هذه الأشياء، فلا أنزلت أيديهم المطر من السماء، ولا خلقت العيون في الأرض، ولا أخرجت الحبوب منها والثمار، ولكن الله الذي خلق ذلك، أفلا يشكرون الله ويعبدونه وحده لا شريك له.
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، كما قال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] خلق من الأنعام زوجين الذكر والأنثى، ومن الحشرات كذلك، ومن الدواب كذلك، ومن الإنس كذلك، وقال لنا هنا: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ))، فأخرج لنا الأنواع والأصناف كلها مما تنبت الأرض، ((وَمِنْ أَنفُسِهِمْ)) ومن أنفس الخلق خلق الزوجين الذكر والأنثى، ((وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)) يخلق ما يشاء، هذه من آياته العظيمة.
ومن آياته أيضاً: الليل والنهار، قال سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37].
وهذا التعبير الدقيق في كتاب الله سبحانه وتعالى يرينا هذه الآية العظيمة، ((وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)) كأن هذا ينسلخ من ذاك، فيبدو للناس الليل ويظهر للناس النهار على ما يريهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول أهل العلم: إن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، والنهار جزء بسيط إذا قورن بالليل الذي يحيط بالكرة الأرضية من كل مكان، والجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، فحينما تنعكس أشعة الشمس على هذا الهواء المحيط بالأرض في الجزء المواجه للشمس إذا بهذا الجزء مضيء، والأرض تدور، فإذا دارت فكأنه ينسلخ عنها هذا الجزء من النهار ويصير ليلاً في المكان الذي دارت إليه، وهكذا لا تزال تدور ويتعاقب فيكم الليل والنهار بمثل ذلك، وهذا لا يكون إلا والأرض على هيئة الدوران، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، فالكرة الأرضية كالكرة تدور، وفي أثناء دورانها يتعاقب عليها الليل والنهار، وينسلخ النهار من الليل على ما يريد الله سبحانه وتعالى.
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، الكون كله ليل، وجزء من الكون وهو الهواء الذي فوق الأرض يظهر فيه النهار، ثم ينسلخ بدوران الأرض كما ينسلخ الجلد من فوق الضحية التي تذبحها، قال الله سبحانه: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37] فالجزء الذي كان مضيئاً من الأرض دار فانسلخ منه نهاره فهم مظلمون الآن.(314/2)
تفسير قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها وكل في فلك يسبحون)(314/3)
مستقر الشمس في مدارها
قال الله سبحانه: ((وَالشَّمْسُ)) هذه آية من آيات الله سبحانه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38].
الأرض تدور، والقمر يدور حول الأرض في مدار، وهذه بعض الأشياء في كون الله العظيم الواسع الفسيح، كل شيء يجري في مداره، ويجري لمستقر له، الشموس والأقمار والنجوم والكواكب والمجرات كل شيء يجري ويدور حتى يأتي الأجل المحتوم وينتهي حينما يشاء الله سبحانه، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38] وكأن لها نهاية، تجري وهي تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، تطلع على الناس بإذن الله سبحانه، وتغرب على الناس بإذن الله سبحانه، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، قال: مستقرها تحت العرش).
كرسي الله عز وجل فوق سماواته، وعرشه فوق ذلك، وإذا قورن كل ما في السماء وكل ما في الأرض بالعرش فهي كسبعة دراهم في ترس، فعرش الله عز وجل هو المحيط بهذا كله، فالشمس مهما جرت فهي تحت عرش الله سبحانه وتعالى.
والعرش إذا قورن بالكرسي فهو كالحلقة في فلاة، والله فوق عرشه سبحانه أحاط بكل شيء، فالشمس مهما جرت والكواكب والنجوم مهما دارت فهي تحت عرش الرحمن سبحانه مسخرة بأمر الله تبارك وتعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، كل هؤلاء قد سخرهم الله سبحانه فأطاعوا ربهم، وسجدوا لله عز وجل طوعاً، وسجد كثير من الناس طوعاً، وكثير حق عليهم العذاب لما أبو أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى.
فهنا الشمس تطيع الله، وقد سخرها في الفلك، تشرق من مكان وتغرب من مكان، تخرج على الناس ولها مدار تجري فيه.
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، إذاً: سيأتي عليها يوم وتستقر، وذلك هو يوم القيامة، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر سوف يكوران، كما روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشمس والقمر مكوران يوم القيامة، وهذا قول الله سبحانه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1 - 3])، الآيات.(314/4)
تكوير الشمس في النار
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] أي: لف بعضها ببعض وألقيت في النار، روى الطيالسي وأبو نعيم من حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار).
وهل معنى كونهما في النار أن الله سبحانه يعذبهما؟ لا، لقد أطاعت الشمس ربها سبحانه، والقمر أطاع ربه، والآيات تذكر ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج:18].
يسجد لله سبحانه وتعالى كل من في السماوات ومن شاء الله عز وجل من أهل الأرض وكذلك الشمس والقمر، ولكن كأن الشمس أداة تعذيب لأهل النار في النار، كما أن النار فيها ملائكة: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] موكلون بتعذيب أهل النار، فهؤلاء الملائكة لا يعذبون بالنار ولكن يعذبون أهل النار.
والشمس والقمر يجعلهم الله عز وجل أمام من عبدهما من دون الله سبحانه، فعباد الشمس الذين كانوا يسجدون للشمس ويعبدونها من دون الله، وعباد القمر الذين كانوا يعبدون القمر إذا كان يوم القيامة جمعوا معهما ومن كان يعبد شيئاً من دون الله، ثم يأمرهم الله أن من كان يعبد شيئاً يتبعه، فالشمس تمثل لعبادها فيتبعونها فتجري بهم إلى النار فيدخلون وراءها إلى النار، والقمر كذلك، فكأن الشمس والقمر يأخذان من عبدهما إلى نار جهنم، فيصيران أداة لتعذيب أهل النار والعياذ بالله، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
ولذلك جاء أن الحسن البصري سأل أبا سلمة فقال: وما ذنبهما؟ فقال أبو سلمة منكراً على الحسن: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: ما ذنبهما؟ يعني: الأصل أنك تذعن لما جاء به وتطيع لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجادل مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الحسن فهم أنهما يعذبان في النار، ولم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قال: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)، يعني: على هيئة ثورين معقورين في النار، كأنه يعذب أهل النار بالنظر إليهما: هذا الذي كنتم تعبدونه من دون الله صار ثوراً عقيراً في النار، فهما أداة لتعذيب أهل النار، فالشمس بإحراقها تحرقهم، والقمر كان محرقاً مشتعلاً يوماً من الأيام، فكأن الله سبحانه يعيده إلى ما كان عليه لتعذيب أهل النار، والعياذ بالله.(314/5)
طلوع الشمس من مغربها
في الحديث أن (الشمس والقمر يكوران يوم القيامة)، وفي الآية الكريمة: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، أي: إلى أن يأتي وقت قرارها يوم القيامة حيث تشرق من مشرقها وتغرب من مغربها، فإذا جاءت العلامة الكبرى للقيامة إذا بالله يحبسها عند مغربها ولا يأذن لها في الخروج.
ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تستأذن ربها كل يوم عند المشرق وعند المغرب، فإذا كان يوم القيامة فإذا بالشمس تستأذن الله سبحانه فلا يأذن لها ويقال لها: اطلعي من حيث غربت، وهذه آية من آيات الله سبحانه، وهو علامة كبرى ليوم القيامة، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها)، أصبحي، يعني: اطلعي في الصباح من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون متى ذلكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً).
إذاً: الشمس تسجد تحت عرش الرحمن سبحانه في كل مطلع وكل مغرب، وطلوع الشمس في البلد الذي في المشرق يكون قبل طلوعها في البلد التي في المغرب، كأن الشمس في كل مطلع على بلد من البلدان ساجدة لله سبحانه مطيعة لأمر الله، حتى يأتي يوم القيامة، فإذا بالله سبحانه يأمرها أن ترجع وأن تطلع من حيث غربت، فتطلع الشمس من مغربها.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، أي: طلوع الشمس من مشرقها وغروبها من مغربها آية من الآيات العظيمة، يعرف ذلك من يدرس علوم الفلك، فيرى كيف تجري الشمس، وكيف تدور هذه الأرض، وكيف تجري الكواكب والنجوم كل في فلك في السماء لا يصطدم مع الآخر، ولا شيء يمنعها إلا قدرة الله سبحانه وتعالى، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
قال سبحانه عن ذلك الكون العظيم وما خلقه الله تبارك وتعالى فيه {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، قدر للشمس أن تجري بحسب ما يشاء سبحانه في مدارها، ومستحيل أن تخرج عن هذا المدار، كذلك القمر يجري في مداره الذي قدره الله سبحانه، كل شيء له قدر وقضاء عند الله سبحانه حتى يأتي يوم القيامة، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].(314/6)
منازل الشمس والقمر
قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
إذاً: هذا القمر قدر له الله سبحانه ثمانية وعشرين منزلة ينزل في كل ليلة في منزلة معين لا يخطئه، فالشمس تجري في مستقر لها في جريانها ونزولها، والله عز وجل قدر أشياء لا تخطئ.
قال عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، كما أن الشمس تجري إلى مستقرها كذلك القمر قدر الله عز وجل له منازل، أي: جعل له منازل ينزل فيها حتى عاد كالعرجون القديم.
وقراءة الجمهور: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39] كأنه منصوب على الاشتغال؛ لأن الفعل نفسه: قدرنا القمر منازل، هذه جملة من فعل وفاعل ومفعولين، والتقدير هنا: أنزلناه، (والقمر)، مفعول منصوب، والفعل الذي بعده شغل بمفعوله، ولذلك يسمى هذا بالمفعول على الاشتغال؛ لأن فعله نصب ضميره.
وقرأها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو وروح عن يعقوب: (والقمرُ قدرناه منازل)، كأنه قال: آية لهم الشمس وآية لهم القمر.
فالقمر آية من آيات الله سبحانه، والشمس آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، فقدر للشمس ما تجري فيه من مدار في فلك معلوم حتى يأتي وقت استقرارها، وكذلك القمر قدر له الرب تبارك وتعالى منازل كل ليلة ينزل في منزلة معينة.
{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ} [يس:39].
العرجون: هو عذق النخلة الأحمر الذي فيه البلح، والعرجون لو تتركه فترة حتى ييبس يزداد انحناؤه ويصفر لونه، وكذلك القمر يصير كالعرجون القديم قبل أن يستتر في آخر الشهر، فهو في نصف الشهر يكون مكتملاً، ثم يتناقص شيئاً فشيئاً حتى يصير كالعرجون القديم.
{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
في الماضي لم يكونوا يعرفوا مدار أحدهما فهم يرونها في الفضاء فقط، لكن علماء الفلك الآن حددوا المدار الذي تبتدئ منه الشمس، ومستحيل أن يتقابل مدار الشمس مع مدار القمر في يوم من الأيام من أجل أن تدرك هذا القمر أو تلمسه.
(ولا الليل سابق النهار) ولكن الليل في مكان والنهار في مكان آخر، يتواليان على الكرة الأرضية، لا الليل سيجري فيدفع النهار ويسبقه، ولا النهار يسبق مع الليل، ولكن كل في فلك يسبحون.
وكل هذه الأجرام التي خلقها الله سبحانه في فلك سباحة، وهذا التعبير أعظم وأجمل من أن يقول: يجرون؛ لأن فيها معنى الجري والدروان فقط، والسباحة تدل على أن ما فوقه وتحته فراغ، كالإنسان عندما يدخل في الماء لا يعوقه شيء لا من فوق ولا من تحت، كذلك هذه الشمس وهذا القمر والأجرام كلها تسبح في هذا الفضاء، والإنسان لا يدري كيف تسبح إلا بقدرة الله تبارك وتعالى.(314/7)
تفسير قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41].
آية من الآيات العظيمة: أنا حملنا ذريتهم، وكلمة ذرية مأخوذة من الذر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ ومن ما يخرج منها) فهنا ذكر، (ذرأ) أي: بث ونشر وخلق.
والذرية هنا بمعنى المخلوقين، فالذرية تطلق على الأبناء والآباء والرجال والنساء، فمن ذلك ما ذكره الله سبحانه تبارك وتعالى هنا في كتابه: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس:41] فالذرية هنا هم الآباء الأولون في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذين خلقناهم وذرأناهم آية لهم، ولو نظروا لعرفوا أننا حملنا آبائهم الأولين الذين كانوا مع نوح في الفلك الذي ما كانوا يعرفون كيف يصنع حتى صنعه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فكان قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله سبحانه يمرون بنوح ويسألونه: ما هذا؟ يقول: فلك، فيقولون: وما تفعل بها؟ قال: تحمل على الماء، قالوا: أي ماء ونحن في صحراء؟ فكانوا يستهزئون به، قال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39] فصنع هذا الفلك، ولم يكن نوح نجاراً متخصصاً في صنع السفن، وإنما {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27]، فأوحى الله العظيم سبحانه وتعالى إلى نوح أن يصنع هذا الفلك، فعلمه كيف يصنعه، وكان الكفار يمرون ولا يتخيلون كيف يحمل نوح وحده هذا الفلك إلى البحر، وما علموا أن البحر سيأتيهم، فكانوا يسخرون ويستهزئون، فإذا بالله يأمر السماء أن تفتح ماءها على الأرض، وأن تخرج الأرض ماءها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض، وأغرق الله الأرض ومن عليها، ونجى نوحاً ومن معه في فلك يحمل فيها من كل ما خلق الله سبحانه وتعالى زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولم يعش فوق الأرض إلا من كان في هذه السفينة.
فآية من آيات الله عز وجل أنه جعلكم ذرية هؤلاء، فتذكروا نعمة الله عز وجل على آبائكم أن أنجاهم فكنتم أنتم أولادهم وأرسلنا إليكم من يدعوكم إلى الله لتؤمنوا، فاحذروا أن يصنع بكم مثل ما صنع بقوم نوح.
ومن إطلاق الذرية على النساء ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى في غزوة من الغزوات امرأة قتلها جنود خالد رضي الله عنه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد قال للرجل: إلحق بـ خالد وقال له: (لا تقتل ذرية ولا عسيفاً)، والذرية هنا بمعنى امرأة، فكلمة الذرية تطلق في اللغة على هذا كله، وإن كانت أكثر ما تطلق على الأولاد.
{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41] الفلك: السفينة، والفلك تطلق على المذكر والمؤنث، فتقول: هذه الفلك، وهذا الفلك، والفلك تطلق على المفرد وعلى الجمع، فهي كلمة مفردها فلك وجمعها أيضاً فلك.
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس:41] هذه قراءة الجمهور: ذريتهم.
وقرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب: ذرياتهم.
(المشحون) الممتلئ، سفينة نوح كانت ممتلئة من الإنس والطير وممن شاء الله عز وجل، قال: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]، تخيل أن كل المخلوقات مثل الأسد والنمر والفهد كل هذه الأصناف التي لا تقدر أن تحصي عددها حمل نوح من كل شيء زوجين وجعلهم معه في السفينة، وأنجى الله عز وجل هؤلاء، وأغرق من على الأرض.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] آية من آيات الله سبحانه أنه علم نوحاً كيف يصنع هذا الفلك الذي يسع هذا العدد الضخم، والإنسان عندما يتخيل أن رجلاً واحداً يصنع سفينة بهذا الحجم الذي يحمل هذه المخلوقات يقول: هذا شيء بعيد، لكنه توفيق الله والإعانة من الله سبحانه وتعالى.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] أي لهؤلاء الناس، (من مثله): من مثل هذه السفينة يحملون فيها، وكذلك ما يركبون من مثل ذلك.
وتخيل مثل ذلك مما خلق الله عز وجل لهؤلاء ووفقهم أن يصنعوه من سيارة وطيارة وسفينة وعابرات للمحيطات، أي: من مثل الذي علمناه لنوح علمنا هؤلاء وذريتهم أن يصنعوا أشياء فيصنعون من مثله ما يركبون، فالفلك تسبح في البحر، ويصنعون أشياء تسبح في الجو، والله على كل شيء قدير، وهو الذي علمهم ذلك وخلق لهم من مثله ما يركبون، فله الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فهو الذي أعطى للإنسان عقلاً يفكر، ففكر في هذا الشيء وأوجد له الأشياء التي صنع منها ما يركبه في البر والبحر والجو.
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43] نحن أركبناهم هذه السفينة، وعلمناهم كيف يصنعون الفلك، فلما صنعوا الفلك اغتروا وعبدوا غير الله تبارك وتعالى، وإن نشأ نغرق هؤلاء فلا يوجد لهم من يغيثهم إذا أغرقناهم.
والصريخ: المغيث والمنقذ، فلا يوجد من ينقذ هؤلاء إذا أردنا أن نهلكهم ونغرقهم {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43]، والإنسان إذا تطاول على الرب سبحانه أرسل إليه من يقصمه.
فالله وحده على كل شيء قدير، والإنسان عاجز لا يقدر، كم صنع الإنسان من سفينة وأراد الله إغراقها فحطمها، ونذكر سفينة تيتانك التي صنعها أصحابها وسموها بالسفينة التي لا تقهر، وإذا بها أول ما نزلت وركبها أغنياء العالم إذا بالله يقصمها، وتقف السفينة وتنكسر نصفين في المحيط ويغرق الجميع.
هذا غرور الإنسان الذي يوحي له ويوهمه أنه يقدر على ما لا يقدر عليه أحد، صعدت مركبة إلى القمر ثم المركبة الثانية، وبعد ذلك قالوا: سنعمل على القمر مستعمرة، ومواصلات بين الأرض والقمر، وسنعمل وسنعمل، ثم تصعد مركبة فضائية فتحترق، ثم يعيدوا الكرة وتحترق وتنزل إلى الأرض.
الإنسان عندما يغتر ويظن أن بقدرته أن يصنع ويعمل إذا بالله عز وجل يريه آياته ويحطمه ويهلكه ويضيع له هذه الأشياء التي يصنعها، فإذا وصلوا إذا بالله يرينا آيات عظيمة من آياته سبحانه وتعالى التي يذكرها لنا في كتابه.
رواد الفضاء الأمريكان عندما تكلموا عن الصعود للفضاء، وقال لهم الناس: هذه الأموال الضخمة التي تصرفونها على القمر اصرفوها على الفقراء، قالوا: نحن طلعنا القمر واكتشفنا منه معلومات تساوي ما أنفقناه حتى نصل إليه.
فقيل لهم: ما أهم حاجة وصلتم إليها؟ قالوا: وصلنا لحاجة عجيبة جداً، اكتشفنا أن هذا القمر انشق يوماً من الأيام.
وقد قال الله عز وجل ذلك في كتابه من ألف وأربعمائة عام، قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً فأرنا آية.
فواعدهم ليلة، وأراهم انشقاق القمر إلى فلقتين، فإذا بهم يرون نصف القمر أمام الجبل والنصف الآخر وراء الجبل، قالوا: سحرتنا، فقال بعضهم لبعض: إن كان سحرنا فلن يسحر غيرنا، فلننتظر إذا جاء ركب ونسألهم، وانتظروا أياماً وجاء ركب وسألوهم: الليلة الفلانية هل أحد منكم رأى القمر؟ قالوا: نعم.
وما رأيتم؟ قالوا: رأيناه انشق ثم رجع كما كان.
هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصدق هؤلاء الكفار، والمؤمنون على استحياء قالوا: انشق القمر مثلما قال ربنا، والبعض منهم قال: بل هو سينشق يوم القيامة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] يعني: سينشق القمر يوم القيامة حتى لا يقال لهم: لقد قلتم ما لم نره، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك، وجاء الحديث الصحيح بذلك، وجاء رواد الفضاء ليقولوا: هذا القمر انشق.
من أين عرفتم؟ قالوا: رأينا في صور القمر هذا المكان، عرفنا أنه انفلق في يوم من الأيام، ورجع مرة ثانية لمكانه، لكن واضح أثر الشق في القمر كله، هؤلاء يصدقون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، هذه آية من آيات الرب سبحانه وتعالى.
ويقول: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43].
لا صريخ: لا منقذ ولا مغيث لهم.
ولا هم ينقذون: لا ينقذهم أحد إلا رحمته، فلا أحد يجيرهم ولا يرد عليهم ولا ينقذهم.
{إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:44] من رحمة رب العالمين أن شاء سبحانه أن يترك هؤلاء ولا يستأصلهم، يعني: لأجل رحمة من الله سبحانه تركنا هؤلاء، فلم أستأصلهم بعذاب وأخرناهم إلى يوم القيامة لعله يخرج من أصلابهم من يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ومتعناهم إلى حين حتى يأتي الأجل، ثم عذاب رب العالمين أو رحمته سبحانه.
نسأل الله من فضله ورحمته إنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(314/8)
تفسير سورة يس [43 - 50]
من نعم الله تعالى على خلقه أن جعل لهم فيما سبق ما يعينهم في أسفارهم وحمل رحالهم، ثم وفقهم بأن صنعوا ما يركبون عليه في البحر والجو، وكل هذا متاع زائل في الدنيا ولو شاء الله ما أوجده لهم، أو أوجده وأغرقهم وأماتهم بسببه، ولكنها رحمة الله بعباده، ورغم ما أعطاهم من نعم إلا أنهم يمنعون أموالهم عن الفقراء، وينسون أن الذي يعطي ويمنع هو الله، بل ويطالبون بالساعة، ولا يعلمون أنها صيحة واحدة تأخذ جميع الأحياء فلا ينصرون.(315/1)
تفسير قوله تعالى: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:41 - 50].
في هذه الآيات من سورة يس يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن آياته العظيمة التي يراها الناس في الدنيا ولا يؤمن بها إلا المؤمنون المتقون، ومن تلك الآيات: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، ذكرنا أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء والرجال والنساء، وإن كان الغالب في قوله الذرية أنها تطلق على الأبناء، وفي هذه الآية المقصود بهم ذرية آدم ممن ذرأ الله عز وجل وبث ونشر من نفس آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
(في الفلك المشحون)، يعني: أيام نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حملنا من ذرية آدم من آباء هؤلاء في سفينة نوح، والفلك هو السفينة.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] الله سبحانه خلق العباد وما يفعلون، وعلم نوحاً كيف يأخذ الأشجار ويقطعها ويصنع منها سفينة عظيمة تحمل هذا الكم من المخلوقات التي كانت في عهده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] فيها الإشارة إلى أن الله عز وجل يوفق الإنسان لصنع أشياء ليست على باله، فكانوا في الماضي يركبون الإبل والسفن، وخلق لهم من مثل هذه السفن ما يركبون من سيارات وطائرات وصواريخ ومركبات فضائية وأشياء يركبونها في البر والبحر والجو، فخلق الله عز وجل من مثل ذلك ما يركبه الإنسان في كل زمان ومكان.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي رجال يركبون على السرج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت ورائكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمكم نساء الأمم قبلكم).
هذا الحديث العجيب عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث صحيح- فيه إشارة إلى ما ذكرنا من أن الله عز وجل يوفق الخلق لصنع أشياء ليست على بالهم، فخلق لهم الله سبحانه ما شاء من الإبل والخيل والبغال والحمير ويخلق ما لا تعلمون، لو ذكر لهم في الماضي أنه سيخلق لكم طائرات ما عرفوها، فالله عز وجل لا يكلمهم عن أشياء لا يقدرون أن يفكروا فيها، ولكن قال يخلق لهم من مثله ما يركبون، كما أنه أعانكم فصنعتم هذه السفن التي تركبونها في البحر، كذلك يخلق ما لا تعلمون سبحانه، ويخلق لكم من مثله ما تركبون.
قوله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في أمتي رجال يركبون على السرج كأشباه الرحال) الرحل: شيء يوضع على الجمل ليوضع عليه كرسي فوق الجمل يركب عليه الإنسان، فيكون ذلك في زمن من الأزمان يظهر فيه العري مثل زماننا هذا وليس أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان هناك عري ولا متبرجات ولا كاسيات عاريات، وفي هذا الزمن ظهر ما يركب الناس من سيارات وقطارات، وفي هذا الحديث تحقق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فما يركبونه كأشباه الرحال، يعني: ما يجلس عليه كأشباه هذا الرحل الذي تضعه فوق الجمل، فكأنه يشير للسيارات فهي مسرجة.
هؤلاء ينزلون على أبواب المساجد للصلاة ويرى نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، تخيل جنازة جاءت إلى المسجد فينزل البعض للصلاة على الجنازة، والأغلب في السيارات يشاهدون النساء اللاتي في السيارات وهن متبرجات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المرأة المتبرجة: (نساءهم كاسيات عاريات)، يعني: لابسات وكأنهن غير لابسات، مثل اللبس الذي يصف ما تحته، والثياب اللصيقة بجسدها وتحسر عن شعرها وتعري بدنها، قال صلى الله عليه وسلم: (على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف) يعني: شعرها فوق رأسها عالٍ، وكما يصنع عند الكوافير فيجعل رأسها مثل القبة التي تشبه سنام الجمل.
(العنوهن فإنهن ملعونات)، لعنهن النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بلعنهن.
(لو كانت أمة من الأمم) يعني: لو أن الله عز وجل سيجعل أمة أخرى، وهذا ما لا يكون فإن آخر أمة من الأمم هي أمة الإسلام وعليها تقوم الساعة، لكن لو وجدت أمة أخرى بعدنا لجعل الله عز وجل هؤلاء خادمات عند الأمم الآتية كما جعل نساء بني إسرائيل خادمات عند الأمم التي تليها بسبب تبطرهن على نعمة الله سبحانه، وكفرهن بالله سبحانه وتعالى، قال: (لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمكم نساء الأمم قبلكم).
هذا الحديث العجيب الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيه أشياء من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يخبر بالشيء فيكون، أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيركب الناس على أشياء كأمثال الرحال ولكن ما هي رحال، فصنعوا السيارات وركبوا القطارات، قال الله سبحانه: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42].
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43]، لو أردنا ولكن لأجل رحمة الله لم يصنع بهم ذلك.
قال: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا} [يس:44] ليس أبدياً، ولكن ((إِلَى حِينٍ)) نمتعهم إلى حين حتى يأتي عليهم أجلهم فينظرون كيف نصنع بهم.(315/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم)
قال الله عن هؤلاء الكفار: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45].
عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار وكذلك يقول الدعاة للكفار: ((اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ)): من وقائع حدثت في الأمم السابقة قبلنا من المثلات، وما نزل من هلاك على هؤلاء القوم من عذاب من عند الله سبحانه.
فقوله: (ما بين أيديكم): ما تقدم وسبقكم في الأمم السابقة كيف أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود أصحاب الأيكة وقوم فرعون ولوط، أرأيتم ما الذي تقدم؟ هذا ما بين أيديكم من السابقين قبلكم.
(وما خلفكم) أي: ما وراءكم من غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه بعد ما تموتون وينكشف أمامكم الحجاب، وترون عذاب الله سبحانه وتعالى، فإذا قيل للكفار: اتقوا النقم التي نزلت في السابقين، واحذروا من غضب الله عز وجل وما أعده للكافرين، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية من الإيمان والعمل الصالح لعل الله عز وجل يرحمكم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45] كان جواب هؤلاء أنهم لا يؤمنون.
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس:46] فكأن الجواب إذا قيل لهم ذلك: أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عمن يدعونهم إلى الله سبحانه، وإذا رأوا الآيات البينات لم يزدهم ذلك إلا استكباراً ونفوراً ((وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ)) قرآنية تتلى عليهم، أو آية حسية من آيات الله سبحانه مرئية ((إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)).
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا} [يس:47] إذا قيل للكافر: أنفق لله سبحانه فقد أعطاك مالاً، فلم لا تعط المساكين والفقراء؟ إذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، قال هؤلاء الكفار للذين آمنوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47]، أنحن نطعم هؤلاء؟! إذا أراد ربنا أن يؤكلهم أكلهم، ونحن لماذا نرزقهم وأنتم تقولون: ربكم هو الرزاق سبحانه وتعالى، فلو أراد أن يتركهم تركهم، فكأنهم يحتجون بالقدر، الكلام صحيح والمراد به باطل، مثلما قال الكفار: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] فاحتجوا بالقدر على الله سبحانه وتعالى، ونقول: صحيح لو شاء الله لهداكم أجمعين، ولكن هل أمركم الله عز وجل أن تحتجوا بقضائه وقدره، أم أمركم بما تقدرون عليه من عمل؟ أنت تنفق مالك في هذا المجال وفي هذا المجال، لم لم تقل: لو شاء الله ما أنفقت، أو لو شاء الله كان فعل كذا؟ أنت تجوع، فتنفق مالك لكي تأكل، فلماذا لا تحتج بالقدر في هذا الشيء وتقول: لو شاء الله لأطعمني؟ هل منهم من يقول هذا الشيء؟ لا.
يحتجون بالقدر فيما يريدون ويتركون الاحتجاج فيما لا يريدون، فهم كذابون يتكلمون على الله بما لا يعرفون.
القضاء والقدر أمرنا أن نؤمن به، وكلفنا الله عز وجل بالعمل وبالأخذ بالأسباب، فتعلم أن الله على كل شيء قدير يقدر الأرزاق لعباده، يرزق من يشاء، ويجعل أسباباً للرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لم لا تجلس في بيتك وتمطر عليك السماء ذهباً وفضة؟ ولكن تخرج لتبحث عن الرزق، فإذا وجدت الرزق فهو قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، فلا تحتج بالقدر على كفر تدعيه وتقول به، فهؤلاء الكفار يقولون لو شاء الله لأطعم هؤلاء الذين نحن نطعمهم، يقولون ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن يأمرهم بذلك.
ولماذا يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يطعموا هؤلاء؟ هو يأمرهم ابتداء بالإيمان، فيقولون: وإذا آمنا ستقول لنا: أخرجوا من أموالكم نفقات، افعلوا كذا وكذا، أتأمرنا بهذا كله؟ تريد أن تأخذ أموالنا لتطعم الفقراء؟ فكأنهم رفضوا الإيمان حتى لا يتحكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: صلوا، صوموا، زكوا، افعلوا المعروف، وهم لا يريدون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] كما قالوا قبل ذلك: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] كذلك قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فالمنافقون قالوا: نشهد أنك رسول الله، والله يشهد بكذبهم في هذا الشيء، فيتكلمون بالكلام الكذب، ويشهدون الله سبحانه على ذلك، ويحتجون بأشياء على ربهم سبحانه وتعالى، ويكذبهم ربهم سبحانه فيما يقولون، يقول: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]؛ لأنهم قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، وقال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]، الله الغني عنكم وعن أموالكم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17].
ولكن حين يأمر الأغنياء أن ينفقوا على الفقراء ليس لكون الله سبحانه لا يريد أن يرزقهم، ولكن لتنتفع أنت بما تنفق على الفقير، فتؤجر من الله الغني العظيم سبحانه، ويعطيك الأجر ويزيدك من رزقه، والمال مال الله سبحانه، فإذا كان معك مال وجبت فيه الزكاة، فالمال مالك باستثناء الجزء الذي هو الزكاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأدائها، فإذا ملك الإنسان عشرين ديناراً من الذهب يجب عليه فيها الزكاة ربع عشرها، فيلزمه أن يخرج هذه الزكاة، وإذا كان يملك مائتي درهم من الفضة يلزمه أن يخرج ربع عشرها، إذاً أنت لا تملك هذا الجزء بل هو مال الله سبحانه، وأنت تملك باقي المال، وهذا يلزمك أن تخرجه إلى أصحابه.
فالله يرزقك هذا من ماله، أعطاك أنت الألف وأمرك أن تخرج لهذا الإنسان الفقير خمسة وعشرين، فجعل لك أنت سلطة أن تعطي لفلان أو لفلان، أما أن تحتج، وتقول: لو شاء الله لأعطاهم، فقل أيضاً: ولو شاء الله لمنعني ولأعطى هؤلاء، فخف من الله سبحانه وتعالى، وتعامل معه فأعط خلق الله كما أمرك الله سبحانه وتعالى.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47].(315/3)
تفسير قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48] يعني: أنت تأمرنا بتقوى الله، لماذا؟ {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، هم يدعون ربهم أن عجل يوم القيامة، ويسألون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48].
فيجيبهم ربهم سبحانه وتعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:49] هم يظنون أن يوم القيامة شيء صعب، ولا يعلمون أنه صيحة واحدة بنفخ في الصور يهلك بها جميع هؤلاء، فلا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم، ولا يقدرون على حياتهم بعد ذلك إلا أن يحييهم الله للبعث والنشور.
((مَا يَنظُرُونَ إِلَّا)) بمعنى: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخ في الصور حين يأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ في الصور، فينفخ نفختين، نفخة الإماتة ثم نفخة البعث من القبور.
{مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} [يس:49] تأخذهم هذه الصحية وتهلك كل من فوق هذه الدنيا.
{وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] هذه الكلمة (يخصمون) أصلها يختصمون، يعني: يختصمون في أمر الدين والدنيا ويكذب بعضهم بعضاً، ويخاصم بعضهم بعضاً، وهم في وسط هذا الشغل جاءت الصيحة فأخمدت الجميع {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50] لا يقدر أن يوصي بعضهم بعضاً بالمال والأولاد.
{تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] فيها ست قراءات، وكل القراءات راجعة إلى معنى الاختصام: أسهل قراءة فيها قراءة حمزة (وهم يخصمون) أي: يجادل بعضهم بعضاً ويختصم بعضهم مع بعض.
والقراءة التي عندنا في المصحف ((يَخِصِّمُونَ)) هذه قرأها ابن عامر بخلف هشام ويقرؤها عاصم بخلف شعبة.
ويقرؤها غيرهم كـ الكسائي ويعقوب وخلف ((وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)).
ويقرأ قالون وأبو جعفر (وهم يَخْصِّمُونْ) الخاء ساكنة والصاد مشددة، وأصلها يختصمون، وهذه قراءة لـ قالون، وله فيها ثلاثة قراءات.
وقراءة قالون الثانية وقراءة ورش وابن كثير وأبو عمرو بخلف فيه: (وهم يَخَصِّمُون) وهذه قريبة من يَخْتَصِمُون.
ويقرأ قالون قراءة ثالثة وأبو عمرو أيضاً بخلفه بالاختلاس.
وقراءة شعبة عن عاصم فيها إتباع الكسرة للكسرة فالقراءة: (يِخِصِّمُون) وهذه لغة فيها.
وقراءة حمزة (يَخْصِمُون) وهي أسهل هذه القراءات.
كل القراءات مرجعها إلى الاختصام، هذا الاختصام والانشغال بالدنيا يوضحه لنا ما رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة)، وهذا حدث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية رضي الله تعالى عنه، بين أهل العراق وبين أهل الشام، حيث حصلت مقتلة عظيمة واقتتال كبير، ولعله يحدث بعد ذلك قرب قيام الساعة.
قال: (وحتى يبعث دجالون ثلاثون كلهم يزعم أنه رسول الله)، ثلاثون كذاباً يظهرون للناس قبل قيام الساعة كل واحد منهم يزعم أنه رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
(وحتى يقبض العلم) يضيع العلم بقبض العلماء، فإذا بالناس جهلاء يستفتي بعضهم بعضاً فيفتون بجهل.
(وتكثر الزلازل) كانوا فيما قبل يقولون: إن البلاد العربية بعيدة عن حزام الزلازل، أما الآن فقد دخلنا في حزام الزلازل.
قال: (ويتقارب الزمان) يعني: لا تبقى بركة في الزمان، الوقت كله يجري، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرأ في كتب التواريخ كيف كان الوقت عند السابقين، ستجد فعلاً أن وقتنا قصير، مثلاً: الإمام النووي رحمه الله ما بين الصبح إلى الظهر يحضر اثني عشر درساً، ويموت الإمام النووي عن ست وأربعين سنة ويترك كتباً كثيرة منها المجموع هذا الكتاب الضخم في فقه الشافعي، وكتاب روضة الطالبين، وهو كتاب ضخم من كتب الفقه، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، ورياض الصالحين، وكان ينصح ألا يؤلف أحداً قبل سن الأربعين، يا ترى هل ألف هذه الكتب رحمة الله عليه هكذا؟ عندما ننظر في حفظ هؤلاء للأحاديث مثل الإمام أحمد فقد كان يحفظ الحديث من عشر طرق ومن عشرين طريقاً ويعتبر كل واحد منهم حديثاً، ويقول: أحفظ ألف ألف حديث.
أي: مليون حديث.
كان الوقت بالنسبة لهم طويلاً، وهو هو نفس الزمان، ولكن اليوم كان يصنع فيه أشياء لا نقدر أن نصنعها نحن الآن لتقارب الزمان ولقلة البركة، اليوم يجري والشهر والعمر كله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: (وتظهر الفتن) وما أكثر الفتن الموجودة في عصرنا، وما يأتي بعد ذلك أكثر، نسأل الله العفو والعافية.
(ويكثر الهرج) والهرج القتل كما جاء في حديث آخر، يقتل الناس بعضهم بعضاً، ولا يدري القاتل فيما قتل، ولا القتيل فيما قتل، وتكثر شراسة الأخلاق، وزماننا كثر فيه ذلك بسبب ما فيه من فتن عظيمة وبعد عن الله سبحانه وتعالى، وتقليد للغرب الكافر، يخترعون للناس الألعاب على الكمبيوتر والأفلام الجنسية، أو أفلام سب وقتل ونصب وفضائح ويقلد الناس ما يرونه فيها ويقتل بعضهم بعضاً، ثم يندم بعد ذلك ولا ينفعه ندم.
(ويكثر فيكم المال) سيجيء زمان يكثر فيه المال، فيفيض المال حتى يبحث رب المال عمن يقبل صدقته فلا يجد، كأنه يقول: أدرك نفسك وتصدق قبل أن يأتي زمان تبحث فيه عمن تعطيه الصدقة فلا تجد، لعل الرجل يتصدق ولعله يتصدق الرجل بالمائة دينار فلا يجد من يأخذ منه.
(وحتى يتطاول الناس في البنيان) العمائر الشاهقة العالية وقد حدث ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه وتطاول الناس في البنيان.
(وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه) يمر الرجل بقبر الرجل يقول: ياليتني مكانه، من كثرة مصائب الدنيا والابتلاءات يتمنى الموت، ونجد نحن من ينتحر من الفتن ومما صنع في الناس ومما يصنع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: (وحتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، هذه العلامة الكبرى للساعة، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
الشاهد: قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه) ذهب ليشتري قماشاً فيخرج إلى السوق ويتبايع هو والتاجر، وتقوم الساعة على هذه الصورة، فلا يطوي هذا الثوب ولا يستلم هذا المال.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) حلب الرجل ناقته وأخذ اللبن لكي يشربه، وقبل أن يشرب هذا اللبن تقوم.
(ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه) الحوض الذي يسقي فيه الغنم والإبل أحضر له الطوب وملأه ماء وأتى بالإبل لتشرب، فتقوم الساعة قبل ذلك.
(ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) تقوم الساعة والناس في انشغال، وتأتي الساعة عليهم وهم في انشغال عن الآخرة والعمل الصالح.
ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث الانشغال بالدنيا والفتن والتكذيب بآيات الله سبحانه، ثم تأتي الساعة عليه فلا يقدر على أن يوصي أحداً بخير ولا بماله ولا بتقوى الله، بل يأتي عليه الموت قبل ذلك، وهذا أشد ما يكون على الإنسان أن يؤخذ بغتة، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح قال: (موت الفجأة أخذة أسف) يعني: الإنسان الذي يمرض قبل وفاته هذه من علامات حسن الخاتمة؛ لأن الله يكفر عنه السيئات بهذا المرض، بينما من يكون فيه غرور وبعد عن الله يخاصم فلاناً ويشتم فلاناً ويؤذي فلاناً ثم يأتيه الموت فجأة، كمن يشرب الحشيش والمخدرات، يموت فجأة فهذه أخذة أسف، أخذة غضبان، وإذا غضب الله على إنسان جعل وفاته وهو في لهوه ولعبه، وجاءه الموت فجأة فلا يقدر على التوبة، أو يقول لا إله إلا الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.(315/4)
تفسير سورة يس [51 - 58]
خلق الله ملكاً ووكل إليه مهمة واحدة هي النفخ في الصور مرة لصعق الأحياء وأخرى لبعث الأموات، وحينها يخرج المكذبون ويقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ فيجابون بأن هذا مصداق وعد الله على لسان المرسلين، وحينها تنصب الموازين، ويحاسب الخلق، فيدخل أهل الجنة الجنة، فينشغلون بلذة ونعيم مقيم، وسلام من رب العالمين.(316/1)
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:51 - 58].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن النفخ في الصور، وقيام الساعة، والبعث من القبور، والحساب بين يدي الله سبحانه، وكيف يصير الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.(316/2)
النفخ في الصور لصعق الأحياء
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس:51].
الصور: البوق الذي يحمله إسرافيل الملك الموكل بالنفخ، فينفخ فيه بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فيصعق من في السموات ومن في الأرض، ثم يؤمر فينفخ فيه نفخة أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
نفختان ذكرهما الله عز وجل في كتابه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، ينفخ نفخة الإماتة فيموت من في هذا الكون، ثم ينفخ نفخة أخرى لإحياء الموتى، ونفخ إسرافيل في الصور سبب، ولكن الذي يحيي ويبعث الناس ليجازيهم هو الله تبارك وتعالى.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] ومنذ خلق الله تبارك وتعالى إسرافيل وهو معه هذا الصور - وهو البوق الذي ينفخ فيه- ينظر إلى عرش الرحمن ينتظر متى يؤمر بالنفخ في الصور، يخاف أن ينشغل عن ذلك، فهو في نظر دائم متعلق بعرش الرحمن سبحانه حتى يأمره الله سبحانه في وقت حدده يعلمه الله ولا يعلمه غير الله سبحانه وتعالى.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} [يس:51] والأجداث جمع جدث، والجدث: القبر، فإذا هم من قبورهم يخرجون وإلى ربهم ينسلون، أي: يمشون مشياً مسرعاً، ويخرجون من القبور ويقومون مسرعين متوجهين إلى مكان اجتماعهم وحشرهم وحسابهم.(316/3)
النفخ في الصور لإحياء الخلق
قال تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] هذا كلام الكفار حين يبعثون ويعلمون أن مصيرهم إلى النار، فيقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ويجابون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52]، أو يقول بعضهم لبعض: هذا الذي كنا نكذب به من قبل، هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، لم يتبين لهم صدق المرسلين إلا حين جاءتهم الوفاة، حين دخلوا قبورهم، ثم بعثوا بعد ذلك من قبورهم تبين لهم في كل هذه المواطن أن الرسل كانوا على حق في حين لا ينفع ما تبينوه الآن، فقد صاروا إلى الآخرة وليسوا في الدنيا.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا} [يس:52] يدعون بالويل، يعني: يا ويلنا احضر، والويل الهلاك، كأنهم يدعو أحدهم على نفسه بالهلاك، يقول: يا ويل احضر، يا هلاك احضر، تعالى الآن خذني.
وهذه الكلمة فيها ما فيها من الرعب الذي يخرجون به من قبورهم.
{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] والقبر مرقد لصاحبه، وهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران، فهم كانوا يعذبون في قبورهم ولكن الله سبحانه حين يأمر بالنفخ في الصور النفخة الأولى فيقضي على جميع الخلق بالموت، ويقضي على أهل القبور بالرقاد، وعندما يرقدون يرفع عنهم العذاب في هذه الفترة ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية.
في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون.
قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت.
قيل: أربعون شهراً؟ قيل: أبيت.
قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت) راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه لا يدري أربعون يوماً أو شهراً أو سنة، قال: (أبيت) يعني: أن أتكلم فيما ليس لي به علم، والذي أخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)، الإنسان يبلى تماماً في قبره إلا آخر عظمة في العمود الفقري، وهي التي يكون منها الحيوان، وهي كالبذرة للإنسان ينبت منها يوم القيامة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل) البقل: النبات الذي ينبت ساقه في الأرض وأوراقه عليها مثل الجرجير وغيره مما يخرج على الأرض، ينزل من السماء ماء وتنبت البقول وينبت الإنسان كما ينبت هذا النبات، ينزل من السماء ماء فيجمع الله عز وجل الإنسان من كل مكان وينبت ويخرج مرة أخرى ويركب الخلق يوم القيامة من عجب الذنب.
وهنا يسكت حفص بخلف: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52]، وعندما نقول: سكت فهو بغير تنفس، فهي سكتة لطيفة خفيفة، ثم يقرأ ما بعد ذلك فهو إما أن تقف أصلاً عليها ثم تبتدئ من بعدها {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، أو أنك تصل الآية، فإذا وصلت فعند حفص عن عاصم أنك تسكت سكتة حتى تفصل جملة عن جملة بهذا السكت، فيكون سؤالهم: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] أي: من بعثنا من هذا المرقد الذي نحن فيه؟ فيكون الجواب عليه من ملائكة الله عز وجل: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52] يعني: هذا وعد الرحمن، ما وعدكم الرحمن سبحانه {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، فكأن هذا مبتدأ وما بعده خبر له على هذا السكت.
ولو وصل على قراءة جمهور بدون سكت {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، وهو وجه آخر لـ حفص عن عاصم في ذلك، يكون المعنى أنهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52].
ثم يجيبون على أنفسهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يعني: وعد الله تبارك وتعالى قد تحقق الآن وصدق المرسلون الذين كنا نكذبهم.(316/4)
بعث الخلق بنفخة واحدة
قال الله عز وجل: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:53]، (إن) بمعنى: (ما) ما كانت إلا صيحة واحدة.
وقراءة الجمهور: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:53]، على أن صيحة خبر لكان فهي منصوبة.
وقراءة أبي جعفر: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] على أن كان تامة، يعني: ما حدثت إلا صيحة واحدة، وليس أكثر من ذلك؛ لبيان قدرة الرب سبحانه وتعالى، فهي صيحة واحدة ينفخ في الصور فيهلك الجميع، وصيحة واحدة فيبعث الجميع، ليس كل إنسان يحتاج لأن ينفخ له في الصور بمفرده، إن كان الرب سبحانه أماتهم فرادى، وكل إنسان جاءته الوفاة في وقته، ولكن لما قضى بالنفخ في الصور ليهلك جميع من فوق الأرض كانت نفخة واحدة، ولما أمر بإحياء الجميع ممن ماتوا قبل ذلك ومن ماتوا بهذه النفخة كانت صيحة واحدة، لبيان أن الله لا يعجزه شيء.
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53]، يحضرون أمام ربهم سبحانه، يقفون للجزاء، ليأخذ كل منهم صحيفة عمله، منهم من يأخذها باليمين، ومنهم من يأخذها باليسار من وراء ظهره، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} [يس:53] لا أحد يفلت، لا أحد يهرب، لا أحد يذهب بعيداً ويشرد عن هؤلاء، الجميع محصورون مجموعون لله رب العالمين.
{فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] فلن يحضر بمزاجه، ولكن محضرون يساقون إلى محشرهم، أمر بهم ربهم فجيء بهؤلاء بين يديه سبحانه وتعالى قد حشروا وأحضروا {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53].(316/5)
تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً)
((فَالْيَوْمَ)) يوم القيامة {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [يس:54]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] سبحانه تبارك وتعالى، لا يظلم أدنى الظلم، ولو ظلم واحداً ظلماً يسيراً، وظلم الآخر ظلماً يسيراً لتجمعت المظالم.
ويقول سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} [فصلت:46] بصيغة المبالغة، أي: ليس ظلاماً، فربنا لا يظلم أحداً.
يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
((لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)) الشيء هنا نكرة في سياق نفي، وهو يفيد العموم ((لا تُظْلَمُ)) أي شيء من الأشياء قل أو كثر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، الشر اليسير سيراه يوم القيامة وسيرى جزاءه، والخير القليل سيراه يوم القيامة ويرى ثوابه، {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، لن يقول العبد: يا رب! أنت قدرت علي هذا الشيء.
{وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، هل ظلمناك؟ هل ظلمك كتبتي؟ والعبد يقول: لا يا رب لم يظلمني أحد، أنا الذي عملت هذه الأشياء جميعها، فيعترف العبد ويقر على نفسه في وقت لا ينفعه إقراره بين يدي الله عز وجل، هذا الكافر يقر على نفسه، وذاك المنافق ينفي ويقول: يا رب! لا أقبل اليوم شاهداً علي إلا من نفسي، فإذا بالله عز وجل يختم على فمه، وتتكلم أعضاؤه فتشهد عليه، فيدعو على نفسه: ألا سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أجادل؟ كان يجادل ويناضل ويدافع عن نفسه، فإذا بأعضائه تشهد عليه يوم القيامة، {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
نفخ في الصور نفخة الموت، فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق حين لا يقال على الأرض: الله الله) يرجع كل الناس إلى الكفر فلا أحد يقول: الله الله، ولا يعرف أحد ربه فتقوم الساعة على هؤلاء.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً)، هذا قول الراوي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يمكث فيكم أربعين يوماً، يوم من أيامه كشهر، ويوم كسنة، وباقي أيامه كهذه الأيام، ثم يبعث الله سبحانه عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه).
يخرج الدجال في الأرض ويزعم أنه إله، والله عز وجل يفتن خلقه به، فإذا به يمر على قوم فيدعوهم إليه أن يعبدوه فيرفضون، فإذا بأرضهم تصير مجدبة لا مطر ينزل، ولا نبات يخرج، وهم المؤمنون بالله، ابتلاهم الله سبحانه ليرى هل يثبتون أم أنهم يكفرون ويتبعون هذا الدجال؟ هذا الدجال أكثر الذين يتبعونه من اليهود لعنة الله عليهم والمنافقين وغيرهم، فهؤلاء يمر عليهم فيقول: ألا تؤمنون؟ فيؤمنون به، ويستجيبون له، فإذا بالله عز وجل يفتح لهم من الخيرات ليبتليهم ويظلوا على ما هم فيه من الكفر، فيأخذهم الله سبحانه على ذلك.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه) فينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام في دمشق عند باب لد وينزل ويطلب المسيح الدجال ويقتله في قصة طويلة في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(ثم يمكث) يعني: المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام (في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة).
صار الناس في خير بعد نزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (يكسر الصليب، ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام)، يقول: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام)، إذا نزل المسيح عيسى فقتل المسيح الدجال، ومكث في الناس سبع سنين على تقوى وطاعة وليس فيهم معصية.
(ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته)، سبع سنوات والناس على خير، وفي عبادة الله سبحانه، ولما مضت هذه السنوات السبع بدأ يخرج الشر في الناس، فيرسل الله عز وجل ريحاً باردة من قبل الشام فتأخذ جميع الأبرار الأتقياء، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه)، فيقضي الله عز وجل بأن يموت كل من هو مؤمن على الأرض.
قال: (فيبقى شرار الناس) يعني: لا يبقى على الأرض إلا شرار الناس، (في خفة الطير وأحلام السباع) تقول: هذا إنسان خفيف يعني: متعجل متهور شرير مندفع، هذا الإنسان الذي هو في خفة الطير أول ما يجد شيئاً يندفع إليه.
(وأحلام السباع) السبع الذي يبحث عن فريسة يغتصبها ويأكلها، كذلك هؤلاء همهم القتل والقطع والغصب، فهم في أحلام السباع وفي خفة الطير.
(لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم حسن)، هذا من الفتنة، ليس معنى أن الإنسان أعطاه الله المال لأن الله يحبه، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكن لا يعطي الآخرة إلا من يحب، فهؤلاء في أحلام السباع وفي خفة الطير في طيش، ومع ذلك يعطيهم الله سبحانه أرزاقهم، يأتي الشيطان إليهم فيأمرهم أن يعبدوا الأوثان من دون الله فيعبدونها من دون الله سبحانه، وهم مع ذلك دار عليهم رزقهم حسن عيشهم.
(ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) نفخ في الصور، جاءت القيامة، وأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة الموت حتى يموت من على الأرض، هؤلاء الأشرار الذين على الأرض لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، وهم فيما سمعنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: قد عبدوا الأوثان من دون الله سبحانه، فيأتي عليهم النفخ في الصور فإذا بهم حالاً يخمدون.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً)، الليت: صفحة العنق، وأصغى بمعنى: أمال، يعني: سمع صوتاً وهو يميل رأسه وعنقه يتسمع إلى الصوت ويجيء عليه الموت فيموت وهو على هذه الحال.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله)، ذكرنا من قبل الإنسان الذي يلوط أو َيليط أو يُليط حوض الإبل، بمعنى: يصلح حوض الإبل بالحجارة، لكي تشرب منه الإبل.
قال: (فيصعق ويصعق الناس) يعني: يجهز الحوض لكي تشرب الإبل فلا تدرك الإبل أن تشرب منه.
قال: (ثم يرسل الله -أو قال- ينزل الله مطراً كأنه الطل -أو الظل- فتنبت منه أجساد الناس) مطر شديد ينزل من السماء فينبت الله عز وجل هذه الأجساد الميتة.
(ثم ينفخ فيه أخرى) هذه النفخة الثانية، وهما نفختان كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، قاموا من قبورهم ينظرون حولهم ما الذي يراد بهم؟ إلى أين يذهبون؟ هل أتى ربنا أم لم يأت سبحانه؟ (ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]).
(هلموا) احضروا إلى ربكم، ((وَقِفُوهُمْ)) أيها الملائكة! قفوا هؤلاء بين يدي الله عز وجل ((إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)).
(ثم يقال: أخرجوا بعث النار) وهذا يقوله الله عز وجل لآدم، يناديه يوم القيامة: (يا آدم! أخرج بعث النار، يقول: وما بعث النار؟ يقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) يعني: أخرج من كل ألف من الموجودين في المحشر تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد فقط الذي يكون إلى الجنة، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذاك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق).
هذا اليوم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى الولدان فيه شيباً، تشيب فيه رءوس الولدان من شدة ما يرون في هذا الموقف بين يدي الله عز وجل، عندما نذهب لنرى نتيجة الامتحان، ويقال: نصف المدرسة راسبون يفزع الناس من الذي سينجح إذا كان النصف راسباً؟ ما بالك بتسعمائة وتسعة وتسعين في النار، الناجح واحد وتسعمائة وتسعة وتسعون يدخلون النار والعياذ بالله، هؤلاء بعث النار.(316/6)
تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)
يقول ربنا تبارك وتعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55].
عندما يدخل أهل الجنة الجنة بعد الحساب والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يدخل أناساً الجنة بغير حساب، وأناساً خفف عنهم الحساب، وأخر آخرين فإذا بأهل الجنة السابقين السابقين يسبقون إليها، وصاروا في الجنة في شغل فكهون.
وانظر إلى تعبير القرآن العظيم: ((أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)) كأنهم ملكوها، هذه الجنة جنتكم، هذه التي أعددناها لكم.
((فِي شُغُلٍ)) هذه فيها قراءتان: قراءة ابن عامر والكوفيين وأبي جعفر ويعقوب: ((فِي شُغُلٍ)) بضمتين.
وباقي القراء نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: {فِي شُغْلٍ} [يس:55].
((فَاكِهُونَ)) أي: منعمون، تقرأ ((فَاكِهُونَ)) وتقرأ ((فَكهُونَ))، مثلما يقال: تامر ولابن، يعني: عنده تمر وعنده لبن، كذلك هذا فاكه يعني: عنده فاكهة عظيمة، ففاكهون يسرون ويضحكون في سعادة هؤلاء أهل الجنة، وكذلك ((فكهون))، يعني: نفوسهم طيبة منعمة بالجنة.
((فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ))، قد شغلوا بما في الجنة من نعيم، شغل الدنيا يتعب فيه الإنسان ويرجع يريد أن ينام ويستريح، فالجنة ليس فيها نوم ولا تعب ولا انشغال بمعاص، بل في شغل مما يسر أهل الجنة، ويجعلهم مشغولين عن غيرهم، ينشغلون عن أهل النار، فلا ينظرون إليهم، حتى وإن كان من أهلهم من دخل النار واستحقها والعياذ بالله، إلا أن يأذن الله عز وجل في الشفاعة فتكون لمن دخل النار من عصاة الموحدين، فيخرجونهم من النار بفضل ربنا سبحانه وتعالى يشفع فيهم من يشاء.
لكن أهل الجنة فيما هم فيه من نعيم مقيم مشغولون بفاكهة الجنة، بطعام الجنة، بالحور العين، بالسماع، قد منعوا في الدنيا من سماع الموسيقى والألحان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، أقوام يستحلونها، فقد حرمها عليهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي مالك الأشعري.
قال: (فإذا جاءوا يوم القيامة دخلوا الجنة فاستمتعوا بأحلى الأصوات وأحلى النغمات)، فهم في شغل بما ينعمون فيه في الجنة من نعيم مقيم، انشغلوا عن غيرهم ممن دخلوا النار، فيشغلهم الله تبارك وتعالى بالحور العين، يشغلهم بفاكهة الجنة، وبما أحبوا واشتهوا من أشياء، قد صانوا أنفسهم في الدنيا عن معاصي الله فصارت لهم الجنة بما فيها من نعيم من عند الله سبحانه.(316/7)
تفسير قوله تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال)
قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس:56]: كل إنسان مع زوجاته في الجنة، له من الحور العين ما شاء الله تبارك وتعالى، كذلك زوجته التي كانت معه في الدنيا تكون من أجمل ما يكون في الجنة، فها هو وزوجه إذا دخلت معه الجنة كانوا منعمين.
{فِي ظِلالٍ} [يس:56]، جمع ظل، هذه قراءة الجمهور.
وقراءة حمزة والكسائي وخلف: {فِي ظلل} [يس:56] جمع ظلة، والظلة: الشيء الذي يجعل فوق رأس الإنسان، والجنة ليس فيها شمس تحرق أهلها، ولكن فيها نعيم الزينة فيزين لأهل الجنة مثلما تجد في الأفراح يعمل للعروسة شيء فوق رأسها، ليس لأنه يوجد مطر، وإنما زينة للعرس، وزينة أهل الجنة أعظم من ذلك بكثير، شبهوا بالعروس في الدنيا؛ لأن العروس في الدنيا تتزين لزوجها، فهؤلاء في الجنة زينت لهم الجنة على ما نسمع هنا.
يقول سبحانه: {عَلَى الأَرَائِكِ} [يس:56]، الأرائك: جمع أريكة، وهو: الكرسي الكبير المتسع، أو العرش الذي يجلس عليه الملك، أو السرر في الحجال، يقول المفسرون: الأرائك: السرر في الحجال، والحجال: جمع حجلة، والحجلة: البيت الذي يصنع من قماش للعروس لتجلس فيه، مثلما يقولون الآن بألفاظهم: الكوشة، وهي قبة معمول لها زينة من فوقها ومن تحتها وفيها كرسي تجلس عليه العروس، فأهل الجنة في هذه الحجال.
{عَلَى الأَرَائِكِ} [يس:56] بيوت عظيمة جميلة مزينة لأهلها.
((مُتَّكِئُونَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: ((متكون)).
يتكئ الإنسان أي: يجلس مسنداً ظهره ويده.
في الدنيا لا يجلس المؤمن متكئاً وهو يأكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أجلس متكئاً) الإنسان المرفه يجلس متكئاً على اليمين أو الشمال يأكل، أما الجائع فهو مقبل على الطعام حامد لله سبحانه، شاكر له، جالس جلسة المتخشع، لكن الإنسان البطر الذي عنده الأكل كثير يجلس هذه الجلسة، وهو في الدنيا ممنوع منها، ولكن في الجنة اجلس كما شئت، اتكئ كما شئت، فالآن وقت الجزاء ووقت الثواب ووقت السرور والفرح فاجلس كما شئت.
{لَهُمْ فِيهَا} [يس:57] وهم في هذه الجلسة في هذه الخميلة الجميلة متكئون {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} [يس:57] فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، ليس محتاجاً إلى قطع الثمار من الأشجار ولكن يطلب ما يشاء وهو يأتيه، وإذا قطع الثمار من أشجار الجنة نبت مكانه غيره، فثمار الشجرة لا تنتهي، نعيم مقيم لا مقطوع ولا ممنوع، كل مما شئت في الجنة، شيء عظيم وفضل كريم من الله تبارك وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل فضله ورحمته.
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:57]، ما يدعي الإنسان، بمعنى: ما يطلب، ما يسأل، ما يتمنى وما يشتهي، لهم كل ما يدعون، فيطلبون الشيء مهما عظم، فيعطيهم الله ما شاء من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى.
{سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
أعظم ما يكون لهم في الجنة أن يسلم عليهم الرب سبحانه وتعالى، الرب الرحيم، أليس قال لنا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟ وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]؟ النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، والله كان بالمؤمنين رحيماً يرحمهم سبحانه في الجنة ويعطيهم من فضله ومن رحمته ما يشاءون، وانظر هذا الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) هذا أعظم ما يؤتاه أهل الجنة، لذة النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، قال: (وتلا النبي صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]) يعطيهم ربهم الحسنى، ويزيد على ذلك أن ينظروا إلى وجهه سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم، وأن يرينا وجهه الكريم سبحانه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، ونسأله أن يزيننا بزينة الإيمان، ويجعلنا هداة مهتدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(316/8)
تفسير سورة يس [55 - 68]
وصف الله الذين أدخلهم الجنة بأنهم أصحابها؛ ليدل على تمام نعيمهم وخالص ملاذهم فيها، وأخبرنا بأنه سيميز بين المؤمنين والمجرمين الذين نسوا عهد الله إليهم بألا يتبعوا الشيطان، أو لم يأخذوه على محمل الجد، فضل منهم خلق كثير سيصلون النار يوم القيامة بسبب كفرهم، وتشهد على أفعالهم جوارحهم، ويوبقون في نار جهنم التي كانوا بها يكذبون.(317/1)
أصحاب الجنة فيها
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:55 - 68].
هذا موقف من مواقف القيامة يذكره لنا ربنا تبارك وتعالى في حسابه لخلقه يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
أهل الجنة أدخلهم الله عز وجل الجنة منهم السابقون الذين سبقوا الجميع ودخلوا الجنة بغير حساب أو بحساب يسير، فسبقوا غيرهم ودخلوا الجنة فانشغلوا بما فيها من نعيم عظيم من فاكهة جميلة من حور عين وغير ذلك مما ينعمون به في الجنة، انشغلوا عن حال غيرهم من أهل الموقف الذين ما زالوا في الحساب، وغيرهم الذين دخلوا في النار، فانشغلوا بالنعيم الذي هم فيه عن هذا كله.
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56 - 56].
نساؤهم إذا استحققن الجنة كن مع أزواجهن، وإن كن من نساء الجنة فهن أزواج مطهرات من الحور العين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:56 - 57].
ينعمون فيها، يجلسون متكئين، في سرر كسرير العروس الذي تجلس فيه في الدنيا وهو مزين بالقباب مزين بالستور مزين بالثياب فيه أرائك فيه عرش تجلس عليه العروس ويجلس عليه معها زوجها، هنا في الجنة ينعمون بذلك، بل بأفضل من ذلك بكثير.
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:57]، ما يطلبون، ما يسألون الله عز وجل من شيء إلا وأعطاهم بزيادة سبحانه تبارك وتعالى.
{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:57 - 58].
((وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ)) على معنيين فيها: أي ما يدعونه خالصاً لهم، ((سَلامٌ)) أي: سالم لهم، كما ذكر الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] يعني: خالصاً له، وهنا (سلام)، ما يدعونه خالص لهم في هذا اليوم لا يشركهم فيه أحد لا يوجد أحد.
المعنى الآخر: ((سَلامٌ))، كأنه ابتداء واستئناف، أو: هذا سلام، أو: لكم من الرب الرحيم سلام، أي: تحية مباركة من الله سبحانه تبارك وتعالى، يسلم على أهل الجنة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، التسيلم من الله سبحانه، والتسيلم من الملائكة، والمؤمنون يسلم بعضهم على بعض وهم في الجنة، تحيتهم يوم القيامة في الجنة سلام، {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23].
كذلك يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، فيكون المعنى هنا، سلام أي: يعطيهم الله سبحانه تبارك وتعالى السلام والأمن، ويحييهم ربهم الحياة الطيبة والتحية العظيمة، سلام قولاً من ربكم سبحانه تبارك وتعالى، فيميز هذا التسليم بأنه قولاً من الله سبحانه تبارك وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ} [يس:58] خالق مالك يملك كل شيء، رحيم بعباده سبحانه تبارك وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].(317/2)
تفسير قوله تعالى: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم)
يقول الله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59].
قيل للمجرمين: تميزوا، تعالوا من هذه الناحية، يقال: ميزت الناس بعضهم عن بعض إذا فرقت بينهم، فيقال لهم: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، ابتعدوا عن المؤمنين، لستم معهم في الجنة، ولا لكم نور من نورهم، انحازوا إلى ذات الشمال، فيؤخذون إلى النار والعياذ بالله.
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، أجرموا في حق دينهم أجرموا في حق ربهم سبحانه أجرموا في حق المؤمنين أجرموا في حق نبيهم عليه الصلاة والسلام، فقيل لهم: انحازوا إلى هاهنا، اجتمعوا إلى النار والعياذ بالله.
ويقول لهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، ألم أحذركم قبل ذلك من الشيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، ها هي السعير التي حذرناكم منها، وحذرناكم من اتباع الشيطان، فأبيتم إلا متابعة الشيطان حتى أرداكم في الجحيم.
((أَلَمْ أَعْهَدْ)) ألم أوص؟! وصيناكم وحذرناكم من الشيطان، {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، ألم نقل لكم قبل هذا: لا تعبدوا الشيطان من دون الله، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]، عداوته ظاهرة بينة واضحة، قد أخبرناكم عن عداوة الشيطان، كيف فعل بآدم وأخرجه من الجنة، وكيف فعل بكم وتوعدكم بأن يجعلكم في النار، قد قلنا لكم ذلك، وقد أعذرنا إليكم فلا عذر يقبل منكم اليوم.
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس:61] اعبدوا ربكم وحده لا شريك له، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61].
(وأن اعْبُدُونِي) بالكسر في النون، هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب وحمزة وعاصم.
وباقي القراء يقرءونها بالضم، كأنهم استثقلوا أن يكون كسر بعده فتح: (وأن اعُبُدُونَي) كأنها أسهل في النطق، (وأن اعُبُدُونَي هذا صراط مستقيم).
كذلك: (صراط) تقدمت قبل ذلك أن قنبلاً وورشاً يقرأانها بالسين: (هذا سراط مستقيم)، ويقرؤها خلف عن حمزة بإشمام الصاد زاياً فيقرأها: (هذا زراط مستقيم) والمعنى واحد، وباقي القراء بالصاد المكسورة: (هذا صراط مستقيم)، ولا يبدو على الصاد تفخيم؛ لأنها ليست مضمومة ولا مفتوحة، ولكنها مكسورة بأقل الدرجات فيها.
فتقرأ: (هذا سراط) (هذا صراط) (هذا زراط)، والمعنى: هذا طريق، يعني: طريق الله سبحانه طريق لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ومن تابع دين الله سار إلى جنة الله سبحانه.
{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61]، ما بيناه لكم ودللناكم عليه كان هو الصراط المستقيم الذي سوف يقودكم إلى الجنة.(317/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62].
(جبلاً) فيها أربع قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم: (جِبِلًّا كثيراً) بالكسر للجيم والباء وباللام المشددة المنصوبة.
قراءة روح عن يعقوب: (جُبُلًّا كثيراً) بضم الجيم والباء وبتشديد اللام أيضاً.
قراءة أبي عمرو وابن عامر: (جُبْلاً كثيراً)، بالتخفيف فيها وبتسكين الباء.
قراءة باقي القراء: ابن كثير وورش وحمزة والكسائي وخلف: (جُبُلاً كثيراً) بضم الجيم والباء وبعدم تشديد اللام.
فتكون القراءات: (جِبِلًّا)، (جُبُلًّا)، (جُبْلاً)، (جُبُلاً).
ومعانيها كلها راجعة إلى الجبلة الخلقة، فالجُبُل هنا أو الجِبِل معناه: الخلق الكثير.
فقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62]، ((جِبِلًّا))، أمة، قالوا: الجبل يطلق على مائة ألف، ويطلق على أكثر من ذلك، والخلق ليسوا مائة ألف، فاحتاج أن يقول فيها كثيراً، أمماً كثيرة، ملايين من الخلق أضلهم الشيطان وأغواهم عن طريق الرحمن.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]، كل الذي أريناكم من آياتنا في هذا الكون، ومن آيات كتاب ربكم، وما رأيتم من نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما حذرناكم من الشيطان، لا يوجد عندكم عقل تعقلون وتعرفون أن هذا هو الحق من عند الله، تركتم هذا واتبعتم الشيطان من دون الله تبارك وتعالى.(317/4)
تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي كنتم توعدون)
قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63].
(هذه جهنم) الهاوية والعياذ بالله، جهنم النار المسعرة، وذكرنا قبل ذلك أن جهنم اسم من أسماء النار، وكأنها الدركة السفلى فيها، وهي مأخوذة من قول العرب: هذه ركية جهنام، أي: بئر بعيدة القرار، فاسمها جهنم يعني: بعدية القعر، التي يلقى الحجر من شفيرها فيصل إلى قعرها في سبعين سنة، كم عمق هذه النار، كم طولها وكم عرضها، نسأل الله العفو والعافية.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]، التي أخفناكم منها، وقلنا: وعداً علينا حقاً أن نملأ الجنة من المؤمنين، وأن نملأ النار من الغاوين.
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} [يس:64]، (اصلوها) يصلى الشيء بمعنى: يحترق فيه، يصلى الفرن معناه: يدخل فيه فيحترق، فيقول: عانوا حرارتها، قاسوا من لهيبها.
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} [يس:64] لماذا؟ هل قال: لأننا قدرنا عليكم ذلك؟ لا، {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:64]، كفرتم؟ يقولون: نعم كفرنا، فإذاً ادخلوا النار جزاء بما كنتم تكفرون: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:64].
هذه جهنم البشعة الفظيعة التي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال عنها: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
تخيل هذا العدد الضخم! هذه جهنم خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، وجعلها عذاباً لمن عصاه سبحانه، هي عظيمة، وقد وعدها الله عز وجل أن يملأها ممن كفر وممن عصاه سبحانه وتعالى، ولا تشبع أبداً، كلما ألقي فيها فوج تقول: هل من مزيد، حتى يسكتها الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط)، حينها تسكت ولا تطلب المزيد.
يلقى فيها الأفواج وتسألهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} [الملك:8 - 11] بعداً وهلاكاً وتدميراً، {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11].
جهنم يأتي بها الملائكة يوم القيامة على هذه الهيئة، ضخمة جداً، ملائكة الله خلقهم الله سبحانه من نور، فهم قوة عظيمة جداً، ويكفي أن ملكاً من ملائكة الله سبحانه أهلك قرى المؤتفكة وحده، نزل جبريل فرفعهم بجناحه فقلبهم، قال سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55].
ملائكة الله أقوياء، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، يأتون يوم القيامة بأمر الله يحملون جهنم إلى الموقف، إلى حيث يريد الله تبارك وتعالى، ولها سبعون ألف زمام، والزمام هو المكان الذي يمسك منه الشيء، تقول: الحل أن أمسكها بيدها.
أما جهنم والعياذ بالله فلها سبعون ألف يد تمسك منها، كل يد من هذه الأيدي وكل زمام من أزمتها عليه سبعون ألف ملك.
(يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)، كم يكون هذا العدد؟! لو ضربنا سبعين ألفاً في سبعين ألف تساوي أربعمائة وتسعين مليوناً من ملائكة الله عز وجل يحملون جهنم، يؤتى بها ليخيف الله عز وجل بها من يشاء من خلقه.
وذكر في الحديث: (أنه يخرج عنق من النار له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، فيقول: وكلت بالجبارين، وكلت بالمتكبرين، وكلت بالمصورين)، وكل هذا العنق بأن يخطفهم من الموقف إلى نار جهنم، فيخطف، الإنسان الجبار العاصي لله سبحانه، المتجبر على خلق الله، القاسي القلب، العنيف الشرس في طباعه، يأخذ الناس بالقوة والقهر، يأخذ ما في أيديهم.
وبكل متكبر، إنسان فيه كبر، يختال بنفسه، ويرى نفسه أفضل من غيره من الخلق، فيوكل به عنق النار، فيأخذ هذا المتكبر من الموقف، ويلقيه في النار والعياذ بالله.
والثالث المصور، الإنسان الذي يصنع الصور، ويرسمها أو ينحت التماثيل وغير ذلك، وكل هذا العنق بهذا الذي يشبه نفسه بالخالق سبحانه وتعالى في النحت والتصوير.(317/5)
تفسير قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم)
قال تعالى: {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
حضروا الموقف أمام رب العالمين، فلما سألهم أجابوا {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]، ومن حاول أن يكتم الله حديثاً أنطق عليه أعضاءه فاعترفت عليه يوم القيامة.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس:65]، وجاء في صحيح مسلم من حديث أنس: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، انظروا العبد يوم القيامة، ما زال يجادل ربه: يا رب! ألست حرمت الظلم على نفسك، وأنت أجرت من الظلم عبادك؟ فيقول الله سبحانه: (بلى، فيقول هذا العبد الحقير: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، يقول: لا أريد ملائكة تشهد علي، أنا أشهد على نفسي، يظن أن ذلك ينفعه.
قال: (فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فِيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام)، شهدت عليك أعضاؤك بما عملت في الدنيا، فيقول يدعو على نفسه: (بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل) يعني: كان يدافع عن نفسه، عن أعضائه التي أوبقته وشهدت عليه، ضحك النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العبد المغرور الأحمق الذي يظن أنه يخدع رب العالمين سبحانه وتعالى يوم القيامة.
وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك)، وهو يتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟! العبد يوم القيامة يقول لله: لا أريد أحداً يشهد علي إلا نفسي، قال: (فيختم على فِيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه)، أنت الذي قلت على نفسك، وأنت الذي اعترفت على نفسك، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه، يقول هذا الشيء من أجل أن يأخذ عذاباً فوق العذاب؛ لكفره في الدنيا وكذبه في الآخرة.
وروى الترمذي عن معاوية بن حيدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار تجاه الشام، فقال: من هاهنا تحشرون، ومن هاهنا إلى هاهنا تحشرون، ركباناً ومشاة، وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام).
يحشرون يوم القيامة، إنسان يقوم من قبره فيحشر ماشياً، إنسان يحشر راكباً يوم القيامة، إنسان يحشر على وجهه، ويجرجر على وجهه، قال النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث حسن-: (وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام)، الفدام: مصفاة من قماش توضع فوق الكوز بحيث يصفي الشراب الذي فيه، المعنى: توضع كمامة على أفواهكم فلا ينطق أحدكم.
(توفون سبعين أمة، أنتم خيرهم وأكرمهم على الله، وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه)، أول ما ينطق من الإنسان ويشهد عليه فخذه وكفه.
هنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه فيتحدث ماذا عمل، وينطق عليه جلده وعظامه، ويده، وفي النهاية فمه يتكلم فيدعو على نفسه بالهلاك كما ذكرنا.
يقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] تنطق الأيدي، {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65]، وهذا من التفنن في القرآن العظيم، لم يقل: تكلمنا أيديهم وتكلمنا أرجلهم، ولكن ذكر أن كل عضو ينطق ويتكلم، ففصل فذكر أن الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد، كأنه أقامها مقام الشاهد؛ لأن الإنسان غالباً ما يصنع أفعاله بيده، فكأن اليد بعيدة عن الرجل، والرجل شاهدة على اليد بما فعلته، وعلى الفم بما قاله، فذكر الفخذ وذكر الرجل؛ لأنها شاهدة عليه.
{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] ضربت فلاناً، أخذت مال فلان، سفكت دم فلان، والرجل تشهد على هذا الإنسان وعلى هذه اليد بما صنعت: {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، بما اجترحوا في هذه الدنيا، بما أصابت جوارحهم فيها، تشهد هذه الأيدي وتتكلم، وتشهد الأرجل بما كانوا يكسبون.
{وَلَوْ نَشَاءُ} [يس:66]، لو يشاء الله سبحانه وتعالى، لطمس على أعينهم في الدنيا، وإن فسرت بأنه في الآخرة، ولكن الأوجه أنها في الدنيا، فهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا} [يس:66]، والطمس: إزالة الأثر، تقول: طمست الريح الأثر، بمعنى: أزالت الأثر، {عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:66]، الصراط الطريق، وفيه من القراءات ما ذكرنا قبل ذلك، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:66].
والمعنى: لو شئنا لطمسنا على أعينهم وقتما كفروا ووقتما عصوا الله تبارك وتعالى، وفي المكان الذي مارسوا فيه الرذيلة، لو أردنا كنا عميناهم في هذا المكان، ثم يرجعون يتحسسون بيوتهم فلا يرون شيئاً في الطريق، {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:66] أي: طريق رجوعهم إلى بيوتهم، فلا يعرفون كيف يهتدون إلى بيوتهم، لو نشاء لعجلنا لهم العقوبة في الدنيا، {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:66].
الجمهور يقرأها: (الصراط) بالصاد، وسيقرؤها قنبل وورش بخلف: (السراط) بالسين، وسيقرؤها حمزة بخلف خلاد لأن قبلها ألف ولام، وهنا سيدخل خلاد مع خلف فيها، ولكن بخلف يقرؤها بإشمام الصاد زاياً: (الزراط).
{فَأَنَّى} [يس:66] كيف، {يُبْصِرُونَ} [يس:66].
وهذه (أنى) يفتحها الجمهور: (أنَّى).
وبخلفه الأزرق عن ورش وكذلك الدوري عن أبي عمرو ويقرأ: (فأنى) بالتقليل فيها.
ويقرؤها الكوفيون غير عاصم بالإمالة فيها: (فأنِّى يبصرون).
وأنى بمعنى: كيف يبصرون ويهتدون الطريق ليرجعوا إلى بيوتهم وقد أعميناهم؟! {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:67]، المكانة: المكان الذي يزاولون فيه معصيتهم ويمكثون فيه، لو أردنا كنا مسخناهم قردة وخنازير، وقد فعل بالبعض من عباده، ولو شاء لفعل بهؤلاء أيضاً من كفار قريش.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:67] هذه قراءة الجمهور.
وقراءة شعبة عن عاصم: (على مكاناتهم) بالجمع فيها.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس:67]، كنا مسخناهم قردة وخنازير، أو جعلناهم جمادات صوراً وتماثيل، فما قدروا لا مضياً للأمام ولا رجوعاً إلى الخلف، ولكننا أخرنا عنهم العذاب؛ لعل بعضهم يتوب، ويوم القيامة يجدون من عذاب الله سبحانه أهوالاً وأهوالاً.(317/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)
قال الله سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68].
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} [يس:68]، من نعطيه عمراً يعيش حتى يجاوز الستين السبعين الثمانين المائة، إذا عمرناه نكسناه، والإنسان في حياته يمشي في منحنى سنه وهو صغير من الصفر، ثم يستمر في الزيادة إلى أن يعلو إلى أقصى قوته وشبابه وصحته، ومن ثم يأتي منحنى النزول بعد ذلك حتى يصل إلى الصفر، ويدخل إلى قبره.
فالإنسان كلما ازداد عمره في طاعة الله كلما كان خيراً له، فيستغل الإنسان حياته وصحته وشبابه في أن يعبد الله سبحانه، وإذا اكتمل الشباب واكتمل للإنسان القوة فما بعد الكمال إلا النقصان، فبعدما كان يقدر على أن يصلي قائماً يصلي قاعداً، بعدما كان يصلي قاعداً يصلي وهو مضطجع، بعدما كان يعقل الصلاة يتوه فيها ولا يستطيع أن يقرأ شيئاً، وينسى الصلاة، ويقول له أولاده: صل، كبر، قل باسم الله، قل كذا.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} [يس:68] يعمر عمراً طويلاً في النهاية {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68]، يرد إلى أرذل العمر.
وانظر إلى الفرق بين الصبي الصغير والشيخ الكبير، الصبي الصغير يحبه أهله ويعذرونه فيما يخطئ به، ولكن الشيخ الكبير يتململ منه الكل، لا أحد يطيقه، إذا أخطأ فهو غير مقبول عندهم، إذا مرض لا أحد ينظر إليه، فانظر إلى الفرق بين الصغير والكبير، فالشيخ الكبير وصل إلى مرحلة في العقل كالصبي الصغير لا يفهم.
ولكن هذا مستحسن في الصبي ومستقبح في الكبير، وقد سماه الله عز وجل أرذل العمر.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ} [يس:68]، والتنكيس القلب، والكوز المنكس بمعنى: المقلوب المجخى.
(نُنَكِّسْهُ) هذه قراءة عاصم وحمزة.
وباقي القراء يقرءونها: (نَنْكُسُهُ)، أي: نرده ونقلبه مرة ثانية إلى مرحلة عدم العقل وعدم الفهم، والنسيان والضعف، فيصبح ضعيفاً شيخاً كبيراً ينسى كثيراً.
{أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]، يريدون أن يعيشوا عمراً طويلاً، ماذا يريدون من الحياة، ومن نعمره هذا حاله.
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر، ويقول: (أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)، فيتعوذ بالله سبحانه تبارك وتعالى من ذلك.
وأيضاً كان يخبر أصحابه ويقول: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، طالما الإنسان في خير وعبادة لله وطال عمره كان خيراً له، والإنسان الذي هو في المعاصي يرده الله عز وجل إلى أرذل العمر فينكسه الله سبحانه ويصير عبرة للخلق.
(أفلا يعقلون) وهذه قراءة الجمهور.
ويقرؤها نافع وأبو جعفر وابن عامر بخلفه ويعقوب: (أفلا تعقلون)، فهما قراءتان، (أفلا يعقلون) على الغيب لهؤلاء، (أفلا تعقلون) على الخطاب للجميع، أي: (أفلا تعقلون) ما بصرناكم فتعملون لهذا اليوم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(317/7)
تفسير سورة يس [69 - 83]
يدلل الله عز وجل على قدرته وملكوته وجبروته بما نشاهده مما بسط علينا من النعم والخيرات والبركات، فرزقنا وسخر لنا كل شيء من بحار وأرض وسماء وحيوانات وأنعام، وما نستفيد منها في الأكل والشرب والكساء، ومع هذا كله تجد من يعبد غير الله تعالى، وينكر البعث والجزاء، وقد رد الله عليهم وأفحمهم في الجواب.(318/1)
تفسير قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة (يس): {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:69 - 76].
في هذه الآيات -من آخر هذه السورة الكريمة سورة (يس) - يخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سبحانه ما علمه الشعر، وما من شيء تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وربه الذي يعلمه إياه سبحانه.
فعلمه من الغيب ما شاء سبحانه وتعالى، وأخفى عنه من الغيوب ما شاء، أنزل عليه الكتاب وحفظ هذا الكتاب، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يتعجل في حفظ كتاب الله سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
فنهاه عن التعجل، وكان يحاول أنه أول ما ينزل عليه جبريل بالقرآن أن يقرأ مع جبريل، فعلمه الله أن من أدب التعلم أن تستمع، فإذا استمعت ووعيت ذلك حفظناك وبينا لك معانيه.
قال له سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:16 - 17] لك في صدرك {وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] وقراءته لك، فتقرأ هذا القرآن بعدما يقرأ جبريل وليس مع قراءة جبريل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:17 - 18]، تتبع جبريل وهو يقرأ، وتعلم منه ذلك وأنت تنصت له وتستمع لما يقرؤه عليك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 - 19] نبينه لك بعد ذلك، الله هو الذي يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعب سنحفظك وسنعلمك.
فما من شيء تعلمه إلا من فضله سبحانه، ومنعه عن أشياء لا يتعلمها صلى الله عليه وسلم، ومنها: الكتابة والقراءة، ولكن (يقرأ) بمعنى يحفظ، أما الكتابة فلم يكن يكتب، وهذه للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة، أنه نبي أمي صلوات الله وسلامه عليه، هكذا وصفه ربه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلَ} [الأعراف:157].
فهو أمي صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله يحفظه ويعلمه ما يشاء، فصفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر من معجزاته، من أنه تعلم هذا العلم كله وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا ربنا تبارك وتعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] الشعر من علوم البشر يتعلمه الناس ويجيدونه فيتكلمون به، ويكون للبعض من الناس مدحة أنه يفهم الشعر ويجيده ويتكلم به، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له ذلك؛ لأنه لو كان يقول الشعر كما يقول الناس لصدق عليه قول المشركين حيث قالوا: هذا شاعر، وبدأ يلفق أشياء من الشعر ويغير أوزانها ويقول: هذا قرآن فلم يكن يقول الشعر صلوات الله وسلامه عليه، بل لعله إذا تكلم بأبيات من الشعر لا يهمه أن تأتي موزونة أو غير موزونة صلوات الله وسلامه عليه.
فربنا يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] ليس النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة من يتعلم الشعر، وقد ينبغي لغيره أن يتعلمه، فيتعلم العلماء من الشعر ويدرسونه ويقولونه ويتكلمون به، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممنوع من ذلك، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
وكان هذا آية من آياته صلى الله عليه وسلم، فعندما يأتي الكفار الذين يجيدون الشعر ويكلمون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لبعضهم: أنت الذي تقول كذا؟ فيقول البيت من الشعر ولا يحسنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم الرجل يسمع إليه يقول: صدق الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69].
فغيره صلى الله عليه وسلم يقوله ويجيده، أما هو فلا يقوله، وإن قال فيأتي بشيء من المصادفة، وانظر مثلاً في قول طرفة بن العبد قاله النبي: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك من لم تزود بالأخبار بيت مكسور، لكن انظر إلى صاحب البيت كيف قاله! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ما اهتم أن يأتي به موزوناً.
وكذلك لما قيل في رجل: إنه من أشعر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها وإن لم تطيب طيباً لكن الشاعر ما قاله هكذا، وإنما قال: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب كذلك رجل آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يمنحه ويعطيه مالاً، وجاء مع مجموعة من المؤلفة قلوبهم، منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فـ الأقرع لما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه هو وفرسه كالذي أعطاه لرجل آخر قال له: أتعطيني أنا والفرس مقدار الذي أعطيته لفلان؟! فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع الرجل يقول ذلك، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقاله ناداه وقال: أنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ انعكس البيت وانقلب سجعه الذي فيه، فالرجل تعجب من النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلاً لم يتعلم الشعر صلوات الله وسلامه عليه، ولا ينبغي له.
والنبي صلى الله عليه وسلم مكث أربعين سنة قبل الرسالة في مكة وما تعلم، قال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: غير ممكن، مع أن أعمامه وأجداده وأخواله يقولون الشعر وهو يسمع منهم ويشكرهم على ما يقولون كما قال العباس في النبي صلوات الله وسلامه عليه فشكره النبي صلى الله عليه وسلم.
أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يقول الشعر، ولا ينبغي له، يعني: هو ممنوع من أن يتعلمه صلوات الله وسلامه عليه، لا من قومه ولا بوحي من الله تبارك وتعالى.
جاء أن أبا بكر رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما قال الشاعر: هريرة ودع إن تجهزت غازياً كفى الشيب والإسلام بالمرء ناهياً فلما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أن يقوله، فما ينبغي له أن يتكلم بالشعر، سمع أبو بكر وعمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: نشهد أنك رسول الله.
يقول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: ليس له أن يتكلم بالشعر، فإذا جاء في كلامه شيء من الشعر فمن قبيل المصادفة أن يأتي ذلك، أما أنه يجيد قصيدة أو أبياتاً من الشعر وتكون موزونة كما قالها صاحبها فهذا نادر أن يقوله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان بسليقته كرجل عربي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع الشعر فكان يقول لـ كعب بن زهير هيه: هات من أبياتك، فيقول له بيتاً وبيتاً وبيتاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول من العرب، ولكن هو لا يتكلم بالشعر صلوات الله وسلامه عليه.
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ} [يس:69] هذا القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ} [يس:69] كتاب فيه التذكرة، وفيه ذكر للعرب وشرف لهم بأن ينزل هذا القرآن على نبيهم صلى الله عليه وسلم، {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] مفصح عما تحتاجون إليه من أحكام لدينكم ودنياكم وأخراكم.
وكما ذكرنا أن هذه آية من آياته عليه الصلاة والسلام، أما غيره فلا، لو أن أحداً قال: أنا لا أجيد الشعر، فهذه ليست مدحة له، فالإنسان يمدح بكثرة العلوم، ومن ضمن العلوم الشعر أن يتعلمه ويجيده ويقوله، وهو هبة من الله عز وجل يعطي من يشاء ما يشاء سبحانه.
ولكن أغلب الشعراء كما قال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:225 - 227] فهؤلاء هم الشعراء الممدوحون.
ولذلك جاء عن الخليفة المأمون أنه قال لـ أبي علي المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! أما اللحن فربما س(318/2)
تفسير قوله تعالى: (لينذر من كان حياً)
قال تعالى {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس:70].
أي: ينتفع بإنذار القرآن له من كان قلبه حياً وليس ميتاً ولا قاسياً، وليس قلبه في ظلمات الكفر، ولكن الإنسان الذي يستجيب هو الذي ينتفع بالبشارة والنذارة.
(لتنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) هذه قراءة بعض القراء منهم نافع وأبو جعفر وقراءة ابن عامر ويعقوب، وباقي القراء: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) أي: لينذر هذا القرآن وهذا الكلام العظيم من رب العالمين من كان حياً.
(وَيَحِقَّ) أي: لتكون النتيجة والعاقبة إحقاق ما قاله الله سبحانه على الكافرين أنه أقسم: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] فاستحق هؤلاء أن يحق عليهم قول رب العالمين سبحانه، وهناك معنى آخر في قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] أي: لتجب حجة الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الكافرين.
فنزل القرآن وربنا أعلم أنهم لم يستجيبوا، ولكن ليحق القول عليهم، ليروا أن هذا جاءهم بموعظة من عند الله وأنهم كذبوا، فإذا أدخلهم النار لم تكن لهم حجة على الله سبحانه.(318/3)
تفسر قوله تعالى: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71].
(أولم يروا) هذه الرؤية القلبية، أي: أولم يعتقدوا فيما يرونه من آيات الله سبحانه التي ينظرون إليها، ويعتبروا بذلك ويتفكروا؟ هلا اعتبروا بذلك؟! قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] أي: أبدعنا وأوجدنا، وخلقنا وصنعنا هذه الأشياء التي يرونها أمامهم: {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] والله سبحانه خالق كل شيء بـ (كن) فيكون ما شاءه الله سبحانه تبارك وتعالى.
والأنعام جمع نعم، والنعم تذكر وتؤنث، تقول: هذه بهيمة الأنعام، وهذا النعم، وهذه النعم، والأنعام تطلق على ثلاثة أشياء: على الإبل والبقر والغنم، فمما خلق الله عز وجل للعباد -وأكثر من يعايشون ذلك هم العرب- الإبل والبقر والغنم، فيرون خلق الله العظيم.
{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] يملكون هذه الأشياء، وإن كان الملك الحقيقي هو لله سبحانه وتعالى، ولكن جعلهم يملكونها ويتوارثونها، يشتريها بعضهم من بعض فيملك في هذه الدنيا.(318/4)
تفسير قوله تعالى: (وذللناها لهم فمنها ركوبهم)
{وَذَلَّلْنَاهَا} [يس:72] أي: سخرناها لهم.
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] الرَكوب غير الرُكوب، الرُكوب الفعل نفسه، والرَكوب: الدابة التي تركبها وهي فَعول بمعنى مفعول، أي: مركوبهم، فمنها ما يرَكبونه.
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72]، فيعدد عليهم النعم، هذه الأنعام لكم فيها منافع كثيرة، وذكر الله سبحانه: {مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] لكم فيها متاع، فتلبسون من جلودها وتصنعون منها الخيام والمتاع والريش.
قال سبحانه: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} [يس:73] فينتفعون بما شاء الله عز وجل منها، ويشربون من ألبانها وأوداكها وشحومها.
{أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:73] هلا شكروا الله تبارك وتعالى على هذه النعم العظيمة التي سخرها لهم وذللها لهم؟ هذه الأنعام أقوى من الإنسان بكثير، فالجمل العظيم، والبقرة والثور الكبير أقوى من الإنسان، ومع ذلك جعل الله عز وجل قياده بيد هذا الإنسان، يأتي الصبي الصغير فيمسك بالجمل ويمشي به، ولعله يضرب الجمل حتى يجري، فسخر هذا الشيء الضخم الكبير لهذا الطفل الصغير، والله على كل شيء قدير سبحانه، آية من آيات الله تبارك وتعالى.(318/5)
تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون)
{أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:73] هلا شكروا الله سبحانه على نعمه العظيمة وتدبروا في ذلك؟! لا، لم يفعلوا، بل قد {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [يس:74] فعبدوا غير الله سبحانه.
ولماذا عبدوا غير الله؟ {لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74] يظنون أنهم ينتصرون بهؤلاء، فهذا جهل مطبق، وغباء عجيب في هؤلاء.
عبدوا غير الله وهم يعلمون أن الذي خلق هذه البقرة هو الله، والذي خلق لنا هذا الطعام هو الله، من تعبدون؟ قالوا: نعبد هذه الأصنام ولا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا يعبدونهم؟ قال: {لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74] فإذا حصلت بينهم حروب أتوا على شجرة يعبدونها من دون الله ويتبركون بها ويعلقون عليها أسيافهم؛ من أجل أن تأتي البركة في السيوف فيعرفوا كيف يقاتلون.
ولذلك فإن بعض الصحابة ممن كان قريب عهد بالإسلام خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فإذا بهم يجدون الكفار يعلقون أسيافهم بشجرة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، أي: اتخذ لنا شجرة نعلق عليها سيوفنا ونأخذ منها البركة مثل هؤلاء.
قال: (الله أكبر، قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وهل تؤخذ البركة إلا من الله تبارك وتعالى! فالمقصود: أن الإنسان الذي يكفر يتوجه إلى أشياء حقيرة مثله يطلب منها البركة والنصرة، فهؤلاء إذا خرجوا لقتال ذهبوا إلى أصنامهم يطلبون منها أن تنصرهم، وهم يعرفون أنهم هم الذين صنعوا هذه الأصنام.(318/6)
تفسير قوله تعالى: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)
قال سبحانه: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يس:75] أين هذه الأشياء التي تنصرهم.
{وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] (وهم) أي: المشركون، (لهم) لأصنامهم (جند محضرون) في الدنيا وفي الآخرة.
الكفار يعتقدون أنهم هم المدافعون عن هذه الأصنام، والحراس لها، لا أحد يقدر أن يأتي إلى جنب الصنم، فسيقتلونه دفاعاً عن أصنامهم، فكأنهم يتشرفون بعبادة هذه الأشياء الحقيرة، فجندوا أنفسهم لها يعبدونها من دون الله، ويدافعون عنها، وعجيب هذا الأمر، وهل الإله يحتاج إلى من يدافع عنه؟! شيء مغلوط معكوس من هؤلاء الأغبياء، فيعبدونها لعلها تنصرهم، قال سبحانه: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] في الدنيا هؤلاء المشركون يعتقدون أنهم جنود هذه الآلهة ينصرونها ويدافعون عنها، ويحضرون عندها للدفاع عنها.
فإذا جاءوا يوم القيامة كانوا أيضاً محضرين لهذه الآلهة، ففي صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم القيامة في حديث طويل جداً، وفيه أن الله عز وجل يقول للخلق: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه الآن؟ فيقولون: بلى فيمثل لمن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت)، فعباد الشمس تمثل لهم يجرون وراءها إلى النار، وعباد القمر تمثل لهم القمر فيجرون وراءها إلى النار، وكذلك عباد الصليب من دون الله وعباد المسيح يمثل لهم شيطان على هيئته فيتبعونه إلى النار، وعباد عزيز يمثل لهم شيطان على هيئته فيتبعونه إلى النار! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت)، يعني: الأصنام التي عبدوها من دون الله عز وجل تمثل لهم يوم القيامة، فيقال: هذه التي كنتم تعبدونها؟ يقولون: نعم هذه التي كنا نعبد، فيقال: اتبعوها، فيكونون كالجنود وراء قائدهم تهوي بهم في النار والعياذ بالله.
فقول الله سبحانه: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] أي: في الموقف يوم القيامة، ومحضرون في نار جهنم والعياذ بالله.(318/7)
تفسير قوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم)
قال تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:76] يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم، أن لا تحزن على هؤلاء: {فَلا يَحْزُنْكَ} [يس:76] هذا من الفعل الثلاثي (حزن)، ويأتي من الفعل الرباعي (أحزن)، وقراءة نافع فيها (فلا يُحزِنك قولهم) بكسر الزاي.
وهنا وقف لازم: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:76] أي: قولهم إنك ساحر وكاذب وكاهن، فلا تحزن من أقوالهم فقد قيل هذا القول عن الأنبياء من قبلك.
{إِنَّا نَعْلَمُ} [يس:76] هذا استئناف كلام جديد، {مَا يُسِرُّونَ} [يس:76] ما يكتمون، {وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76] يعني: هم وإن أعلنوا لك أنك كاذب فنحن نعلم أنهم في سرهم يعتقدون أنك صادق، ولكن الغيرة والحسد دفعهم إلى هذا الشيء: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76].(318/8)
تفسير قوله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] الإنسان جنس يشمل أي إنسان، ولكن الآية نزلت في مكة على أسباب مخصوصة، فيقال في هذا: إنه من العموم الذي يراد به الخصوص، وقد يراد به عموم الناس.
قالوا: هو عبد الله بن أبي بن سلول وقيل: بل هو العاص بن وائل السهمي وقيل: هو أبي بن خلف الجمحي، قالوا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم فقال: يا محمد! أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم؟! أي: هذه العظام البالية أتزعم أن ربك يبعثها مرة ثانية؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم.
ويبعثك ثم يدخلك النار)، فالله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآية في هذا السبب، وكونها نزلت في عبد الله بن أبي قول بعيد قليلاً وإن كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن عبد الله بن أبي كان في المدينة، وهذه الآية مكية وليست مدنية.
الغرض أن الله قال لمن قال ذلك ولغيره: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} [يس:77] إذا أراد جنس الإنسان يكون عاماً {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] النطفة: الماء الذي ينطِف أو ينطُف، نطف الماء بمعنى: سال وخرج صافياً قل أو كثر، وقد تطلق النطفة أيضاً على الماء القليل، والمقصود به هنا المني.
{أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس:77] من مني: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77].
(خصيم): مخاصم مجادل يجادل بالباطل.
(مبين): مفصح عما يريد أن يقوله، فهو بين الخصومة والجدل، كما قال الله عز وجل عنهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] قوم كثيرو الجدل، كم أتعبوا النبي صلى الله عليه وسلم بجدالهم وبباطلهم!(318/9)
تفسير قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه)
قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا} [يس:78] يعني: هذا الإنسان، {مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] جاء بعظمة رأس إنسان يفتها في يده ويقول: هذا شيء قد أرم فكيف يعاد؟! {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] نسي كيف خلقناه.
{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78].
والرميم: البالي القديم العتيق.
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] قل لهذا الإنسان: الذي خلقها أول مرة أليس قادراً على إعادتها؟! {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
كل خلقه الله عز وجل، فهو أعلم بهم، هو بدأهم ويميتهم ويعيدهم مرة ثانية، وهو على كل شيء قدير: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا} [يس:79] من العدم أول مرة {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].(318/10)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً)
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80] فجعل لهم آية، فقال: ألا تتعجبون عندما ترون الشيء ونقيضه؟! {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80] فهذه الأشجار التي بداخلها الماء، فإنه يطلع من الجذوع إلى الساق فيروي أوراق النبات وثماره.
فالشجرة أكثر تكوينها الماء، فهذا الشجر المكون من الماء إذا أحرق يحترق، وأعجب منه أنه هو يأتي بالنار، ولذلك عند كان العرب مثل معروف يقول: (في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار).
ف هناك شجرتان من أشجار البوادي عند العرب، يأخذ الغصن الطري من الشجرة، ثم يأخذ غصناً من الأخرى فيضع واحداً فوق الآخر، ثم يضرب هذا على هذا فتخرج له ناراً، فقالت العرب: (واستمجد المرخ والعفار) أي: أنه احتوى من النار الكثير.
فيقول: ألا تعجبون من هذه الأشياء التي خلقها الله عز وجل؟! هذا غصن طري في يدك بداخله ماء تضرب به على الغصن الآخر فتخرج لك منه نار؟! ألا تعجب من قدرة الله سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80].(318/11)
تفسير قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم)
قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81].
فهذا سؤال والجواب عنه معروف: بلى إنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير! {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ} [يس:81] الله الخالق العظيم، {بِقَادِرٍ} [يس:81] هذه قراءة الجمهور، وقرأها رويس عن يعقوب (يقدر).
الله خالق كل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ} [يس:82] في غاية السهولة، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس:82] إذا قضى أمراً أو أراد تكوين شيء، {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس:82] بقول: (كن) فيكون الشيء الذي يريده الله تبارك وتعالى.
{كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] هذه قراءة الجمهور بضم آخرها (فيكونُ) فيترتب على ذلك التكوين، ويقرؤها ابن عامر والكسائي (فيكونَ) كأن فيها (أن) محذوفة، فالتقدير (فأن يكون) يعني: هذا الشيء؛ ولذلك استحسنوا لمن يقرأ بقراءة الجمهور على الضم أنه يروم آخرها أو يشم آخرها يعني: يبين أن القراءة بالضم، خلاف القراءة الأخرى التي بالفتح.
قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] الملكوت: الملك العظيم.
فسبحان الله: تنزيهاً لله تبارك وتعالى وتعظيماً وتقديساً لله الذي بيده الملكوت.
والملكوت فعلوت صيغة مبالغة من الملك يعني: ملك عظيم، وملك الله سبحانه عظيم.
(وإليه تُرجعون) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (وإليه تَرجعون) المرجع إلى الله سبحانه للجزاء والحساب، للجنة أو للنار، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(318/12)
تفسير سورة الصافات [1 - 4]
لقد أنزل الله القرآن العظيم، وجعل فيه من العظمة ما يستهوي النفوس لسماعه، ومن أوجه هذه العظمة: أن الله قد يقسم في بدايات بعض السور بمخلوقاته العظيمة كالملائكة وغيرها، وقسم الله بالمخلوق حق له، فيقسم بما يشاء، ولا يقسم العبد إلا بالله، وقسم الله بالملائكة يدل على عظمتها، ومن صفاتها أنها تصف بين يدي الله لإجابة أمره، وتزجر عن القبيح بما ينزل الله معها إلى أنبيائه، وهي أيضاً تتلو كتب الله على أنبيائه وتدارسهم ما أنزل الله تعالى عليهم.(319/1)
مقدمة بين يدي سورة الصافات
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:1 - 10].
هذه هي السورة السابعة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الصافات، وهي سورة من السور المكية في كتاب الله عز وجل، وفيها خصائص السور المكية كما سيأتي فيها.
وسورة الصافات آياتها مائة وإحدى وثمانون آية على العد البصري وعد أبي جعفر، ومائة واثنان وثمانون آية على عد باقي القراء، وكما ذكرنا في غيرها من السور أن اختلاف القراء في عدد الآيات هو بحسب الوقف، أي: هل هذه رأس آية أم هي جزء من الآية، فبناء على ذلك يختلف العد، وليس المعنى أنه يوجد آية زائدة عن الآيات في العد الآخر، وإنما العد بحسب الوقف نفسه، ولذلك سيختلف القرَّاء هنا في الوقوف كما في الآية: {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:8]، يقف غير البصري على {دُحُورًا} [الصافات:9]، فوقف على كلمة {دُحُورًا} [الصافات:9].
كذلك في قوله سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22]، يقف عليها على أنها رأس آية غير البصري {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23].
كذلك قوله: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} [الصافات:167] غير أبي جعفر يقف عليها، وأما أبو جعفر فيصلها بما بعدها.
إذاً: الخلاف في عد الآي هو بسبب أين يقف، هل على رأس هذه الآية فيعتبر هذه رأس آية أم على جزء من الآية التي تليها ويعتبر ذلك الجزء آية؟(319/2)
سبب تسمية السورة بهذا الإسم
سورة الصافات اسمها مأخوذ من بدء هذه السورة، وهو قول الله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]، أقسم الله عز وجل بالصافات، فسميت بسورة الصافات؛ لكون هذه الكلمة مذكورة فيها، وإن كانت هذه الكلمة مذكورة في سورة النور وفي سورة الملك، ولكن هناك ذكر الطير صافات، وهنا قصد الملائكة، وهذه السورة نزلت قبل سورة الملك، فسميت بسورة الصافات باعتبار أول آية فيها {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1].
هذا باعتبار نزول السورة في ترتيب النزول، وأما في ترتيب نزولها من بين السور فهي السادسة والخمسون في ترتيب النزول، أما في ترتيب العد المصحفي فترتيبها في المصحف السابعة والثلاثون في العد، ولكنها السادسة والخمسون في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الأنعام، وسورة الأنعام سورة مكية وهذه بعدها، وقبل سورة لقمان التي قدمنا ذكرها قبل ذلك.(319/3)
أغراض السورة
هذه السورة سورة مكية، ففيها أغراض السور المكية، وفيها الخصائص والميزات التي هي موجودة في السور المكية، والسور المدنية فيها التشريع فيأتي فيها الأحكام والأوامر والنواهي، والسور المكية فيها ترسيخ أمر العقيدة، وتوحيد الله سبحانه تبارك وتعالى في قلوب الخلق، ودفع الشرك عن الخلق، وبيان ما يعبدون من دون الله وأنها لا تنفع لا تضر، وبيان أن الإله الحق المستحق للعبادة هو الرب سبحانه تبارك وتعالى الذي يقدر على أن يخلق، وعلى أن يرزق ويدبر الكون سبحانه تبارك وتعالى.
إذاً: هذه السورة الغرض منها إثبات وحدانية الله سبحانه تبارك وتعالى، وسوق الدلائل على تلك الآيات التي تدل على أنه وحده هو الذي يستحق العبادة، وأنه وحده المنفرد بالخلق وبتدبير الكون في العالم العلوي والعالم السفلي، بل في كل شيء قد انفرد بالخلق سبحانه، فله الخلق وله الأمر، فهو الذي يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى.
وفيها أيضاً الإشارة إلى البعث والنشور وإثبات الحشر والجزاء يوم القيامة، وفيها وصف حال المشركين يوم الجزاء وكيف يفعلون وكيف يندمون على ما قصروا وما فرطوا في هذه الحياة الدنيا، وكيف يقع بعضهم في بعض، ويدعو بعضهم على بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وفيها وصف أحوال المؤمنين بأن الله سبحانه ينجيهم وأنه يدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك يذكر في هذه السورة حال المؤمنين وفرحهم بدخولهم الجنة، وكيف أنهم كما قال تعالى: {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، وكيف ذكر أحدهم {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، وأنهم تكلموا وهم في الجنة، وأخبرنا الله عز وجل عن فرحهم وسرورهم وكلام بعضهم لبعض فيها، وكيف أن الله ثبتهم في هذه الدنيا وثبتهم يوم القيامة حتى أدخلهم الجنة.
ثم انتقل إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وأن الذي دعا إليه هو الذي دعت إليه الأنبياء والرسل قبله صلوات الله وسلامه عليه وأن الدعوة واحدة، والله عز وجل كما جعل لهؤلاء السابقين أعداء ونصرهم عليهم سبحانه تبارك وتعالى، وحقت كلمة الله سبحانه أن رسله هم المنصورون وأنهم هم الغالبون، كذلك يذكر لنبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سينصره سبحانه كما نصر هؤلاء السابقين.
وكذلك ذكر الله هنا شيئاً من مناقب الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، الذين دعوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وخاصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو إمام الأنبياء، فذكر الله كيف أن إبراهيم هاجر إلى ربه سبحانه، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:99 - 101]، وذُكر في السورة قصة الذبيح؛ حتى نعلم كيف أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام استحق أن يكون خليل الرحمن بصبره على ابتلاء الله عز وجل له، وبتنفيذه جميع أوامر الله سبحانه، وبتقديمه ما يحب الله على ما يحبه هو عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم ذكر الله المشركين وكيف أن اعتقاداتهم اعتقادات فاسدة، وأنهم كذبوا ربهم وتعجبوا مما لا يتعجب من مثله، كقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فيعجبون من غير أن يستدعي الأمر عجباً! وذكر الله أنهم كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن العظيم، والله عز وجل يجيب ويرد عن نبيه صلى الله عليه وسلم ويعده بالنصر على هؤلاء الكافرين.
وقد بدأ هذه السورة بقوله سبحانه تبارك وتعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]، فذكر ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى وختم هذه السورة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ} [الصافات:171 - 174]، وقوله تعالى: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:179 - 181] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، فبدأ بذكر الملائكة، وانتهى بذكر رسل الله سبحانه، ونصر الله سبحانه لأنبيائه على الكفار.(319/4)
تفسير قوله تعالى: (والصافات صفاً)
قال الله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات:1 - 3] هذه أقسام يقسم بها الله عز وجل تناسب الحال، فقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} تناسب عظمة الله سبحانه تبارك وتعالى.
أي: الملائكة التي تصف أجنحتها وتقف صفوفاً بين يدي ربها سبحانه تبارك وتعالى، والملائكة خلق عظيم خلقهم الله عز وجل من نور، وجعل لهم قوة عظيمة جداً، فهم ملائكة الله الذين قال فيهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ومنهم جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته التي خلق عليها مرتين فقط، وخلقه يسد ما بين السماء والأرض وله ستمائة جناح، نزل على قرية واحدة فقلب هذه القرية على أهلها كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55].
ومن الملائكة خازن النار مالك الذي يناديه أهل النار {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ومنهم ميكائيل الذي يأتي بالقطر ويسوق السحاب ويأتي بالمطر من السماء، والناس يسمعون صوت الرعد ويرون البرق فيصيبهم الفزع والهلع والخوف وما ذلك إلا من ملائكة الله الذين يجعل الله عز وجل في أيديهم ما يدبر به أمر خلقه سبحانه تبارك وتعالى.
وأما إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصور، فيميت الله عز وجل جميع الخلق بهذه النفخة، ثم يأمره أن ينفخ نفخة الإحياء فينفخ فيقوم الناس من قبورهم فزعين.
والملائكة يسمعون ويطيعون ويعبدون الله سبحانه، مع قوتهم الهائلة فهم الصافون بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، أي: يقفون صفوفاً بين يديه خائفين وجلين، فإذا سمع الملائكة الأمر من عند الله سبحانه خروا وضربوا بأجنحتهم خضعاناً لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، والملائكة هم الذين ذكرهم الله سبحانه تبارك وتعالى في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1].
فهؤلاء الملائكة الذين خلقهم الله سبحانه تبارك وتعالى، وصفهم هنا مقسماً بهم، والله يقسم بما يشاء، فهو يقسم بنفسه، وبصفاته سبحانه، ويقسم بالملائكة، ويقسم برسوله صلى الله عليه وسلم، فله أن يقسم بما يشاء، أما العبد فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فلا تحلف بغير الله.
وقد ناسب ذكر الملائكة في أول هذه السورة وذلك لعظمتها، وذكر أنها تصف صفوفاً بين يدي الله عز وجل خاشعة قائمة بين يدي الله عز وجل، فمنهم القائم ومنهم الراكع ومنهم الساجد الذي يكون على هذه الهيئة حتى تقوم القيامة، فإذا قامت القيامة قاموا بين يدي الله عز وجل، وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.(319/5)
التشبه في الصلاة بوقوف الملائكة عند ربهم
روى الإمام مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! اسكنوا في الصلاة)، وذلك أنه رآهم يرفعون أيديهم في الصلاة فقال: مالك تحرك يديك مثل ذيل الخيل الشموس النفرة، فالحصان عندما ينفر يحرك ذيله شمالاً ويميناً، فهنا لا ينبغي للمسلم وهو يصلي أن يهز يديه أو يحركها، وبعضهم قبل السلام يحرك يديه شمالاً ويميناً، وهذا قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بالسكون فقال: (مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة، ثم خرج علينا فرآنا حلقاً حلقاً فقال: مالي أراكم عزين؟ -أي: مالي أراكم متفرقين- فأمرهم أن يجتمعوا -أي: أن ينضم بعضهم إلى بعض-)، وذلك أنه أراد أن يكلمهم صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كل واحد بعيداً من الآخر فكيف سيكلمهم؟ ولذا أمرهم أن يجتمع وينضم بعضهم لبعض.
(فأمرهم أن يجتمعوا، ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) يعني: إذا قمتم في الصلاة فاقتدوا بملائكة الله عز وجل، (فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف).
إذاً: ينبغي عند قيام المؤمنين في صلاتهم أن يتشبهوا بالملائكة في قيامهم بين يدي الله عز وجل، فلا ينبغي للمسلم إذا وجد فرجة في الصف أن يتركها، فتصبح مجموعة في الصف الأول ومجموعة في الصف الثاني، وهؤلاء في أول الجامع وهؤلاء يمينه وهؤلاء شماله! بل عليهم أن يقتدوا ويتشبهوا بملائكة الله عز وجل، فيصفون صفوفاً ويكملون الصف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث وهكذا، قال صلى الله عليه وسلم عن الملائكة: (يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف).(319/6)
تواضع الملائكة
هذه الملائكة العظيمة التي تقف بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، تتواضع للمؤمنين، وهي خلق عظيم من نور، وهي أفضل من بني آدم إلا من فضَّل الله عز وجل من بني آدم عليهم من أنبياء ورسل، فالملائكة أفضل في الجنس من بني آدم إلا من فضلهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
وتواضع الملائكة للمؤمنين ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع) أي: أن طالب العلم الشرعي الذي يذهب ليتعلم القرآن، ويتعلم السنة، ويتعلم الفقه، ويتعلم دين الله عز وجل وأحكامه، فهذا الإنسان في خروجه من بيته إلى بيت الله عز وجل الملائكة تتواضع له وتفرح به، وتفرش له أجنحتها وتضع أجنحتها رضاً بما صنع طالب العلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
وأيضاً ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى إذا سمعوا أمر الله يحصل أنهم يعملون شيئاً، وهو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان ينفذهم ذلك)، والحديث في صحيح البخاري وفيه: (أن الملائكة إذا سمعت أمر الله تضرب بأجنحتها من الفزع) أي: من الخوف أن تقوم القيامة، أو أن يغضب الله، يخافون ذلك مع أن الله سبحانه جعلهم لا يعصون أبداً، ولكن الخوف من الله عز وجل، ومنزلتهم العالية عند ربهم سبحانه جعلتهم يخافون أن تضيع هذه المنزلة، فإذا سمعوا أمر الله ضربوا بأجنحتهم خضعاناً لأمره سبحانه تبارك وتعالى.
إذاً بدأت هذه السورة بالقسم بملائكة الله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1 - 3]، والراجح من أقوال أهل التفسير: أن هذه الأقسام كلها بالملائكة فهي مناسبة بعضها لبعض.(319/7)
دور الملائكة في النهي عن القبائح والمعاصي
قال الله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات:2] أي: أن الملائكة تنزل بآيات الله سبحانه تبارك وتعالى التي فيها الزجر عن المعاصي، وزجر العباد عن القبائح، فالملائكة تزجر بني آدم عن الوقوع في المعصية بما ينزلونه من عند الله سبحانه على العباد.
{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:2 - 3]، فالملائكة تزجر عن المعاصي، وقد يرسلها الله لتهلك أقواماً بسبب معاصيهم، وهذا زجر عن المعصية وعن قبائح الأمور.
{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:3] أي: أن الملائكة تتلو ذكر الله سبحانه، فهم يسبحون الله سبحانه، ومنهم من ينزل على الأنبياء بكتب الله يقرءون عليهم ويعلمونهم، كما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليه ويعلمه، فيحفظ منه ويتعلم منه عليه الصلاة والسلام.
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1 - 3]، وقد قرأ أبو عمرو هذه الآيات الثلاث بالإدغام، وأدغم التاء في الصاد في الآية الأولى، والتاء في الذال في الآية الثانية، والتاء في الذال في الآية الثالثة يعقوب بخلفه، وكذلك حمزة فهو يدغم، فإذا أدغم حمزة فيمد فيها، وإذا أدغم غيره جاز له أن يمد حركتين وأربع وست حركات، والقراءة بالإدغام: هي أن يلغي التاء ويقرأ الصاد مكانها، والقسم في الثلاث الآيات جوابه: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4]، وهذا هو المقصود من إرسال الرسل، ومن إنزال الكتب، وهو بيان توحيد الله سبحانه، وأنه الذي يستحق العبادة وحده.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(319/8)
تفسير سورة الصافات [1 - 7]
أقسم الله تعالى في أوائل سورة الصافات على إثبات ربوبيته من دون الأنداد التي اتخذها المشركون من دونه سبحانه، ثم دلل على ربوبيته بما جعل في هذا الكون من دلائل حكمته وأحديته وقيوميته، ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة من بينات الإعجاز وبراهين الإيمان ما يزداد المؤمن به إيماناً، مصداقاً لقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).(320/1)
دلالة قسم الله تبارك وتعالى على عظم المقسم عليه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:1 - 6].
سورة الصافات: هي السورة السابعة والثلاثون من كتاب الله عز وجل، وهي من السور المكية.
يقسم الله عز وجل فيها بقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1 - 3]، والراجح: أنها الملائكة، فيقسم الله عز وجل بملائكته المتصفين بهذه الصفات.
قال: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أي: تصف الملائكة عند ربها، ويقفون صفوفاً خاشعين بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فهي تصطف في عبادة الله، أو تصف أجنحتها خشوعاً لله سبحانه تبارك وتعالى.
(فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) أي: تنزل الملائكة بآيات الله سبحانه تبارك وتعالى التي تزجر بها بني آدم عن معاصيهم وعن قبائحهم، فملائكة الله تزجر العباد بما يأمرهم الله عز وجل به من زواجر وآيات من كتابه، أو بأن يرسل ملكاً من الملائكة ليعاقب الناس على ظلمهم وعلى معصيتهم لربهم.
ومن معاني الزاجرات: سوق السحاب من مكان إلى مكان، فتزجر الملائكة السحاب وتسوقها بأمر الله سبحانه من مكان إلى مكان.
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) أي: التاليات القارئات لكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقسم الله عز وجل بملائكته المتصفين بهذه الصفات، فهي تتلو كتاب الله كما كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ عليه القرآن فيتعلم النبي صلى الله عليه وسلم منه، وكذلك كانت الملائكة تنزل على الرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم لتتلو ذكر الله وآياته سبحانه تبارك وتعالى عليهم.(320/2)
إثبات إيمان المشركين بتوحيد الربوبية
ثم يأتي بعد هذا القسم الجواب وهو قول الله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4]، فأقسم الله بملائكته سبحانه على أن الإله الذي يستحق العبادة هو إله واحد لا شريك له سبحانه، فهو الإله المعبود، وهو الرب الصانع الخالق، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]، وهو المدبر الرزاق سبحانه تبارك وتعالى، فهذا هو الرب وهذا الإله، وقد كان المشركون يعتقدون أن الرب واحد، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فلا يوجد عندهم إشراك في ربوبية الله سبحانه، وأنه الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وأنه الذي ينفع ويضر، ولكنهم يعبدون آلهة من دون الله سبحانه تبارك وتعالى مع اعتقادهم أن الذي ينفع هو الرب الذي في السماء سبحانه تبارك وتعالى، ولكنهم عبدوا غير الله سبحانه بسبب الهوى؛ لأن كل إنسان لا يريد أن يستمع من غيره عندما يأمره ويقول له: لي إله، وإلهه يأمره بأن يأمره؛ ولأنه ليس أفضل منه في اعتقاده سبحانه، وهم يعتقدون بأنهم سيكونون مأمورين من قبله صلى الله عليه وسلم، فاستكبروا على الحق الذي جاءهم من عند الله سبحانه، وحالهم كما وصف الله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: ألم يجد ربك غيرك ليبعثه؟ ولماذا لم يبعث أحداً غيرك أعظم أو أغنى أو أقوى منك كـ أبي جهل أو عروة الثقفي أو غيرهم؟ فبين الله سبحانه أن غيرتهم وحسدهم من النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دفعهم إلى البعد عن دين الله سبحانه.
فقال الله سبحانه: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَواحِد) يعني: الذي يستحق العبادة إله واحد سبحانه تبارك وتعالى، وهذا الذي تعجب منه المشركون ولا عجب فيه، فإذا كنتم تقولون: إن الرب الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر رب واحد فلم لا تعبدون الرب الواحد سبحانه؟! وكيف تعبدون غيره ممن لا ينفع ولا يضر؟! وكيف يأتي أحدكم إلى الصنم وهو يعتقد أن الصنم لا ينفع ولا يضر ثم يقول له: اعمل لي كذا، وأعطني كذا، ويعبده من دون الله سبحانه تبارك وتعالى؟! أي عقل يدفعهم إلى ذلك؟! ولذلك قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وكانت هذه مغالطة منهم لأنفسهم وغيرهم، فالإنسان إذا لم يعرف الرد على خصمه، لجأ إلى التحريف في الكلام كما هو الحال في هذه الآية، فيقولون: نحن نعبد الله مباشرة دون وسائط فلابد من الوسائط بيننا وبين الله سبحانه تبارك وتعالى، فنحن نعبد هذه الأصنام لكي تقربنا إلى الله عز وجل، وهي حجة سخيفة وغبية، بل عليه اللجوء إلى الله سبحانه دون وسائط، وعليه التقرب إليه والدعاء له سبحانه، ثم هذا الصنم الأصم الأبكم هل يصلح أن يكون واسطة بينك وبين الله سبحانه؟!(320/3)
إنه فكر وقدر
ثم عندما يطوفون بالبيت كانوا يطوفون عراة ليس عليهم ثياب، إلا إذا كان من أهل مكة ومن الحمس الذين فيها فيحق له أن يعطيهم من ثيابه فيلبسونها، وهم يحتجون على صنيعهم هذا بأنهم عصاة مذنبون فلا يستطيعون عبادة الله بهذه الثياب الملوثة بالأقذار والمعاصي، والحق أن هذا كلام فارغ لا يعقل، ومع ذلك يصدق بعضهم بعضاً؛ لأن الكفر جمعهم، وجمعتهم كذلك عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم مضطرون أن يصدق بعضهم بعضاً في الظاهر، كما زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذاب مع أنهم في أنفسهم يعلمون أنه ليس بساحر أو كذاب، وقد كان أكثر من دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الوليد بن المغيرة، فقد قال لهم: أنا عرفت شعر العرب ونثرها، وعرفت لغة العرب، وعرفت كلام الكهنة والسحرة فلم أجده من هؤلاء، فاحتال عليه أبو جهل وقال له: لقد تركت قومك يجمعون لك المال، فقال: لماذا يجمعون لي المال؟ فقال: لأنهم يزعمون أنك تريد أن تتبع محمداً ليعطيك من المال؟! فإذا بالنعرة تأخذه، وأبو جهل يستغل الفرصة ويقول له: قل فيه شيئاً، وكان قد قال الوليد بن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن العظيم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، لما قال ذلك، فلما أثاره أبو جهل على النبي صلى الله عليه وسلم قال ما قاله، فيقول الله سبحانه ذاكراً صفة هذا الرجل: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:18 - 24]، وهو الذي يقول: بأنه عرف كلام السحرة والكهنة، وهذا ليس بساحر أو كاهن، ثم في النهاية يقول مجاملة لقومه؛ لكي لا يقولوا عنه: إنه يريد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم لكي يعطيه مالاً: (إن هذا إلا سحر يؤثر)! فالكفار يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدونه في قلوبهم، وهم كذلك في كل زمان ومكان، وقد حذرنا الله من الكفار بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله تعالى هو الذي خلقهم، وهو أعلم بما في نفوسهم، ومع ذلك يقع المسلمون ضحايا لتصديق هؤلاء الكفار فيما يكذبون وفيما يقولون عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى.(320/4)
تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما)
قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5].
الرب: هو الخالق سبحانه، والرب: هو المالك الذي ملك المخلوقات ودبر أمرها.
(وَمَا بَيْنَهُمَا) أي: كل شيء بين السماوات والأرض، فهو خالقه ومدبره.
(وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)، فهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق سبحانه وتعالى كذلك.
وقد ذكر الله عز وجل المشارق هنا، وذكر أيضاً في كتابه المشرق والمغرب وكرر ذلك فقال لنا في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]، وقال لنا في سورة الرحمن: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:17 - 18]، وقال لنا سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:40]، وهنا قال لنا: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) سبحانه تبارك وتعالى.
والحق أن القرآن كلام عظيم، وهو كلام رب العالمين لا يتناقض أبداً، ومن توهم فيه التناقض فإنما هو لقصر فهمه وتفكيره، لكن العلماء ينظرون في هذا القرآن العظيم فيجدونه بليغاً فصيحاً قوياً متيناً، والدليل على ذلك هذه الآيات العجيبة فمرة يقول: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، ومرة يقول: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)، ومرة يقول: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)، وكل هذا صحيح، فالمشرق: هو مكان الشروق، والمغرب: هو مكان الغروب، فهناك مشرق ومغرب.
أما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، فإنك إذا تتبعت فصول السنة ومشرق الشمس في الشتاء في أقصر الأيام، ثم مشرق الشمس في الصيف في أطول الأيام، فستجد أن مشرقها في أطول يوم في السنة غير المشرق الذي تشرق فيه في أقصر يوم في السنة، فكأن المشرق مشرقان مختلفان ينبني عليهما طول اليوم والليل وقصرهما، فحسن إطلاق لفظ المشرق والمغرب بالمثنى في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17].
أما إطلاق لفظ الجمع في قوله تعالى: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، فباعتبار أن ما بين أقصر الأيام وأطول الأيام تشرق الشمس كل يوم في زاوية معينة تطلع منها، وتغرب من زاوية أخرى ينبني عليها اختلاف الأيام في الطول والقصر في العام كله، فتشرق الشمس على مكان دون الآخر، فالأرض لها مشارق ومغارب، وللمجموعة الشمسية مشارق حولها، على كل كوكب من هذه الكواكب مشرق ومغرب تشرق فيه، فسبحان الله المدبر الحكيم! وقد اكتشف علماء الفلك هذه الحقيقية بعد أن جاءت في القرآن قبل مئات السنين، فتبارك الله رب العالمين، فإن الإنسان إذا تفكر في القرآن عرف الإتقان والإعجاز الذي فيه، وكيف أن الله يذكر المشرق والمغرب تارة بلفظ الإفراد وتارة بلفظ التثنية والجمع وهو يعلم العلة والحكمة في ذلك، فعندما يقول سبحانه في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]، ناسب إفراد الله سبحانه تبارك وتعالى بالعبودية أن يذكر مشرقاً واحداً ومغرباً واحداً، وهو جنس لمكان الشروق والغروب.
وفي سورة الرحمن يقول تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:33]، يخاطب الاثنين، وهو يقول في كل السورة مخاطباً الإنس والجن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا} [الرحمن:13]، فناسب أن يذكر المشرق والمغرب بلفظ المثنى فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17].
وهنا يقول سبحانه: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، فلأنهما جمع قال: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)، فجمع فناسب ذلك.
وفي سورة المعارج يقول الله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ} [المعارج:40 - 41] أي: أمثال هذه المجموعات من الكفار والبشر الذين يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب ذكر المشارق والمغارب باعتبار سياق الجمع.
والحاصل: أننا نجد إعجاز القرآن في الحقائق العلمية التي لا تتناقض، وهي مع ذلك في سياق عظيم بديع يلائم الآيات السابقة واللاحقة في السورة التي يذكرها الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك نقول: إن الذي يتأمل في هذا القرآن ويتعمق فيه يعرف قدر هذا الكلام العظيم الذي لا يدانيه كلام الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله، فعندما تقرأ هذا القرآن العظيم الفصيح البليغ، وهذا السياق اللغوي الرصين المتين العظيم الجميل، تتعجب من وجوه إعجازه! وهذا من ذلك.(320/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)
قال سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] فيخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن السماء الدنيا، وهي أقرب السماء إلينا، وعدد السماوات سبع طباقاً بعضها فوق بعض، والأرض لا تساوي شيئاً بجوار هذه السماء العظيمة (والسماوات كلها بجوار كرسي الله عز وجل كحلقة في فلاة)، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الكرسي بجوار عرش الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد زين الله عز وجل السماء الدنيا بزينة وهي الكواكب.
فخلق الله عز وجل النجوم زينة للسماء، وجعلها هداية للبشر يعرفون بها الطريق، فيعرف بها الشرق من الغرب، وكذلك دلالة النجم الفلاني على أن الطريق من هذا المكان، فجعل الله سبحانه تبارك وتعالى النجم هداية للناس كما قال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه ثلاث فوائد خلقت من أجلها النجوم، فجعلها الله عز وجل زينة للسماء، وجعل منها ما يقذف ويرمى به الشياطين، وجعلها هداية للناس يعرفون بها الشرق والغرب والشمال والجنوب، ويعرفون الطريق بالنظر إليها، فمن ادعى فوق ذلك فقد ادعى ما ليس له به علم، ومن زعم أنه بالنجوم يعرف الأقدار فقد كذب على الله سبحانه تبارك وتعالى، وادعى غيباً لم يخبره به أحد، ووقع في الكفر بزعمه أنه يعلم شيئاً من الغيب.
فقوله: (إِنَّا زَيَّنَّا) ذكر الله عز وجل هنا نون العظمة؛ لأن السماء بنجومها عظيمة جداً، ففيها الشهاب الثاقب وما يدل على عظمته، فعبر بـ (إِنَّا) سبحانه؛ دلالة على العظمة.
وقوله: (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) هذه قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة.
وقرأها شعبة عن عاصم بفتح الباء: (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ).
وقرأها باقي القراء بكسر الباء دون تنوين: (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ).
ولكل وجه معنى، فمن قرأها: (بِزِينَةٍ) كما هي قراءة حفص وحمزة، (الْكَوَاكِبِ) فقال: بأن الزينة هي الكواكب، فجعلها بدلاً مما قبلها.
ومن قرأها بقراءة شعبة عن عاصم: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ)، جعلها منصوبة على المحل الذي قبلها، فكأنه قال: إنا زيناها زينة وبدل هذه الزينة قال: الكواكبَ، فهي معطوفة أو منصوبة على المحل الذي قبلها، أو بتقدير: أعني، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ) أقصد وأعني: (الْكَوَاكِبَ) فهي مفعول على هذا الفعل المضمر، أو أنها بدل اشتمال من السماء.
وباقي من القراء يقرءونها على الإضافة: (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) فيضيف الكواكب إلى الزينة.
والحاصل: أن الله قد زين السماء الدنيا بهذه النجوم العظيمة التي يراها الإنسان على بعد بعيد جداً في السماء وهي صغيرة، فيظنها نقط في السماء وهي أكبر من الأرض بملايين المرات؛ لأن البعد الذي بيننا وبين السماء يصل إلى ملايين الكيلومترات، حتى إن شعاع النجم يستغرق للوصول إلى الأرض أربع سنين ضوئية، بينما تصل أشعة الشمس إلى الأرض خلال ثمان دقائق؛ ولذلك أقسم الله عز وجل بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، وأنت تستطيع رؤية النجم وقد استغرق أربع سنوات ضوئية! فيقسم الله عز وجل بالموقع الذي كان فيه هذا النجم قبل أن يصل إليك، فهذا أمر عجيب وأعجب منه دقة التصوير القرآني لهذه الحقائق، ففيه دلالة باهرة على أنه كلام رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.(320/6)
تفسير قوله تعالى: (وحفظاًَ من كل شيطان مارد)
ثم قال تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7] أي جعلنا هذه الكواكب تحفظ السماء من استراق الشياطين للسمع.
قال: (شَيْطَانٍ مَارِدٍ) الشيطان المارد: هو العاتي الشديد الطاغي الذي خرج عن حدود أمثاله، والذي يريد أن يتسمع ويتصنت على أخبار السماء، فأراد أن يتعالى بعلمه لخبر السماء، فالله عز وجل عندها يقذفه بالشهاب الثاقب كما سيأتي في الآيات بعدها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(320/7)
تفسير سورة الصافات [6 - 12]
لقد زين الله سبحانه وتعالى السماء الدنيا بالنجوم والكواكب ليهتدي بها الإنسان في ظلمات البر والبحر؛ ولتكون رجوماً للشياطين الذين يسترقون السمع، وفي هذا دلالة على أن الأرض خلق السماوات والأرض أكبر من خلق هذا الإنسان الذي يستكبر ويعاند ويكابر ويتحدى الله عز وجل، فعجباً لهؤلاء الكافرين المستكبرين!(321/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:6 - 18].
في هذه الآيات من سورة الصافات يخبرنا الله سبحانه وتعالى كيف أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب، قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، فالكواكب والنجوم زينة للسماء الدنيا، كذلك فيها رجوم للشياطين، كذلك بالنجم هم يهتدون، يهتدي العباد فيعرفون طرق سيرهم شمالاً من جنوب، وشرقاً من غرب، فيعرفون الشمال والجنوب، والشرق والغرب، عن طريق النظر إلى الكواكب، والنظر إلى النجوم.
زين الله عز وجل السماء الدنيا بزينة الكواكب، وجعلها حفظاً من كل شيطان مارد، فيلقي بالكوكب الشاهب المحرق على الشيطان الذي يسترق السمع من السماء، وكانت الشياطين قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم تسترق السمع من السماء في طرقها، يسمعون ما يقول الملائكة بعضهم لبعض: إن الله قضى بأمر كذا وكذا، ويكون كذا وكذا في الأرض، فتأخذ الشياطين ما تسمعه من الملائكة وتنزل به إلى الأرض، وتلقيه إلى الكهان كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) [سبأ:23]).
فالملائكة يأتيهم أمر الله عز وجل فيفزعون حين يسمعون ذلك خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وتفزع الملائكة وتضرب بأجنحتها خضعاناً لأمر الله سبحانه وتعالى قال: (كالسلسلة على صفوان)، يسمع صوت عظيم جداً من ذلك، كضرب سلسلة على حجر أصم، ومعنى الصفوان: الحجر الأصم، ينفذهم ذلك، قال تعالى: {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23]، وفزع بمعنى: أزيل الفزع من قلوب الملائكة فيطمئنون ويسأل بعضهم بعضاً، ماذا قال ربكم؟ فيجيب من علم بأمر الله سبحانه، ويقول: الحق، ويقول: قال ربنا كذا وكذا، وأمر بكذا.
فتسترق الشياطين السمع من السماء، واستراق السمع: من السرقة، بمعنى: يخطف السمع، يسمع ما يريد أن يأخذه قبل أن يحرقه الله سبحانه وتعالى، يسترق السمع من السماء، وينزل به إلى الأرض ليخبر غيره من شياطين الإنس والجن.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث هنا: (ومسترق السمع هكذا واحد فوق آخر)، فوصف راوي الحديث أبو سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى، نصبها، بعضها فوق بعض، (فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه).
إذاً: الشياطين تركب بعضها على بعض وأشار بيده هكذا، شيطان فوق شيطان، يركب بعضهم على بعض؛ حتى يتنصتوا إلى خبر السماء، ماذا تقول الملائكة، (ويسترقون) أي: يسرق الشيء الذي يصنعه، يخطفه وينزل به إلى الذي أسفل منه ويخبره أنه سيحصل كذا، وهذا يخبر الذي أسفل، والله يشاء ذلك، ويريد أن ينزل هذا الخبر إلى الأرض فتنة لأهل الأرض، ولكن الذي استرق السمع وسمع هذا الخبر، يرسل الله عز وجل عليه كوكباً شهاباً حارقاً فيحرقه، وقد يحرق الجميع سبحانه وتعالى، وقد يترك بعضهم يبلغ هذا الخبر إلى الأرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي به إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر والكاهن، فيكذب معها مائة كذبة).
فالشيطان يحدث الساحر ويحدث الكاهن سيحصل كذا في يوم كذا، ويكذب فوقها مائة كذبة، والشيطان يكذب على الإنسان، والإنسان يكذب ويزيد فيها أيضاً ويخبر الناس، قال: (فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، ويكون كذا وكذا، فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء).
هذا لفظ حديث البخاري، وروى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (سأل أناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان)، الكاهن: هو الذي يخبر بأخبار غيبية، فيكون بعضها كالذي حدث به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسوا بشيء -إنهم كذابون- فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة).
ولو أن الكهان كل الأخبار التي يخبرون بها كانت كاذبة لم يصدقهم أحد، ولم يذهب أحد يستشيرهم في شيء، ولما احتجنا أن يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصدقوا كاهناً ولا عرافاً) ولكن لابد أن يبتلى العبد بشيء، أن يصدق هذا الكاهن في شيء؛ ليكون فتنة للناس، والإنسان إذا عرف أن فلاناً كذب، كل كلامه كذب، ولكن متى يحتمل أن يصدق هذا الإنسان؟ لما يتكلم بكلام يظهر أنه حق وكلام آخر يكون فيه كذب.
فالله عز وجل يجعل هؤلاء فتنة للناس، أن ينزل الخبر من السماء مع هذا الجني، مع هذا الشيطان فيقرقره في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، يعني: ينزل الشيطان ويقرقر مثلما الدجاجة تقرقر، كذلك هو في أذن وليه، يحصل كذا ويحصل كذا، ويحصل كذا، فيكذب الشيطان على الإنسان، والإنسان يكذب فوق ما سمعه، فيحدث الناس بهذا الشيء، فإذا قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تأتوا الكاهن ولا تصدقوا العراف)، ننفذ ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وننتهي عما نهانا عنه صلوات الله وسلامه عليه، حتى ولو رأينا منهم خبر صدق في يوم من الأيام، فالمفترض علينا أن لا نصدق أحداً يقول هذا، فإنه لا يعلم الغيب، وقد عرفنا أن الشيطان يلقي إلى الكاهن الخبر الصادق مع مائة من الأخبار الكاذبة.
قال الله عز وجل: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7] يعني: حفظ الله عز وجل السماء من أن يدخلها، أي: يدخل من أبواب السماء، يدخل إلى السماء الدنيا والسماء الثانية والثالثة لا يدخلها، ممنوع الشيطان من ذلك، يسترق السمع تحت السماء فقط ويختلس، أما أنه يخترق السماء هذا لا يكون أبداً، قال: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7]، والمارد: المتمرد العاتي الطاغي، الذي جاوز حده.
وقوله تعالى: {وَحِفْظًا} [الصافات:7] أي: حفظنا السماء وحفظنا أخبارها، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7].(321/2)
تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى)
قال الله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، هذه فيها قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، وقراءة باقي القراء: (لا يَسْمَعون إلى الملإ الأعلى)، {لا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات:8] أصلها: (لا يَتَسَمَّعون) وأدغمت، فالمعنى أنهم: منعوا من ذلك، والقراءة الأخرى: (لا يَسْمَعون) كأنهم يحاولون ولا يقدرون، هناك فرق بين معنى القراءتين.
إذاً: قوله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات:8] من كثرة ما أُلقي عليهم من الشهب فقطعوا الأمل من الاستماع إلى السماء.
والقراءة الأخرى: (لا يَسْمَعُون): ما زالوا يحاولون ولكن مُنع عنهم ذلك، فكانت الشياطين قبل النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرون منهم يصعدون إلى السماء ويسرقون أخبار السماء وينزلون إلى الأرض، ولكن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جُعلت الشهب تلقى عليهم من كل جانب، وقبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى عليهم الشهاب ويأذن الله عز وجل أن ينزل الشيء، ويريد سبحانه وتعالى ذلك ليبين الفرق قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه عليه الصلاة والسلام؛ لذلك تعجبت الشياطين لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الشياطين تسترق السمع.
أما وبعد بعثته عليه الصلاة والسلام وجدوا الأمر خلاف ذلك، فقالوا: حصل شيء في الأرض، إن الشهب تأتي من كل جانب، وكانوا يسمعون وينزلون بالخبر من قبل، أما الآن ليسوا قادرين على ذلك، فعرفوا أنه حصل شيء في الأرض وهو مبعث النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: {لا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات:8] لا يقدرون على الاستماع، أو لا يفعلون ذلك من كثرة ما يصيبهم من الشهب التي تحرقهم.
(ولا يَسْمَعون) فإن حاولوا الاستماع فلا يسمعون شيئاً من أخبار السماء، إلا أن يأذن الله عز وجل بشيء.
وقوله تعالى: {إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، معناه: سكان السماء وأهلها من الملائكة، فالسماء الدنيا والتي تليها يسكن فيها ملائكة الله عز وجل وهم الملأ.
وأصل الملأ: علية القوم، كما نقول: الملأ من القوم، وفي القرآن يذكر الله عز وجل الذين كذبوا المرسلين فينزل سبحانه: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف:60]، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف:109]، إذاً: الملأ: أعلى الناس، أصحاب المناصب في الدنيا، لكن الملأ من أهل السماء بمعنى: أهل العبادة وأهل الطاعة، ملائكة الله عز وجل الذين قربهم واصطفاهم وأعلى شأنهم وأمرهم سبحانه وتعالى، فهم الملأ حقيقة.
قال: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:8].
إذاً: الملأ الأعلى هم ملائكة السماء؛ لأنه هناك ملأ أعلى وهناك من هم دونهم، وملائكة الله عز وجل في كل مكان، في الأرض ملائكة، وبين السماء والأرض ملائكة، وفي السماء ملائكة، فكأن المقصد هنا: ملائكة السماء الذين يسمعون خبر الله سبحانه وتعالى.(321/3)
تفسير قوله تعالى: (دحوراً ولهم عذاب واصب)
قال سبحانه: {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِب} [الصافات:9] يعني: الشياطين، والمدحور بمعنى: المطرود، ودحوراً بمعنى: طرداً، يطردهم الله عز وجل طرداً بما يلقيه عليهم من الشهب في السماء.
فقوله: (دحوراً) أي: مطرودين خاسئين، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:9] أي: يعذب الله عز وجل هؤلاء الشياطين بالعذاب الواصب، والواصب: بمعنى اللازم الموجع المؤلم، ولهم عذاب شديد من الله تبارك وتعالى، ملازماً لهم لا يُرفع عنهم، فهم في النار يوم القيامة، يعذبهم الله سبحانه ولا يخرجون منها أبداً.
وقوله تعالى: {دُحُورًا} [الصافات:9] مدحورين مطرودين أذلة، ودحرت الإنسان، بمعنى: طردته بإذلالٍ، إذاً: طرد الشيء مع إذلال الذي تطرده، هو الدحر.
قال تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات:10]، فاستثنى سبحانه وتعالى هؤلاء، من أنهم لا يسمعون، فلا يقدرون على السمع إلا من شاء الله عز وجل أن يسمع شيئاً، يخطف الخطفة فيسرق شيئاً يقدر عليه مما سمعه، ويهبط بهذا الشيء إلى الأرض على هذه الهيئة، هيئة الخطف، فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ} [الصافات:10] أي: الأخذ السريع للشيء خلساً، ويهوي به إلى الأرض، ولذلك قال تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10]، خطف الشيطان خطفة، سمع شيئاً من خبر السماء وأراد أن ينزل به إلى الأرض فيأتيه الشهاب فيحرقه، وهنا تظهر إرادة الله سبحانه، إذ أراد الشيطان أن ينزل هذا الخبر إلى أهل الأرض فتنة لهم، فإذا لم يرد الله عز وجل أن ينزل ذلك يحرقه الشهاب قبل أن ينزل إلى الأرض بهذا الخبر.(321/4)
تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11] يعني: اسألهم.
وقراءة الجمهور: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات:11] وقراءة ورش عن يعقوب: (فاستفتهُم).
قوله تعالى: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11] أي: من أقوى، هل هم هؤلاء الإنس، الذين هم ضعفاء في الحقيقة، أم من خلقنا؟ وقال الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33]، من أشد خلقاً أنتم أم هذه السماء وما فيها من نجوم؟ فهل تستطيعون أن تصعدوا إلى السماء؟ وهل تستطيعون أن تغيروا مسار كوكب من الكواكب التي أراد الله عز وجل أن يسيرها على هذا المسار المحدد؟ كذلك هنا يقول: فاستفتِ هؤلاء المجرمين، أي: اسألهم هؤلاء الكذابين {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11].
وقد خلق الله عز وجل السماوات وأحكم خلقها سبحانه وتعالى، واعترف الكفار واعترف الخلق بقوة هذه السماء وشدتها، وكذلك الأرض وكذلك الجبال، فقال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} [الصافات:11] هؤلاء الضعفاء {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] اللزوب بمعنى: اللصوق، أي: طين لاصق، تراب عليه ماء، فعندما تضع يدك عليه يلصق الطين فيها، فالإنسان خلق من صلصال، هذا الصلصال له صلصلة من ماء آسن منتن متغير، فالإنسان مخلوق من طين، {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] أي: يلصق بعضه ببعض، والكفار كما في هذه الآية أعجبتهم قوتهم، وقالوا عن أنفسهم أنهم قادرون على أشياء كثيرة، وما كان ذلك إلا غباء من هؤلاء الكفار؛ ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الإنسان: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:5 - 10].
أليس الله أعطاه ذلك؟! وبعد ذلك يتكبر على خالقه سبحانه وتعالى! قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:4 - 5]، هذه الآية نزلت في رجل من الكفار، كان معجباً بقوته وعضلاته، وكان يرى نفسه أنه قادر على أي حال، واسمه أبو الأشدين، رجل من الكفار أعطاه الله عز وجل قوة، يتكبر بها على غيره، قالوا: كان هذا الرجل شديد البطش، شديد القوة، وهو رجل من بني جمح أبو الأشدين الجمحي، وكانوا يأتونه بالأديم العكاظي، وهي قطعة من جلد شديدة يقف عليها هذا الإنسان، ولفرط قوته وجبروته يقول لهم: شدوها من تحت رجلي، فيشدونها من تحت رجليه فلا يستطيعون، فيتمزق هذا الأديم! فيتعجب من قوته، فصار هذا الإنسان يستكبر على الخلق، ويستكبر على الخالق سبحانه وتعالى، ونزل فيه قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:4 - 5]، يقول كاذباً: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6]، يقول محدثاً الناس: أنا أنفقت في عداوة محمد صلوات الله وسلامه عليه مالاً عظيماً وهو كذاب في ذلك، فالله أعطاه قوة، وأعطاه مالاً، وهذا الرجل لما أنزل الله سبحانه وتعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]، إذا بهذا الرجل ومثله أبو جهل لعنة الله عليهما يقولان: تسعة عشر! فيقولون أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، اسمعوا من ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم العدد، لا تقدرون عليهم فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟! أي: طالما هم تسعة عشر ملكاً على النار ألا يستطيع كل عشرة منكم أن يمسكوا ملكاً من الملائكة ويحبسوه ويمنعوه فلا ندخل النار، يقول ذلك وهو يعلم في نفسه أنه كذاب هو وأمثاله، لما كانوا يسيرون في الصحراء ويظهر لهم جني من الجن يزعجهم فيخافون ويرتعبون ويرجعون ويقولون: نعوذ برب هذا الوادي، يخافون من الجن، ويخافون من الشياطين، ومع ذلك يظهرون هذا الاستكبار وأنهم يقدرون على ملائكة الله سبحانه وتعالى! ويقول أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم تسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبالأيسر تسعة! وهذا إنسان أحمق غبي لا يفكر فيما يقول، لكن الحقيقة أنهم يتسلون بكفرهم الذي هم فيه.
وفي رواية أخرى يقول: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني اثنين، أنا عليّ سبعة عشر ملكاً آخذهم وأمنعهم وأنتم عليكم اثنين.
وقال أبو جهل: أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31]، نفتنهم بذلك حتى يقولوا ما لا يعلمون، يقولون: إنهم يمتنعون من دخول النار، وأحدهم يقول: أنا أضع يديّ على النار وأمنع دخول الناس فيها، ونعمل الذي نريده على هذه الدنيا.(321/5)
تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون)
قال الله سبحانه عن هؤلاء: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] مما تقوله لهم، وتذكرهم به.
فقراءة الجمهور: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (بل عجبتُ ويسخرون) فالله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: تعجب من أمر هؤلاء، والله عز وجل يقول: وأنا أعجب لهؤلاء، والعجب من المخلوق، غير العجب من الله سبحانه وتعالى، العجب من المخلوق أن يندهش لشيء، ويتعجب الإنسان من إنسان آخر كيف يصنع ذلك؟! وكيف يصبر الله عز وجل على مثل هذا الإنسان؟! أما تعجب الله سبحانه إما أن يكون من كفر إنسان وصبر الله سبحانه وتعالى عليه، فهذا الإنسان يستحق أن يعاقب عقوبة شديدة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعجب وهو أعلم سبحانه وتعالى، أن هذا مصيره إلى النار، فيعجب مما يصنعه هذا الإنسان، وقد يعجب من إنسان يفعل شيئاً طيباً وهو إنسان، والله يعجب ويضحك ويفعل ما يشاء سبحانه، فنؤمن بصفة الله على النحو الذي يليق به سبحانه وتعالى، فنقول: يعجب مع كمال علمه سبحانه وتعالى.
إذاً: الفعل من الله عز وجل له معنى يليق به سبحانه وتعالى، والفعل من العبد على المعنى الذي يكون لهذا العبد، ولا نقول: يشبه الله المخلوقين في ذلك، حاشا له سبحانه، ولكن يضحك كما يشاء سبحانه، وهي صفة جلال وكمال لله، كذلك يعجب كما يشاء سبحانه، وهي صفة جلال وكمال لله، وكما قال هنا: (بل عجبتُ ويسخرون) أي: عجبت من أمر هؤلاء الكفار، كيف يسخرون مع قرب عذابهم الذي يأتيهم من الله سبحانه، كيف أنهم يستكبرون على الله سبحانه مع ضعفهم! عجبتُ لأمرهم، وفي العكس من ذلك في تعجب الله سبحانه وتعالى من الإنسان الصالح والإنسان الطيب، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية جبل، يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني! قد غفرت لعبدي).
فالله عز وجل يعجب لهذا الإنسان الذي هو في رأس جبل، ومع ذلك إذا جاء وقت الصلاة قام يؤذن وأقام الصلاة، مع أنه يعلم أنه لا أحد يأتيه في هذا المكان، ولكن خوفه من الله وحبه لله سبحانه جعله يؤذن في مكان لا أحد يأتي إليه فيه، أذن وأقام وصلى، فعجبت ملائكته من ذلك، وعجب الله عز وجل لأمره، فإذا عجب الله من مثل هذا أثابه سبحانه وتعالى، وإذا عجب من مثل هؤلاء الكفار عاقبهم سبحانه بعقوبته.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(321/6)
تفسير سورة الصافات [12 - 40]
ذكر الله في هذه الآيات استكبار الكفار عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واستبعادهم للبعث يوم القيامة، ثم ذكر حالهم يوم القيامة حين يرون ما كانوا ينكرونه، فيتبرأ بعضهم من بعض، ويشترك في العذاب القادة والأتباع، جزاء تكذيبهم وكفرهم وإعراضهم عن قول كلمة التوحيد والإخلاص.(322/1)
تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:12 - 26].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الصافات عن حال الكفار في الدنيا ويوم القيامة كيف أنهم في الدنيا استكبروا فكان نتيجة هذا الاستكبار الذل والصغار يوم القيامة بين يدي الله الواحد القهار سبحانه وتعالى، لقد كانوا مستكبرين، متعززين، يظنون أنهم جميع منتصر، فلما جاءوا يوم القيامة جاءوا فرادى {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26].
أي: لقد كانوا في الدنيا ينصر بعضهم بعضاً، وفي الآخرة يتبرأ بعضهم من بعض، ويتهم بعضهم بعضاً، وانظر إلى الآيات كيف قال الله سبحانه؟ وكيف عجب نبيه صلوات الله وسلامه عليه! {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] أي: يا محمد عجبت لكفرهم وتكذيبهم مع معرفتهم بالحق الذي جئت به، ومع عدم قدرتهم على الإتيان بشيء من مثل هذا القرآن العظيم الذي جئت به، وهذه قراءة الجمهور كما ذكرنا قبل ذلك وقراءة حمزة والكسائي وخلف {بَلْ عَجِبْتُ} أي: أن الله عز وجل يعجب حيث يقع فعلهم هذا عنده موقعاً شنيعاً منكراً فيعجب سبحانه من كفر هؤلاء الكفار وفعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فيجازيهم بما نسمع بعد ذلك.
{وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصافات:13] أي: لا يذكرون الله، ولا يذكرون هذه الآيات، فهم غافلون عما جاءهم من آيات من كتاب الله، وعما يرون أمامهم من معجزات على يد النبي صلوات الله وسلامه عليه، {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات:14] أي: هم يسخرون، ويدعون بعضهم بعضاً للسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم، والسين هنا من الاستفعال وهو الاستدعاء يعني: يناجي بعضهم بعضاً تعالوا استهزءوا وتعالوا اسخروا مما يقول هذا الرسول.(322/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات:15] أي: مهما رأوا من آية ومعجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام قالوا: هذا سحر تخييل، وخداع، واضح بين.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات:16] أي: هو يريد أن يخدعنا ويقول لنا: إذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إننا سنعود إلى الحياة من جديد، وكما ذكرنا في الحديث السابق {مِتْنَا} [الصافات:16]، قراءة نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء يقرءونها.
(مُِتْنَا) فهل نبعث مرة ثانية ونخرج من قبورنا ((أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الصافات:17]، وأين آباؤنا الأولون لقد ذهبوا فلم نراهم خرجوا أمامنا ولا أجدادنا ولا من قبلهم؟ فهل نبعث نحن وهؤلاء؟ فكذبوا بالشيء الذي لم يروه أمامهم وكأنهم يريدون أن يروا إنساناً يحيا أمامهم حتى يصدقوا ببعث يوم القيامة! ويوم القيامة غيب، وإحياء الموتى إخبار بغيب يكون بعد ذلك، والمؤمنون الذين يؤمنون بالغيب يؤمنون بالله ولم يروه ويؤمنون بالجنة والنار ولم يروهما، يؤمنون بالموقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ولم يروا ذلك فإذا جاء هذا الغيب، وصار واقعاً مشاهداً لا ينفع نفساً إيمانها حينئذ.
قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:18] أي: تبعثون يوم القيامة، وهذه قراءة الجمهور وقراءة الكسائي (نِعم) كما قدمنا، {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:18] أي: صاغرون أذلة.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ} [الصافات:19]، الزجرة: الصيحة وهي النفخة الثانية، لأن النفخة الأولى: ينفخ إسرافيل في الصور فإذا بالخلق كلهم هامدين يميتهم الله سبحانه وتعالى، فينفخ النفخة الثانية فيبعثون من القبور ويقفون بين يدي الله سبحانه {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] أي: ما الذي يكون، وينظر بعضهم إلى بعض، وينتظرون ما الذي يحدث لهم في هذا الموقف، ويقولون كما قال سبحانه: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] أي: يا هلاكنا، هذا اليوم يوم الجزاء الذي كذبنا به قبل ذلك، يا ليتنا نموت الآن، يدعون على أنفسهم بالهلاك في هذا اليوم يوم الجزاء والحساب.
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات:21] أي: الحكم الذي يفصل فيه بين الحق والباطل بين المحقين والمبطلين بين أهل الكفر وأهل الإيمان، فريق في الجنة وفريق في السعير {الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات:21].
{احْشُرُوا} [الصافات:22] أي: اجمعوا {الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات:22] أي: المشركين بالله سبحانه بعضهم إلى بعض {وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، ومن كان مشابهاً لهم فاجمعوا كل مجموعة من هؤلاء على صفة واحدة: المشركون القتلة السراق الفجار، كل مجموعة يشبه بعضهم بعضاً فادفعوهم إلى النار والعياذ بالله.
والأزواج تطلق على المشاكلين أي المشابهين وتطلق: على الأصناف والأنواع التي بعضها مثل بعض، وكذلك على القرناء، فالإنسان وقرينه من الشياطين يحشران معاً إلى النار، وكذلك الزوج والزوجة إذا كانا يتعاونان على الشر والعياذ بالله.
قال: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23]، دلوهم على طريق الجحيم والعياذ بالله، والصراط: الطريق {وَقِفُوهُمْ} [الصافات:24] أي: بين يدي الله عز وجل {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، سؤال المناقشة، والتبكيت، والتوبيخ، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) أي: الذي يناقشه الله سبحانه الحساب هالك لا محالة، وأما من يعرض عليه حسابه وصحيفة أعماله فالله عز وجل يتغمده برحمته سبحانه، وفرق بين من يناقش ومن يعرض عليه صحيفة العمل.
{مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25] أي: عجباً لأمركم كنتم تتعجبون في الدنيا، وينصر بعضكم بعضاً، وتقولون نحن جميع منتصر، أين هذا الجمع؟ ولم لا ينصر بعضكم بعضاً؟ أين هذا الذي سيدفع باب النار بمنكبيه حتى يخرج أهل النار منها ويمنع دخول الكفار؟! {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26] أي: اضرب عن هذا فيوم القيامة لا يوجد فيه أن ينصر بعضهم بعضاً، أو يدفع بعضهم عن بعض {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، كل خليل عدو لخليله يوم القيامة إلا من اتقى الله سبحانه وتعالى.
فهم اليوم قد استسلموا لهذا الواقع الذي هم فيه واستسلموا لربهم سبحانه واستسلموا لملائكة الله يعذبونهم.(322/3)
تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)
قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] أي: في النار والعياذ بالله، {يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] أي: يتلاومون، ويتصايحون ويسب بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم على بعض، وكل إنسان ينسب إلى غيره الذي صنع.
قال بعضهم لبعض {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: قال الأتباع لكبرائهم الذين اتبعوهم في هذه الدنيا: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، واليمين فيه اليمن والبركة، والشمال كانوا يتشاءمون منه فقالوا: {كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} [الصافات:28] أي: من الجهة التي نحبها {عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، من طريق الدين فزينتم لنا الدنيا ودفعتمونا عن الدين العظيم، فلم ندر ما هو الدين ولم نتبع النبي صلى الله عليه وسلم.
واليمين أيضاً تطلق على القوة {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] أي: كنتم أقوى منا، وكنا ضعفاء فأتيتمونا من جهة الدين فصرفتمونا عن الدين، وأتيتمونا من جهة القوة فغلبتمونا وقهرتمونا، وأتيتمونا باليمين فأقسمتم لنا وحلفتم أنكم تنصروننا، وأنكم على الحق، وأنه ساحر كاذب، فخدعتمونا في الدنيا، ونهيتمونا عن شريعة ربنا سبحانه وتعالى، وصرفتمونا عن الخير إلى الشر.
فيرد الكبراء على هؤلاء: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29] أي: أنتم لم تكونوا مؤمنين أصلاً حتى تزعموا أننا صرفناكم عن الهدى والدين، وأسر الكبراء الندامة في أنفسهم قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس:54].
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات:30] أي: لم تكن معنا حجة ندعوكم إليها وإنما مجرد أن دعوناكم اتبعتمونا، {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات:30]، والطاغي: هو الذي جاوز حده، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11] أي: جاوز حده فلم يقدروا على منعه، وكذلك الإنسان الطاغي هو الذي جاوز حده ولم يقدر أحد أن يمنعه عما يقوله، أو يقع فيه من الكفر بالله سبحانه وتعالى.
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]، (قول ربنا) أي: كلمته.
(إنا لذائقون) أي: كنا داخلون في العذاب والعياذ بالله.
قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، فالله سبحانه سبقت كلمته، وحقت كلمته أن على المؤمنين ينصرهم و {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71].
فالله سبحانه وتعالى قضى أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وقضى سبحانه أن يعذب أهل الكفر وأهل الفجور وأهل المعاصي فقال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فاحتج هؤلاء يوم القيامة وقالوا قدرنا أن {حَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ} [الصافات:31 - 32] أي: صرفناكم عن الرشد إلى الغي، وأضللناكم، وخدعناكم عن الإيمان، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:32] أي: إنا كنا ضالين فأضللناكم وصرفناكم عن طريق الله سبحانه.
يقول الله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ} [الصافات:33] أي: الأتباع والمتبوعون، {يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33] أي: العذاب مقسم عليهم فكل إنسان يأخذ نصيبه مما استحق من غضب الله جزاء وفاقاً.
قال سبحانه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] أي: إن كل من أجرم وعصى ربه سبحانه وخرج عن طريق الله سبحانه وأشرك به وكفر يستحق هذه العقوبة.(322/4)
تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)
قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، {إِنَّهُمْ} [الصافات:35]، تعليلية أي: إنما استحقوا هذا العذاب العظيم لكونهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، أي: كانوا إذا دعوا إلى الله سبحانه وقيل لهم: قولوا لا إله إلا الله فقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم للكفار: (قولوا كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم، ويكن لكم في ذلك خير الدنيا والآخرة)، وقالها لعمه أبي طالب: (يا عمي! قل كلمة واحدة، قل لا إله إلا الله)، فاستكبروا وقالوا عنه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فتعجبوا من كون النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، واستكبروا وقالوا كما قال الله سبحانه عنهم: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] أي: نحن نصدق هذا الشاعر؟! وهم يعرفون أنه ما نطق بالشعر قط، لكن لما جاء التكذيب قالوا بما يعلمون أنهم يكذبون فيه، فرموه بأنه شاعر، وبأنه مجنون، ورموه بالسحر والكهانة، قال الله سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] أي: بل جاءكم بالقرآن العظيم والشريعة العظيمة من عند رب العالمين، {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] أي: جاء بما جاء به المرسلون قبله فقد جاءوا بالتوحيد: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فكل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا بلا إله إلا الله، ودعوا إليها جميع الخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء جديد وإنما جاء بتصديق هؤلاء المرسلين بتوحيد الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه لهؤلاء الكفار: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ} [الصافات:38] أي: إننا سنذيقكم العذاب الأليم الموجع.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:39]، أي: وإنما جازيناكم على أعمالكم، وتفريطكم، وتقصيركم، وإجرامكم {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]، واستثنى الله سبحانه وتعالى عباده المخلصين: المؤمنين الذين أخلصوا لله سبحانه، فجعلهم أهل السعادة، وجعلهم في جنته يوم القيامة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين المقربين.(322/5)
تفسير سورة الصافات [19 - 50]
من رحمة الله بعباده أن وصف لهم في كتابه اليوم الآخر وما فيه من الأهوال والسؤال، ليستعدوا له بالأعمال الصالحة، ووصف لهم الجنة ليتنافسوا فيها، فلمثلها فليعمل العاملون.(323/1)
تفسير قوله تعالى: (احشروا الذين ظلموا)
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:22 - 34].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من ذهاب الكفار إلى الجحيم، وذهاب المؤمنين إلى جنات النعيم، فقال الله عز وجل هنا: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات:19] نفخة واحدة ينفخ بها في الصور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] أي: يقومون يوم القيامة من قبورهم ينظرون وينتظرون ما الذي يفعل بهم.
وقال هؤلاء المجرمون والكفار والفجار: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] أي: يوم الحساب والجزاء.
فيقال لهم: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات:21] أي هذا يوم الحكم الذي يحكم الله عز وجل فيه ويفصل بالجزاء بين العباد.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23] يأمر الله عز وجل بجمع هؤلاء الكفار الذين ظلموا وأزواجهم، والأزواج من كان على شاكلتهم وأمثالهم وأشباههم من رجال ونساء وآلهتهم التي كانوا يعبدونها، قال: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ} [الصافات:22 - 23] أي: دلوهم إلى صراط الجحيم وهو إلى طريق الهاوية والعياذ بالله.
قال الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] قفوهم قبل إدخالهم النار ليسألهم الله عز وجل ويبكتهم ويوبخهم ثم يأمر بهم إلى الجحيم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:25 - 26] لا ينصر بعضهم بعضاً بل استسلموا بين يدي الله سبحانه.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] صمتوا فترة طويلة وأدخلوا النار فأقبلوا يوبخ بعضهم بعضاً، فيقول أهل النار بعضهم لبعض: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: كنتم تأتوننا عن طريق الله سبحانه وتعالى فتبعدوننا عنها، أو تأتوننا عن طريق قوتكم، فقد كنتم أقوى منا فأطعناكم فيما ضللتمونا به في هذه الحياة الدنيا.
{إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] بقوتكم فأغريتمونا وأغويتمونا وذهبتم بنا إلى النار.
قال لهم الكبراء: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات:29 - 30] أي: نحن ما فعلنا بكم شيئاً، بل أنتم كنتم قوماً طاغين، فقد طغيتم وغويتم وابتعدتم عن الله، ونحن دللناكم على طريق الشر ففعلتم الشر، وما كان لنا عليكم من حجة ولا سلطان ولكن أنتم اتبعتمونا في ذلك فتستحقون ما أنتم فيه من العذاب.
قالوا: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:31 - 32] الإغواء هنا بالدلالة أي: دللناكم على طريق الغواية وطريق الشر فذهبتم إليه.
{إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي: كنا ضالين حين دللناكم على الشر ففعلتموه.
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:33 - 34] الجميع يعذبون يوم القيامة، فيعذب الذين أغووا وهم الظلمة الكبراء والذين غووا واتبعوا وهم الضعفاء، والكل كان لهم عقول وكانت في قلوبهم فطر ومع ذلك لم يستجيبوا إلى تحذير ربهم سبحانه، ولم يستجيبوا إلى دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام فاستحقوا ذلك.(323/2)
الكبر واحتقار الرسل هو سبب عدم سلوك طريق الهداية
قال الله عز وجل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] لأنهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فقد كانوا يستكبرون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام حين دعوهم إلى عبادة الله وحده، وهم إنما استكبروا واغتروا بما هم فيه من باطل.
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] فوصفوا النبي صلوات الله وسلامه عليه بأنه شاعر، وكذبوا وقد علموا أنه ليس بشاعر ووصفوه بالجنون عليه الصلاة والسلام وكذبوا وقد استيقنوا أنه أعقل العقلاء وأحكم الحكماء من البشر صلوات الله وسلامه عليه.
قال سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] فقد جاء بما جاء به من قبله من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فصدق السابقين حين دعوا إلى التوحيد فكان مصدقاً لما بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله عز وجل عن هؤلاء المجرمين: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:38 - 39] ((إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ)) أي: عذاب يوم القيامة وعذاب النار الذي كنتم به تكذبون، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
هؤلاء أهل النار هذا موقفهم بين يدي الله عز وجل، وهذا مصيرهم إلى النار، أما المخلصون الذين أخلصوا لله سبحانه فقد استثناهم سبحانه، وبين أن لهم جنات النعيم، وأن لهم الرزق المعلوم والدرجات العالية.(323/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نفعل بالمجرمين)
قال الله عز وجل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] لأنهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فقد كانوا يستكبرون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام حين دعوهم إلى عبادة الله وحده، وهم إنما استكبروا واغتروا بما هم فيه من باطل.
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] فوصفوا النبي صلوات الله وسلامه عليه بأنه شاعر، وكذبوا وقد علموا أنه ليس بشاعر ووصفوه بالجنون عليه الصلاة والسلام وكذبوا وقد استيقنوا أنه أعقل العقلاء وأحكم الحكماء من البشر صلوات الله وسلامه عليه.
قال سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] فقد جاء بما جاء به من قبله من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فصدق السابقين حين دعوا إلى التوحيد فكان مصدقاً لما بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله عز وجل عن هؤلاء المجرمين: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:38 - 39] ((إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ)) أي: عذاب يوم القيامة وعذاب النار الذي كنتم به تكذبون، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
هؤلاء أهل النار هذا موقفهم بين يدي الله عز وجل، وهذا مصيرهم إلى النار، أما المخلصون الذين أخلصوا لله سبحانه فقد استثناهم سبحانه، وبين أن لهم جنات النعيم، وأن لهم الرزق المعلوم والدرجات العالية.(323/4)
تفسير قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم)
قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40] أي: استثنينا هؤلاء من جملة المعذبين الذين يعذبون في النار، والمعنى: لكن هؤلاء ليس لهم النار وهذا استثناء منقطع، فإلا هنا بمعنى: ولكن، لكن عباد الله الصالحون أدخلناهم جنات نعيم.
((إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)) المخلصَين والمخلصِين، هم مخلصَون استخلصَهم الله عز وجل أي: اجتباهم وانتقاهم من خلقه واصطفاهم فكانوا لله سبحانه عُبّاداً وعِبَاداً، وأخلصَوا له سبحانه تبارك وتعالى، فهذا فضل الله يجتبي ويختار ويصطفي من يشاء سبحانه وتعالى.
والمخلصَين اسم مفعول، أي: أستخلصَهم الله وأخلصَهم ونقاهم، وهذه قراءة المدنيين نافع وأبي جعفر وقراءة الكوفيين كلهم عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: ((إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)).
وباقي القراء يقرءونها: (إلا عباد الله المخلصِين) باسم الفاعل، فهم مخلصَون وهم مخلصِون، مخلصِون: أخلصوا لله سبحانه، فلم يعبدوا إلا الله، وإنما أخلصَوا في دينهم وأخلصَوا في عبادتهم وفي توحيدهم فلم يشركوا بالله سبحانه وتعالى شيئاً، فاجتباهم الله فصاروا كذلك.
فهم مخلصَون لأن الله أحبهم واختارهم، وهم مخلصِون في عبادتهم لله سبحانه.
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:41] أي: هؤلاء الذين شرفهم الله وأكرمهم ((لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ)) لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً، والرزق في الجنة عظيم كثير، فكل في أي وقت، واشرب ما تشاء، وافعل ما تشاء، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين.
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي: هؤلاء المخلصَون والمخلصِون لهم عطية معلومة لا تنقطع أبداً، ورزق لا ينفد، فهو عطاء من الله غير مجذوذ أي: غير منقطع، وهذا الرزق منه الفواكه ومنه اللحم كما قال الله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]، ومنه الخير العظيم، فكل ما يشتهيه المؤمن في جنة الخلود يجده.
قال الله تعالى: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات:42] فمن ضمن رزقهم عند الله عز وجل الفواكه وهي ما يتفكهون بها، والإنسان في الدنيا يحب أن يأكل الفاكهة إذا أكل القوت، ومعنى القوت ما يقيته ويقيم بدنه، وفي الجنة هم قد أحياهم الله عز وجل الحياة الدائمة التي لا تنغيص فيها، فأعطاهم الحياة وأعطاهم أقواتهم وأرزاقهم وفكههم بأعظم الفاكهة، قال: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ}.
والحال أنه ما يكرمهم به سبحانه وتعالى من فضله وكرمه، {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:43] أي: التي ينعمون فيها، فهم عباد الله المنعمون في الآخرة، ((فِي جَنَّاتِ)) أي: في بساتين عظيمة عند الله سبحانه فيها النعيم المقيم.
{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44] أجلسهم الله سبحانه وتعالى على الأسرة، فلكل منهم عرش في جنة الخلود، والعرش سرير عظيم مثل عرش الملك، فجعلهم ملوكاً في الجنة وجعلهم ((عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)) كل على كرسيه الذي يجلس فيه ينظر إلى صديقه وإلى رفيقه وإلى حبيبه، ينظر بعضهم إلى بعض، فلا يوجد تدابر في الجنة، فلا يوجد من يعطي الثاني ظهره، ولكن يخاطب بعضهم بعضاً، ويقبل بعضهم على بعض في جنة الخلود، ويتحركون بهذه الأسرة كيفما يشاءون.(323/5)
تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بكأس من معين)
قال الله سبحانه: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] يطوف الخدام عليهم في جنة الخلود، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] هذه قراءة الجمهور: (بكأس)، وقراءة أبي جعفر: (بكاس من معين) والكأس: الإناء الممتلئ من الشراب، فإذا كان فيه الشراب فهو الكأس، وإذا كان فارغاً فهو الإناء أو الوعاء أو القدح، وإنما ملئ من خمر الجنة، ففي الدنيا من شرب الخمر فإنها تؤذيه؛ لأنها رجس من عمل الشيطان؛ فهي تصرفهم عن الصلاة، وتنهاهم عن المعروف، وتدفعهم إلى المنكر؛ وتقطع أرحامهم، وتذهب أموالهم، وتجعلهم إخوان الشياطين.
قوله: ((مِنْ مَعِينٍ)) المعين: العين الجارية، فخمور أهل الجنة ليست محتاجة لأن توضع في زجاجات أو أوعية، بل هي عيون في الجنة تخرج وتجري بذلك ولا تكدر أبداً، فقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] أي: هذا الذي في الكأس من عيون جارية.
قال: {بَيْضَاءَ} [الصافات:46] أي: الشراب الذي في الكأس، فالكئوس بيضاء جميلة، وما فيها من خمور لونها أبيض وجميل.
{لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46] بخلاف خمور الدنيا فهي سوداء وكدرة، أما خمور الجنة فهي بيضاء وهي لذة للشاربين يستمتعون بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وقال الله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15].
كل هذه أنهار تجري في الجنة، ولا شيء يكدرها، لا تراب أو زبد، ولكنها تجري فيشرب منها أهل الجنة بكئوسهم، ولا يحرمون في الجنة من شيء أبداً.
قال الله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] الغول: ما يغتال الإنسان فيوجعه ويؤلمه، فالجنة ليس في خمرها غول.
{وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] أي: لا يوجد من ورائها أمراض ولا أوجاع ولا أشياء يكرهها شاربها، وهذا تعريض بخمر الدنيا ففيها هذا كله، فالذين يشربون الخمور في الدنيا يعلمون مرارة مذاقها، كما أنه بعد أن يشرب الخمرة يذهب عقله، فيفرط في ماله ويفرط في عرضه ويفرط في دينه ودنياه، ثم يأتي الصداع بعد أن تذهب الخمر ويكثر بوله، أما خمر الجنة فلا وجع فيها ولا ألم ولا قيء ولا بول ولا شيء يزعج من يشربها.
وقوله: {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] قراءة الجمهور على البناء للمفعول أما حمزة والكسائي وخلف فقرءوا: (ولا هم عنها ينزِفون) والمعنى نزف عقل الإنسان بمعنى ذهب، يقال: نزف وأنزف بمعنى ذهب، وأيضاً نزف الشيء بمعنى: فني ونفد، والمعنى: الخمر لا تنفد ولا تنزف منها العقول ولا تنزف عنها العقول، فتظل ثابتة فلا تتغير الأفهام، ولكن العقل ثابت واللذة من شرب الخمر موجودة، والنعيم نعيم مقيم.
وخلاصة المعنى: لا فيها غول وأوجاع ولا شيء يكرهه الذي يشربها.(323/6)
تفسير قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عين)
قال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48] فعند كل من دخل الجنة زوجات خيرهن زوجته التي كانت في الدنيا، وله الحور العين في الجنة.
وقوله: ((وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)) هي التي قصرت طرفها، والطرف: العين، فهي قاصرة الطرف أي: لا تنظر إلى غير زوجها، ولا تطلب غير زوجها، ولا تتمنى أكثر مما هي فيه من هذا النعيم مع زوجها هذا، بل إنها قصرت طرفها على زوجها لا تريد غيره ولا تنظر إلى سواه.
وقوله: {عِينٌ} يقال: امرأة عيناء أي: واسعة العين، فعينها كبيرة جميلة حسناء، فهن قاصرات الطرف في غاية الجمال، قد قصرن طرفهن على أزواجهن: ((عِينٌ)) أي: ضخام العيون، جميلات حسناوات العيون.
{كَأَنَّهُنَّ} [الصافات:49] أي: نساء الجنة الحور العين: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] قيل: شبه بيض النعامة، إذ إن النعامة تبيض البيضة وتكنها في الرمال وتغطيها حتى لا يسوء منظرها ولا يؤذيها شيء، فنساء الجنة مثل هذا البيض، يقال: كبيض النعام في الهيئة، وبيض النعام أبيض وفيه صفرة، وهذا أجمل ما يكون من ألوان النساء، وهو البياض الذي فيه شيء من الصفرة.
وقيل: بل البيض المكنون أي: البياض الداخل، فعندما تسلق البيضة وتزال القشرة الخارجية يتجلى البياض الداخلي فتراه شيئاً جميلاً جداً ناعماً رقيقاً، وكذا نساء الجنة كهذا الذي تراه في الداخل.
قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] أي: أقبل أهل الجنة بعضهم على بعض، والإقبال هنا للملاطفة في الجنة والحديث الجميل، وعادة أهل الدنيا التسامح وخاصة عند الشراب، فأنت بعد أن تأكل وتتبع الأكل بشرب الشاي تحب أن تتكلم مع من حولك، وكذلك أهل الجنة فبعد أن أكلوا وشربوا يتسامرون ويتكلمون ويتحدثون.(323/7)
تفسير سورة الصافات [50 - 73]
يذكر الله سبحانه الموقف العظيم بين يديه سبحانه، وما أعد للمؤمنين من نعيم في الآخرة، وما أعد للكافرين من جحيم وحميم، وذكر أنه يحصل التساؤل والتحدث بين أهل الجنة وأنهم يتذكرون من كانوا يضلونهم من القرناء، ففازوا بالجنة لمخالفتهم هؤلاء القرناء بفضله سبحانه وكرمه.(324/1)
تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:50 - 61].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها حال الموقف العظيم بين يديه سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر لنا كيف أنه فعل بالمجرمين ما يستحقونه من عقوبة ومن عذاب جزاء تكذيبهم وإنكارهم توحيد الله سبحانه وتعالى واستكبارهم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:35 - 37].
فهؤلاء يذوقون العذاب الأليم ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون، لكن عباد الله المخلصين الذين اصطفاهم الله، واجتباهم واختارهم، وهداهم إلى دينه سبحانه، ووفقهم للعمل الصالح، هؤلاء لهم رزق معلوم.
ولهم الفواكه عند رب العالمين، وهم مكرمون في جنات النعيم، ينعمون فيها فهم في عيشة هنيئة، قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:44 - 45] أي: بكأس من خمر من عين جارية تجري في أرض الجنة لا تكدر، ولا يتغير لونها، بكأس بيضاء لذة للشاربين، لا فيها غول، ولا فيها أوجاع، ولا هم عنها ينزفون، ولا تذهب عقولهم، ولا تنفد خمرهم، ولا ينفد نعيمهم.
وقال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48] أي: الحور العين في جنات الخلود، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49]، جعلهن الله عز وجل لأهل الجنة، وجعلهن مما تسر به أعين أهل الجنة وينعمون، ولهم فيها ما يشتهون، فهم في جنات الخلود على هذا الذي ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى.
{وََأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25]، وهم في الجنة يتسامرون، ويتذكرون أحوال أهل الدنيا في شرابهم ويكلم بعضهم بعضاً، كذلك أهل الجنة في نعيمهم، وفي شرابهم يكلم بعضهم بعضاً، ويتساءلون بعضهم مع بعض، قال هؤلاء بعضهم لبعض: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، وكنا نخاف من عذاب رب العالمين، وكنا مشفقين من يوم القيامة، فربنا من علينا ووقانا عذاب الجحيم، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28]، ويكلم بعضهم بعضاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، فقال قائل من هؤلاء يحكي قصته مع صاحبه الذي كان في الدنيا: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: كان لي صاحب مقارن لي، يذهب ويأتي معي هذا القرين، يكذبني في تصديقي بالله سبحانه، ولرسل الله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52]، يتعجب لأمره ويقول: هل تصدق؟! وصل بك الأمر إلى أن تصدق أن هناك بعثاً وحساباً، وأن هناك يوم قيامة؟ أين ذهب عقلك؟! {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53]، فيتعجب هذا القرين من صاحبه، ويقول: إذا متنا وصرنا تراباً، وصرنا جثثاً، وصرنا عظاماً هل نبعث مرة أخرى بعد ذلك؟ هذا شيء بعيد! وقوله تعالى: {أَئِنَّكَ، يقرؤها قالون، وأبو جعفر، وأبو عمرو بالتسهيل مع المد فيقول: ((آئنك لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ))، ويقرؤها ورش، وابن كثير، ورويس أيضاً بالتسهيل فيها: ((آئنَكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ))، ويقرؤها هشام بخلفه: ((آئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ)).
وكل يدل على التعجب من إيمان هذا، وقوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا}، فيها قراءتان كما قدمنا قبل ذلك.
وقوله تعالى: {وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: هل نحن مجزيون؟ ما رأينا أحداً قبلنا مات ثم بعث، فكذب هذا القرين صديقه المؤمن.(324/2)
تفسير قوله تعالى: (قال هل أنتم مطلعون)
أهل الجنة في نعيمهم العظيم يجعل الله عز وجل لهم ما يريدون فيها، وما يشتهون، وإذا أرادوا أن ينظروا إلى أهل النار جعل لهم ما يمكنهم من ذلك، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]؟ فاطلعوا من شرفات في الجنة على أهل النار فنظروا إلى أهل النار، فقوله تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} أي: أتريدون أن تنظروا إلى هذا القرين الذي كان يكذب؟ اطلعوا وانظروا ماذا جرى له! قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] أي: فاطلع فرآه في قعر الجحيم وفي وسطه، وفي عذاب عظيم أليم، والجحيم: النار المتقدة المضرمة المتأججة، جحمت النار بمعنى: تأججت، واضطرمت، وازداد اشتعالها ولهيبها، ومنه يسمى الجمر، الجحيم، والجاحم، وكذلك الجحمة، والجحمة: عين الأسد؛ لكونه إذا رأى فريسة تحمر عيناه، فهي النار الحمراء المشتعلة المتوقدة الملتهبة، فاطلع فرأى صاحبه {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55]، قال هذا المؤمن: {تَاللَّهِ} [الصافات:56] أي: بالله، والله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: كدت لتهلكني، وإن أصلها (إنَّ) المثقلة التي تفيد التحقيق والتأكيد، ولذلك قال هنا: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56]، وجاء باللام الفارقة بين إن التي تفيد التحقيق، وبين إن التي تفيد النفي.
فقوله تعالى: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: لتهلكني.
قال تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57] أي: ولولا أن من الله عز وجل علي وعصمني ونجاني من فتنتك ومن غوايتك {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]، كما أحضرت أنت، فكدت أن أكون مثلك أنا أيضاً، والمحضر: الذي جئ به، وغالباً لا تطلق إلا في الشر، يقال: فلان محضر يعني: أتي به لكي يعاقبوه.
فهنا قال: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57] يعني: في هذا العذاب الأليم كما أحضرت أنت وأدخلت في هذه النار.(324/3)
تفسير قوله تعالى: (أفما نحن بميتين)
قال تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58] أي: أنت كنت تقول لي في الدنيا: إننا لن نبعث يوم القيامة، وإذا متنا ليس هناك بعث ولا حساب، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى} [الصافات:58 - 59]، هذا كان كلام الكافر، فالآن انعكس الأمر، إذ إن الكافر كان يتعجب من المؤمن في الدنيا، أما الآن فالمؤمن هو الذي يتعجب من الكافر؛ كنت تقول لي: لسنا بميتين، قال تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59]، ها أنت رأيت ما الذي حصل لك الآن في النار والعياذ بالله، إن هذا الذي نحن منه في الجنة والنعيم المقيم لهو الفوز العظيم، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60] أي: هذا الفوز الحقيقي، فالإنسان في الدنيا لعله يتكلم عن النجاح، ولعله يتكلم عن الفوز، لكن الفوز الحقيقي والنجاح والفلاح العظيم هو ما يكون يوم القيامة في أن يدخل المؤمن الجنة وينجو من النار، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
(لمثل هذا) الفوز، ولمثل هذا الفلاح، ولمثل هذا الجزاء: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، كأن الله عز وجل يقول للمؤمنين: اعملوا لذلك حتى تكونوا مع هذا المؤمن ولا تكونوا مع هذا المغرور في نار الجحيم والعياذ بالله.(324/4)
تفسير قوله تعالى: (أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم)
قال الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62]، أذلك الذي رأيتموه من النعيم العظيم، ومن الجنات العظيمة خير في النزل، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}، والنزل أصله: الطعام الذي يكون للضيف، أي: قرى الضيف، وكأنه طعام عظيم يستحق أن ينزل الإنسان فيه، فتقول: أعددت لفلان نزلاً، وتقول: تعال انزل عندي؛ لكي تأكل، فمن عظيم الأكل الذي عندك ينزل عندك، فالنزل: القرى والطعام العظيم الذي يكون للضيف، أهذه الجنة العظيمة وما فيها من فواكه ومن طعام خير نزلاً؟ أي: منزلة ينزل فيها الإنسان من أجل ما فيها، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62]، نسأل الله العفو والعافية! شجرة الزقوم هذه قال الله فيها: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:63 - 65]، هذه شجرة الزقوم مأخوذة من التزقم، أي: التلقم، يلقم اللقمة في فمه ويكره عليها وتدفع في فمه، فهو يتزقمه ويأكله ولا يكاد يسيغه، لا يقدر عليه من مرارته وشوكه، ومن الأذى الذي فيه ومن نتنه، فهو يتزقمه وتدفع في فمه كرهاً، فذلك النعيم الذي فيه أهل الجنة وما يشتهونه من لحوم الطير والفواكه، ومن نعيم مقيم خير نزلاً أم هذه الشجرة من الزقوم؟ قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46].
فانظر إلى هذه الشجرة التي جعلها الله عز وجل فتنة لهؤلاء الكافرين، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]، فكانوا يسمعون عن شجرة الزقوم أنها في النار، فيقولون: النار تحرق الشجر، فكيف تنبت شجرة في النار والأصل عندنا أن هذه الشجرة تحرقها النار؟! فيتهكم الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضاً، ويأتيهم رجل من أفريقيا يسألونه: هل تعرف شجرة الزقوم؟ يقول: نعم، عندنا الزقوم الذي هو تمر بالزبد، فيضحكون ويتقهقهون ويقول بعضهم لبعض: تعالوا نتزقمها تزقماً، عرفنا أن الزقوم الزبد بالتمر! فكان أبو جهل يصنع لهم ذلك ويقول: تعالوا نتزقم، ويقول بعضهم لبعض: يخوفنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بشجرة الزقوم وعرفنا أخيراً ما الزقوم الذي يخوفنا منه! والله عز وجل جعلها فتنة لهم لغبائهم وبعدهم عن دين الله عز وجل، ولسخريتهم من النبي صلى الله عليه وسلم وضح وبين لهم ما هذه الشجرة البشعة التي يسخرون منها، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]، والشجرة الملعونة شجرة ليس فيها رحمة، بل هي شجرة مطرودة من رحمة الله، فهي في أصل الجحيم، تنبت وتتفرع من داخل الجحيم من قعرها، وتخرج أغصانها وأوراقها إلى أعلى الجحيم ليأكل منها كل من في النار والعياذ بالله، كما قال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] أي: طعام كل آثم استحق اللعنة، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] أي: إذا نزلت إلى بطون هؤلاء صارت كالمهل، والمهل هو: الزيت المغلي، والمهل أيضاً: الصديد والعياذ بالله، فهو شيء حار جداً ينزل في بطونهم.
فقوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] أي: أصل منبتها في قعر الجحيم، وقوله تعالى: {طَلْعُهَا} [الصافات:65] أي: ما يطلع منها من ثمار، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، فهي بشعة في طعمها، ومخيفة رهيبة في منظرها في نار الجحيم، ولم نر نحن الشياطين، ولكن عندما يسأل كل إنسان عن الشيطان ما شكله؟ فإنه يستبشع منظر الشيطان وهو لم يره، فهذا يجعله الله لنا تشبيهاً، والله عز وجل أخفاه عنا حتى لا نراه بفضله وبكرمه سبحانه وتعالى.
فيخبرنا الله أن هذه الشجرة منظرها كمنظر الشياطين وأنتم لم تروها، ولكن في قلوبكم قبح منظر الشيطان، إذ إن منظره قبيح جداً، قال الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، والعادة عند الإنسان أنه إذا استوحش من شيء يقول: هذا مثل الشيطان، وإذا أحب شيئاً يقول: هذا ملاك؛ ولذلك في قصة امرأة العزيز لما خرج يوسف، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31].
فالإنسان لما يرى الصورة الحسنة يقول: ملك، وإن لم ير منظر الملك، ولكن تخيل أنه أجمل ما يكون وهو حقيقة، والشيطان أبشع ما يكون، والله بفضله وكرمه واراه عنا فلا ننظر إلى قبيح منظره، فالله سبحانه بفضله وكرمه يمن على العباد بأن يخفي عنهم ما يؤذيهم وما يستبشعونه من منظر الشيطان.
فطلع هذه الشجرة في الجحيم ثمارها، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65].
((فإنهم)) أي: أهل النار المجرمون الآثمون، {لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:66]، فهو طعام يكرهه الإنسان، ولكن يأكله جبراً وقهراً واضطراراً، إذ يوضع في فمه ويلقمه، فإنهم لآكلون منها مدفوعة إلى حلوقهم، ومدفوعة إلى بطونهم.
وقراءة الجمهور: ((فَمَالِئُونَ))، وقراءة أبي جعفر: ((فَمَالُِونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)).
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:67]، ثم إن لهم الشوب وهو الخلط، إذ هذه الشجرة بمرارتها ونتنها وغصتها في حلوقهم يسيغونها بماء الحميم، وهو ماء بلغ نهاية درجة الحرارة والعياذ بالله.
فالماء في الدنيا حين يغلي يتبخر، لكن الماء في جهنم لا يتبخر، بل يصل إلى أعلى ما يكون من درجات الحرارة ليشرب هؤلاء منه والعياذ بالله، إذاً: طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم.
قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:68]، نسأل الله العفو والعافية، فهو عذاب أليم إذا تخيله الإنسان خاف من رب العالمين سبحانه، وخاف من الوقوع في الذنوب، وهؤلاء في النار كالأنعام وكالبهائم يقادون إلى المرعى إلى شجرة الزقوم ليأكلوا كرهاً، ويقادون إلى الماء فهم: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44]، فالنار دركات منها: الجحيم، الهاوية، السعير، الحطمة، فهي دركات في أصلها هذه الشجرة، يأكلون من هذا المكان في النار، ويخرجون منه إلى مكان آخر في النار فيه ماء الحميم، ثم يردون إلى المكان الأول مرة ثانية، فانظر إلى التعبير: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات:66 - 67]، أي: خلطاً، {مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:67 - 68] أي: يردون مرة ثانية إلى الجحيم والعياذ بالله إلى قعر النار، فهم داخلون خارجون من النار إلى النار، ومن دركة إلى أخرى فيها الصديد، وفيها الغساق والحميم، مكان فيه الزقوم يأكلون ويشربون كرهاً في ذلك، فهم يكرهون ذلك، ولكن يجبرون عليه.(324/5)
تفسير قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين)
يبين الله لماذا يعذب أهل النار فقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} [الصافات:69]، أي: وجدوا آباءهم ضالين، صادفوا ووجدوا آباءهم على ضلالة وعن بعد عن الحق فاقتدوا بآبائهم، قال تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، قالوا ذلك ولم يعملوا عقولهم، ولم يفكروا فيما يقوله رسولهم عليه الصلاة والسلام؛ فاستحقوا عذاب الله سبحانه، فالله أعذر الخلق، وأنذرهم وبين لهم؛ كي لا يكون للناس على الله الحجة بعد الرسل.
فجاءت الرسل ودعوا الخلق إلى الله، فإذا بهؤلاء يرفضون إلا تقليد الآباء، يقولون: الهدى ما وجدنا عليه آباءنا من غير تفكير في ذلك، قال سبحانه: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70]، فهم يستحثون الخطا ويركضون وراء الآباء في تقليدهم آباءهم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، أي: ليس هؤلاء فقط الذين ضلوا، بل هم مقلدون لمن سبقهم من الأوائل في الضلال، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، فأكثر الخلق كانوا على الضلالة والعياذ بالله، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72]، فأنذر الله سبحانه وخوف العباد وحذرهم، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:73 - 74]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(324/6)
تفسير سورة الصافات [69 - 80]
يذكر الله سبحانه وتعالى أن ضلال هؤلاء الكفار كضلال آبائهم من قبل، فقد أرسل الله إليهم رسلاً فكانت عاقبتهم وخيمة، كعاقبة قوم نوح ولوط وغيرهم.(325/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:71 - 83].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى حال أهل الجنة وما متعهم الله عز وجل به في جنات النعيم، وذكر أهل النار وما حدث لهم في جهنم والعياذ بالله، وكيف أنهم تسببوا في ذلك بكفرهم بالله سبحانه، واستكبارهم عن عبادة ربهم سبحانه وتعالى؛ ختم ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70].
هذا هو التقليد الذي قلد هؤلاء الجاهليون من سبقهم في كفرهم وفي شركهم بالله سبحانه، واتخاذهم من دون الله أولياء يوالون عليهم، ويعادون في محبتهم، هؤلاء ألفوا آباءهم ضالين، ولم يعملوا عقولهم، ولم يتفكروا فيما جاءت به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام، فهم على آثار آبائهم يهرعون، فهم وجدوا آباءهم ضالين بعيدين عن الحق تائهين متحيرين متشككين يشركون بالله ويعبدون غيره سبحانه وتعالى واتبعوا الأهواء، واتخذوا الأنداد من دون الله، قال تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:70] والإهراع بمعنى: الاندفاع، فهم مسرعون على آثار الآباء من غير تفكير، يقال: أهرع الرجل وهرع أيضاً الرجل بمعنى: اندفع أو قيد إلى شيء وتلفه إلى هذا الشيء الذي يندفع إليه، فأهرع الرجل بمعنى: خف وجرى، وأسرع وتغير على هيئة فيها رعب، فهو قد هرع إلى ذلك الذي ساقه إلى ذلك الهوى والضلال والشيطان، وهم يهرعون ويستحثون على اتباع الآباء فيما هم فيه من ضلالات، وزين لهم الشيطان أن آباءهم أصحاب عصمة، وأن آباءهم يعرفون كل شيء، وأنهم لا يفهمون إلا ما فهمه الآباء، ولذلك كبر عليهم أن يأتيهم رسول من عند الله عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى مخالفة ما كان عليه الآباء، فيتعجبون: هل أنت خير أم أبوك؟ يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت العادة عندهم أن يسأل كل واحد منهم الآخر عن ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا الكلام الباطل الذي يريدونه، فكان ينصرف عما يريدون من هذا القول الذي لا معنى له، ويدعوهم إلى الله وإلى كتاب الله، ويحاجهم بالحجة السليمة، والآراء المستقيمة فلا يفهمون، ولا يزالون يتعجبون مما يقول ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71] ليس هم الذين ضلوا فقط، ولكن ضل قبلهم أقوام وصدوا عن الهدى، وابتعدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، واتخذوا آلهة من دون الله فضلوا وأضلوا غيرهم بأن دعوهم إلى غير الله سبحانه.(325/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا فيهم منذرين)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72] وهذه عادة الله وسنته سبحانه وتعالى في خلقه أنه يقيم على عباده الحجة بما أرسل فيهم من أنبياء ورسل عليهم الصلاة والسلام، وبما أنزل عليهم من كتب من عنده سبحانه.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72] يعني: في السابقين، أرسلنا إليهم الرسل لينذروهم ويخوفوهم من يوم القيامة ومن حساب رب العالمين، ومن عذابه ومن عاقبة أعمالهم السيئة، ومن عقوبة الله عز وجل لهم على ذلك، وقراءة الجمهور: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ} [الصافات:72] وقراءة يعقوب: (فيهُمْ) وهم الرسل ينذرون القوم من شركهم، ويخوفونهم من عبادتهم لغير الله، ويخوفونهم بعذاب الله.(325/3)
تفسير قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين)
قال الله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:73] أي: تعجب لأمر هؤلاء، فالمنذر الرسول ينذر قومه عليه الصلاة والسلام، والمنذر: الواحد من القوم، والعاقبة: النهاية وآخر الأمر، ومنه عقب الإنسان: ما يكون خلفه أو تحته، فانظر إلى نهاية هؤلاء كيف استحقوا عقوبة رب العالمين بالإهلاك في الدنيا والإغراق، ثم بالإحراق في النار يوم القيامة.
قوله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:73]، وإذا وقف على هذه الكلمة وغيرها من الكلمات التي هي على جمع المذكر السالم وما ألحق به يقف عليها يعقوب بخلفه بهاء السكت فيقول: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَه * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينه} [الصافات:39 - 40].
وهنا استثناء يستثني الله عز وجل عباده المخلصين، وهؤلاء ليس عاقبتهم عاقبة سيئة، وهذه الكلمة فيها قراءتان في القرآن كله {الْمُخْلَصِين} [الصافات:40] و (الْمُخْلِصِين)، يقرؤها على اسم المفعول المدنيان نافع وأبو جعفر، والكوفيون: عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء يقرءونها على اسم الفاعل: {الْمُخْلِصِين} [الصافات:40] والمعنى قريب، مخلصين: اجتباهم الله واختارهم، واصطفاهم هؤلاء المخلَصون، واختارهم الله عز وجل لكونهم في قلوبهم الإخلاص فهم المخلِصُون: أخلصوا العبادة لله ووحده سبحانه وتعالى ولم يشركوا به شيئاً، ولم يوجهوا العبادة والطاعة لغيره سبحانه فهم مخلِصون لله فاستخلصهم الله وانتقاهم من الخلق وجعلهم أحباءه وأهل جنته سبحانه وتعالى.
وهذه السورة كما ذكرنا من السور المكية التي تؤكد معاني التوحيد، وفيها تفصيل قواعد العقيدة في قلب الإنسان، وذكر الله سبحانه وتعالى هنا توحيده والأمر به، وحذر من شرك المشركين وكيف أنهم ضلوا وأضلوا واستحقوا العقوبة والنار، ثم ذكر رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأن دعوتهم هي دعوة التوحيد يدعون إلى عبادة الله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، وليس شيئاً جديداً حادثاً، ولكن كل الرسل قبله عليه الصلاة والسلام دعوا أقوامهم إلى توحيد ربهم سبحانه.(325/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] فالله سبحانه وتعالى نعم المجيب ناداه لوط، وناداه نوح، وناداه غيره فنعم المجيب، ومن يجيب إن لم يجب الله سبحانه وتعالى؟ والنداء هنا يتضمن معنى الاستغاثة والدعاء، ومعنى نادانا: استجار بنا واعتصم بنا، فاستغاث نوح بربه سبحانه، ودعا قومه إلى عبادة الله فترة طويلة جداً لم يدع مثلها إلى الله عز وجل نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً حتى مل منهم وظن أنه لن يؤمن من قومه أحد، فأخبره الله أن هذا ظن حقيقي ولن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وما آمن معه إلا قليل، وذكروا أن عدد هؤلاء الذين آمنوا مع نوح عليه الصلاة والسلام وركبوا معه السفينة ثمانون مؤمناً بعد دعوة إلى الله سبحانه وتعالى ليل نهار، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9] كل هذا وهو يدعو إلى ربه سبحانه وتعالى ليل نهار في زمن طويل بلغ تسعمائة وخمسين عاماً، فلم يستجب له وما آمن معه إلا قليل، فكان عدد من ركب معه هذه السفينة هم من أهله وكان منهم هذه الذرية العظيمة من خلق الله سبحانه من بعد نوح، فكان من شيعته إبراهيم وكل الأنبياء والرسل من بعده عليهم الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات:75] أي: استغاث بنا، وجأر إلينا وطلب نصرنا، قال تعالى: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] سبحان الله وتعالى، فيبين لنبيه صلى الله عليه وسلم أننا لم نعجل بعقوبة هؤلاء الأقوام ليس لكوننا لا نستجيب لك، ولا لغيرك من المؤمنين، ولكن لحكمة من الله، فنحن نعم المجيبون، ونعم المجيب الله سبحانه، فهو يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صفراً، ولكن الإجابة من الله بحكمة، ولها وقت فالله عليم حكيم، وهو أعلم بما يستحق العباد، ولعلك تدعو على إنسان والله يعلم أنه سيهتدي بعد ذلك، فلا يستجيب لك في ذلك، ولعلك تدعو لإنسان بالهداية، والله يعلم أنه سيموت ضالاً كافراً، فالله أعلم بخلقه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(325/5)
تفسير قوله تعالى: (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم)
قال الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] دعا نوح ربه بعدما طال دعاؤه لقومه فترة طويلة حتى أعلمه الله سبحانه بقوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] وانتهى الأمر، ليس هناك أحد سيدخل في دينك إلا هؤلاء القلة فقط، فلما وجد نوح أنه لن يدخل في الدين إلا من قد آمن دعا على قومه وقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27] فقد عهد نوح من هؤلاء القوم ما كانوا يصنعونه من كفر وتكذيب هم وآباؤهم وأجدادهم طوال عمره، فقد مات الأجداد وجاء الأبناء وجاء الأحفاد بعد ذلك، والكل على الكفر والتكذيب، فنوح لا يرى إلا إنساناً يموت كافراً ويولد غيره كافراً ويموت كافراً وهكذا، فقال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] فدعا ربه سبحانه، فاستجاب الله عز وجل دعاءه، قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:11 - 14] هذا الذي فعلناه {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] قد كفروا بالله سبحانه، وكفروا دعوة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فاستجبنا لنوح بتكذيب هؤلاء له، وباستغاثته بنا.
قال سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] مع أن من أهل نوح ابنه وقد أغرقه الله سبحانه وتعالى، ولما سأل نوح ربه سبحانه: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أي: لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي، فوعدك الحق وهذا ابني من أهلي، فقال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] أي: هذا لا ينتمي إليك، أهلك المؤمنون، وأولياؤك الصالحون، هذا كافر بالله سبحانه فلا يستحق أن يكون من أهلك، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] إذاً: قوله سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الصافات:76] أي: أهل دينه من المؤمنين الذين آمنوا معه، وكان عددهم ثمانين رجلاً وامرأة، أسلموا وعاشوا مع نوح ثم بعد ذلك ركبوا معه السفينة، وأنجى الله عز وجل من فيها، وجعل من ذرية نوح الخلق كلهم بعده عليه الصلاة والسلام.
إذاً: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] الكرب العظيم هو: ما حدث، وأي كرب أفضع وأعظم من ذلك أن يجد السماء تنفتح بسيول تنزل على الأرض، والأرض تنفجر بعيون تطفو على الأرض، وهو في السفينة ومعه هذا العدد القليل من خلق الله سبحانه، وحمل فيها من كل زوجين اثنين بأمر الله سبحانه وتعالى من المخلوقات التي تستحق أن تحيا، وتستحق أن تكون معه دون البشر الذين كفروا بالله وكذبوا بالله سبحانه وتعالى، فقد ركبوا سفينة صنعها نوح بأمر الله سبحانه، واتسعت لهذا العدد العظيم من خلق الله، قال تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40] إذاً: عدد من فيها من خلق الله من غير البشر أكثر بكثير من هؤلاء البشر، فما آمن معه من البشر إلا قليل، لكن الأكثرية من غيرهم، قال تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود:40] وما آمن مع نوح إلا العدد القليل كما ذكر.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] أي: من الغرق ومن هذا الجو البشع ومن هذه العقوبة الصعبة الأليمة التي نزلت وأخذت هؤلاء الكفار، ونجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأهله من الكرب العظيم، والكرب: الشيء الذي يغم الإنسان ويحزنه ويجعل الإنسان في ضيق شديد، فقد نجى الله عز وجل نوحاً ومن منعه من الكرب العظيم.(325/6)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين)
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] أي: أبقينا ذرية نوح، فكل الذريات الذين كانوا من قبله أهلكوا، ولم تبق إلا ذرية نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجاء منها كل الخلق من بعده، فهو الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام، فكل البشر من ذرية آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من ذرية نوح من بعده، إذ لم يعش من ذرية آدم إلا ذرية نوح فقط، وكان منهم الخلق، وجاء في الآثار أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان له أولاد وهم: سام، وحام، ويافث، فـ سام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الصقايلة والترك وغيرهم، فهؤلاء الثلاثة من ذرية نوح الذي كان منهم الخلق بعد ذلك، قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ} [الصافات:77] أي: ذرية نوح: {هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77].(325/7)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:78 - 79] أي: تركنا الثناء الحسن والذكر الجميل، وأن يسلم عليه من سمع به ومن علم عنه شيئاً، نقول: نوح عليه السلام، فيذكر في أهل الملة جميعها، فيدعون له، ويسلمون عليه، ويقولون: عليه السلام، والآخرون: من يأتون من بعدهم من كل الأمم، تركنا عليه في هؤلاء الآخرين هذا القول، فقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79] أي: كل من يذكره يسلم عليه ويقول: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}.
كذلك من معانيها: تركنا عليه الذكر الحسن والتسليم معه، إذاً: من يذكره يذكره بأحسن ذكر على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كذلك إبراهيم كما سيأتي بعد ذلك، وقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79] قد يكون معناها: سلامة له من أن يذكر بسوء، يعني: سلمنا ذكره من السوء.(325/8)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)
قال سبحانه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80] كهذا الجزاء العظيم الذي جازيناه نوحاً فنجيناه من الكرب العظيم، كذلك ننجي كل محسن من الكرب العظيم، وكذلك كهذا الذكر الحسن الذي تركناه لنوح نترك ذكراً حسناً لكل من آمن بالله واتبع المرسلين، ونترك له ذكراً حسناً فيمن يليه فيدعون له بخير ويذكرونه بثناء حسن جميل.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(325/9)
تفسير سورة الصافات [75 - 91]
نوح وإبراهيم عليهما السلام من أولي العزم من الرسل، وقد أخبرنا الله عن بعض قصصهما مع قوميهما، فقد دعواهما إلى الله تعالى، فقوبلا بالعداوة والسخرية والاستهزاء، والإباء والاستكبار عن الدخول في دين الله عز وجل، فكان الجزاء من جنس العمل، حيث خلد الله ذكر نوح عليه السلام وأثنى عليه في الآخرين، وكافأ إبراهيم فجعله أمة وقدوة للعالمين.(326/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين ثم أغرقنا الآخرين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:80 - 96].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أن من أتباعه ومن ذريته إبراهيم الخليل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
وقال في قصة نوح: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75].
{نَادَانَا} أي: استغاث بنا، ودعانا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما يئس من إيمان قومه، وبعدما كذبوه تسعمائة وخمسين عاماً، فنجاه الله عز وجل وأهله المؤمنين من الكرب العظيم.
قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فهو أب بعد أب، آدم أبو البشر، وبعده نوح أبو البشر الذين من بعده، وجعلنا ذرية نوح فقط هم الباقين.
قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:78 - 80].
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} بالثناء الحسن، {فِي الْعَالَمِينَ} فكل من يذكر نوحاً يسلم عليه ويثني عليه خيراً؛ لما صنعه مع قومه من دعاء إلى الله سبحانه، ولما صبر على أمر الله سبحانه.
قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80] الجزاء الحسن هو الذكر الحسن، والتسليم عليه {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أن يكون لهم عاقبة الدار، وأن يكون لهم الجزاء الحسن عند الله، والذكر والثناء الحسن عند الناس.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81].
إذاً: الله عز وجل جازاه على إحسانه وإيمانه بأن جعل له الثناء الحسن في هذه الدنيا.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:82] يعني: الكفرة وهم الأكثرون، وما آمن معه إلا قليل، وذكرنا أن الذي بقي معه وركب معه السفينة كانوا ثمانين من المؤمنين.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:82] وجاء الإغراق عقوبة من الله عز وجل على كفرهم وتكذيبهم، فكانت الأرض تنبع بالمياه، والسماء تنزل بالمياه، والسفينة عامت، وأغرق الله عز وجل الكفار، وكان ابن نوح يظن أنه سيأوي إلى جبل عال مرتفع فيعصمه من هذا الماء، وناداه نوح أن يؤمن ويدخل معه ويركب في السفينة، فأبى إلا الكفر الذي هو عليه، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43].
إذاً: صارت الأرض كلها مياهاً، وأمواجاً، فعامت السفينة ورست فوق الأمواج، وبلغت الأمواج علو الجبال فأغرقت ابن نوح، فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، فأهل نوح هم المؤمنون الذين نجاهم الله عز وجل معه في السفينة، وكانوا قليلين من أهله عليه الصلاة والسلام، قالوا: بعض أولاده وحليلات أولاده وأولادهم، يعني: من ذرية نوح المؤمنين الذين ركبوا معه في هذه السفينة، فجعل الله عز وجل منهم الخلق كله بعد ذلك، وأغرق كل الكفار، وصار الناس معتبرين لما حدث في قوم نوح، وكان بين نوح وإبراهيم فترة طويلة تتجاوز الألفين من السنين، وفي خلال هذه الفترة كان عدد الرسل الذين ذكر الله عز وجل رسولين اثنين فقط، والله أعلم هل كان يوجد غيرها من الأنبياء؟ لكن الذي ذكر الله عز وجل في القرآن بين نوح وبين إبراهيم هما هود وصالح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.(326/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيْم} [الصافات:83]، شيعة الرجل: أتباعه وأولياؤه ومحبوه، وكذلك أهل الرجل، فهؤلاء هم الشيعة، {إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} من ذريته وأتباعه في الإيمان إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم أبو الأنبياء، فكل الأنبياء من بعده هم من ذريته عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم معناها بالسريانية: الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فواضح من سيرته كيف كان رحيماً بالمؤمنين، وكيف دعا لأبيه وكان كافراً، ودعا لأهله ودعا للمؤمنين، واستجاب الله عز وجل له في المؤمنين، وجعل من ذريته الأنبياء من بعده، وأبوه كان كافراً فلم يستجب له في استغفاره له ونهاه عن ذلك.
إبراهيم له مزايا كثيرة جداً، وصفات وخصائص حميدة وعظيمة ذكر الله عز وجل بعضها في كتابه سبحانه، وهو الذي كان يلقب بأبي الضيفان، كان إكرامه للضيوف إكراماً عجيباً جداً، حتى إنه ليذبح العجل لثلاثة من الضيوف، ثلاثة ضيوف تكفيهم شاة تذبح لهم وتفيض عنهم، فيذبح لهم عجلاً ويجعله لهم مصلياً حنيذاً مشوياً، وهذا من كرم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] إذ جاء ربه بقلب موحد لله سبحانه، خالص من الشرك، لا شرك فيه، بقلب نقي تقي عليه الصلاة والسلام، فاستحق أن يكون أمة وحده، جمع من خصال الخير وأعمالها ما لا يجتمع إلا في أمة من الناس، فاجتمع الخير لإبراهيم وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان قدوتهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:123] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان من المحسنين، وجزاه الله عز وجل على إحسانه أن جعله أباً للأنبياء، وجعل له الذكر الحسن في كل الملل.
هذا إبراهيم {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] أي: بقلب مخلص من الشرك والشك، لا شك في قلبه، ولا شرك فيه، وكل إنسان يعتريه من الشرك ما يعتريه بحسب ما يشاء الله عز وجل فيه، ويعتريه من الشبهات والشكوك والشهوات حسب ما يقدره الله عز وجل على دفعها أو يهلكه بأن يشغلها قلبه، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن في قلبه شيء من الشك، حتى إنه لما قال لربه سبحانه تبارك وتعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] فإذا بالله يسأله: أو لم تؤمن يا إبراهيم؟ لم تسأل هذا السؤال؟ قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260]، الإيمان هذا لازم له {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ليزداد يقيناً فوق اليقين، فأنا آمنت بالغيب وأريد المشاهدة أيضاً لأزداد يقيناً فوق اليقين، أما الشك فمستحيل أن يدخل قلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً وهضماً لحق نفسه مع أبيه إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، يعني: إبراهيم بلغ المنزلة العظيمة فمستحيل أن يشك في الله، فإياكم أن تظنوا أن إبراهيم يشك، (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هل نشك نحن؟
الجواب
لا، وإبراهيم أولى، إبراهيم لا يشك عليه الصلاة والسلام، فيحترمه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعظم قدره، ويقول ذلك تواضعاً، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يشك.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، قلب سليم يعلم أن الله حق، فيوحد ربه سبحانه، ويكون خالصاً لربه، ليس فيه شيء من أمور الدنيا، وابتلاه الله عز وجل في سلامة قلبه، هل قلبه كله لله عز وجل أم أن فيه شيئاً للدنيا؟ فإذا به يبتليه في كل من يحبهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فابتلاه في أبيه فدعا أباه إلى دين الله حتى إن أباه يهدده بالرجم والطرد فيقول: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ما لم أنه عن ذلك، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، فيستغفر ربه لأبيه، قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49] فابتلي في أبيه، وطرده أبوه فهاجر وترك البلد.
أحب امرأته فابتلاه الله عز وجل في امرأته ليرى هل حبه لله عز وجل أشد أم أن الدنيا قد تفتنه؟ وإذا به يبتلى فيها ويأخذها جبار من الجبابرة في مصر، يهاجر إبراهيم من بلده ويأتي إلى مصر فإذا بالناس يخبرون الملك: إن رجلاً اسمه إبراهيم قدم ومعه امرأة من أجمل النساء، فيبتلى إبراهيم ويصبر لأمر الله ويدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى.
وابتلاه الله عز وجل في ابنه وأمره أن يذبح ابنه بيده: هل ابنك أحب أم نحن أحب إليك؟ فإذا به يفعل ما أمر الله عز وجل به، وإذا بالله يرفع عنه هذا البلاء ويقول: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105]، مثل إبراهيم ونوح والأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين أحسنوا وصبروا لأمر الله سبحانه.
ابتلاه الله في نفسه عليه الصلاة والسلام فيحمل في المنجنيق ويلقى في النار، هل يدعو أحداً غير الله سبحانه أو أنه سيصبر على ذلك؟ وتأتيه الملائكة تسأله: ألك إلينا حاجة؟ يقول: لا، حاجتي إلى الله وحده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يلقى في النار ولا يطلب شيئاً إلا من الله عز وجل! ويأتي أمر الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فكانت أحلى أيامه تلك التي مكثها في النار والنار حوله، وهو كأنه في جنة بداخلها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهذا القلب السليم الذي وصل به إبراهيم لأن يكون أمة وحده، وأن يكون إماماً للأنبياء عليه الصلاة والسلام.(326/3)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)
قال سبحانه تبارك وتعالى عن إبراهيم: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:84 - 85]، هنا قال: {مَاذَا تَعْبُدُونَ}، وفي الشعراء قال: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70]، وهذا تفنن في صيغ القرآن، لا تتكرر الصيغة نفسها ولكن يتفنن فيها، ففي كل سورة يذكر ما يليق بها.
قال إبراهيم {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:85]، منكراً عليهم عبادة الأصنام، وكان أبوه يصنع لهم الأصنام التي يعبدونها من دون الله، قال: {أَئِفْكًا}، والإفك أعظم الكذب المفترى المختلق {أَئِفْكًا} تفترون على الله؟ تصنعون الأصنام بأيديكم وتعبدونها من دون الله عز وجل؟! {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86] أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها وتعلمون أنها لا تنفعكم ولا تضركم؟ {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87]، كيف ذهب وهلكم وظنكم بالله سبحانه تبارك وتعالى؟ أتظنون أنه يترككم تعبدون غيره ويترككم في هذه الدنيا بغير حساب ولا عقوبة؟ ما ظنكم برب العالمين؟ أين ذهب رشدكم؟ كيف ذهب خيالكم في ربكم سبحانه فجعلتموه أقل من هذه الأشياء فعبدتموها من دون الله سبحانه؟! أين ذهبت عقولكم؟(326/4)
تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم)
قال الله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88] عليه الصلاة والسلام، وكان قومه أهل نجوم ينظرون في النجوم ويتكلمون بالطالع أنه يحصل كذا وسيحصل لنا كذا وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتعامل مع قومه بشيء من الذكاء العظيم الذي وهبه الله عز وجل له، فيوهمهم بالشيء الذي يقصد خلافه حتى ينفذ ما يريد عليه الصلاة والسلام، لما كان مع عباد الكواكب والنجوم دعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ليعبدوه، فإذا بهؤلاء يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله سبحانه، فقال لهم: ما الذي تعبدونه؟ قالوا: نعبد هذه الآلهة، فنظر إلى هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله فظهر كوكب فقال: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] هو هذا الإله الذي تعبدونه من دون الله وتدعونني إلى عبادته؟! {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] الذي يطلع ويختفي هذا لا ينفع أن يكون إلهاً، فلما بدأ القمر بعد ذلك بارزاً ومنيراً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77] في زعمكم، فهذا أكبر من الأول، فيكون هذا هو الرب {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَاَلَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} [الأنعام:77] الحقيقي {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:77 - 78] هي أكبر شيء، إذاً هذا ربي، وهذا ليس اعتقاداً من إبراهيم، فالمقام ليس مقام نظر أي: أنه يفكر ويبحث عن إله، لا، وإنما المقام مقام مناظرة، وفي المناظرة يتنزل الخصم مع خصمه، كما تجادل شخصاً فتقول: لو فرضنا أن الذي تقوله صحيح، وأنت معتقد تماماً أن الكلام الذي يقوله غلط، فهذا تنزل في المناظرة، فهذا كان من إبراهيم مناظرة وليس نظراً، يتنزل معهم حتى يقنعهم بأنهم على باطل، فقال: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] يعني: بزعمكم الذي تقولونه، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78].
إذاً: تدرج معهم بشيء وراء شيء، فلو قال لهم من البداية: هذا كله باطل لا يسمعون منه، ولكن أحب أن يستدرجهم حتى يصلوا في النهاية أنه فعلاً لماذا اختفى الأول والثاني والثالث؟ إذاً: لا تنفع هذه الآلهة، فهذا من إبراهيم مناظرة لقومه، وكم له في ذلك من أشياء.
وانظروا إلى مناظرته مع النمرود عندما قال: إنه الرب، وهو الذي يحيي ويميت، إبراهيم يقول: ربي الذي يحيي ويميت، قال: وأنا كذلك أحيي وأميت، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أعطى خصمه أدلة أمام الأعين لا أحد يقدر يجادل فيها، فهو لما قال: أنا أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام فأقول لأحدهما: عفوت عنك وأقتل الثاني، فأنا أحييت هذا وأمت هذا، فالناس سيصدقونه فيما يقول من كلام فارغ، فإبراهيم أعطاه الشيء الذي لا يعرف كيف يناقش فيه، فقال له: أنت تدعي هذا الشيء فهذه الشمس تطلع من هنا فائت بها من هنا، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل ما يجادل به قومه، ويقنع بكلامه، وإن كان كفرهم يطمس على قلوبهم فلا يعقلون ولا يهتدون.
قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88] كهيئة المتفكر، وكأنه ينظر الأمر وهو يريد حيلة ليقعد في دار الأصنام فيكسرها، فهم لن يتركوا إبراهيم وهو على خلاف ما يقولون، إذاً دبر حيلة مع هؤلاء، فنظر في النجوم كهيئة المتفكر ثم عندما قال: (إِنِّي سَقِيمٌ) فظنوا أنه نظر في النجوم فتنبأ أنه سيمرض غداً قال: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، فأوهمهم أنه سيأتيه مرض معدي فيخافون ويتركونه {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90]، لئلا يعدينا بمرضه، فهم كانوا خارجين إلى عيد لهم وأرادوا أخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام معهم في عيدهم لعله يقتنع بما هم فيه، ويترك ما يدعوهم إليه، وأراد هو أن يمكث في يوم العيد وهم يخرجون فيأتون بطعامهم ليجعلوه في دار الأصنام لأجل أن تأتيها البركة من هذه الأصنام، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:89 - 91] يستهزئ ويستهين بهذه الآلهة، الأكل متروك أمامكم لماذا لا تأكلون من هذا الطعام؟ وضعوا الطعام أمام الآلهة وهم يعرفون أن الآلهة لا تأكل ولا تشرب، وأنها كذب وزور، يفترون على الله الكذب! وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] هذه واحدة من ثلاث كذبات كذبها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حياته كلها، ومن من الناس لا يكذب في حياته إلا هذا العدد؟! وإبراهيم معصوم عليه الصلاة والسلام، والله أذن له في ذلك، وكلامه كان تعريضاً، وظاهر الكلام أنه كذب، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وليس مريضاً، ولكن الإنسان عندما يقول: إني مريض يحتمل أنه مريض مرضاً عضوياً أو مرضاً نفسياً أو أن بقلبه علة من شؤم هؤلاء وكفرهم، إذاً: ضاقت نفسه وقلبه عن ذلك، أو {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] كقوله الله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، لما كان الموت آتٍ آتٍ وأتى أمر الله قال لنبيه وهو على الحياة: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] يعني: إنك ستموت، وقال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] يعني: سأمرض، ومن الأمراض التي يبتلى بها الإنسان مرض الموت، فينزل في كل إنسان قبل موته ذلك أو بحسب ما يريد الله سبحانه، فكأنه قال: إني سأمرض موهماً لهم بأنه نظر في النجوم فأخبرته بذلك، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وهذا لفظ مسلم - أنه قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتان في ذات الله قوله: (إني سقيم)، وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وواحدة في شأن سارة) أي: زوجته.
وحقيقة هذا الذي فعله كان تعريضاً أذن الله عز وجل له في ذلك، فعرض في الكلام فأوهمهم بالشيء الذي هو خلاف الواقع، فلما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] أي: إني سأمرض، سينزل بي الموت، فظنوا أنه سيمرض بالطاعون ففروا منه مدبرين وتركوه ومرضه عليه الصلاة والسلام.
والمرة ثانية: لما كسر الأصنام وسيأتي ذلك {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]؛ ليعرض عليهم إن كانوا هؤلاء ينطقون، ويأكلون ويشربون، إذاً الذي فعل هذا الشيء هو كبيرهم، ولكن أنتم تعرفون أنهم لا يأكلون ولا يشربون فلم يفعل الكبير شيئاً، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، وهذا الذي قاله إبراهيم كان في ذات الله عز وجل.
المرة الثالثة: وإن كانت في ذات الله ولكن لنفسه فيها حظ وشأن، وهي في سارة زوجته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدم إبراهيم أرض جبار ومعه سارة)، قدم إبراهيم أرض في مصر مهاجراً، قال: (وكانت أحسن الناس) يعني: كانت سارة أجمل النساء، (فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك).
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام خاف من الجبار، وهو فر من الجبابرة الذين أرادوا إحراقه وجاء إلى مصر، فإذا بالجبار يعلم أن معه امرأة من أجمل النساء فأراد أن يأخذ امرأته، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذها، فكأنه دافع عن نفسه بهذا الذي قاله معرضاً: أختي، ويعني: أختي في الإسلام، فهي زوجته وأخته في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، (فلما دخل أرض هذا الجبار رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك) هؤلاء وزراء السوء! قالوا له: امرأة دخلت الديار ما ينبغي في جمالها إلا أن تكون لك أنت (فأرسل إليها فأتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه -على هذا الجبار- لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة).
إبراهيم قائم يصلي يدعو ربه ويستغيث به، وهي قامت تتوضأ وتصلي وتدعو ربها سبحانه، فإذا بالجبار يبسط يده إليها فيشل الله عز وجل يده وتقبض قبضة شديدة (فإذا به يستجير بها) هذا الملك يستجير بـ سارة ويقول لها: (ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت) ما صدق (فعاد مرة ثانية وأراد أن يأخذها فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فإذا بالله عز وجل يرسل عليه ما يصعقه ويغط برجله) ليقع على الأرض صريعاً يخبط برجله، وتقبض يده قبضة شديدة لا يقدر على تحريكها، (فقال لها مثل ذلك مرة ثانية ومرة ثالثة فعلم أنه لن يقدر عليها فقال ونادى من معه: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان)، قال للذين نصحوه بها: ما أعطيتم لي إنساناً، أعطيتم لي شيطاناً، وكأنه من خوفه منها أهدى لها هاجر، فأعطاها هاجر فكانت هاجر من مصر، وكانت لهذا الجبار فوهبها لها فكانت أمة لـ سارة وسارة وهبتها بعد ذلك لإبراهيم، فجامعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكان منها إسماعيل، وكان منها أبناء إسماعيل، وكان م(326/5)
تفسير سورة الصافات [83 - 101]
يصطفي الله من البشر رسلاً، ويؤيدهم سبحانه بمعجزات وآيات يتجلى فيها حفظ الله لأنبيائه ونصرته لهم، ولكن من أعمى الله بصيرته عن الحق فلا يعقل معجزة ولا آية، ولنا في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه عظة وعبرة.(327/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:83 - 98].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات في سورة الصافات قصة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه من شيعة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أي: ممن تبعه من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، وممن تبعه على التوحيد وعلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:83 - 84]، أي: اذكر ذلك حين جاء إبراهيم ربه بقلب سليم، إذ أخلص قلبه لله سبحانه، ووجه وجهه لله، وعمل الأعمال العظيمة يتقرب بها إلى الله سبحانه، لا شرك فيها، ولا شبهة فيها، ولا رياء فيها.(327/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:85] أي: كانوا يصنعون الأصنام، وكان أبوه ينحت الأصنام لقومه، فقال لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا} [الصافات:85 - 86] أي: كذباً، وبهتاناً، وزوراً وآلهة تزعمونها دون الله، تريدون أن تتخذوها وأن تعبدوها.
قال تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87] أي: أين ذهبت عقولكم؟ فظننتم بالله ظن السوء، وظننتم أن هذه تنفع وتضر مع الله سبحانه، وظننتم أن هذه يوجه إليها عباده، وأنتم الذين صنعتموها، {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، أنه صانع بكم؟ وقد كفرتم به وأشركتم، هل يترككم على ذلكم؟ قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] أي: نظر كهيئة المتطلع والناظر في النجوم أي: متفكر حتى يظن هؤلاء أنه سيقول شيئاً بناء على نظره في النجوم، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وكأن المقصد أنه مريض، فيفهمون منه أنه سيمرض بسبب نظره في النجوم، فكأنه اطلع على غيب واطلع على شيء، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وأوهمهم أنه سيصاب بمرض أو أنه سيكون فيه مرض معدٍ.
ولذلك تركوه بعد ما كانوا يريدون أن يأخذوه معهم إلى عيدهم في الصباح لعله يغير رأيه في آلهتهم ويكون مثلهم، فقالوا: إنا ذاهبون إلى العيد واخرج معنا يا إبراهيم، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وكانت فرصة لإبراهيم أن يخرج جميعهم ويكون هو وحده مع الأصنام فيكسر هذه الأصنام لعلهم يرجعون عن عبادتها.(327/3)
تفسير قوله تعالى: (فتولوا عنه مدبرين)
قال تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90]، أي: ذهبوا مهرولين تاركين له؛ لئلا يكون فيه مرض معدٍ يعديهم، وتركوه في هذا المكان وحده عليه الصلاة والسلام، فكسر أصنامهم.
قال تعالى: {فَرَاغَ} [الصافات:91] راغ يروغ روغاً وروغاناً بمعنى: يميل ويتحرك بخفة، فتحرك إبراهيم سريعاً إلى هذه الأصنام، وراغ ومال عليها.
قال تعالى: {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91]، يتهكم ويسخر من هذه الأصنام، وكانوا قد وضعوا طعاماً عند هذه الأصنام؛ لتحصل البركة لهذا الطعام حتى يرجعوا ويأكلوا منه.
فقال ساخراً من قومه ومن أصنامهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] أي: الطعام موضوع، فهل تأكلون من هذا الطعام؟ فقال: {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، وقد علم واستيقن أنهم لا ينطقون، ولكن على وجه الاستهزاء من هذه الآلهة الباطلة التي لا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها.
قال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] أي: سريعاً جرى إليهم بفأس بيده عليه الصلاة والسلام، وكسر هذه الأصنام جميعها، {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58].
فكان يقصد السخرية من هذه الأصنام وبعقول قومه حين يسألونه: من صنع هذا بآلهتنا؟ {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، فإن كان هؤلاء يأكلون ويشربون ويعقلون، فإن هذا الكبير هو الذي فعل ذلك.(327/4)
تفسير قوله تعالى: (فأقبلوا إليه يزفون)
قال تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات:94]، ذكر الله سبحانه أنه كسر هذه الأصنام بيمينه وبقوته وقدرته التي أعطاه الله سبحانه إياها، قال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93]، فأقبل القوم، {إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، وفي سورة الأنبياء ذكر الله عز وجل: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]، ولما رجعوا ونظروا إلى ذلك: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، وكأن إبراهيم قد تكلم قبل ذلك حين أقسم بالله سبحانه فأسمع بعضاً من القوم فقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57].
فسمع البعض ذلك، وكأنهم في ذلك الوقت لم ينتبهوا ما الذي يقصده إبراهيم بذلك، فلما رجعوا وجدوا الأصنام قد كسرت، {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، قال هؤلاء الذين سمعوه: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61] أي: أمام الناس حتى يشهدوا عليه بما صنع.
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى (إِلَيْهِ يُزِفُّونَ) قراءة حمزة، يزفه أي: يجري متعجلاً إلى المكان في شيء من الإسراع والتوجه إلى هذا المكان، فقالوا: {يَزِفُّونَ}، أي: يمشون مشياً سريعاً، ويتحركون حركة بخفة في الجري فيها تقارب الخطا، فهم يندفعون ويسرعون ويدفع بعضهم بعضاً حتى يقبلوا على إبراهيم وينظروا ما الذي صنع!(327/5)
تفسير قوله تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)
فقال يجادلهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات:95] أي: أتعبدون هذه الأصنام التي نجرتموها وصنعتموها من الخشب، ومن الحديد، ومن الحجارة؟! فقوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}، أي: ألا تعجبون من أنفسكم قد صنعتم الأصنام ثم عبدتموها من دون الله! قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] أي: هل نسيتم الله سبحانه الذي خلقكم وما تعملون؟ فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، خلق العباد، وخلق أفعال العباد سبحانه وتعالى، (وما) هنا فيها معنيان: إما أن تكون موصولة، وإما أن تكون مصدرية، وكلاهما صحيح (ما) موصولة بمعنى: والله خلقكم والذي تعملون.
إذاً: أنتم صنعتم هذه الأصنام من حجارة ومن نحاس وحديد ومن خشب، والله هو الذي خلق الحجارة والنحاس والحديد والخشب، فكيف تتركون الله الذي خلقكم، وخلق هذه الأشياء وتعبدون هذه المخلوقات؟! أين ذهبت عقولكم؟! وإذا كانت (ما) على المعنى الثاني، أي: مصدرية يعني: خلقكم وأعمالكم.
إذاً: الله خالق العباد وأفعالهم، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وكل شيء خلقه الله، والعبد يكتسب فعله ولا يخلقه، ولكن الخالق الله، والعبد اكتسب هذه الأفعال، ويجازى العباد على ما اكتسبوا من خير أو شر، فهم اختاروا، واكتسبوا، وفعلوا، والله يجازيهم على كسبهم وعلى اختيارهم.
ولما وجد إبراهيم أنهم يريدون أن يعقلوا ذكر الله سبحانه أن إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] أي: اسألوا هذا الكبير، فهو الذي كسرها، وهذه واحدة من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكانت في ذات الله، وكان حقيقتها التعريض في الكلام.
وقوله تعالى: {إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فيه تعليق الشيء على المستحيل مثل قولك: إن كنت أطير أصعد إلى السماء، وأنت تعلم أنك لا تطير فمستحيل أن تصعد إلى السماء.
فكذلك هؤلاء يقول لهم إبراهيم: إن كان هؤلاء ينطقون فهذا الكبير هو الذي صنع بهم ذلك، وهم يعلمون يقيناً أنهم لا ينطقون، إذاً: لم يصنع الكبير شيئاً.
قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:64 - 65]، إذاً: أين عقول هؤلاء القوم وهم يجادلون؟ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ}، لم يرجعوا إلى عقولهم، بل رجع يلوم بعضهم بعضاً، ويقولون: نحن مخطئون، لماذا لم نجعل أحداً منا يحرس الأصنام؟! وإذا كانت تحتاج لمن يحرسها لا تصلح أن تكون آلهة، فقالوا ذلك، {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، حيث لم تحرسوا أصنامكم، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء:65]، دون أن يفكروا في هذا الذي يقولونه، فهذه أصنام تحتاج لمن يحرسها فلا تصلح أن تكون آلهة، ورجعوا على أعقابهم، وانقلبوا على رءوسهم بغباء وقالوا لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: سنكيد لك مثل ما كدت لأصنامنا، قال تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، ورجعوا إلى أنفسهم وقالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96].(327/6)
تفسير قوله تعالى: (ابنوا له بنياناً فألقوه فجعلناهم الأسفلين)
إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يناقش هؤلاء فلا يستطيعون أن يردوا عليه بالحجة، فيهزمهم في الرأي فيريدون أن يغلبوه بشيء ثانٍ غير الرأي، طالما ليس هناك فائدة في الرأي، فيقولون: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] يعني: يبنون له قرناً كبيراً جداً من ورائه سور عظيم ويضعون فيه الحطب والخشب حتى يوقدوا ناراً عظيمة فيحرقوا بها إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] في ظنهم أنها جحيم، والجحيم: النار المستعرة، المتوقدة، فقالوا: ألقوه في الجحيم.
فكانوا جميعهم يجمعون الحطب والحجارة ويلقونها في هذا المكان الذي سيرمون فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات:98] أي: كادوا لإبراهيم، واحتالوا له الحيل بحيث إنه يكون في بناء محكم، ويرمونه من بعيد بالمنجنيق داخل هذه النار.
وهزمهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم الأخسرين، وجعلهم الأسفلين، ولم ينصرهم لا في حجة ولا بغلبة من قوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى، إذ قال الله سبحانه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في قول الله سبحانه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل)، أي: يكفيني الله.
وكان كل من يعرض على إبراهيم المساعدة يقول: الله الذي يكفيني لا أحتاج إلى أحد إلا إلى الله، وكان آخر ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يلقى في النار: حسبي الله ونعم الوكيل.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بنوا حائطاً طوله في السماء: ثلاثون ذراعاً) يعني: حوالى خمسة عشر متراً، لكي يملئوه بالحطب، ويرموا فيه إبراهيم من بعيد على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (فلما ألقوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل).
وروى ابن ماجة، وأحمد من حديث نافع عن سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة (أنها دخلت على عائشة فرأت في بيتها رمحاً موضوعاً، فتعجبت فقالت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ)، والوزغ: عبارة عن نوع من الأبراص وهو سام فالسيدة عائشة مجهزة الرمح في بيتها رضي الله عنها لتقتل به الأوزاغ، وعللت فقالت: (فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار غير الوزغ).
فالبشر كفروا بالله سبحانه، وجمعوا الحطب ليحرقوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما من دابة إلا وتذهب لتطفئ عن إبراهيم هذه النار التي أوقدها هؤلاء، إلا هذا الوزغ السام، كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقاً أو فاسقاً، ولكن أمر الله أسرع من هذا كله، فقد أتى أمر الله وتغيرت طبيعة النار نفسها، قال تعالى: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ولو قال: {كُونِي بَرْدًا}، لكانت باردة فآذته ببردها، ولكن قال: {بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، فكانت النار فيها السلامة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام باردة عليه، وهنيئاً له هذا الوقت الذي كان فيه.
ونجاه الله من أعدائه، إذ هم لا يقدرون أن يقربوا من النار، ولو كانت النار: {بَرْدًا وَسَلامًا} على الجميع لدخلوا إليه وأرادوا قتله بداخلها.
ولكن النار التي أججوها خافوا أن يقربوا منها وكانت: {بَرْدًا وَسَلامًا}، عليه، وهم يرونه وينظرون إليه من بعيد وهو في هذه النار في عيشة هنية عليه الصلاة والسلام، ويتعجبون لأمره حتى خرج إليهم يمشي من هذه النار ولم تحرق منه إلا ما كان أغلالاً وقيوداً عليه، وخرج سليماً معافى، فكان من الله عز وجل المعجزة العظيمة في ذلك.
فقوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98] أي: المغلوبين، المقهورين بالحجة وبأمر الله سبحانه وتعالى.(327/7)
تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
خرج إبراهيم من النار ولم يجد فيهم أملاً في الإيمان، فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99] أي: مهاجر من هذا المكان الذي تعبدون فيه الأوثان، وأذهب إلى ربي لأعبده سبحانه، وأدعو إليه سبحانه.
وقوله تعالى: {سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (سَيَهْدِيني).
قال الله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، فدعا ربه سبحانه أن يرزقه من يؤنس وحدته، وكان حتى هذا الحين ليس معه أحد إلا زوجته المؤمنة فدعا ربه أن يؤنسه بولد حليم، وولد صالح قال تعالى عنه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:100 - 101]، الغلام: من الغلمة والاغتلام، أي: الاشتداد ومعناه: أنه بلغ الحلم، وكأنها بشارة من الله له أنه سيولد لك ولد ويعيش في هذه الفترة، وقال: حليم، والصبي الصغير لا يوصف بأنه حليم، إنما الحليم يوصف به الكبير، فكأنها بشارة من الله عز وجل أنه سيكون له الولد الذي يحلم ويكبر معه ويكون كبيراً ويسعى معه، فكان له إسماعيل بعد ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(327/8)
تفسير سورة الصافات [99 - 102]
لقد ابتلى الله سبحانه نبيه إبراهيم عليه السلام ليكون أهلاً لحمل رسالة التوحيد، ففي هجرة إبراهيم من بلاد إلى بلاد بلاء له عليه السلام، فقد حصل له من المحن والمشاق ما جعله أهلاً لأن يكون خليل الله، وتتجلى في سورة الصافات طاعة إبراهيم عليه السلام لربه، وطاعة ولده إسماعيل لربه ولأبيه وصبره وحلمه.(328/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:99 - 102].
يذكر الله سبحانه وتعالى قصة الذبيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآيات من سورة الصافات، قال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك بعد أنْ كسر أصنام القوم، وبعد ما أرادوا إحراقه عليه الصلاة والسلام، فنجاه الله عز وجل من النار، وكان مولد إبراهيم في العراق في بلدة اسمها (أور) في جنوب العراق، وكان قومه يعبدون الأصنام وكان أبوه يصنع هذه الأصنام لقومه، فإبراهيم هداه الله سبحانه وتعالى إلى الحق، ودعا أباه فرفض أبوه أن يتابعه، ودعا قومه إلى عبادة الله سبحانه فأبوا، فلما خرجوا إلى عيد لهم قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} [الأنبياء:57] يعني: هذه الأصنام، فسار لها وكسرها وترك كبيرها وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63].(328/2)
هجرة إبراهيم عليه السلام من العراق إلى بلاد الشام
أرادوا بإبراهيم كيداً فجعلهم الله عز وجل الأخسرين، ونجاه من هؤلاء، ولما نجاه الله سبحانه وتعالى من النار ووجد أن هؤلاء القوم لا فائدة فيهم، فكر أن يهاجر من أرض قومه ويخرج إلى شمال العراق، وكان مولده في جنوب العراق فخرج إلى شمالها حتى وصل إلى حران، وهي الآن جزء من تركيا، فهاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان مقصده أن يذهب إلى بلاد الشام، فسافر عبر البحر الأبيض المتوسط حتى نزل بعد ذلك إلى بلاد الشام، فمن بلده من الجنوب إلى الشمال في حران، ثمَّ ينزل في بلاد الشام، ثمَّ يصل إلى مصر ويرجع ثانية إلى بلدة الخليل فيذهب إلى مكة، فكانت رحلته رحلة طويلة جداً وشاقة، وكلها بلاء واختبار ومحن ومنح من الله عز وجل لإبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه.
خرج إبراهيم من بلدته، وخرج معه في هذه الرحلة لوط ابن أخيه، وهو المؤمن الوحيد الذي آمن به، وكان معه امرأته سارة وهي المؤمنة الوحيدة من النساء، وذكروا أن ممن خرج معه أيضاً فاران أخو أبي لوط، وزوجة فاران هي أم لوط، وكانا كافرين ولم يكونا مسلمين، وذكروا أيضاً ممن خرج مع إبراهيم أبوه آزر وكان كافراً، وكأنه خاف على إبراهيم فخرج معه ليس مهاجراً إلى الله، ولكن خوفاً على ابنه، فخرج معه وتوجه إلى حران، وهنالك مات أبوه آزر في حران، ووجد إبراهيم أهل هذه البلدة كفاراً يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى.
خرج من عند قوم يعبدون الأصنام إلى قوم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فناظرهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجل في سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] أي: مما تعبدون من دون الله، وهنا وجه إبراهيم وجهه لله سبحانه، كما وجه وجهه لله من قبل مع قومه عباد الأصنام حين ناظرهم، وناظر الملك النمرود، وكان يدعي الربوبية والألوهية وغلبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهاجر إلى أقصى الشام وناظر عباد الكواكب من دون الله فأبهتهم وغلبهم، ثم بعد ذلك تركهم وانصرف إلى بلاد الشام، في رحلة طويلة جداً من تركيا حتى وصل إلى فلسطين ثمَّ الأردن، وهناك في الأردن ذهب لوط عليه الصلاة والسلام إلى عمور وسدوم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بأمر الله، فكان نبياً من أنبياء الله، وهو ابن أخي إبراهيم، وتوجه إلى هذه البلدة بأمر الله سبحانه.(328/3)
هجرة إبراهيم إلى فلسطين ثم مصر وذكر ما حصل له مع فرعون
وصل إبراهيم إلى فلسطين إلى بلدة الخليل وسميت باسمه بعد ذلك، يعبد الله ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهنالك حدثت مجاعة فتوجه إبراهيم إلى مصر ليتزود منها، ولما وصل إلى مصر وجدهم كفاراً يعبدون غير الله سبحانه، وإذا بفرعون مصر يعلم أن إبراهيم معه امرأة من أجمل نساء العالمين، فأراد أن يأخذها، وخاف إبراهيم من هذا الفرعون، فقال لامرأته: إني سأخبره أنك أختي، ولو قال له إنها زوجته لقتل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ففي كل بلدة يبتلى فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذه من المحن العظيمة التي يريه الله عز وجل بها فضله عليه سبحانه، بأن ينجيه من كل محنة من المحن، وإذا بهذا الرجل يريد أن يأخذ سارة، فدعت ربها سبحانه على ما فصلنا قبل ذلك، وأصاب الله هذا الفرعون بالصرع، وكان يأخذ عنها أخذاً شديداً حتى يلقى على الأرض ويضرب برجله على الأرض، ويطلب منها أن تدعو له وأن يتركها، مرة واثنتين وثلاثة يحدث به ذلك، وفي النهاية يخدمها هاجر وتأخذ سارة هاجر وتنطلق إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحتى هذا الحين لم يكن لإبراهيم ولد من امرأته سارة، وقد مضى على زواجه منها عشرون سنة، فأحبت سارة أن يكون لإبراهيم الولد، فوهبت له هاجر ووطأ إبراهيم هاجر وكان له منها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هذا الغلام الحليم الذي ذكر الله سبحانه وتعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101].
وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، قال ذلك وهو في جنوب العراق لما ترك قومه عباد الأصنام، بعد محنة النار، وتوجه إلى الشمال.(328/4)
تفسير قوله تعالى: (رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم)
دعا إبراهيم ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] أي: يدعو ربه أن يعطيه غلاماً صالحاً، قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، والغلام الحليم: الذي عنده حلم، والذي ابتلي فصبر فكان حليماً، وهو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالآية دليل على أن الذبيح هو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإن كان اختلف المفسرون في ذلك، فذهب بعض كبار المفسرين كالإمام الطبري وأيضاً القرطبي والبعض من التابعين إلى أن الذبيح إسحاق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام! ولكن الآية تأبى هذا المعنى، قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، فالذي كان به هذا الحلم هو الذي أُمِرَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبحه وهو إسماعيل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد وطأ هاجر، فكان له منها هذا الغلام الحليم الذي أمر بذبحه، وقد بشر الله عز وجل إبراهيم بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أي: بشره بأن يكون له إسحاق من سارة، ومن وراء إسحاق سيأتي له ولد اسمه يعقوب، فإذا كان ربنا سبحانه يبشر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن إسحاق سيكبر ويبلغ ويخلف، ويجيء منه يعقوب، فكيف تكون هذه البشارة يقطعها الله بأن يأمر بذبحه؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس:55]، ويقول أيضاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، فقد بشر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن إسحاق سيعيش وسيكون له الولد وإنما الذي أمر بذبحه إسماعيل عليه الصلاة والسلام.(328/5)
تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].
هذه فتنة أخرى ومحنة أخرى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد هذا العمر المجيد الطويل في الدعوة إلى الله سبحانه، يولد له هذا الولد، وبعدما جاوز إبراهيم الثمانين من عمره عليه الصلاة والسلام، وفوق ذلك يأتيه هذا الغلام الحليم، والذي لم يكن معه في بلده، فإنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مجرد أن ولد له إسماعيل إذا بـ هاجر تعلو بنفسها على سيدتها سارة، فتغيضت منها سارة ولم تطق بوجودها، فأمرت إبراهيم أن يغيبها، وتحلف بالله أن تقطع منها أعضاء، فإذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يجعل لها ما تبر به عن يمينها، بأن تثقب أذنها، وتختنها فكانت سنة، ثم أمر إبراهيم أن يأخذها ويذهب بها إلى مكة.(328/6)
هجرة إبراهيم إلى مكة بإسماعيل وأمه هاجر
الله سبحانه بحلمه ورحمته نظر إلى سارة أنها صبرت مع إبراهيم عمراً طويلاً، فيأمر إبراهيم بأن يأخذ ابنه وأم ابنه إلى مكة ويتركها هنالك، وهذا بلاء آخر لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث إنه سيحرم من رؤية ابنه وليس هو الذي سيربيه، فأمره الله أن يذهب به إلى مكة ويتركه؛ حتى لا يكون في قلب إبراهيم مكان إلا لله عز وجل وحده لا شريك له، فيذهب به إلى هنالك ويتركه مع أم ولده وهي هاجر في مكة في أرض لا أحد فيها، ولا ماء فيها ولا زرع، ويعطيها سقاء في إناء، وجراباً فيه تمر ويتركها، وهي تقول: إلى من تتركني في هذا المكان الذي لا إنس فيه ولا ماء ولا طعام؟! ويتركها وينصرف حتى لا يظهر التأثر أمامها، ثمَّ تسأله مرات، فإذا بها تقول: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلا يضيعنا.
فكان عندها الثقة بالله عز وجل، وأن الله طالما أمر إبراهيم بذلك فإن الله لن يضيعها هي وابنها، وتركها، فلما توارى عنها وراء ثنية، أي: أكمة مرتفعة دعا ربه سبحانه، وأظهر حزنه، وأظهر الشفقة التي كان يخفيها عن هاجر وعن ابنها، قال تعالى عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فيدعو ربه سبحانه ويستجيب الله سبحانه وتعالى له، فيأتي إلى هذا المكان وفد من جرهم ويقيمون في هذا المكان.
والغرض أن الله سبحانه وتعالى إذا قطع عن إبراهيم شيئاً، فالله عز وجل يصله دائماً، ويتعرض إسماعيل للبلاء في هذا المكان وأمه كذلك، فالأم ترى ابنها يكاد يموت أمامها، ولا لبن في ثديها ولا طعام، وتذهب من جبل الصفا إلى جبل المروة ذاهبة آتية، وتدعو ربها سبحانه حتى يظهر لها جبريل عليه السلام ويبحث بعقبه في الأرض، فتخرج زمزم العين المعين، التي تكون للخلق جميعهم إلى يوم الدين، نعمة من الله سبحانه وتعالى وشفاء سقيم، وطعام جائع، فمن شرب من زمزم وسأل الله عز وجل فالله يعطيه بفضله وبكرمه سبحانه.
ويشب إسماعيل ويأتي أبوه إليه، ويأخذه ويتوجه به إلى مكان ويقول: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، وهو ما زال غلاماً، والغلام: الشاب الصغير، في هذا الوقت يأتيه أبوه ويقول: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:102] أي: رؤيا منامية، {أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، وكأنه يشاوره، وإن كان في الحقيقة أنَّ إبراهيم سينفذ أمر الله سبحانه، ولكن يريد أن يطيب خاطر ابنه ويطيب قلبه لهذا الشيء، وكأنه يقول: ما رأيك؟ ربي يأمرني أنني أذبحك! {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فإذا بولده إسماعيل يقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وقراءة حفص عن عاصم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:102]، وقراءة الجمهور: (يا بنيِّ إني أرى في المنام أني أذبحك).
وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَى} [الصافات:102]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر: (إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى).
وقوله تعالى: (ماذا ترى) قرأها الجمهور: {تَرَى}، وقرأها حمزة والكسائي وخلف: (تُرِى) بالبناء للمجهول، وأيضاً بالإمالة؛ لأن قراءتهم لهذه الكلمة بالإمالة.
قال الله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، فقوله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ} [الصافات:102]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وأبو جعفر: (قَالَ يَا أَبَتَ).
قال تعالى: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فظهر حلم إسماعيل عليه الصلاة والسلام حين قال لأبيه ذلك، ويقول: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، وهذه إشارة من الله لإبراهيم أنه بشره بغلام حليم، فالحلم من الصبر، والصبر كذلك من الحلم، فكان ما قصه الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(328/7)